يكتب الناقد أنه من خلال ست قصائد، يكسر رتابة طولها ويُغْني موسيقاها تقسيمُها إلى مقاطع بعناوين أو بأرقام، يصوغ الشاعر بالشعر ما حاول تلخيصه في إهدائه النثري: «الحياة، الحرية، الحب، والجمال»، كأجداد وآباء وأمهات وأبناء لرمز مختار بدقة ومعبر عن قيم مروءة الأسلاف

المفرد حقل أمام تجليات مراياه

المثنى الشيخ عطية

في مجموعته الشعرية الجديدة «سيرة لأبناء الورد»، وهي الخامسة، لا يخدع الشاعر الفلسطيني عمر شبانة ــ بهذا العنوان الذي يوحي بالجماعية، ولا بإهداء المجموعة «إلى أحفاد عروة بن الورد» ــ قارئَه الذي تمر عليه جميع قصائدها تقريباً بصيغة حديث الشاعر عن نفسه، أو مخاطبتها أمام مرآته. فالشعر في طبيعته، إن كان شعراً، كما هو شعر شبانة، أن يكون الكون في المفرد، وأن يرى الشاعر في إيقاع غيابات ذاته، ويسمع في حضور صورها، حيث تتبادل الحواس صراخ نشوة تلاقحها، الكونَ متفجراً ومتمدداً فيه إلى ما لا نهايات العوالم. والشعراء هم هكذا، وهكذا خُلقوا، أو ركّبتهم الطبيعة محظوظين أو معذبين بمنحهم حبّ أَسْر الغاوين بما «لا يفعلون».
من خلال ست قصائد، يكسر رتابة طولها ويُغْني موسيقاها تقسيمُها إلى مقاطع بعناوين أو بأرقام، يصيغ شبانة بالشعر ما حاول تلخيصه في إهدائه النثري: «الحياة، الحرية، الحب، والجمال»، كأجداد وآباء وأمهات وأبناء لرمز مختار بدقة ومعبر عن قيم مروءة الأسلاف. ويُلحظ أثره في بعض قصائد المجموعة، من دون ذكر اسمه، عروة بن الورد، الأب الحامي للفقراء، والضعفاء، والشعراء الصعاليك الذين يخبئون في قلوبهم أسرار التوق والانعتاق من أسر أشكال القسر، ويبثونها في الناس عدلاً ورحمة وتعاطفاً وشغفاً إلى عيش الجمال والحب والخير.
ويفعل الشاعر ذلك شكلاً بإيقاع شعر التفعيلة الجميل الذي يجيده، وساهم في تطويره، بمجموعات شعره الأربع السابقة: «احتفال الشبابيك بالعاصفة»، «غبار الشخص»، «الطفل إذ يمضي»، و «رأس الشاعر»:
«
يقول الشاعرُ الراعي:
ولدتُ وفي فمي نايٌ،
ألقّطُ من رياحِ الأفقِ أحرفَهُ
أجمّعُها، ألمّعُها، ألحّنها،
وأعزفُ للخرافِ نشيدها عُشْباً
لتتْبعَني، وتألفَني، وآلفَها،
فتدخلَ بيتَ شعري
دونما خوفٍ ولا وجلِ..
أنا ابنُ الشاعرِ الراعي.. بلا خجلِ».
ويفعل ذلك دون أن يتخلى في تطوير غنائيات تفعيلاته عن ضرورة التجريب لكسر الرتابة، في بعض المقاطع، وذلك بمحاولته الارتقاء بالإيقاع إلى موسيقى القصيدة الخاصة بها. ولنشهد كمثال هذا التنسيق للتفعيلة، ومدها نثراً مفعلاً، لكن أيضاً، مع الخروج بجراح هذا التجريب، التي تختلف الآراء حول بعض تفصيلاتها، مثل أن يتم تسكين نهاية شطر من دون أن يشمل التسكين جميع الأشطر المترافقة:
«
في غابة الأسماءِ
كان الأنبياء، والصعاليكُ،
وتاريخ من الدماء حارقٌ،
وكان ثمة السيد والعبيدُ،
كان الماء من زمزم والنبيذُ،
كل واحد يقودني في غابةٍ،
وكل غابةٍ تأخذني، من أذني نحو غابةٍ،
تدور بي كأس هنا،
وموجة من البكاء في الكأس،
كأنني هناك
وبين كأسين من الجنونِ
والصلاة في المعابدْ
ما بين قلبي واقفاً
أو راكعاً أو ساجداً
في عتمة كأنها جزيرة الهلاك»…
كما يفعل الشاعر ذلك، شكلاً بأسلوب حديثه عن نفسه، ومضموناً بما هي تكوينٌ يعود في امتداده ماضياً إلى حضارة الأسلاف، وحاضراً إلى واقعها ضمن مجموع مقهور، ومستقبلاً إلى حلمها بأن تكون وليداً يضمه صدر أم كوني. وينجح الشاعر في الارتقاء بهذا الحديث إلى تلوينه بمدى شاسعٍ ثريٍ من التمثل والمغايرة والمخالفة، سواء في البحث والاكتشاف والتحديد لاسم الذات كوجود حر في قصيدة: «اسمي الذي يليق بي»: «كتبت اسمي على الألواح: موسى ـــ ثم في الإنجيل عيسى ــ ثم في القرآن أحمد ــ ثم من طين ومن ماء ونار»؛ أو في تلمس حضن الذات في الآخر، كآلهة أمومية هي عشتار، في قصيدة: «وأريد هذا الثوب بيتاً»: «في ثوبها ــ أمي ــ وجداتي ــ إلهتيَ الوحيدة… عشتروتْ ــ في ثوبها ــ أنا كائن من ياسمينٍ ــ وابن نعناعٍ ــ وجذرٌ لا يموت»؛ أو في امتزاج الكائنين، وتوحدهما في القبلة كحياة وجنات، في قصيدة «القبلات»: «والقبلات سهول وحكايات وسنابل»… «قبلاتنا جناتنا في الأرض»؛ أو في ولاداته الآنفات، واللاحقات والمشتهيات في قصيدة: «الولادة والملاذ»، كميلاد لا ينتهي في قصيدة «ندم»: «في كل ميلادِ ــ أراني طائراً ــ والأفق تحتي أمتطيهِ ــ أطير في أوتاره رقصاً، ــ أنا الفينيق أنفخ في دمي، ــ من روح أسلافي لأولد من رمادي».
وبين كل هذا الثراء: شكلاً في تنوع التفعيلات ضمن القصيدة الواحدة، ومضموناً في تجسد الذات بأشكال الحياة (حقولاً وأزهاراً وفراشات وأمطاراً وتموجات خصب)، وبأنبياء الديانات الثلاث، وشعراء التاريخ العربي؛ فإنه يُلحظ بقوة إصرار الشاعر على العطاء والانحياز للبسطاء والمنتجين والضعفاء: «أنا الفلاح، فلاح بروح من حقول صاغها الأسلاف من أرواحهم»… «أنا المبعوث في أمم الرعاة».
كما يلحظ استخدامه لأبيات شهيرة في تراث الشعر العربي، جرت أمثالاً في الذاكرة الجمعية، واستخدام أسماء شعرائها، ليس إغناء لقصيدته فحسب، بل معارضة للقيم القبلية الأنانية الضيقة بقيم الأثرة وحقوق الإنسان:
«
أحتاج ثوبكِ يا.. أنا
احتاجني،
لأقول إني لم أكن يوماً
شربت الماء صفواً
لست ممن قالَ:
يشرب غيرنا كدراً وطينا..
لا، فلست أنا الذي..
إني الذي من عينه يسقي العطاشَ
ومن حقول يديه يطعم جائع الطرقات.. ليلا».
وتمتد هذه المعارضة إلى مجمل التراث والمعتقدات وبالأخص ما يتعلق منها بالنظر إلى المرأة وتكوينها بالنسبة للرجل:
«
لا.. يا امرأةْ
أنا لست آدمك الذي من ضلعه تأتينْ
أنا من سيولد من ضلوعكْ
وأكون حقلاً من حقولكْ
أو نجمةً في ليل قلبكْ
وأظل طفلك، في سريرك، أشتهيكِ
لأكون آخر معجزات الرب فيكِ»…
ولأن المجموعات الشعرية كثيراً ما تُظلم في القراءات المبتسرة لها، بسبب سعة وعمق ومدى ما تخلقه إيقاعات الشعر وجمله وتراكيبه، فإن من الصحيح حقيقةً توجيه القارئ إلى عيش قراءته الخاصة لهذه المجموعة المفتوحة قصائدها على التنوع الموسيقي وعلى الجمال والحب والولادة والبساطة والخير، والختام بما يفتح القلب على الأمل:
«
القلب.. هذا الطفلُ
يولد من جديدٍ كل حينْ
القلب يخرج كل يوم للعملْ
وبلا مللْ
يجري هنا وهناكَ
بحثاً عن أمل».

عمر شبانة: «سيرة لأبناء الورد»
الأهلية، عمّان 2017
151 صفحة.

 

جريدة القدس العربي