يقدم الباحث العراقي تحليلا نقديا معمقا لمسيرة نازك الملائكة النقدية في مراحلها الثلاثة، ويكشف عما بينها من تناقضات لا تدفع الباحث للقول بأن لها مشروعا نقديا متماسكا، لافتقارها لرؤية فلسفية للشعر والحياة، ولوقوع تأملاتها النقدية تحت عبء تجبرتها الشعرية، التي سرعان ما تجاوزتها حركة الشعر فزادتها ارتباكا.

نازك الملائكة ناقدة

بحثاً عن نظرية الشعر

باقر جاسم محمد

لقد كان جهد نازك الملائكة في نقد الشعر موضع نظر ثم خلاف واسع وكبير بين من كتبوا عنها ناقدة، وذلك لما انطوى عليه هذا الجهد النقدي من آراء مثيرة للجدل بطبيعتها؛ فكان أن تصدى لمناقشتها باحثون ونقاد وشعراء اتفاقاً أواختلافاً مع ما طرحته الناقدة. ويمكن القول إن كتاباتها وما تضمنته من آراء كانت من الدوافع التي أدت بعدد من الشعراء والنقاد والكتاب إلى إعادة فحص مقولات حركة الشعر الحر، ودراسة آفاق التغيير الشعري الجديد في محاولة لصياغة نظرية شعرية عامة تنبع من الممارسات الشعرية الجديدة، ولا تستعير مقولات وأدوات ومفاهيم تجربة شعرية أخرى من دون أن تخضعها للفحص والتمحيص وإعادة التكييف على وفق ما تقتضي حاجة الحركة الشعرية نفسها. ولقد كانت نتيجة كل ذلك أن خرجت الحركة الشعرية، تنظيراً وابداعاً، على آراء نازك التي اطلقتها أول مرة عام 1949م حين اصدرت ديوانها الثاني "شظايا ورماد"، وهو الديوان الذي تضمن المقدمة الحماسية والتبشيرية الشهيرة. وحين عدلت في آرائها ومواقفها في كتابها النقدي الأول (قضايا الشعر المعاصر)، وحاولت ان تضفي على تلك الآراء والاجتهادات صفة القواعد الصارمة والملزمة للشعراء الذين كتبوا ما أسمته بالشعر الحر، أسهم ذلك في توسيع الشقة بينها وبين الحركة الشعرية الجديدة.1 ثم كانت النقلة الثالثة في مسعاها النقدي حين أصدرت كتابها "الصومعة والشرفة الحمراء" الذي كرسته لدراسة شعر علي محمود طه، وقد تضمن متن الكتاب طرحاً لعدد من الآراء النظرية سواءٌ أكان ذلك الطرح بصورة مباشرة أو ضمنية.

وسنحاول في هذه الدراسة أن نعيد فحص جهد نازك الملائكة في نقد الشعر حصراً، وذلك سعيا منا لتلمس ملامح نظرية الشعر لديها،؛ فهل وفقت نازك في كل ماكتبته حول الشعر تنظيراً وتطبيقاً، في الوصول بتأملاتها النظرية إلى بلورة صيغة نظرية متماسكة في الشعر؟

ولعل من أوليات مثل هذه الدراسة أن تنهض بمهمة مراجعة أهم كتاباتها وأهم ماكتب عنها مما له صله بموضوعنا.2 على أننا نود أن نوضح أمراً هو اننا نفرق بين نظرية الشعر ونظرية النقد لأن الأولى تشكل منطلقاً للإبداع الشعري، ويمكن ان تشتق منها نظرية في النقد تقترن بدراسة الشعر ونقده وقضايا تلقيه؛ ومن الواضح أن بين النظريتين اكثر من وشيجة ونقطة التقاء.

حول بعض المصطلحات:
سنحاول هنا إيضاح المعنى الدقيق لبعض المصطلحات المحورية كما استخدمت في دراستنا هذه؛ وذلك لأن الصورة التي تفهم عليها هذه المصطلحات ستكون هي الفيصل في كثير من المسائل الخلافية، ولذلك رأينا أن نلقي عليها بعض الضوء تجنباً لأي لبس أو اختلاف ينجم عن اختلاف المعاني أو المفاهيم المستقرة عند مختلف القراء.

1. النظرية الأدبية:
لكل نظرية ادبية ثلاثة مكونات :-
أ- المكون الفلسفي: ويشمل التكييف الفلسفي لهذه النظرية وموقعها من المذاهب الفلسفية والجمالية الكبرى. وكيف تجيب هذه النظرية على سؤالين جوهريين بصدد الأدب يتعلق أحدهما بماهية الأدب وماهي الخصائص المميزة له؟ وكيف يختلف الأدب عن سائر أوجه القول وأنواعه؟ ويتعلق الثاني بوظيفة الأدب وفائدته.3

ب- المفاهيم والمصطلحات: ويشمل جهاز المفاهيم والمصطلحات التي يجري اشتقاقها من مجال النظرية (الأدبية) ومن التصور الفلسفي العام لها. وتعمل هذه المفاهيم والمصطلحات على جعل آلية التحليل والربط بين الظواهر الماثلة في النص الأدبي وفي عملية تلقي النص وبين التصورات الفلسفية والسياق النظري العام للنظرية ممكناً. وعلى مستوى تلقي النقد المستند إلى نظرية بعينها، تسهل هذه المفاهيم والمصطلحات عملية الربط بين مقولات النقد التطبيقي ونتائجه بصدد نص ما وبين النظرية في صورتها الكلية، وتجعل فهم نتائج النقد التطبيقي ممكنا في سياق النظرية ذاتها.4

ج- نقد تطبيقي واسع وكثير يستند في جانبه النظري على أجوبة النظرية حول ماهية الأدب وفائدته، ويستند في جانبه التطبيقي على الاستفادة من المفاهيم والمصطلحات التي قدمتها النظرية كي ينجزعمله في نقد النصوص العينية المحددة وتمييزها ذلك التمييز الذي "لا يتم الا بمصطلحات كلية وعلى أساس نظرية ادبية."5

2- المبدأ (Doctrine):
يختلف المبدأ عن النظرية في كونه ذا طبيعة اعتقادية شخصية في المقام الأول بصدد مسألة ما أو نشاط فني أو ادبي محدد. فالمبدأ يمثل قناعة شخصية قد تحتوي على مسوغات، ولكنه لا يحتوي بالضرورة على سياق نظري أو فلسفي ودقيق ومنسجم. ولتأشير الفرق بين النظرية (Theory) والمبدأ (Doctrine)، نقول إن النظرية يمكن أن تدخل في بنية العلم أوفي بنية نظرية المعرفة بوصفها مكوناً أساسياً فيهما، ويمكن، في الوقت نفسه، ان تكون موضوعاً لنظرية المعرفة بينما يدخل المبدأ في بنية الأيديولوجيا فيشكل كلٌ منهما جزءاً لا يتجزأ من الآخر.6 والمبدأ، بهذا الوصف، يمكن ان يدرس علمياً ومعرفياً فيكون موضوعاً للعلم وليس احد مكوناته. من هنا يمكن القول بان النظرية، بوصفها أداة أو نسقاً من أنساق العلم، تعيننا في انتاج معرفة علمية متجددة بصدد موضوعها أو مجالها الخاص، بينما لا يعطينا المبدأ شيئا غير القناعات والمعتقدات الشخصية القطعية والثابتة بشأن مجاله الخاص.

3. نظرية الشعر العامة:
إن نظرية الأدب هي الاصل، ونظرية الشعر العامة هي الفرع الأعظم أهمية الذي جرى تكييفه وفقاُ لما تقتضي طبيعة الشعر بوصفه فناً ونوعاً ادبيا مميزاً عما سواه من انواع الأدب. لذلك يمكن إن نقول أن لا اختلاف جوهريا بين نظرية الأدب ونظرية الشعر العامة. وعلى اية حال، يمكن القول إن اضافة مصطلح ’نظرية‘ إلى مصطلح فني آخر تعني تخصيصا للمصطلح وقصراً له على الحالة التقنية حسب؛ فيمكن مثلاً ان نتحدث عن نظرية القافية اونظرية الايقاع. وإذا كان التوضيح لمعاني بعض المصطلحات ضرورة منهجية لازمة لإرساء القول النقدي على أسس موضوعية، فأننا نأمل أن يسهم ذلك في الإشارة إلى طبيعة هذه الدراسة وما يمكن ان تمتاز به على ما سبقها من دراسات وجهود بحثية علمية انصبت على دراسة نقد نازك الملائكة للشعر. والحقيقة ان تلك الدراسات قد توصلت إلى نتائج مهمة بصدد موضوعة قيمة الإسهام النظري لنازك الملائكة الذي تضمنته كتاباتها في نقد الشعر سواء أكانت تلك الكتابات تنافح عن حركة الشعر الجديدة أو تضع لها ضوابط أو توجه النقد للشكل الشعري التقليدي.7 لكننا نلاحظ وجود مأخذين منهجيين على هذه الدراسات، وهما:

اولا : - إن هذه الدراسات لم تنطلق من تصور واضح للنظرية أو تحديد لما ينصرف اليه المصطلح من دلالات قبل الخوض في مناقشة جهود نازك النقدية، ذلك أنه من الناحية المعرفية يجب ان نحدد ماهية المصطلح وحدوده المفهومية قبل الكشف عن قيمته في أي بحث أو دراسة نقدية.8

ثانيا :- إنها لم تفرق بين النظرية من حيث هي منظور علمي وبين النقد في المستوى النظري. فالنقد النظري يشير فقط إلى الاشتغال على المستوى دون ان يعني ذلك أنه يستجيب بالضرورة، أو أنه يتضمن تصوراً لنظرية ما أو صدوراً عن مثل هذه النظرية.9 وثمة ملاحظة مهمة نوردها هنا هي أننا ندرك أن الشاعرة نازك الملائكة قد كتبت النقد بأسلوبها الشخصي المعبر عن ملكتها الخاصة في النقد، لذلك فأننا لن نبحث عن صياغة لنظرية الشعر لديها مطابقة للصياغة التي ألممنا بها قبل قليل. وانما سنبحث عن العناصر المكونة لهذه النظرية أنى وكيف تمظهرت في ما كتبته نازك الملائكة في الشعر ونقده نظراً وتطبيقاً.

مراحل نقد الشعر عند نازك:
لقد مر جهد نازك الملائكة في نقد الشعر بمراحل ثلاث. وكان لكل مرحلة من هذه المراحل سمات وخصائص واضحة. وكان هناك كتاب أو دراسة تمثلها بصورة اساسية فضلاً عن بعض المقالات المنشورة التي تعدُّ تنويعاً على ذلك الكتاب أو الدراسة. ولقد وقفنا عند ما كتبته نازك من نقد للشعر في المراحل الثلاث، وحاولنا إعادة النظر فيه وتقويمه في سياقه الزمني كي نتمكن من فهم تطور جهدها النقدي وفقا للمنظور الوارد في مطلع هذه الدراسة. فمن المعلوم إن السيدة نازك قد غيرت من مواقفها وآرائها النظرية مرات عدة. وهو ما يقتضي الإلمام بالتسلسل الزمني لتلك المواقف والآراء لمعرفة الرأي الناسخ من الرأي المنسوخ، ولتحديد ملامح كل مرحلة وأهميتها النظرية. ثم النظر إلى كامل جهدها النقدي لمعرفة إن كان تغيير مواقفها وآرائها كان بهدف استكمال ملامح نظرية الشعر لديها، آياً كانت هذه النظرية، أم غير ذلك.

أولاً- مرحلة "شظايا ورماد":
تمثل مقدمة ديوان "شظايا ورماد" النص الاساس لهذه المرحلة. وهي مقدمة ذات لهجة تبشيرية وحماسية حادة.10 وتبدأ نازك تلك المقدمة بجملة شهيرة تلخص إيمان الشاعرة بصدد قضية السبب الجوهري الدافع في تطور الشعر وتجديده إذ تقول "في الشعر كما في الحياة، يصح تطبيق عبارة برنارد شو: "اللاقاعدة هي القاعة الذهبية"، لسبب هام [مهم] هو أن "الشعر وليد أحداث الحياة، وليس للحياة قاعدة معينة تتبعها في ترتيب أحداثها."11 وهذا النص يكشف عن قناعة الناقدة بتلازم التغيير والصيرورة في الحياة والشعر، وهو ما يمكن عده خاصية واحدة للشعر حسب ما ورد في النص، لأن النص لا يتضمن أية إشارة إلى خواص أخر للشعر.

فنحن لا نعثر، بعد هذا الاستهلال التبشيري، على اية محاولة لتعريف الشعر. وبدلاً من ذلك تهاجم الناقدة الشعر القديم من دون دراسة مدققة تستقصي أسباباً حقيقية لما أطلقته من أحكام على ذلك الشعر. فتتحدث عن التراث الشعري على أنه تقاليد شعرية "ابتكرها واحد قديم أدرك ما يناسب زمانه، فجمَّدنا نحن ما ابتكر واتخذناه سنة. كأن سلامة اللغة لا تتم إلا إن هي جمدت على ما كانت عليه منذ الف عام، وكأن الشعر لا يستطيع ان يكون شعراً ان خرجت تفعيلاته على طريقة الخليل."12 ونجد هنا فكرة نظرية مهمة هي ان الشعر يمكن له ان يحافظ على كينونته شعراً حتى وإن لم يتطابق مع طريقة الخليل في وصف أوزان الشعر العربي. وهي فكرة تتضمن البذرة الجنينية الاولى التي تعبر عن فهم نازك للشعر الحر بوصفه ظاهرة عروضية في الجوهر.

وعندما تناقش نازك حجج دعاة التمسك بالتقاليد الشعرية تقول: "ويقولون: ما لطريقة الخليل؟ وما للغة التي استعملها اباؤنا منذ عشرات القرون؟ والجواب أوسع من أن يمكن بسطه في مقدمة قصيرة لديوان."13 وحين تعرض بعضاً من مآخذها على اتباع ما تسميه طريقة الخليل، تذكر المآخذ الآتية: "الاوزان هي هي، والقوافي هي .. وتكاد المعاني تكون هي هي؟" ولعلنا قد لاحظنا أن صيغة هذه المآخذ تشكل تعبيراً غير مباشر لتبني الناقدة لتعريف قدامة بن جعفر للشعر بأنه "قول موزون مقفى ذو معنى."14 فهي تشكو من ثبات خصائص الشعر كما حددها تعريف قدامة بن جعفر فتقترح التغيير، ولكن مع حصرها للنقد في حدود هذا التعريف التقليدي، وهو في رأينا أسوأ تعريف، وليس باقتراح مفهوم مغاير للشعر أو البحث في تعريفات أخرى مأخوذة من التراث مثل تعريفات عبد القاهر الجرجاني وابن طبابا وحازم القرطاجني!

وفي ردها على دعاة التمسك بالتقاليد في الشعر تقول: "إن اللغة إن لم تركض مع الحياة ماتت." لذلك فهي ترى بأن اللغة العربية "لم تكسب بعد قوة الأيحاء التي تستطيع بها مواجهة أعاصير القلق والتحرق التي تملأ انفسنا اليوم."15 وهي هنا تنتقل إلى مناقشة مسألة اللغة في الشعر حين تتصدى للتعبير عن القلق والهموم الميتافيزيقية وتصوير معطيات اللا شعور، فتذهب في اللاحق من كلامها إلى ان الشاعر والأديب المرهف هما من يطوران اللغة. وهو رأي قريب من النزعة الرومانتيكية في استعمال اللغة الحية المبرأة من الفخفخة البلاغية. وتصل في مكان آخر من المقدمة إلى أن استنكار الجمهور العربي للمدارس الشعرية التي تعتمد على القوة الإيحائية للألفاظ كالرمزية والسيريالية يعود إلى أن "هذه المدارس تحمِّل اللغة أثقالاً من الرموز والأحلام الباطنية والخلجات الغامضة، واتجاهات اللاشعور. ومثل ذلك لا تنهض به الا لغة بلغت قمة نضجها."

والمهم في قولها هذا أنه يصنف اللغات إلى لغات ناضجة وأخرى غير ناضجة، وهو ما يتعارض مع حقائق اللسانيات المعاصرة التي تساوي بين اللغات في قدرتها على انجاز الوظيفة التعبيرية بكل تموجاتها في زمن تاريخي معين ولحظة حضارية وثقافية بعينها. ولعل كلامها اللاحق يتضمن اتهاماً ضمنياً بأن اللغة العربية هي من اللغات غير الناضجة، فهي لغة لم تجرب التعبير عن الأحاسيس الداخلية المبهمة سابقا!! تقول نازك "والواقع إن العربي يتهرب من الشعرالرمزي لان اللغة تجابه التعبير عن مثل هذه الأحاسيس المبهمة لأول مرة."16 ونسأل هنا إن كان هذا الرأي قد صدر من الناقدة بعد الدراسة والاطلاع على أفضل ما أنتجه التراث الشعري العربي فوجدته خلواً من ’التعبير عن الأحاسيس الداخلية المبهمة‘!؟ وحينما تتحدث عن الغموض، تقرر "وليست مثل هذه الاحاسيس الغريبة وقفاً على إنسان دون إنسان، سوى أن التعبير عنها يختلف. فالإنسان العادي يراها في أحلامه. اما الفنان فيعبر عنها بفنه وأحلامه معا.

وما دمنا لا نستغرب حين نستيقظ أحياناً في أعماق الليل وقد حلمنا اننا نركض حفاة، في قبو قد كان جزءاً من دار خرب كنا نسكنها منذ ثماني عشرة سنة كاملة، لم نعد اليها خلالها مطلقا، ومع ذلك لاحظنا في الحلم أدق الاشياء المنطمسة التافهة التي شاهدناها في السنين الغابرة."17 ولو حللنا كلامها هذا لرأينا انه يبطن اعتقاداً ضمنياً بأن الاحلام ، في انفلاتها وتنكبها لأي منطق عقلي، ترجع إلى خبرات حياتية عادية سبق أن عاشها الانسان، وهو ما يعني، نظرياً، الإيمان بنظرية الانعكاس في صورتها الارسطية التي ترجع الفعالية الجمالية عامة إلى الواقع. ولما كانت نظرية الانعكاس الارسطية تشكل المهاد الفلسفي للاتجاهات الكلاسيكية ولدعاة التمسك بالتقاليد الأدبية، جاز لنا القول بأن الناقدة قد نقضت ماطرحته في بداية المقدمة من موقف يقترب كثيراً من موقف الرومانتيكية وخصوصا في مجال حرية الإبداع وتطور اللغة بعيدا عن وصاية التقاليد؛ ذلك أن الحركة الرومانتيكية تصدر في مهادها الفلسفي، عن نظرية المثل الافلاطونية التي تختلف كثيرا عن نظرية الانعكاس الأرسطية.18

ويمكن اجمال الملاحظات الآتية على المقدمة:

  1. لم تتضمن المقدمة تعريفاً للشعر يحدد ماهيته ووظيفته، فهي تخلو من المكون الفلسفي أو النظري المتماسك والمعبر عن رؤية نازك للشعر.
  2. بعد قراءة دقيقة لمضامين المقدمة، أمكن استخلاص موقف نظري يماثل، إلى حد ما، موقف الرومانتيكية بصدد رفض الخنوع للتقاليد والمناداة بحرية الأديب والشاعر وضرورة تجديد القاموس الشعري.
  3. لكن هذا الموقف يناقض ماتضمنه شرحها للغموض من موقف نظري يكاد يتطابق مع نظرية الانعكاس الأرسطية، وهي النظرية التي تشكل المحتوى الفلسفي للكلاسيكية ودعاة التمسك بالتقاليد وبالقيم الراسخة والوضوح في الفن والشعر.
  4. في مقابل ثبات القافية وثبات الوزن، وثبات المضامين النسبي، طرحت الخروج على الوزن ’خروجاً بسيطاً‘ وإهمال القافية، وإن لم تهملها هي تماماً، ومعالجة الموضوعات النفسية الباطنية الغامضة مدعية أن اللغة العربية تجرب التعبير عن مثل هذه الموضوعات لأول مرة! ونلاحظ هنا أن الموضوعات التي تشير إليها هي من ذخيرة النزعة الرومانسية في الشعر.
  5. لم تنجز الناقدة، في مقدمتها هذه، ما يلبي حاجة التغيير الشعري الجديد إلى مصطلحات ومفاهيم جديدة تعبر عن وعي الحركة الشعرية الوليدة المختلف لقضايا الشعر المعاصر. وليس مطلوباً منه أن تفعل ذلك.
  6. ثمة مأخذ منهجي على المقدمة، فهي قد صيغت على شكل مقالة أدبية تعبر عن قناعات وآراء مبدئية من دون تحليل نظري معمق يمهد لولادة نظرية جديدة في الشعر. ومن دون الإشارة إلى مضان بعض الآراء التي أوردتها في المقدمة، سواء أكانت هذه الآراء بصدد التراث أو بصدد المدارس الفنية التي ذكرتها في المقدمة، وهي السريالية والرمزية .

ثانياً- مرحلة "قضايا الشعر المعاصر"
يمكن القول إن النشاط النقدي لنازك الملائكة قد اختلف بصورة جوهرية بعد عام 1957، وهو العام الحاسم في تطور وعي الشاعرة الناقدة معاً. فقد توجت نازك توجهها الجديد بإصدارها كتاب "قضايا الشعر المعاصر" عام 1962، وهو الكتاب الذي عدَّه بعض الشعراء النقاد "ردة فعل إلى حد ما على حركة الشعر الحر بعد أن انطلقت منها ممكنات لم تكن في حسبان الشاعرة."19 ولكننا نعتقد أن نازك الناقدة كانت مترددة بين استدراك ما فاتها في مقدمة "شظايا ورماد" من أمور نظرية تتعلق بتطوير الحركة الشعرية الجديدة، وهو ما حاولت أن تنجزه في هذا الكتاب، وبين حدوث قناعات جديدة لديها تعد تخلياً عن الموقف الحماسي المبشر في المقدمة إذ نلاحظ أنها، بعد ان درست العروض دراسة مستفيضة بعد عام 1957، وجدت أن عليها ان تضع للحركة الشعرية ما يشبه القواعد التي سبق للخليل بن أحمد الفراهيدي أن وضع مثلها للشعر العربي القديم.20

ولو أعدنا قراءة الكتاب على نحو محكم لاتضح ذلك جلياً. فالكتاب يحتوي على معالجة أدق وأعمق للأبعاد النظرية للحركة الشعرية الجديدة، ولكنه في الوقت نفسه يحتوي على موقف جديد من الحركة الشعرية الجديدة يعد تخلياً عن بعض قيمها الأساسية. ولو اعدنا فحص مادة الكتاب بحثا عن نظرية للشعر لوجدنا مفهوماً محدداً للقصيدة لا للشعر، فهي ترى أن "للقصيدة عالمها الخاص المنفصل عن عالم الشاعر. إنها كيان حي ينعزل عن مبدعه منذ اللحظة الأولى التي يخط فيها على الورق."21 ولعل هذا النص يفصح بصورة جلية عن قناعة الناقدة بمبدأ الوحدة العضوية للقصيدة. فالقصيدة ، بالنسبة لها ،بناء متحد العناصر. أما مكوناته فهي: الموضوع والهيكل والتفاصيل والاوزان.

ولكن هذا الترتيب للمكونات لا يعكس قيمة أو أهمية كل عنصر فهي تقرر أن الموضوع، الذي جاء أولاً في الترتيب، هو "أتفه عناصر القصيدة لأنه في ذاته قاصر عن أن يصنع قصيدة مهما تناول من شؤون الحياة."22 وعلى العكس من الموضوع يكتسب الهيكل اهمية قصوى، فهي ترى بأنه "أهم عناصر القصيدة وأكثر تأثيراً فيها."23 ومن مقارنة قولها بوجود عالم خاص للقصيدة، ثم إزرائها بالموضوع وإعلائها من شأن الهيكل يتضح تبني الناقدة لمقولات الاتجاه الجمالي في نقد الشعر، وهو اتجاه يستند في بنيته الفلسفية على الافلاطونية ونظرية الفن للفن.24 والواقع ان مصطلح الهيكل هو النسخة الخاصة بنازك التي تقابل مصطلح الشكل الفني أو البنية، وهوما يجعلنا ننظر فيه لنرَ مدى اتساق مفهومها الجمالي للقصيدة. ذلك ان الناقدة تقرر أن الموضوع ليس مهماً في ذاته حتى "اللحظة التي يقرر فيها الشاعر ان يختاره لقصيدته، فهو إذ ذاك يوجه الهيكل، ويمشي معه."25

فهي هنا تفترض بأمكانية ان يكون ثمة وجود للموضوع خارج نسيج النص الشعري، وهو رأي غريب لأن كل عناصر القصيدة لايمكن ان ينظر اليها خارج صيرورتها في النص الشعري الذي يمنح تلك العناصر قيمتها، لذلك فلا معنى لكلامها عن الموضوع قبل وبعد ان يختاره الشاعر. ولو قمنا بالقياس على ماقامت به لجاز لنا الكلام عن الاوزان مجردة من وجودها داخل القصيدة! فلِمَ لمْ تتحدث عنها الناقدة؟ إن نازك ، في النص السابق، تؤكد أن الموضوع في القصيدة، وهو الحال الوحيد للموضوع الذي يمكن ان يكون موضع نظر، "يوجه الهيكل ويمشي معه." وبذلك تنتفي صفة التفاهة عنه لأنه، حسب رأيها، يوجه أهم عناصر القصيدة ألا وهو الهيكل. ونلاحظ أيضاً أن عزل الموضوع والأوزان والتفاصيل عن الهيكل كان فيه شئ من التعسف والتناقض مع قولها بأن القصيدة ’كيان حي‘ اي قولها بالوحدة العضوية لعناصر القصيدة.

أما كلامها عن صفات الهيكل الجيد الأربع: التماسك، والصلابة، والكفاءة، والتعادل فهو يدلل على ما قلناه من وجود شرخ بين تعريفات الناقدة وشروحها التوضيحية. فهي تذهب في ايضاح العلاقة بين هيكل القصيدة والتفاصيل مثلاً، إلى القول "إن هيكل القصيدة العام متميز من التفاصيل التي يستعملها الشاعر للتلون العاطفي والتمثيل الفكري."26 وهنا نتساءل: كيف توفق الناقدة بين قولها بتميز الهيكل عن التفاصيل مع قولها بمبدأ الوحدة العضوية للقصيدة ؟ إن آراء نازك في تقسيم الهيكل إلى ثلاثة انواع: الهيكل المسطح، وضربت له مثلا قصيدة (شباك) لنزار قباني، والهيكل الهرمي، ومثاله قصيدة (التمثال ) لعلي محمود طه، والهيكل الذهبي ومثاله قصيدة (أنت أنا) لامجد الطرابلسي، كانت من قبيل تطبيق المحتوى العام لفكرة الهيكل على تلك القصائد، لذلك فأننا لن نناقش ما ورد فيها .

وقد تناولت نازك، في مكان آخر من الكتاب، العلاقة بين الفن والحياة فناقشت ذلك تحت تفريعين هما: (الشعر والموت) و(الدعوة إلى اجتماعية الشعر)، ولما كان التفريع الذي بحث العلاقة بين الشعر والموت من قبيل الرأي الشخصي الذي يقوم على افتراض وفاة الشعراء وهم في ريعان الشباب، فيكفي لرده القول أن في الشعراء من هو معمر ومن هو قد مات في شبابه، ولعل شاعرتنا نازك الملائكة مثال على الشعراء المعمرين ولدت في العام 1923 وتوفيت في العام 2007. أما ردها على دعاة اجتماعية الشعر فقد تضمن ادعاءها ان الدعوة إلى وظيفة اجتماعية للشعر "تتحدث عن كل شيءٍ اخر غير الشعر، مع أنها موجهة للشعراء."27 وموقف الناقدة هذا يتسق تماماً مع الفهم الجمالي للشعر، وهو المفهوم الذي يحاول تخليص الشعر من وطأة المؤثرات الخارجية ومن تأثير سيرة الشاعر ومشكلاته الشخصية والتزاماته الاجتماعية والسياسية، لذلك ترى نازك أن "على الشاعر ان يحترس من الخلط بين ماله قيمة في القصيدة وماله قيمة في نفسه."

وما ذاك إلا لأن "الشعر لايعترف بأية قيم عاطفية اوجمالية خارجية، ولا بد لمن يريد ان يتغنى بمكان يحبه اوشخص يعزه أن يجعل هذا الشخص وذاك المكان حبيباً في داخل القصيدة نفسها بمختلف وسائل الفن المشروعة."28وهي ترى بأنه ليس ثمة من وظيفة للشعر غير وظيفة اللعب، وهو ما يؤكد النزعة الجمالية المغرقة في فهم الشعر، تلك النزعة التي تتفق مع دعاة الفن للفن.29 لكن هذا الموقف الجمالي المتشدد لا يطرد في كل صفحات الكتاب، ففي مكان آخر منه نقرأ: "والحق إن في إمكاننا أن نعد حركة الشعر الحر حصيلة اجتماعية محضة تحاول بها الامة العربية ان تعيد بناء ذهنها العريق المكتنز على أساس حديث."30 وهو ما ينقض تماماً الموقف الجمالي المغرق ويعيد للشعر شيئا من وظيفته الاجتماعية والسياسية إلى حد الادعاء بأنه وسيلة لإعادة بناء ذهن الامة العربية. وعلى اية حال، يمكن ايجاز قيمة هذه المرحلة على النحو الآتي:

  1. لم تستطع الشاعرة ان تقدم تصوراً نظرياً أو فلسفياً متماسكاً للشعر؛ فهي بين شد وجذب تؤكد تارة على القيمة الجمالية للفن والشعر بوصفه بنية جمالية مغلقة، وتارة أخرى تذهب إلى القول بالوظيفة الاجتماعية للشعر.
  2. انجزت نازك جملة مصطلحات اشتدت حاجة حركة الشعر الحر اليها بحكم اتساعها وتحولها إلى ظاهرة حضارية شاملة. ولكن يلاحظ ان الناقدة قد وفقت في اشتقاق بعض المصطلحات فكتب لها الشيوع والانتشار، ولم توفق في البعض الآخر فطواها النسيان. ويلاحظ كذلك ان بعض مصطلحاتها قد كان له بديل تراثي وبعضها الآخر سبقها آخرون إلى القول به.31 ويمكن إرجاع عدم شيوع بعض مصطلحاتها وارتباك البعض الآخر إلى كون الناقدة لا تصدر عن موقف فكري واضح وصريح بشأن الشعر والحياة، وليس لديها نظرية عامة للشعر تهتدي بها.
  3. نشأت بعد صدور كتاب "قضايا الشعر المعاصر" حركة نقدية واسعة احتوى بعض نصوصها النقدية على موقف يظاهر الناقدة، واظهر البعض الآخر موقفا مناهضا لها. لذلك يمكن القول إن هذا الكتاب قد مثل أقصى ما يمكن للشاعرة الناقدة ان تقدمه للحركة الشعرية الجديدة وفي الوقت نفسه احتوى الكتاب على بذرة الارتداد عن الحركة، ومهد لتخلي الناقدة عن كثير من قناعاتها السابقة؛ فالشاعرة التي كان يتنازعها التردد إزاء الشكل القديم والشكل الجديد منذ بعض الوقت،32 قد نقلت حيرتها الفنية ازاء ما هو إبداعي إلى حيرة نظرية ان صح التعبير.
  4. نرى أن كتاب "قضايا الشعر المعاصر" قد تضمن بذرة لأفكار جنينية كان يمكن أن تتطور إلى ما يعرف الآن بنظرية موت المؤلف. ويتمثل ذلك في قولها "للقصيدة عالمها الخاص المنفصل عن عالم الشاعر. إنها كيان حي ينعزل عن مبدعه منذ اللحظة الأولى التي يخط فيها على الورق." [التوكيد للباحث] ولكن الناقدة لم تشأ أن تطور هذه العبارة المهمة إلى مقالة تتصدى فيها لبيان جوهر نظرية موت المؤلف.

ثالثاً – مرحلة "الصومعة والشرفة الحمراء":
بعد كتاب "قضايا الشعر المعاصر" وما اثاره من ردود فعل في الوسط الأدبي ، لم تتصد نازك لمعالجة مشكلات الشعر الكبرى، وانما اتجهت إلى بحث بعض المسائل ذات الصفة الفنية كالقافية والشاعر واللغة، كما ناقشت مفهوم الدوائر العروضية لدى الخليل بن احمد الفراهيدي وقد ناقشت الناقدة في مقالاتها التي كتبتها حول تلك الموضوعات وأعادت القول في مسائل لم تعد في صدارة الموضوعات التي تهتم بها الحركة الشعرية والنقدية في السنوات الخمس التي سبقت صدور (قضايا الشعر المعاصر)، لذلك بدا وكأن الناقدة تناقش نفسها. لكن جاء كتاب "الصومعة والشرفة الحمراء" ليمثل مرحلة جديدة في جهد الناقدة في الناحيتين التطبيقية والنظرية.33 وإذا كان بعض الباحثين قد عدَّ الكتاب نقداً تطبيقياَ خالصاَ مطبقاَ على غير الشعر الحر، وهو ما يعني، ضمنياً، عدم اعتماد الآراء التي وردت فيه للتمثيل على تغيير آراء الناقدة، الا أن فيه من الأسباب الوجيهة ما يدعو إلى خلاف ذلك.

فقد احتوى الكتاب على دراسة بلغت 354 صفحة حجماً، وفيها مادة نظرية وتطبيقية غزيرة مما يغري بالتقاط مايتعلق منها بنظرية الشعر ومناقشته بوصفه جزءاً أصيلاً من كتاباتها عن علي محمود طه يختلف في أساسها النظري اويعبر عن موقف لا يتطابق مع قناعاتها النظرية ، فضلاً عن أنها استعملت مصطلحات قد اشتقتها في كتابها "قضايا الشعر المعاصر" لمناقشة قصائد علي محمود طه، ثم أنها، وفي سياق حديثها عن شعر علي محمود طه، ناقشت بعض القضايا الفنية المتعلقة بقصيدة "قصة راشيل شوارزنبرك" لنزار قباني من دون اشارة تذكر إلى كون الناقدة تقدم تفريقاً نظرياً بين الشعر الحر، كما هو الحال في قصيدة نزار قباني، وشعر الشطرين كما هو الحال في شعر علي محمود طه.34

لذلك كله نجد أنفسنا في حل من الأخذ بآراء الدكتور عبد الرضا علي حول عدم جواز ذلك، وما ذلك الا لان للشاعرة رأيا اخر. ولو حللنا معنى عدم تفريق نازك الملائكة بين الشعر الحر وشعر الشطرين لرأينا أنه موقف يحسب لها على مستوى نظرية النقد، فنحن لا نستطيع، من الناحية النظرية في الأقل، أن تتخذ موقفاً إزاء قصيدة ما انطلاقاً من انتسابها إلى هذا الشكل الفني أو ذاك، ولكن على مستوى نظرية الشعر،نظرية الابداع، فأن هذا الموقف يكشف عن التأرجح بين موقفين في كتابة الشعر، فهي من جهة لا تريد ان تهجر الشعر الحر لأنها، كما تزعم، رائدته الاولى، وهي من جهة اخرى تكتب العمود، وتكتب الحر بروح العمود، مما يقتضي منها موقفاً نقدياً عملياً يعبر عن القناعة بمثل هذا الانتقال من شكل فني إلى آخر، وجاء كتاب "الصومعة والشرفة الحمراء" ليكون التعبير الاوفى عن هذا الموقف.

ولو عدنا إلى قراءة الكتاب بعيداً الأخذ بالمعنى الضمني المشار إليه آنفاً، فسنجد ان نازك تعود في كتابها هذا إلى نمط من نظرية الانعكاس الآلية، فهي اذ تتحدث عن كتاب "علي محمود طه: حياته وشعره" لمؤلفه تقي الدين السيد تصفه قائله "لقد قدم لنا سيرة ضافية للشاعر تنفعنا في النفاذ إلى السر الذي يكمن وراء شعره."36 ومن الواضح أنها، في كلامها هذا، تتراجع عن تحذيرها للنقاد من نقد الشعر استناداً إلى سيرة الشاعر وظروف نشأته. ولسوف يتضح انها لا تقصد هنا مجرد الاستعانة بالمعلومة السيرية في فهم ما استغلق من النص الشعري، فهي تقول "فليس من طريقتي في النقد والدراسة أن أصوغ حكماً على حياة الشاعر علي محمود طه أعتمد فيه على شعره وحدة."37 وما ذاك إلا "لأني احتاج إلى ان توضع بين يدي سيرة حياة موسعة عن الشاعر."38 والسبب هو الخوفً من أن يكون "قد وقع لي استنباط استخلصه من نصوص شعره ثم تكشف الأيام انه لم يكن دقيقاً وإن تفاصيل حياة الشاعر تنقضه."39

وهكذا انعكس الحال إلى الضد تماماً، واتضح إيمان الناقدة القطعي بنظرية الانعكاس الآلية التي تجعل مرجعية الشعر الخارجية أمراً لا مناص منه لأنها هي ما يبطل، أو يبرم، أحكام النقد بشأن الشعر. وحين تعالج نازك مسألة المضمون وأهميته الذي كان سابقاً "اتفه مكونات هيكل القصيدة" حسب قولها، فإنها تفصح عن موقف ينسجم مع موقفها السابق في الاحتكام إلى الواقع والسيرة والتاريخ في الشعر إذ تقول "يكاد الموضوع يكون قيمة حديثة في ابحاث النقد العربي "40 وبذلك تكتمل لديها صورة لمفهوم اخر للشعر اذ تستدير الناقدة بزاوية مقدارها 180 درجة مخالفة بذلك قناعاتها الأولى التي مثلتها مقدمة "شظايا ورماد". ولذلك ليس مستغرباً أن يكون جلُّ ما كتبته عن علي محمود طه يقع في باب شرح الشعر ونثره (paraphrasing) وهو إجراء جزئي لا يصح عده منهجاً في النقد.

على أن موقفها هذا الذي استخلصناه من نصوصها لا يتسق مرة اخرى. إذ نجد في أماكن أخرى من الكتاب آراءَ مناقضة له. ففي سياق كلامها حول قصيدة نزار قباني السابقة تقول: " الوزن وحده لايخلق الشعر، وإنما الشعر اجتماع الوزن المضبوط بالتعبير العالي والنغم والصور والجو وقوة الموضوع وكمال الهيكل."41 ثم تنتقل إلى الحديث عن شعر علي محمود طه بروح يطغى عليها الحماس. والملاحظ هنا أن هذه المرحلة قد شهدت عودة إلى المناهج التقليدية في نقد الشعر، ويبدو ذلك واضحاً من تبني الناقدة للأساليب البلاغية في النقد مما يعني تبني الموقف الفكري والمنهجي الذي يكمن خلف مثل هذه الاساليب.

ولكن أهم ملمح نراه جديراً بالتنويه هو تطوير الناقدة لمفهومها الخاص عن موسيقى الشعر، وهو الموقف الذي عبرت عنه بقولها "إن موسيقى الشعر... لا يمكن أن تنشأ عن الألفاظ في ذاتها وإلا كانت الألفاظ تمتلك الموسيقية وهي في سياقها النثري."42 أي أن موسيقى الشعر تنبع من الاجتماع المخصوص للألفاظ على نحو يولد إيقاعاً خاصاً مميزاً. ثم يعقب ذلك دراسة الناقدة لظواهر ايقاعية تتجاوز مسالة الوزن وموسيقية الالفاظ في شعر علي محود طه.

المراحل الثلاث..تقويم عام

يتيح الشاعر، حين تكون له ممارسة نقدية في المستويين النظري والتطبيقي، للنقد فرصة استخلاص نظريته الخاصة في الشعر من خلال تحليل كتاباته النقدية؛ فالنقد اشهار لطبيعة تأملات الناقد/الشاعر حول طبيعة الشعر. ولكن هذه الفرصة ليست ممكنة في كل الاحوال. فإذا عدنا إلى المراحل الثلاث التي مرت بها ممارسة نازك للنقد نظراً وتطبيقاً لراينا انها قد شهدت تغييرات كبرى، ولكن هذه التغييرات لم تكن موجهة إلى استكمال جوانب النقص في المرحلة الأولى أو الثانية، لذلك لم تتوصل الناقدة إلى صياغة نظرية متكاملة في الشعر؛ فلم يؤدِ نسخ الناقدة لآرائها النظرية الا إلى مزيد من التناقض والتراجعات.

فهي لم تتمكن من تكوين مثل هذه النظرية في أية مرحلة من مراحل تطورها النقدي؛ كما ان دراسة جهدها كله لم يؤد إلى استكمال موقفها النظري في الشعر. وغاية ما وصلنا إليه استخلاص شذرات بسيطة لا تمثل أساساً صالحاً لنظرية شعر متكاملة مهما بذلنا من جهد لأن هذه الشذرات ينقض بعضها البعض. ولو حاولنا تلمس أسباب ذلك لرأينا أن هذه الأسباب تنحصر فيما يأتي:-

  1. لم يكن لدى نازك تصور فلسفي شامل للحياة يمكن أن تتخذه أساساً لاشتقاق نظرية الشعر الخاصة بها. ويلاحظ يوسف الصائغ أن نازك "لم تكن تحمل نظرة متكاملة إلى الحياة" لذلك فهي "لم تكن تنطوي على صورة واضحة لطبيعة العمل الشعري كظاهرة حضارية ...ولا على وظيفة الشعر في الحضارة."43 وهي ملاحظة مهمة تظهر خلو ما كتبته نازك من نقد في الشعر من مكونات نظرية الشعر الأساسية.
  2. وقعت تأملات نازك وكتاباتها النقدية النظرية تحت عبء تجربتها الشعرية الخاصة؛ فالناقدة في نازك كانت تحاول تبرير الشاعرة فيها. لذلك "ارتكزت في الأساس على مالها من تراث شعري."44 ولم توسع من النماذج التي أخضعتها للدراسة في شتى مراحل الكتابة النقدية لكي تتوصل إلى آراء انضج. ومع كل ذلك "فهي تخرج في شعرها على قوانين نقدها كما وقع في قانون التشكيلات الخماسية."45
  3. أدى فقدان الناقدة لريادتها النقدية للحركة الشعرية، والمتمثلة فيما قدمته من نتاج شعري في "شظايا ورماد"، ومن ثم تجاوز الحركة الشعرية الجديدة لكثير من طروحاتها في المقدمة إلى موقف دفاعي بحت أسهم في وقوعها في تناقضات جديدة .
  4. لم تكن نازك تملك تفكيراً منهجياً يوجه ممارستها النقدية التي كانت مسوقة بقوة الذائقة اكثر من البنية المنهجية. ولعل من مظاهر الاختلال المنهجي لديها "القفز مسبقا إلى النتائج بمقدمات جزيئية، والميل إلى التعميم بناءً على حالات نادرة ..."46 وكذلك الالتباس والخلط بين المناهج المختلفة وما يمكن أن يؤدي إليه الاضطراب المنهجي من تناقض على المستوى النظري. والواقع أنها "لم تكن تصدر عن اي اتجاه منها (المناهج) صدوراً منهجياً منظماً، وإنما كانت تلجأ إلى هذا المنهج أو ذاك كلما احست بحاجتها إلى مبادئه لتفنيد الاتجاه الذي تعارضه وتاكيد الفكرة التي تدعو إليها"47 أخيراً قد يصح القول إن نازك الناقدة لم تستطع أن تقدم في جهدها النقدي تصوراً واضحاً لنظرية في الشعر، ولكنها، على اية حال، كانت أحد الرموز الاساسية المحركة في التجديد الشعري.

المصادر والاشارات

  1. انظر مقدمة "نازك الملائكة الناقدة" وهي رسالة دكتوراه تقدم بها عبد الرضا علي إلى مجلس كلية الآداب في جامعة بغداد في تشرين الثاني 1986م. وكذلك آراء الدكتور هاشم ياغي في دراسته المعنوية "نازك الملائكة وقضايا الشعر المعاصر" ضمن الكتاب التذكاري الذي اصدرته جامعة الكويت تحت عنوان "نازك الملائكة: دراسات في الشعر والشاعرة" ص17-40 الناشر شركة الربيعان للنشر والتوزيع. الكويت 1985.
  2. تهيأ لنا الاطلاع على اغلب ما كتب حول نازك الملائكة شاعرة وناقدة، فوجدنا فيه مادة غريزة ومهمة أفادتنا كثيراً ولكننا قد استفدنا من الدراسات حول نازك الناقدة اكثر من استفادتنا من تلك الدراسات التي تناولت نازك الشاعرة. وكان بعض الدراسات يتناول الجانبين معاً.
  3. "مناهج النقد الأدبي" ديفد ديتثس. ترجمة د. محمد يوسف نجم ومراجعة د. إحسان عباس . ص 16 وما بعدها. الناشر، دار صادر بيروت -1967.
  4. ينظر: Encyiopaedia Britianincea . volume No.4.
  5. "نظرية الأدب" رينيه ويليك واستن وارين. ترجمة محي الدين صبحي ومراجعة د.حسام الخطيب . ص13-17 . المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت -1981.
  6. ينظر "درس الأبستمولوجيا أو نظرية المعرفة" عبد السلام بنعبد العالي وسالم يفوت. وخاصة الفصل المعنون (نظرية المعرفة: قيمتها وحدودها) ص11-28. ط2. دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد -1986.
  7. ينظر بصورة خاصة الكتب الآتية: "نازك الملائكة: الشعر والنظرية" للناقد عبد الجبار داوي البصري. وخصوصا الفصل الثالث (النظرية) . الناشر مديرية الثقافة بغداد -1971. وكذلك "الشعر الحر في العراق منذ نشأته حتى عام 1958" يوسف الصائغ . ص33-36. الناشر مطبعة الأدب بغداد 1978. والدراسات التالية في الكتاب التذكاري وهي:
  • (نازك الملائكة وقضايا الشعر المعاصر) د. هاشم ياغي
  • (آراء نازك الملائكة في نقد الشعر) د. إبراهيم عبد الرحمن محمد
  • (الفكر النقدي في دراسات نازك الملائكة ) د. داود سلوم
  • (نازك الملائكة ناقدة) د. مصطفى أمين
  1. يقول آ.أ. ريتشاردز إننا إذا "أردنا ان نحدد ما أهمية الشعر فعلينا أولاً أن نكتشف ماهية الشعر، وذلك أنه من الناحية الابستمو لوجية لا يمكن تحديد أهمية شيء من دون ان نكون على بينة مِنْ ما هيته" ينظر مقالة (الشعر والعلم) في ص 102 وما يليها من الجزء الثالث من كتاب "النقد: أسس النقد الأدبي الحديث" ترجمة السيدة هيفاء هاشم . دمشق 1976.
  2. ينظر المصدر في (3) أعلاه. ص 433 حيث يذهب ديفيد ديتش إلى "أن الغالبية العظمى من النقاد قلما استخدموا منهجاً واحداً ميسور التحديد".
  3. "نازك الملائكة: الشعر والنظرية" عبد الجبار البصري. ويصف الأستاذ البصري مقدمة ديوان "شظايا ورماد" بأنها "مقدمة اتجاه وبياناً أول لحركة ثورية" وهذا يظهر الحمولة الأيديولوجية في المقدمة. ص 191.
  4. "ديوان نازك الملائكة" المجلد الثاني. ص7.
  5. المصدر السابق، ص 8.
  6. المصدر السابق، ص 9.
  7. "نقد الشعر" قدامة بن جعفر. تحقيق كمال مصطفى. ص 15. القاهرة 1963.
  8. "ديوان نازك الملائكة"، ص9.
  9. المصدر السابق ،ص 21.
  10. المصدر السابق، ص 22.
  11. من المعلوم ان لنظرية الانعكاس، بوصفها جذراً فلسفياً لنظرية الشعر، صورتين، إحداهما مستمدة من نظرية المثل الأفلاطونية، وهي الأساس الفلسفي للرومانتيكية، وأخرى ارسطية تعدُّ الاساس الفلسفي لنظرية الشعر الكلاسيكية. ينظر مادة ’فلسفة الفن‘ في الموسوعة البريطانية الجزء الرابع. ص 40 وما بعدها.
  12. "بحثاً عن العدالة" محمد الاسعد. ص28. مؤسسة الابحاث العربية، .بيروت، 1986.
  13. تقرُّ نازك الملائكة بأنها لم تكن قد قرأت شيئأ في علم العروض سوى كتاب "ميزان الذهب في صناعة شعر العرب" للسيد محمد الهاشمي قبل عام 1957، وأنها قامت بدراسة العروض مجدداً أو دوائر الخليل خصوصاً في ذلك العام. ينظر مقالة "الخليل والدوائر العروضية" لنازك الملائكة التي اعاد الدكتور عبد الرضا علي نشرها في كتابة "نازك الملائكة: دراسة ومختارات" ص 251.
  14. "قضايا الشعر المعاصر" نازك الملائكة. ص 228 .ط 4. دار العلم للملايين بيروت، 1974.
  15. المصدر السابق . ص 224.
  16. المصدر السابق . ص 225.
  17. "موسوعة المصطلح النقدي" المجلد الاول. ’الجمالية‘. ص 295. ترجمة د.عبد الواحد لؤلؤة. دار الرشيد ،بغداد ،1982.
  18. قضايا الشعر المعاصر، ص. 224.
  19. المصدر السابق، ص. 226.
  20. المصدر السابق، ص. ن.
  21. المصدر السابق ًص. ن.
  22. يرى الدكتور إبراهيم عبد الرحمن محمد أن ما يمكن أن نستخلصه من موقفها الجمالي هو "الايمان بأنعزال القصيدة عن ذات الشاعر وظروف الحياة التي انبعثت احداثها منها، والدعوة إلى تقويمها في ذاتها بوصفها بناءً فنياً وفكرياً وجمالياً مستقلاً " انظر ص789 من الكتاب التذكاري.
  23. قضايا الشعر المعاصر . ص 42
  24. للمزيد من التفاصيل حول جهود نازك في اشتقاق المصطلح النقدي لحركة الشعر الحر، راجع أطروحة الدكتور عبد الرضا علي للدكتوراه. ص84 وما بعدها.
  25. "من الذي سرق النار" د. إحسان عباس . المؤسسة العربية للدراسات والنثر بيروت 1980. ويذهب الدكتور إحسان عباس إلى القول "لو اكتفت [نازك] بحل الشكل القديم لوجدت أن اللفظة ستطلق من موتها وأن الصورة ستتخلص من اسار الجمود والترديد". ص185.
  26. صدر الكتاب اولاً في العام 1965عن معهد الدراسات العربية العالية في القاهرة، وكان بعنوان "محاضرات في شعر علي محمود طه".
  27. "الصومعة والشرفة الحمراء" ص.53. الطبعة الثانية. دار العلم للملايين 1979.
  28. ينظر: ص 125 من أطروحة الدكتوراه للدكتور عبد الرضا علي.
  29. "الصومعة والشرفة الحمراء" ص 9.
  30. "الصومعة والشرفة الحمراء" ص 12.
  31. المصدر السابق . ص 9.
  32. المصدر السابق . ص 34.
  33. المصدر السابق . ص 49.
  34. المصدر السابق . ص 55.
  35. المصدر السابق . ص 147.
  36. "الشعر الحر في العراق منذ نشأته حتى عام 1958"، يوسف الصائغ. الناشر مطبعة الاديب، بغداد، 1978.
  37. "متوالية التجديد في الشعر العربي الحديث" ماجد السامرائي. بحث مقدم إلى مهرجان المربد الثامن 1987. ص 11.
  38. الرأي للدكتور مصطفى حسين. انظر الكتاب التذكاري ص851.
  39. الرأي للدكتور ابراهيم عبد الرحمن محمد . انظر المصدر السابق ص788.
  40. المصدر السابق . ص788.