يصور القاص المغربي في نص مكثف وبلغة شفافة تتماهي مع ثيمة الوحدة التي يشعر بها الإنسان الوحيد في الصمت في حركة جسده في تلمس موجودات المكان وحركة الآخرين ليخلص إلى فداحة ذلك الشعور على الإنسان.

فراغ هائج

نجيب الخالدي

رغم بصرها الفاتر مثل نور يتلاشى خيطه على حافة الأفول، تتحرك في خفةٍ نظراتُها صوب كل اتجاه، تتعقب دأب العابرين، تلاحق الخطوات والحركات وتسعى إليها بجموح رغبتها، لكن تلفيها منفلتة عصية على الإمساك، فتسرح في امتدادها الضيّق وتهيم في تموّجات الفراغ وكأنها تبحث عن شيء أو لا شيء.

تشعر بدبيب برودة طفق يتسرب إلى أوصالها فتلتمس الوقوف، وخوفا من وقوعها، تسند كفيها إلى شجرة جرت العادة أن تحتمي بها كلما أضناها المسير في طريق التيه. تجذبها قدماها المتعثرتان في الضعف نحو أيّ مكان دنيّ أو قصيّ، على الأرض أو تحتها أو خارجها...

تحبس فجأة خطوها الوئيد لما رصد نظرها فتاتين تلتقطان الصور في احتفالية معلنة، وتنفجران بين الفينة والأخرى ضحكا وقهقهة، فتتربص بهما، تقلص المسافة بخطاها الضيقة، تدنو أكثر فأكثر ثم تنطلق. تحييهما بتلكؤ لسانها، تسارع إلى مدّ يدها لمصافحتهما، تتراشق الفتاتان النظرات ثم تنسلّان في خفة الريشة لتطيرا بحثّ الخطى بعيدا.

تقودها قدماها من جديد صوب شابين تلتقطهما عن قرب، يجلسان على كرسي إسمنتي يتبادلان أطراف الحديث، يحضّها اندفاعها المتثاقل نحوهما، توجّه إليهما السلام ثم تجلس في اطمئنان وأناة بجانبهما. يتدفق على صفحة تقاسيمها انشراح دافئ سرعان ما نضبت عينه، بعد أن همّ الشابان بالمغادرة وهما غارقان في لجج الكلام، تودّع انصرافهما وترافقهما بنظراتها إلى أن اختفيا في ضباب بصرها.

تتحرك صوب حاشية الكرسي، يحتوي بصرها فراغ المكان بجانبها، فيخفق قلبها بعد أن فسُح أكثر، فقد تغري فُسحته آخرين ويقبلون عليه مسرعين متهافتين. تمدد كفها تلامس هذا المكان وكأنها تتحسس الاسمنت أو تقيس بلمسها درجة حرارته كما تفعل أحيانا في عز البرد أو شدة القيظ.

تُقلّص امتدادَ ذراعها لمّا تسرب إلى سمعها جلبة على ضفاف موقعها، فتتوسم فيها الخير الوفير، وتتهيأ بصوتها المتجمّد لمناسبة قد تجود بها السماء ذهبا أو فضة. يلج المكان من بابه المشرع رجل وامرأة، تتهلل أساريرها على الفور، تنفرج شفتاها عن ابتسامة رضيّة تفصح عن نفسها كلما اخترق مثل هذا الولوج حيّزَها، أو توقعت منه إقبالا على تواصل معها. تتسلل إليهما عبر دروب هذا الحضور الثمين، تختلس الفرصة لتبثّ تحيّتها المفعمة بدفء نابع من البرودة التي تسكنها، لم تمهل الزمن لحظة، فيتحرر من عقاله سؤال عن الصحة والأحوال. تردّ الزوجة على زوجها، ويردّ الزوج على زوجته، ثم يغرقان في لجّة قول بلا حدود عن الأبناء والأعباء والمتاهات.

تتحسس روحها المكان من جديد وقد برحه للتو الزوجان، تطلق يدها فيه، تتمسّح به تمسُّح يد بفرْو قطة أو جرو أو أي حيوان أليف. يتواصل مكوثها بحافة الكرسي، يتوالى تحديقها في هؤلاء المارّين يمنة ويسرة وفي كل ميْل واتجاه، وهذا الخَواء الجاثم على صدر جنباتها، ترشقه بنظراتها، تمطره بزخات نبضها، تفجرّه همسا باردا يوشوش في سمعها... ثم تتمدد في رحابه، تفترش انبساط أرضه، تتوسد ذراعيها وهذا الفضاء مترامي الأطراف.

 

najyb3@hotmail.com