يرسم القاص السوري في نصه مسار شخصية فاسدة محللا نشأته ونمط سلوكه وتفكيره، ويتتبع مسار صعوده من شاب عنيف في قرية إلى وزير مرفهه، ليخلص السرد الواقعي إلى حكمة رمزية وعظية.

مستقبل زاهر

فـراس ميهـوب

زاهر شابٌ مراهقٌ ، ضخم الجثَّة، ذو قوةٍ بدنيَّةٍ مُذهلةٍ، لم يتجرأْ أحدٌ من شبان القريَّة أن يباطحه، كان عدوانيَّاً بشدة، لم يتردد بضرب كل من اعترض طريقه، أو نظر إليه شزراً.

لم تسلمْ الحيوانات من شرِّه، فقد شوهِد وهو يفصل رأس دجاجةٍ بعنفٍ عن باقي جسدها، وذات يوم نبح عليه كلبٌ بريٌ فضربه بقبضةٍ حاقدةٍ ضربةً قاتلةَ.

كان الشارع مكانه المفضَّل، أمَّا المدرسة فلم تجذبه في يومٍ من الأيَّام، وبصعوبة بالغة نال الشهادة الثانويَّة بعد محاولات متعددة.

عمل متدرباً في مكتبٍ عقاريٍّ، وتمرَّس بسرعةٍ في أساليب جذب الزبائن، والمناورة بالأسعار، واللعب بالكلمات.

نصحه صاحب المكتب العقاريِّ بالتقدم لوظيفةٍ في سِّلْكِ الدَّولة، وساعده في الحصول عليها.

صعود زاهر من مجرد موظفٍ بسيطٍ في المصالح العقاريَّة، إلى قمّة الهرم الاجتماعيِّ والوظيفيٍّ كان سريعاً بشكل مذهل.

اقتنص فرصة تعرفه على مسؤول كبير في البلد، مؤديَّاً له خدمة جليلة ، فانفتح له طريق الفساد عريضاً إلى الغنى الماديّ أولاً ، ثمَّ إلى تسلق سلَّم المناصب السياسيَّة لاحقاَ.

وكما أنَّ السماء لا تظلُ صافيَّةً لفصلٍ كاملٍ ولو كان صيفاً عربيًّاً، حَجَبَتْ سماءَ زاهرغيمةُ مرضٍ سوداء، شخَّصَهُ الأطباء احتشاءاً حادّاَ بالقلب ولم يكن قد بلغ الأربعين عاماً بعد.

بعد علاجٍ مُكثَّفٍ في لندن وَ نقاهةٍ قصيرةٍ، عاد زاهر أقوى مما كان، وأشد تعلقاً بالحياة وأطايبها، لم يدفعه المرض إلى مساعدة الناس والإحساس بآلامهم بل إلى مزيدٍ من الجشع.

جاءت عجوزٌ من قريته إلى مكتبه الفاخر ترجوه مساعدةً لابنها المصاب في الحرب، أدار لها ظهره ودخن سيجاره غالي الثمن وقال لها:

- لك اللّه يا حاجَّة، أنا مؤتَمنٌ على مال الدولة، ولا أستطيع صرفه على من هبَّ ودَب.

اشترى مزرعةً ضخمةً قرب تدمر، بنى فيها قصراً مُنيفاً، عبَّد طريقاً عريضاً إليه، وَ حفر آبار مياه عميقة مستخدماً معدَّاتٍ وفرها له أصدقاؤه في وزارة الأشغال العامة والطرق ، فصارت واحةً خضراء وسط صحراء قاحلة ، نوافيرها تنافس )السبع بحرات( غزارةً وجمالاً ، وأحضر لها غزلان المها من قطر، والجِمَال من السعوديَّة ، وماعز الكشمير من تركيا.

دعا كبار المسؤولين إلى واحته الغنَّاء، وأقام لهم الأفراح واللياليّ الملاح، فأحبوه ودعموه، فزاد سطوةً على سطوةٍ ومالاً إلى مالٍ.

في زحمة انشغالاته، وهو يهمُّ بتوقيع صفقةٍ لبيع أراضٍ للدولة إلى تاجرٍ صديقٍ له، ليجني منها أرباحاً طائلةَ ككومسيون ، انتابه ألمٌ شديدٌ في الصدر، بعد قليلٍ من وصوله إلى المشفى، تفاجأ بتشخيص لاحتشاء قلبٍ جديدٍ.

خرج من المشفى مُتعباَ قليلاً، لم يتغيَّرْ مع ذلك حُبّه الجمّ للمال والجاه، جاءه اتصالٌ قلبَ حياته رأساً على عقب فقد تمَّ تعيينه وزيراً للأشغال العامة والطرق، نسي المرض والمشافي ، واستعد للمرحلة الجديدة.

وصل إلى الوزارة مختالاً، استقبله الموظفون بابتساماتٍ عريضةٍ وتصفيقٍ حارٍّ، فطربت أذناه، واجتاحته سعادةٌ غامرةٌ.

ما أن استقر على كرسيِّه الجديد حتى قام بتغييركُلَّ فَرْشِ الوزارة ، أحضر زَّبَانِيَتَهُ ووضعهم في مناصبَ حساسةٍ، وعشيقته أمينةَ للسِّر.

بقي وفيَّاً لخصلته القديمة باحتقار الفقراء، وخاصةً من أهالي قريته الذين يذكرونه بأيَّام الفقر، وحين كان يُضبط مُتلَبِّسَاً بسرقة العنب و التِّين.

اقترحَتْ عليه عشيقته أن يتخذ طبيباً خاصَّاً يشرف على علاجه، ويرافقه في تنقلاته الكثيرة، أسوةً بالمسؤولين الكبار الآخرين، فذاك مدعاةٌ للشعور بالأمان، ومُنافسةً لهم بالبريستيج.

لم تجد السكرتيرة الجميلة خيراَ من أخيها لهذه المهمة، وهو بذات الوقت طبيب قلبٍ معروفٍ، ولن يثير تعيينه اعتراضاً كونه يعمل مفتشاً معروفاً في وزارة الصحة بعد أن عمل مندوباً لشركة تأمينٍ صحيَّةٍ كبرى، فمراقباً لشركات التأمين.

بعد سنواتٍ من استلامه لمنصبه الوزاري، بلغ تضخم ال أنا لديه حدَّاً بعيداً، فأحاط نفسه بالمنافقين والطبَّالين، وكان يطرب لمناداته بالمعلِّم، حتى أنَّه طرد بلا رحمةٍ عاملَ نظافةٍ في الوزارة أخطأ بقوله شرَّفت مكتبك يا أستاذ، بعد عودته من رحلة عملٍ خارجيِّةٍ إلى أوربا.

لكن أحلام زاهر وطموحاته لم تتوقف هنا، فبدأت حاشيته تنفخ في أذنيه عن قرب تعيينه رئيساً للوزراء، فزاد في ريشه الطَّاووسي ريشةً جديدةً.

أصبح يمضي أغلب وقته في فندقٍ فخمٍ قرب دمشق، وسَرَتْ شائعاتٌ كثيرةٌ عن امتلاكه له، فرحاً بين أصدقائه المترفين، ومساعديه المخلصين، بين طبيبه الخاص يُدَّلِكُ له كتفيه حتى لا تنوء تحت الأحمال الثقيلة، وحمّالٍ لبدلاته الكثيرة وربطات عنقه الملونة، وآخر يشعل له سيجاراً كوبيَّاً فاخراً.

وسط دخان السجائر الكثيف، ورائحة الخمور تزكم الأنوف، وبين أضواء المسرح وأصوات الموسيقى الصاخبة ممزوجةً بصوت مغنيِّة حسناء، أحسَّ المعلِّم بتعرقٍ شديدٍ يجتاح جسده، وألم صدرٍ عنيفٍ كأنَّه انحصر بين قطارين مسرعين، فَسَقَطَ مَغْشِيّاً عليه.

أقلَّتْهٌ سيَّارةُ إسعافٍ مُجهزةٌ بشكل ممتاز كان قد استوردها من اليابان بناءً على نصيحة طبيبه الخاص تحسَّباً لمثل هذا اليوم، شقت طريقها بسرعةٍ جنونيَّةٍ بأنوارها المبهرة الزرقاء، وصوتها ثلاثي النغمات المميَّز و محاطةً بسيَّارات المرافقين الفارهة والمُصَفَّحة تفتح لها الطريق إلى المشفى بالسباب على خلق اللَّه حيناً، وبإطلاق النَّار بكثافةٍ في الهواء أحيان أُخرى حتَّى وصل المعلِّم إلى المشفى.

أرغى مرافقوه وأزبدوا حين وصل الموكب المُظفَّر إلى قسم الإسعاف، فُتِحَتْ صالة القسطرة فوراً ، وجُهِّزَتْ العناية المشددة لاستقبال المعلم.

أجمعَ الأطباء على تشخيص احتشاء القلب الحادِّ للمرة الثالثة، واقترحوا استناداً إلى نتيجة القسطرة إجراء عملٍ جراحيٍ كسبيلٍ وحيدٍ لإنقاذ قلب المعلِّم الذي يكاد يتوقف عن الخفقان حسَب تقديرهم.

استدعى طبيب المعلِّم زاهر أستاذاً مشهوراً بجراحة القلب مع فريقه الكامل من مخدرين وممرضين وفنيِّين، وطلب حضور العمليَّة معهم، ولم يكتَفِ بذلك، بل أجبرهم على وجود فريق تصويرٍ تلفزيونيٍ، وصحَفيِّين عرب وأجانب لتغطية الحدث الجلل.

لم ينفع اعتراض جرَّاح القلب القديرعلى العمل في هذه الظروف القاهرة، فسلَّم أمره لله، وبدأ عمله بعد إشارة خضراء من طبيب التخدير.

فتح الجرَّاح النطَاسيُّ عظم القصِّ، وحين وصل إلى موقع القلب هالته الصدمة، وارتد بصره إليه غير مُصدِّقٍ لما يراه.

اعتقد لوقتٍ قصيرٍ ظنَّه دهراً، أنَّ الضغط النفسيِّ الناتج عن العمل تحت بنادق مرافقي الوزير المُلقَّمة، و أعين الكاميرات في بثها المباشر، أرهقه رغم خبرة السنوات الطويلة، وبرودة أعصابه المشهورة.

استجمع شتات شجاعته، وأعاد النظر مراتٍ إلى الصدر المفتوح وتأكدَّ من حقيقة ما رآه، فالقلب فعلاً غائبٌ تماماً، والشرايين التاجيَّة للمريض تنتهي إلى قطعةٍ صغيرةٍ جداً لا تكاد ترى من العفن الأسود.

انطفأتْ هنا أضواء الكاميرات، وقطع التلفاز الوطنيُّ بثه لدقائق، وعاد ليعلن

عن وفاة الوزير الأمين ذي الأيادي البيضاء، من كان قلبه يخفق بحبِّ الوطن والمواطن.

 

فرنسا

02/01/2018