يتناول الباحث التونسي هنا رواية هند الزيادي من منطلق جديد في التناول النقدي للنصوص السردية. يستخدم مناهج تداولية الخطاب، ومزايا مبدأ التأدب الذي بسطته اللسانيّةُ "روبن لاكوف" على خطابٍ روائيٍّ حديثٍ. وبعد تعريف هذه المبدأ الخطابيِّ وتحديدِ قواعدِهِ المُتـفرّعةِ منه. يختبر قواعد هذا المبدأ لدى الشخصيّاتِ المختلفة.

التَأَدُّبُ مَبْدأً خِطَابِيّاً

دِرَاسَةُ تَطبيقيّةٌ فِيِ الخِطَابِ الرّوَائِي: رِوَايةُ «لافاييت» لهِنْد الزيادي أنموذجاً

عبد الستار الجامعي

 

تمهيدٌ:
لا يشكُّ عاقلٌ مقدارَ خردلةٍ في أنّ للتأدّبِ أدواراً محوريّةً في حياةِ المرءِ وفي ثقافتِهِ وسُلوكِهِ وفي خِطَابِهِ، بلْ إنّ عاقلاً لا يشكُّ في ما للتأدّبِ مِنْ أدوارٍ رئيسةٍ في إنجاح الخطابِ برمّتهِ؛ نعني ههنا الخطابَ الواعي ذي الرّسالةِ الواضحةِ والأغراضِ والمقاصدِ المُحدّدةِ. فالتأدّبُ هو – وفقاً لهذا المعنى- القطْبُ الذي تدور عليه رحَى الخطابِ برمّتِهِ. ومِنْ هنا تنبثقُ أهميّةُ هذا البحثِ الذي سنتطرّقُ فيه، أوّلاً، إلى تعريفِ مبدأِ التأدّبِ، وسنمّرُ على تقلّباتِ هذا المُصطلح حتى استوى على المفهومِ الذي نتخّذَهُ سَنَداً في التحليلِ. ثمّ سَنَعملُ، ضمنَ مرحلةٍ تاليةٍ، على توضيحِ كيف كان هذا المبدأُ، في أحايينَ كثيرةٍ، موضعَ تبجيلٍ واحترامٍ مِنْ طرفِ الشخصيّاتِ المُتحاورةِ التي تغذَّتْ منهُ واسْتَوْعبتهُ وَسَدَّتْ به حاجاتها في التّعبيرِ وتبْليغِ أغراضها ومقاصدها في الخطابِ الذي نُريد أنْ نجعَلَهُ مثالاً للوصفِ والتحليلِ. لنمرَّ بَعدئِذٍ إلى إبرازِ أهمِّ الخروقاتِ التي مَسَّتْهُ مِنْ لدُن زُمرةٍ أخرى مِنَ الشخصيّاتِ المُتفَاعِلَةِ في الخطاب المرومِ التصدّي له بالتوصيفِ، التي جَرَتْ إلى تحْطِيمِهِ ولمْ تَلْتَفِتْ إلى شُروطِهِ ومَقاصِدِهِ وأهَميَّتِهِ. لِنُتوِجَّ عَمَلَنَا، ضمنَ محفلٍ أخيرٍ، بالعودةِ إلى التنقيرِ في أُصولِ هذا المبدإ الخِطابيِّ المُهمِّ عَسَى أنْ يكشف لنا التحليلُ عنْ أصالةِ هذا المبدأِ، وعن تميُّزِهِ بالإيغالِ في قِديمِ ثقافتنا العربيّة مِنْ ناحيةٍ والاستمرارِ في الحياةِ مِنْ ناحيةٍ ثانيةٍ.

  1. مَبدأُ التَأدّبِ بَيْنَ النَشْأَةِ وَالمَفْهُومِ:
    يُشتَقُّ الفعلُ "تَأَدَّبَ" مِنْ "أَدَبٌ". والمفردةُ "أدبٌ" مُفردةٌ إشكاليّةٌ شاعَ استعمالُهَا بيْنَ النّاسِ، وتطوَّرَت وتقلَّبَت منذ نشأتها على مراحلَ عدّةٍ ومعانٍ مُختلفةٍ حتى استقرَّتْ على الوضْعِ الاصْطِلاَحيِّ اللِّسَانِيِّ الحَديثِ. ولكنْ رغمَ تعدّدِ اسْتِعمالاتِهَا ودَلالاتِها، فإنّ المعنىَ الحَقِيقيِّ المَقصودِ منها لا ينفصلُ، ههنا، عن ذاك الذي تكلّمَ في حقيقتهِ الأوائلُ، فقالوا: "الأدبُ الذي يتأدّبُ به الأديبُ مِنَ النّاسِ. سُمّيَ أَدَباً لأنّه يأْدُبُ النّاسَ إلى المحَامِدِ ويَنْهَاهُم عنِ المَقَابِحِ. وَأَدَّبَهُ فَتَأَدَّبَ: عَلَّمَهُ. وَفُلَانٌ قَدْ اِسْتَأْدَبَ: بِمَعْنَى تَأَدَّبَ. وَيُقَالُ لِلْبَعِيرِ إذَا رِيضَ وَذُلِّلَ: أَدِيِبٌ وَمُؤَدَّبٌ([1]) .

إذن، فهي مفردة ذاتُ طابعٍ أخلاقيٍّ يُرادُ بها السّلوكُ الحسنُ والخُلُقُ النّبيلُ والمُعَامُلَةُ اللّطِيفَةُ بين الناسِ المُتَأَصِّلَة جميعها في البَشَرِ، قبْلَ أَنْ تنزاحَ لاحِقاً عنْ معناهَا الأوّلِ الحَقيقيِّ إلى مَعْنىً ثَانٍ مَجَازِيٍّ، فتُصْبِحُ دَالّةً "على جُمْلَةِ المَعَارِف التي تَسْمُو بالذِّهْنِ وَالتي تَبْدُو أَكْثَرَ صَلاَحِيَّةً في تَحْسينِ العَلاَقَاتِ الاجتماعيّةِ، وخَاصّةً اللّغَة، والشِّعْر وَمَا يتّصِلُ بِهِ، وأَخْبَارِ العَرَبِ فِيِ الجَاهِلِيِّةِ"([2]). ولقد بيّنَ الباحثُ "أحمد الشايب" أنّ مادّةَ "أدب" كانت "تُؤدِّي منذُ أوَاسِطِ القَرْنِ الأوّلِ للْهِجْرِةِ، مَعْنَيَيْنِ مُمْتَازَيْنِ: أحدهما: هذا المعنى الخُلْقيّ التّهْذيبيِّ وهو أخْذُ النّفْسِ بالمِرَانَةِ على الفَضَائِلِ الاجْتمَاعِيّةِ، والشِيَمِ الكَرِيمَةِ، مِنْ حِلْمِ وكَرَمِ وشَجَاعَةِ وصِدْقٍ، ثم التأثّرُ بهذِهِ المِرَانَةِ لاكْتِسَابِ الأَخْلاَقِ الفَاضِلَةِ والسِّيرَةِ الحَمِيدَةِ في الناسِ. والثاني: هذا المَعْنَى التَعْليميِّ القَائِمِ على روايَةِ الشِّعْرِ والنثرِ وما يتّصلُ بهما مِنْ نَسبٍ وخَبَرٍ وأمثالٍ ومَعَارِفَ تزيدُ العقلَ نوراً، والذَوْقَ صَفَاءً، والنّفْسَ ثَقَافَةً وعْرْفَاناً"([3]).

وَرَغمَ تواتُر استعمالِ لفظةِ "أدب" قديماً وحديثاً إلاّ أنّ المعنىَ الذي ينفردُ به "مبدأُ التَّأَدُّبِ" في الدّراساتِ اللسانيّةِ الحَدِيثةِ هو كونه مبدأً مِنْ مبادئَ التفاعلِ في الخِطابِ. حيث يعرفّه الناقدُ "جيني توماس" في كتابه "المعنى في التفاعل: مدخل إلى التداوليّة" بقوله: "هو الرغبةُ الحقيقيّةُ في أنْ نكونَ لُطفاءَ مع الآخرينَ، وَهو الدّافعُ الأساسيُّ لسُلوكِ الفرْدِ اللّغويِّ"([4]).

عُرِفَ "مَبْدأُ التأدّبِ" في العُقُودِ الثلاثةِ الماضيةِ مع ظهورِ الدّراساتِ التداوليّةِ خاصةً، أيْ التداوليّة بما هي علمٌ جديدٌ في التواصلِ و"دراسةٌ تُعنى باستعمالِ اللغةِ، وتهتمُّ بقضيّةِ التلاؤمِ بين التّعابيرِ الرمزيّةِ والسّياقاتِ المرجعيّةِ والمقاميّةِ والحدثيّةِ والبشريّة"([5])، ثمّ ارتقى فيها وتطوّرَ مبدأً خطابيّاً مُسْتَقِلاً بذاتِهِ وصَالحِاً للتطبيقِ على المحاورةِ الواحدةِ، وتَمَّ اعتبارهُ ظَاهِرةً اجتماعيّةً لغويّةً صالحةً في شتّى المجالاتِ والعُلومِ ومُؤَثّراً فيها، يُضَاهِي في قيمته مَبَادِئَ "بول غرايس" الخِطابيّة، إنْ لم يَفُقْهَا قِيمَةً، إليه يلجأ المتكلّمون في المحادثةِ الوَاحِدَةِ لِضَمَانِ تيسيرِ أسْهَلَ سُبُلِ التّواصلِ بينهم.

ارتبط منطقُ التأدّبِ حديثاً بمجالِ تحليلِ الخطابِ إذن. وكان مِنَ الطبيعيِّ أَنْ تتوجّهُ عنايةُ النّقَدةِ ومُحلّلي الخِطَابَاتِ لِهذَا المنطقِ اعتباراً بأنّ العنايةَ بهِ تَأْتِي في أضعافِ العِنَايَةِ بمبادِئَ خِطَابيّةٍ أُخرى وقوانينَ قَرَّرَ ثّلُةٌ مِنَ النُّقادِ الغربيّينَ أنّها تحكمُ سَيْرَ الخطابِ وتُوجِّهُ العَلَاقةَ بَيْنَ المُتكلّمينَ. ومِنْ هَؤِلاَءِ النُقّادِ يُمكن أنْ نذكرَ خاصّةً فيلسوفَ اللغةِ البريطانيِّ "بول غرايس" (Paul Grice) الذي استنبط، في مقالته "المنطق والمحادثة"(Logique et conversation) مبدأً جوهريّاً في الخطابِ أسماهُ "مبدأ التعاون"(Principe de coopérationوَفرّعه إلى حِكَمٍ (Maximes) أربعٍ هي: حِكْمَةُ الكَمِّ وَحِكْمَةُ الكيْفِ وَحِكْمَةُ الصّيغَةِ وَحِكْمَةُ العَلاَقَةِ. وَلقد كانت لهذا المبدأ فائدةٌ عميمةٌ ونتائجُ عظيمةٌ يتعذّرُ نُكرانها في مجالِ تحليلِ الخِطابِ([6]). إذن، أغرى هذا المبدأُ النقّادَ المُهْتميّنَ بتحليلِ الخطابِ بمزيدِ التّنْقيرِ في أهميّته وإبْرازِ نقائِصِه. ومِنْ بين هؤلاءِ النقّادِ نذكرُ اللِسانيّة "روبن لاكوف "(Robin Lakoff)، التي ثمّنت إضافات "غرايس" وَوَجَّهَتْ إليها النَّقودَ في الآن ذاته. اعتبرت "لاكوف" أنّ مبدأَ التَّعَاون الغرايسي ظلَّ، على أهميّته، قاصراً عن إدراكِ خُصوصيّاتِ المُحادثةِ جميعها. فَلِئِنِ كَانَ أقْصَى "همّ" غرايس هو إظهارُ كيْفَ نَكون مُتعاونينَ في الخِطَابِ، حَرِيصِينَ على إخراجِ المُحادثةِ في مشْهَدٍ تواصُليٍّ جذّابٍ يسُرُّ المُستمعينَ (وربّما النّاظرينَ إذا كان الخطابُ مُدوّناً)، فإنّه قَدْ غَضَّ الطّرْفَ، في المُقابل، عَنْ جَانِبٍ آخرَ لا يَقُلُّ قِيمَةً عَنْ التّواصلِ في الخطابِ أَلاَ وهو التّهْذِيبُ، أوْ الجانبُ الأخلاقيُّ التهذيبيُّ. انطلقت الناقدةُ مِنْ هَذهِ الهِنَةِ – إنْ صَحَّ اعْتِبَارُها كذلك- وَصَاغَتْ عليها مَقَالَتَها صِيَاغَةً أصْبَحتْ مُرتبطةً بها، وأسْمتها مَنْطِقَ التَأَدُّبِ (The Logic of Politeness)، وَأَشَارَتْ إلى "أنّ المُتخاطبينَ فْي تَبَادُلاتهم الكَلاَمِيّةِ يحْرِصُونَ غَالِباً حِرْصاً شَدِيداً على الالْتزامِ بَقَدَرٍ كَبِيرٍ مِنَ الأَدَبِ والبُعْدِ عَنِ العدوانِيّةِ أَكْثَرَ ممّا يَتَوخُّونَ الوُضُوحَ"([7]). وَقَسَّمَتْهُ إلى قَوَاعِدَ ثَلاثٍ: قَاعِدَةُ التَعَفُّفِ وَقَاعِدَةُ التَشَكُّكِ وَقَاعِدَةُ التَوَدُّدِ. وَقَدَّمتْ الأمثلةَ التي تُعزّزُ حُضُور هذا المبدإ في الخِطَابِ وتُعَزِّزُ فَوائِدَه. وكُلُّ ذلك مهمّ، وقابلٌ للمُعَايِنَةِ. وَلَئِنْ كُنَّا نَرَى أَنَّ لِهَذَا المبدأ أُصُولاً عَربيّةً قديمةً على نحوِ مَا سَنُلْمِعُ إلى ذلك في قادمِ بَحْثِنَا، إلاّ أنّ النَّاقدةَ الفِرنسيّةِ "كاترين كيربرات أوركيوني" ثمّنَتْ مجهوداتِ لاكوف وأشارت إلى أنّ مُصطلحَ التَأَدُّبَ هو "مُصْطَلَحٌ حَدِيثٌ وَلاَ ذِكْرَ له في اللِّسَانِيَّاتِ التي سَبَقَتْ التَّدَاوِلِيَّةِ عَدَا بعْضَ الاسْتِثْنَاءَاتِ القليلةِ"([8]). إذن، اُعْتُبْرَ التأدّبُ سُلُوكاً فَرْدِيّاً وَإِرَادِيّاً مُتَأَصِّلاً في الذاتِ وَفي علاقَتِهَا بُمحِيطِهَا الاجْتِماعيِّ. ولقد قَسَّمتْ "لاكوف" مبدأ التَأَدُّبَ إلى قواعدِ ثلاثٍ رئيسةٍ هي على التّواليِ:

  • قَاعِدُةُ التَعَفُّفِ:
    ومضمونها: "لا تفرضْ على المُخَاطَبِ شَيْئاً وَلاَ تَفْرضْ نَفْسَكَ عَلَى الآخَرِينَ". ومدارُ هذه القاعدةِ أنْ يكون المتكلّمُ جديّاً في خِطابِهِ، مُلتزماً بالشكليّاتِ فيه ومُظهراً قدراً مِنَ التحفّظ في تدخّلاتِهِ، جاعلاً بينه وبين السّامعِ مسافةً مِنَ الوِدِّ والاحترامِ.

ب‌- قَاعِدُةُ التَّشَكُّكِ، أو التّخييرِ:
ومفادُها: "اِفْسَحْ مَجَالَ الخيارِ لمُخُاطَبِكَ". وذلك حتى يشعر هذا المستمع بأنّه أمامَ جُمْلَةٍ مِنَ الإمكانات الخطابيّة لا أمام إمكانٍ واحدٍ لا مفرّ لهُ منه. ففِي هذه الحكمةِ دعوةٌ إلى المُتكلّمِ ليُظهر احْتِرامَهُ للسّامِعِ ومُراعاته إيّاهُ ونزوله عند إرادتهِ ورَغباتِهِ.

ت‌- قَاعِدَةُ التّوَدُّدِ:
وفحواها: اجعلْ مخاطَبكَ يشعرُ بالرّاحةِ والطّمأنينة، وأظهرْ ودِّكَ لهُ وتعاطُفَكَ مَعَهُ، وعامِلْهُ معاملةَ الندِّ حتى تكسِبَ رِضَاهُ وصداقَتَهُ([9]).

إذن، هذه هي أهمُّ القواعدِ اللّسانيّةِ المُتفرِّعَةِ عَن مبدإ التأدّبِ عند روبن لايكوف. وممّا لاشكّ فيه أنّ الباحثةَ الفرنسيّةَ قد قدّمت بهذا المنطقِ إضافةً لافتةً ومُغريةً في مجالِ الدِّراساتِ اللّسانيّةِ التداوليّةِ الحديثة. فهي قد جعلت مبدأَ التأدّبِ مبدأً خطابيّاً رئيساً جامعاً ينضافُ إلى مبادئِ غرايس في الخطابِ. ولقد قامت بعرضٍ مُبسَّطٍ لهذا المبدإ، حتى تؤكّد أنّ وجوده مِنْ شأنه التّوسيع في مبادئِ الخِطَابِ التي لم تعد مُقتصرةً على الجانبِ اللّفظي فقط. وهذا ممّا فتحَ المجالَ لبحوثٍ لسانيّةٍ جديدةٍ في مجالِ تحليلِ التّفاعلات الكلاميّةِ.

  1. تجليّاتُ مَبدأ التَأَدُّبِ فِي الخِطَابِ الرِّوَائِيِ: رِوَايَةُ «لافاييت» لهند الزيادي أنموذجاً
    اخترنا تطبيقَ "مبدأَ التأدّبِ" على خطابٍ روائيٍّ حديثٍ مِنْ خِلالِ دِراسةٍ في روايةٍ صادرةٍ حديثاً، هي روايةُ "لافاييت" للروائيّةِ التونسيّةِ "هند الزيادي". وتُعدُّ "لافاييت (Lafayette) ثالثُ ثلاثِ رواياتِ المؤلِّفة بعد روايتيْ "السّجينة" وَرواية "الصمت". ولقد صدرت في طبعةِ الدارِ المتوسّطيّة للنشر2015، عددُ صفحاتها مِنَ الحجْمِ المتوسّط: 206 صفحةً([10]). و"لافاييت" حيُّ في قَلْبِ العَاصمةِ التونسيّة دارت فيه أغلبُ أحداثِ الروايةِ وتفاعلت فيما بينها أغلبُ شخصيّاتُها. ولقد ركّزت الكاتبةُ في روايتها على عرْضِ حكاياتِ فتياتٍ خمسٍ؛ أمينة، فاطمة، وفاء، راضية، يُسر، كان لكلٍّ مِنهنّ برنامجٌ قصصيّ مختلفٌ. ويُردّ اختيارنا هذه الرواية بالأساسِ إلى ما وقفنا عليه مِن تجليّاتٍ واضحةٍ قابلةٍ للقياسِ لهذا المنطقِ في الحوارِ بين بعضِ شخصيّاتِها.

إنّ الناظرَ في متْنِ "لافاييت" يلحظ أنّ شخصيّاتها كانت في الغالبِ على درجةٍ عاليةٍ مِنَ التأدّبِ، على الرغم مِنْ أنّهنّ كنّ يُعانينَ جميعهنّ، وعلى ما يظهر في الخطابِ، مِن درجةٍ كبيرةٍ مِنَ الشّقاءِ. فأمينةُ تتمثّل وظيفتها السرديّةُ في العملِ خادمةً عند إحدى السيّداتِ مِن طبقةِ الأثرياءِ، وتقوم من خلال هذا العمل ِبالدّفاعِ عنْ أختيْها بعد وفاةِ أمّها وزواجِ أبيها([11])، وفاطمةُ خريّجةُ رياضياتٍ عاطلةٌ عن العملِ وتنحدرُ مِنْ ريفِ الجنوب التونسيّ، ولّت وجههَا شطرَ العاصمةِ التونسيّةِ بحثاً عن عملٍ علّها تُشارك به في إعالةِ عائلتها الفقيرةِ([12])، ووَفاءُ شابّةٌ جميلةٌ عاشت تجربةَ زواجٍ فاشلةٍ([13])، وراضيةُ "حاصلةٌ على الدكتوره في البيولوجيا البحريّة وعاطلةٌ عن العملِ، اُضطرّت للعمل سكرتيرة بفرعٍ لشركةِ اتّصالاتٍ أجنبيّةٍ :تستقبل المكالمات وتردّ على الاستفسارات وترتّب البريد وتتلقّى الإهانات ومحاولات التحرّش بابتسامة صابرة وتجاهلٍ مدروس"([14]). و"يُسرُ" خريّجةُ حقوقٍ، عاشت تجربةَ زواجٍ فاشلةٍ دامت أربعَ عشرةَ سنةً بدونِ أطفالٍ([15]). ولعلّ في التزام الشخصيّاتِ بهذا المبدإ الخطابيّ ما يقوم دليلاً على أنّه أمرٌ مرغوبٌ فيه، ونابعٌ مِنْ إرادةِ الإنسانِ الواعيةِ والحرّةِ والصّادقةِ في تحقيقِ أكبرِ قدرٍ مِنَ التفاهمِ والانسجامِ في المحادثةِ. ولِننْظُرْ الآن في أهمّ هذه القواعدِ المتفرّعةِ عن منطقِ التأدّبِ حتى نتثبّت في كيفيّة تطبيقها مِنْ لدُنِ شخصيّاتِ الرواية، ولْنبدأ بقاعدةِ التَّعَفّفِ.

  • قَاعِدَةُ التعفّفِ:
    لنستذكرْ فحوى هذه القاعدة، فهي تنصّ على الآتي: "لا تفرضْ على المُخَاطَبِ شيْئاً ولا تفرضْ نفسكَ على الآخرينَ"، وإلى ذلك هي تحكم بلا أخلاقيّةِ التعالي عنِ الناسِ أو استغلالِهم أو التعدّي على حقوقهم ورغباتهم. ولمزيدِ التدقيقِ في فحوى القاعدةِ يُمكن أنْ ننظرَ في المثالِ التالي المُستلّ منْ خطابنا الروائي المُختار، قال الراوي: "وضعتْ راضيةُ الطبقَ ثمّ عادت إلى الداخلِ لتُوقِظَ الفَتياتِ .. وَجدتْ مَكانَ فاطمة خالياً، معنى ذلك أنّها استيْقَظت ودَخَلت إلى الحمّامِ أمَّا يُسر والفتاتان الأُخريان فمَازِلْنَ نائماتٍ ... تَرَدَّدت في إيقاظهنّ ... اليومُ الأحدُ والجميعُ يجبُ أنْ يرتاحَ يومَ الأحدِ ... ستترُكَ لهنّ فَطورهنّ"([16]).

يتبيّن مِنْ خلالِ هذا الشّاهدِ أنّ "راضية" قد مارست ضرباً مِنَ التأدّب لأنّها لم تشأ أن تفرض رأيَها على الأخرياتِ وتُوقظهنّ ليُشاركْنَها فطورَ الصّباحِ. فهي تعلمُ أنّ ليْلةَ الأَحدِ هي ليلةُ التّنفيسِ والاستمتاعِ والتّعويضِ، وهي تعلمُ أيضاً أنّ يومَ الأحدِ هو يومٌ مُخصّصٌ للرّاحةِ عندَ التونسييّنَ ينسون فيه نفسَهم ويُفرّجون همّهم، لا سيما في تونس العاصمةِ بالذاتِ حيث إنّ وتيرةَ الحياةِ في سَائِرِ أيّامِ الأسبوعِ تبلغُ أقصاهَا. وهي تعلمُ، أيضاً، أنّ يومَ الاثنين هو أوّلُ أيّامِ العملِ وبِدايةِ أسبوعٍ طويلٍ مِنَ العملِ الشاقّ، لذا كان مِنَ اللاّزِم عليها الحرْصَ على راحتهم وسلامتِهم وتفهّم رَغَبَاتِهِنَّ في الخطابِ، والانتصارِ إلى قاعدةِ التعفّفِ التي تجُبرها بأنْ تحترمَ آراءَ الآخرينَ وتتركَ لهم حُريّةَ الاخْتيارِ وتنْأَى بِنفسها عنِ الالْتِحامِ معهنّ وعدمِ الرّغبةِ في تحطيمِ الحواجزِ بينهنّ والدخولِ معهنّ في مواجهةٍ سافرةٍ وخطابٍ عسيرٍ. فهي ذاتٌ بليغةٌ وتعلم بأنَّ إيقاظهنّ في هذا اليومِ بالذاتِ وفي وقتِ الفطورِ فعلٌ مِنْ شأنه أن يخرق مبدأَ التأدّبِ ويمرّ مِنْ حالةِ التّوازنِ إلى اللاّتوازن في الخطاب. وهكذا نرى أنّ الالتزام بهذا المبدأ قد سعى إلى مَنْعِ ما يُمكن وقُوعه مِنْ أحْدَاثٍ جسيمةٍ قد تتأتّى مِنْ إمكانيّة خَرْقِهِ. فقاعدةُ التّعفُّفِ أظْهَرَتْ مِنْ ناحيةٍ ثانيةٍ القيمةِ الأخْلاقيّةِ المُلزِمَةِ للذواتِ المُتفَاعِلَةِ. فهي تتّخذُ صِفَةَ الوَاجِبِ الذي لا يجوزُ مُخالَفتهُ ولا حتى مُناقَشتهُ، فكأنّهُ مَفروضٌ على الإنسانِ مِنْ أَعْلَى.

  • قَاعِدَةُ التَّشَكُّكِ، أَوْ التَّخْييرِ:
    مفادُ هذهِ القاعدةِ: "افْسَحْ مجالَ الخِيَارِ لمُخَاطِبك". ومِنْ ذلك ما يظهرُ في قوْلِ الراوي: "قالت يُسرُ لصديقتيْها في السَّكَنِ: "ما رأيُكُمَا أنْ نَخْرُجَ لِنَتَعَشَّى الليلةَ خَارِجاً، أكيد l’avenue عامرٌ في هذه السّاعةِ فلْنَتَعَشَّى هناك ثم ندخلُ أيَّ سينما .. وكُلُّهُ على حِسَابِي"([17]).

جَرَى في هذه المحُادثةِ تبادلٌ كلاميٌّ قصيرٌ بين يُسر وصديقتيْها. وهو تبادلٌ مِنْ شَأنِهِ أنْ يُعيننا على فَهْمِ كيفيّةِ تطبيقِ قاعِدةِ التشكُّكِ في الخِطابِ. لاحظت "يُسرُ" أنّ "راضيةَ" قد أوشكت على الانهيارِ- بلْ هي كذلك فعلاً، بدليلِ تقريرِ الراوي "انهارت راضيةُ باكيةً على سريرها وسطَ بقايا الصورِ الممزّقةِ وهي تضع رأسها بين يديْها وتركلُ الحاسوبَ بعيداً"([18])- فقالت لها ولصديقتيْها مُظهِرةً لهما تضامناً ومقدِّمةً لهما نصيحةً واقتراحاً، قالت: "ما رأيكُما أنْ نخرج لنتعشّى الليْلةَ خَارجاً".

إنّ تحليلَ هذه المُحادثةِ يُبيّن أنّ الخِطابَ المقترحيَّ المُقدَّمَ مِنْ "يُسْر" والذي تمّت فيه مُراعاةَ قاعِدةِ التشكّكِ، والقاضي بأن يخرجن ثلاثتُهنَّ للعشاءِ في l’avenue- شارعُ الحبيب بورقيبة الذي يُعتبر الشارعَ الأكثرَ شهرةً في وسطِ العاصمةِ التونسيّةِ- قد وجد في نفسِ المتلقّينَ استحْسَاناً وَقَبُولاً حَسَناً. فهو قد بدَا مُقنِعاً، و"القولُ المقنعُ طاغيةٌ لا يُقاومُ"([19])، لأنّه صيغَ صوغاً حسناً تمّت فيه مُراعاةِ قواعدِ التأدُّبِ. وهو يُجبرُ، مِنْ ثمّة، على الاقتناعِ والعَملِ بمقتضياتهِ فَوْراً. هذا ما نفهمه مِنْ قَوْلِ الراوي مُقرّاً بِسَلاَمةِ تبليغِ الخِطَابِ وتواصله وضَمَانِ نجاحِ المُحادَثَةِ وتَطوّرِهَا، ووَاصِفاً حالَ يُسْرِ معَ صَدِيقتيْها اللّتيْنِ اسْتَجابتَا لمُقترَحِهَا في الخطابِ، قال: "تَضاَحَكَتْ وهي تشدُّ راضيةَ خارجَ السّريرِ بيْنَمَا انتهت فاطمةُ مِنْ ارْتِداءِ ملابس الخُروجِ"([20]).

ت‌- قاعدةُ التودّدِ:
يتمثّل فحوى هذه القاعدة في الشرط التّالي: اجعلْ مخاطبَكَ يشعرُ بالرّاحةِ والطمأنينةِ، وأظهرْ ودِّكَ لهُ وتعاطُفَكَ مَعَهُ، وعامِلْهُ معاملةَ الندِّ حتى تكسِبَ رِضَاهُ وصداقَتَهُ. ويُمكن أنْ نَتَبَيّنَ كيفيّةِ تَطْبيقَ هذه القاعدةِ خاصّةً في المُحادثةِ التعارفيّةِ الآتية التي دارت بيْن أمينة، وجارتها البنت الشابّة التي كانت تنشرُ غسيلاً على الحبْلِ. وهي محادثةٌ أوْرَدتها الراوية/الكاتبةُ باللّهجةِ التونسيّةِ العاميّة رغبةً مِنْها في تكريس البعد الواقعي لأحداثِ روايتها ولشخوصها الواقعيّةِ([21]). قالت الفتاةُ بعد أنْ أقبلت نحو أمينة:

  • صَبَاحُ الخَيْرِ
  • صَبَاحُ الخَيْرِ...عَسْلاَمَة...جديدةٌ أنتِ هُنا...مُوُشْ هَكَّةَ؟
  • إِيِهْ...جَدِيدَةٌ...جِيِتْ البَارَحْ...نِخْدِمْ عِنْدَ جَارَتْكُمْ اللِّيِ فِيِ الطَّابِقِ الثَالِثِ، مَازِلْتْ مَا حَفَظْتِشْ اِسْمهَا
  • مِنِينْ أَنْتِي؟ اَشْ اِسْمِكِ
  • مِنْ عِينْ دَرَاهِمْ...اِسْمِي أَمِينَة
  • نِتْشَرْفُوا أَمِينَة...هَيَّا بِسْمِ اللهِ مَعَانَا...نَحْنَا جِيِرَانِكِ فِيِ السَّطْحِ
  • بِالْشِّفَا سَبَقْتْكُمْ...عِنْدِيِ بَرْشَا شْوَارْ، وَالْعَزُوزَةَ لاَ تَتَكَلَّمْ لاَ تِمْشِيِ...
  • بَاهِيِ مَرَحْبَا بِيكْ عَلَى كُلِّ حَالْ...إِنْ شَاءَ الله مَعْرِفِةْ خِيرْ..اِحْسِبْنَا خوَاتِكْ كَانْ تِسْتَحَقّ أَيّ حَاجَة.
  • يِعَيْشِكْ إِنْ شَاءَ الله مَعْرِفِة خِيِرْ([22]).

[صَبَاحُ الخَيْرِ

  • صَبَاحُ الخَيْرِ...أَهْلاً بِكِ...سَكَنْتِ حَديثاً هُنا أَلَيْسَ كَذَلِكَ؟
  • نَعَمْ سَكَنْتُ حَدِيثاً...أَتَيْتُ البَارِحَةَ...أَنَا أَشْتَغِلُ عِنْدَ جَارَتِكُمْ التي تَقْطُنُ فِي الطّابِقِ الثّالِثِ، لمْ أَحْفَظْ اِسْمَهَا بَعْدُ.
  • مِنْ أيِّ مِنْطَقَةٍ أَنْتِ؟ وَمَا اِسْمُكِ؟
  • أَنَا مِنْ عَيْن دَرَاهم...واِسْمي أمينة.
  • سُرِرْنَا بِمَعْرِفَتِكِ أَمِينة....مُدّي يَدَكِ مَعَنَا لِتَأكُلِي...نَحْنُ جِيرَانِكِ هُنَا عَلَى السَّطْحِ
  • هَنِيئاً لَكُمْ لَقَدْ سبَقْتكم إِلَى الأَكْلِ...عِنْدِيِ مَشَاغِلُ كَثيرةٌ، والعَجُوزُ لا تَتَكَلَّمُ وَلاَ تَسْتَطيعُ الَمشْيَ.
  • حَسَناً مَرْحَباً بِكِ على أيّةِ حَالٍ، إنْ شَاءَ اللهُ تكونُ مَعْرِفةَ خَيْرٍ ، لكِ أن تعتبَريِنَا اِخْوَتَكِ إنْ اِحْتَجِتِ شَيْئاً ما
  • شُكْراً لَكِ إنْ شَاءَ اللهُ مَعْرِفَةَ خَيْرٍ].

تبدأ الفتاةُ، المُفتتحةُ للْحوارِ والمُتوسّلةُ بالسّؤالِ، المحادثةَ باستراتيجيّاتٍ خِطابيّةٍ مخصوصةٍ، قاصدةً بشكلٍ ظاهرٍ أنْ تقوم بتفاعلٍ لسانيٍّ لفظيٍّ جدّيٍّ ومعقولٍ ومُصفَّى مِنْ أيّةِ قصودٍ دفينةٍ، دعواها فيها مُجرَّدَ التعرّفِ والتلطّفِ في الخطابِ و"الدردشة" مع أمينة، والجامعُ بينهما "السِّياقُ الابتدائيُّ" الذي يكون "مُعْطىً فورًا ومُباشرةً" بحسب ما أشار إليه مؤلّفا كتاب نظرية الصّلة أو المناسبة([23]). ويبدو أنّ حِرْصَ المتكلّمةِ على الالتزامِ بقاعدةِ التودُّدِ قد أعطى أُكلهُ وأثْمَرَ وأيْنَع. لذلك فإنّنا نُلاحظُ انسيَاباً مِنَ الفهْمِ التّامِ والصادق في الخطابِ؛ أيْ الخالي مِنَ المُوالسةِ والإِرَاغَةِ، والمُتبادل بيْن طَرَفيْ المُحادثةِ. وهناك رغبةٌ جادّةٌ، مِنْ خلالِ هذا المسلكِ الخطابيِّ المُـمثّل في الاستفهام الذي سَلَكَهُ المتكلّم في المحادثةِ، في تكوين معرفةٍ عامّةٍ وفي التواصل. وهناك نشاطٌ خطابيٌّ تداوليٌّ مُتناسقٌ ومُثمرٌ ومُقسّمٌ ومُشتركٌ، وإرادةٌ تواصليّةٌ متساويةٌ، شفّافةٌ وهادئةٌ (طلب - إجابة) وحسنةُ النيّةِ بين طرفيْن، أحدُهما عارفٌ والآخرُ راغبٌ في معرفةِ معلوماتٍ وفي استيضاحها، وفي بَسْطِ جملةٍ مِنَ التصوّرات. وهذا كُلُّهُ طبيعيٌّ، فالأصْلُ في الاستفهام "طلبُ خبرِ ما ليسَ عندكَ"([24]).

ولنا في المحاورةِ الآتية بين يُسر وراضية مثالٌ ثانٍ على تطبيق هذه القاعدة. وفي هذا المثال محادثةٌ باللّهجةِ العاميّةِ التونسيّةِ تمّت أيضاً بينَ يُسر وراضية، قالت راضيةُ:

  • مَكْبُوبُ السّعْدِ مَا جَاشْ اليُومْ نَلْقَاهْ كَاتِبْلِي مِيسَاجْ اللّي هُوُ مْسَافِرْ فِيِ خِدْمَة وَمُوشْ بَشْ يَقْدَرْ يِكَلّمْنِي لِمُدّةْ أُسْبُوعْ.
  • مِنَ المُمْكِنِ أنّهُ فِعْلاً مشْغُولْ وَسَيُهَاتِفُكِ حَالمَا أَمْكَنَهُ ذَلِكَ.
  • أَكِيدْ إِنْ شَاءَ اللهْ([25]).

وهذا نصّ المحادثة بالعربيّة الفُصْحى:

  • [سيّءُ الحظّ لم يأتِ اليومَ، وَجَدْتُهُ قَدْ تَرَك لي رِسَالَةً يُعْلِمُنِيِ فِيهَا أَنَّهُ سَيُسَافِرُ فِي عَمَلٍ وَلَنْ يَسْتَطِيعَ الاتّصَالَ بِي لِمُدَّةِ أُسْبُوعٍ
  • مِنَ المُمْكِن أَنَّهُ فِعْلاً مَشْغُولٌ وَسَيُهَاتِفُكِ حَالمَا أَمْكَنَهُ ذَلِكَ.
  • هذا مؤكّدٌ إِنْ شَاءَ اللهُ].

في هذه المُحادثة تُبدي راضية مِن حبيبها الافتراضيّ "راشد"، الذي تعرّفت عليه عَنْ طريقِ الانترنيت، امتعاضاً. ومردُّ هذا الامتعاضِ عدمُ إيفاءِ حبيبها بالموعدِ الذي كان يلتقيان فيه يوميّاً على صفحات هذا العالم الافتراضي. لذلك توسّلت بجملةٍ مِنَ الأَعْمَالِ القَوْليّةِ التصادميّةِ المُباشرةِ مِنْ نحوِ الاستنقاصِ والشّتْمِ والتّحْقيرِ التي يُلخّصها الملفوظُ (مكبوبُ السّعدِ = سيءُّ الحظِ) الذي مِنَ الواضحِ أنّه عَارٍ مِنْ كُلِّ تَأَدُّبٍ. وذلك رغبةً منها في تبليغِ مقاصدَ مخصوصةٍ ذاتِ طبيعةٍ حجاجيّةٍ في الخطاب أهمّها: خرْمُ مروءة "راشد" والتعبير عن فَسالته وتنفير المتلقّي، يُسر، مِنه وجَعْلِهِ يتّخّذُ موقفاً سلبيّاً إزاء هذه الشخصيّةِ التي أتتْ على أفعالٍ تجعلها غيرَ جديرةٍ بالاحترامِ والتقديرِ. بيْدَ أنّ يُسراً لم تشأ أنْ تكون مجرّدَ مُتلقٍّ سلبيّ يظلُّ صموتاً ومكتوفَ الأيْدي إزاءَ ما يُعرض عليه مِنْ آراءٍ، واختارت، بَدَلَ ذلك، أن تكون مُتلقٍ مسؤولاً ومُتفاعلاً في الخطابِ، قالت: "مِنَ المُمْكِن أَنَّهُ فِعْلاً مَشْغُولٌ وَسَيُهَاتِفُكِ حَالمَا أَمْكَنَهُ ذَلِكَ". يتبيّنُ أنّ يُسراً قد أبدت حِرْصَها الشّدِيدَ على الالتزامِ بقاعدةِ التودّدِ في الخطابِ. فهي تُريدُ أنْ تُظهرَ ودِّها لراضية وتعاطُفَها مَعَهُا في هذه المحادثةِ وفي هذا السياقِ (Contexte) المخصوصِ. لذلك لجأت إلى مسلكٍ خطابّي يُيَسِّرُ لها تقديمَ الذرائعِ في الخطابِ والمسوّغاتِ مِنْ أجْلِ البرْهنةِ على صِدْقِ "راشد" وتَبْرِئَتِهِ مِنْ صفاتِ التّخاذلِ والكَذِبِ التي أُلْصِقَتْ بهِ مِنْ طرفِ راضية، وبالتالي إنقاذِ صُورةِ وجههِ، التي ربّما تكون قد تلطّخت في نظرِ حبيبته، وتلميعها.

إذن استبدلت يُسرُ، في هذا المسلك الخطابيّ، سبباً قد يكون حقيقيّاً (الكذب) وَيصعُب الإدلاءُ بهِ لأنّه يزيدُ مِنْ توّتر نفسيّةِ "راضية" وتأزّمها، بسببٍ آخرَ يبدو أقربَ إلى المنطقِ في هذا السّياقِ المخصوصِ، ويُوهمُ مِنْ خلالهِ المُتلقّي ويَتذرَّعُ بأنّ سببَ عَدُولِهِ عن هذا اللقاءِ "الافتراضي" إنّما هو انشغالُهُ بِعَمَلٍ ألهاهُ فعلاً، ويُحاول إقناعَ هذا المُتلقّي، وكُلَّ مُتَلَقٍ تَالٍ للخطابِ، بأنَّ العَمَلَ الطَّارِئَ لاَ الكَذِبَ هو سبَبُ الإخلافِ بالوعْدِ عَنِ اللِّقاءِ. وذلك محاولةً منها لتُخفّفَ مِنْ حدّةِ المأزقِ الذي وقعت فيه، ولِتَدْفَعَ عن راشد تُهمتيْ الكَذِبِ وإعطاِء الوعودِ الزائفةِ، ولتُظهر تعاطفَها مع المُتكلّمِ، ثمّ لِتبْنِيَ مِنْ وراءِ ذلك كُلِّهِ صُورَةً إيجابيّةً لذاتها؛ صورةُ المُستمعِ المُتعاطفِ مع محُاورهِ والمُراعي لأبسطِ قوانينَ التأدّبِ في المُحادثةِ.

ويبدو أنّ خطابَ الأعذارِ الذي توسّلت به يُسر وقالت: إنّ رشيداً فعلاً مشغولٌ وإنّه سيتّصلُ بها وقْتما أمْكَنَهُ ذلك، قد احتوى على قدرٍ كبيرٍ مِنَ الحجاج، نعني ههنا الحجاجُ بمفهومه التقنيِّ الحديثِ الذي نتبنّاه في هذا البحثِ، أيْ بما هو "درسُ تقنيةِ الخطابِ التي مِنْ شأنها أن تُؤدّي بالأذهانِ إلى التسليمِ بما يُعرضُ عليها مِنْ أطروحاتٍ، أو أن تزيدَ في دَرَجَةِ ذلك التسليمِ([26]). إذن، حقّق خطابُها أهدافَهُ المرجوَّةَ عند راضية التي أبدت اقتناعاً باستراتيجيّةِ الأعْذَارِ التي توسّلت بها يُسرُ. وما كان جوابُها إلاّ أنْ قالت: "هذا مؤكّدٌ إِنْ شَاءَ اللهُ". لقد جاءت قولتها تقريراً أكّدت فيه انشغالَ عشيقها، بحقّ، عن مَوعِدِهِ المضروبِ.

إذن، تُظهر هذه الأمثلةُ أنّ الشخصيّاتِ في "لافاييت" كثيرا ما كانت راغبةً في الالتزام بقواعدِ التأدّبِ في الخطابِ، وحتى عندما تشعر بأنّها خَرَقْتهُ على نحو غير واعٍ أو غيرَ مقصودٍ، أحياناً، فإنّها سرعانَ ما ترتدُّ بسرعةٍ لسدِّ هذا الخرقِ وترميم الشّرْخِ الذي انجرّ عنه. ولنا في المحادثة الآتية بين "فاطمة" و"يُسر"، إشارةٌ ساطعةٌ على ذلك:

"تكلّمت فاطمةُ موجّهةً حديثها إلى يُسر:

  • وَأَنْتِ مَا الذِي جَاءَ بِكِ إلى تُونِسَ؟
  • أَنَا يُمْكِنُ القَوْلُ إِنَّنِي أُريدُ أَنْ أَبْدَأَ حَيَاةً جَدِيدَةً...أَسْعَىَ إِلَى كِتَابَةِ رِوَايَةٍ لَمْ أَبْدَأْهَا بَعْدُ، أَتَطَلَّعُ إِلَى آفَاقٍ جَدِيدَةٍ.
  • مَعَ كُلِّ مَا يَحْدُثُ حَوْلَنَا...لَدَيْكِ الكَثِيُر لِتَرْوِيهِ.
  • هَلْ استقرَّ رَأيُكِ على عنوانٍ؟
  • الواقعُ ليسَ بعْدُ...لمْ أَشْعُرْ بعدُ بِأيّْ إِلْهَامٍ
  • لاَ تَسْتَعَجِلِيِ قَلَمَكِ أَعْتَقِدُ أَنَّكِ يَجِبُ أَنْ تُخَصِّصِيِ وَقْتاً لِتُرَمِّمِي مَا اِنْكَسَرَ مِنْ نَفْسَكِ...أَرْبَعَ عَشَرَةً سَنَةً لَيْسَتْ زَمَناً هَيِّناً في عُمُرِ زَوَاجٍ انْكَسَرَ حَدِيثاً. ضَحِكَتْ يُسْرُ ضَحْكَةً عَصَبيَّةً...فَتَبَادَلَتْ فاطمةُ وراضية نظرةً مُتواطئةً...واضحٌ أنَّ المَوْضُوعَ مَازَالَ يُؤْلِمُهَا...وَسَارَعَتْ بِالاعْتِذَارِ.
  • أَنَا آسِفَةٌ...لَمْ يَكُنْ عَلَيَّ أَنْ أُذَكِّرُكِ...
  • لا بَأْسَ...لا فَائِدَةَ مِنْ تَجَاهُلِ وَاقِعٍ مَوْجودٍ دَاخِلِي...كُلَّمَا أَسْرَعْتُ بِالتَخَلُّصِ مِنْ مُخَلَّفَاتِهِ، كَانَ ذَلِكَ أَحْسَنُ...([27])

يبدو مِنَ اليسير مُلاحظةَ أنّ خطابَ فاطمة هو، مِن الناحيةِ التداوليّةِ، خطابٌ غيرُ مُراعٍ لمبدإ التأدّبِ وللقواعدِ المُتفرِّعَةِ منه. فهو يفتقرُ إلى بعض الشروطِ التهذيبيّةِ؛ مِن بينها أنّ المُستمعَ المُتوجّهَ إليه بالخطاب، أيْ يُسر، لازال يُعاني مِنْ تركاتِ زواجٍ فاشلٍ استمرّ فشلُهُ زهاءَ أربعةِ عقودٍ. لذلك بدا مِنَ الواضحِ أنّ يُسراً قد كانت موجودةً جسديّاً تسمعُ وتَرَى، ولكنّها، ذِهنيّاً، غيرَ موجودةٍ ولا تُشارك المُتكلّمَ القناعاتِ نفسها، ولم تُبْدِ في الخطابِ استعداداً للتّفاهم معها أو التّعاون، ولم تُظهر الرّغبةَ الصريحةَ في ذلك. بل إنّها لوّحت، بدل ذلك، بإشارةٍ صريحةٍ يُمكن أنْ تكون تُرجماناً لحالتها النفسيّةِ المُهترئِةِ وحُجّةً تُعبّرُ بوضوحٍ عمّا يعتملُ في دواخلها مِنْ مشاعرَ، قال الراوي: "ضَحِكَتْ يُسرُ ضحكةً عصبيّةً".

إنّ هذه الضحكةَ العصبيّةَ التي صدرت عنْ يُسرٍ يُمكنها أنْ تُوضِّحَ أثرَ خطابِ فاطمة في نفسها، كما يُمكن أنْ تُنزّلُ في مكانٍ يُساعد على تفسير علاقتها بزوجها السّابقِ وبزواجها كُلِّهِ. وإنّ استثماراً خِطابيّاً لهذه الحركاتِ المُصاحبةِ لفِعْلِ القَوْلِ مِنْ شأنه أنْ يَشي، في هذا المناخِ التّداولي الذي جرى فيه الخطابُ، بالأحاسيس المُضمرةِ التي تفور في نفسها، والتي تدعونا إلى تأويلها بوصفها جواباً عن هذه العلاقةِ. فهذه الحركاتُ، وإنْ كانت غير مُدرجةٍ ضمن دائرةِ الأعمالِ اللغويّةِ المباشرةِ للإنسانِ، إلاّ أنّها حركاتٌ تلفّظيّةٌ تنتمي إلى جِهازهِ الصّوْتي وذاتُ فائدةٍ في هذا البِساطِ التخاطبيِّ. وهي ههنا ذاتُ صلةٍ مُثلى، وحجّةٌ مِنْ شأنها التعبيرِ عن قصودِ المُتكلّمِ المُهمتةِ مِنْ وراء توظيفها في هذا السِّياقِ المخصوصِ، والذي لا يهدف الملفوظِ في حدِّ ذاتِهِ، وإنّما يهدف إلى ما يتولّد عن هذه العمليّةِ مِنْ معانٍ. فهي حركاتٌ دالّةٌ على عدَمِ رضا يُسر عن فعلِ الطّلاقِ الذي سيجرّ وراءه، بلا شكٍّ، أزماتٍ ومُشكلاتٍ لا رغبةَ لها حقيقيّةً في الدخولِ إلى مَعْمَعَتِها. فالطلاقُ يبقى دائماً مكروهاً بالنسبة إلى الإنسانِ على وجهِ العمومِ. فهو حلٌّ كزٌّ وفظٌّ، وأخيرٌ. إنّه أبغضُ الحَلاَلِ عند اللهِ. وهذا ما لخّصته ضحكةُ يُسرٍ العصبيّةُ التي كانت، في هذا السّياق، ذاتَ فوائدَ تداوليّةٍ لافتةٍ. وأبانت عن حالتها المعنويّة المُنبثقة عن حزن الفراق الكامن في نفسها وفراقها عن زوجها. ولقد بدا واضحٌ أنّ "راضية" قد لاحظت بدورها الخللَ الذي استولى على خطابها مع يُسرٍ. وهو خللٌ مردُّهُ خرْقَها مبدأ التأدّبِ بالأَساسِ. وهي قد قدّرت الأسبابَ التي دفعتها لإصدارِ هذه الضحكةِ العصبيّةِ في الخطابِ، فأحسنت تقديرَها. ولربّما هي قد لاحظت أنّ عُرى الخطابِ قد رَثَّتْ بينهما، ولمْ يحالف لإنجازِ عباراتها، التي صدعت بها مجاهرةً، النجاحَ. وذلك بسببِ بعض الخَلَلِ في صناعةِ الكلامِ وفي تأويليهِ في الآن ذاته، على الرّغمِ مِنْ أَنَّ خِطابَها كان خِطاباً مُتماسكاً مُتّسقاً. ولعلّنا نُلاحظُ كيف كانت تمضي ساعيةً إلى تبليغِ خِطابها مِنْ خلال تبديلِهِ وتعديلِهِ وتنويع أشكالِهِ وِفقاً لمُتطلّباتِ المقامِ وأحوال المُتلقّي، وراميةً إلى التواصلِ مع يُسر التواصلَ الناجحَ، ورافضةً مِنْ وراء ذلك كلّه، وقدْرَ المُستطاع، لأيّ خرقٍ لمبدإ التأدّبِ قد يكون صدرَ عنها مِنْ دون قصدٍ. وههنا ستطأُ أقدامُ راضية مبحثاً لسانيّاً بكراً هو مبحثُ "التعديل أو التكيّيف" الذي يُقصد به "كيفيّةُ تعديلِ المُتكلّمِ لمنطوقهِ أو تكيفيه لمقصده في سياقٍ اتّصالي بعينه"([28])، والذي صار "دعامةً لسانيّةً تداوليّةً أساسيّةً في نظريّةِ النصِّ ونظريّةِ تحليلِ الخِطابِ، وصار تبعاً لذلك مِنَ الدّعاماتِ اللّسانيّةِ التداوليّةِ الأساسيّةِ في النظريّةِ الأدبيّةِ المُعاصرةِ بأسْرِهَا"([29]).

إذن، لقد اختارت راضيةُ استراتيجيّاتٍ في تعديلِ خِطابها تتمثّل في الاعتذار عمّا بَدَرَ منها بحقِّ يُسرٍ. وذلك لتحْمِلَها على الاقتناعِ وترْضَى عنها وعن استراتيجيّتها في التعديلِ، وتُغيّرَ الوضعَ السّيكولوجيّ الذي بلغ حدّاً مِنَ الرّكودِ غير مرغوبٍ فيه في الخِطاب، وقالت مُتعذّرة مُتأسّفةً و"كُلُّ همّها أن تتطابقَ وسائلُها المُستعملة الأثرَ المُستهدف"([30]) في الخطاب: "أنا آسفةٌ .. لم يكن عليّ أن أُذِكَّرَكِ" خطابُ عطفٍ ومحبّةٍ يجعل راضية مُـماسكةً عنِ الحزنِ، مُتعاليةً عليه، ويُبيّن أنّ تجرِبتها الزوجيّةَ الفاشلةَ لم تكن أمراً هيّناً عليها بل هي لم تقبل حقيقتها بعدُ ولم تهضمها نفسيّاً، ولكنّ نسيانها هو الأمرُ الوحيدُ المقبولُ سيكولوجيًّا في هذا السِّياق، والقادرُ على تعويضها مرارةَ الفقْدِ والحرْمانِ، والذي مِنْ شأنِهِ أن يُغذّي نفسها، ويجلُب لقَلْبِها الراحَةَ ويُسكّنه تسكيناً مؤكّدًّا تنصرفُ به عن حُزنِها وتُضرب به عن همّها ولا تُبدي سوءاً مِنْ أسَفِها الذي لا ينكظمُ ووطأةَ الحزنِ على هذا الزواجِ الفاشِلِ. إذن، مِنَ الواضحِ أَنَّ فِعْلَ التذكّرِ، أو إنْ شئتَ فقلْ الذاكرةَ نفسها، قد كان سبباً مِنْ أسبابِ حُزنِ "يُسر" وقادحاً رئيساً له. فالذاكرةُ تظلُّ وحدها القادرةُ على النبْشِ والاقتراب مِنْ هذه المعانيَ والأحداثِ الفيّاضة بالدلالة والأحاسيس والمواقف الماضيةِ، التي يُفترض أن تكون جميعها قد دخلت طيَّ النسيانِ، والارتداد لها. وهذا الارتدادُ "ليس فقط حركةً مُضادّةً لسيْرورةِ الزّمنِ، وإنّما هو علاوةً على ذلك وعيٌ لذلك الماضي، واستمرارٌ ومعرفةٌ له"([31])، وهو إعادةُ اتّصالٍ معه ومع ما يختزنه مِنْ صُوَرٍ وقصصٍ وأخبارٍ وأماكنَ وأحاسيسَ ومواقفَ، ورفضٌ لفنائه، والوعي به وعياً جديداً. وهذا سببُ اعتذارِ راضية ليُسر. لقد أدركت راضية أنّها قد حرّكت جملةً هذه المشاعرَ التي كانت رابضةً في الذاكرة بعيدة المدى ليُسر. لذلك انهزَّ قلبُهَا بعدئذٍ وانفعلَ لنيّاتِ التعديلِ الصّادقِ والاستجابةِ للسّياقِ المُتغيّرِ. والذي يجعل تعديلها صادقاً علامةُ التأكيد "أنا" والسياقُ الحاضن للعمليّة التكلّميّة كلّها. وذلك عَسَى يُحقّقُ هذا التعديلُ الذي قامت به الهدفَ المرجوَّ ويغفرَ لها خرْقَهَا لمبدإ التأدّبِ في الخِطابِ، ويمنّ عليها المتلقّي في حاضرِ حالِهِ ويستجيبَ لطَلَباتِهِ، ويتفضّلَ بأنْ يقْبَلَ اعتذاراتها. ويبدو أنّ هذا التعديلَ الذي مارسته يُسر كان مُقنعاً ومُرضٍ (satisfaisable)، وذا فائدةٍ عميمةٍ، وقد أدّى إلى نتيجةٍ مُفيدةٍ في هذا السّياقٍ المخصوصِ والمؤثّرِ في اختيارِ المُتكلّمِ لأفْعَالِهِ وأقْوالِهِ. فخصوصيّةُ السِّيَاقِ تؤدّي، حتما، إلى خصوصيّةِ الاسْتِعْمالِ اللّغويِّ للمُتكلّمِ.

وَلِئَنَّ نجاعةَ الخِطابِ المصوغِ ونَجاحِهِ لا يُستمدّان مِنْ خِلالِ مُحتواهُ القوْلي ولكنْ مِنْ خِلالِ وَظيفتهِ، فإنّنا نتبيّنُ كيفَ سَلك المُتكلّمُ دروباً خطابيّةً مضمونةً ومعقولةً لأنّها تُستحقّ أنْ تُسلك بسببِ وجودِ أملٍ في تحقيقها أهدافَ المتكلّمِ، وقد أوصلتهُ إلى المرجوِّ، وهو قبولِ "يُسرٍ" الاعتذارَ، سالمةً. قالت يُسرُ: "لاَ بَأْسَ...لا فَائِدةَ مِنْ تجاهلِ واقعٍ موجودٍ داخليٍّ...كلّما أسْرَعْتُ بالتخّلّصِ مِنْ مُخلَّفَاتِهِ، كان ذلك أحسنَ."([32]). واضح، إذن، أنّ السّامعَ، يُسر، لم يتجاهل استراتيجيّةَ المُتكلّمِ، راضية، في تعديلِ خِطابهِ ونيّاتِهِ لتبليغِ هذا الخِطابِ، بلْ أبدى تفاعلاً وإيجابيّةً معه. لقد كان بدوره سَامعاً مُؤدّباً حريصا على التفاعل في الخطابِ.

يتضّحُ مِنْ خلالِ هذه العيّناتِ السّرديّةِ التي انتخبناها، أنّ شخصيّاتِ "لافاييت" كثيراً ما كانت مُلتزمةً بمبدإ التأدّبِ وبما يتفرّعُ عنه مِنْ قواعدَ. فإذا تأمّلنا هذه الأمثلةَ وتتبّعنا دلالاتها فلا بدّ مِنْ ملاحظة ما هو منغرسٌ في هذه الشخصيّات بالبداهةِ. إذْ إنّ ما ترشحُ به هذه النماذجُ ما يُحيل على هذا التأدّب، ويشيَ بالتزامها به. والواقعُ أنّ الأمثلةَ كثيرةٌ تفوق الحصرَ في هذه الرواية، نكتفي بما أوردناه للتدليل على ما ذهبنا إليه.

  1. في خَرْقِ مَبِدَأ التَأَدُّبِ وقواعدِهِ:
    حملتنا مُقتضياتُ البحثِ في المحفلِ السّابقِ على الحديثِ عن كيفيّةِ تطبيقِ الشخصيّاتِ مبدإ التأدّبِ ضمن مُحاوراتهم المبثوثةِ في تضاعيفِ خِطابِ "لافاييت". ولقد توصّلنا إلى نتائجَ لا تخلو مِنَ الأهميّة. وإلى ذلك فلقد وردت في المحفلِ نفسه جملةً مِنَ الإشاراتِ الخاطفةِ إلى "خرْقِ" مبدأ التأدّبِ وقواعِدِهِ الثلاثِ. والحقُّ، إن مُصطلحَ "خرْق" لن يكون، مِنْ هنا فصاعداً، مُصطلحاً عابراً أو غريباً عن ميدانِ الدراساتِ اللسانيّةِ التداوليّةِ وعن مجالِ تحليلِ الخِطابِ عموماً. ويُشيرُ الخرقُ في اللغةِ إلى "الشِقِّ الذي يكون في الحائطِ أو في الثوبِ ونحوه. وخرقتُ الثوبَ إذا شققتهُ، وخَرَقَ العَادةَ تجاوزها وحَطَّمَهَا"([33]).
  • يبدو مِنَ المُفيدِ أن نُلْمعَ إلى وجودِ العديدِ مِن النقّادِ الذين لاحظوا جرْيَ الشخصيّاتِ إلى تحطيمِ هذا المبدأِ وغيره مِنَ المبادئَ الخِطابيّةِ التي تُضاهي في أهميّتها مبدأَ التأدّبِ، لاسيما مبدأَ التعاون الغرايسي الذي أشرنا إليه أعلاه، والذي مسّهُ الخرقُ هو أيضا في جميع حِكمِهِ، ممّا يجعله، بحقٍّ، نواةً لدراسةٍ تطبيقيّةٍ نرجو أنْ تُتاحَ الفرصةُ لنا في المُستقبلِ لدِراستها في بحثٍ مُستقلٍّ.

إذن، استنبط النقّادُ جملةً مِنَ الطرائقَ التي تُمكنّنا مِنْ خَرْقِ مبدإِ التأدّبِ والتحرّرِ مِنْ سُلطته في الخِطابِ، واهتدوا إلى أنّ خرْقَ هذه القواعدِ مُمكنٌ. وهو يكون، عادةً، عبْرَ إبدالها مِنْ طرفِ الشخصيّاتِ المُتحاورةِ بظواهرَ خطابيّةٍ أخرى، الهدفُ مِنْ وراء اللجوءُ إليها توصيلَ أغراضهم في الخطابِ بُطرقٍ أكثرَ تحرّراً مِنْ هذه الشروطِ الإلزاميّةِ المُتمخّضة عن مبدإ التأدّبِ. ولذلك ضبطوا جملةَ مظاهر هذا الخرقِ ومعانيهِ وقصودِهِ. فأنْ نُطبّقَ منطقَ التأدّبِ في الخِطاب وأنْ نجعله مبدأً قارّاً لا يقلُّ قيمةً عن جملةِ المبادئَ الخطابيّةِ الأخرى، وأنْ تكون له نتائجُ عميمةٌ مِنْ وراءِ تطبيقهِ لا يعني ذلك أنّه مِنْ غيرِ المُمكنِ خرقُه وتحطيمهِ. فمثلما أنّه ثمّةَ شخصيّاتٌ قد آمنت بالتأدّبِ مبدأً رئيساً في الخِطابِ والتزمت به، فإنّه ثمّةَ، في المُقابلِ، شخصيّاتٌ أخرى قد سَخِرَت منه وَخَرَقتهُ وضربت عرْضَ الحائطِ به وبجملةِ القواعدَ المُتفرِّعةِ منه. وهي خروقاتٌ تُبيّنُ، في الواقع، قِصَرَ هذا المبدإ عن الإيفاءِ بحاجاتِ الشخصيّاتِ ورغباتها المُتجدّدةِ واللاّ محدودة والمُتغيرةِ بتغيِّر سياقِ الكلامِ، الذي لا يجب أنْ ننظر إليه هو الآخر على أنّه مُكوّنٌ ثابتٌ وقارٌ في الخِطاب ومُسْبقٌ عنه، بقدرِ ما يجب النظر إليه على أنّه مُتغيّرٌ ومُتطوّرٌ ومُقسّمٌ بحسب ما ألمع إليه "دان سبيربر" و"ديدري ولسون". فلقد ذهب المؤلّفان، في حدِّهما للسّياقِ، بنفْي المسلّماتِ الشّائعةِ التي تقول بأنّ السّياقَ "ليسَ قضيّةَ اختيارٍ أو انتقاءٍ إنّما هو مُفترضٌ محدّدٌ مُسبقًا قبْلَ عمليّةِ الاستيعابِ والفَهْمِ"([34])، ليُقدّما بعد ذلك تعريفهما المخصوصِ له بالقوْلِ "إنّه مركّبٌ نفسيٌّ وشُعبةٌ مِنَ افتراضاتِ المُستمعِ بشأن العالمِ، وهذه الافتراضاتُ هي التي تؤثّر في تفسيرنا للقولةِ[...] والسياقُ بهذا المعنى لا يقتصر على المعلوماتِ الخاصّةِ بالبيئةِ الماديّةِ المُباشرةِ أو القوْلاتِ التي سبقت تواً: فالتوقّعاتُ بشأنِ المُستقبلِ والفرضيّاتُ العلميّةُ أو المُعتقداتُ الدينيّةُ والحكاياتُ المخزونةُ في الذاكرةِ والافتراضاتُ الثقافيّةُ العامّةُ، والمُعتقداتُ بشأنِ حالةِ المُتكلّمِ العقليّةِ، كُلُّها يُمكنُ أن تؤدّي دوراً في التّفسيرِ"([35]). ثم يمضيان للبرْهنةِ على أنّ السّياقَ إنّما هو يتكوّن آناءَ المحادثةِ ولا يكونُ جاهزاً. وهو في تكوّنه هذا عادةً ما يكونُ "عُرضةً للانتقاءِ والتّعديلِ والتوسيعِ طيلةَ عمليّةِ الفهْمِ أو الاستيعابِ"([36]). ولتوضيح كيفيّة توسيعِ السّياقِ وتعديلِهِ يقدّمُ صاحباَ الكتابِ طرائقَ ثلاث لهذا التوسيع. أمّا الطريقةُ الأولى فهي "الرجوعُ بالزّمنِ"، ويكون ذلك "بإضافةِ الافتراضاتِ المُستعملةِ أو المُستنتجةِ في العمليّةِ الاستنباطيّةِ[...]وقد يتوجّبُ على المُستمعِ أن يضمَّ إلى السّياقِ ليس تفسيرِ القوْلةِ السَّابِقةِ توّاً فحسبْ، وإنّما أيضاً تفسيرَ القوْلاتِ الواردةِ قبْلَهَا في المُحاورةِ". وأمّا الطريقةُ الثانيةُ فتتمثّلُ في "إضافةِ معلوماتٍ موسوعيّةٍ مُتعلّقةٍ بمفاهيمَ موجودةٍ سابقاً إلى السّياقِ". وأمّا الطريقةُ الثالثةُ فهي "أن نُضيفَ، كمستمعينَ، إلى السّياقِ معلوماتٍ عن البيئةِ المنظورةِ مُباشرةً[...]وهذا ما يحصلُ خصوصاً حين يؤدّي تفسيرَ القَوْلةِ بالمُستمعِ إلى أن يلتقط معلومةً بيئيّةً مُعيّنةً ويُضيفها إلى السِّياقِ"([37]).

إنّ الأمثلةَ على سلْكِ شخصيّاتِ "لافاييت" مسالكَ خطابيّةٍ لا تسعى إلى احترام مبدإ التأدّب بقدرِ ما تُساهم في عرقلة سيْرهِ والوقوفِ بوجه تثبيتهِ وتُطوّرهِ كثيرةٌ نُورد بعضاً منها.

أ‌- خرقُ قاعدةِ التعفّفِ:
يتجلّى خرقُ هذه القاعدةِ عادةً حينما يلجأُ المتكلّمُ إلى "إظْهارِ عَوْراتِهِ في الخِطَابِ، وإذْلاَلِ نَفْسِهِ والهَتْكِ بهَا جَهَارً"([38]). وفي خِطابنا المُختار يُمكننا أنْ نجدَ تجليّاتٍ عديدةً لمظاهرِ هذا الخَرْقِ. مِنْ ذلك ما وردَ في المحادثةِ التاليةِ بيْنَ وفاء وأمِّ زوجها. قال الراوي: لمحت وفاءُ مِن بعيدٍ العجوزَ التي كانت حماتها تلتحف بــ"السفساري" الحريري[...] اْنَتظَرَتْهَا إلى أنْ غابت في المُنعرجِ ثم انطلقت مُسْرِعَةً إلى المنزلِ الذي كان منزلها وهي تأْمَلُ أن تَبْقَى حماتُها وفيّةً لعادتها فتُبطيء هناك بعضَ الشيءِ لِتتجاذبِ أطرافَ الحَديثِ مع بعضِ جَاراتها وَصَديقاتِها...فَأخذَتْ المفتاحَ، ودخلت مناديةً على وَلديْهَا[...] وَلَمْ تنتبه إلى أنّ حَماتها واقفةٌ عند عتبةِ البيْتِ تنظر إليها...وَمَا لبثت أن رفعت عقيرتها بالصّياحِ وهي تطردها:

  • اخُرُجْ يَا كَلْبَة ... أشْ تعملْ هُونِي؟ أَشْ جَيّبِكْ؟ اُخْرُجْ مِنْ دَارِي ... جَايَة تَسْرقْ فِيَّا؟؟؟ [أُخْرِجِي يَا كلْبة ... مَاذَا تَفْعَلينَ هُنا؟ مَا الذي أَتَى بِكِ ... أُخْرُجْي مِنْ مَنْزِلِي ... هَلْ أَتَيْتِ لِسَرِقَتي؟]
  • .....
  • كَانِكْ على وْلَادِيِ ... بُوهُمْ اِدَّاهُمْ للرَّوْضَة ... وَأَنْتِ مَيِّتُةٌ في نَظَرِهِمْ ... مَاعَادِشْ نْحِبُّوا نْشُوفُوا خِلِيقْتِكْ يَا بِنْتَ الكَلْبِ، يَا وَاطْيَة"([39]). [إنْ كُنْتِ قَدْ أَتَيْتِ مِنْ أَجْلِ أَوْلاَدِكِ ... أُعْلِمُكِ أَنَّ أَبَاهُمْ قَدْ أَخَذَهُمْ إِلَى رَوْضِةِ الأَطْفَاِل ... أَنْتِ مَيِّتَةٌ فِي نَظَرِهِمْ ... لَمْ نَعُدْ نَرْغَبُ فِي رُؤْيَةِ وَجْهَكِ يَا بِنْتَ الكَلْبِ، يَا خَسِيسَةٌ]

حَرِصْنا على نقْلِ نصِّ المحادثةِ إلى اللغةِ العربيّةِ الفُصحى تسهيلاً لبعضِ المُفْرداتِ الواردةِ باللّهجةِ العاميِّةِ التونسيِّةِ التي أوردها الراوي على ألسنةِ الشخصيّاتِ إمعاناً منه في توظيفِ الطابعِ الواقعي في الخطابِ. وَإِنَّهُ مِنَ البَيِّنِ أنّ وفاءَ قد خرَقَت، في هذه المحادثة، قاعدةَ التعفّفِ، لأنّها لم تكن حريصةً على حفْظِ ماء وجهها في الخطابِ وَسَعتْ، بدَلَ ذلك، إلى إذْلالِ نفسها والهتْكِ بذاتها، عندما تجاهلت عدوانيّةَ أمِّ زوجها لها وعدمِ رغَبتِها في رؤيتها أو زيارةِ بيتِهَا والدخولِ معها في مُبادلاتٍ كلاميّةٍ مِنْ شأنها أن تكون لها نتائجَ وخيمةً في الخطابِ، قالت: "أُخْرُجِي يا كلبة ... ماذا تفعلين هنا؟ ما الذي أتى بِكِ ... هل أتيت لسَرِقَتي؟" هذه الأسئلةُ التي توجّهت بها العجوزُ إلى "وفاء" لا تبدو، إذا ما وضعنا في بالنا سياقَ الكلامِ، أنّها تهدف للاستفسارِ عن شيءٍ مجهولٍ. فالذاتُ المتكلّمةُ قد توسّلت بجُملةِ المتوالياتِ السّؤاليّةِ لغايةِ الإنْكارِ على جهةِ التقريرِ وتوْبيخِ المُخاطَبِ أساساً وتوريطِهِ في الخطابِ بِبَيانِ فسادِ رأيه. والمُخاطبُ المعنيُّ بالتوبيخِ وفسادِ الرأي هو وفاء- ولا تُسميّها ههنا باسمها تحقيراً مؤكّداً – التي كانت حاضرةً أمامها وجهاً لوجهٍ. والتوبيخُ لأنّها تنكّبت لقواعدِ التأدّبِ في الخطابِ وَجَسَرَتْ، تلبيةً لعنادٍ ركبها وعاطفةٍ دفينةٍ فيها، على دخولِ بيتها جهاراً نهاراً، وَمِنْ دون إذنِها. ومِنَ الواضحِ أنّ تبعاتِ خرْقِ قاعدةِ التعفّفِ مِنْ لدُنِ "وفاء" قد كانت وخيمةً في هذا السّياق، وجَلَبَتْ لها العارَ. فلقد فتحت لنفسها، بخرْقها هذا وعنادها، باباً للشتْمِ والتقريعِ، ولجملةٍ مِنَ الأعمالِ اللغويّة التصادميّةِ التي وجّهها إليها المُتكلّمُ في الخِطابِ، وهي أعمالٌ "خاليّةٌ مِنَ الطابعِ التأدبّي غالباً لأنّها يُراد بها في الأصلِ التهجّمُ على الآخر وإلحاقُ الأذى به"([40]). ولهذا صَمَتَتْ، لمّا لمْ تجد مِنَ الصمت بدّاً، استشعاراً منها بخطورةِ خرْقِ قواعدِ التأدّبِ الذي كلّفها التكاليفَ، وإعلاناً صريحاً مِنْ لدُنها بأنّ حِوارها مع أمِّ زوجِها قد بلغ حدّاً مِنَ الجفافِ غير مسبوقٍ، وانتهى، بالفعلِ، إلى طريقٍ مسدودٍ. وإلاّ بماذا يُمكن أن نُفسّرَ، نحن كمُحلّلي الخطابِ، صمْتَها الذي ترجمتهُ النقاطُ المُتتابعةُ في المحادثة؟ لا شكّ في أنّ للصمتِ فوائدَ تداوليّةً لافتةً في هذا السّياقِ. فهو تعبيرٌ أبلغُ من الكلام، وإلاّ ما كانت لتتوسّلَ به وفاءُ في هذا الجوِّ المشحونِ بالصِّراعِ والتوتّرِ. ولعلَّ المثلَ القائلَ: "إذا كَانَ الكَلاَمُ مِنْ فِضَّةٍ، فَإِنَّ السُّكوتَ مِنْ ذَهَبٍ" يصحُّ في هذا الموضعِ بالذاتِ، ما يعني أنّنا يجب أنْ نسكتَ، فنَسلمَ، حيث لا فائدةَ مِنَ الكلام. هكذا فهمتهُ العربُ([41]). ما يهمّ هو أنّ الكلامَ هو، بالنسبة إلى وفاء، أشبهُ ما يكون بالاتّهامِ في هذا السّياق. ولوْ لمْ يكن الصمتُ، الذي استأثر بنصيب هامٍّ من جَهْدِ النقّادِ العَرَبِ وشاعَ ذكرُ محاسنِهِ وبلاغته وتفضيله، في أشعارهم ومرويّاتهم، على الكلامِ([42])، وسيلةً فعّالةً وطوقَ النجاةِ الوحيدِ في هذا السّياق لمَا التزمت به وفضّلته على الكلامِ. هذا خطابٌ يلتفتُ إلى الجمهورِ، مُتلقّي الرواية المحليّين المستهدفين بالخطابِ، وكُلٍّ مُتلقٍّ لها تالٍ: سامعٍ وقارئٍ وناظرٍ فيها أينما كان، لتفتيحِ عينيْهِ وقلْبِهِ وأخذهِ لقواعدَ التأدّبِ في الخطابِ مَأْخَذَ الجِدِّ وَلاَ يستهزئ بها، وأنْ ينظُرَ في عواقبَ خرْقِ وفاء لهذه القواعدَ كيف كانت نتائجَ الاستهزاء بها، فيأخذَ العِبرَ في ذلك كلّه.

ب‌- خَرْقُ قَاعِدَةُ التَشَكُّكِ، أوْ التَّخْيِيرِ:
معلومٌ بأنّ مضمون قاعدةِ التشكّكِ هو أن "نتْرُكَ لغيرنا حُريّةَ الاختيارِ". وبالتالي فإنّ على المُتكلّمِ أنْ يتجنّب سلْكَ مسالكَ خطابيّةٍ نَظَميّةٍ أخرى استعلائيّةٍ مثل "الأمر والنهيْ" خاصّة الذيْن مِنْ شأنهما حصْرَ المتلقّي في وضعيّاتٍ تلفظيّةٍ مُحدّدةٍ والتقليصِ مِنْ حريّتهِ في الخِطابِ، فتُلزمه وتُكلّفه بإنجازِ الأفعالِ الصادرةِ عن طالبِ الفِعْلِ، خاصّة عندما ما يكون هذا الأخيرُ في مقامٍ أعظمَ وأعلىَ ممّن طُلبَ منه الفعلَ. ولمزيد توضيحِ ذلك لنتأمّل المثال الآتي:

"كانت راوية تصرخُ طالبةً النجدةَ مِنْ أُمّها وابنُ خالتها يجرُّها مِنْ شَعْرِها نحو المرأةِ وهو يرْعَدُ ويزبدُ ويضربُها بقدميْهِ.. حَجَّامَة؟ تخدم [تشتغلين] صانعةُ حجاّمة وتكذب عليّ أنا؟ تقولين إنّك تتدرّبي عند خيّاطةٍ؟ الحمدُ للهِ أننّي راقَبْتُكِ.. وين[أين] حِجَابُكِ؟

  • مَاكِشْ وَليّ أَمْرِي بَاشْ تُراقِبْنِي..اِرْحَمْنِي مِنْ هَالْهَمّْ [لَسْتَ وَلِيِّ أَمْرِي كَيْ تُرَاقِبْنِي... اِرْحَمْنِي مِنْ هَذَا الهَمِّ]"([43]).
  • هذا المثال تمّ خرْقُ قاعدةِ التشكّكِ مِنْ لدُنِ المُتكلّمِ بشكلٍ سافرٍ. فلقد أراد المتكلّم تكليفَ "راوية"، على وجهِ الاستعلاءِ، بضرورةِ ارتداءِ الحِجَابِ سِتْراً واقتداءً بالثّوابِتِ الدّينيّةِ والأُصولِ الثّقافيّةِ وإلزامها بِهِ وبضرورةِ القطعِ وعملها الذي تُمارسه فوراً، بتعلّةِ أنّه عملٌ غيرُ شريفٍ، يتنافى مع هذه الثوابتِ. فتصرّفاتُهُ العدوانيّةُ هذه، التي تُضيء حقيقةَ العلاقةِ العموديّةِ بينه وبين "راوية"- أي بيْن الذكرِ والأنثى عموماً- في المُجتمعِ التونسيّ المُصوّر آنذاك، مُنافيةٌ لقاعدةِ التشكّكِ في الخِطابِ. وإلى ذلك هي مِنْ شأنها أن تسدَّ المنافذَ أمام حريّة "راوية" في الخطابِ وَرَغبتِها في التحرّرِ مِنْ قيودِ الأسرةِ والمجتمعِ والنّسقِ الدّينيِّ والثقافي السّائِديْن آنذاك. لهذا جاءت ردّةُ فعلِها انعكاساً لحالتِهَا النفسيّةِ الهشَّةِ والصّادقةِ في الآن ذاته، قالت: لستَ وليَّ أَمْرِيِ كَيْ تُراقبني... اِرْحَمْنِيِ مِنْ هَذَا الهَمِّ" خطابٌ يُترجمُ انكسارَها المؤُسِفَ وخيْبَتها البالغةَ في ابن خالتها الذي خَرَقَ قواعد التأدّبِ ونَسَفَ الحدود كلّها، ولمْ يترك لها حُريّةَ التصرّفِ في حياتها دون تدخّلٍ أو إشرافٍ وإذنٍ منهُ، ويعكسُ رَغْبتَها الحجاجيّةَ المُضمرةَ في التأثيرِ على المتلقّي بأنْ يمنَّ عليها ويهرعُ إلى الاستجابةِ لطلباتِها بَدَلاً عن تعطيلها وإهدارِ طاقتها وسلْخِها مِنْ خصائِصها والوقوفِ بوجهِهَا، ويتفضّل بأنْ يتركها تُجابهُ مُشكلاتها لِوحدِها وتُمارس عمَلَها الذي به تُقرّر مصيرها وتُحقّق كينونتها وتُعطي لنفسها المكانةَ اللاّئقةَ التي هي أهلٌ لها. المكانةُ التي تطلّب منها أمرُ تحقيقِها الكذبَ على خطيبها وتضليلَهُ.
  • خَرْقُ قَاعِدَةِ التَّوَدُّدِ:
    تقدّم ذكرُ أنّ فحوى هذه القاعدة هو: اجعلْ مخاطبَكَ يشعرُ بالرّاحةِ والطمأنينة، وأظهرْ ودِّكَ لهُ وتعاطُفَكَ مَعَهُ، وعامِلْهُ معاملةِ الندِّ حتى تكسِبَ رِضَاهُ وصداقَتَهُ". وبالتالي فمِن الواضح أنّ خرق هذه القاعدة يظهر خاصّة حينما تتصاعد في المحادثة وتيرةُ الخِطابِ بين أطراف العمليّة التكلّمية الواحدة، وتأخذُ مجرىً مُختلفاً وغيرَ مألوفٍ، وربّما غيرَ مقبولٍ أحياناً. ولمزيد التوضيح لِننْظُر في المثال التالي:

قالت الأمُّ لراضية: شنوة تعملي بيها الشهادة.. مش تشوف فيهم الشهائد ملوّحة يلموّ فيهم بالكيلو.. منين باش نجيبلك فلوس باش تقري؟ [ماذا ستفعلين بهذه الشهادة.. ألا ترين أنّ الشهائد العلميّة مُلقاة على الطريق بالألاف ... مِنْ أينَ سآتي لك بالمال الكافي كي تدرسي؟]([44]).

يظهرُ، في هذه المحادثة، وجهُ المحاورِ السّلبيِ العاري مِنَ التأدّبِ والكَياسةِ، والمشحونِ في المُقابل بالإهانةِ والتجريحِ. لأنّ الأمَّ قد تعمّدت إلى الحطِّ مِنْ قَدرِ راضية ومن قيمتها وقيمةِ شهادتها العلميّةِ لا سيما في ظلِّ الحلولِ التوظيفيّةِ المنعدمةِ في البلادِ، الذي كان مردّه وجودُ فصْمٍ عميقٍ بين متطلبّاتِ سُوقِ الشغلِ الضعيفةِ التي لا تتلاءم مع عدد خرّيجي الجامعاتِ التونسيّةِ بالأساس. ونسيت، أو تناست، سنواتِ شبابها التي كرّستها في سبيلِ الحُصولِ على شهادة الدكتوره في التعليم الجامعي. مِثْلَ هذه الإشكاليّات، التي أشارت إليها المُتكلّمةُ بالبنان من دون مُراعاةٍ لمشاعرَ ابنتها راضية أو إظهارِ ودّها وتعاطفها معها في خطابها، أدّت جميعها إلى تداعيّاتٍ نفسيّةٍ بليغةٍ عند هذه الأخيرة. وهذا خرقٌ واضحٌ ومقصودٌ لقاعدةِ التودّدِ في الخطابِ. فمِنَ الصحيح أنّ واقعَ التّشغيلِ في هذا المُجتمع الموصوف شائكٌ وطريقُ العِلم فيه حسيرةٌ، كما قرّرت المُتكلمةُ في خطابها، لكن مِنَ الصحيح كذلك أنَّ خطابَ هذا الأمّ، وإنْ كان خطاباً صادقاً، لمْ يخضع إلى قواعد التأدّبِ التي يجب مراعاتها. إنّ قواعدَ التأدّبِ تُطبّقُ عندما يقوم المتكلّمُ بتبليغ قصوده المُهمتة والنجاح في تسويغها وتمريرها بطريقةٍ مُلطّفَةٍ وغير جازمةٍ، يرفعُ عن مُرسِلِهَا الحرجَ اللغويَّ مِنْ ناحيةٍ، ومن أخرى يُخفّف مِن وطأة هذه القصود لدى "راضية"، لا سيما أنّ المُتكلّمَة على معرفةٍ خاصّةٍ بها، ولا يستفزّها أو يُخرجها عن طوْرِها في هذا السّياقِ التّداوليِّ الحرِجِ الذي وقع فيه التلفّظُ. ذلك هو المنهجُ السّليمُ إذا أراد المُـتكلّمُ تبليغ مقاصدَه والتمسّكَ بالتأدّبِ مبدأً خطابيّاً لا غنى عنه. وههنا تتجلّى وظيفةُ الكلماتِ مُستقلّةً عنِ الجُمَلِ، لما لها مِنْ أبعادٍ نفسيّةٍ بالأساس. فالكلامُ صناعةُ خطرةٌ، على نحو ما قرّر أحدُ البحّاثة([45])، تظهر خطورتها في "كشْفِها عنْ عقليّةِ صاحبها، وما يكنّه في ضَميره مِنْ نوايا، وما يستُرُه في خلجاتِ نفْسهِ مِنْ خَفَايا"([46]).

ولم تكن الأمُّ، في المثال الذي تصدّينا له بالتحليل، وحدها التي خَرَقت قاعدةَ التودّدِ في الخطاب، إنّما جَرَت على مهيعها في ذلك شخصيّاتٌ أخرى. ففي المحادثة التالية بين "الفرجاني" و"وفاء" مثالٌ آخر على خرْقِ قاعدةِ التودّدِ في الخطاب، قال الراوي: "دخل الفرجاني غاضباً إلى خَلوةِ النِّساءِ وقال:

  • يبدو أنّك نَسَيْتِ نَفْسَكِ .. أبو فادي ليس هنا ليحميكِ منّي .. لا تغترِّي باهتمامه بِكِ فعندما يروي عَطَشَهُ مِنْ جسدك سيرْمِيكِ مثل جوربٍ قديمةٍ متّسخةٍ لم يعد لها مكانٌ في حياته وساعَتها لن تجدي سوى الفرجاني لتشتكي له همَّكِ
  • آَنْعَمْ يا سِي الفرجاني...أَشْ تِحِبّ مِنّي؟ اشبيك؟ [نعم يا سيّد فرجاني .. ما ذا تريد منّي؟ ما بك؟َ]
  • إِنْتِ تَعْرَفْ أَشْ نْحِبّْ مِنْكِ .. حَاجَتِي بفلُوسِي، فلُوسِي، اللّي مْغَرْقَكِ فيها أبو فَادي والبناتُ التي تفاهمنا باش نسفّروهم ... [أنت تعرفين ماذا أريد منك بالضبط .. أريد أموالي، أموالي التي أغرقكِ فيها أبو فادي والبناتُ اللاّتي اتفقنا على تسفيرهنّ]
  • مَا عِنْدِيِشْ فلُوسْ. وَأَبُو فادي ما يَعْطِينيشْ كَاشْ في إيدي [لا أملك أموالاً وأبو فادي لا يُعطيني الأموالَ نَقْداً].
  • تَكْذِبْ يَا بنت الكلْبِ .. وَلِيّتْ تعرف الكَاشْ؟ [أنت تكذيبين با بنت الكلب...الأن أصبحتِ تعرفين معنى المالِ نقداً]([47]).

واضحٌ أن الفرجاني لا يرغب في أن يُظهر جانبَه الأخلاقيَّ للمُستمعِ في هذه المحادثةِ. فهو قد سعى إلى توجيهِ جملةٍ مِنَ الاتهاماتِ إلى المُستمعِ ومُعاملتهِ مُعاملةً أقلّ ما يُمكن أنْ نقول عنها إنّها لا تُراعي جوهرَ التأدّبِ في الخِطابِ. وهي مُعاملةٌ تتجلّى في مُبالغةِ نسبةِ الكَذَبِ إلي "وفاء" وإهانتها وتجريحها والحطِّ مِنْ قَدَرِهَا عبرَ تذكيرها بماضيها المأساويّ (تكذبين، بنت الكلب، أصبحت تعرفين معنى المال نقداً). فهذه الألفاظُ التي توسّل بها المُتكلّمُ، وأُخرى سكت عنها التحليلُ، تُعدُّ مارقةً مِنَ التأدّبِ الذي ضجّ النُقّادُ بِضَرورَةِ احْتِرامِه في الخطاب. وإلى ذلك هي ألفاظٌ مُـتمرّدةٌ على لغةِ الرواية المعهودةِ ومُخالفةٌ لسُننِ كِتَابتها. فهي كثيراً ما تبتعدُ عن أسلوبِ الفصاحةِ السّرديّةِ المُتـعارفِ عليه، لتسقُطَ في مَنْطقةِ القسوةِ والصّلابةِ والتّفاهةِ. ولكنّها قد تكون ألفاظاً تافهةً مُعبّرةً عن تفاهةِ سياقِ الكلامِ والعصْرِ، وانعكاساً لحالتهما الحضاريّة المُتدهورة أيضا.

هكذا يتبيّنُ لنا أنّ الشخصيّاتِ في "لافاييت" لم تكن ملتزمةً كفايةً بتطبيق مبدأِ التأدّبِ في الخطاب، بقدر ما كانت تجري في أحايينَ كثيرةٍ إلى خَرْقِهِ بصُوَرٍ وأشكال كثيرةٍ وإهْمَالِهِ، لاسيما عندما تجد أنّ هذا المبدأ يُمكنه أن يُشكّل، إذا ما تمّ تطبيقه على أتمِّ وجهٍ وفي بعض سياقاتِ الكلامِ، سدّاً حائلاً دون الإفصاح عنْ قُصودها الصريحة والمُضمرة في الخطابِ.

  1. عَوْدُةٌ إلى جُذُورِ مَبدأ التَّأَدُّبِ فِي الثَقَافَةِ العَرَبِيَّةِ الإِسْلاَمِيَّةِ: أو هلْ يُمْكُنُ أَنْ يَكُونَ التّأَدُّبُ مَبْدأً خِطَابِيّاً عَرَبِيّاً؟
    ليس الهدفُ مِنْ وراءِ هذه المحفل الاستنقاصَ مِنْ مُحاولة ر. لاكوف الجادّة التي تنضاف إلى المحاولات الرصينة والجادّة في تحليل الخطاب، وليس الهدفُ كذلك الانتصارُ لما سيأتي لاحقاً في الكلام. بقدر ما يتمثّلُ الهدف ُفي طرْحِ جملةٍ مِنَ أسئلةٍ نقديّةٍ هدفها التنقير وراء منطقِ التأدّبِ الذي تصديّنا إلى حدّه وتطبيقاته على رواية لافاييت. فهل كان منطقُ التأدّبِ منطقاً غربيّاً خالصاً وأصيلاً؟ بمعنى أنّ الناقدة الفرنسيّة قد تمكّنت بمفردها، ومن دون وسيطٍ، مِنْ تحقيقِ هذا الإنجاز وصياغة هذا المنطق صياغةً أصبحت مُرتبطةً بها؟

قد يبدو مِنَ الإنصاف الاعترافُ بأنّ هذا المبدأ، وإنْ بدا لمحللّي الخطابِ رائداً وجديداً ونتائجه عميمةً، فإنّه قد بداَ لنا رجعَ صدى لأفكارٍ أُخرى ولمحاتٍ قصيرةٍ في عباراتها، غنيّةٍ في دلالاتها، مُتجذّرةٍ في الثقافةِ العربيّةِ الإسلاميّةِ، وظّلت تنتظرُ مَنْ يمدّ يديهِ ليُحرُكِّها ويَسْتخلصَ الدلالاتِ والعِبَرَ منها. فإذا ما فحصنا بعضَ النصوصِ النقديّةِ العربيّةِ ودقّقنا الفحصَ، وَجَدنا مِنَ البراهين ما يقوم شاهداً على أنّ منطق التأدّب هذا لم يكن نِتاجاً غربيّاً محضاً بقدرِ ما كان ذا أصولٍ عربيّةٍ إسلاميّةٍ ثابتةٍ، على الرغمِ مِنْ أنّ هذه النصوصِ لم تشتغلْ اشتغالاً مُعمّقاً مخصّصاً على هذا المبدأ الخطابيِّ الذي لم يَرْقَ إلى حدِّ تكوينِ مشْغَلٍ رئيسٍ مِنْ مشاغلَها. ونكادُ نجزمُ ونحن نقرأُ رسائلَ الجاحظِ، مثلاً، أنّ الكاتبَ على بينّة بهذا المبدإ ويستحضره في ذهنه، ويزداد شعورنا بأنّه على درايةٍ به وبمنافعه في الخطاب. تأمّلْ ماذا يقول الكاتبُ في رسالته إلى أبي الفرج الكاتب في المودّة والخُلطة: "إنَّ مِنْ أوّلِ أسبابِ الخُلطةِ، والدَّواعي إلى المَحبَّةِ، ما يُوجَدُ على بَعْضِ النَّاسِ مِنَ القَبُولِ عندَ أوَّلِ وَهْلة، وقِلّة انقباضِ النُّفوسِ مَعَ أوّلِ لحظةٍ، ثم اتِّفاقِ الأسْبَابِ التي تقع بالموافَقَةِ عند أوّلِ المجالسةِ، وتلاقي النّفوسِ بالمُشاكَلَةِ عندِ أوَّلِ الخُلطةِ. والأدبُ أدبانِ: أدبُ خُلُقٍ، وأدبُ رِواية، ولا تَكمُل أُمورِ صاحبِ الأدبِ إلاّ بهما، ولا يجتمعُ له أَسبابُ التَّمامِ إلاّ مِنْ أجلهما، ولا يُعدُّ في الرُّؤساءِ، ولا يُثنى به الخِنْصَر في الأُدباءِ، حتَّى يكون عَقْلُه المتأمِّرَ عليهما، والسائس لهما"([48]). فالكاتبُ قد سَنَّ بذلك جملةً مِنَ الشّرائط المؤسّسةِ للمحبّةِ والخُلطةِ أهمّها شرطُ القبولِ وحسنُ الخُلُقِ اللذيْن أدرجهما في خانةِ "أدبِ الخُلق" في مرحلةٍ أولى، وجعله إلى جانبِ "أدب الرواية" مِنْ أوكدِ المبادئ اللاّزم توفّرها والواجب رُسوخها في أذهانِ كُلِّ كَاتبٍ يرغبُ في التفرّدِ بالذِّكْرِ والصِّيتِ، وهي مبادئ تبليغيّة وتهذيبيّة بالأساس.

ولم تنفرد النصوصُ النقديّةُ العربيّةُ بهذا الرأي الذي ينتصرُ إلى مبدأِ التأدّبِ في الخطابِ، إنّما جارتها في ذلك نصوصٌ أُخر. فإذا ما غُصْنا في بعض الآيات القرآنيّة، مثلاً، وتدبّرناها شَعُرْنا أنّه مِنَ المُمكنِ استخراج جواهرَ بإمكانها أنْ تُسهم إسهاماً فعّالاً في تشكيلِ هذا المبدأِ التهذيبيِّ الحديثِ. انظرْ في قوله تعالى مِنْ سورةِ الكَهْفِ "وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَومًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرْقِكُمْ هَذِهِ إِلَى المَدِيِنَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلاَ يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً"([49])، ترَ أنّ الله تعالى أمَرَ المُستمعَ بحرف (اللاّم) أمراً صريحاً بضرورةِ التلطّفِ في خِطَابِهِ إلى تُجّار أهْلِ المدينةِ حتى لا يشعر بهم أحدٌ ويتطّلع على أمرهم جميعاً فيُصابوا بالأذى ويٌقتلون. فلقد ربط سبحانه وتعالى هذا التلطّفَ، بحرف الواو، بما قَبْلَهُ ليُضفي دلالاتٍ مُضاعفةً على خطابِهِ ويمنحه ضرباً مِنَ الاتّساقِ والانسجامِ. وبما أنّ الذي قبلها هو شراءُ أزْكى الطعامِ وأطيبَهُ، فلنا أن نستنتجَ القيمةَ الكُبْرى الذي يحتلّه هذا العنصرُ في السّياقِ. ثم انظرْ أيُّها القارئ في قوله تعالى مخاطباً موسى وأخاه في سورة طه: "اذْهَبَا إِلَى فِرْعَونَ إِنَّهُ طَغَى*فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَيّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى"([50]) تَرَ أنّ الله سبحانه تعالى يُوصيهما باللّينِ، لا العنفِ، في رسالتهما إلى الملك فرعون، مع أنّ الأمرَ بالغُ التعقيد؛ ففرعونُ طغىَ وتجبَّرَ وتجاوزَ الحَدَّ في الفَسَادِ والطغيانِ، حتى لكأنّ هذا المبدأ له أهميّةً خاصّةً وهو وحده الضامن للمقصود؛ أيْ تبليغ الخطاب وإنجاحِ المُحادثةِ وعدمِ انهيارها، بلْ هو متعلّق بحرف (الفاء) الذي يربط الفعل "قُولاَ" المُسند إلى موسى وأخيه بالفِعْلِ "طَغَى"، ما يعني أنّ القولَ الليّنَ الوارد في صيغة الأمر الصريح مُترتّبٌ على ما سبقه مِنْ طغيانٍ مؤكّدٍ تأكيداً بـ"إنّ" لا شكّ للمتلقّي فيه. وفي هذا دليلٌ على أنّ الرّفْقَ في القوْلِ، الذي هو غير منفصلٍ عن التأدّبِ في الخطابِ، أسلوبٌ في التبليغ ناجعٌ ومسلكٌ آمنٌ لكلِّ مَن يرتجي التوفيقَ وتحقيقَ التواصلِ مع الآخر وتفتيحَ قَلْبِهِ قَبْلَ عقلهِ وتذكيره بألاّ يستكبر، وتبليغِ مقاصده له، مهما اختلف السّياقُ ومهما بلغَ هذا الآخرُ مِنْ اختلافٍ وسُلطةٍ وعنجهيّةٍ غير محدودةٍ بالخطابِ وفيهِ. فلو سلك المتكلّمُ غير هذا المسلكَ لانسدَّ المتلقّي ولم ينفتح لدعواته التي يسمعها، وانفضّ مِنْ حوله وجفاهُ وصدّ عنه، ولعُرّض الخطابُ برمّتهِ لخَطرِ عدمِ الانتباهِ أو الاستماعِ. وهذا ما لا يرتضيه سبحانُهُ للمُتكلّمِ ولا لِعَبْدِهِ فرعونَ نفسه الذي خَلَقَهُ وَسَوّاهُ وأحسن إليه وَمَكَّنَ له في الأرضِ.

وَمِنْ هنا يمكننا أن نعودَ إلى مبدأ التأدّبِ عند ر.لايكوف الذي استأنفنا به الحديث؛ فهذه الأمثلة تُبيّن أنّ هذا المبدأ بالغُ الأثرِ والدلالةِ وَلا هدنةَ دونه في الخطابِ. وإلى ذلك هو موجودٌ ومُخزّنٌ في أعماقِ ثقافتنا العربيّة الإسلاميّة فيما نرى. وهذا منّا ليس استنقاصاً مِنْ مجهوداتِ الناقدةِ اللّسانيّةِ، بلْ هو اعترافٌ بأنّنا لم نحسن نحنُ، كمتلقيّن محليّين، استحضارَ هذه الأساليبِ والالتفات إليها وإعادة تحيينها وتبسيطها والتعاملَ معها والانطلاقَ منها بوصفها علاماتٍ أسلوبيّةً مُثيرةً يُمكنها أنْ تتطوّرَ لتُصبح مَبَادئَ خطابيّةً عامّةً وصالحةً لكلِّ زمانٍ ومكانٍ، بلْ سعيْنَا، بدل ذلك، إلى كبْحها عوضاً عنْ أنْ نُثيرها، وذلك في الوقت الذي نجح الآخرون، الغربيّون تحديداً، في توظيفها توظيفاً مُناسباً وهادفاً لخدمةِ مقاصدَ أكثر أهميّة في الخطاب.

الخاتمةُ:
كان الهدفُ مِنْ هذا البحثِ استقراءُ مزاياَ تطبيقِ مبدأ التأدّبِ، الذي بسطته اللسانيّةُ "روبن لاكوف" وتعمّقت في تحليله، فأصبح محلَّ اتّفاقٍ بين السّوادِ الأكبرِ مِنْ الزُعماء التداوليّن والمُهتميّن بمجالِ تحليلِ الخِطابِ عموماً، على خطابٍ روائيٍّ حديثٍ مُمثّلٍ في روايةِ "لافاييت" لهند الزيادي أنموذجاً. ومِنْ أجلِ ذلك، تعلّقت همّتُنا أوّلاً بتعريف هذه المبدأ الخطابيِّ وبتحديدِ قواعدِهِ المُتـفرّعةِ منه. ثمّ تحوّلنا، في مرحلةٍ تاليةٍ، إلى اختبار قواعد هذا المبدإ وعرْضها عرضًا مُفصّلاً ومركّزاً يُمكن أن يُضيفُ جديداً إلى خطابِ "لافاييت" فيتركُ فيه أثراً. ولقد اتّضحَ أنّ الشخصيّاتِ في الخطابِ الرِوائيِّ لابدّ وأن تخضع لقواعدِ هذا المبدأ العزيزِ في الخطابِ وأنْ تلْتزِمَ به، وذلك حتى تُحافظَ على قَدَرٍ مِنَ الانسجامِ والتواصلِ في الخطابِ الذي ينتجُ هذه القواعد وتُنتجهُ. وجرى الكلامُ في مستوىً آخرَ مِنَ البحثِ على مظاهرِ خرْقِ الأطرافِ المُتفاعلة لهذا المبدأ. ولقد تبيّن لنا أنّ الكثيرَ مِنَ الشخصيّاتِ قد خَرَقَتْ هذه القواعدَ المُتفّقِ عليها، وأنّ هذا الخرْقَ كان يتمُّ بطرائقَ عديدةٍ وبأساليبَ متعدّدةٍ أيضاً خدمةً لأغراضٍ ومقاصدَ معلومةٍ في الخطاب. وهو ما جعلنا نقتنع بأنّ هذه المبادئٌ ليست لا باللاّزمة ولا بالشّاملة، كما أنّ تطبيقها ليس – لا محالةَ- دائماً بالهيّنِ في الخطابِ. وهو، أيْ هذا التطبيقُ، إنْ تحقّقَ في بعضِ السّياقاتِ الخطابيّةِ فلا يتحقّقُ فيها كلّها.

واستكمالاً لدراسةِ مبدأ التأدّبِ واكتناههِ مِنْ زواياه جميعها، عُدْنَا، في المحفلِ الأخيرِ مِنَ البحثِ، لدراسته والتنقير في أصولهِ، لكنْ في ثوبٍ جديدٍ ومقترحٍ مُغْرٍ. ولقد تبيّن مِنْ خلالِ البحثِ في جملةٍ مِن نصوصِ التّراث النّقدي العربي القديم، وكذلك مِن النصوص الدينيّة المُقدّسة، أنّ هذه النصوص يُمكن أنْ تحملُ في حناياها إشاراتٍ لامعةً بالإمكان أنْ نعدّها بذوراً أُولى لهذا المبدأ الخطابيِّ. وهي إشاراتٌ قد تُركت مُعلّقةً لتُثير في أذهاننا أسئلةً وتقديراتٍ حول دلالاتِ ذلك. ولقد خلصنا في هذا البحث إلى أنّ التسليم بكون هذا المبدأ مبدأً ذا أصولٍ غربيّةٍ بالأساس يبدو، في ما نرى، تسليماً تعوزه الدقّةُ والبرهان اللازميْنِ.

 

باحث تونس

 

الهوامش

  1. جمال الدين بن منظور، لسان العرب، دار صادر، بيروت، ط،1، 1997، مادة (أدب).
  2. جولد تسيهر إقناز(Goldziher Ignaz)، مادة(أدب)، دائرة المعارف الإسلاميّة، مجلّد،1، ع،1، ط، أكتوبر، 1933، ص، 532.
  3. أحمد الشايب، أصولُ النقدِ الأدبي، مكتبة النهضة المصريّة، الطبعة العاشرة، مصر، 1999، ص، 6-7.
  4. Thomas. J :Meaning in Interaction. An Introduction to Pragmatics. New York: Longman, 1995. P.150.
  5. فيليب بلانشيه، التداولية من أوستين إلى غوفمان، ترجمة، صابر الحباشة، دار الحوار، سوريا، د.ت، ص، 18.
  6. في مبدأ التعاون وقواعده، راجع:بول غرايس، المنطق والمحادثة، ترجمة، محمد الشيباني وسيف الدين دغفوس، ضمن كتاب، إطلالات على النظريّات الّسانيّة والدلاليّة في النصف الثاني من القرن العشرين، مختارات مُعرّبة بإشراف وتنسيق، عزّ الدين مجدوب، المجمع التونسي للآداب والفنون، بيت الحكمة، ط،1، تونس، 2012، ص، 622-636.
  7. Robin Lakoff: The Logic of Politeness.In Papers from the Ninth Regional Meeting. Chicago. Linguistic Society.Chicago.1973.P.297.
  8. حاتم عبيد، نظريات التأدب في اللسانيات التداولية، مجلة عالم الفكر، ع،1، مج، 43، سبتمبر 2014، ص، 116
  9. حول هذه القواعد الثلاث المتفرّعة عن مبدأ التأدّب، انظر:
  • Robin Lakoff: The Logic of Politeness. P.P. 292-305.

وانظر ْأيضا: عمر الرويضي: تداوليّة المسرح بين النظرية والتطبيق، عالم الفكر، ع، 171، يناير- مارس 2017، ص، 200.

  1. هند الزيادي، لافاييت ،الدار المتوسّطيّة للنشر، تونس، ط،1، 2015. [1])
  2. المصدر نفسه، ص، 25.
  3. المصدر نفسه ، ص، 31.
  4. المصدر نفسه ، ص، 39
  5. المصدر نفسه، ص، 48.
  6. المصدر نفسه ، ص، 55.
  7. المصدر نفسه، ص، 78.
  8. المصدر نفسه، ص، 154.
  9. المصدر نفسه، ص، 153.
  10. حمد أسيداه، السوفسطائية وسلطان القول، نحو أصول لسانيات سوء النيّة، الحجاج، مفهومه ومجالاته، ج، 1، ص، 704.
  11. المصدر نفسه، ص، 154
  12. تُكثر الكاتبةُ مِنْ مزج اللّهجة العاميّة التونسية باللغة العربية الفُصحى في بعض المحادثات، ولهذا آثرنا أن نجعل بين معقوفين الترجمة العربيّة الفُصحى للّهجة العاميّة التونسيّة التي وردت في البحث كلّه مِن أجل تبسيطها للقارئ.
  13. المصدر نفسه، ص، 77- 78.
  14. في السياق وتغيّراته انظر: دان سبيربر، ديدري ولسون، نظرية الصّلة أو المناسبة في التواصل والإدراك، ترجمة، هشام إبراهيم عبد الله الخليفة، مراجعة، فراس عواد معروف، ط،1، دار الكتاب الجديدة المتحدة، بيروت، لبنان، 2016، ص، 249.
  15. مسعود صحراوي، الأفعال الكلاميّة عند الأصوليّين، قراءة تداوليّة، ضمن كتاب، التداوليات وتحليل الخطاب، إشراف وتقديم، حافظ إسماعيل علوي، منتصر أمين عبد الرحيم، دار كنوز المعرفة، الأردن، ط،1، 2013، ص، 573. وفي هذه المسالك الخطابية جميعها انظر:
  • محمد يونس علي، تحليل الخطاب وتجاوز المعنى، نحو بناء نظريّة المسالك والغايات، دار الكنوز المعرفة، الأردن، ط،1، 2016.
  • عبد الستار الجامعي، تحليل الخطاب الأدبي: فصول في النظريّة والتطبيق، دار عالم الكتب الحديث، ط،1، الأردن،2018.
  1. المصدر نفسه، ص، 63.
  2. Ch.Perelman-Lucie.Olbrechts-Tyteca: Traité de l’argumentation. Ed. De l’université de Bruxelles. 6.éd.1938. P.5.
  3. المصدر نفسه، ص، 83- 84.
  4. محمد العبد، تعديل القوة الإنجازية، داراسة في التحليل التداولي للخطاب، ضمن كتاب التداوليات علم استعمال اللغة، تنسيق وتقديم، حافظ إسماعيلي علوي، عالم الكتب الحديث، إربد، الأردن، ط،1، 2014، ص، 321.
  5. المرجع نفسه، ص، 321.
  6. المرجع نفسه، ص، 322.
  7. جان كلود فيّو، الذاكرة، سلسلة ماذا أعرف، ترجمة جورج يونس، بيروت، 1973، ص، 22.
  8. المصدر نفسه، ص، 84.
  9. ابن منظور، لسان العرب، مادة (خرق).
  10. دان سبيربر وديدري ولسون، المرجع نفسه، ص، 234.
  11. المرجع نفسه، ص، 42.
  12. المرجع نفسه، ص، 241.
  13. في هذه الطرائق الثلاث راجع بالتفصيل: دان سبيربر وديدري ولسون، المرجع نفسه، الصفحات: 241- 247.
  14. كاترين كيربرات أوركيوني، المُضمر، ترجمة، ريتا خاطر، مراجعة، جوزيف شريم، المنظمة العربيّة للترجمة، بيروت، لبنان، ط،1، 200، ص، 420.
  15. المصدر نفسه، ص، 188- 189.
  16. حاتم عبيد، المرجع نفسه، ص، 127.
  17. انظر: أبو عثمان بن عمرو الجاحظ، البيان والتبيين، تحقيق، عبد السلام هارون، دار سحنون للنشر والتوزيع، تونس، ط، 5، 2014، ج،1، ص، 194.
  18. يمكن أن نذكر مثلا:
  • أبو عثمان بن عمرو الجاحظ، البيان والتبيين، ج،1، ص، 194.
  • أبو حامد الغزالي، إحياء علوم الدين، تحقيق زين الدين العراقي، الدار المصريّة البنانيّة، مصر، د. ت، ج، 3، ص، 1118.
  • حمّادي صمّود، التفكير البلاغي عند العرب، ، أُسُسه وتطوّره إلى القرن السّادس(مشروع قراءة)، منشورات كليّة الآداب منوبة، ط،2، تونس، 1994، ص، 176.
  1. المصدر نفسه، ص، 65.
  2. المصدر نفسه، ص، 52.
  3. محمد كشّاش، صناعةُ الكلام بين النظرية والتقنية، مجلة المعرفة السورية، السنة، 37، ع، 418، 1998.
  4. المرجع نفسه، ص، 105
  5. المصدر نفسه، ص، 126.ذ
  6. أبو عثمان الجاحظ، رسائل الجاحظ، ج،4، تحقيق، عبد السلام هارون، دار الجيل بيروت، ط،1، 1991، ص،195-196.
  7. القرآن الكريم، سورة الكهف، الآية، 19.
  8. القرآن الكريم، سورة طه، الآية، 43- 44.

 

فهرسُ المصادرِ والمراجعِ

  1. المصادرُ:
  • القرآن الكريم
  • هند الزيادي، لافاييت، الدار المتوسّطيّة للنشر، تونس، ط،1، 2015.
  1. المراجعُ العربية والمُترجمة:
  • أسيداه، محمد، السوفسطائيّة وسُلطان القول، نحو أصولِ لسانيّات سوءِ النيّةِ، ضمن كتاب، الحجاج، مفهومه ومجالاته، دراسات نظريّة وتطبيقيّة محكّمة في الخطابة الجديدة، تحرير وإشراف، حافظ إسماعيلي علوي، ج، 1، ابن النديم للنشر والتوزيع، دار الروافد الثقافيّة، ناشرون، بيروت، لبنان، ط،1، 2013.
  • إقنتز، جولد تسيهر، مادة(أدب)، دائرة المعارف الإسلاميّة، مجلد،1، ع،1، ط، أكتوبر، 1933.
  • أوركيوني، كاترين كيربرات، المُضمر، ترجمة، ريتا خاطر، مراجعة، جوزيف شريم، المنظمة العربيّة للترجمة، بيروت، لبنان، ط،1، 2008.
  • بلانشيه، فيليب، التداوليّة من أوستين إلى غوفمان، ترجمة، صابر الحباشة، دار الحوار، سوريا، د.ت.
  • الجاحظ، أبو عثمان بن عمرو:
  • الرسائل، تحقيق، عبد السلام هارون، دار الجيل بيروت، ج،4، ط،1، 1991.
  • البيان والتبيين، تحقيق، عبد السلام هارون، دار سحنون للنشر والتوزيع، تونس، ط، 5، 2014.
  • الرويضي عمر: تداولية المسرح بين النظرية والتطبيق، عالم الفكر، ع، 171، يناير- مارس 2017.
  • سبيربر دان، ديدري ولسون، نظرية الصّلة أو المناسبة في التواصل والإدراك، ترجمة، هشام إبراهيم عبد الله الخليفة، مراجعة، فراس عواد معروف، ط،1، دار الكتاب الجديدة المتحدة، بيروت، لبنان، 2016.
  • الشايب، أحمد: أصول النقد الأدبي، مكتبة النهضة المصريّة، الطبعة العاشرة، مصر، 1999.
  • صحراوي، مسعود، الأفعال الكلاميّة عند الأصوليّين، قراءة تداوليّة، ضمن كتاب، التداوليات وتحليل الخطاب، إشراف وتقديم، حافظ إسماعيل علوي، منتصر أمين عبد الرحيم، دار كنوز المعرفة، الأردن، ط،1، 2013.
  • صمّود، حمّادي، التفكير البلاغي عند العرب، أُسُسه وتطوّره إلى القرن السّادس(مشروع قراءة)، منشورات كليّة الآداب منوبة، ط،2، تونس، 1994.
  • العبد، محمد، تعديل القوة الإنجازية، داراسة في التحليل التداولي للخطاب، ضمن كتاب التداوليات علم استعمال اللغة، تنسيق وتقديم، حافظ إسماعيلي علوي، عالم الكتب الحديث، إربد، الأردن، ط،1، 2014.
  • عبيد، حاتم، نظريات التأدب في اللسانيات التداولية، مجلة عالم الفكر، ع،1، مج، 43، سبتمبر 2014.
  • علي، محمد يونس، تحليل الخطاب وتجاوز المعنى، نحو بناء نظريّة المسالك والغايات، دار الكنوز المعرفة، الأردن، ط،1، 2016.
  • غرايس، بول: المنطق والمحادثة، ترجمة، محمد الشيباني وسيف الدين دغفوس، ضمن كتاب، إطلالات على النظريّات الّسانيّة والدلاليّة في النصف الثاني من القرن العشرين، مختارات مُعرّبة بإشراف وتنسيق، عزّ الدين مجدوب، المجمع التونسي للآداب والفنون، بيت الحكمة، ط،1، تونس، 2012.
  • الغزالي، أبو حامد، إحياء علوم الدين، تحقيق زين الدين العراقي، ج،3، الدار المصريّة البنانيّة، مصر، د.ت.
  • فيّو، جان كلود، الذاكرة، سلسلة ماذا أعرف، ترجمة جورج يونس، بيروت، 1973.
  • كشّاش، محمد، صناعةُ الكلام بين النظرية والتقنية، مجلة المعرفة السورية، السنة، 37،ع، 418، 1998.
  • ابن منظور، جمال الدين، لسان العرب، دار صادر، بيروت، ط،1، 1997.
  1. المراجعُ الغربيّة:ُ
  • Lakoff. Robin. The Logic of Politeness. In Papers from the Ninth Regional Meeting.Chicago. Linguistic Society.Chicago.1973.
  • Perelman-Lucie,Ch.Olbrechts-Tyteca.Trait de l’argumentation. Ed. De l’université de Bruxelles. 6.ed.1938.
  • Thomas)J):Meaning in Interaction: an Introduction to Pragmatics. New York: Longman.