يخلص الباحث إلى ضرورة تطور الثقافة الدينية في سياق يسعى إلى فتح الآفاق أمام التجديد، رغماً عن حساسية المسألة وتعالقها مع سؤال الثابت والمتحول، الأمر الذي يقتضي القيام بجهود نقدية والبحث المعمق في سبيل إيجاد مجتمع السلام والكرامة والعدالة والحرية.

الدين والصراع الاجتماعي

الطيـب تيزيني

 

أعتقد أن سؤال اللحظة الآن هو: لماذا راحت مسائل الصراع الديني والعنف الإيديولوجي عموماً تظهر الآن علناً وبأشكال فظيعة، وكأن ذلك كان خفياً وغير مباشر في أحيان كثيرة، إلى أن رحنا «نفاجأ» بما لم نكن نخمّن وجوده من قبل؟ ومع ظهور «داعش» بوحشيته الفظيعة، أخذ الناس يتساءلون عما تغير في التاريخ، وما يمكن أن يكونوا قد اقترفوه في حياتهم، بحيث تكون العقوبة أجساداً مذبوحة، وغالية الثمن!

في سياق ذلك برزت أصوات تطالب بالوقوف في وجه من يقترف قتل الناس. وأحدث ذلك هزة عميقة في أوساط المؤمنين، كما في أوساط المدنيين العلمانيين، متسائلين جميعاً، لِمَ يحدث ذلك؟! وخصوصاً أن من يقف وراء مثل هذا العنف «الداعشي» الفظيع، إنما أتى من خزّانات ظلام القرون، التي كانت مغلقة أو مُغطىً عليها، إلى أن أتت اللحظة المناسبة، ليظهر ما كان خبيئاً. وقد نجد أمامنا أمرين اثنين استطاعا الإبقاء على العنف والإرهاب المتولّدين من ظلام التاريخ في شِقّه الذي غطّى حياة الفقراء والمفقّرين ومن صُدِّعت شخوصهم فكرياً ونفسياً وأخلاقياً...الخ، أما الأول فيتمثل في العامل الفكري. وهذا العامل غالباً ما يتخفى وراء مصالح بعض ذوي السلطة الاجتماعية والسياسية والدينية...الخ. وقد شاهدنا الكثير من مظاهر هذه الحالة في التاريخ العربي الإسلامي.

وأما الأمر الثاني وراء تفاقم الإرهاب والعنف الدينيين فقد تكشفت مسوغاته في حالة «الغلبة» التي كانت تنشأ من وراء المصالح والمجموعات التي امتلكت القوة، بما يسمح لها بفرض سيطرتها في المجتمع عموماً، وهذا أمر ليس استثنائياً في تاريخ الشعوب، وإن كانت درجاته قد تختلف اتساعاً وقوة من ثقافة إلى أخرى.

وفي هذا البعد من المسألة يتجلى الأمر في التمييز بين نمطين من الدين في الثقافة المسلمة، وهو تمييز يتحدّر من الاختلاف بين فضاء الإسلام الأول، وهو ذلك المتّسم بلونه إسلاماً عقدياً يتحدد بالنسبة إلى المؤمن عبر بنيته، التي تتعلق بمستوى تمثله لإسلامه، بكل الاحتمالات والآفاق العقدية والنظرية. وأما الخط الآخر من الإسلام فهو المتجسد في المؤمن من حيث هو فرد في المجتمع، في عمله وعلاقاته مع الناس، أحياناً من ذوي انتماءات دينية وسياسية وأخلاقية وغيرها من الهويات المحلية والأجنبية المختلفة.

ها هنا نواجه حالة مركبة ومعقدة لا نستطيع إلا أن نقربها وندرسها ونلاحظ نتائجها على الفرد كما على المجتمع، وطبعاً فإن ذلك لا يعني ولا يجوز أن يعني أننا في الحالتين المذكورتين نواجه نمطين أو ربما أنماطاً من المسلمين. ولكن الأمر يتصل ببنية المؤمن المتلقي للمبادئ الإسلامية، كما بقدرته أيضاً على المواءمة بين أفعاله وبين ما يسود في مجتمعه. وتبقى الملاحظة أن المؤمن في عقيدته الإسلامية لا ينفصل عن كونه مؤمناً مجدّاً في اجتماعيته بما فيها من علاقات مودة أو صراع أو ما بينهما...إلخ. وحيث نمعن في مزيد من البحث في المسألة المطروحة إياها، فإننا نجد أنفسنا أمام أوجه أخرى تتصل بالتقدم والتحديد في إطار الهوية. وهذا يُظهر أن المسألة أكثر تركيباً وتعقيداً مما عرضناه.

ومن ذلك تبرز مسألتا الهوية والتغير بهدف التجديد بمثابتهما ثنائية جدلية يقتضي تطوير الواحدة منهما القيامة بجهود كثيفة تساعد على ذلك. ولعل هذا المحور يقع في صلب المسألة المطروحة، ما يستدعي التدقيق في ذلك عمودياً وأفقياً، ولكن ماذا يعني أن تتطور وتتجدد الثقافة الدينية في سياق يسعى إلى فتح الآفاق أمام التجديد؟! يجب أن أعترف بأن هذه المسألة ذات حساسية عظمى تظهر خصوصاً حين يفصح السؤال التالي عن نفسه: كيف يتجلى هنا احتمال التجديد أو التعبير المحدث مع الهوية؟ أو كيف تتجلى العلاقة بين الثابت والمتحول؟

إن الإجابة عن ذلك تقتضي القيام بجهود حثيثة وهائلة جداً من التدقيق والنقد والبحث باتجاه الإجابة المطلوبة.

وكل ذلك يتطلب الإمعان في البحث المعمق، وخصوصاً في مرحلتنا المعيشة، المتمثلة في مرحلة العدالة والحرية ومعظم القيم البشرية الخلاقة، في سبيل إيجاد مجتمع أو مجتمعات نماذج لما يحلم البشر به من سلام وكرامة وعدالة وحرية. إن هذا قد يعني بمجمل القول إنجاز ما لم ينجز حتى الآن، وربما ما يحلم البشر به جميعاً من سعادة مثلى. ولعل هذا أو بعضاً منه يجعل البشر كلهم، ما عدا استثناءات ترفض خروجها من تحت أعباء التاريخ، سادة مصائرهم المفتوحة.