هي مشاهدات قاسمها الشعر وقراءة الشعر وشجونه، من خلال محطات مختلفة نقترب من بعض الأسئلة التي تثيرها الحركة الشعرية اليوم في مشهدنا النقدي والثقافي وأيضا عبر مواقف ينتقل من خلالها الشاعر الفلسطيني، في هذا التقرير التركيبي والذي يصبغ عليه الكثير من لغته الشعرية، الى شخوص وآراء تثير اليوم وتدعونا الى التفكير في حضور الشعر في منجزنا الثقافي العربي.

وردٌ على رمادِ القصيدة

نمر سعدي

سهمُ النقدِ الذي لا يجرح

لاحظتُ أن الكثير من أصدقائي الشعراء العرب يمتعضون ويأخذون على خاطرهم حينما يُصوِّبُ ناقدٌ ما سهماً صغيراً ليِّناً من جعبتهِ إلى بعض مفاصلِ تجاربهم الشعريَّة.. مع أن هذا السهم النقدي لا يجرحُ أبداً وأقلُّ حتى من أن يخدشَ ولكنهُ يتركُ أثراً سلبيَّاً لا يُمحى في نفسِ صاحب التجربةِ المنقودة، لا أعرفُ ممَّ ينبعُ هذا الغضب؟ أهو عدمُ ثقةٍ بالقصيدةِ بشكل خاص أو التجربةِ بشكل عام؟ مرَّةً قالَ الشاعر العراقي الكبير محمد مهدي الجواهري أن أكبر كارثة يُمنى بها الشاعر إبداعيَّاً فقدانُ الثقةِ بما يكتبُ، حينها يستطيعُ أصغر ناقدٍ في الدنيا أن يستثيرَ أعصابهُ ويشتِّتَ فكرته، وأتذكَّر حادثةً جرت بينَ أمير الشعراء أحمد شوقي وبين الموسيقار محمد عبد الوهاب حين وجدهُ الأوَّل حزيناً بسبب النقد الجارح الذي كيلَ لهُ في الصحافةِ المصريَّةِ المكتوبة، فما كان من شوقي إلا أن أحضر جميع الجرائد التي نشرت مقالات النقد وطلبَ من عبد الوهاب أن يقفَ عليها بعدَ أن صفَّها عموديَّاً وسألهُ: هل رفعتكَ أم حطَّتك؟ لا يخفى علينا طبعاً المعنى المجازي الذي قصدهُ أميرُ الشعراء شوقي من وراء فعلتهِ تلك، ولكن هذه الحادثة كانت نقطةً مفصليَّة هامَّة في تجربةِ عبد الوهاب الفنيَّة، بالنسبةِ لي شخصيَّاً طالما فضَّلتُ النقد الإيجابيَّ على المديح والإطراء، وطالما تمنَّيتُ ممَّن كتبَ عن تجربتي أن لا يكونَ محابياً مطرياً أو مدَّاحاً مجاملاً على حسابِ صداقةٍ أو ودٍّ.. بالقدر الذي أريدهُ فيهِ أن يكونَ صارماً وقاسيَّاً وباحثاً عن الهفواتِ الصغيرةِ في قصائدي.. فالنقد الصريح أنفع لتجربةِ الشاعرِ من كلام المديح، بعبارةٍ أخرى.. لماذا يُرهبنا النقدُ إلى هذا الحد؟

***

 

 

 

سيبقى الشعرُ حارسَ أحلامنا

فقط في دور النشر العربيَّة أصبح الشعرُ سلعةً كاسدةً أو موضوعاً بلا قُرَّاء، كل دار نشر يتوَّجه إليها شاعرٌ ما بغضِّ النظر عن مستوى كتابتهِ، فإنها تتأفَّف وتتململ كأنما بُليت بمصيبةٍ تقصمُ الظهر والرجلين معاً.. إحدى دور النشر المرموقة ولأسبابٍ شخصيَّةٍ كثيرة أمتنعُ عن ذكر اسمها لأنَّ ما حدثَ لي معها أصبحَ شائعاً وكثير الحدوث مع غيري من الشعراء والكُتَّابِ الشباب لدى دور نشر لا تُحصى، ظلَّت هذهِ الدار ولأكثر من عامٍ تمارسُ عليَّ نوعاً من الكذبِ المبطَّن، وأحياناً (الإستهبال) الصريح وأنا أستفسرُ عن نشر مجموعتي الشعريَّة التي وعدوا بطباعتها وكانوا يصرُّون في ردِّهم عليَّ أنها جاهزة ومعدَّة للطباعةِ وبعد شهور طويلة يقولون أنها طُبعتْ وموجودة في مطبعة دار النشر وبعد ذلك بشهور يقولون أنها في طريقها لتُعرض في مكتبةِ الدار نفسها.. وفي كلِّ مرَّة أتصِّلُ بهم يؤكدِّون فيها على فراغهم من نشرها وهم يستعدِّون لتسويقها وتوزيعها ووو الكثير الكثير من الكذب و(الإستهبال) الخرافي حتى جعلوا من المحيط الأطلسي بيارات حمضيَّات.. ولكن الحقيقة أنه لم تُطبع حتى ولو كلمة واحدة من الديوان،لا أدري السبب.. أيكونُ الإستخفافَ بقيمةِ الشعر إلى هذهِ الدرجة؟ لا يا أصحاب بعض دور النشر أو النشل كما أطلق عليكم أحد الأصدقاء، لن أقف عند هذهِ التجربة الموجعة، يا من تريدون إلغاء الشعر أو تسليعه أو المقايضة بهِ أو تدجينه وحبسه في الأقفاص المكيَّفة.. لا.. سينتصرُ الشعر عليكم وعلى أفكاركم المحكومةِ بالأرقام.. الشعر باقٍ وسيبقى نارنا المقدَّسة وحارس قلوب العشَّاق ومصباح أحلامنا في الليالي والنهارات وسيِّد رغباتنا.. سيبقى خارجِ أُطر حساباتكم وتصنيفاتكم ودوائركم الضيِّقة وهوائكم الفاسد.. لن تقيِّدوهُ بنظريَّاتِ أرقامكم والمصارف البنكيَّة والترَّهات.. سينتصرُ عليكم الشعر حتى لو خُيِّل لكم أنكم نجحتم في هزيمتهِ المؤقَّتة.. سيبقى الشعرُ وستذهبون وحدكم بحسابتكم وأرقامكم وترَّهاتكم إلى هاويةِ الجحيم.

***

 

       
 

أتذكَّرُ سيناء

أتذكَّرُ سيناء، بجبالها الرماديَّةِ المشغولةِ بقوسِ قزحٍ ورديٍّ في الظهيرةِ.. أتذكَّرُ أهلها الطيِّبين وهم يدعون أيَّ ضيفٍ عابرٍ أن يقاسمهم أنفاسَ الشيشة أو البيض المقلي وصحن الفول المدمَّس ونضارةَ النهارِ الأزرق، أتذكَّر سيناء وأهلها يصنعون من حديدِ الخيالِ محاريثَ وحذواتٍ لخيولِ الصحراء.. أتذكَّرُ دربها المستقيمَ يقسمها لنصفين متوازيين، الأوَّلُ للشمسِ والثاني للقمرِ.. مدىً ورديَّاً لا يُحدُّ ضارباً للزرقةِ.. فلَّاحةً تغسلُ وجهها بماءِ صنبورٍ من فضَّةِ الولهِ والاستعارةِ، قوافلَ تغربُ خلفَ الكثبان الرمليَّة، وأغانٍ مبعثرةً كأغاني الغجرِ على طريقِ الكحلِ والنعاس، أتذكَّرُ ذلك الزمنَ الجميلَ المخشوشن/ الناعم، الحميميَّ العذب، براءةَ ناسهِ وبساطتهم وشغفهم بالحياة.. أتذكَّرُ كلَّ شيءٍ تقريباً قبلَ دخولنا في زمن ملوكِ الطوائف وفوضى الدماءِ ومجانيَّةِ الحروبِ والمراثي.

***

 

رماد القصيدة

أتركُ ديواني بعدَ طباعتهِ لشهور.. لسنوات.. وأنا أتجنَّبُ اكتشافَ أيَّ خطأٍ تعاميتُ عنهُ فيهِ، ثمَّ أعودُ إليهِ كالملهوف.. أتصفَّحهُ على عجلٍ ثمَّ أقرأه رويداً رويداً بصوتٍ داخليٍّ، أتلمَّسهُ كأعمى يتحسَّسُ تمثالاً في مدينةٍ شرق أوسطيَّة، كامرأةٍ ولهى تتقرَّى يدَ حبيبها، أبتعدْ عن ذاتي الشعريَّة لأراها تلتصقُ بي كقطَّةٍ خريفيَّة، تمسِّدُ ظهرَها بي، أقولُ في نفسي: من هذا الرجلُ الغريبُ الذي كتبَ هذهِ القصائدَ؟ ومن أجلِ منْ؟ أُحدِّقُ في تعرجاتِ الحبرِ كمن يبحثُ عن زنبقةٍ غير ورئيَّة، وكأني أراهُ للوهلةِ الأولى، الآن أختبرُ رضايَ عن قصيدتي بمقاييسَ ومعاييرَ ثانويَّةٍ لا تخطرُ على بالِ أحد، ثمَّةَ رائحةٌ للقصائد، ناصعةٌ.. شفَّافةٌ.. كحليَّةٌ.. زرقاء، رائحةٌ تشبهُ شهوةَ الريح، لا شرقيَّة ولا غربيَّة، تشبهُ طعمَ الوله، خفيفةٌ، حزيرانيَّةٌ تملأ القلبَ بنرجسيَّةِ عاشق ونداءاتِ قدِّيس، أضعُ قصيدتي على المحك، أتخلَّى عنها كما تفعلُ أمُّ صغارِ النوارسِ، أتركها في الريحِ الشرقيَّةِ، وأنا مطمئنٌ إلى شيئين اثنين، تحليقها المتناسق أو سقوطها في هاويةِ النسيان، أتركُ رغبتي في القصيدةِ حتى تصيرَ رماداً.. ثمَّ أُذرِّيها بفرحِ ذلكَ الرجلِ الغريب.

***

 

 

مملكةُ الصمت

الذي يقرأ تاريخ سوريا الحديث الممتد من سيطرة حزب البعث فيها بالحيلة والغدر على مقاليد الحكم حتى يوما هذا، أو يشاهد الوثائقيات التي لا تُحصى عن إذلال الإنسان وقهره ومحو كيانه بالكامل يُصدم من هول الظلم الذي مورس على البشر في مملكة صمت مريع أشبه بجحيم أرضي، ولا يكادُ يصدِّق فظاعة المجازر المجانيَّة الخرافيَّة التي أُرتكبت بحق الأبرياء من أطفال ونساء، وربَّما يدخلُ في حالةٍ من الذهولِ وهو يفكِّرُ بسرياليَّة والقسوةِ والعنصريَّةِ والاستبداد وطائفية فرِّق تسد التي مارسها هذا النظام الفاشيُّ المجرم على شعب حر شريف ليس له من ذنب سوى حبِّهِ للحياةِ وتطلُّعهِ للحريَّة، من الصعب نسيان الذكريات التي تقطرُ دماً.. رماداً.. لهيباً وعذاباً من أطرافِ شهادات السجناء المرعبة وهم يتكلَّمون عن تجارب اعتقالهم في أقبيةِ المخابراتِ السريَّة، من الصعب أن تصدِّق كيفَ أن بشراً تحمَّلوا من أجلِ حياةٍ أجمل وحلمٍ بغدٍ وردي كلَّ أساليب التنكيل والمحو الجسدي والنفسي والتعذيب الذي لا أجدُ لغةً تسعفني لأصفهُ مدةً تقتربُ اليومَ من نصف قرنٍ ولم يحطِّموا بعد تمثال طاغيتهم المجازي ويرموه في البحر، وكلَّما اقتربوا من ساحلِ الانتصارِ باعاً ابتعدَ ذراعاً عنهم لخذلان دول العالم المنافق لهم، لا تزال أفكار الطاغية الغامض تحكم سوريا بالحديد والنار ولو بشكل غير مباشر حتى وهو في قاع قبره وما ابنه سوى دمية هزيلة تحركها أطياف هذه الأفكار السوداء فوقَ خرابِ البلاد.

***

 

وردةٌ محايدة

أنا على حيادٍ تام من الزمن، على حيادِ فراشةٍ على سياجِ الضوءِ، أو زهرةِ صُبَّارٍ في الخريفِ السريع، أكتبُ ما أريدُ، مقطعاً نثريَّاً رديئاً عن طاغيةٍ فتكَ بشعبهِ، قصيدةً في مديحِ الأُمهات، فكرةً لوصفِ امرأة حامل، أُغنيَّةً عن حبٍّ ضائع، أكتبُ ما أُريدُ ولكن على حياد غيمةٍ بحريَّة، أكرهُ المسافات المليئة بالفراغ والنداءات المكتومة والأصداء الذابلة، تلك المسافات التي رسمها بشرٌ عاطلون عن الحبِّ والحريَّةِ والفرح حول حيواتِ الآخرين، أوجعتني محاكم التفتيش الممتدة على جسد تاريخنا المظلم، وأوجعتني قبلاتِ الرعيَّة على نعل الطاغية المبتسم لأعمدةِ النورِ في قصرهِ، في هذا النهارِ الأزرقِ المأخوذ من لوحةٍ لسلفادور دالي ما الذي يريدهُ شاعرٌ مجهول سوى أن يبكي بصمتٍ أمامَ جمالِ امرأةٍ مقهور؟ أو يتركَ وردةً على طاولةِ الأُمومة؟ ما الذي يريدهُ الغريبُ سوى أن يملأ قلبه بهواء الحنين إلى أوَّلِ النساء والبلدان؟

*

 

يومُ إدمون

البارحة رحلَ شاعرٌ طالما استوقفتني قصائدهُ بالغة العذوبة ومسرحياتهُ المنسوجة بذكاء نادر، شاعرٌ ومسرحيٌّ وروائيٌّ ذو حسٍّ سردي جميل،وإنسان في غايةِ النبلِ وجمال الروح، رحلَ إدمون شحادة محمَّلاً بنهاياتِ القصائد وبداياتِ الشجنِ الروحي، بنداءات الحبق الجليلي وترجيعاتِ الحجلِ في مرجِ ابن عامر، سأفتقدك يا صديقي الجميل إدمون فاغفر لي عزلتي، سأفتقد اتصالاتك الدائمة وكأننا نعرف بعضنا البعض من عشرات السنين، سأفتقد صوتك الجميل العذب المائي المنبعث من مجرَّة سحريَّة أو بئرٍ خضراء، أتذكَّر لقاءاتنا الأولى في مكتبتك في أوَّلِ الناصرة، وذاتَ صيفٍ في كرملِ حيفا، أتذكَّرُ مرحك وتواضعك وعفويَّتك وشفافيَّة الأديب ورقَّة وعذوبة الشاعر فيك، وحرصك على لغتكَ الشعريَّة، تلكَ اللغة التي رحت تتعهدها كحديقة، صداقتنا لم تكن عابرةً ولم تكن سطحيَّةً كصداقات البعض، بل كنتَ من القلائل الأثيرين والقريبين من القلب رغم فارق العمر بيننا والذي ينيف على أربعةِ عقود، أمس أحببتُ أن أبكي بصمت كما تبكي الطير عليك، على صداقتك الاستثنائيَّة، على مرحلة أغنتْ حياتي بطاقةٍ إبداعيَّة لا تنتهي، على نهارات خريفيَّة ضاجَّة بحفيف القصائد، لن أقولَ وداعاً ولكن أقول الى الملتقى.

*

 

تفاصيل سرية

تكتبُ امرأةٌ عن أنوثتها وتفاصيلها السريَّة، أُخرى تخاصمُ عاشقاً وتطردهُ عن نوافذ رغبتها.. ثالثةٌ تكتبُ لحبيبها بفمها على ورقٍ يتنهَّد، في عوالمِ النساء الثلاث يبحثُ شاعرٌ عن صفائهِ التعبيريِّ ومجازهِ الخصوصيِّ، يصقلُ حجراً هوائيَّاً ويلمِّعُ بهِ جسدَ ايزيس، كم من الوقتِ ينقصهُ كي يرتقي إلى هاويةِ الرغبة؟ تكتبُ امرأةٌ عن مزاجيَّتها المفرطةِ ويشطبُ شاعرٌ قصيدتهُ النثريَّة الملأى بالاستغاثاتِ النهريَّةِ وزنابق العطش، تكتبُ امرأةٌ على زجاجِ مراياها شهوتها الرماديَّة، ويمسحُ رجلٌ عابرٌ كحلَ فراشتها عن ظلالِ أصابعها.

***

 

       
 

السائر في المنام

جمالكِ يعذِّبني عذاباً جميلاً، منذ رأيتكِ والفراشات تلسعُ قلبي لسعاً خفيفاً، أعرفُ بأنني سأتورَّطُ تورُّطاً لا بدَّ منهُ كي أكتب بعض قصائدٍ أو هذياناتٍ محمومةٍ، أعرفُ أيضاً بأنني سأتبرَّأُ من هذا الشِعرِ عندما أفيقُ منكِ، أنا السائرُ في المنامِ والسرنمُ بوصاياكِ، جمالكِ هو الشيء الوحيد الذي أتمنَّى أن اشربَ مسحوقهُ السحريَّ ممزوجاً بالماءِ أو بالنبيذ، لستُ ديكَ جنٍّ آخر ولا أحبُّ طعمَ الرماد، لا أحبُّ الكلماتِ المعلَّبةَ ولا مراثي الأُنوثةِ، لستُ ديكَ جنٍّ آخرَ ولستِ حبيبتهُ ورد، لستُ امرئ القيسِ ولستِ فاطمةَ، لستُ نيرودا ولستِ ماتيلدا، لستُ دالي ولستِ غالا، لن تكوني قصيدتي الشتائيَّةَ، ولن أكونَ سوى توجُّسكِ من رائحةِ اللوز.

***