رحل في الشهر الماضي علمين بارزين من أعلام السودان الثقافي والفكري، هنا يقدم مراسل الكلمة في السودان تغطية سودانية خالصة توشك أن تكون ملفا خاصا لوقع هذا الفقد على أدباء السودان، وذكرياتهم الحميمة مع الفقيدين الكبيرين، هذا فضلا عن وثائق الحوار الأساسي الأولى لمشروع الغابة والصحراء التي ننشرها في باب علامات

رسالة السودان

مبدعان سودانيان مهاجران يرحلان معاً في فبراير الحزين

شهر فبراير هو الأكثر حزناً علي الساحة الثقافية السودانية بالفعل، فلقد فقدت فيه اثنين من ابرز مبدعيها، وأكثرهم حضورا في المشهد الثقافي العالمي.. أكثرهم تفاعلا وترجمة وهجرة. وأولهما شاعر وهو النور عثمان أبكر (1938/ 2009) الذي رحل في الخامس من فبراير بالعاصمة القطرية، بعد صراع مع المرض، والثاني هو الروائي الطيب صالح (1929/ 2009) الذي رحل في فجر يوم 17 فبراير في العاصمة البريطانية أيضا بعد صراع طويل مع المرض. النور عثمان أبكر اغترب طويلا.. منذ مطالع الثمانينيات سافر إلي ألمانيا في البداية، وتزوج سيدة ألمانية هي "مارغريت"، الطيب صالح سافر إلي انجلترا في العام 1953 وتزوج من سيدة اسكتلندية هي "جولي"، جمعتهما العاصمة القطرية، فالأول عمل محررا بمجلة "الدوحة"، ومترجما في الديوان الأميري، أما الثاني فقد حضر مديراً لوزارة الأعلام القطرية وأقام لمدة بالدوحة!

واخيرا.. رحلا معاً في المهجر، وفي ذات الشهر، في فبراير!

اسم الطيب صالح سطع منذ الستينيات في الخارج ـ كما هو معروف ـ أما النور عثمان أبكر فقد برز في السبعينات علي المستوي المحلي كقطب من أقطاب جدل الهوية الثقافية السودانية، وهو جدل استمر لوقت طويل وبدأ منذ ثلاثينات القرن الماضي، ومثلت اواخر الستينات موقعاً أكثر صهراً للسؤال حيث تعينت مدراس أو اتجاهات أو تيارات أدبية عديدة، إما رأت ان السودان ثقافياً ينتسب إلي "الافريقانية"، أو رأت انه ينتسب إلي "العروبية " كما نهض تيار ثالث مزج بين الثقافتين الإفريقية والعربية، وهو تيار الغابة والصحراء الذي صك شعاره الشاعر النور عثمان أبكر، ولخص العروبة في الصحراء والافريقانية في الغابة!

ولقد توفرت الكثير من المعلومات بخصوص ميلاد الطيب صالح وحياته العملية. لكن النور عثمان أبكر وبالرغم من عمله بمجلة الدوحة القطرية، التي كانت واحدة من المجلات الثقافية العربية الأكثر توزيعاً في المنطقة العربية فترة الثمانيات، إلا انه لم يُعرف عربياً، وعلي الصعيد المحلي تواري اسمه بفعل التحولات السياسية، وانعكاساتها علي المشهد الثقافي طيلة العقدين الماضيين، إضافة لهجرته الطويلة بالطبع.. مجموعاته الشعرية العديدة "صحو الكلمات المنسية" و "غناء للعشب والزهر" و "أتعلم وجهك" و "النهر ليس كالسحب"، ظلت مهملة ولم تُدرس جيدا، أو لم تدرس مطلقاً،حال العديد من المجاميع الشعرية التي قدمتها تلك المرحلة. والناظر يستطيع ان يري ان المعلومات القليلة التي تيسرت عقب رحيل الشاعر النور في اغلبها دلت علي انتسابه للغابة والصحراء/ التيار الفكري/ أكثر من تدليلها علي شاعريته!

عموماً هي محاولة منا هنا لإضاءة جانب من سيرة هذا الشاعر ومدخلنا العبارة التي قالها د.يوسف عيدابي، رفيقه في التيار، عقب سماعه نبأ رحيله. كذلك يشارك في شهادات عن الراحل النور عثمان أبكر عبر "الكلمة" الشاعر عالم عباس والكاتب عبد الله علي إبراهيم والكاتب صلاح شعيب.

*     *     *

شاعر الغابة

يوسف عيدابي 


كان الفقيد الشق الآخر للصحراء في تيار "الغابة والصحراء" لجهة التعددية الثقافية، منذ مطالع ستينات القرن الماضي. كان الصوت المعادل الذي فطن إلى نصف "البرتقالة" التي أتت بالخلاسيين، وأصوله الإفريقية، فقال بزنوجة لسانه العربي، وفصل القول بالثنائية في الذات العربية الإفريقية التي أنجبت السلالة القوية للسودانوية في الكتابة بعد الاستقلال، الأمر الذي ادخله في معمعان شقاق غير منسي، ولكن ادخله ايضاً إلى لب "الغابة" في زمان لم تكن الغابة الحقيقية فيه إلا فرقة وشتاتاً واحناً وأحقاداً.. عرفنا منه قيمة التيار، ووجعه وآلامه، وإمكانات مخاضاته. ولكنه كحارس للغابة، فتق المواجع والآمال، وذهب إلى الشعر في الصحو وفي الغناء، وفي قصائد غير قليلة. بيد أنه عاف أوضاعاً لا تليق بالإنسان وبالشاعر، فهاجر واغترب. حتى وافته المنية وفيه غصة، وفيه "شوق طير مهاجر عن الوطن" مثل "صلاح" الذي هوى في غربة باريسية ذات صيف.

نقول إن النور في شفافيته، وفي سودانيته، وفي شعره، وفي ثقافته ومعرفته ومعارفه لا يبذ، يفتح ذراعيه ويهش ويبش في سماحة تليق بالشعر وبالسودان. في غربته كان وطناً للمغتربين، والمهاجرين، وأهل الكتابة، متواضعاً اليفاً كريماً، عالي المهنية والأمانة والطاقة المبدعة. في عمله الصحافي والفني وفي مجالات الترجمة.

جاء النور "صحواً للكلمات المنسية" وذهب "غناء للعشب والزهرة". فقدناه ذات عصر، ذات أربعاء، ذات حياة في غربة قاسية قاسية.

*     *     *

كأنك أغمضت عينيك كيلا ترى ما نرى!

عالم عباس


«فنيت ذاتي التي هي نورٌ، في اليقين الذي نحن في الصحو فجرُه»
«لم أنم على أذى أصابنا
كنتم جرار الخمر، كنت خمرَكم
وجمركم
فنمتٌ مستريح البال
واقترنتُ بالربيع»
النور عثمان 

«لكم أن تفتحوا دروبنا إلى الحياة
أو تبددوا حصيلة الصراع هدراً
لكم أن تشعلوا المواقد التي من صهدها تبنى الحياة
أو تغيض الممكنات
وهذه دوائر القبول معلنة
وبانتظاركم
لمن يهيئ الوجيب لابتداء رحلة البلوغ» 
                                 النور عثمان

كُنّا كأفراخ النسور نتحلّق حوله. كان نسراً كامل البهاء يطعمنا المعرفة. في بواكير السبعينات العامرة، داره بالصافية تتلقّى أرتالاً منا نحن ناشئة الأدباء، زغب الحواصل، أقلامنا طرية، ومحاولاتنا تنهض وتكبو. وفي إنصاته العميق، واحتفائه الهادئ المتدفق، كان يرى فينا بذوراً مبشرة بوعد قادم. وفي الزند المتساقط نار مقدسة على وشك الاشتعال. كانت حفاوته بالشباب وإيمانه بهم، لا يماثله فيهما إلا "شيخنا". والنور حين يقول "شيخنا" فإنه لا يعني احداً غير الشاعر الضخم محمد المهدي المجذوب!.

لم نكن شباناً صرفاً، وإن كان اغلبنا كذلك، ما بين الثامنة عشر والخامسة والعشرين، يومئذٍ، كان المجذوب، بكل عظمته وتواضعه وإنسانيته، وهنالك محمد عبد الحي، حسين جمعان، صلاح حسن، عبد الله حامد الأمين، تاج السر الحسن، حسن عباس صبحي، عبد الله حامد الأمين، إبراهيم عمر التني. وحين كان الكبار يملأون الساحة والمنتديات، كان هو يفرد لنا حيزاً معتبراً في الصفحة التي كان يشرف عليها في جريدة الأيام. هنالك تجد نصوصنا ومحاولاتنا النقدية، مجالاً عنده للنشر والتقويم. كان يستل من كتاباتنا ما يرى انه لا مسوغ له، ويبقي منها المفيد وينشره، ويعلق عليه ويحاججك فترضى وتقتنع، جلنا طلاب من مناطق مختلفة، عجينة من صلصال ثقافاتنا السودانية المتنوعة، رمت بنا أقدارنا إلى العاصمة، ريثما نتشكل في هذه البوتقة الخلاقة وهذا المصهر العظيم. جمعنا عنده حب الفن والأدب، وربما ذهبنا إليه برفقة احدنا كان قد سبقنا إليه، أو أرسلنا إليه بالبريد بعض أعمالنا الأدبية فاحتفى بها ونشرها، فأحببناه وسعينا نتعرف عليه، وقد كان.

كان في سمته مهابة، فقد كان مديد القوام، في غير نحافة، لونه يغرق في سمرة داكنة لطيفة، يقبل عليك بكلياته، كان يصغي بكل حواسه، تشرق عيناه ويضيء وجهه، وإذا تكلم أبان وأوضح. تخرج الكلمات من فمه واثقة النبرة، وكانت تميزه لثغة محببة حين ينطق حرف الراء، فكأنما يقضم منها قضمة يملأ بها فمه، ثم يرسلها فتخرج راءً ضلّت طريقها فخرجت راءً من مخرج اللام! نسمعه يتحدث بالعربية، فكأنه لا يجيد سواها، وإذا تحدث بالألمانية لا يخالطها بغيرها. وهو أستاذ اللغة الإنجليزية، فإذا دخل إلى الصف نسي أية لغة سواها. كان قد روّض نفسه على انضباط لغوي صارم حديثاً وكتابة. أتعجب أنا من ذلك، إذ أننا وإلى اليوم حين نتحدث نجتهد أن نلقم حديثنا ببعض العبارات الإنجليزية، كانت في أول الأمر من بعض التنطع وادعاء المعرفة، حتى استحكمت فصارت عادة ذميمة لم نفلح في التخلص منها إلى اليوم!.

كان يعلمنا كيف نصغي إلى بعضنا، ونتحاور، ونتلمس مواضع الجودة في كتاباتنا، ونحتفي بها، ونصوب أخطاءنا ونتعلم ان نصبر على النقد، دون تنافس او حسد او تباغض، كبنيان مرصوص يكمل ويشد أزر أخيه! كان هنالك في الرفقة حسن أبو كدوك، شمو ابراهيم شمو، كان هنالك ابراهيم اسحاق، محمد المهدي بشرى،عثمان علي الفكي، بشير الزبال، عيسى الحلو، كمال الجزولي، صلاح حسن، السر مكي، محمد محمد خير، سامي سالم، وكثيرون لا اذكرهم الآن يذهبون ويجيئون ويتجددون، في داره الدافئة وكرمه السخي الندي، وحتى كلبه الذي يجلس إزاءنا باسطا ذراعيه بالوصيد، يستمع الشعر والموسيقى، ويشاركنا الشواء النضيد، بين اسرته وما أدراك ما اسرته في الطيبة والخصال والمودة والرحابة، ثم ومكتبته ويا لمكتبة النور! فيها تعلمنا أن نقرا لأليوت وآزرا باوند، ولشوينكا واشيبي، وواثيونقا، وسنجور. قرأنا عنده يوسف الخال، وأنسي الحاج، وادونيس، وسعدي يوسف، وريلكه وبابلو نيرودا، وبودلير، واوزبورن، وناظم حكمت. تعلمنا طقوس الاستماع إلى الموسيقى من كنوز اسطواناته، وتسجيلاته الأثيرة: بيتهوفن، وموزارت، وباخ، وهولدرلين، لوي ارمسترونق، وكولترين، وجيمي هندركس، وجايزاك هيز، وبوب مارلي، واستيفي وندر، ودايانا روس، وكيف ننصت إلى المغنيين الشعبيين الذين لا يعرفهم احد! كان يرى في الشباب أعمق مما يراه الناس، لذا كان لديه الصبر والطاقة للغوص عميقاً في عوالمهم. يشجعهم على الإفصاح و البوح والكتابة في الشعر والرواية والمسرح والموسيقى والرياضة، وفي كل قد اسهم بنصيب وافر.

*     *     *

النور و..(ابادماك)

عبد الله علي ابراهيم 


جاء النور إلى جماعة الكتاب والفنانيين التقدميين (أبادماك) في كبرها. كان ذلك نحو عام 1970م، بعد عودته من بعثة بمدينة (ليدز) بإنجلترا، وكانت بعثة من تلك البعثات المعلومة لمدرسي اللغة الإنجليزية بالمدارس الثانوية، ضربة لازب. لم يأتنا النور في وقت شبيبتنا، حين كنا في "يوم المهرجان" كما غنى الكاشف، وأعني به برامجنا التي نفذناها في 1969م وأوائل السبعينات، وقد وفرت لنا فيها حكومة نميري "التقدمية" فضاءات للحركة، فعقدنا (مدينة الثقافة) بالمقرن، ومن مواردها موَّلنا قافلتنا الثقافية لقرى الجزيرة، وانشغلنا من تلك القري بقرية (برتبيل)، فأقام بين أهلها نفر منا يدربونهم على فنون المسرح والرسم. جاءنا النور وقد بدأنا نواجه ردة "النظام التقدمي" عن حرية التعبير للثوريين على الأقل. فقد احتججنا على تأميم الصحف بطريقتنا. ثم استنكرنا قيام (المجلس الأعلى للفنون والآداب) علي سُنة مصر، التي جعلت الدولة منتجاً للفنون، لا راعية لها! ثم احتججنا على اعتقال الأستاذ عبد الخالق محجوب ونفيه إلى مصر. وظللنا نحتج ونحتج حتى كتبنا في دفتر الحكومة متمردين لحوحين!.

جاءنا النور طويلاً كالرمح، كأبنوسة مياسة من الجوغانة الزرقاء. أدهشني بحضوره بيننا هكذا في تلك الأيام المدلهمة التي جفانا فيها حتى عتاة الصحاب سأماً من قحاحتنا السياسية، أو انقساماً من مترتبات الشقاق العظيم، وقتها، في الحزب الشيوعي. واستغربت لوفوده إلينا بالذات، فقد عاصرته في جامعة الخرطوم. كنا في طابق الصف الشمالي الأول من داخلية النيل الأبيض، أي كلية القانون الحالية. كان في ركن الصف الجنوبي، وكنت على بُعد غرف منه قليلة. كان (وجودياً) سافراً نلقاه في (رابطة أدباء الجامعة) لماماً. ثم هو رياضي تزود لصنوف الرياضة المختلفة بحراب ومحجان وشباك وكور مختلف ألوانها أكاد أراها بعين الخيال متكئة على الحائط الغربي للغرفة حيث سريره. وانطبع عندي، أنا (كلبُ حرِّ) الشيوعيين والجبهة الديمقراطية وما شئت، بأنه نبت (برجوازي) في الظل، حتى علمت أنه ابن سوَّاق ما من جملة الناس!.

جاءنا ثم صار واحداً منا في سكرتارية (أبادماك). وهي سكرتارية في حالة انعقاد يومي وليلي أيضاً! كنا في قول خليل فرح "الزملا النجاب"! كان أنيساً جداً، وبه (لجَنَة) يلثغ بها في براءته الجذرية. لم يكن ليتحسب للأشياء مثلنا نحن الذين دبغتنا الشيوعية بفراكشناتها واجتماعات سلخ ناموسها! كان لا يري صعباً في الذي نستصعبه، وكان يري مطلبنا بالحق بداهة تستقيم نحوها خطوطه بينما تتعرج خطوطنا! ولا أدري حتى اليوم كيف أمن النور للشيوعيين ورفاق طريقهم هكذا! لربما أعدته ثورة الستينات الأوربية فأخرجته من مجرد الإبداع إلي تأمين شروطه من مثل كفالة حرية التعبير وكرامة المبدع وبلوغ الناس بالإبداع.

يقيم كثير من النقاد حاجزاً بين (الغابة والصحراء)، والنور فارس مغوار مؤسس من فرسانها، وبين (أبادماك). ويقرأ بعضهم من موقفي من الهوية السودانية، الموصوف بـ (العروبي) على أيامنا هذه، تناقضاً بين الغابيين الصحراويين الأفروعروبيين و(أبادماك). ولعل في رحلة النور من (الغابة والصحراء) إلى (أبادماك) ما يفكك اللغز. فكلنا في ذلك الجيل كنا (غابة وصحراء) نظراً لمعطيات ثقافية لا يتسع لها المقام هنا. بل كان يمكن لتجمعنا أن يسمى بـ (سنار)، كما اقترح أحدهم في اجتماعنا الأول، لولا استظرافنا لاسم (أبادماك) بحيثيات أضحت معروفة. فلم يكن شغل (أبادماك) عقيدة إبداعية، ولو كان كذلك لربما أهمله النور، ولكننا اشتغلنا بحرية الإبداع. نشأنا باكراً، في شتاء 1968م، في سياق التعبئة لنصرة هذه الحرية ضد تعدِّي الاتجاه الإسلامي على (حفل العجكو) المعروف. وكان من بين المحتجين ود المكي الغابي الصحراوي. وكان عبد الحي وقتها في غيبة أكاديمية بلندن. فالعازل الذي يقيمه الناقدون بين (الغابة والصحراء) وبين (أبادماك) وهمي ولا سند له في أصل الأشياء. فقد جاءنا النور الغابي الصحراوي وأبلى بلاء حسناً في قضية حرية التعبير. واذكر أننا عقدنا اجتماعات مناقشة مذكرتنا ضد قيام (المجلس الأعلى للآداب والفنون) بمنزله أكثر من مرة. وكنت، بعد تجهم نميري في مارس 1971م على الشيوعيين، أغشى تلك الاجتماعات بشيء من التحفظ والستر!.

كان النور إضافة مميزة لـ (أبادماك). كان موطأ الأكناف، عذباً، بـ (لجَنَته) تلك التي تحلى عفويته الجذرية. رحمه الله!

*     *     * 

أبكر: "رزم" الغابة و "صولفيج" الصحراء

صلاح شعيب 


برغم أن الراحل النور عثمان أبكر أصدر عدة دواوين شعرية، إلا أن أكثر ما ميَّز النقاش حوله كان دوره في إنشاء مدرسة الغابة والصحراء، مع الأستاذ محمد المكي إبراهيم والراحل محمد عبد الحي. فضلاً عن ذلك فإن معاني مقالته الشهيرة "لست عربياً.. ولكن!" ظلت محفورة في ذاكرة النقاد والقراء، بأوضح مما فعلت أية قصيدة من قصائده، والتي مهَّدت له أن يكون في قلب الجيل الثاني من المجددين لـ (القصيدة العربية السودانية)، هذا إذا اعتبرنا أن محيي الدين فارس وجيلي عبد الرحمن وتاج السر الحسن، ومحمد الفيتوري يمثلون الجيل الرائد في الدعوة لتجديد بنية القصيدة العمودية.المضاف لهذا الإدعاء هو أن الجدل النقدي حول مدرسة الغابة والصحراء صب في مجمله حول درس مضامين وأفكار تتعلق برؤى الشعراء حول مفهوم الهوية السودانية، أكثر من مدارسة الصياغات الفنية التي بذلها شعراء المدرسة المعنية، وفي هذا تتشابه ظروف المدرسة مع الظروف التي واجهت فكرة مدرستي الخرطوم والواحد التشكيليتين، واللتين خلقتا جدلاً ذي صبغة فكرية في دوائر التشكيليين والمعنيين بدراسات تتعلق بالهوية، أكثر من إستجواب الأساليب الفنية التي بدت في أعمال المؤسسين إبراهيم الصلحي، وعثمان وقيع الله، وأحمد محمد شبرين.

وفي الزعم أن شغل المدارس الفنية ما بعد الستينات قارب شغل المدارس الفكرية/ السياسية المعنية بتشريح الأزمات المجتمعية، وبالتالي نجحت أفكار مدارس الغابة والصحراء و"الكريستالية" و"أبادماك" و"الخرطوم" في إنتاج الحوار وسط مكونات المثقفين، ولكنها فشلت في إنتاج الإبداع المتناسق للمبدعين المؤسسين لهذه المدارس. ودلت التجربة أن انفراط عقد المدارس الفنية بعد تأسيسها، واختلاف رؤى مؤسسيها، هو القاسم الأبرز بينها، فالشاهد أن مدرستي الخرطوم والواحد التشكيليتين فشلتا في أن تراكم رسومات مختلفة لمؤسسيها، تعبر عن المرحلة الجديدة للمبدعين الذين أسسوا بنيانها، وفي ذات الوقت لم يستطع الفنانان (كمالا إسحق ومحمد حامد شداد) أن يستمرا في مراكمة تجارب تشكيلية لـ"الكريستالية"، التي جاءت لحقل التشكيل في مطلع السبعينات، وكان ميدان أبو جنزير، رد الله الروح إليه، يشهد تجليات لمحاولة جريئة لإبراز أفكار ذلك الرهط من المبدعين، ومع ذلك لم تكن هذه المحاولة سوى فشل جديد لصب كل أحاسيس المبدعين في قالب متحد، يجمع أحاسيس، وأنفاس، وزفرات، وشهقات جماعة من الجيل.

والواقع أنه يصعب تأطير الإبداع الشعري أو التشكيلي ضمن مدرسية محددة، مهما كتبت موجهات أو إرشادات أو تطلعات لما ينبغي أن يسير عليها، وإليها، الموقعون على بيان التأسيس لهذه المدرسية. وأذكر أنني كنت على قرب من الموقعين على بيان مدرسة الواحد التشكيلية، والتي أسسها الأستاذ أحمد عبد العال بجانب الأساتذة إبراهيم العوام، ومحمد عبد الله عتيبي، وعبد الباسط الخاتم، ومحمد حسين الفكي، ولاحظت كيف أن خلافاً منهجياً ومضمونياً حاداً تغلغل وسط موقعي بيان الواحد حول ما ينبغي أن يتبع بيان التأسيس، ثم تحول الخلاف إلى معارك شخصية، لم تراع حقوق الزمالة الفنية، وعليه لم يستطع هؤلاء المؤسسون انجاز أي معرض مشترك، يعبرون فيه عن كيفية رؤيتهم للعلاقة بين (الواحد القهار) والفنون. صحيح أنه لم تكن للنور عثمان أبكر وزميليه من مؤسسي مدرسة الغابة والصحراء بياناً تنظيرياً موحداً يدبجون به إنتاجهم الشعري (الجماعي) آنذاك، ويوضحون عبره الفكرة الأساسية التي يرمون لتحقيقها في حقل الأدب، على النحو الذي صاغت به مدرسة الواحد التشكيلية بيانها الذي لم تتبعه بآخر، سوى أن الإنتاج الشعري للنور عثمان أبكر، ومحمد عبد الحي، ومحمد المكي إبراهيم، مثل محاولة لبرهنة الفكرة الأساسية لتأكيد هجنة الثقافة السودانية. ولم نتوفر بعد على دراسة نقدية توضح لنا إلتزام مؤسسي الغابة والصحراء بفكرتهم الطموحة، وتوضح أيضاً التطور الفكري الذي انتهى إليه عبد الحي قبل وفاته في عام 1989م، وكذلك مدى إلتزام ود المكي وأبكر بتلك النظرة الستينية الباكرة لإشكال الهوية، أي بعد ما يقارب نصف القرن من الآن.

نقول هذا وفي الظن أن الأديب أو الفنان كائن حي يتطور في رؤيته لقضايا العالم والوجود وتتجدد باستمرار أساليب معالجاته الفنية، وربما حينا يناقض تصوراته القديمة للأشياء كما هو حال المبدع، حيث يتسامى طردياً إلى أمثلة جديدة من المعارف التي قد تصحح تصوراته السابقة، أو تعضدها، أو تشكك فيها، أو ربما يعيد النظر في منهجية رؤيته لجماعية الأشياء، وبالتالي قد يأتي بما يخالف المعطيات الفكرية لماضيه. وكما أن انفراط العقد دون إكمال أفكار وتطبيقات البدايات، كان مصير ما سميت مجازاً بالمدارس الفنية. تعثرت مدرسة الغابة والصحراء، كما أسماها النور عثمان أبكر، ولم تحافظ على وضعيتها الأولى التي جاءت بها إلى الوسط الثقافي، وإلى ذلك أنكر عبد الحي زعم النقاد بوجود هذه المدرسة أصلاً، وسكت النور عن الكلام المباح بعد أحداث يوليو 1971م، وعمد إلى الإنزواء إلى ذاته، في غربته دون الظهور في المنتديات الشعرية. كما أنه خلافاً لزملائه الأثنين توقف عن التصريح للصحف والكتابة فيها، وبرغم أنه أسهم بشكل كبير في إصدار مجلة (الدوحة) التي كان سكرتيراً لتحريرها، إلا أنه تمنع في الكتابة للدوريات السودانية، التي تيسر لها الإستمرار في الصدور، وخاب رجائي منه لحوار ثقافي لجريدة (ظلال) عند منتصف التسعينات، حين عاد إلى الخرطوم بلا ضجة إعلامية. أما محمد المكي إبراهيم فقد توقف عن إصدار الدواوين الشعرية لما يقارب العقدين، فيما قادته همومه الأدبية إلى الدخول في تجارب روائية بالعربية والإنجليزية معاً، هي تحت الصدور كما علمت منه، فضلاً عن ذلك فقد ظل ود المكي يجاوب بمفرده على استفسارات الصحفيين والنقاد عن المدرسة، ويؤرخ لها بمفرده.

إن ما كتب بعد وفاة النور، والذي ارتبط اسمه بالغابة والصحراء أيما ارتباط، يطرح إستفسارات عدة حول ما بذلته هذه المدرسة في حقلي الثقافة والفكر السودانيين، والظن هو أن مؤسسيها حقنوا أفكار المثقفين بجدل العروبة والأفريقانية، وأثروا حتى على مستوى فهم الأجيال التالية لقضايانا التي تتعلق بالهوية، في ارتباطها بالحياة الاجتماعية والثقافية من جهة، وارتباطها بأنظمة الحكم وأفكار السياسة. وبرغم أن أمر الهوية، كما يفهمه الكاتب، يثقل كثيراً بهمومات ذاتية أكثر منها موضوعية، إلا أن نظرة مؤسسي الغابة والصحراء إمتازت بمبادرة شجاعة لإثارة الجدل حولها، ولكنهم لم يعطوا تفسيراً لما ينبغي أن تكون عليه وقائع الأنشطة الاجتماعية والثقافية والسياسية للسودانيين، والسبب في ذلك يرجع إلى أن نظرة الأديب لأمر الهوية إنما هي الاعتماد على التعبير الأدبي المقتصد للحروف لا الاستطراد فيها، والمعتمد على الرمزي أكثر من المباشر، وليست أدوات القصيدة هي أدوات عالم الإجتماع أو المفكر السياسي الذي يمكن له تناول موضوع الهوية بناء على تصورات عملية لما يجب أن تصبح عليه شؤون الناس العامة، والغنم والكباري، والمشاريع الصحية، والمدارس، وتسويق المحاصيل. وفي الحقيقة أنه لم يكن مطلوباً من الشعراء الذين أسسوا المدرسة أن يجيبوا على سؤال الكيفية التي بها تنبثق خارطة طريق لشعب السودان، بناء على توصلهم إلى مفهوم الهجنة الثقافية، حيث يتكامل "رزم" الغابة مع "صولفيج" الصحراء، ونخلص إلى "موال"، متحد البناء، فيحرك من ثم وجدان من هو أفريقي، ووجدان من هو عربي، على حد سواء.

وإذا كان هذا المثال من ضمن رؤى "الغابوصحراويين" فإن تصوراتهم ليست ببعيدة عن تصورات مدارس فنية وفكرية أثارت من قبل موضوع الهوية، وتوصلت إلى نتائج مماثلة أو متوازية، مع اختلاف قدرة تعبير الريشة والقلم في جوهرة واقع السودان. فاجتهاد الغابة والصحراء يتمثل في ريادته على إثارة أمر الهوية على مستوى الحقل الشعري، كما لو أن مدرسة الخرطوم لعبت ذات الدور الريادي في الحقل التشكيلي، وجاء البروفيسور أحمد الطيب زين العابدين ليدمج فكرتي القلم والريشة، متوصلا للقول إن هناك مستوى ثالثاً للنظرة إلى موضوع الهوية وإنه أعمق من نظرة مؤسسي الغابة والصحراء، والخرطوم، والواحد، وابادماك، وسمى هذا المستوى بـ"السودانوية". وبرغم أن زين العابدين تمكن من التنظير للمدرسة عبر مقالاته الفكرية في مجلات "الثقافة السودانية" و"حروف" و"الملتقى" و"الخرطوم" والملف الثقافي لصحيفة "السودان الحديث" إلا أنه اتبع ذلك بحوارات بذلها في المنتديات الثقافية بالبرنامج الثاني بالإذاعة، ومكتبة البشير الريح بأمدرمان، بل وسعى الراحل زين العابدين إلى عمل تطبيقات أدبية لفكرة السودانوية من خلال كتابة نصوص إبداعية. وفي حوار مع الكاتب رأى زين العابدين أن مدرسة الخرطوم التشكيلية والخرطوم بالإضافة إلى منتجات المبدعين في كل ضروب الفن تجري على نسق، واحد لتكشف عن سودانيتها برغم المرجعيتين الفكرية والمنهجية التي يرى بهما الفنانون طيوف ومجسدات الهوية. وأذكر أن زين العابدين كان "يشاغل" الأستاذ محمد المكي إبراهيم بالقول إن مدرستهم خارجة من معطف السودانوية ويرى أنها المنظور الأوسع، الذي يستوعب قدرات السودانيين مبدعين وناشطين، في كل حقول الحياة السودانية.

والسؤال هو هل تم تجاوز فكر مدرسة الغابة والصحراء بواسطة التشكيلي زين العابدين فيما يتعلق بأمر الهوية الثقافية؟ من الصعب الجزم بأن أحمد الطيب زين العابدين قدم كل تصوراته المتكاملة حول أمر الهوية، فبخلاف أن الموت عاجله دون إكمال مشروعيه النظري والتطبيقي، إلا أنه أرسى، كما قال لي عبر حوار معه، منهجاً نقدياً للنظر إلى المكون الثقافي النازل منذ القدم على السودان، ولكني أعتقد أنه في حال تطوير هذا المنهج عبر دارسين جدد وتعميم تطبيقاته على مستوى الإنتاج الفكري والفنون جميعها، على الأقل، واستصحاب رؤية مؤسسي مدرسة الغابة والصحراء، والخرطوم، وبقية المدارس، كما فعل صاحب "دروب قرماش" في تدعيم حيثيات سودانويته، يمكن القول بعدها إن "السودانوية" هي آخر المطاف كما عنون زين العابدين دراسته، التي دشن بها السودانوية في العدد المزدوج من مجلة (حروف) الصادرة عن دار نشر جامعة الخرطوم عام 1990م.على أن الحقيقة التي لا تفوت على فطنة المختصين في أمر النقد الفني، أن المدارس الإبداعية، مثل الغابة والصحراء، والتجارب الإبداعية الفردية، في كل مجالات الفكر والفنون، لا تعدم الأنساق الإبداعية السابقة لها، فهي تخرج من بينها لتردم الفجوات التي تركتها في بحثها عن المثال الكامل الذي رغبت الوصول إليه.

ولهذا فإن ما أتت به الغابة والصحراء لم يلغ جدالات المثقفين السودانيين حول الهوية منذ العشرينات، بل أنها خارجة من رحم هذا التاريخ. فكلنا يعرف أن تيار (العروبة والأفريقانية) في السودان تبلور من خلال كفاح اللواء الأبيض، ثم مدرسة الفجر، وجماعة الهاشماب، وأبناء الموردة، وفي قصائد عدد من الأدباء والنقاد، كما أنه تمظهر في مناهج التأليف التي بذلها الموسيقيين، ولا ننسى هنا الطريقة التي سعى بها الموسيقار إسماعيل عبد المعين لتأسيس منهج "الزنجران" لمقتضى الذوق السوداني، ومؤلفات الاستاذ جمعة جابر، في مقابل أصوات غنائية وموسيقية حداثية، نادت بالتخلي عن السلم الخماسي، والتوجه لتكييف موسيقانا على مقامات الموسيقى العربية، مثلما كان العاقب محمد حسن وآخرون ينظرون في صالح هذا الإتجاه. أما في الجانب المسرحي فإنه يمكن النظر لمحاولات باكرة لسودنة المسرح عبر أعمال خالد أبو الروس، في مقابل التراث المسرحي لفرق الجاليات الأجنبية في الخرطوم.

ولعل الحقيقة التي لا يمكن إغفالها أن تأثير الغابة والصحراء على مجمل تفكير كل المبدعين، وليس الأدباء فقط، لم يتوقف حتى يومنا هذا، فقد ساهمت الجرأة الأدبية، التي استهل بها شعراء المدرسة لتوطين نظرتهم للهوية، في فتح سجالات حول تخومها المتعرجة، وتعميقها بسند من كل المعارف الإنسانية، وليس السودانية فحسب. ولو أن هناك تيارات فنية في حقلنا الثقافي رأت أن المعاني التي يوظفها الفنان إنسانية بإطلاق وليس له ـ بالضرورة ـ الانكفاء على الموروث المحلي، وتزيين ملامحه بإيقاع الغابة، أو نغم الصحراء، فإنها لم يكن أمامها إلا محاولة الاستناد على هذا الموروث المحلي، وسودنة أفكارها بناء علي حقائقه. وبرغم أن الفنان تحديداً لا تحد تصوراته الإبداعية حداً ينمطه محلياً، ويفصله عن التثاقف الإقليمي والإنساني في عملية التبادل الثقافي، إلا أن مدرسة الغابة والصحراء تبقى جهداً تأصيلياً غير منكفئ على الواقع المحلي. بل أن عوامل الوعي التي توفرت لشعرائها وتواصلهم مع العالم عبر زياراتهم لأوربا هي التي لعبت دوراً عظيماً في التفاتهم للتأصيل الثقافي في مشوار الإبداع، وهو تأصيل يقترح إجراءاً نظرياً/ وظيفياً يتصل بواقع الممارسة السودانوية، وإذا فهم جيداً فإن هذا التأصيل الثقافي يهدف إلى خلق إطار للتعايش وتطوير قواسمه المشتركة وتجنيبه الإنزلاق في مهاوي التردي المجتمعي.

*     *     *

شهادات عن الطيب صالح
خص الزملاء عصام عيسي رجب، نصار الحاج، محمد جميل احمد، بشري الفاضل، الحسن البكري مجلة (الكلمة) بهذه الشهادات عن رحيل الروائي الطيب صالح. فقد كشف اليوم الذي أعقب رحيل العبقري الطيب صالح، ضمن ما كشف، ان مشهدنا الثقافي المحلي ليس في مقدوره "تثقيف" ـ ان جاز القول ـ الصدمات، أو قل مقابلتها قراءة، وكتابة، بما يعبر عن عمقه من جهة، وقوتها من الجهة المقابلة. ومعني الكلام ببساطة أكثر: ان ما يُنتظر عندما يرحل كاتباً ما،هو أكثر مما يكون في مقدور أي شخص القيام به، كالبكاء أو استذكار بعض المواقف السالفة، أو إعادة محاورة سابقة معه، وان كان الأمر الأخير مهماً لإنعاش ذاكرة البعض وتحفيزها. لكن ثمة ما هو أهمّ، ما هو أحقّ بتلك اللحظة الحارة، المعقدة!.

للمرة الأولي يتكشف لي كيف أن الوضعية البائسة التي تعيشها الأقسام الثقافية بالمؤسسات الصحفية السودانية، من حيث توفر الإمكانيات والكوادر، يمكن ان تؤثر سلباً في واحدة من أكثر لحظات مشهدنا الثقافي شدة وحساسية وكرب. لقد كان محزناً لي ان كل ما كُتب هنا لم يتجاوز تلك المحطات القديمة المنقضية. مقالات قُرئت، وحوارات نُشرت لمرات ومرات. وهي وان كانت ذات قيمة إلا ان مقامها الذاكرة، لا اللحظة الحاضرة، الصادمة!

اذن هذا ما كان في مستطاعنا ان نوازي به رحيل الطيب صالح، لكن صحافة مصر، وسوريا، ولبنان، قدمت شهادات لكتّاب من مختلف أنحاء العالم، ومقالات "طازجة" قرأت الراحل ما بين اللحظتين (الحياة/ الموت). قرأت المسافة ما بين كتبه المتعددة رؤية وتقنية، المسافة ما بين مهجره ووطنه، المسافة بينه والقاهرة، وبيروت، وأصيلة، ولندن.. الخ. وهذا في ذات اليوم الذي رأينا فيه صحافتنا، بمختلف أغراضها، تتحايل علي فقرها الثقافي وتداريه بالصور المكبرة والمانشيتات الجنائزية!.

ومثلما فضح رحيل الطيب صالح واقع العمل الثقافي في المؤسسات الصحفية، فضح زوايا كتّاب الرأي (النجوم). فهم في أغلبيتهم كتبوا بجهالة مريعة عنه، وكلهم لم يجدوا لشغل مساحة الخمسمائة كلمة، إلا ان يقولوا "لقد اختيرت روايته موسم الهجرة إلي الشمال ضمن مئة أفضل رواية في العالم، أو تاريخ الإنسانية. وان الأكاديمية السويدية.. إلخ، وانه اصدر رواية كذا وقصة كذا) وغير ذلك مما يسره محرك البحث غوغل، فمن يخبر من هنا!؟

في وقت سابق من هذه الألفية نهض سؤال نقدي علي درجة من الأهمية وهو: هل يمثل الطيب صالح سقفا للرواية السودانية؟ وهو سؤال يبطن تمثلا فعلياً لحقيقة ان الراحل قدم في باب الإبداع الروائي ما يصعب تجاوزه. والشهادة عن ذلك قدمتها المنابر العالمية قبلا، وفي نفس الوقت السؤال يتنّبه لجيل جديد من الروائيين، بدأ يتقدم بجسارة في المشهد، مغالباً تردي أحوال النشر، وضعف صلة المنابر الإعلامية المتوفرة بالإبداع، وغير ذلك من مشكلات بحلول مجازية. هذا السؤال كان هو الأعمق، برأيي، في صلة الراحل الطيب صالح بالمشهد المحلي، أو قل في انفتاح المشهد الثقافي المحلي علي تجربة الطيب صالح، فقد طرح العديد من القراءات الجديدة لتجربته، تأسست علي مقابلتها بتجارب الكتّاب الجدد. صحيح انها كشفت تأثرات واشكال مختلفة من "التناص" وغير ذلك من تفاعلات لكن كل ذلك كان ضرورياً ومهماً، كان كاشفا لمواقع نظر النقاد ـ علي قلتهم ـ كما كان مضيئاً لما انخفض من بريق القراءات المتعددة لتجربة الراحل.. كان فيه حياة اذن!.

هذه الحياة هي بلا شك من "خيرات" جائزة الطيب صالح للإبداع الروائي، التي أثارت بمؤتمرها العلمي وفعالياتها العديدة الكثير من الأسئلة الحية والعميقة، وحرّكت الساحة الروائية فعلا وقولاً طوال السنوات الخمس الماضية! كذلك لجيل الروائيين الجدد نصيبه الداعم والجديد، في سيرة الطيب صالح، فالمحاورات التي أُجريت معه، كلها لم تنس ذكر الطيب صالح وفضله، وهو كتب ونسج خيوط ابداعاته بعيدا أو قريبا من نول الطيب صالح، هكذا ستقول كل الشهادات التي تُكتب الان! في كل حال كان الطيب صالح حاضراً وهو سيظل كذلك إلي الأبد، لكن لطالما غابت المنابر.. المنابر التي يمكن ان تدّربنا علي الكتابة عن فقدنا الكبير بالصورة التي يستحقها لا بهذا الحال العاطل الكسول!

*     *     * 

يرحلُ الطيِّب صالح...

عصام عيسى رجب  


("يا مريود أنت لا شيء.. أنت لا أحد يا مريود.. إنَّكَ أخترت جَدَّك يا مريود، وجَدُّك اختارك لأنكما أرجحُ في موازين أهل الدنيا.. و أبوك أرجح مِنك ومِن جدِّك في موازين أهل العدل.. لقد أحبَّ بلا كلل، وأعطى بلا أمل، وأقام على عجل، وحسا كما يحسو الطائر، وأقام على سفر، وفارق على عجل.. حَلُمَ أحلام الضعفاء، وتزوَّدَ مِن زاد الفقراء، وراودته نفسه على المجدِ فزجرها.. ولمّا نادته الحياة ولمّا نادته الحياة.." قلتُ نعم.. قلتُ نعم.. قلتُ نعم.. لكنَّ طريقَ العودةِ كان أشقّ لأنني كنت قد مشيت").
                                     الطيَّب صالح مِن روايته (مريود) 

(1)

يرحلُ الطيِّب صالح فيرحل إثره زمنٌ عزيزٌ على القلبِ، وسَمَه بأدبٍ كأجملِ ما يكون الأدب: أدب الحرف وأدب النفْس.. وهما أدبانِ ما اجتمعا لكثيرٍ مِن أدباء الحرف أو أدباء النفس على مرِّ العصور والأزمان. 

(2)

أذكرُ أول لقائي به هنا في الرياض في آخر "جنادرية" حضرها قبل نحو ثلاث سنوات مِن الآن، أذكرُ أني هاتفته نحو الحادية عشرة صباحاً، وبادرته فيما يشبه الإعتذار: أستاذنا الطيب، عساي ما بزعجك.. فبادرني بسودانيته العفوية وقد خالطها كثير، أو قليل مِن صراحة "الخواجات" الذين تزوَّج منهم، وأقام بينهم طويلاً أو طويلا: والله يا أخي أزعجتني! فاعتذرت له وقلتُ أني سأعود وأتصل به بعد أن يصحو مِن نومه.

حين كلَّمته مرّةَ ثانية بعد الظهر، كان قد "صحَصحَ" كثيراً وعاد له مِزاجه الطيِّبُ، فاعتذر لي عن "صَدِّهِ" لي هكذا في أول مكالمة بيننا، وقال أنه كان مساهراً وآخرين حتى الساعات الأولى مِن الصباح... كنتُ أدعوه لندوة روائية تجمعه والروائي السوداني الكبير "إبراهيم إسحق"، صاحب (حدث في القرية) و(أعمال الليل والبلدة) و(وبال في كليمندو) و(أخبار البنت مياكايا) و سواها من روايات... قال لي أنه يفضلها جلسة صغيرة تضم عدداً صغيراً من الحضور، لا ندوة ولا... فقلت له: لك ما تُريد! 

(3)

لقيته بعدها بيومين، كان معي وقتذاك الصديق الشاعر / نصَّار الحاج... قال لنا: إقرأوا لي ما تكتبون... ترددنا، بل وأحجمنا وقلنا له: ومالنا نتجاسر ونقرأ في حضرة صاحب (موسم الهجرة إلى الشَّمال) قصيدةِ القصائد، ورواية الروايات؟! فقال: إقرأوا وحسب، فقرأنا شيئاً يسيراً مِن "خربشاتنا"... أذكرُ أنَّه قال لي: دي قصيدة جميلة تستأهل هذه السيجارة! ومدَّ بها إليّ... أشعلتها وأخذتُ في تدخينها، وأنا لا شأن لي بالتدخين، ولكن من يأبى سيجارة كافأه بها الطيِّب صالح على قصيدة! قال لي صحفي سوداني كان يشاركنا الجلسة: كيف تدخنها؟! أما كان يجدر بك أن تحتفظ بها، إنها سيجارة مِن "الطيِّب صالح"! ضحكنا، لكني سِرَّاً أخذتُ قوله على محمل الجِدِّ فأطفأتها وأحتفظتُ بها حيناً من الدهر. 

(4)

ولقيناه بعد يومٍ وكان معنا "إبراهيم إسحق" وشباباً آخرين ممن يحبون الطيَّب وإبراهيم حبَّاً جمَّاً. لا أنسى أبداً كيف نهض وسلَّم على إبراهيم سلاماً حاراً كأجمل ما يكون السلام. تحدَّثا وتحّدثنا زمناً.. قال لإبراهيم أنَّه كتب عن روايته (وبال في كليمندو) ومدح الرواية وإبراهيم كثيراً... وكان كلما انضم لجلستنا ضيفٌ مِن ضيوف "الجنادرية" عرَّف إليه إبراهيم وقدَّمه قائلاً: إبراهيم دا مِن كُتَّابنا الكِبار. 

(5)

"مختارات الطيَّب صالح" التِسَعة التي صدرت مِن "دار الريِّس" أعمال أدبيه وثقافية راقية وعالية، كما ينبغي لكتابات الطيَّب صالح أن تكون. سوى أنَّها لم تنل حظَّها من القراءة والنقد اللذين يليقان بها. أذكرُ أني قرأت مراجعةً للكتاب الأول مِن المختارات: (منسي: إنسان نادر على طريقته) كتبها "شوقي بزيع"، وأخرى كتبها آخر لا يحضُرُني الآن. أما بقية المختارات فما أذكر أني قرأت شيئاً عنها. هل لكثرتها مثلاً (تسعة كتب)؟! قرأت المختارات كلها، ويندر هذه الأيام أن أُكملَ كتاباً، دعك عن تسعة كتب (استثني مجلدي "الأعمال الكاملة لكافكا" الضخمين الذين ترجمها عن الألمانية إبراهيم وطفي وقرأتهما السنة الفائتة. وتلك سيرة أخرى كما يقول الطيِّب صالح). ويوشك الطيب صالح أن يكون تحدَّث في تلكم المختارات عن كلِّ شيء! الأدب والنقد والتاريخ والسيرة بـ "أعلامها مِن العرب والفِرنجة"، وقد أفرد كتاباً كاملاً لشاعره الأثير المتنبي، والجغرافيا بمدنِ شرقها وغربها، والفكر، والاستعمار، واليونسكو، وأوجاع السودان، وسوى السودان.

أذكر ليلةً العام الماضي هاتفته فيها أطمئن على صحته وقد أصابه كليتيه الفشل. ذكَّرته ليلتها بثلاثة كتب تحدث عنها بإسهابٍ وتَمكُّنٍ في المختارات وهي: "سماجة الشَّر" لحنَّا أرندت و "دروب الغناء" لبروس شاتوين و "أطلس العبودية" لجميس والفين، قلت له أنّي ما سمعت أحداً قبله تحدَّث عن هذه الكتب العجيبة، فمِن أين له بها و... ضحك وحدثني يسيراً عنها، وأبهجته حين قلت له أني اشتريت ثلاثتها من موقع أمازون دوت كوم... مَن سوى الطيِّب صالح يدُلُكَ على هكذا كتب؟!. 

(6)

ماذا يقول المرء وقد غاب الطيّب صالح؟!

كم كان كبيراً في أدبهِ، وزهدهِ الحقيقي، في ما ناله مِن شهرة جاءته عن جدارة واستحقاق... هي شيءٌ مِن صوفيةٍ حاضرة بجمالٍ تامٍّ في كلِّ ما كتب، وقبلها في طبعهِ الرَّهيف... فهل نتجاوز الحقيقة إن قلنا أنَّه كان صوفيَّ الأدباء أو أديبَ الصوفية؟!

يذكرُ الأدب السوداني خارج السودان، فيُذكرُ الطيَّب صالح لا سِواه، وكيف لا، أليس هو أيقونة الأدب السوداني دون أدنى جِدال؟! حتى اشتكى كثيراً من وحشة الذَّكر... بل وضاق بها... فمَن يذكرُ غيرُ السودانيين الآن مِن أدباء السودان؟! كتب "دينس جونسون"، وهو من ترجم (موسم الهجرة إلى الشَّمال) و (عرس الزين) وقصص (دومة وحامد) إلى الإنجليزية، في كتاب "الأدب العربي المعاصر"، كتب عن "موسم.." أنها أول رواية عربية ضمنتها دار "بنجوين" الشهيرة سلسلة "الكلاسيكيات الحديثة"، وأنَّ "إدوارد سعيد" عدَّها واحدة مِن أفضل ستِ رواياتٍ عربية قرأها.

يغيب الطيِّب صالح، ويحضرُ السؤال: وهل يغيب من ترك وراءه (موسم الهجرة إلى الشَّمال) و (عرس الزين) و(دومة ود حامد) و (بندرشاه: ضو البيت، ومريود) و.... وكما كتبتُ قبل أيام في رحيل شاعرنا الكبير "النُّور عثمان أبَّكر": ما يرحل هنا هو الجسَد، ولكن يبقى ما أودعه هؤلاء الجميلون خزانة الخلود، ما بقيَ الحرفُ الأصيلُ الجميل.

*     *     * 

الطيب صالح: أسطورة علي ضفاف المتروبول

محمد جميل احمد  


ربما كانت محنة الوعي السردي لدى الطيب صالح، هي في محاولة الإمساك والدمج المستمر والمستحيل، في نفس الوقت، بين زمنين: زمن الراوي، وزمن مصطفى سعيد. ذلك أنه في غياب الحيثيات التي تنفي الغربة والاغتراب المزدوج لدى كاتبنا الكبير، سيظل الشرخ الذي تعبر عنه هاتان الشخصيتان هو البنية المتوترة في عالم الحنين المتردد بين الواقع والمخيلة. فإذ تنشط المخيلة للاستعاضة عن الماضي المتسرب بحسرة، فإنها في نفس الوقت لا تسعى إلى استعادة تلك الحياة الخلابة التي عبرت عبر الزمن ـ مرة وإلى الأبد ـ بل تعبر أيضا عن استحالة حضور ذلك الماضي عبر ذات أحست تماما بقطعية هائلة في المتروبول اللندني، انشطرت بتأثيرها إلى شخصيتين، هذا الانشطار هو الحقيقة الوحيدة والنهائية في الواقع الطبيعي، لكنه أيضا هو المخزون الذي يؤسطر تلك الحياة الموصوفة في النص والمستعادة في الذاكرة. وهنا سنجد أن الطيب صالح أدرك من زمن بعيد أن هذه الرواية تحديدا ربما كانت مصهرا حقيقيا للتطهير الذي أراد أن يتخلص به من شعور نشأ عنده عبر حياتين، أحدثتا شرخا جبارا لم يتجسد إلا في تينك الشخصيتين الفريدتين.

فما حدث للطيب صالح في تجربته الروائية، لم يحدث، لا لجوزيف كونراد (الذي تماهى تماما مع وطنه الجديد)، ولا لنجيب محفوظ (الذي لم يغادر مكانه أصلا)، ولا لمارسيل بروست (الذي كان يستعيد الأزمنة السعيدة في عين المكان) من ناحية، ولا للتجارب الروائية التي تاتي في وارد المقارنة بين الشرق والغرب، كرواية (قنديل أم هاشم) ليحيى حقي، من ناحية أخرى. لقد خلق الراحل الكبير مجازا إنسانيا لتجربة إبداعية محايثة، وعابرة لخصوصيتها، في نفس الوقت. وأضمر عبر هذه الرواية حياتين، لم تزل طبيعتهما هي الظلال الخفية للعلاقة المركبة بين الشرق والغرب، ضمن بنية حضارية ثابتة ومتجددة للغرب في تلك العلاقة، كما بين المنفى والوطن، وبين الأزمنة الحديثة والأزمنة القديمة. بمعنى آخر إن الزمن المحايث للأزمنة كلها، سيبقى طيفا متجددا قي حيثيات هذه الرواية، لأن الطيب صالح عرف كيف يخترق المعنى الإنساني في تجربته الروائية. وهذا بالضبط ما يجعل رواية (موسم الهجرة إلى الشمال) عملا روائيا لا تنبع فتنته من التعبير الجمالي للغة فحسب، بل أيضا من تلك العلاقات، والوحدات التي حطمت البنية السردية، وجعلت من صناعة الدهشة طاقة متجددة من المعجزات الصغيرة في مخيلة القاري، شرقيا كان هذا القارئ أم غربيا... برحيل كاتبنا الكبير، سيتحرر مصطفى سعيد طليقا، مرة وإلى الأبد.

*     *     *

ميزات الطيب صالح

الحسن البكري


في يونيو 1970، وكنت وقتها في الخامسة عشرة، قمت برحلتي الأولى إلى الخرطوم. أثناء تجوالي مساء، شهدت بأحد المقاهي الإعلامي السوداني المعروف على شمو يجري حوارا حيّا مع الطيب صالح على تلفزيون أم درمان الأبيض وأسود حينئذ. ورغم الدهشة التي كانت تنتظرني كإقليمي قح، بكل منعرج وزاوية، فإن مشاهدتي للطيب صالح على التلفزيون، ظلت الحدث الأكثر رسوخا في ذاكرتي، من تلك الرحلة العاصمية الأولى. لقد أتاح لنا نظام تعليمي منفتح وقتها قراءة أعمال الطيب صالح ونجيب محفوظ وغيرهما من المبدعين الرواد العرب بالاعتماد على المكتبة المدرسية. فحضروا في وجداننا منذ الطفولة. أسس الطيب صالح أسطورته في السودان، وفي أنحاء كثيرة من العالم العربي، منذ وقت مبكر. وفي ظني أن للأمر علاقة وطيدة بروايته العظيمة (موسم الهجرة الى الشمال). فالرواية تستجيب في بعد من أبعادها الحكائية لتصورات قومية واسعة، طالما وقعت في فخ تفسيرات ساذجة للعلاقة بين الشمال والجنوب، وفي فخ ظنون فجة تنظر للغرب باعتباره نموذجا للمتعة وللإشباع الطليق للشهوات. بشكل من الأشكال ماهت قراءات عديدة بين الواقع والخيال. فشرع كثيرون، منذ نشرها، وحتى الآن، يتساءلون دون كلل عمن هو مصطفى سعيد الحقيقي، فأجروا إسقاطات لا حصر لها تزعم أن بطل الرواية إنما هو الطيب صالح نفسه، أو هو هذا أو ذاك من أصدقاء ومعارف الكاتب، الأمر الذي أدى على نحو عملي إلى تعميق أسطورة الكاتب!.

تمثل (موسم الهجرة إلى الشمال) برأيي قطيعة مع تراث الكتابة بالعربية التي تلت عهود الانحطاط الفكري العربي الممتد منذ القرن الحادي عشر. لتعقد اتصالا مباشرا بعصور ازدهار الأدب والثقافة العربية، في قرونها المجيدة إبان دولتي الأمويين والعباسيين، ولتتواشج بعمق بتحققات السرد الحديث في امتداداته العالمية المختلفة. وتقدم هذه الرواية في أحد وجوهها، كما هو متداول، سبرا للعلاقة المضطربة، الملتبسة بين الغرب والشرق، لكنها فوق ذلك تقدم مزجا تناصيا معقدا لتقنيات وتيمات السرد الغربي الحديث، وتلك التي تخص الشعر العربي الكلاسيكي في نماذجه الرفيعة عند مبدعيه الكبار، كعمر بن أبي ربيعة، وأبي نواس، والمتنبي، إضافة إلى الأساطير السودانية ببنيتها الأفريقية العربية. حققت هذه الرواية العظيمة للطيب صالح، وبدرجة أقل أعماله الأخرى، مجدا مؤثلا منذ شبابه، وربما يكمن هنا تفسير ضجره من كل المحاولات النقدية التي تتناول أعماله، مدحا أو قدحا. فالطيب، مستخدما مزيجا مدهشا من التواضع والأنفة، لم يكن يبدي حماسا واضحا لأي نوع من النقد، يتناول أعماله. وظل يعطي انطباعا خفيّا، بأن ما حققه يستعصي على كل تأويل. لكن هل أدى هذا المجد السريع والداوي إلى توقفه عن الكتابة الروائية، تماما كما حدث مع عديدين ممن حصدوا نوبل، قمة المجد الأدبي العالمي، فأصابهم مجدها بهاء السكت، على قول القاص السوداني البارع بشرى الفاضلّ؟

لكن الطيب صالح رسخ أسطورته الشخصية بوسائل أخرى عديدة، بقدرته على التواصل والتحادث بسلاسة فائقة جذابة، بصوته العميق الدافئ وبذاكرته القاطعة، الساطعة التي تستدعي بيسر بالغ نوادر وأشعارا، قد تخص أمرؤ القيس، أو تمر بالشاعر الشعبي السوداني الكبير الحاردلو، لتنتهي ربما بوليم بليك. كما تميز الطيب بقدرة هائلة علي الظهور بمظهر متواضع ومتعالٍ، بسيط وموسوعي، تقدمي ومحافظ. وهو ربما يشبه في ذلك رصفاءه من مثقفي حقبة الاستعمار الليبراليين، ممن نهلوا من ينابيع الثقافة الغربية الحديثة، التي أضحت نماذجها متاحة على مستوى التفكير، وعلى مستوى الممارسة. ولعل هجرته واستقراره لفترة طويلة في الغرب، قد ساهمت في تكريس هذه "الميزات".

أذكر أننا قدمنا للطيب مبتهجين أثناء زيارة له للدوحة، في حوالي منتصف تسعينيات القرن الماضي، تناولا لأعماله كتبه إدوارد سعيد في إحدى دراساته النقدية، فلم يعقب عليه بكلمة واحدة! وقد نقلنا له في ذات اللقاء رغبة دكتور جوزيف جون في إجراء حوار معه ـ وجوزيف جون ناقد هندي وأستاذ أدب إنجليزي مرموق كان قد أجرى معه حوارا عظيما قبل ذلك، وله دراسات طويلة ومعمقة لرواياته. رفض بهدوء، وذكر أنه كان قد خص دكتور جون بوقت طويل من قبل! وفي زيارة أخري للدوحة، أقام السودانيون له احتفالا عاما ذكرت فيه أن الطيب يضيق بالنقاد، وضربت على ذلك مثلا بصموئيل بيكت. في حوار بمسرحيته "في انتظار جودو" يلعن أحد شخصيتي المسرحية الأساسيتين الآخر هاتفا في وجه: يا ناقد! تماما كأن تشتم أحدا بقولك: يا كلب! وأظن أن ملاحظتي وجدت قبولا لدى الطيب صالح، رغم مودته الكبيرة لصديقنا الناقد والصحفي السوداني اللامع محمد الربيع، الذي نفى وقتها ضيق الطيب صالح بالنقد والنقاد.

*     *     * 

أي نجم رنا نحو أفق بعيد ثم خبا

بشري الفاضل  


أنشأ الطيب صالح في خياله أولاً، ثم في خيالاتنا جميعاً ـ نحن كل من قرأوه ـ قرية عند منحنى النيل، أطلق عليها مسمى "ود حامد". ثم لما علم فيما بعد أن هناك قرية حقيقة بهذا الاسم قرب شندي، أضطر لنفي قريته المتوهمة عن تلك المتعينة. وجاء هذا النفي داخل رواياته اللاحقة حماية لعالمه المتخيل. لقد قامت "ود حامد المتخيلة" فوق المنطقة التي ولد فيها الشاعر لكن عالمها اندغمت فيه كل معارف الكاتب الثقافية الفلسفية، ورؤاه جميعاً، حتى ناءت حمولتها بأوصاب وآمال السودان، وبعض مواجع الإنسانية إن شئت. كان يتحدث عن البلد باسرها، حين قال الراوي محيميد من ود حامد «هذه أرض الشعر والممكن وابنتي اسمها آمال»، كان يتحدث عن إنسان السودان البسيط الذي خبره، أو ذلك الذي يتمناه، وهيهات حين تأمل في الأشجار الصحراوية، فقال إنها «تعمر طويلاً لأنها لا تسرف في الحياة». فهو عن الإنسان يحكي، عن ذلك الذي على شاكلة جد الراوي محيميد في ود حامد لا عن شجرة السيال، لكن مقاومة التصحر، وشح الماء والغذاء. أنبت تلك الأشجار الشوكية، سواء أكان ذلك بحيلتها أم للضرورة دون أوراق عريضة تساهم في تبخر الماء، والغذاء. ففي ظروف الشح لابد من الحياة بتلك الطريقة من قلة الإسراف.

مثل هذه التأملات عديدة في كل ما كتب الطيب صالح، وهي مبثوثة في كل ما كتب، بحيث يمكننا حين نرصدها أن نحصل على نظرية المعرفة الخاصة بهذا الكاتب الملهم. انظر إلى الكتابة الخالدة عن المحبة في بندر شاه وفي مريود، تلك المحبة التي عبر عنها الطاهر ود الرواسي وعبرت عنها مريوم في مريود: «قلت: زوديني قالت: واحسرتا عليك يا محبوبي، خير الزاد أنا». الطيب صالح من أفضل شراح المتنبي ومتذوقيه، ويتمتع بالإضافة لما تقدم بثقافة واسعة وصوت شجي. في العقدين الأخيرين فقدنا صوتين شجيين متشابهين، حين يحكيان فيمتعان السمار: صوت على المك، وصوت الطيب صالح، ومن عجب أنهما يتكلمان بالإيقاع نفسه. وفي العقدين الاخيرين فقدت سحارتنا جل كنوزها الإبداعية الثقافية في مجالات الفنون جميعها. الطيب صالح كنز من كنوزنا التي لا تسعها سحارات الحبوبات، وإن حاول هو حياته كلها الدخول في خوابيها تواضعاً. حسبنا أن نقرأه من أجل معرفة ذواتنا ونضيف إليه، تضيف إليه الأجيال الجديدة، وتحذف وتغذي مأثرته بما غاب عن الكاتب العظيم بفعل غيابه الممتد الطويل عن ثرى الوطن بجسده، قبل أن يضم هذا الثرى جسده النبيل.

*     *     * 

الطيب صالح.. مفتاح القراءة

نصار الحاج 


وأنا طفل لم أكن لامستُ عالم القراءة الجميل بعد، كنت أسمع خالي ابراهيم علي، وشقيقي الأكبر الصديق الصادق في لحظات مشاغباتهم ومشاكساتهم لبعض، كل منهم ينادي الآخر: بالزين ويتبعها: يا ناس هووووي، يا ناس الحلة أنا مكتول في حوش العمدة. عرفت منهم أنه البطل في رواية (عرس الزين) للطيب صالح، يعني شنو رواية؟ سألتهم. يعني قصة طويييييلة في كتاب، هكذا كانت إجابتهم.

تلك كانت الإشارة الأولى للرواية كأدب وإبداع وفن راقٍ، وللطيب صالح كروائي سوداني. مرَّت الأيام، قرأت أولاً (موسم الهجرة إلى الشمال). كانت فاتحة جميلة بالنسبة لي، لأنها جعلتني أبدأ القراءة في الرواية الحديثة بنموذج محفِّز وجاذب لهذا العالم البديع، قادني لقراءات أخرى وروايات أخرى. كنت قبل قراءتي لها قد قرأت الروايات التاريخية لجرجي زيدان، وغيرها من الروايات التاريخية المتوفرة في المكتبة المدرسية، لم تكن بالقرية مكتبات، ولا وفرة وتنوع في الكتب لدى المهتمين. (موسم الهجرة الى الشمال) كانت فتحاً. شخصياتها كانت تتحول أثناء قراءتي لها إلى شخصيات معادلة وشبيهة موجودة عندنا بالقرية، بت مجذوب لها معادلها، ومصطفى سعيد كان عندي يشبه الكثيرين ممن غابوا عن القرية، ولا يُعرف لهم أثر حتى تلك اللحظة، أو غرباء ظلوا بالقرية بكامل أسرارهم، وخزائن كتمانهم. كان مصطفى سعيد يتحول عندي إلى جدي يوسف/ عم والدي، الذي خرج دون أن يكلِّم احداً، حتى والدي لا يذكر شيئاً من ملامحه. وقتها كنت أقول ربما جدي يوسف يعيش في مكانٍ ما مثل مصطفى سعيد، لكنه بعد أن أنهكته السنوات والشيخوخة قرر العودة فارسل لهم وأخبرهم أنه بمدينة المناقل، ذهب والدي وعمي وأحضروه، قضى عمره كاملاً كما يشتهي ويحب.

أيضاً أحمد ود الحسين، الذي تفتحت اعيننا ووجدناه بالقرية، وكان لغزاً بالنسبة لي حتى مماته، يقال أنه جاء القرية صغيراً من غرب السودان، وظلَّ فيها حتى مماته، لا تفاصيل كثيرة ولا قليلة تُقال عنه، سوى هذه المعلومة الشحيحة، وجدي بابكر خال أمي، الذي يسكن بقرية لا تبعد سوى 50 كيلو او أقل عن قريتنا. لكني لم أره أبداً، يُقال أنه يأتي حين تكون هناك وفاة، وهي حالات نادرة جداً، فقط حينما يكون الميت يمت له بصلة قريبة جداً، يأتي بعد منتصف الليل، ويغادر قبل صلاة الفجر. حينما دخلت المدرسة الثانوية بكوستي، قالت لي امي "جدك بابكر قاعد في طريق كوستي، شغال في البوابير هناك، كان سألت سواقين اللواري البتمشوا معاهم ديل بينزلوك في مكانه، وقد كان"، هو أيضاً في السنوات القليلة الماضية عاد، وظلَّ يتواصل مع أهله. وما زالت سيرة الغياب الغامضة في قريتنا مستمرة في الأجيال الراَّهنة، محمد الصادق، ومحمد عوض الكريم، مارسوا ذلك الغياب وعاشوه لمدة ثلاثة شهور في أواخر التسعينات، طرقوا أبواب الحدود السودانية بلا أوراق ثبوتية، ثم حرّكوا بوصلتهم ناحية بورتسودان حتى عودتهم. يس الصادق، وحسن فرح، والشيخ دفع الله، ما زالوا سادرين في غيابهم الطويل والغامض أيضاً.

كل هؤلاء وغيرهم، مثل محمد راعي الغنم، وأحمد المبارك الغائب، الذي عاد أيضاً بعد بحث مضنٍ عنه، وكانت تُحكي أساطير عن حكاية غيابه، وبعد أن عاد أيضاً كانت تُحكى أساطير اخرى، وظل بعدها يغيب ويعود. كان مصطفى سعيد يقودني لكل هؤلاء، وتصور حالاتهم، وتطبيق نموذج مصطفى سعيد عليهم في مخيِّلتي. أحببت الطِّيب صالح وأحببت كل أعمالهِ وكتاباتهِ. وحينما التقيتهُ لثلاث مرات على مدى ثلاث سنوات متتالية، في كل مرَّةٍ أحزن أكثر أن الطيب صالح لم يكتب روايات أخرى، وهو في ذاته مجموعة روايات تمشي، وتطفر بسهولة في أحاديثه وحكاياتهِ، مخزون هائل من المعرفة، والحكايات، والأفكار المرتبة والمنظمة والعميقة والراسخة، قدرة هائلة على التشويق والجاذبية والدهشة والحكي. كانت تلك اللقاءات بفندق قصر الرياض خلال مشاركاته في مهرجان الجنادرية السنوي بالسعودية. الطيب صالح ملك الجميع، أو خال الجميع، كما قال أمير تاج السر في مقال بديع «الطيب صالح خال الجميع» نشره في مجلة الدوحة القطرية العدد الأخير، فبراير 2009، قبل وفاة الطيب صالح/ وهو خال أمير حقيقة.

كنا نرتب مع الطيب صالح مسبقاً، وهو يختار الوقت الذي يناسبه، ويمنحنا وقتاً كثيراً دائماً، لا يقل عن ثلاث ساعات في كل جلسة، كان هنالك إبراهيم اسحق، عصام عيسى رجب، خالد عويس والروائي الليبي أحمد ابراهيم الفقيه، وفي مرات أخرى د. عبدالرحمن إسماعيل، أحمد صالح، والاعلامي الكويتي نجم عبد الكريم. وحالما نجلس ويحضر الطيب صالح يتقاطر الكثيرون، المصورون بكاميراتهم والصحفيون بأسئلتهم الجاهزة، والكثير من الكتاب والمهتمين، تتحول الجلسة إلى ما يُشبه الندوة، في الأدب، والسياسة، والإجتماع، والثقافة، والطرفة، والحكايات التي لا تنتهي. ودائما الطيب صالح يقول أشياء كثيرة جديدة، ويجيب على كل الأسئلة بإضافات هائلة، وشجاعةٍ حقيقية، في توصيل فكرته كاملة، وأرائه واضحة ودقيقة، يحول كل الأسئلة ـ حتى الأسئلة الضعيفة ـ إلى مفاتيح لكنوز من المعرفة، والإفادات في حقول عديدة، ومشعة.

إحدى تلك اللقاءات كانت تمثل اللقاء الأول بين إبراهيم إسحق والطيب صالح. ابراهيم اسحق روائي سوداني مُشع هو الآخر، في تجربته، ومشروعه الإبداعي، وثقافته الواسعة، ومعرفته الغزيرة. فتحا نوافذ عديدة، غنية وثرة، تحدثا عن الكتابة والرواية، وتطرقا لروايات كثيرة سودانية وغيرها، روايات مميزة في الأدب العالمي، وروائيون مميزون. الطيب صالح ظلَّ دائماً وهجاً لا ينطفئ، ورحالة يتنقل بين المدن والمهرجانات واللقاءات الثقافية. يقدم عصارة تجربته الإبداعية والثقافية والحياتية للآخرين. يسهم بخبرته وتجربته في العديد من المشاريع الثقافية في أمكنة عديدة.

رحل الطيب صالح، لكنه تركَ إرثاً هائلاً من الكتابة والمعرفة وتجربته الإنسانية في الكتابة، والآداب، والفنون، عبر رواياته، وندواته، ومشاركاته الثقافية المتنوعة، بأكثر من طريقة. وعبر كتبه العديدة التي تلت رواياته وصدرت خلال السنوات الأخيرة من دار رياض الريس، كمحصلة لمقالاته الحيَّة التي كان ينشرها اسبوعياً بمجلة المجلة. وظلَّ دائماً علامة مشرقة ومضيئة للسودان وللثقافة السودانية.