يتناول الناقد السوري هنا أهمية الانزياح كقيمة جمالية تتعدى حاجز اللفظ، لتتغلغل في عمق المعنى. ويكشف عن مختلف تجلياته من خلال تناوله بالتحليل الدقيق قصيدة الشاعر اللبناني المرموق شوقي بزيغ، ليصل إلى أن الانزياح فيها انزياح مفتوح على عدة وجوه وأشكال مختلفة، يسمو إبداعياً بمحاورها التشكيلية كلها.

فنية الانزياح وأيقوناته المتحركة

في قصيدة «كم أنت أجمل في الحنين إليك»

عـصام شـرتح

 

1-نص القصيدة:
كم أنت أجملُ في الحنين إليك
شوقي بزيع
الآن تقترب القصيدة من نهايتها
وتشتبه الظّلال على المساءِ
الآن يبدأ ذلك الألقُ المراوغُ للحقيقةِ
عدّه العكسيّ،
للآلام ما يكفي من الشبهات
والشرفاتُ أضيقُ من حلول الذكرياتِ
على الشتاءِ
لا أرض تُرجع هذه الفوضى
على أعقابها
لأشمّ كامرأة على قبر
قميص لهاثكِ الملقى على جزع السرير
ولا تمائم كي أروِّض بالكلام الصِّرف
أحصنة الدماءِ
لا شيء يوقفني على قدَمَيْ رحيلكِ
أو يحالفني مع الضجر الملبّد بالخسارةِ
في فناء البيت،
محضُ يدينِ فارغتين في أبدية ثكلى
يدايَ،
وإذ تداهمني عواصفُ نأيكِ الهوجاءُ
تنشبُ حيرتي أظفارها كالقطة العمياءِ
في الغبشِ المرائي
كم أنت أجملُ في الحنينِ إليكِ،
كم ذكرى النساءِ أشدّ سحراً
في حساب العاشقينَ
من النساءِ
كم أنتِ بالغة الخفاء،
كأنما تتجاوزين هشاشة الأجسامِ
كي تتصالحي مع رغبة الفانينَ
في ترميم ما خسروهُ
من حلم البقاءِ
الآن تقترب القصيدةُ من نهايتها
تضيء يمامتا ذكراكِ
في غبشِ الظهيرةِ
كالنجومِ المستعادةِ من صراخ الليلِ
والنسيانُ يرفع ذلك الاسم الخماسيّ
المبالغ في تهدّجهِ
على خشب الشحوبِ
لا بدّ من هذا الفراق إذن
فأدرك أنني أعمى بدونكِ،
أنني النصفُ الضريرُ من التماعكِ
في الحصى الغافي
وحصة حاجبيكِ من انحناءِ الشمسِ
في قوس الغروبِ
لو كانت الأحلامُ أصدقَ من حنين الحالمينَ
لو القصائدُ لا تخون مؤلفيها
حين ينقلب الغناء على المغنّي
لاختلطتُ على أنينكِ
في فم القيعانِ
كالوتر الكذوبِ
صفراءُ ريحكِ في يباس الفقدِ،
أصفرُ ذلك الخفر المغطّى بالبثورِ
على ملامحكِ المطلةِ
من غبار الأمس،
أيتها الشبيهة بانبلاج يد ملوِّحة
على غرق الكتابة،
والتظاهرة الأخيرةُ للوداعةِ
في تفتحها على الآلام
كيف أُجيد تهجئة الروائحِ دون عطركِ؟
كيف أُفلح في احتساب الوقت؟
كيف أعيد تهدئة الأسرّةِ والوسائدِ،
أو أعدّ على الأصابعِ
ما تناثر من هبوبكِ
فوق صفصاف الجنوبِ؟
صدئٌ نحاسُ الوقتِ،
فحميّ صدى الأجراس،
مذبوحٌ شعاع الشمس فوق
أريكة الماضي،
الشتاءُ بلا يديكِ الطفلتينِ
يخرّ كالسحب القتيلة
عند أقدام الجبالِ
والبيتُ تنخرهُ الملوحةُ،
حيث لا قدماكِ في أرجائهِ
تتبادلانِ مهمة الطيرانِ
فوق رتابة الساعات،
لا كفّاك تنزلقانِ عن كتف الصباحِ
كرغوة الصابون،
لا عيناكِ تقتسمان بُنّهما المحيّر
مع ملائكة الأعالي
تترأس الفوضى جمالكِ
وهو يمعن في تصايحهِ مع الغربان
فيما لا يُرى مني
سوى أسمالِ ما خلّفتِ من وجع
تخثّرهُ الشهور على الظلالِ
في أي نهر
تهرقين الآن فاكهة اشتهائكِ،
أي صيف دائم الجريان
يبزغ مثل تغريد العنادلِ
من مسيل خطاكِ في الأيام
ثم ينام نوم الحوْرِ
في ريح الشمالِ
الآن تقترب القصيدة من نهايتها
إذن ستلفّق الكلماتِ لي ندماً
يناسب جسمكِ المغدور
في المرآةِ
والمنذور في المعنى لأسئلةِ الوجوهِ
تطأ النعومةُ نفسها
في ماء فتنتكِ الأليفِ
وينتشي بلعاب نأيكِ سمّها الليليّ،
وجهكِ سادرٌ في فجره العاري
ونهدكِ يستريح الآن في كنف استدارتهِ
بعيداً عن شهيق يديّ
ثم يفوح كالقمر الرضيعِ
على الورودِ
ستلفّق الكلماتُ أفئدةً ملائمةً
لعجزي، دون هاتفك المعطّلِ،
عن مفاتحةِ الصباحِ
بما يلائم من شرودي
ومجرّةً مشفوعةً بهديلها
لمرور شعركِ في حقول القمحِ
وهو يهبّ مثل كنائس تعبى
على خبز المناولةِ المقدّسِ
أو يؤلّب نوم تفاح الجرودِ
على الجرودِ
عبثاً أردّ على تنفسكِ المثلّم بالنشيجِ
غلالة الهذيان
أو أرفو شغوركِ في المكانِ
بخيط حكمتيَ الضرير،
وأستردّ من الحياةِ،
وقد أضاءتْ في ابتهال آخرٍ،
أضغاثَ كوكبها الولودِ
لو كان ثمة ما يقالُ،
أرقّ مما قاله العشاقُ من قبلي،
لخلّصتُ العبارة من تلعثمها
وذبتُ من الحنينِ
كما يذوبُ النايُ في القصب البعيدِ
الآن تقترب القصيدة من نهايتها
ليبتكر الوداعُ مرافئاً مفقوءة الأمواج
للزمن الذي يأتي
وأعواما تلوّح كالمناديل القديمةِ
في محطات تطولُ
بلا قطارِ
ما كان هذا الحبّ
غير تلمسِ المجهولِ في المرئيّ
والنفق الذي يجتازهُ
جسدانِ مخمورانِ، منحنييْنِ،
في البحث العقيم عن الفرارِ
ما كان هذا الحبّ
غير تبادلِ الأعمار بين اثنينِ،
والصوتِ المضاعفِ للجمال الغضّ
وهو يعيد تضميد الفراغِ
بما يليقُ من الغبارِ
كم أنتِ نائيةٌ وفاتنة الغيابِ
ولا يليكِ من الظهورِ
سوى الحجاب،
ومن حلولكِ في الخريفِ
سوى انحلالي كالدموعِ على سفوحكِ
واتحادي بالخرافةِ
كي أزحزح صخرة الرؤيا
وأُبعث، كالمسيح الحي، من قاع انتظاري"(1).

لاشك في أن الانزياح قيمة جمالية تتعدى حاجز اللفظ، لتتغلغل في عمق المعنى، لدرجة يمكن القول: إن اللغة الشعرية في صميمها هي لغة الانزياحات، والمخاتلات، والمماحكات الإسنادية الجدلية التي تولد مثيرها الجمالي في هذا الشكل اللغوي، أو ذاك؛ فالقيمة الانزياحية التي تولدها القصيدة قيمة إبداعية خارقة، وهذا يؤكد مقولة الدكتور عبد اللطيف حني، إذ يقول:" الكتابة الشعرية هي مدارات تحايل الشاعر على اللغة، كما تتوق إلى ممارسة وجودها عبر مغامرة تغدر بمنطق العقل، وتحمل معاني الجمال والإشراق، فيقبلها المتلقي دون العودة إلى معادلات الحساب اللغوي الاعتيادية، فالشاعر في رصده دلالة الكلمات، والعبارات يبحث عما هو مجهول؛ فيستحضره؛ ويفعله في سياق يعبث به الانزياح الذي يطبع اللغة بملامح جمالية شعرية"(2).

والانزياح الشعري يمتاز عن غيره من أشكال الانزياحات الأخرى في كونه يحقق قيمة جمالية ترتبط ارتباط مباشراً بالدلالة وفواعلها النشطة، ولهذا يرى البعض " أن التعرف على المعنى يتأتى من بيان الموقف الذي يقال فيه الكلام، وآخرون يحددونه بمجاورة الكلمة لغيرها من الكلمات في السياق؛ في حين أن المعنى يتولد – بفعل الخرق للاستعمال العادي للغة، هذا الخرق الذي يشحن اللغة أو الخطاب الشعري الشعري بطاقات أسلوبية جمالية تحدث تأثيراً خاصاً في المتلقي؛ وهو ما نجده في الفنون الأدبية كالشعر مثلاً، أي لا يهتم الشاعر في حديثه بالحقيقة بقدر ما يهتم بإدخال البهجة في نفس المتلقي، فينتج عن هذا انزياح لغوي، واضح تتراوح معه الدلالة من معنى إلى آخر، باعتبار أن الكلام هو تحقيق لهذه اللغة فقد ساعد على حصر مجال الأسلوبية بالبحث في العبارة، أو النص، أو الرسالة، أو الخطاب، لأجل تقصي الأثر الذي تتركه في نفس المتلقي؛ هذا الأثر الذي يختلف في كل مرة استناداً لمقام استعماله، ما ينجر عنه عدول تركيبي لغوي يعدل معه المعنى. وتتحقق معه الصفة الإنسانية للغة؛ باعتبار أن الإنسان في جهد دائم لتطوير لغته؛ لأن هذا الثراء الدلالي يكسب اللغة قيمتها هذا بالإضافة إلى خصائص أخرى تتميز بها اللغة"(3).

وهذا القول يدلنا على أن شعرية الانزياح تتحقق بمتغيرها الجمالي، وقيمتها النصية العليا، فلا يمكن لأي تقنية جمالية أن تتولد في النص الشعري، دون خلخلة أو زعزعة للنسق؛ سواء بالشكل اللغوي الذي يبتكره الشاعر في ربط الكلمات على شاكلة أسلوبية منحرفة، أو بالمعاني الجديدة التي أثارها، إثر خلخلة التركيب بإسنادات بليغة لم يعهدها على هذه الشاكلة من المباغتة والانحراف والانزلاق الفني، أي ثمة مرجعية جمالية تثيرها الأنساق في التراكيب الشعرية، لتحقق بلاغتها و قيمتها وموحياتها النصية، يقول الباحث نور الدين السد: " إن الانزياح هو انحراف الكلام عن نسقه المألوف ؛ وهو حدث لغوي يظهر في تشكيل الكلام، وصياغته، ويمكن بواسطته التعرف على طبيعة الأسلوب الأدبي، بل يمكن اعتبار الانزياح هو الأسلوب الأدبي ذاته "(4).

وقد قسم الباحث ابن الدين بخولة الانزياح إلى نوعين، إذ يقول:" إن أهمية الانزياح لا ينحصر في جزء أو اثنين من أجزاء النص، وإنما يشمل أجزاء كثيفة متنوعة متعددة؛ فإذا كان قوام النص لا يعدو أن يكون في النهاية إلا كلمات وجمل فإن الانزياح قادر على أن يجيء في الكثير من هذه الكلمات، وهذه الجمل"(5)، وهو نوعان"الانزياح الاستبدالي، وهو الذي يتعلق بجوهر الوحدة اللغوية أو بدلالاتها، مثل : الاستعارة، والمجاز، والكناية، والتشبيه، أما الاستعارة فتمثل عماد هذا النوع من الانزياح، نظراً لأهميتها، ولما لها من فوائد جمة في البناء الأدبي؛ ولهذا، فقد تناولها الكثير من الباحثين والأدباء القدامى واللغويين واللسانيين المحدثين على حد سواء؛ في حين أن الانزياح التركيبي يحدث من خلال طريقة الربط الجمالية بين الدوال بعضها ببعض في العبارة الواحدة، أو في التركيب، أو في الفقرة"(6).

ولهذا، يرى أن تركيب العبارة الأدبية عامة، والشعرية منها خاصة يختلف عن تركيبها في الكلام العادي، أو في النثر العلمي؛ ففي حين تكاد تخلو كلمات هذين الأخيرين إفراداً، أو تركيباً من كل ميزة، أو قيمة جمالية فإن العبارة الأدبية، أو التركيب الأدبي قابل لأن يحمل في كل علاقة من علاقاته قيمة أو قيماً جمالية؛ فالمبدع الحق هو من يمتلك القدرة على تشكيل اللفظة جمالياً بما يتجاوز إطار المألوفات وبما يجعل التنبؤ بالذي سيسلكه أمراً غير ممكن؛ ومن شأنه هذا إذن أن يجعل متلقي الشعر في انتظار دائم لتشكيل جديد، ومنه معاني ودلالات جديدة".(7).

وهذا القول يدلنا على أن الانزياح يجعل المتلقي في ثوثب رؤيوي لتلقي كل ماهو جديد في التشكيل والرؤية وعمق الدلالات؛وهذا يدلنا على أنه ثمة انزياحات تطال البنية النصية التي تباغت القارئ بمنحاها الأسلوبي الخاص، ودلالاتها العميقة؛ فالشاعر المبدع هو الذي يباغت القارئ بأسلوبه الانزياحي الفني الذي يرقى به درجات من الاستثارة، والفاعلية، والجمال؛ وهذا يعني أن القيمة الجمالية للانزياحات الشعرية تكمن في إثارتها الصدمة الجمالية، وخلخلتها للرؤية الساذجة السطحية التي تبدو في مألوف القول، وفي بديهي المعنى؛وهذا يعني أن بلاغة الانزياحات تكمن في قلقلتها الجمالية، وصدمتها المراوغة وزوغانها الدلالي المثير.

ووفق هذا التصور يمكن القول: إن الانزياح مهما اختلفت صوره، وأشكاله لابد وأن يرتبط بمقوم فني، أو جمالي، أو رؤيوي يتوخاه الشاعر في تشكيله النصي.حتى يحقق الانزياح قابليته الفنية، وإثارته التشكيلية. .ولهذا " يعد الانزياح من أهم المظاهر الأسلوبية التي تميز النصوص الشعرية، وهي تلك النصوص التي يتصرف فيها المبدع عن طريق لغته، وإخراجها من نسقها الأول، ليعيد تركيبها من جديد بما ينسجم ومتطلبات نصه؛ ولابد للمبدع من أن يعي فكرة حصول الانزياح في النص الذي هو بصدد إنتاجه كي يقوم بالتحكم في درجة وقوع انزياحه في النص، من حيث القوة والتأثير، وأن يشعر المتلقي أن هناك ما يجذبه إلى هذا النص أو ذاك"(8).

ومن هنا، فإن الانزياح يشكل قيمة جمالية محفزة للشعرية لاسيما عندما يثير رؤية فنية، أو قيمة جمالية مكثفة للحدث والرؤيا الشعرية، وهذا يعني أن بلاغة الانزياح تتحقق من خلال قيم الجمال المتوالدة في التشكيل من حيث بلاغة الصورة، ومرجعيتها، وقيمتها الخلاقة؛ والسؤال الذي يراودنا : كيف يتحول الانزياح إلى قيمة جمالية؟ وهل يمكن اعتبار كل انزياح انزياحا فنياً؟!! وما هي شروط الانزياح الفني؟ وكيف يحققها النص المبدع الحقيقي؟!!ليسمو نتاجه الشعري وقيمته الجمالية العليا.

المفاصل الانزياحية الحساسة في قصيدة ( كم أنت أجمل في الحنين إليك):
لاشك في أن لكل قصيدة مفاصل وبنى، ومؤثرات جمالية ترتكز عليها في إكساب قيمتها جمالياً، وهذه المفاصل هي التي تمثل جسدها الإبداعي، ومؤثرها الجمالي الخلاق، ونذكر من بينها ما يلي:

1-الصورة :
تعد الصورة القيمة الجمالية العظمى للانزياح الجمالي في شكل التركيب، وهي بمثابة القلقة، والانتهاك في عملية الإسناد الفني، أو الجمالي للنسق الشعري، بحيث يشكل الانزياح القيمة الجمالية العليا للشكل الأسلوبي الجديد، أو المبتكر، الذي اتخذته القصيدة في نسقها؛حتى شكلت ملمحها الجمالي البليغ، وهذا يعني – حسب عبد القادر القط- أن الصورة هي الشكل الفني الذي تتخذه الألفاظ والعبارات بعد أن ينظمها الشاعر في سياق بياني خاص، ليعبر عن جانب من جوانب التجربة الشعرية الكامنة في القصيدة، مستخدماً طاقات اللغة، وإمكاناتها في الدلالة، والتركيب، والحقيقة، والمجاز، والترادف، والتضاد، والمقابلة، والجناس وغيرها من الأجناس"(9).

والصورة – عند شوقي بزيع – أساس تجربته الشعرية، ورحيق إبداعاته، فهي الدينامو المحرك للكثير من القيم الجمالية التي تخطها قصائده في مسارها النصي؛ إذ يقول:" أنا من الذين يعتقدون بأن الصورة هي أساس في الكتابة الشعرية، ولا أستطيع أن أتخيل شعراً خارج المشهدية، وخارج التصوير البسيط، أو المركب؛ اللغة الشعرية التي لا تحيلني إلى مشهد، هي لغة ذهنية على وجه العموم؛ وهي لغة تفكير؛ وهذا ما يوقع الكثير من الشعر في الجفاف؛ وفي البرود الذهني؛أنا على العكس من ذلك- أنا من الذين يرون في القصيدة لوحة متكاملة، متعددة العناصر، مختلفة الصور؛ ويجب على هذه اللوحة أن تكون مرئية بالنسبة للقارئ، حتى لو لم تكن هذه الرؤيا متوفرة بكل جزئياتها؛ ولكن هناك شعوراً ينتاب القارئ بأن هذا العمل – قد مسه- بشكل أو بآخر- وهو ما توفره بشكل أساسي الصورة الشعرية؛وهنا، أنا أربط بين الصورة وبين اللوحة؛ وأنا – بطبيعتي- أحب الفن التشكيلي، وأشعر بأن هنالك جدلاً بين الشعراء والرسامين؛ أما سبب هذه المشهدية في شعري فيعود إلى انتمائي إلى عالم ريفي، عالم مليء بالمرئيات، مليء بالمشاهد؛ أشعر بأنه ليس هناك منطقة ما فارغة في عيني بالمعنى الرمزي؛ إن عيني ممتلئتان بكل الأطياف الممكنة التي يستطيع طفل أن يحتفظ بها منذ لحظة ولادته، وهنا أتذكر مقولة كاستون باشلار الذي يقول" بأنه لا شعر غني بلا طفولة غنية، ولا طفولة غنية بلا صور غنية أو مشاهد غنية"(10).

ومن يطلع على قصيدة( كم أنت أجمل في الحنين إليك) لشوقي بزيع يدرك أن الصورة المثيرة تمثل محرق الا نزياح الفني البليغ ونقطة تمفصل المشاهد الشعرية، والمؤشر البليغ على تنامي الدلالات وحراكها النشط في النص، وأول ما نلحظه في قصائده تراكم الصور الانزياحية التي تعبر عن قيمة جمالية بليغة كما في الصور التالية:

لا أرض تُرجع هذه الفوضى*
على أعقابها
لأشمّ كامرأة على قبر
قميص لهاثكِ الملقى على جزع السرير
ولا تمائم كي أروِّض بالكلام الصِّرف
أحصنة الدماءِ
لا شيء يوقفني على قدَمَيْ رحيلكِ
أو يحالفني مع الضجر الملبّد بالخسارةِ
في فناء البيت".

لابد من الإشارة إلى أن الانزياح كقيمة جمالية في قصائد شوقي بزيع ينبني على قاعدة المجاورة الصادمة أو الملصقات الصادمة التي تترك مفارقتها في ذهن المتلقي، من خلال دهشة ماتثيره في نسقها من قيم ومؤشرات جمالية، وانفصال حاد بين المضاف والمضاف إليه والصفة والموصوف، والفعل والفاعل، والمبتدأ والخبر، أي أن انزياحه الفني يعتمد مبدأ المفارقة النشطة التي تحرك الرؤى والدلالات بقيم جمالية بليغة، وهنا نلحظ أن الانزياح في هذه الصور يحقق قيمة جمالية بليغة، من حيث الفاعلية، والبكارة، ودهشة الإسناد، إذ نقل الصورة من إيقاعها السهل المباشر، إلى إيقاع شاعري مفعم بالحساسية والدهشة النصية، كما في قوله:( قميص لهاثك الملقى على جزع السرير)، وهذا الإسناد حقق قيمة جمالية محفزة للقصيدة، فالقيمة الانزياحية تتحقق بالمعنى المراوغ، والحياكة الجمالية، كما في قوله: (ولا تمائم كي أروض بالكلام الصرف أحصنة الدماء)، فثمة قيمة مرجعية انزياحية تحققها صوره الشعرية بحسها الجمالي وحراكها الشعري، فالشاعر -هنا -ينتقل نقلة نوعية في ترويض استعاراته، وإبراز ملمح انزياحاته البليغة لتصيب مرماها في القصيدة، على شاكلة قوله:[لا شيء يوقفني على قدمي رحيلك- أو يحالفني مع الضجر الملبد بالخسارة في فناء البيت]، والملاحظ -هنا - أن الشاعر انتقل بحراك الدلالات المنزاحة من نسق إلى آخر، مبرزاً قيمة مرجعية رؤيوية محققة لشعريتها البليغة، فلو أن الشاعر اكتفى بقوله:[يحالفني مع الضجر في فناء البيت] لما حقق هذه الإثارة والمباغتة النصية في الصورة، لكنه قام بانزياح فاعل مشعرن للحدث والرؤيا الشعرية إلى تخليق المتعة النصية؛ عبر الإضافة الصادمة القلقة التي أثارت حراك الرؤى والدلالات، من خلال قوله:( الضجر الملبد بالخسارة) بأن جمع بين ما هو حسي/ وما هو معنوي في نسق الصورة بمشاكلة تجاذبية راقية رفعت حرارة النسق، وزادت من وميضه الشعري، عبر مفردة[ الضجر] فهي مفردة معنوية تتعلق بجوانب نفسية لا تظهر بماهية أو شكل معين، في حين جاءت لفظة( الملبد) لتدل على قيمة محسوسة مرئية، أما الخسارة فقد تظهر بجانبيها الحسي/ والمعنوي، وهذا يدل على أن القيمة الانزياحية التي تثيرها تراكيب هذه القصيدة تتأثر بمتحركها النصي الشعوري الصادم بإسنادات غيرمتوقعة، ذلك أنها تتأثر بالحراك الرؤيوي الذي تستند عليه الصور في إبراز ملمحها التجاذبي الفني المؤثر.

والملاحظ أن درجة الفاعلية النصية التي تثيرها انزياحاته الفنية -في هذه القصيدة- تبرز كقيم ومؤشرات أيقونية فاعلة في تحريك الحدث والرؤية الشعرية، فالشاعر هنا لا يتصنع الانزياحات العجائبية الصادمة التي تنأى بالرؤية الشعرية المتخيلة بعيدا عما هو معتاد في القول الشعري، ولكنه يرسم انزياحاته الرهيفة بإحساس جمالي شاعري يرقى فيه فوق درجات المعقولية البسيطة؛ أو الروابط السهلة المباشرة، أي أن القيمة المرجعية ماثلة في شكل النسق وحياكته المرتبطة بالدلالة، وجوهر الرؤية من الصميم، ولهذا تبرز هذه القصيدة بوصفها من أهم قصائد (شوقي بزيع) في بلاغة انزياحاتها على مستوى الصورة وعلى مستوى الرؤية.

ولو تتبع القارئ سلسلة الانزياحات الجمالية الصادمة التي تبرزها القصيدة كقيم جمالية بليغة لأثارته في نسقها الشاعري وحراكها الفني، كما في قوله:

"محضُ يدينِ فارغتين في أبدية ثكلى
يدايَ،
وإذ تداهمني عواصفُ نأيكِ الهوجاءُ
تنشبُ حيرتي أظفارها كالقطة العمياءِ
في الغبشِ المرائي"

لابد من الإشارة بداية إلى أن الانزياح كقيمة جمالية في هذه القصيدة لا يتحقق بوصفه إفراداً، أي الانزياح ليس قيمة مفردة تطال الكلمة، وإنما هو قيمة تركيبية إسنادية زوغانية في علاقة القرائن اللغوية، أو الملصقات اللغوية، بإسنادات جدلية مراوغة، تترك إثارتها من قيمتها بوصفها تركيباً جمالياً صادماً، وبوصفها قيمة جمالية تحقق إثارتها على مستوى التراكيب الجزئية، والتشكيل النصي ككل، ولهذا؛ فإن شعرية الانزياح لا تتحقق على مستوى التركيب الإفرادي، وإنما على مستوى التركيب الجمعي، أو التركيب النصي ككل، ولهذا يخطئ من يظن أن الانزياح قيمة موحية جمالياً في تركيبها الإفرادي معزولاً عن سياقها النصي، ولهذا، عدَّ الكثير من النقاد والدارسين النص الشعري بكليته جملة كبرى، مؤكداً أن النص الشعري لحمة فنية رؤيوية متكاملة، لا تنفصل عراها ولا تنفصم؛ وفي هذا الصدد نورد قول شوقي بزيع:" النص لبنة واحدة متماسكة، في انزياحاته وأواصره وعلائقه اللغوية، والنص الشعري كتلة متماسكة كالكائن الحي، لا ينفصل فيه عضو عن الآخر في أداء وظيفته ومهمته في الجسد الحي كذلك الشأن في الجسد النصي والعمل الشعري"(11).

وهاهنا يحلق الشاعر في انزياحاته الفنية، إلى درجة قصوى من المباغتة؛ لأنها مبنية على إيقاع شاعري صادم الرؤى والدلالات والمؤشرات الشعرية؛ فالقارئ- هنا -يدرك أن اللعبة الشعرية لعبة انزياحية زوغانية متأججة بالدلالات والرؤى المباغتة، ففي قوله:[ تداهمني عواصف نأيك الهوجاء- تنشب حيرتي أظفارها كالقطة العمياء- الغبش المرائي]، نلحظ سمواً في رتمه الشعري في انزياحاته من خلال بكارة الانزياح، ودهشته، وقيمته الرومانسية اللاهبة التي يثيرها في النسق، ودليلنا أن القارئ هنا لا يمكن أن يتوقع لغة البوح العاطفي الرومانسي الشفيف الذي خلقته الصورة التالية: ( عواصف نأيك الهوجاء) من خلال جمعه العجائبي بين ما هو حسي ؛ وما هو مجرد في رتم شعري مموسق خلاق للدلالة المثيرة، والمعنى الغزلي المراوغ، فلفظة ( عواصف حسية )؛ ولفظة ( نأي معنوية) أو مجردة؛ فقد استطاع الشاعر بمخيلته الوهاجة أن يجمع بين ما هو حسي وما هو معنوي في آصرة تشكيلية شعرية تبرز كقيمة جمالية موحية بدلالاتها الجديدة؛(تنشب حيرتي أظفارها كالقطة العمياء في الغبش المرائي) فالدهشة تبدو ماثلة في كل جزئيات الصورة، إذ شبه حيرته بالقطة العمياء التي لا تعرف مستقراً لها أو رؤية واضحة تمضي إليها، وكأنها تتخبط في ظلام دامس من التيه، والتخبط والضياع، وهكذا حاله في حيرته وغبش أيامه واختلاف الأشياء أمامه؛ لدرجة سيطرت الحيرة على عالمه أمداً بعيداً، وماعاد قادرا على التمييز. والملاحظ أن الشاعر هنا ينتقل بالرؤى والدلالات من حيز البساطة والسهولة إلى حيز الممانعة والاستثارة والجمال، وهذا يعني أن الانزياحات التي يخلقها شوقي بزيع في قصائده عموماً وهذه القصيدة خصوصاً مثيرة في خلق المفارقة الصادمة من خلال جمعه الصادم، كجمعه :المحسوس بالمجرد، أو المجرد بالمحسوس، لإثارة الرؤية الجمالية الصادمة والمعنى البعيد المراوغ, وهذا يدلنا على أن الاتزياح كقيمة جمالية لا يرتكز على التشكيل اللاعقلاني البعيد، وإنما يرتكز على تفعيل هذا الانزياح العجائبي في النسق الشعري لإبراز فواعل الدلالة ونواتجها البليغة المؤثرة.

ولو تابع القارئ سلسلة الانزياحات الجمالية في هذه القصيدة لأدرك أنها تشكل كينونة أسلوبية متحركة في بناها ورؤاها ومؤثراتها ومنتجاتها الدلالية النشطة، فلا قيمة للانزياح إن لم يفعِّل الرؤيا الشعرية، ويزيد من فاعلية النسق شعرياً وجمالياً، فالشاعر وإن تدرج في انزياحاته التصويرية في هذه القصيدة بالانتقال مما هو صادم إلى ما هو مألوف ومعتاد، أو بالعكس، فإنه يخلق متعته الجمالية، فهو يؤمن بأن القصيدة إيقاعات مرتفعة وإيقاعات هابطة كالسمفونية الموسيقية، فلا بد من بعض الانخفاضات حتى تحقق الارتفاعات إثارتها ونكتها الجمالية، وهذه الانخفاضات ليست ضحلة شعرياً، وإنما هي تشكل التمهيد الهادئ للالتهابات الانزياحية الصادمة التي تحقق الشاعرية والإثارة والمتعة في النص، كما في انتقاله المفاجئ من الشاعري الملتهب إلى ما هو أقل إشراقاً وشعرية لدرجة البوح السطحي؛ عما يكتنفه من أحاسيس وبنى دالة بوضوح عن معناها المباشر"
كم أنت أجملُ في الحنينِ إليكِ،
كم ذكرى النساءِ أشدّ سحراً
في حساب العاشقينَ
من النساءِ
كم أنتِ بالغة الخفاء،
كأنما تتجاوزين هشاشة الأجسامِ
كي تتصالحي مع رغبة الفانينَ
في ترميم ما خسروهُ
من حلم البقاءِ"

هنا، رغم التقفية الانسابية وشعريتها لا نلحظ ثمة انزياحاً جمالياً صادما في الأنساق الشعرية السابقة، وإنما مجرد رصف كلامي عاطفي مشحون بالمشاعر الصاخبة، والأحاسيس الغزلية الملتهبة التي كانت إيهامية أكثر منها شعرية، وهذا يدلنا على أن لكل قصيدة منعرجاتها سمواً/ وانخفاضاً، هبوطاً / وارتقاءً، تبعاً لحرارة العاطفة، وتوهج اللحظة الشعورية بمتخيلها أو رؤيتها المباشرة، فلا قيمة في الانزياح بحد ذاته إن لم يشكل موجة نفاثة بالدهشة والحراك الدلالي اللاهب برؤيته وفضاء متخيله الجمالي؛

ولهذا لم يفهم إلا النوادر من شعراء الحداثة أن الانزياح ليس في غرائبية الأنساق وصدمتها للقارئ دون ارتباط بالرؤية وفواعل الدلالة، وإنما قيمتها العظمى تكمن في هذا الانسجام والتوهج بين ما هو صادم لغوياً وما هو مثير شعرياً للدلالات ومؤثراتها ضمن النسق الشعري؛ومن أجل ذلك كل من خاضوا في هذا المبحث من قدماء ومعاصرين لم يوظفوا الانزياح عن وعي تام وإحساس جمالي، وأغلبهم وظف هذا المصطلح وكأنه سنة من سنن الحداثة في الدراسة دون أن يقفوا على إبراز الجماليات التي يولدها في النص، وأغلب الدارسين ربطوا الانزياح بالبلاغة ومصطلحاتها فدرسوا الانزياح وكأنهم يدرسون البلاغة في ثوبها الحداثوي القديم لا الجديد، وأغلبهم ربط الانزياح بالحذف، والكناية، والاستعارة، والتقديم والتأخير، وهذه المصطلحات أكل عليها الزمان وشرب، والمفارقة المؤلمة :كيف ندرس نصوصنا الحداثوية بأثواب بلاغية قديمة، كيف نزين العروس بوشاح أسود، ولهذا، صدمت من كل من اتخذوا البلاغة قيمة في تقييم النصوص الحداثية، والانزياح لم يخلق لغاية بلاغية، وإنما يصطدم مع البلاغة وإن كانت الاستعارة وهي من علم البلاغة هي الانزياح بنظر الكثير من الدارسين؛ فهذا الأمر جد بعيد عن مفهوم الانزياح الذي أسسه كوهن ورفاقه ك( مايكل ريفاتير) وأمبرتو إيكو، وغيره من الدارسين: الانزياح هو خلق لغة جمالية بإيقاع جمالي بعيد عما هو متوقع بلغة القول العادي أو المألوف، ولهذا قاس الكثير من الباحثين الشعرية بمقدار انحراف القول عن مقوله العادي وكلما كان غرائبياً أو عجائبياً كان أغنى وأمتع، نقول لهم : هذا كلام ثرثرة وقول فارغ لا يمت إلى الشعرية بصلة، فالشعرية ليست على مقاس واحد، لدرجة أن القيم الجمالية ليست هي ذاتها جمالية في نص آخر، فقد تكون جمالية في نص من النصوص، وقمة في السلبية والسذاجة في نص شعري آخر، فالوعي الجمالي بالانزياح أهم من الوعي بمفهوم الانزياح الذي قصره الكثيرون على البلاغة ومصطلحاتها، لقصور نظرتهم وضحالة رؤيتهم . وبتصورنا : إن الانزياح أوسع وأعمق مما قصروه باحثونا على هذه الجوانب البلاغية التي ما أضافت شيئاً، وما أتت بجديد على البلاغة ومصطلحاتها التي مجتها نصوصنا منذ زمن.

وبوعينا النقدي المتواضع نقول: إن الانزياح فن تشكيل اللغة، وهو الخلق المتوهج لكل نسق شعري انماز في طريقة تشكيله، في ربط الدلالة أو تفعيل الرؤية، ولو نظرنا إلى قصيدة ( كم أنت أجمل في الحنين إليك) من زاوية ما نظرا إليه الآخرون للانزياح لقتلنا شعرية هذه القصيدة وتوهجها الإبداعي، وما تركنا لغيرنا الاجتهاد في اكتشاف الكم الهائل من القيم الجمالية التي تتضمنها في محاورها الانزياحية إن بالشكل اللغوي، وإن بالدلالات، ونشاطها وبؤرها العميقة التي تتطلب عمقاً ودهشة في الطرح والخلق والإمتاع.

وأول ما نلحظه بلاغة الانزياح المشهدي المتحرك، الذي يحرك المشاهد واللقطات الجزئية ضمن القصيدة، كما في قوله:
"الآن تقترب القصيدةُ من نهايتها
تضيء يمامتا ذكراكِ
في غبشِ الظهيرةِ
كالنجومِ المستعادةِ من صراخ الليلِ
والنسيانُ يرفع ذلك الاسم الخماسيّ
المبالغ في تهدّجهِ
على خشب الشحوبِ
لا بدّ من هذا الفراق إذن
فأدرك أنني أعمى بدونكِ،
أنني النصفُ الضريرُ من التماعكِ
في الحصى الغافي
وحصة حاجبيكِ من انحناءِ الشمسِ
في قوس الغروبِ"

لابد من الإشارة بداية إلى أن حنكة الشاعر الإبداعية تتمثل في فاعلية الانزياح كقيمة تشكيلية بليغة تصيب مرماها الجمالي، لاسيما حين يوفق الشاعر في التقاط الانزياحات الخلاقة التي ترفع وتيرة الشعرية في القصيدة؛ فالدلالة لا قيمة مرجعية خلاقة لها إن لم تتضمن أية قيمة فنية في ارتباطها في النسق الشعري، وهذا يعني أن بلاغة الانزياح ماثلة في التشكيل الشعري وقيمه المؤثرة في تخليق النسق البديع،

ولو دققنا في القول الشعري السابق لأدركنا أن شعرية الأنساق ماثلة في متحركاتها الانزياحية البليغة التي تصيب قيمتها الأسلوبية ببلاغة مرجعية نادرة في تحريك الأنساق:" تضيء يمامتا ذكراكِ/في غبشِ الظهيرةِ/

كالنجومِ المستعادةِ من صراخ الليلِ والنسيانُ يرفع ذلك الاسم الخماسيّ/المبالغ في تهدّجهِ

على خشب الشحوبِ"؛ والملاحظ أن كل قيمة انزياحية مرجعية تتأسس على مغرياتها النصية الانزياحية البليغة التي تستثير الحدث الشعري، لقلقة الرؤية الشعرية وإثارة متحركها الجمالي؛ فالقارئ فنياً أو جمالياً يلحظ حنكة الشاعر في الوقوف على الانزياح الشاعري الذي خلقه الشاعر بإسناد فعل ( الإضاءة) إلى يمامتا الذكرى، وخلق دهشة انزياحية ضمنية وهي الذكرى بأن أسندا إليها ( اليمامة)، فاليمامتان شيء محسوس بماهية وجسد مادي، في حين أن الذكرى معنوية، أسند إليها قيمة جمالية ارتقت بالنسق الشعري جمالياً؛ وهذا ما أضفى عليها قيمة مرجعية مؤثرة في رفع وتيرة الاستثارة واللذة الشعرية، ثم فاجأنا الشاعر بانزياحات ضمنية تتجاوز إثارتها الانزياحات الخارجية لدرجة أن كل انزياح يشكل قيمة مرجعية بليغة في موضعها النصي، كما في الانزياحات الخلاقة الموحية التالية:[خشب الشحوب- الحصى الغافي-قوس الغروب]؛ فالقارئ يلحظ تنامي الدلالات الإسنادية من خلال علاقة الإضافة المنزاحة بين المضاف والمضاف إليه، أو الصفة والموصوف، والمسافة الانزياحية التي خلقها الشاعر بين الدلالات، لإبراز نواتج الدلالة على أشدها، وكأن القيمة الجمالية التي يفعلها ارتقى بها من حيز الإسنادات السطحية، إلى مكمن اللذة والإثارة في استجرار الدلالات البعيدة والمعاني اللامدركة، كما في هذه الانزياحات الخلاقة التالية:

صفراءُ ريحكِ في يباس الفقدِ،
أصفرُ ذلك الخفر المغطّى بالبثورِ
على ملامحكِ المطلةِ
من غبار الأمس،
أيتها الشبيهة بانبلاج يد ملوِّحة
على غرق الكتابة،
والتظاهرة الأخيرةُ للوداعةِ
في تفتحها على الآلام".

إن القارئ هنا يدرك سر اللعبة الانزياحية التي تنبني عليها قصائد شوقي بزيع محققة جماليتها، لدرجة يمكن القول معها: إن من مرتكزات القصيدة إبداعياً أنها تحقق قيمها الجمالية من خلال فاعلية الانزياح الذي يولد إثارته وجاذبيته النصية، لتبدو أكثر إمتاعاً وأشد إثارة، ومن يدقق في الانزياحات التالية:[يباس الفقد- الخفر المغطى بالبثور-ملامحك المطلة من غبار الأمس-انبلاج يد ملوحة على غرق الكتابة]؛ يلحظ قيمتها شعرياً من خلال مفارقتها الصادمة اللامتوقعة على هذه الشاكلة من التنوع والمباغتة والاختلاف، فالقارئ يصدم من هذا الجمع العجائبي في توليف الجمل على هذه الدرجة من الحساسية والإدهاش، كما في قوله:(ملامحك المطلة من غبار الأمس) لدرجة يدرك أن المتعة النصية هي متعة تجاذبية محركة للأحداث والدلالات البليغة، وهذا يؤكد أن قيمة القصيدة جمالياً تتحقق بمتغيرها الفني الخلاق، وهذا ما يدركه القارئ في الانزياحات السابقة وحركتها الجمالية المموسقة، كما في الانزياحات الخلاقة التالية:

[التظاهرة الأخيرة للوداعة في تفتحها على الآلام]، فهذا الجمع بين ( التظاهرة) و( الوداعة) و( التفتح) و( الآلام) يحرك الأنساق الشعرية، ويزيد درجة شعريتها، ثم التوهج الانزياحي الذي خلقه في الصورة الانزياحية السابقة مهد لحركة الدلالات لتسبح في رؤاها ودلالاتها العميقة، كما في قوله:[أيتها الشبيهة بانبلاج يد ملوحة على عرق الكتابة]، فالقارئ يدرك سر المتعة الجمالية في هذا الانتقال الصادم المفاجئ من دلالة إلى أخرى، ومن رؤية خلاقة إلى رؤية أشد انزياحاً وإمتاعاً، وهذا ما جعل تجربته الشعرية في أكثر من قصيدة تنحو منحاها الجمالي المؤثر، وتؤكد تطورها الدائم لدرجة أن كل مجموعة شعرية تصدر له تشكل منعطفاً مهماً في تجربة الشاعر شوقي بزيع، وهذا ما صرح به شوقي بزيع على لسان أحد دارسي شعره قائلاً:"ثمة من قال بأن كل مجموعة لشوقي بزيع هي انعطافة جديدة، وفتح لأفق مختلف، ولكنه، طبعاً، غير متناقض مع ما قبله، باعتبار أن الأسلوب هو الرجل، كما يقال، ولذلك فنحن نتغير ولكن من ضمن وحدة الهوية الإبداعية تماماً، كما هو الحال مع النهر، فالماء تتغير، ولكن المجرى واحد، ..وبتصوري أن الشاعر المبدع قادر على أن يستخرج من أي موضوع إمكانية لمقاربة شعرية من نوع ما"(12).

وهذا القول يدلنا على وعي شوقي بزيع لأهمية الانزياح في تحريك الشعرية، وتحفيزها، وأهمية المقاربة الشعرية لأي موضوع، شريطة أن يكون التناول شعرياً، أي لاقيمة بالموضوع مهما كان سامياً، لدرجة أن القيمة كلها للنسق الشعري المتضمن بها، أو المتضمنة به.

والملاحظ أن شعرية الانزياحات في الأنساق الشعرية التي تخطها القصيدة تتمحرق على الرؤية الغزلية ومثيراتها التي تقتنص الصور البليغة ومحفزاتها الخلاقة، كما في الأنساق التالية:

"كيف أُجيد تهجئة الروائحِ دون عطركِ؟
كيف أُفلح في احتساب الوقت؟
كيف أعيد تهدئة الأسرّةِ والوسائدِ،
أو أعدّ على الأصابعِ
ما تناثر من هبوبكِ
فوق صفصاف الجنوبِ؟
صدئٌ نحاسُ الوقتِ،
فحميّ صدى الأجراس،
مذبوحٌ شعاع الشمس فوق
أريكة الماضي،
الشتاءُ بلا يديكِ الطفلتينِ
يخرّ كالسحب القتيلة
عند أقدام الجبالِ"

لابد من الإشارة بداية إلى أن فواعل الانزياح تتعدى الرؤية المسطحة؛ لتدخل عمق الحدث الشعري أو المشهد الشعري المؤثر، فالقيمة جمالياً لا تتحدد بمثير لفظي أو فني جزئي فحسب، وإنما في جميع أواصر التركيب، فالتمهيد الفني للتوهجات الانزياحية هي التي ترفع شعرية الانزياح، وتثير الموقف الشعري المؤثر.وهاهنا خلق الشاعر المتعة الجمالية في قوله:[صديء نحاس الوقت- فحمي صدى الأجراس-كيف أفلح في احتساب الوقت]، إن القارئ هنا يلحظ هذا الانزياح الجمالي في الاستعارات اللاهبة والتشكيلات الممعنة في الإثارة والشعرية؛ فالقيمة جمالياً للانزياح تتحدد بحيوية المشهد، وقيمة الإزاحة في إبراز أيقونتها الجمالية المحركة للشعرية، وهنا نلحظ التمهيدات الأسلوبية السابقة واللاحقة هي التي حركت البؤر الانزياحية لتنشط كفواعل محرضة للشعرية، كما في التمهيدات التالية:[ "كيف أُجيد تهجئة الروائحِ دون عطركِ؟/كيف أُفلح في احتساب الوقت]؛فالقارئ يدرك أن هذه الانبثاقات التشكيلية هي التي رفعت الأسهم الشعرية وحركتها بجميع قيم الجمال، فالوعي الجمالي المحفز للشعرية هو وراء كل توهج إبداعي خلاق في أي نص شعري، فلا يخفى على القارئ المقصدية الجمالية الواعية في استجرار الانزياحات المحرضة للشعرية والكاشفة عن منتجها الفني وتوهجاتها التخييلية المبدعة.

وما ينبغي ملاحظته أن الكثير ممن درسوا الانزياح عالجوا ظاهرة الانزياح إما بربطها بالنحو والمعجم، و إما بالظواهر الأسلوبية التي قد لا تقترن بالانزياح كقيمة بنائية محرضة للشعرية، وتعد دراسة أحمد محمد ويس، ودراسة المسدي تنظيرية بحتة، فهي أشبه بمن يتحدث عن الفحولة وهو عنين –على حد تعبير شيخنا في النقد- خليل الموسى-، تقول إحدى الدراسات:"إن الحديث عن خصوصية اللغة الشعرية-ألفاظاً وتراكيب، وصيغاً وأساليب، يتطلب الحديث عن اللغة والشعر والأسلوبية والانزياح، وشعرية اللغة؛ إضافة إلى بعض الظواهر التي تسهم في منح التركيب الشعري خصوصيته الجمالية، مثل :[ الحذف- والاعتراض- والتقديم والتأخير- والمحسنات اللفظية والمعنوية والتكرار والازدواح والتنسيق؛ هذه الخصائص تسهم في زيادة الأسهم الشعرية للتركيب الشعري، مما يجعله يختلف عن الخطاب العادي؛ فالخطاب الإبداعي تتعانق فيه الوظيفة الجمالية الشعرية مع الوظيفة الإبداعية"(13).

وما ينبغي ملاحظته من القول السابق هذا التوجه الأسلوبي المنحرف في فهم الانزياح، وكأن الانزياح وجه من وجوه البلاغة في معظم ما قرره دارسونا ونقادنا، وهذا ما جعل أغلب دراساتهم تدخل في معترك ماهو مألوف ولا نكاد نجد جديداً في أغلب من درسوا تقنية الانزياح ونظروا لها.

والملاحظ أن القيم الانزياحية التي تخلقها قصائد شوقي بزيع تستغني بمثيرها التركيبي عن مثيرها الصوتي أو الضمني المدرك، فلكل نص خصوصيته الإبداعية في التشكيل، وهذه الخصوصية تتعدى الجسد اللغوي الظاهري لتدخل عمق العلاقات والروابط الإسنادية.

أشكال الانزياح في هذه القصيدة:
لاشك في أن للانزياح أساليب متعددة، تختلف تبعاً للصورة التي تظهر عليها القيمة الانزياحية للتراكيب الشعرية وما تولده في نسقها من استثارة، وبلاغة، وفاعلية، وتأثير، وقد لاحظنا الأشكال والصور الانزياحية التالية:

1-الانزياح في حركة المشاهد البسيطة والمركبة:
ونقصد بهذا الانزياح : القيمة الجمالية العليا التي يحققها الانزياح بنقل التركيب الشعري من صورة مشهدية جزئية، إلى صورة مركبة، ومن أيقونة بلاغية جزئية إلى أيقونة مشهدية ممنتجة للرؤيا، والحدث والمشهد الشعري، أي إن الانزياح المشهدي خلخلة جمالية للصور، واللقطات الجزئية لخلق أيقونة تصويرية بليغة في نسقها المحرك للشعرية، بنواتجها ورؤاها كافة؛يقول شوقي بزيع:" الصورة المشهدية هي مخيلتي الحية في ربط الصور، فلا يوجد شي فارغ في عيني ؛ الكل يتحول في قصائدي إلى أجسام حية متحركة تبث (آمالي/ وانكساراتي)، (فرحي/ وحزني) و(لوعتي / وحيرتي) وقلقلي الوجودي"(14).

وهذا القول يؤكد أن كل شيء خصب في عيني الشاعر، ويشكل قيمة شعرية أو مرجعية شعرية في تشكيل القصيدة، فغنى المخيلة الشعرية من غنى تجاربها وتراكم المؤثرات الوجودية الفاعلة في إغنائها، ومخيلة الشاعر شوقي بزيع في هذه القصيدة جمعت شتى أشكال الصور، وجمعت مختلف الرؤى البليغة في تخريجها إبداعياً بوصفها من أهم قصائد شوقي بزيع زوغاناً في قيمها الجمالية وتشكيلاتها الفنية البليغة.

وما ينبغي التنويه إليه والحض عليه: أن شوقي بزيع -في هذه القصيدة - حول من مسار الرؤى والدلالات من محركها الجمالي إلى إيقاعها التشكيلي المباغت، ونقل المشاهد بانزياح فني من المشاهد واللقطات البسيطة؛ إلى المشاهد المركبة المفعلة للشعرية كقيمة بليغة في نواتجها الخلاقة، كما في قوله:
والبيتُ تنخرهُ الملوحةُ، "
حيث لا قدماكِ في أرجائهِ
تتبادلانِ مهمة الطيرانِ
فوق رتابة الساعات،
لا كفّاك تنزلقانِ عن كتف الصباحِ
كرغوة الصابون،
لا عيناكِ تقتسمان بُنّهما المحيّر
مع ملائكة الأعالي
تترأس الفوضى جمالكِ
وهو يمعن في تصايحهِ مع الغربان
فيما لا يُرى مني
سوى أسمالِ ما خلّفتِ من وجع
تخثّرهُ الشهور على الظلالِ"

لابد من الإشارة إلى أن حركة الانزياح الجمالي- في اللقطات والمشاهد المتحركة تتغير من مثير إلى آخر، ومن قيمة تصويرية إلى أخرى؛وهاهنا تلاعب الشاعر -بأسلوب زوغاني - بحركة المشاهد من صورة جزئية، إلى صورة مشهدية مركبة؛ لدرجة أن الصورة تقتضي بضع أسطر، حتى يتممها الشاعر ويكتمل معناها، كما في هذه الصورة المشهدية المركبة:[ تترأس الفوضى جمالكِ

وهو يمعن في تصايحهِ مع الغربان
فيما لا يُرى مني
سوى أسمالِ ما خلّفتِ من وجع
تخثّرهُ الشهور على الظلالِ]، إن القارئ هنا يدرك المتعة الجمالية في تشكيل الأنساق الشعرية؛ لتحقق متغيرها الفني البليغ، فلا يمكن للقارئ للوهلة الأولى أن يدرك المعنى الجمالي الخلاق للمشاهد الجزئية دون اكتمالها والوقوف على كلية المشهد، وهذا ما يجعل الشعرية المشهدية في قصائد شوقي بزيع فاعلة في الوقوف على الدلالات البعيدة، والمعاني المبتكرة.

أي أن القيمة الجمالية تتعدى التركيب التصويري بالانتقال بين اللقطات، بشكل مباشر لتدخل عمق المشاهد بمتحولاتها، ومن هنا، تتحرك الدلالات على أكثر من محور، وعلى أكثر من مثير، أي أن الانزياح في أنساق قصيدته يتحرك من الجزء إلى الكل، ومن الكل إلى الجزء؛ بتفاعل الدوال الجزئية وصولاً إلى المعاني والرؤى الكلية، وهذا يعني أن القيم الجمالية متحولة في قصائده، فقد يأتي الانزياح صوتياً تستتبعه حركة تصويرية، وقد يأتي دلالياً محرقياً تقتضيه الرؤيا الشعرية في إبراز ناتجها الجمالي، وهذا الانتقال من جزئية إلى أخرى يرفع الأسهم الشعرية للصور الانزياحية التي تنطوي عليها الحركة المشهدية والتصويرية البليغة في قصائده.

ومن يدقق في الانزياحات المشهدية الجزئية السابقة كما في قوله:[ تترأس الفوضى جمالك] يلحظ الانكسار الفني بين دلالة الفوضى والعبثية، ودلالة الجمال، أي ثمة مفارقة بين الجمال كقيمة تكاملية منظمة ومنسقة وجذابة، والفوضى وما تشي به من خراب وبشاعة وتناقض، وهذا الأسلوب نقل الصورة من جو ما ليس شعرياً إلى جو شاعري، أضفى عليها حركة تكاملية في نسق الصورة المركبة، أي إن الانحراف في شعرية المتباعدات من مغريات اللعبة الانزياحية في هذه القصيدة لتتمحرق على شعرية المفارقات الصادمة؛ سواء أكان ذلك على مستوى العلائق الإضافية؛ أو الوصفية بين المتلاصقات أو المتلازمات؛ أم على مستوى الصور الجزئية وارتباطها المركب على المستوى النصي، فثمة غنى معرفي جمالي بقيم الانزياح في تشكيل الانزياح الشعري؛ أو الجمالي في قصائد شوقي بزيع، فهو شاعر مؤسس لشعرية اختلافية، بمرجعية رؤيوية جمالية تشكيلية تدخل عمق الرؤى، ورحم الدلالات من الصميم.

والملاحظ أن الشاعر شوقي بزيع في هذه القصيدة ينقل القارئ من مشاهد بسيطة إلى مشاهد مركبة قمة في المراوغة، والخلخلة الجمالية في التفعيل النصي، لتبدو المشاهد متحركة بإيقاعاتها الكشفية عن معاني ودلالات عميقة، كما في قوله:

" في أي نهر
تهرقين الآن فاكهة اشتهائكِ،
أي صيف دائم الجريان
يبزغ مثل تغريد العنادلِ
من مسيل خطاكِ في الأيام
ثم ينام نوم الحوْرِ
في ريح الشمالِ"

لابد من الإشارة إلى أن الأيقونات الجمالية التي تخلقها الانزياحات اللغوية المشهدية في الأنساق الشعرية السابقة- تحقق مثيرها الجمالي من خلال بلاغة الانزياحات، وقيمتها، وانزلاقها وتحولها من مشهد جزئي إلى مشهد كلي، كما في قوله:[في أي نهر تهرقين فاكهة اشتهائك]، فالاستثارة الانزياحية بدأت بمتحولها الجمالي الذي شكله بقوله:[ فاكهة اشتهائك]، حيث أسند إلى الاشتهاء، وهو شيء معنوي غير مجسد بماهية أو شكل إلى الفاكهة وهي شيء مادي محسوس، لإبراز اللذة في انزياحاته وصوره بجمعه الفجائي الصادم بين المحسوس /والمجرد، والمادي/ والمعنوي، لتعميق الصورة أكثر في ذهن القارئ، وإبراز المشاهد والصور الجديدة التي ترفع أسهم الشعرية في القصيدة، وتحقق مثيرها الجمالي الخلاق.

2- الانزياح في الرؤى والدلالات الشعرية:
يعد الانزياح في حركة الدلالات والرؤى من مغريات الشعرية الحداثية اليوم التي تفعل الأحداث والمشاهد الشعرية بقيم جمالية مراوغة تستثير الموقف والحساسية الشعرية، فالانزياح يطال الدلالات والرؤى في القصائد الحداثية التي تتنوع مغرياتها ومؤشراتها الجمالية، من مؤشر دلالي إلى آخر، ومن رؤية إلى أخرى، لإبراز نواتج الدلالات وفواعلها النشطة، فالقيمة في إبراز ناتج دلالي جمالياً دون آخر تتوقف على الشكل الانزياحي المغري الذي يشكله الشاعر، في رفع شعرية دال على آخر، ومدلول شعري بالمقارنة مع مدلول آخر؛ فالقيمة في الانزياح الدلالي تتوقف على شعرية الانزياح التركيبي وقيمته العليا الجمالية التي يتخذها في السياق، بوصفه عنصراً مؤثراً في زحزحة رتابة الرؤية السطحية، وإبراز فواعلها النشطة البليغة، ولو تابع الشاعر سيرورة الدلالات الشعرية في انبثاقها وحراكها جمالياً لأدرك فاعلية الانزياح كقيمة بنائية مؤثرة تستثير الحدث والرؤيا الشعرية، كما في قوله:

" الآن تقترب القصيدة من نهايتها
إذن ستلفّق الكلماتِ لي ندماً
يناسب جسمكِ المغدور
في المرآةِ
والمنذور في المعنى لأسئلةِ الوجوهِ
تطأ النعومةُ نفسها
في ماء فتنتكِ الأليفِ
وينتشي بلعاب نأيكِ سمّها الليليّ،
وجهكِ سادرٌ في فجره العاري
ونهدكِ يستريح الآن في كنف استدارتهِ
بعيداً عن شهيق يديّ
ثم يفوح كالقمر الرضيعِ
على الورود"ِ

لابد من الإشارة إلى أن الانزياح في الرؤى والدلالات من مثيرات الرؤية الشعرية البليغة التي تهدف كسر حاجز الرؤى السطحية؛ لتدخل في نواتج الدلالة وقيمها البليغة، والشاعر في هذه القصيدة يقطف ألذ الانزياحات الرومانسية وأمتعها لتفيض برؤى جديدة ودلالات مفتوحة، كما في قوله:

"جسمك المغدور في المرآة/تطأ النعومة نفسها في ماء فتنتك الأليف/ لعاب نأيك- شهيق يدي- القمر الرضيع]، إن هذه الانزياحات ما جاءت عبثية في القصيدة، وإنما جاءت كاشفة عن عمق محتواها ودلالاتها العميقة، وهذا يعني أن بلاغة الرؤيا الشعرية تتمحرق على هذه الانزياحات التي تفيض برؤيتها الرومانسية الآسرة ودلالاتها المفتوحة، فالشاعر هنا يعيش حالة من التجلي الصوفي والإحساس اللا متناهي باللوعة والاشتياق ما وجد أمضى دلالة وأعمق من هذه الانزياحات الرومانسية الصادمة التي تخلق متغيرها الجمالي وبلاغتها المؤثرة، أي إن القيمة الجمالية للانزياح ليست بقيمة المنزاح وتحوله الدلالي، وإنما من تآلف المنزاح مع الرؤى والدلالات التي تبثها الأنساق الشعرية، فالوعي الجمالي في التشكيل النصي، يخلق متعته في إصابة انزياحاته البليغة وتحقيق قيمتها ودلالاتها العميقة؛ وهذا يعني أن الانزياح في قصائد شوقي بزيع انبثاقي الرؤيا، ينبعث من عمق الدلالة، ورحم المعنى المراوغ. ومن أجل هذا تسمو قصائده بدلالاتها المفتوحة وبناها العميقة.وهذا يعني أن القيم الجمالية في هذه الأنساق الشعرية تتمحض من انزياحاتها الوثابة في الدلالة والإيحاء.

ولو تابعنا سيرورة الانزياحات في قصيدة( كم أنت أجمل في الحنين إليك) لتأكد لنا أن الانزياح ليس ذا قيمة واحدة، في الفاعلية والتأثير، أو على سوية واحدة من الدهشة والاستثارة والجمال، فقد تأتي بعض الانزياحات مطية لانزياحات أخرى، فالانزياحات المطية لا تكتسب قيمتها إلا من خلال توهج الانزياحات الأخرى، فالانزياحات كما تختلف جمالياتها من نسق إلى آخر، فإن قيمها الدلالية متغيرة كذلك، وهذا يعني أن القيم الجمالية متوالدة فنياً، تبعاً لفاعلية الانزياح وقيمه المنتجة في عملية التحويل الجمالي للنسق، فتحول الانزياح بقيمه من سياق إلى آخر، ومن نص إلى آخر يعد الكود الكاشف عن حراك الرؤى وتفاعل الدلالات، بقيمها ومرجعياتها النصية العميقة، فالفاعلية الحساسة في اختراق الأنساق الجزئية هو ما يرفع درجة استثارتها جمالياً.

والملاحظ أن الانزياح في مفاصل القصيدة جميعها من مؤثراتها الجمالية الخلاقة، أي إن القيم الانزياحية تفيض بدلالاتها ورؤاها لدرجة لا يمكن إهمال خصوبتها ومرجعيتها الجمالية، كما في قوله في هذه الانزياحات التي نوردها بالتفصيل:

ستلفّق الكلماتُ أفئدةً ملائمةً
لعجزي، دون هاتفك المعطّلِ،
عن مفاتحةِ الصباحِ
بما يلائم من شرودي *
ومجرّةً مشفوعةً بهديلها
لمرور شعركِ في حقول القمحِ
وهو يهبّ مثل كنائس تعبى
على خبز المناولةِ المقدّسِ
أو يؤلّب نوم تفاح الجرودِ *
على الجرودِ
عبثاً أردّ على تنفسكِ المثلّم بالنشيجِ
غلالة الهذيان
أو أرفو شغوركِ في المكانِ
بخيط حكمتيَ الضرير، *
وأستردّ من الحياةِ،
وقد أضاءتْ في ابتهال آخرٍ،
أضغاثَ كوكبها الولودِ
* لو كان ثمة ما يقالُ،
أرقّ مما قاله العشاقُ من قبلي،
لخلّصتُ العبارة من تلعثمها
وذبتُ من الحنينِ
كما يذوبُ النايُ في القصب البعيدِ
الآن تقترب القصيدة من نهايتها *
ليبتكر الوداعُ مرافئاً مفقوءة الأمواج
للزمن الذي يأتي
وأعواما تلوّح كالمناديل القديمةِ
في محطات تطولُ
بلا قطارِ

ما كان هذا الحبّ *
غير تلمسِ المجهولِ في المرئيّ
والنفق الذي يجتازهُ
جسدانِ مخمورانِ، منحنييْنِ،
في البحث العقيم عن الفرارِ
* ما كان هذا الحبّ
غير تبادلِ الأعمار بين اثنينِ،
والصوتِ المضاعفِ للجمال الغضّ
وهو يعيد تضميد الفراغِ
بما يليقُ من الغبارِ *
كم أنتِ نائيةٌ وفاتنة الغيابِ
ولا يليكِ من الظهورِ
سوى الحجاب،
ومن حلولكِ في الخريفِ
سوى انحلالي كالدموعِ على سفوحكِ *
واتحادي بالخرافةِ
كي أزحزح صخرة الرؤيا
وأُبعث، كالمسيح الحي، من قاع انتظاري]

إن من يتأمل في الانزياحات السابقة يدرك أن جلها انزياحات رومانسية تفيض بدلالاتها ورؤاها الخلاقة، وتؤكد بكارتها في انزياحها عماهو مألوف في شكل القول الشعري، وهذا يعني أن بلاغة الرؤيا الشعرية تتحدد بمتغيرها الجمالي، ذلك أنها انزياحات محملة بمعانٍ ودلالات بليغة، كما في الانزياحات الشعرية التالية:[فاتنة الغياب- الجمال الغض-مرافئ مفقوءة العينين-هاتفك المعطل- الصوت المضاعف-غلالة الهذيان-خبز المناولة المقدس-]، إن كل جملة تتضمن قيمة فنية أو جمالية في انزياحها الخلاق، وهذا يعني أن فواعل الرؤية الشعرية تتحدد بمتغيرها الجمالي كقيمة بلاغية مؤثرة في استجرار الدلالات وتحقيق مثيرها البليغ، ولا يخفى على قارئ قصائد شوقي بزيع أن الانزياحات في قصائده لاتأتي عبثية أو مجانية الرؤى والدلالات، مما يعني أن بلاغة الانزياحات تتحقق من خلال بلاغة ماتثيره في نسقها، وهذا يعني أن المحفزات الشعرية ذات قيم بلاغية عظمى في تحريك الأحداث، وتفعيل الأحداث الشعرية، وعلى هذا تحقق القصائد الشعرية عنصر تفعيلها للنص لتبرز كقيم جمالية مؤثرة في تحريك الشعرية من جذورها، ولهذا يخطئ من ظن الحداثة في شكلها وبنائها وإنما في توهج رؤاها ومثيراتها الضمنية التي تؤكد تلاحم اللفظ بالمعنى، والشكل بالرؤى والدلالات الشاعرية العميقة؛وهنا نلحظ في هذه القصيدة تكامل القيم الجمالية في مختلف الأشكال الانزياحية التي ظهرت عليها القصيدة لتحقق سموها، في الدلالات والرؤى ومنابع إثارتها المتحركة.

وصفوة القول:

إن الانزياح – بصوره وأشكاله المختلفة في هذه القصيدة- جاء تبعاً لمقتضى فني جمالي بليغ، أراده الشاعر ليكون المحرك الضمني لشعرية الصور والرؤى والدلالات على اختلافها وتشعبها في القصيدة ليدخل الانزياح ضمن مايسمى بالمضادة أو المفارقة باقتران المتباعدات لتحقيق قيمة جمالية تقتضيها التجربة.

نتائج أخيرة:
1-إن الانزياح - في هذه القصيدة - لم يأت على وجه واحد، ودلالات مقتصدة، فهو انزياح مفتوح على عدة وجوه وأشكال مختلفة يتعدى ما هو جزئي ليدخل في نطاق ما هو كلي وجمالي في التركيب، أي ثمة جمالية ماثلة في الجزء تنتقل إلى الكل أو المجموع، فالتمهيدات الانزياحية أو المقدمات الانزياحية أكثر قيمة وإبداعا من التوهجات الانزياحية ذاتها في كثير من الأحيان، لأن الشاعر يجعلها نقطة انطلاقة قوية للانزياحاته الفنية قاطبة، ليأتي الانزياح صادماً خلاقاً للشعرية في جوانبها ورؤاها التشكيلية كافة.

2- إن الانزياح في قصيدة (كم أنت أجمل في الحنين إليك) يسمو إبداعياً بمحاورها التشكيلية كلها، لدرجة أن معظم الظواهر الأسلوبية الأخرى ترتقي في قصائده؛ كالازدواج، والتنسيق، والتضاد، والتوازي، والمناورات التشكيلية- والصور، والمشاهد المتحركة؛ كلها تكتسب قيمة جمالية بليغة بهذه الانزياحات الوهاجة التي تثيرهاهذه القصيدة في رتمها وسموها الجمالي.

3- إن الكثير من الصور الانزياحية التي تخلقها قصائد شوقي بزيع تتأسس على متحركها الفني؛ الذي ينقل الدلالات من بنية إلى أخرى ومن دلالة إلى مثيلتها في التركيب، لتسمو بالقصيدة بمتحولها الجمالي أو النصي البليغ؛ وهذا يعني أن الانزياح في هذه القصيدة شامل لجزئياتها كلها من أدنى وحدة تركيبية إلى أعلاها، مما يدل على قيمة جمالية عليا تحققها على مستوى خلودها كنص شعري وهاج بطاقته الإبداعية السامقة.

4- إن الصدمات الانزياحية التي تخلقها قصائد شوقي بزيع تتأسس على مغريات الأنساق اللغوية الصادمة، لتخلق مثيرها الفني التجاذبي، عبر مفارقات تصويرية جدلية غير معهودة على هذه الشاكلة من الانزياح، والخلخلة الجمالية في التركيب؛ وكأن الشاعر – بهذه النوسات الجمالية – غير المعهودة في التشكيل، يخلق منابع الإثارة والمتعة الجمالية في النسق الشعري؛ وهو ما يضمن للقصيدة منابع إثارتها ولذتها الجمالية.

الحواشي:

(1) بزيع، شوقي، 2005- الأعمال الشعرية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ج2/ ص

(2)حني، عبد اللطيف- شعرية الانزياح وبلاغة الإدهاش في الخطاب الشعري الشعبي الجزائري، ص موجود على الرابط التالي:

(3) بخولة بن الدين- الانزياح الدلالي وأثره في تطور اللغة، جامعة حسيبة بن علي الجزائر، ص81-82.

(4) السد، نور الدين، 1997- الأسلوبية وتحليل الخطاب، ج1/ الجزائر، دار هومة، ص179.

(5) بخولة، بن الدين- مرجع سابق، ص86

(6) المرجع نفسه، ص87.

(7) العمري، محمد- البلاغة أصولها وامتداداتها، ص297، نقلا من ابن الدين، مرجع سابق، 87.

(8)حمود الدهلكي، رحاب لفته، 2017- الانزياح الدلالي ومظاهره في شعر محمود درويش، مجلة الأستاذ، العدد الخاص بالمؤتمر العلمي الخامس، ص92.

(9) القط، عبد القادر، 1978- الاتجاه الوجداني في الشعر العربي المعاصر، دار النهضة العربية، بيروت، لبنان، ص435.

(10) شرتح، عصام، 2012- ملفات حوارية في الحداثة الشعرية، ص445.

(11) شرتح، عصام، 2017- حوار مع شوقي بزيع، مخطوط لدى المؤلف

(12) شرتح، عصام، 2012- ملفات حوارية في الحداثة الشعرية، ص423-424.

(13) مغني خيرة، نصيرة عباس، 2015- جمالية الانزياح في شعر الأخضر فلوس( دراسة أسلوبية) جامعة الجيلاني بونعامة، ص28.

(14) شرتح، عصام، 2017- حوار مع شوقي بزيع، مخطوط لدى المؤلف.