إن الذات التخييلية كما يرى الناقد المغربي في هذه المجموعة القصصية تروم التحرر من سلطة القانون الرمزي أي قانون المنع الاجتماعي بغاية ضمان متعية إيحائية أو مباشرة. فالذات تراهن على المقاومة متوسلة بأدوات التهكم من البنيات المؤسسة للسلطة والتقسيم الجنسي للهوية والقواعد المنظمة للتبادلات الرمزية.

الهوية وأسئلة الهجانة والحدود

قراءة في المجموعة القصصية «مسخ ذوات الناب» لعيسى ناصري

فـؤاد أعـراب

سنحاول، في هذا المنجز الإبداعي القصصي، استقصاء حضور الهوية من زاويتي الهجانة والحدود (1). تتوخى قراءتنا الإنصات للغة الإبداعية المنغمسة في تشريح كيان الجسد و تشخيص الفواصل الثقافية والتباساتها انطلاقا من عوالم اللاوعي، والتي تترجمها تخييليا المجموعة القصصية مسخ ذوات الناب. إن لفظ "الهوية"، الذي يشير إليه العنوان، يحيل في معناه الاشتقاقي إلى علاقة تحقق الذات بموجبها عملية التطابق مع ذاتها، لكن اللفظ يفقد سلطته حينما يصير مفكرا فيه في علاقته بالآخر/ بالغيرية، سيما من خلال اندغامه بالهجانة. فإذا كان الإنسان وفق مقتضيات الوضع البشري مهووسا بالنقاء العرقي والثقافي والجنسي، فإن لاوعيه لاينفك يشيد أنساقا تخييلية ديدنها الاختلاط و انمحاء الحدود و تمازج الاضداد. في هذا الاطار، ينكشف سؤال الهجانة داخل المجموعة القصصية كمعيار أسلوبي يبرز كيف أن الالتباس يدخل في صلب البناء الهوياتي للذات انطلاقا من الحركة المزدوجة للتقديس/التدنيس، التجذر/الاقتلاع، الانسنة/الحيونة، الخ. يحيل الاستعمال الأول للهجانة إلى مجال البيولوجيا، قبل أن ينصب الاهتمام به في علاقته باختلاط الأجناس كما ورد في الكتابات الاثنومركزية الأوروبية خلال القرن 19. و يعد هجينا hybrideما يتولد عن فردين منتميين إلى نوعين مختلفين سواء لدى النباتات أو الحيوانات، وهو ما يكون غالبا سببا بالقوة (وليس دائما بالفعل) في إنتاج العقم و اللاخصوبة والموت، و يحيل في مداه الأسطوري إلى انصهار الانساني مع الحيواني كنتيجة لانتقام قوى غيبية جبارة.

1.الكلمة المارقة

إذا كانت اللغة الطبيعية تصوغ الذات من خلال إجراء محو لعلامات وآثار الطبيعة التي تحيل الى دوال الجسد والدوافع البيو-نفسية المهددة للهوية والمخلخلة للقواعد والمعايير اللسانية، فإن الذات التخييلية في المجموعة القصصية مسخ ذوات الناب تروم، على العكس من ذلك، التحرر من سلطة القانون الرمزي أي قانون المنع الاجتماعي بغاية ضمان متعية إيحائية أو مباشرة. فالذات، في المجموعة القصصية، تراهن على المقاومة متوسلة بأدوات التهكم من البنيات المؤسسة للسلطة والتقسيم الجنسي للهوية والقواعد المنظمة للتبادلات الرمزية.

تنكشف اللغة في مسخ ذوات الناب كسيرورة متشظية في بنائها الصوري، منكسرة أمام تدفق سيرورة الدوافع الليبيدية المتأصلة في جسد الطبيعة، والمسنودة بمادية دلالية عبر الإيقاع والصوت والموسيقى. فهي بهذا المعنى تشكل مفعولا للسيرورات اللاواعية المنتجة لذوات تعيش داخل مجرى الصيرورة كفعل وحركة وأفق، وتتنفس منطق انتهاك الحدود الاجتماعية. يمكن تتبع إيقاع هذه الصيرورة في قوة حضور الجسد بعمقه البيولوجي وتعبيراته الثقافية وتمظهراته الاستيهامية، التي تنفلت من رقابة وضبط النظام الرمزي وتفجر نسق المواضعات الأخلاقية.

تنكشف اللغة كورشة لانسقية تستمد ديناميتها الدلالية من الاختلاف اللامتناهي المؤسس للمعنى والوجود. نلمس هذه القضية في استحالة مجاراة إيقاع مشهد اصطياد الحجلة، وهو معطى لساني يضعنا أمام سيرورة دالة متلاعبة بانتظارات القارئ الذي يجهد وعيه باحثا عن حلقة المعنى الهارب في متوالية الصيد (ص16). تكاد تتطابق هذه الزوبعة الدلالية مع محتوى أقصوصة الرسالة المسروقة لادغار ألن بو الصادرة عام1844 (2)، والتي تسائل في صلب حبكتها التفكير المنطقي العاجز عن العثور على حل عقلاني لاختفاء الرسالة. فالحجلة في مسخ ذوات الناب يشوبها التكرار لأنها تحيل إلى الواقع؛ فهي بهذا المعنى مطابقة لذاتها. لكن عبارة: من اصطاد الحجلة؟ تنغمس في بنية الرمزي الذي يتأسس على الاختلاف؛ فالدال هنا مختلف عن نفسه، لأنه يضعنا أمام مفارقة تعدد الهويات. إن قصدية السارد لا تتغيى تحديد هوية الصائد (السلوقي، الأفعى، القط..) بقدر ما تنحو منحى الإرجاء، مادام السؤال، الذي هو من طبيعة علائقية اختلافية، يراهن على تبديد وحدة المعنى وتفخيخ قنوات التواصل اللساني وتفكيك منطق الهوية.

وظف القاص عيسى ناصري تقنية الكلمات-الجسر أو اللعب بالكلمات، لتجسير المعنى داخل منطق الاختلاف اللغوي (تاسلمت/السلمونة ص21)، ليسبغ على منجزه القصصي سمات الانتقالية والحركية والعبور، كمؤشرات تدل على أن الكتابة السردية القصصية، المتعالقة مع لغة الحلم واللاشعور، تحكمها خصائص فونيتيقية إلى جانب تحديداتها المجالية والدلالية، وهذا ما أشار إليه جاك لاكان في محاضرة له بالمركز الثقافي الفرنسي بروما، في 29 أكتوبر 1974، حيث قال: "كما تعرفون، أعطي أهمية بالغة للعب بالكلمات، يبدو لي ذلك مفتاحا للتحليل النفسي" (3).

ولأن الواقع متمرد على التمثل والصياغة المفهومية، فإن انتقاء كلمات مندغمة في واقع الرغبة، منح الكتابة السردية في مسخ ذوات الناب قدرة على مسايرة صيرورته ومجاراة تناقضاته. ففي موقعة الكتابة السردية، ينكشف الدال كمادة انشطارية تحيل الى الكثرة التي تؤشكل مكوناتها الفونيمية والمورفيمية وتحرر اللفظ من سجن المواضعات المعجمية وتمنح المعنى إمكانية الهروب بعيدا عن التصنيفات الاجتماعية والتبريرات الأخلاقية. يتجلى هذا المعطى في قول الراوي "لتسحقا سحقا وسحاقا" (ص23)، وكذلك قوله "امرأة تتمدد حقدا مع الجسد الممدد ص24"، إذ يتأرجح الامتداد بين ملامحه النفسية وخصائصه الفيزيولوجية، أو عبارته "دلقت السطل على الجسد الممدد، صوبته الى تلك المنطقة..." (ص 20)، حيث أن المنطقة الدالة على العضو التناسلي الأنثوي، مثل غشاء البكرة أو الفارماكون، تشتغل على الفصل والجمع بين الأضداد التي تتطابق لكنها تختلف، في فضاء بيني يحيل إلى دلالة متحولة. يقول القاص: "فهي (تلك المنطقة) داء للزوجة ودواء للزوج" (ص 44).

تشتغل الكلمة في مسخ ذوات الناب بمبضع الحفر الأركيولوجي في جسد الحقيقة الاجتماعية؛ فهي تكسر الطابوهات، وتفيض عن السياج النظري، وتتعدى حدود التبادل الرمزي (ص35)، وتناوئ النزوع الى الهوية والعقل (ص35)، بل و تقوض مركزية الذات حينما تجاور الغياب: "الريش أنا...والبياض أنا...لكن اين امتدادي؟" (ص35).

2.المسخ أو ضياع الهوية ومحو الحدود

يخترق المسخ نسيج أغلب مكونات المجموعة القصصية، ويفتح على اللامتناهي والمقزز وكل الانعطافات المولدة للفضاءات الفنطاستيكية. فهو يشتغل في مسخ ذوات الناب كدافع استيهامي، مادامت الذات (السارد أو الشخوص المؤثثة للمجموعة القصصية) تجد نفسها منذورة بفكرة التحول أو برؤية الآخرين يتحولون.

يقترن المسخ داخل مسخ ذوات الناب بالسجل الخيالي كوسيط إدراكي بين الرمزي والواقع، ويعبر عن المخاوف المتأصلة في بنية اللاشعور الإنساني والمسؤولة عن ترسيم الحدود الفاصلة بين الطبيعي والحيواني والإنساني. وهذا ما أفلحت المجموعة القصصية في تصويره من خلال الاقرار بمحايثة المسخ للوعي اليومي، و تأسيسه لمعظم تأويلات الذات والطبيعة والكون. ولعل ذلك واضح في إثارة الزوجة للمسخ كاحتمال أثناء حديثها عن اختفاء الكلب والقط (ص20). لكن في المقابل، أفرد السارد مساحة لنقيض رمزي يتمثل في إثارة مدخل الفرضية العلمية حول الجذور الحيوانية للإنسان: "سحب الرجل زوجته منذرا...خطر العودة الى عوالم الكهوف...آدميون متوحشون.." (ص 20). ويبدو أن السرد سيبلغ مداه بإثارته لهذا السجال الثقافي-الفكري بمرجعياته الاسطورية والعلمية، و احالته الى خطاطة الاصل البشري: "قدوم قردان ضخمان...قدوم الذكر القرد... جمع الحطب...حك الحجر لايقاد النار" (ص20).

لقد أضفى القاص طابعا تخييليا على السيناريو الانتقالي من عالم الطبيعة إلى عالم الثقافة، فعمد الى تكسير بنية الزمن الخطي التراكمي، وولد تداخلا بين المتخيل والرمزي من خلال بناء تارة زمنية دائرية "فرضية العود الأبدي والتوحش" وتارة أخرى زمنية مطاطية "هاجس الموت بين 12يوم و12 سنة". ولأن للساعة حضورا أداتيا في النسيج الحكائي للقصة، فقد سخرها القاص، ليس فقط لضبط الزمن الإدراكي اليومي، بل لتسجيل هذا الانتقال العجائبي بين عوالم المتخيل و عالم الواقع. "فهم حينها أن إيجاد الحبات الاثنتا عشرة متعلق بما يراه من أحلام...وأن الساعة العجيبة لها علاقة بالامر" (ص29).

يلازم المسخ بنية الحلم كآلية من آليات اشتغال المكون اللاشعوري، و يبلغ مداه حينما يمس الذات الساردة التي تحولت إلى ديك يلبس سلهاما (ص28). المسخ علامة على انمحاء الحدود بين الحيواني والانساني وتطابق الهويات الحيوانية والبشرية، فالحلم 3 يصور لنا الشاة 'مباركة' التي تلبس حذاء أسودا عالي الكعبين يحمل الرقم 45" وهو "نفس مقاس قدميه" (ص30)، والحلم الخامس ينقل تفاصيل مباراة كرة القدم بين الدبابير ومشهد الراعي الذي نصب نفسه حكما (ص31)، والحلم السادس الذي يمنح الديك حجم نعامة (ص32). يمحو المسخ إذن الحدود الثقافية بين العوالم الإنسانية والحيوانية والنباتية، و يدشن زمنية العود الأبدي بإعلانه الاستباقي تحول الحبتان لرهان لعبة جديدة ص(34).

و إذا كان البناء الثقافي للذات يتم عبر الانفصال الصريح بين العقل والجسد، المقدس والمدنس، الطبيعي والثقافي، فإن هذا الاجراء الانثروبولوجي يتعرض للاهتزاز أثناء الحلم كمسرح لانبجاس واحياء عناصر الطبيعة. وهذا ما حرص القاص على تسجيله بلغة تخييلية تجيد الانصات لأصوات لجسد والرغبة. وبما أن الخوف عنصر متجذر في البنية النفسية العميقة، فإن تيمة المسخ تندغم في تجربة الموت كدال على الفراغ والنهاية، مع "سقوط الراعي في الجرف وخطوته الأخيرة في الفراغ والجسد الذي آن له أن يعانق النهاية" (ص34). كما أن القاص يفسح المجال أمام استثمار بعض التفسيرات الأسطورية لطقوس الدفن؛ كدال على التباس الحدود بين الغراب والإنسان في طقوس الدفن. إذ تحكي الخرافة أن الإنسان استنسخ تجربة الدفن عن الغراب. "الغربان تتلوا أذكار النعيق الجنائزي الحزين"(ص34)

تلتقي في تشكيل تيمة المسخ قوى الايروس (الفرس والحمار الاشهب) وقوى التاناتوس (مشهد الغربان المطالبة بالجثث) (ص44). وبهذا تنفتح على سؤال الهجانة كدال على تدنيس العنصر الطاهر، والتباس الحدود المؤسسة للوعي الاجتماعي وأسس الضمير الجمعي الذي يسعى الى استعادة هيبته و سلطته، تارة عبر التصفية الجسدية: "جثة الحمار الوحشي الذي وجد يعتلي فرسه الطاهرة" (ص44)، وتارة أخرى عبر هجر المكان الذي فقد معلمه الثقافي: "تركها (الفرس) وترك النوالة". (ص44)

ولأن مسخ ذوات الناب استعانت بالموروث الأسطوري المحلي: (علاقة الزوابع بالجن، حيث كان يطلب من الناس غرس سكين أو فأس أو أي قطعة حديدية في التراب كوسيلة لإبعاد الأرواح الشريرة)، فقد عملت من خلال هذا الإجراء السردي على تفعيل آليتين خطابيتين: الأولى تتعلق بتدمير سيرورة المسخ، بإعلانها اندحار عنصر الهجانة وانتصار منطق الحدود ومعيار الفصل. "انكشاف حصان أدهم أغر الجبهة" (ص45). والثانية تحيل إلى الاستيعاب الثقافي للمسخ و أنسنته من خلال توظيف نمط الكتابة الشذرية و أسلوب السخرية باعلان "ميلاد إنسان الغد المهجن الذي سيوظف بلادة الحمير في خدمة الذكاء البشري" (ص49)، أو من خلال مسرحة عملية قلب القيم (ابليس/الملائكة، الطهارة/الدنس) و خلخلة للهويات الانسانية والحيوانية في مشهد جنسي بهيمي يصور بدقة تلاحم الحيواني والإنساني. "المقدم والبغلة" (ص66).

3.الجسد، الرغبة والسلطة

الجسد كيان إشكالي لانه عنصر أولي متعدد الدلالات، حيث لا يمكن حصره في وظائفه البيولوجية وارتباطاته الفيزيولوجية والسلوكية، بل يتوجب الانفتاح على أبعاده التخييلية ككيان يعيش على تخوم الفكر و عتبات الأخلاق وتصوراتها الطهرانية. فالتخييل هو مرتع الجسد على حد تعبير فريد الزاهي(4)، والجسد متخيل بقدر ما هو واقعي نظرا لخصائصه الجمالية والجنسية والرمزية.

لقد عمل القاص عيسى الناصري على وضع تشريح دقيق لتفاصيل الجسد، باجرائه لصياغة تخييلية تمتح دلالاتها من الموروث الثقافي وتستعير بلاغتها و أسلوبيتها من اللغة التصويرية واستيهاماتها من جسد الرغبة. من هذا المنظور، يمكننا إجراء تمييز على أساس هوياتي جنسي داخل مسخ ذوات الناب بين جسد أنثوي وجسد ذكوري. فالجسد الأنثوي، كموقع لتوليد الرغبة وحقل لاشتغال آليات السلطة، يكشف عن سيرورات الانتهاك التي من خلالها يتحول الى ميدان خطابي لحرب العلامات والرموز والصور: الهوية، العنف، الرغبة، الإخصاء.. هكذا ترسم المجموعة القصصية جسدا أنثويا صراعيا يتأرجح بين المقاومة والخضوع، بين التوتر والاحتجاج والتوكيد، ويتخذ مسارات تتراوح بين قلب القيم و التفاوض في إطار التبادل الاجتماعي والانتهاك الأخلاقي. لذا فمحاولة الإمساك بدلالات الجسد المتموجة، تقتضي إجراء منهجيا تتفاعل فيه إواليات تحليل العلامة مع فينومينولوجيا الرغبة، بهدف التقاط الإشارات ورصد الدلالات الثاوية وراء تشكلاته.

يسهل رصد الدلالة الوظيفية- التي يفرد لها القاص مساحة ضئيلة- للجسد الأنثوي في مجموعته القصصية، حيث يقترن الجسد الانثوي بوظيفة ما داخل سيرورة الحكي. فالزوجة المدللة تجيد الرماية في رحلة الصيد (ص15)، ومعلمة الموسيقى تلج مغامرة قراءة الفنجان على غرار أمها المصرية وجدتها (51). ويمكن إدراج الجسد، داخل هذه الدلالة الوظيفية، كبؤرة لتقاطع بيو-ثقافي عندما يخضع لطقس الاغتسال من الدورة الدموية (ص21).

ثم هناك الوظيفة الجنسية الإستيهامية، إذ يرسم القاص جغرافيا الهيكل المكتنز المرصوف بريشة إله ماجن (ص19) أو يدقق في هندسة تفاصيل صاحبة الشعر الأشقر (ص39). والملاحظ أن الجسد لا ينفصل عن استيهامات الذكر التي تمسرحه جنسيا وفق متوالية الرغبة اللاشعورية، كالجسد العاري في الحمام الذي يحمل مكانز الشهوة ويزيل عرق ليلة حمراء (ص21). إن حضور الجسد الأنثوي في المجموعة القصصية كواقعة ثقافية دالة، يجعل منه موضوعا للهيمنة الذكورية، كتلك التي سترتمي في أحضان رئيس الجماعة (ص21)، أو تلك الفتاة المتخايلة في الجلابة الحمراء منصاعة لاغراءات الثروة والرفاه الاجتماعي (ص65)، أو التي ستتعرض للتحرش الجنسي للمقدم عند البئر (ص65).

ومع ذلك، فإن هذا الجسد قد يرتوي، داخل حاضنته الاجتماعية، بعلامات الموروث الديني والأسطوري، فينتصب كجسد مثير للفتنة تنبغي مراقبته والتجسس عليه "التوت لها أعناق أبناء البلدة من فرط النظر والالتفات" (ص22). و أخيرا يمكن أن يتحول الجسد الأنثوي إلى أداة من أدوات الإخصاء الرمزي؛ إذ أن إجراءات الطرد من الحمام تترجم يقظة الضمير الجمعي الذي يفعل مشروعية الفصل الجسدي والميز الجنسي، ويسمح للطفل بادراك غيريته الجنسية والعبور الطقوسي نحو عالم الرجال.

ليس الجسد الأنثوي موضوعا فيزيقيا فحسب، بل تتغلغل دلالاته داخل الحقول الاجتماعية والثقافية التي تتشكل على قاعدتها رمزيته الايروسية ووظيفته الجنسية. وقد استطاع القاص عيسى ناصري بنباهة ابداعية وحس جمالي أن يوظف كل قدراته التحليلية في تعقب اختراق الجسد لمختلف الحقول الدلالية وتحولاته الوظيفية والعلائقية. هكذا ترتسم ملامح ثنائية جنسية من خلال قدرات الزوجة المدللة في الرماية (ص15)، حيث القدرة بارومتر جنسي يكشف حجم حضور المكون الذكوري (الانيموس) في الشخصية الأنثوية. كما تتحدد الثنائية الجنسية من خلال المحددات البيو-نفسية التي تترجم حقيقة البناءات النفسية والبيولوجية اللامفكر فيها "حرك فيها مواجع الذكورة التي تحمل شيئا من هرموناتها" (ص25).

وتبلغ المطرقة التخييلية للقاص مداها بتسليط الضوء على المثلية الجنسية للالة صافو التي "تعيش، تنشق وتعشق أجساد بنات جنسها" (ص23)، وفي ذلك تشريح سيكولوجي للدوافع المثلية اللاشعورية المتجذرة في بنية الذات الراغبة. "صافو تهيم بمثليتها " (ص23)، و "تغترف اللذة من جسد رفيقتها" (ص23)، بل و تخرج المثلية من مجال الكمون الى مجال الفعل الجنسي عندما "تمسد الكلاسة ظهر الحسناء وتؤدي طقسا...استدعاء لرغبتها المجنونة...قبل أن تخمد" (ص24).

بانتقالنا إلى العالم الذكوري، تتغير زاوية التصوير والبناء الدلالي للحكي، لأن القاص يعي تماما الحقيقة الاجتماعية للجسد الذكوري كبناء سوسيوثقافي داخل النسق الباطريركي، حيث يحضر كجسد وظيفي يتوزع بين فعل الجسد (الكتابة، الصيد، التدخين...) وحركة الجسد (الارتطام بالكراسي، السقوط في الجرف، الاصطدام بالسيارة...). كما يتأرجح الجسد الذكوري بين كونه موضوعا لقمع السلطة؛ أي الجسد الموصوم لذلك الشاب الذي بأذنه خرم (ص64)، وبين كونه مصدرا لممارسة السلطة و تمظهراتها القمعية (المقدم). في هذا السياق، جادت قريحة القاص التخييلية في تصوير الجسد في بعده العلائقي بغاية الإمساك إما بفاعليته السلطوية أو مفاعيله الثقافية والسيكولوجية، عبر آلية السخرية كمقاومة فنية قادرة على تفكيك عبوته السياسية الفتاكة، وتحييد قوته القمعية، وإذلاله تحت ضربات الانتقام الاجتماعي. ففي لعبة قلب للمواقع، يُسخر الكاتب قدراته التخييلية، انطلاقا من منظور عميق لمفهوم السلطة وتجلياتها الثقافية، لإفراغ هذا الجسد من حمولته القمعية، وتحويله الى كيان يبتلع مرارة الإهانة وفقدان الكرامة الإنسانية. هكذا يضعنا السارد أمام ثلاثة خيارات لادانة جسد السلطة في سياق محاكمته:

التصفية الجسدية: وتروم سحقه بدحرجة صخرة على الجمجمة.

الوصم السيكولوجي: ويسعى الى إخصائه بقطع عضوه أو حشو مؤخرته بذرة.

المسخ الأخلاقي: وهذا هو الخيار النهائي، من خلال الحكم عليه بمضاجعة البغلة، وهي عقوبة قاسية تدين الفعل الجنسي للجسد وتقحمه في حقل الجنس البهيمي.

أخيرا، لا يمكنني، وأنا أحتفي بهذه المجموعة القصصية الثمينة، إلا أن أترجم ما شعرت به من افتتان بالجمالية الأسلوبية والبلاغية للنصوص القصصية، و بقدرة القاص الخارقة على تطويع اللغة واقتيادها نحو مغارات الذات ومتاهات الرغبة ودهاليز السلطة. كما أسجل بهذه المناسبة، إعجابي بحدسه الأدبي العميق وحسه الثقافي الرفيع، الأمر الذي منح نصوص المجموعة القصصية أنفاسا فكرية أخرى و فتح أمام الناقد إمكانية استشراف وتوسيع آفاقها الدراسية، مادامت المجموعة القصصية تتنفس برئات الفلسفة والعلم والأدب.

 

كاتب مغربي- باحث في السوسيولوجيا - القنيطرة

هوامش:

* عيسى ناصري، مسخ ذوات الناب (قصص)، منشورات ديهيا، الطبعة الاولى 2016.

(1) Dominique Budor et walter Geerts (sous la direction de), Le texte hybride, Presses Sorbonne Nouvelle, 2004, pp.8-9.

(2) Philippe Met, La lettre tue : Spectre(s) de l’écrit fantastique, Presses Universitaires du Septentrion, 2009, p.24.

(3) Conférence de presse du docteur Jacques Lacan au Centre culturel français, Rome, le 29 octobre 1974[1]. Parue dans Les Lettres de l’École freudienne, 1975, n° 16, p. 23.

(4) فريد الزاهي، النص والجسد والتأويل، إفريقيا الشرق، بيروت، ط1، 2003، ص.25.Bas du formulaire