يواصل الباحث العراقي هنا تحليله لأفكار ديريدا في صيدليته الأفلاطونية في محاولة لتأسيس بلاغة جديدة تبحث في كل ما تم السكوت عنه في فلسفات العلوم والدراسات اللسانية والحجاجية، وتُعنى بتفكيك اثريات مفاهيم الحقيقة؛ المعرفة؛ المعنى؛ نزعة العقل والعقلانية؛ النزعة الموضوعانية؛ سياسة إنتاج المسوغات والمبررات.

صيدلية دريدا الأفلاطونية

في تفكيك بلاغة العلاج الميتافيزيقي للسفسطائية

(القسم الثالث)

حيـدر علي سلامة

 

سعينا في الأجزاء السابقة من هذه الدراسة، إلى إعادة التفكير/ والتأويل لطبيعة العلاقة التاريخية الملتبسة بين كل من: قراءة دريدا لتاريخ الفكر السفسطائي في الفلسفة الغربية من جهة؛ ونقد الأسس الافلاطونية التي مثلت ميتافيزيقا الحضور الدائم في قراءة وفهم دريدا لتحولات السفسطائية من خلال المحاورات الافلاطونية من جهة أخرى. وفي هذا الجزء، سوف نحاول الاستمرار في إعادة فتح ملف البحث والتأويل والتحليل لبنية "ميتافيزيقا الحضور" عند دريدا، التي سوف يتم تناولها والتعامل معها، ليس من خلال ما تم تثبيته وتقعيده في مختلف البحوث والدراسات سواء كانت فلسفية او لسانية او ادبية .. الخ. بل على العكس من ذلك تماما، وذلك لان مجمل هذه البحوث والترجمات المتعلقة بدريدا، لم تنجح في تأسيس ما اصطلحت عليه بـ"فلسفة المقاربات المنهجية" التي لا تقف عند تخوم العرض التقليدي والسرد المكرر والتآلف الثابت والدائم مع شروحات فكر وفلسفة دريدا، التي تكاد إن تتحول الى ميثولوجيات ولاهوت فلسفي ما بعد حداثي جديد، لا يمل من تكرار "برهاني" لمقولات دريدا الارثوذكسية حول نقد المركزية الغربية؛ وميتافيزيقيا الحضور؛ وفلسفة الاختلاف والتفكيك والهدم.

من هنا، فأن بداية القراءات التي سوف نقدمها في هذا الجزء، سوف تكون مختلفة وغير منتمية لمجمل "ميتافيزيقا القراءات الفلسفية حول دريدا" كتلك السائدة والمسيطرة في اوساطنا الفلسفية والثقافية واللغوية واللسانية. وبالطبع هذا يعتبر استمرار لما بدأنا به في الأقسام السابقة. لكن ما الجديد في هذ ا القسم؟ وما هو المختلف فيه؟

ان الجديد بكل بساطة هو إعادة اكتشاف مفهوم "ميتافيزيقا الحضور عند دريدا" وذلك ليس من خلال المفاهيم الراكدة والثابتة والمتداولة في معاجم النقد الأدبي والدراسات الفلسفية والتأويلية عندنا فحسب، بل من خلال فلسفات العلوم والابستمولوجيا وتاريخ النظرية السياسة وفلسفات الأخلاق والعدالة وماشابه. وهذا بطبيعة الحال، سوف يقودنا إلى اختبار مفهوم "ميتافيزيقا الحضور" بمناهج البحث النوعي qualitative inquiry ومناهج البحث الكمي quantitative inquiry وهذه الأخيرة سوف تمثل فيما بعد مفهوم "ميتافيزيقيا ميتافيزيقا الحضور". بمعنى آخر، ان كتاب دريدا" صيدلية افلاطون" سوف لا يتم التعامل معه باعتباره يمثل وثيقة فلسفية تعكس تاريخ الصراع بين سلطة الكتابة والكلام وعلاقتهما بتاريخ الميتافيزيقا في الفكر الغربي، بقدر ما يمثل مقدمات أولية واساسية للانتقال بالفكر الفلسفي: من سلطة الابستمولوجيا الابستيمية إلى ابستمولوجيا الابستيم الانقلابي "البلاغة الجديدة للابستمولوجيا"، وقد عبر مفهوم النسبية في الفلسفية السفسطائية عن هذا المفهوم الأخير خير تعبير. ولتوضيح الفرق والصلة بين المفهومين وعلاقتهما "بفلسفة المقاربة المنهجية" التي ذكرناها أعلاه، وجب الوقوف عند طبيعة هذين المنهجين والبحث فيهما، من حيث نظامهما المعرفي والتحليلي والبنيوي، فمن خلال هذا البحث سوف تتضح طبيعة تشكيل نظام البيانات/ المعطيات/ المعلومات data التي هي في واقع الأمر تعكس لنا طبيعة الوقائع "وكينونتها الثابتة". وبالتالي، فأن البحث في بنية النظام الكمي/ والكيفي، سوف يكشف لنا عن إشكالية البحث في عملية تشكيل هذه المعطيات، التي تحولت إلى أسس ومبادئ أولية مطلقة، تمثل جاهزيات المعرفة والوجود الإنساني، بمعنى آخر إنها تمثل ما اصطلحنا عليه أعلاه بـ" ميتافيزيقا ميتافيزيقيا الحضور".

-جدلية البحث الكمي والنوعي والبلاغة الجديدة لفلسفة الابستمولوجيا
ان إشكالية التمييز بين مفهوم البحث الكمي/ والنوعي هي إشكالية منطقية ومنهجية قبل كل شيء. فمن خلال هذا التمييز سوف نكتشف سلطة التفكير الاتساقي والشكلاني في المنهج وإنتاج المعطيات والبيانات والنماذج والاشكال اللغوية المختلفة، التي هي في نهاية المطاف سوف تعيد ترسيم وصياغة الأنظمة الابستيمية للفكر والوجود والثقافة المتحولة جميعها الى تشكيلات بنيوية مغلقة.

وبذلك، تكمن ضرورة هذا التمييز في ما قد يساهم فيه من تحليل المعطيات/ البيانات/ المعلومات ومجمل الأشكال اللغوية المتكونة معها بهدف تفكيك "سلطة البحث" القابضة على تاريخ تلك البيانات والأنواع اللغوية والمعاني الثقافية المختلفة. واهم ما يمكن ملاحظته بين هذين النوعين من المناهج هو التالي: «يجري النظر إلى المعطى الكمي بوصفه قوي محكم، بينما يكون المعطى النوعي ثري وعميق؛ وفي الوقت الذي تميل فيه الاستراتيجيات البحثية في التحري الكمي لأن تكون بنيوية بشكل عالٍ، نجدها في التحري النوعي ليست بنيوية إلى حد ما؛ تتسم العلاقة الاجتماعية بين الباحث وزميله في البحث الكمي بنوع من التحفظ، بينما نجدها في البحث النوعي بنوع من التقارب؛ أما نتائج البحث في البحث الكمي فهي تميل عادة لاكتشاف قوانين عامة وكلية nomothetic بينما نجدها تميل في البحث النوعي لدراسة واكتشاف الوقائع العلمية والعمليات كونها متميزة ومختلفة idiographic عن القوانين العامة. القوانين العامة تشير الى دراسة الجماعات وفئات الإفراد، كونها تقود الى شروحات معممة generalised explanations، في حين ان الايدوغرافيك idiographic تشير إلى دراسة الفردي بماهو فردي؛ من جانب آخر، في حين يجري النظر إلى الواقع الاجتماعي في البحث الكمي، بوصفه كينونة ثابتة ومستقلة عن الإفراد، نجد في البحث النوعي أن الواقع الاجتماعي يمكن تشكيله/ وإعادة تشكيله من قبل الإفراد.» Dennis Howitt, introduction to qualitative methods in psychology, pearson, 2010,p 9-10

وبما اننا هنا نسعى الى إعادة اكتشاف لغة البلاغة الجديدة في الابستمولوجيا ومناهجها، اذن لابد من معرفة شكل اللغة السائد في البحث الكمي والنوعي ، لان ذلك سوف يكون المرشد الى كشف "اثريات ميتافيزيقيا ميتافيزيقا الحضور" في خطابات المؤسسة الاكاديمية عامة؛ والمؤسسات الاجتماعية والثقافية والقانونية خاصة. وعليه، فأن أسلوب استعمال اللغة في كلا المنهجين- أي الكمي والنوعي-سوف يحدد لنا طبيعة اللغة السائدة والمسيطرة في فلسفات العلوم، وبالتالي فأن هذا سوف يتيح لنا طرح السؤال حول غياب بلاغة جديدة في خطابنا الفلسفي والابستمولوجي واللساني والحجاجي أيضا؟

وهنا، فأن طرح المشكل اللغوي سوف يحدد لنا أيضا العلاقة المنسية بين الواقع واللغة وميتافيزيقا الحضور. حيث نجد ان: «البحث الكمي غالبا ما يستعمل معطى اللغة او بيانات اللغة ومعلوماتها كأنها معطى يمثل الواقع بشكل مباشر (أي ان البيانات تشير الى شكل معين من اشكال الواقع)، بينما ان اللغة في بعض مناهج البحوث النوعية تأخذ بوجهة النظر التالية كون ان اللغة ربما هي نافدة نحو الواقع ولا يمكنها ان تتمثل الواقع.» (المصدر نفسه، ص 7)

من هنا، فأن إشكالية السؤال عن مفهوم "البلاغة الجديدة للأبستمولوجيا" سوف يقودنا الى إعادة نقد صلاحية مفاهيم العقل والعقلانية والعقلنة، ذلك لأنها في النهاية تكرس للمناهج الكمية. وبالتالي، فهي تصف عمليات تشكيل الاحترافية professionalizationالتي تنطلق من مبادئ أولية ثابتة ومؤكدة certain axioms يجب القبول والتسليم بها. بمعنى آخر، ان جوهر البحث في النزعة الاحترافية هو قائم في الأساس على سياسة النزعة الشكلية formalism في العلوم والبحث والكتابة. وبطبيعة الحال، ان البحث عن إمكانية ابتكار بلاغة جديدة في ظل هذا الابستيم العلموي المنغلق باتت مستحيلة وغير ممكنة، لان مسار البحث هنا هو كمي والخطاب العلمي تسيطر عليه النزعة الموضوعانية النظرية objectivism حيث تعتمد هذه النزعة على: «المعاني الحرفية للأحداث والوقائع والعمليات التي تتكون بشكل رياضي ضمن افتراضات غير لسانية nonlinguistic حول ما يمكن ان يكون الاتفاق عليه بشكل كلي . مثل هذه الافتراضات هي نفسها تعتمد على النزعة الواقعية للمعنى meaning realism. أي، واقعية المعاني التي لها دائما مرجع موضوعاتي ثابت».Thomas R. Lindalof, qualitative communication research methods, sage, 1995, p 23.

مما سبق، يتضح لنا ان هناك ثمة علاقة إشكالية بين مفهوم المعنى؛ والواقعية؛ وتكنولوجيا البحث، هذه التكنولوجيا هي التي سوف تشكل ما اصطلحنا عليه سابقا بـ"ميتافيزيقيا ميتافيزيقيا الحضور" حيث يكون المعنى له حضور سابق على وجودنا، مما يجعله ثابت وراكد (وتحصيل حاصل مسبق). فالنزعة الواقعية للمعنى، هي التعبير الأمثل لأيديولوجيا البحث الكمي، بل هنا تكمن اهم الفروقات بين البحث الكمي والنوعي: «فمناهج البحث النوعي تتميز عن مناهج البحث الكمي في أن مفهوم البداهة evidence ، لا يستند على منطق العلوم الرياضية، مبادئ الاعداد، او مناهج التحليل الاحصائي». (المصدر نفسه، ص 21 ).

أليس من المبكر إذن، الحديث عن مفهوم البلاغة الجديدة للابستمولوجيا، لطالما ان مفهوم available knowledge أي المعرفة المتاحة والمصدق عليها مسبقا، هي التي تشكل جسد الابستمولوجيا وفلسفة العلوم. وبالتالي، توقف البحث عند حدود الابستمولوجيا التقليدية بوصفها نظرية في المعرفة، كما هو شائع في أوساطنا الفلسفية والثقافية، وحال دون الانتقال إلى تخوم الابستمولوجيا الثقافية التي تعبر عن البحث في اساسات المعرفة the grounds of knowledge وتفكيك أسس الحقائق الثابتة والمطلقة فيها، وإعادة التفكير حول اعتقاداتنا الميتافيزيقية والأخلاقية حول العالم والوجود و الأشياء (ميتافيزيقيا ميتافيزيقيا الحضور).

من هنا، فأن بحثنا في إعادة التفكير بمفهوم "البلاغة الجديدة" للأبستمولوجيا ،هو في واقع الأمر، بحث في أسلوبيات المنهج لدى الكتاب والباحثين، الذين اصبحوا هم انفسهم من يعيد أنتاج "ميتافزيقيا ميتافزيقيا الحضور" كما هو الحال عليه في سلطة طبقة المحترفين من مثقفين وأكاديميين ومختصين ...الخ. وكأن صيدلية افلاطون لدريدا، لم تعد محددة بأبستيم الكلام والكتابة فحسب، بل بالسم المنهجي الاحترافي/ الكمي؛ والترياق المنهجي النوعي/ أو نقد أيديولوجيا المأسسة الكمية للوجود والثقافة والقانون والقيم والأخلاق.

-الابستمولوجيا الاقناعية وإشكالية الانطولوجيا الواقعية
ان إلاشكالية الاساسية التي شرعنا في البحث فيها، تكمن في إعادة تفعيل العلاقة التاريخية المسكوت عنها بين كل من: الاقناع الابستمولوجي؛ والانطولوجيا الواقعية؛ والبلاغة الجديدة للابستمولوجيا. وبطبيعة الحال ان البحث في مدارات ومسارات الخطاب الابستمولوجي اصبح يشكل المدخل الأساسي لمفهوم طبيعة هذه البلاغة من جهة؛ ونقد سلطة المنهج وايديولوجيا المناهج وسياسات البحث والكتابة التي امست تمثل معنى "ميتافيزيقا ميتافيزيقا الحضور"، من جهة أخرى.

من هنا، تتأتى ضرورة وأهمية التمييز بين مفهوم الإقناع الابستمولوجي epistemological persuasion ومفهوم التسويغ؛ التبرير؛ الصلاحية الابستمولوجية epistemological warrant. ومن خلال ما تقدم أعلاه، نلحظ كيف أن مفهوم التبرير الابستمولوجي يقف على طرفي نقيض من الإقناع الابستمولوجي أو الابستمولوجيا الاقناعية، وذلك لان بنية "نظرية المعرفة" في ابستمولوجيا الصلاحية، تبقى مرتبطة وبطريقة حتمية بسلسلة من الحقائق العقلانية الثابتة والموجودة في شكل بداهة سارية المفعول بصورة مطلقة available evidence، مما يؤدي إلى سيادة ما يعرف بـ "النزعة المنطقانية logicaism. وهنا سوف يتم طرح وتأويل إشكالية العلاقة بين مفهوم : الانطولوجيا والابستمولوجيا والميتودولوجيا (علم المنهجية) يمكننا أن نعد هذه العلاقة من التابوهات المسكوت عنها في الدراسات اللسانية والحجاجية والبلاغية إضافة إلى الفلسفية وفلسفات العلوم، وقد انعكس ذلك سلبا على تشكيل مناهج البحث والكتابة في مختلف حقول العلوم الإنسانية، التي ما زالت بعيدة كل البعد، عن إعادة التفكير والتمييز بين ما هو كمي وما هو نوعي في إنتاج المفاهيم والمصطلحات والمقاربات الثقافية والعلمية.

لهذا، فأن إشكالية العلاقة بين الابستمولوجي؛ الانطولوجي؛ المنهجي تمثل المدخل الأساسي والرئيسي لفهم مفهوم "البلاغة الجديدة للابستملوجيا" خاصة، عندما ننظر إلى البلاغة الجديدة بوصفها مفهوم يعبر عن تفكيك هيمنة الابستملوجيا على تاريخ الانطولوجيا، أي، سلطة التفسير العقلاني الحرفي على التأويل البلاغي للوجود والعالم. وعليه، فأنه من المهم الإشارة إلى أن مفهوم البلاغة الجديدة للابستمولوجيا «يتجنب المغالطة الابستيمية/ المعرفية التي تتركز في الخلط بين النظام الانطولوجي مع النظام الابستيمي/ المعرفي، وبين الأولوية في الوجود مع الأولوية في تقرير طريقة الادعاء بالوجود. وبشكل مشابه، عارض فيلسوف العلم- مابعد الوضعية والموضوعانية والعقلانية- بهاسكار النزعة العقلانية منذ أن اختزلت الانطولوجيا إلى الابستمولوجيا باستنادها على الحقائق النظرية المفاهيمية والضرورية لصناعة معنى للعالم» Steve Smith, Ken Booth marysia zalewski, International theory:Positivism&beyond,Gambridge,1996,p.26

اتضح لنا، أن طبيعة البحث في البلاغة الجديدة للابستملوجيا، لا ينبغي له أن يتشكل من دون إعادة النظر في مجمل المزاعم الداعية إلى: «المعرفة الموضوعانية التي لها هيمنة ابستمولوجية في الجدال القائم بين النزعة العقلانية والنزعة التجريبية اللتان تعبران عن خطأ أساسي ومتأصل». (المصدر نفسه ص، 27). وهو ما يسعى مفهوم البلاغة الجديدة للابستمولوجيا إلى أن يتجنب الوقوع فيه، فهو لا يعيد الأخطاء المتأصلة والأساسية، بل على العكس تماما، أنه يعمل بالضد من كل ما هو متأصل في بنية البحث والكتابة وتشكيل المقاربات في حقول اللغة والبلاغة والفلسفة والحجاج.

وعليه، فأن البلاغة الجديدة للابستمولوجيا، سوف تبحث في كل ما تم السكوت عنه في فلسفات العلوم من جهة؛ والدراسات اللسانية والحجاجية والمنطقية من جهة أخرى. بمعنى آخر، أنها سوف تبحث فيما اصطلحنا عليه سابقا بـ" ميتافيزيقيا ميتافيزيقيا الحضور". أي أن البلاغة الجديدة هنا، تُعنى بتفكيك اثريات المفاهيم التالية: الحقيقة؛ المعرفة؛ المعنى؛ نزعة العقل والعقلانية؛ النزعة الموضوعانية؛ سياسة إنتاج المسوغات والمبررات. وهذا يشير، إلى ان مفهوم البلاغة الجديدة للابستمولوجيا، يختلف تماما عن مجمل "مفاهيم البلاغة الجديدة والدراسات الحجاجية المسيطرة في أوساطنا الأكاديمية"، لأنها ببساطة شديدة تعمل على (تثبيت الأخطاء المتأصلة) في الفلسفة والابستمولوجيا وفلسفات اللغة واللسانيات. أن هذه المفاهيم المسيطرة منفصلة ومستقلة تماما عن الوجود وتاريخه وإشكالاته الثقافية والتاريخية، أنها لا تؤرخ إلا لابستيمها التراتبي والسلطوي المنغلق والضيق.

بمعنى فلسفي نقدي، أن عمليات تشكيل البحث في العلوم الإنسانية عامة واللسانية والحجاجية والفلسفية خاصة يمكن تصنيفها بمرحلة ما قبل "الانطولوجيا النقدية" critical ontology، أي تلك الانطولوجيا التي تحافظ على نظامها الدوغمائي، باعتباره نظام يعاد تشكله وصياغته بواسطة "بنيات ضبط وتوجيه قبلية" تؤسس لانطولوجيا إقليميةregional ontology محددة ضمن ما يشبه مواضع مشتركة خاصة بخطاب معين. (للمزيد ينظر:philosophical Essays,Critic Rationalism as historical-Objective Transcendentalism, Brussels,2011,p 32-33 Giulio preti,

أن تقنيات البحث والكتابة في الابستمولوجيا هيمنت على تاريخ الانطولوجيا، بمعنى، أن مفهوم الانطولوجيا هنا أصبح يعبر ويشير إلى مفهوم "ميتافيزيقيا ميتافيزيقيا الحضور" حيث الهيمنة تكون دائما لاستعادة تلقائية/ آلية لشكل ابستمولوجي واحدي auto-epistemology ولشكل تاريخ واحد auto-history. (( ومن الضروري أن نشير أولا إلى أنه شكل من اشكال الابستمولوجيا التجريبية ، لذلك النوع الخاص من التجريبية الذي يمثل الابستمولوجيا التاريخية historical epistemology . وهذا سيكون عاملا مساهما في تجنب خطر الوقوع في الابستمولوجيا التاريخية التي تحولت إلى موضع عام متضمن على مجموعة الإثباتات القبلية apriori statements حول تاريخ العلم. من الواضح ذلك في أن تركيب الابستمولوجيا التاريخية بذاتها لذاتها إنما تخضع للمثال العلمي «أي تسلم بالمقولات؛ البدهيات/ لمسلمات والمبادئ المنطقية». (المصدر نفسه، ص 69).

إذن، أن مفهوم الابستمولوجيا التاريخية هنا، لا يعبر في واقع الأمر، عن نقد أسس الانطولوجيا التقليدية القديمة، بقدر ما يشكل نقد تلقائي/آلي auto-critism علمي مستقل، تتمثل وظيفته في إعادة مأسسة الوجود بأطر كلية ومنطقية متعالية (النزعة الشمولية لماهو كلي Universal Universalism). ).للمزيد ينظر:New Left Review,63 May-june 2010,p117. من هنا، فأن واقع تشكيل "بلاغة جديدة للابستمولوجيا التقليدية" لا يمكن له أن يتحقق، ما لم يتم الانعراج بانطولوجيا البحث والكتابة ونقد المنهج وتفكيك سياسة إنتاج المفاهيم الشمولية والكلية التي تكاد أن تتحول إلى نسق متسق ومغلق من الشعارات والإيديولوجيات الفارغة، كتلك التي تتغنى بالعقلانية والحداثة وما بعد الحداثة وما بعد بعد الحداثة. وذلك ببساطة، لان مفهوم البلاغة الجديدة للابستمولوجيا لا يمكن له أن ينفصل عن فلسفة البحث والكتابة ونقد تاريخ الانطولوجيا والابستملوجيا في المؤسسات الأكاديمية من جهة والمؤسسات الثقافية من جهة أخرى.

البلاغة الجديدة للابستمولوجيا وتفكيك ابستيم المطابقة
نخلص مما سبق طرحه، أن مفهوم البلاغة الجديدة للابستمولوجيا، هو مفهوم يركز على إعادة قراءة وتأويل الاتجاه المثالي للنظرية ideal-oriented theory. حيث يجري النظر للمثال في هذا الاتجاه : «باعتباره جزء من الواقع الاجتماعي: انه بذاته يكون واقعة fact، قد لا تكون قابلة للملاحظة بطريقة مباشرة، ورغم ذلك فهي موجودة هناك في المجتمع؛ هذا المثال يشكل نقطة انطلاق بدء لإعداد الاستنتاجات المعيارية لدى المنظرين، لذلك تكون الحدود بين ما هو وصفي ومعياري مشوشة غير واضحة. المثال هو كمون في الواقع . يتجذر في وجود المواقف بوصفه المقاييس التي ترافق عملية تطور أي نظام معياري كان». wibren van der burg and Taekema,the importance of ideals, debating their relevance in law, morality, and politics, Brussels,2004,p14,15.

لهذا، أن مفهوم البلاغة الجديدة للابستومولوجيا/ والانطولوجيا يساهم في إبتكار مقاربات فلسفية جديدة بين كل من: ميتافيزيقيا الحضور؛ والمثال؛ وفلسفة القيم والأخلاق والنظرية السياسية. على اعتبار أن إشكالية الحضور مشابهة لإشكالية المثال في العالم، خاصة إذا علمنا أننا هنا نتعامل مع مفهوم المثال/ الحضور ليس باعتبارهما مفاهيم نظرية مجردة فحسب، بل أنها تمثل في الواقع إشكالات واقعية وتاريخية تعكس عملية تحول القيم والأخلاق إلى وقائع قانونية وسياسية، تشكل من جديد طبيعة وانطولوجيا المثال في العالم. من هنا، تأتي إشكالية المثال، فهل له وجود واقعي أم هو مجرد متخيل ميتافيزيقي مطلق؟ هل له علاقة بالواقع الإنساني؟ كيف يمكن له أن يشكل/ ويعيد تشكيل كينونة القيم والأخلاق؟ كيف يمكن للمثال أن يتحول إلى قيمة وممارسة إنسانية وقانونية؟ وكيف يمكن له أن يتحول إلى ميتافيزيقيا حضور؟

إن البحث في طبيعة القيمة/ والفعل في كل من: ميتافيزيقيا الحضور والنظرية المثالية، هو القاسم المشترك الأكبر بينهما. وهذا ما يشير إليه مفهوم التفكيك من خلال «ميتافيزيقيا الحضور التي تكشف لنا كيف يجري، داخل عملية التواصل، تمييز القيمة الأولى بوصفها حضور؛ فاعل، وامتياز مُفضل، وكيف يجعل من القيمة الثانية غياب، غير فاعل أو مستتر. أن مهمة التفكيك إنما تكمن في أن يعرض لنا كيف تكون تلك "التراتبيات" هي الأساس الانطولوجي لجميع الظواهر، هذا من جهة ومن جهة أخرى، في أن يكشف الطريقة التي جرى فيها تشفير النصوص المكوِّنة لتلك التراتبيات» Eugene McLaughlin and john Muncie, the sage dictionary of criminology, 2008, p.113)

وهذا واحد من أهم ما تنشغل به البلاغة الجديدة للابستمولوجيا يتمثل في البحث في ديناميكا المثال، وليس في كيفية تمثل المثال، كما هو الحال عليه في أنماط البلاغة الجديدة المروج لها في خطابنا الأكاديمي اليوم. وعملية البحث في إشكالية ديناميكا المثال لا تنفصل، في واقع الأمر، عن العلاقة المتداخلة بين الكتابة؛ والبحث؛ وصياغة وتشكيل النظرية، فيما لو اردنا تسليط الضوء على راهنية المثال والبحث عن واقعيته ووظائفه الانطولوجية والتوتولوجية. بمعنى آخر، أن مفهوم البلاغة الجديدة للابستمولوجيا منهمك في تحولات المثال وليس في مدى واقعيته الثابتة والمتعينة، وهو جزء لا يتجزأ عن طرق كتابة البحوث وتحولاتها النظرية والفلسفية. وهذا ناتج عن أن هذا المفهوم الجديد للبلاغة يعتبر أنه: «حتى يمكن فهم المثال ضمن صيرورته، ينبغي أن ينظر له بوصفه قيّم جمعية، عادة ما تكون غير قابلة للتحقق بشكل كامل. وعادة ما تتضمن في الممارسات القانونية، الأخلاقية والسياسية، وغالبا ما يصعب صياغتها بصورة مضبوطة. وهي تعمل كبوصلة تتحكم في اتجاه تلك الممارسات، ومن ثمة، فهي تلعب دور في التحفيز على الفعل وفي تبرير القرارات والآراء» wibren van der burg and Taekema, the importance of ideals,p.18. وهو، ما يوفر للمثال/ وميتافيزيقيا الحضور حصانة أيديولوجية ideological immunizaton «تتلازم مع ولاء شديد مطلق للمثال. وفي هذه الحالة، غالبا ما يبدو الجدل عقيما، ذلك لأنه بكل بساطة تكرار لمواقف أيديولوجية، ولا يقدم أي فرصة لتغيير في وجهات النظر، أو لتبنيها بوصفها نتيجة للنقاش. إن حقيقة أن الناس كثيرا ما يعرَّفون بقوة بالمثال والايديولوجيا الخاصة بهم».(المصدر نفسه، ص 25).

أن الإشكالية الأساسية المطروحة في النص أعلاه، تتمثل في أهمية البحث في جينالوجيا تشكيل أنظمة استدلالاتنا وأحكامنا المنغلقة بسبب ديمومة وتحول صلاحياتها المستقلة، وهذا ما يعرف بـالوقوع في دائرة " المأزق الأيديولوجي" ideological stalemate حيث يساهم المثال في استئناف وإنتاج أحكامنا وقيمنا واستدلالاتنا التوتولوجية. ولو حاولنا النظر بدقة ابستمولوجية لما طرح اعلاه، سنلاحظ أن هناك سيطرة لمفهوم التطابق/التماثل الابستمي epistemic symmetry أو ما يعرف أيضا بـ ابستيم التفضيل الذاتيepistemic self privileging حيث نجد كيف أن طبيعة اعتقاداتنا واحكامنا في ظل هذا الابستيم المتطابق تتلخص في أن معظم أفعالنا متأسسة على مبدأ أننا نميل دائما إلى أن نفعل ما هو بدهيevidence ومنطقي logically. بمعنى اصح، أن جميع اعتقاداتنا لها ما يعادلها من صلاحية موضوعانية ، وبالتالي فهي معقولة أو منطقية reasonable وواضحة بذاتها self-evident .

مما سبق، يتضح لنا كيف أن هناك بلاغة بالغة الصغر micro-rhetoric ولها رغم ذلك انعكاسات معيارية واضحة، في نظرية المثال؛ وميتافيزيقيا الحضور. هذه هي البلاغة التي نسعى إلى تقويضها، لأنها بلاغة النزعة الموضوعانية rhetoric of objectivisme «التي ابتكرت مفهوم الحقيقة الواضحة بذاتها والواقع الموضوعي، بخصوص جوهر القيمة، والحق المطلق، من ذلك "المثال" الشامل ، الكلي، والمتعالي»Barbara Herrnstien Smith, Belief & Resistance, Harvard, 1997, p. 5

أن مفهوم "بلاغة النزعة الموضوعانية" يعبر، في واقع الأمر، عن أزمة بنيوية وشكلية متداخلة بين ما هو ابستمولوجي وما هو أخلاقي. خاصة وان أفعالنا الأخلاقية وتشكيلاتنا القيمية ما زالت خاضعة لابستيم انالوجي/ متماثل ومتطابق مع كل ما هو بديهي وعقلي ومنطقي سابق على أفعالنا ومقاصدنا في إنتاج الأفعال. وعليه، فأن طبيعة الإشكالات المذكورة أعلاه، تعرض لنا مخاطر واضرار سيادة مثل ذلك الانموذج من "البلاغة الابستيمية المنغلقة"وتؤكد في الوقت نفسه على ضرورة أن نعيد نقد وتفكيك أسس البلاغة المنطقية والابستمولوجية والأخلاقية، التي تكرس لاشكال بلاغية أيديولوجية، تمأسس كل ماهو منطقي وتوتولوجي. لهذا، فأن مفهوم" البلاغة الابستيمية" هو استمرار طبيعي لمفهوم "الانغلاق الابستيمي"epistemic closure الذي لا يقبل بتحولات الوقائع ما لم يتم وضعها بشكل صحيح وصارم داخل قوالب المبادئ المتفق عليها مسبقا.

خاتمة القسم الثالث:
1.
ان تشكيل مفهوم البلاغة الجديدة لفلسفة الابستمولوجياـ لاينفصل عن "مفهوم ميتافزيقيا الحضور"لجاك دريدا من جهة؛ وقراءة دريدا لمفهوم البلاغة في الفلسفة السفسطائية في كتابه "صيدلية افلاطون" والسؤال، فيما اذا كان دريدا قد عمل على اكتشاف "بلاغة ما بعد الابستيم المتطابق/ الانالوجي" في الخطاب السفسطائي، ام انه سار على خطى استاذه افلاطون في تثبيت "بلاغة النزعة الموضوعانية" التي اصبحت تمثل فيما بعد" ميتافيزيقيا ميتافزيقيا الحضور" مسيطرة في البحث والكتابة والكلام والممارسات الاخلاقية والقانونية والسياسية؟

2. ان مفهوم البلاغة الجديدة للابستمولوجيا الذي ظهر في نصنا، ينفصل عن مفهوم الابستمولوجيا التقليدي، الذي يعبر عن امكانيات المعرفة وحدودها وشروطها المنطقية والمعيارية الصادقة بالضرورة. بل ان البلاغة الجديدة هنا، تحاول ان تعيد تأويل هذه الابستمولوجيا العلموية الضيقة، للانتقال بها الى فضاءات الوجود والثقافة، لكونها تمر بتاريخية تكوين احكامنا وتشكيل مسوغاتنا واعتقاداتنا البدهية والصادقة والكلية، التي تتحول فيما بعد الى اعتقادات في كل ماهو قانوني؛ وسياسي، وضعي ثابت وراسخ في مجمل ممارساتنا التجريبية اليومية. بمعنى، ان البلاغة الجديدة للابستمولوجيا تبشر بأبستمولوجيا الابستيم الانقلابي.

3. يشكل مفهوم البلاغة الجديدة هنا، حلقة الوصل بين كل من: الدراسات القانونية؛ والفلسفية؛ والثقافية، وبالتالي، فأن هذا المفهوم لم يعد يعبر عماهو تقليدي وارثوذكسي/ ابستيمي يتمثل المبادئ الكلية/ المطلقة فحسب، بل انه يعمل على مطاردة تحولات هذا الابستيم ورصد تحولاته في نصوص البحث والكتابة والكلام وإعادة انتاجها في المؤسسات الثقافية عامة والاكاديمية خاصة.

4. يمكننا ان نعد مفهوم البلاغة الجديدة للابستمولوجيا يمثل مرحلة "ما بعد البلاغة الابستيمية المنغلقة على ذاتها "التي تأول الوجود حسب مبادئها العقلانية السابقة والمتعالية على تاريخ الممارسات الثقافية الانسانية، وهذا يعني، ان شكل اللسانيات في هذه البلاغة هو "اللسانيات التحليلية" التي لاتنفصل عن المنطق القبلي/ الوضعي ، المتحول دائما الى "ميتافزيقيا الحضور" في الوجود.

5. نتيجة لسيطرة" البلاغة الابستيمية/ المتطابقة" ساعد ذلك، على سيادة انطولوجية احادية مطلقة، تمأسس وجودنا ولساننا وخطابنا الثقافي بأنساق بنيوية وقيمية واخلاقية متسقة، توجه عمليات وصيرورة اذهاننا، وتجعلها في عبودية دائمة الى ايديولوجيا مبادئها العقلانية – اي الانطولوجيا- المنطقية المتعالية على التاريخ بالضرورة.

6. يأتي مفهوم البلاغة الجديدة، ليبدد سيطرة المثال/ والحضور الميتافيزيقي، الذي يحول المناهج والتيارات والحقول المعرفية ومختلف اشكال البحث والكتابة الى مجرد "هسسهة شعاراتية" لاعمل لها، إلا صناعة المانشيتات الدعائية: الحداثة؛ العقلانية؛ مابعد الحداثة؛ ما بعد بعد الحداثة.

 

للبحث تتمة ... يتبع بالقسم الرابع.

باحث متخصص في فلسفة الدراسات الثقافية/ وما بعدها.