النص المترجم هنا محملٌ بكلام المسرحي الاسباني الحائز على جائزة الشرف عن مجمل منجزه من أهم مؤسسة مسرحية وطنية في اسبانيا MAX (2017). النص من كتاب "المخيلة الجريحة"، ومن فصل "المسرح والالتزام"، وهو عبارة عن كولاج، تم تجميعه من أحاديث متفرقة للمسرحي يوضح رؤيته من قضية الالتزام في المسرح.

المخيلة الجريحة

تأملات حول المسرح والالتزام

سالبادور تابورا

ترجمة وتقديم أثير محمد علي

 

مقدمة
سالبادور تابورا Salvador Távora(اشبيلية 1934-) واحد من أهم المبدعين المسرحيين الاسبان. فنان أندلسي كوني. تنفذ روحه الأندلسيّة المحليّة إلى كونيّة إنسانوية تحتضن الدنيا وما عليها من أمل. طاف عمله الفني أرجاء العالم، ولايزال، منذ عقد السبعينيات من القرن الماضي، وخلال سنوات حساسة من تاريخ اسبانيا المعاصر. حيث قدم العام 1972 باكورة أعماله المسرحية Quejío "كيخيّو" في باريس بدعوة من مهرجان "مسرح الأمم"، وضمن تظاهرة "المسرح السياسي ومسرح الأقليات الثقافية". ومن يومها والدهشة لم تتوقف من ترجيع صدى "صرخة" مسرحيته الأولى، وما تبعها من عروض فرقته المستقلة La Cuadra "لا كوادرا".

سالبادور تابورا هو ابن الحرب الأهلية الاسبانية، وسنوات الفاقة والجوع، والتشرد في الشوارع برفقة أترابه وما يستجد من تلاعب على نغمات الموسيقى ومقامات غناء الفلامنكو. بدأ حياته المهنية بعمر 14 سنة كصبي متدرب في ورش صناعية وميكانيكية، تنقل بين حرف مختلفة، أهمها عامل لحام كهربائي، ثم ولج عالم مصارعة الثيران، وخاض صراعه هذا بكل دلالاته الاجتماعية والثقافية، وربما كعراك شخصي وتحدي للموت، إلا أنه هجر الحلبة أمام مشهدية الدماء النازفة فوق الرمال بعد مقتل صديق له بنطحة ثور.

حمل معه ميراثه الغجري من غناء تعلمه في الشارع الأندلسي، وأخذ يجوب الخشبات الفنية التي تقدم فنون الفلامنكو من رقص وغناء وموسيقى، وبالطبع كان على احتكاك مباشر مع التزييف والتلوين السياحي لهذه الفنون من قبل سياسة السوق والسلطة، إلى أن جاء اليوم الذي قرر فيه الاستجابة لذلك النداء الفني الملح، والدعوة التي كانت تلاحقه للانتماء للمسرح. فكان ما كان، وشرع في ممارسة المسرح بلغة تأسس شكلها الفني اعتباراً من ذاتية ومفرد تجربة حياتية. وفي هذه العجالة أترك نثرات حول فعل سالبادور تابورا المسرحي، الذي يتميز بأنه أنجز من قبل الفئات الشعبية التي ينتمي لها؛ فئات القاع المجتمعي المهمشة والمبعدة عمداً عن الفعل الثقافي والفني؛ فئات رافقت تابورا وأقامت معه فضاء مسرحياً لتقول كلمتها، وتفعل شهوتها الجماليّة على مرأى من الجمهور.

من مروحة الفن الواسعة قدم الفنانون الشعبيون من حاراتهم وهم يتأبطون رقصات الفلامنكو، وأغانيهم المعمِرة، وموسيقى غيتاراتهم الحيّة؛ جاؤوا المسرح بروح حركة أجسادهم في أزقتهم، وبطقوسهم العارية من إدعاء العفوية؛ أتوا بسحر عثراتهم وتلعثمهم المفارق للأكاديميّة المكرسة أو مراكز البحوث المسرحيّة.. من همومهم وما يلتهب في أقاصي عروقهم حضروا إلى المسرح، لفعل مسرح مغاير ملتزم مع الحرية والعدالة في المجتمع، ودون غض الطرف عن التزامهم مع ذاتية الفنان فيهم.

هو مسرح شعبي مستقل يحث، ويحرض، ويحض، ويستفز، ويدفع للتفكير عبر الحواس والانفعال، وحوار المشاعر الملتهب من اجتماع ممارسات فنون مختلفة، ضمن شكل تواصلي بين المؤدي والمتلقي.

ولا أبالغ بالقول أننا مع سالبادور تابور أمام مسرح مختلف عن كل الذي درسناه وتبحرنا في تفاصيله، نحن الذين نهجس بالمسرح، ودرسنا المسرح في المعاهد والجامعات. كما لا أبالغ بالقول أن كل ما يُشاهد منذ الثلث الأخير من القرن الماضي من منجزات فنية عابرة للأجناس، والتي تزخر بها السينما والمسرح والعروض الراقصة.. إلخ في الثقافة الاسبانية تعود بجذورها لما افتتح فعله الأندلسي الاشبيلي سالبادور تابورا في مسرحه.

في ختام مقدمتي، أود أن أوضح نقطة تتعلق بأهمية عنوان مسرحيته الأولى "كيخيّو"؛ لأنه في العمق يسم القول لديه، كما يهب شكله الفني المسرحي علامته الفارقة.

يشير لفظ "كيخيّو" بالغجري الأندلسي إلى تلك الشحنة الصوتية الأليمة الشاكيّة، إلى التأوه المجروح الهوياتي، والمحمل على كاهل آهة مُلوّعة أمام لاعدالة ظرف ما، وما أكثر الصرخات الغجرية الأندلسية المضرجة بالـ"كيخيّو" في التاريخ الاسباني، وأشهرها صرخة "عاشت الأندلس حرة".

أخرج سالبادور تابورا منذ بداية عمله في المسرح حوالي 25 مسرحية، وقدمت فرقته "لا كوادرا" المستقلة أكثر من 5000 عرض مسرحي في 34 بلداً، كما شارك بعروضه في 200 مهرجان دولي.

النص الذي تنشره "الكلمة" نقلا عن مجلة "الثقافة العالمية" هو ترجمة لفصل من كتاب "المخيلة الجريحة" بتوقيع كونتشا تابورا، وفرانثيسكو مورييو، وإباريستو روميرو. ويحمل الفصل عنوان "المسرح والالتزام"، وهو عبارة عن كولاج أو مقاطع متشظية، تم تجميعها من أحاديث مذررة وجمل متفرقة لسالبادور تابورا في مناسبات ولقاءات مختلفة تمتد بين عام 1974 و1997. وأدى لصق المقاطع المنتقاة ضمن ترتيب معين إلى نص يوضح رؤيته من قضية الالتزام في المسرح، كما يبين موقفه ودفاعه عن حقه في اختيار غائيّة مسرحه، على حد سواء بالرؤى المختلفة الأخرى؛ فبالنسبة له المسرح الذي يرومه هو ذلك المسرح الذي يستطيع بلغته الجماليّة أن يحقق الوصال الصعب بين الحياة والفن.

وقبل أن أترك الكلام للمبدع سالبادور تابورا بين يدي القارئ، أود التنويه إلى الاختلاف بين معنى Andalucía "إقليم الأندلس" من جهة، وبين al-Ándalus "الأندلس التاريخية" من جهة أخرى. ذلك أن أندلوثيا أو "إقليم الأندلس" يشير إلى التقسيم الإداري المعاصر للمقاطعة المتوسطية في الجنوب الاسباني، والتي تتمتع باستقلال ذاتي، وتضم حدودها مدن اشبيلية، وقرطبة، وغرناطة، وجيان، ومالقا، وقادس، والمريه، وولبا. وهي تختلف اختلافاً بيّناً عن al-Ándalus "الأندلس التاريخية" الدال على مفهوم أوسع، ويضم معظم أراضي اسبانيا والبرتغال في ذروة حضور الظاهرة التاريخية العربية في شبه الجزيرة الإبيرية، مع الأخذ بعين الاعتبار أن حدود "الاندلس التاريخية" كانت تتقلص مع الوقت حتى ساعة الزوال آن سقوط غرناطة سنة 1492.

لم يرق لي أن استخدم اسم "أندلوثيا" في نصي، رغم جواره جادة صواب الترجمة الحرفيّة، وفضلت عليه تعبير "إقليم الأندلس" أو "الأندلس" في أغلب سطور النص، وتركت تعابير تابورا الخاصة بوصف سكان إقليم الأندلس كـ"شعب"، لأن في ذلك عكس لموقفه السياسي والاجتماعي، بأن الجماعة البشرية في هذه البقعة الجغرافية تحمل تاريخها وثقافتها ولهجتها وسويداء أعماقها الأسيّة، كما روحها الفنية المفردة، والتي تميزها عن غيرها من الأقاليم والمقاطعات الاسبانية الأخرى. أما الجمل التوضيحية الواردة بين قوسين في النص فهي تعود لي (المترجمة).

أخيراً، أترك للقارئ تأملات سالبادور تابورا حول مفهوم الالتزام في الفن عامة والمسرح خاصة، كي نكتشف معه الأخلاق التي توضح معنى تجربته المسرحية الخلاقة. ولا أنسى التنويه إلى أن صوت سالبادور تابورا يسمع مباشرة في الثقافة العربية على الأرجح لأول مرة من خلال مجلة "الثقافة العالميّة".

* * *

المسرح والالتزام (سالبادور تابورا)
كنت على دراية بكافة الأجواء التي كانت فيها فنون الغناء والرقص في إقليم الأندلس تسير معاً يداً بيد، أو يخضع أحدها للآخر. ولألف مرة ومرة طرحت السؤال على نفسي حول السبب الذي جعل من الغناء والرقص فنين لا يعكسان الواقع الحياتي العياني الذي يعيشه أهل الأندلس. شيئاً فشيئاً، ودون الخوض في تحقيق دراسة حول الموضوع، بل مجرد ملاحظة وتجربة متأتية من واقعي الخاص، توصلت إلى استنتاج مفاده أن ثمة ظاهرة عارمة مسيطرة تقوم بدور الموجّه، بحيث أن فنوننا الأندلسيّة من غناء وموسيقى ورقص تشق طريقها في اتجاه، بينما تتموضع حاجاتنا الفنية في وجهة أخرى. لطالما فتشت يوماً إثر يوم عن وسيلة فنية حقيقية غير مزيفة للتعبير عن واقعنا الراهن، ولكني توصلت للاعتقاد بأن واقعنا هو الآخر مزيف على نحو كبير ومخفي تحت حجاب من الفكر التنميطي الجامد، الذي يعمل كتيار جارف ويسبب خللاً يجعل من الأندلسيين وكل ما هو أندلسي، من المُغني وكل ما نغنيه، أداة نفعيّة في خدمة تثبيت قناع البهجة المزين بالألوان على وجه شعبٍ حزين وشاحب.

كان لابد من إعادة ترتيب كل ذلك وموضعته في مكانه المناسب. وكان علينا أن نقوم بهذه المهمة بأنفسنا، نحن الذين تعلمنا بوسائلنا المتواضعة الذاتيّة القراءة والكتابة، نحن الذين كنا نعمل داخل تلك الآليات الفنيّة المتعددة. كان لابد من "عرض" حقيقة هذه السيرورة الفنية الملتوية لأهل الأندلس الذين يعانون الخلل الذي أشرت له سابقاً، سواء كانوا أندلسيين أم غير أندلسيين، ولكل من يتم تجاهلهم، ويشكلون جزءاً من مشروع سريان فعل القناع، إضافة إلى كل الذين وصل إليهم القناع كصورة مزيفة مرحة واحتفاليّة لشعب جَدي.. هو الأندلس.

* * *

المسرح الشعبي هو فن يمارسه أناس من الفئات الشعبية؛ بهم ولأجلهم. ولا علاقة للمكان الذي يؤدى به في توجهه هذا، فهو مسرح شعبي سواء كان في صالون دار في حارة أو مسرح دار الأوبرا. وما يلفت الانتباه أنه حين تحقق المسرح الشعبي فإن القائمين عليه لديهم الكثير لقوله، وأبداً لا يسمح لهم بالتفوه حول كل ما يريدونه. وعليه، من الضروري ارتياد كافة الأمكنة التي تتيح لهم الكلام. مع الأخذ بعين الاعبار أنهم يذهبون بعتادهم ويحملون مسرحهم على كاهلهم دون أي تأثير عليهم من قبل الجهة الداعية.

* * *

هو مسرح متعالق مع الناس الذين يؤدونه، طالما أنه مسرح لا يولد من المهارة الاحترافية، بل يتأطر ضمن الإمكانيات التواصلية لكل شخص فاعل فيه.. وبكل ما يُؤدى فيه من الغناء، والعزف، والرقص.. وهذه القدرة الفاعلة تتأتى من مدى بعدها عن المدرسيّة أو الأكاديميّة المكرسة.

... فـي المسرح الشعبي لا يمكن أن تترك جانباً واقعك، فمن إحضارك حياتك الخاصة إلى المسرح يولد فنٌ له خصائصه المتعددة والمتنوعة.

ثمة تواصل مباشر ينتقل من شخص لآخر، دون أن يأخذ بالحسبان الشرط الاجتماعي ولا المستوى الثقافي؛ فالأمر يتعلق بأحاسيس عابرة للحواجز الثقافية التي أقيمت لإعاقة التفاهم فيما بيننا.

إن اقتراح أو إملاء مسرح ما على الوسط الشعبي، يعني أن من يقترح يرى في مكونات الوسط الشعبي البشرية أطفالاً يحتاجون للوصاية، وأن مسرحهم غير ناضج أو تشوبه سمة طفوليّة ساذجة، أو أنه يبصر فيهم بلاهة أو ضعف في درجة الذكاء عن الحد العام، فهو يفترض أنهم لا يحيطون معرفة حتى بالوسط الشعبي الذي يعيشونه. وهذا الفعل (المتعالي) يعني الاعتداء على كرامة الفهم والإدراك لدى جماعة من البشر، طالما أنها لا تفكر مثلهم.

بالنسبة للأندلسي خضع المسرح عموماً، بما فيه المسرح الأدبيّ، لفيتو النقض؛ ذلك أن ممارسة المسرح تعني أن يذهب الأندلسي إلى مدريد العاصمة، والتعلم كيف يتحدث القشتالية المعياريّة على نحو صحيح (متخلصاً من لهجتة ولكنته ومفرداته الخاصة)، قبل أن يمارس الفن؛ أو أن لديه خيار آخر، ألا وهو إنشاء مسرح على الطريقة الهزلية (المحلية والتجارية) للأخوة كينتيرو.

انتصب أمام الأندلسيين باستمرار حاجز أعاق بينهم وبين الوصول لعالم المسرح. والآن مع فرقة "لا كوادرا" في اشبيلية يولد مسرح يتم البحث فيه عن لغة متواشجة مع بيئته ومحيطه الثقافي، ومع كيفية رؤية هذه البيئة الشعبية للعالم وللأشياء.

* * *

يجب على المسرح الشعبي أن يقدم أفضل الممكن، دون أن يشترط على نفسه مكاناً محدداً ليتحقق، لأنه حينئذ سيضر بفعل المسرح نفسه، فمثل هذا الاشتراط الإلزامي سيؤدي لذاتيّة التهميش. إن قيم المسرح المنفتح الشعبي تقاس بالشكل وليس بالمكان الذي يوجد فيه. أجل! حتى فوق عربة متواضعة تجرها قاطرة يمكن أن تقدم مسرحاً بصبغات برجوازية؛ أو أن تعرض في أماكن مسرحية بِكْر، حيث ثمة إمكانية لولادة مسرح متعالق مع المحيط الثقافي، اقتراحات مسرحية برجوازيّة، اقتراحات يجب الحرص على إزالتها من المسرح الذي نرومه.

* * *

لكل شخص مسرحه في فضائه الخاص، والتعبير الفني المسرحي لدى هذا الشخص يجب أن يكون امتداداً لحياته اليوميّة. وأثناء أداء الفن يجب أن لا تُترَك جانباً الخبرة المكتسبة من العمل اليومي من أجل ولوج عالم فنٍ حددت معالمه مسبقاً، وصيغت ملامحه في قوالب صب جاهزة ومستقرة.

إن إدخال الآلات، وأدوات العمل، من بين غيرها من أدوات الشغل، إضافة لنوعية اللغة الفنيّة التي أقترحها في مسرح فرقة "لا كوادرا"، يعني نقل تجربتي الشخصية إلى المسرح، دون أن يكون علي المرور في قالب الصب المكرس لفعل المسرح.

هذه اللغة الجمالية ستفسح المجال لإسهام الأشخاص الذين يعانون التهميش عن الفعل المسرحي وعن عالم الفن منذ يوم ولادتهم، بمعنى أن إشراكهم بهذه الطريقة سيمكنهم من تطوير حساسيتهم الجمالية بواسطة عناصر ومواد فنية يعرفونها تمام المعرفة.

* * *

إذا أردنا أن يكون المسرح قابلاً للاعتقاد من قبل الآخرين، يجب أن نعتقد به نحن قبل كل شيء.

إن ما نحاول أن نفعله في مسرحنا يكمن في عدم فصل الفن وإقصائه عن الحياة؛ لأن الفن يجب أن يولد من رحم الحياة وهو ارتقاء بالحياة؛ إن النزعة الثقافوية سببت الكثير من الضرر، ليس للمسرح فقط، بل لكثير من التظاهرات والتعبيرات الفنية المتنوعة.

... ما نود العثور عليه هو ذلك النوع من المسرح الذي يستوعب اللا-أدبيّة، ولا يحتم عليه أن يحمل "الأدبيّة" بداخله، أو يعلن عن نفسه باستمرار عن طريق الأدب؛ لأن صلة البيئات الشعبية مع المنجز الأدبي ضعيفة عموماً، والأمر يعود لمشقات ومعيقات اجتماعية واضحة ومعروفة. وهذا الإدراك لـ "اللا-أدبيّة" يمكن أن تفسح المجال لنشوء مسرح أكثر غنى من حيث خصاله، وقبل أي شيء إتاحة المجال لوصول هذا المسرح إلى قطاعات اجتماعية أكثر اتسعاً.

* * *

يكمنُ الالتزام في المسرح من خلال اللغة الفنية الجماليّة لا في الموضوع.

* * *

لا وجود لمسرح حيادي، بمعنى أنه ما من مسرح يمكن له أن يفرّ في العمق من المعنى الاجتماعي. وما يحصل عادة، أن ثمة مسرح يستطيع الخروج من قطاع اجتماعي يقدم له يد المساعدة على نحو جيد كي ينهضم منتجه بسهولة، بينما الأمر ليس كذلك في مسرح آخر يولد من قطاعات مختلفة، حيث الحياة فيها ليست وردية اللون تماماً. المشكلة تكمن في معرفة المعيارية التي يُطلَق فيها على مسرح ما "مسرح سياسي اجتماعي" ولا يطلق التعبير نفسه على مسرح آخر.

فيما يتعلق بحالنا، حينما يقال أننا نوظّف الديماغوجيّة، فإن ذلك يعود لأن مسرحنا ليس في خدمة مصالح ثقافية برجوازية محددة، بل هو في خدمة عموم المجتمع الذي ننتمي له. لا ديماغوجية في مسرحنا لأنه ما من خداع في طروحاتنا، بل عرض جمالي لحالة تعكس بوفاء ما نرى أن المسرح يجب أن يكون عليه؛ فأنا لا أعتقد أن المسرح يشق طريقة في وجهة مغايرة لوجهة الحياة.

إن مسرحنا ينجز من خلال منظار شعبي. والمسرح لا يعتبر شعبياً، كما قلت مراراً وتكراراً، بسبب المكان الذي يجد نفسه فيه، بل من حمولة الإدراك الذي يتم تلقيها منه. وحين ينجز المسرح اعتباراً من وجهة نظر قطاع مثل قطاعنا، الذي لا ينتمي لحقل الأدب المسرحي، فهو مسرح شعبي. ومن جانب آخر، هو مسرح لا ينجز فقط من أجل الوسط الشعبي، ولا يتوجه إلى أية فئة معينة، بل لكل مَنْ يود أن يرتاده ويضع نفسه أمامه، يشاهده، ويحس به.

* * *

لدي نيّة واضحة الغائيّة بأن على المسرح أن يكون مواجهة مع الجمهور. أي عدم اعتبار الجمهور مثل ذلك المتفرج الذي يرتاد المسرح ليشاهد حكاية تجري على الخشبة دون أن يكون جزءا منها. أود أن يكون الجمهور شريكاً حتى بالعنف الركحي المحتمل الحصول، وبأن هذا العنف يخصه ويتعلق به، وبأن كل القصص الركحيّة هي قصصه المقلقة، التي تمس شغافه وتشغله أيضاً، ويجب أن يوليها اهتمامه.

إن أعمالي المسرحية هي عروض تقوم على مفهوم "المجابهة"، وتتم باستمرار من خلال الحساسية ولأجل حساسية الجمهور؛ وتمتلك تواصلاً يسري من شخص لشخص آخر؛ هي عروض تعالج قصة مسرحية بوجه أميط عنه اللثام، وبلا أي ماكياج تجميلي، وهو نفس الوجه الذي وهبته الحياه لهذا الشخص. وعليه، نعمل على تقديم الفنان المؤدي من خلال الإيمائيّة والتصرفات السلوكية أو العلامات الحركية أكثر من محض التركيز على وقائع الحكاية؛ أما تناولنا لكثير من الأقاصيص الصغيرة من أرضنا ومعيشنا، فهو بالمجمل محاولة لتقريب الحياة إلى المسرح ولكن بوسائل التعبير الحركي، والغضب، حتى العجز الخاص بكل فرد.

* * *

إن التلاعب التمويهي المخادع بمفهوم "الأندلس"، ليس حكراً على اسبانيا وإنما هو حاصل خارج الحدود الاسبانية أيضاً، وقد أضر كثيراً بصورة البلد ككل. وعليه فإن استعادة الصورة الحقيقية لإقليم الأندلس هو سجال ومجادلة يترتب علينا أن نشترك فيها جميعنا. ونحن الأندلسيون ليس لدينا فقط هذه المجادلة مع الخارج بل داخل إقليم الأندلس نفسه.

... الفن لا يخدم كأداة تنديد فقط، بل ينبغي أن يكون عرضاً وكشفاً لأوضاع الشعوب. وحينما يخدم الفن الشعب في المكان الذي يولد ويمارس فيه، فهو في هذه الحالة شهادة، وإذا كان الفن شهادة عن شعب يعاني شظف العيش، فهو إدانة تتغيا إعادة التفكير بأوضاع هذا الشعب.

... الثقافة حاضرة في الشكل وسلوك الشعوب الفني. وعندما يستوطن أحد الفنون ثقافة شعب ما، فإن تلقيه وفهمه يقتضي الحساسية فقط؛ وبما أنه ما من أحد يتسلط على الحساسيّة، كما لا تلجمها اللغة المنطوقة، فإنها تتحول لتشكل عنصراً تواصلياً على المستوى الإنساني العالمي ودون أن يتنازل الفن عن تجذّره في الثقافة الأم التي ولدته.

* * *

استرجاع كرامة الأغاني والرقصات الشعبيّة يعني استرداداً لكرامة شعب.

* * *

إن وضع أدوات الإنتاح من ماكينات الشغل فوق خشبة المسرح، متجاوزاً إمكانيات الخشبة الدرامية المعتادة، يشكل بالنسبة لي اقتحاماً طبقياً اجتماعياً، لأن طبقة اجتماعية شعبية تقيم مسرحها بالأدوات والمواد التي تعرفها جيداً...

يجدر بأن يكون "فن الشعر" المادي موائم لمسرحنا، أي فن شعر الأغراض المسرحية من الآلات، والسلاسل، ولحام الكهربائي؛ إنها شعرية بيئية العامل كما هي شعرية ثقافيّة؛ لكنهما (فن الشعر والأداة) يتواجدان دوماً بحالة اتحاد جمالي في كل لحظة دراميّة، ولهما نفس الغاية، أي الالتزام مع الواقع الاجتماعي الذي يولد ويعيش فيه الفنان، وعلى الفن أن يجعل كل أدواته الجماليّة في تصرف المجتمع الذي يعيش فيه.

* * *

فرقة "لا كوادرا" المسرحية تشدد على العلاقة الوطيدة بين الممثل ككأئن بشري وبين عمله على خشبة المسرح. بهذا المعنى، ندرك المسرح ونفهمه على أنه فعل جدير بالتصديق والمعايشة، وغير قابل للتقييم على أساس عفته أو حشمته.

فنٌ لا التزام فيه هو فن لا نفع منه. والإنسانيّة في الوقت الراهن لا تستطيع أن تتمتع بمثل هكذا ترف. طريقتي في رؤية وفعل العروض المسرحية متواشجة مع الحميمية والذاتية الخاصة بي على نحو جمّ، فأنا لا أقدر على خيانة مفرد ذاتيتي. والفن كما أره لا يستطيع أن يتحول إلى شيء مقتلع من الحياة الشخصيّة للفنان.

... الالتزام الأكبر بالنسبة لرجال ونساء المسرح يتمثل في البحث عن الوسائل التي يستطيع بها الشعب إنماء حساسيته الجماليّة. وإدخال قيمه وإدراجها في العرض المسرحي. وأود التوضيح، في معرض الحديث هنا، أن ذلك لا يمتّ إلى "الواقعيّة الاشتراكيّة" بصلة، كما يحاول البعض تصنيف تجربة "لا كوادرا" وتغيير معنى مسرحها؛ وهنا يكمن الجدل الذي تقترحه فرقتنا (المستقلة)...

ويجب عدم نسيان أمر هام، ألا وهو أن الفئات العاملة وجدت لها أخيراً مكاناً تشغله في الفن. سابقاً، لم تتح لنا أية فرصة مطلقاً لطرح وجهات نظرنا فنياً، وعليه يجب الكفاح من أجل تكريم القطاعات الشعبية فنياً في الفن.

وينبغي أن يتأسس المسرح على حمولة شعرية تخاطب الحواس كافة. وإذا لم تفهم التجرية المسرحية وشعريتها بالحواس الخمس فما من مدعاة لوجودها. العنصر الأدبي (النص) هو أحد الوجوه الممكنة من أجل التواصل المسرحي، ولكن ما يتحكم بالتواصلية فوق أي عامل آخر نصادفه في ما يؤدى في مكان العرض المسرحي. والالتزام الاجتماعي في المسرح كائن في التغير في الأشكال الفنية، هذا يعني أننا لو تابعنا تغذية مسرحنا بالأشكال المسرحية البرجوازية، فإننا سنستمر بالحديث عن قضايا اليسار باللغة الموروثة من اليمين.

* * *

من غير المستحسن توظيف المسرح من أجل التكهن بالغيب. ليس على المسرح أن يتنبأ، بل أن يحرض ويحفز على إعمال الفكر.

* * *

شعرت دوماً بالحاجة لتحويل كل ما تعاملت معه وخبرته إلى فن. وخلصت إلى أن خشبة المسرح هي منصة تصلح للتعبير جمالياً عن أي شيء، هي وسيلة جمالية من التواصل الحاصل من شخص لشخص آخر.

* * *

لا يمكن أن نتحجر عند تقاليد فنيّة مُشِلّة، فمن الضرورة بمكان الحراك ومواجهة المستقبل بجرأة.

... أما عن الجدار الرابع...، فطوال حياتي حاولت هدم الجدارن وتقويضها. أعتقد أن المسرح يمكن له أن يكون كما يقترح الفرد الفنان. ومصلحتي في هذه المرحلة تتمحور في استمالة اللغة المسرحيّة بالكامل وجذبها نحو حقول الفنون المعاصرة الأخرى (رقص، تعبير حركي، تشكيل جسدي، غناء، موسيقى حية..)، كي تجد هذه الأخيرة متسعاً لها في فضاء التمثيل الدرامي وتساهم كعناصر تواصلية مسرحية؛ ليس من أجل توليد قصص ونوادر منها، بل لتساعد على أن يكون المسرح مرآة للمجتمع الذي نعيش به. هذا سيكون بمثابة فتح باب على المستقبل، الذي لا يشغلنا فيه تقديم أعمال مسرحية أفضل أو أسوء، بل ننشد فيه تعزيز لغة فنيّة مغايرة يجد عبرها أولئك الأشخاص، ممن لا يدرج أداؤهم الفني ضمن عالم المسرح، تمكيناً متاحاً مع الوقت للمشاركة في الأداء المسرحي.

... المسرح الذي يحاول أن يجعل مكونات المجتمع البشرية تتأمل أو تعيد النظر في أمر من الأمور، يطلق عليه اسم المسرح السياسي أو المسرح اليساري، ولكن يوجد مسرح لا ينعت بالسياسي، وهو كذلك. المسرح مثل كل الفنون ليس لديه مصطلحات غامضة: إما أن يكون من اليسار أو من اليمين (المحافظ)؛ ولا أقصد بكلامي المعنى الحزبي للكلمة.

حينما يتشوف المسرح خدمة المجتمع، فهذا يعني أنه يساري؛ وحين يتطلع إلى التشويش (التمويه) على المجتمع فهو مسرح يميني (محافظ).

* * *

أعتقد أن المسرح هو نظام جمالي. وكل ما هو منضبط ومنسجم جمالياً، ينتج تواصلاً لحظياً عابراً لا يمكن تثبيته والتقاط صورة له، ولا رسمه، ولا كتابته، ولا تقنينه بقواعد ثابته، ولهذا ينتمي المسرح إلى عالم المخيلة والحساسيّة. ولحسن الحظ، ما من أحد يمكن أن يبلّغ أو يخبّر عن كنه الظاهرة الفنية بأية طريقة سوى بالرعشة القشعريرة أو بالإحساس الذي يتمخض عنها... وعليه أرى أن الفن بقدرته على التأثير العاطفي العصي على السيطرة دوماً، يستطيع أن يُساعد بالتزامه على تحقيق مجتمع أفضل وفرد أفضل...

... أنا لا أمارس مسرحاً، لا أرى الأمر على هذا النحو، بل إن أعمالي المسرحيّة هي شعائر أهليّة مدنيّة للدعوة والمطالبة بكرامة شعب.

* * *

لا فن دون التزام، دون أية علامة أيديولوجية أو سمة فكرية: فيما لو أن التجربة الفنية تغشّي على البصر فمن المعروف من تخدم، وفيما لو حاولت إزاحة الغشاوة عن الرؤية فمن المعروف أيضاً لمن تنتمي.

... إن محاولة إنجاز العرض المسرحي دون تقديم خدمة للمجتمع، سيكون بمثابة حصره بحدود الحدث الإجتماعي وإبعاده عن الفن.

* * *

كل ما في الفن صعب وغير قابل للتفسير، لأنه لو كان سهلاً وقابلاً للشرح فإنه لن يكون فناً. ويعلق الفن آماله في المسرح على الوصول إلى تخوم أبعد من الكلمات (الأدب). وحينما يتحقق هذا في المسرح، سنكون قد خلقنا فعلاً فنياً يستطيع تحفيز وحضّ حواس الأشخاص. ومن وجهة نظري أرى أن الحواس التي تتجاوز المعدة أو الجيب، قادرة أن تصلّح إلى حد ما المجتمع.

* * *

بشكل أساسي، فقد إقليم الأندلس كرامته عبر الإطار الجمالي. إن التغيير في جماليّة بلدٍ ما هو الواجهة التي يُرى من خلالها التغيير في عقلية وتفكير هذا البلد. هناك الكثير من الأعمال الفنية السينمائية والمسرحية تجول أصقاع العالم، يندى لها الجبين خجلاً، تلك المساخر التنكرية التي فُبرِكت مما هو أندلسي. ومع ذلك فالسلطة لم تكافح ضد هذه الجماليّة ولم تبحث عن عقليّة جديدة.

* * *

فيما لو اعتبر المسرح محض مهنة فإنه من المستحيل الوصول إليه. المسرح يبدأ بـvocación بميل فني ونزوع شعوري واعي يسوق الإنسان للفعل وتحقيق رغبة فنيّة ما. الأمر الذي يفسر الإحساس بانعدام الحماية التي يشعر بها رجال ونساء المسرح. ونفس الإحساس بانعدام الرعاية والأمان الإحترافي تاريخياً وحياتياً الموجود في المسرح يوجد كذلك في أي نشاط فني آخر.

الفن هو مسوغ المسرح الجوهري، وأعتقد أنه أمر لا يمكن التنازل عنه بأي شكل من الأشكال. من هنا فإن من يمارس المسرح كمجرد مهنة وصنعة، عادة ما عليه السؤال في لحظة ما عن مبرر فعله للمسرح. ولكن حينما يكون فعل المسرح متحققاً كنزوع فني شعوري واعي وتشوّق موهبة، إضافة إلى ما يتيحه لك كوسيلة ارتزاق وبراعة حرفيّة، عندها سيكون جلياً إدراك حجة فعلك للمسرح. من جهتي، أنا أنافح عن استحالة سير الفن في اتجاه في حين أن مفرد شخصية الفنان تسير في اتجاه آخر.

وعليه أعتقد إن المسرح عليه أن يحتضن كل ما لشخص الفنان من الناحية الفكرية على حد سواء مع حساسيته الخاصة. هو السجال الأهم الذي أخوضه، فأنا لا أفهم كيف يمكن إنجاز مسرحية مولودة في مكان آخر وتنتمي لفضاء ثقافي معين، وسؤالي يتمحور حول: هل تستطيع أن تنحي جانباً ثقافتك وذاتك كشخص أثناء التعامل مع مسرح قادم من ثقافة أخرى؟

إن رجل المسرح لا يمكن له أن يكون مهنياً محترفاً على وجه الحصر. ما من شيء مثير للنفور أكثر من الربط بين فعلي الفن والنقابات الحرفيّة. بالتأكيد هما إنجازان كريمان ولكن كل منه في محله، واتحادهما متناف كلياً. أما أن يدافع رجل المسرح عن النقابات انطلاقاً من حقله الفني، فهذا أمر آخر مختلف. من جانبي أعتقد أن المسرح يجب أن يكون انعكاساً وفياً لشخصية الفنان الجماليّة ولالتزامه الشخصي مع مجتمعه، مع ناسه، مع آماله وتطلعاته التي لا يمكن أن تكون فردية فقط وإنما جماعية أيضاً.

على رجل المسرح مسايرة عصره، هو أشبه ما يكون بمتلقي لمشاعر وحساسيات زمنه ولقضايا هذا الزمن. على سبيل المثال، لو أن رحى الحرب كانت دائرة الآن، فعلى حد سواء سنجد أنفسنا أنا وأنت معنيان بها، ومتأثران بوقائعها. هو أمر لا يمكن أن ننسلخ عنه وننزع مؤثراته، عما لم يعد المهنة (أو الكار) بل المجال الذي نشغله، وهو المسرح. ولا نقوى كأشخاص على الانفكاك عن الشعور الذي ينتابنا اليوم من خيبة أمل، ومن غضب، ومن عجز؛ وأنا هنا أتحدث عن مجمل العناصر المسرحية. وأعتقد أن ذلك من شأنه أن يؤثر على رجل المسرح بمقياس تأثيره على المجتمع بأسره. والتفكير يجب أن يتم برفقة المجتمع نفسه. على رجل المسرح أن يساهم فيما يعتقد أن المستقبل يجب أن يكون عليه. إما الحرب أو السلام. عند هذه النقطة تُرى الأيديولوجيا منعكسة. ماركس قال بأن الفن ليس أكثر من انعكاس لسلوك وأخلاق الأشخاص الذين يؤدونه. وعلى اعتبار أن المسرح هو فن، فمن الجليّ بمكان أن ذلك الشخص الذي يحس المقت والاشمئزاز بفعل الحرب، لابد أن يعكس ذلك في المسرح الذي يمارسه. ومن يشعر في نفسه التضامن مع السلام ينبغي عليه أن يعكس شعوره في المسرح. وعليه، أحسب أن ميول فناني المسرح، سواء شهوتهم الحربيّة أو توقهم وطموحهم إلى السلام، ينبغي أن تُعرَف من خلال المسرح الذي يفعلونه وليس من الكلام الذي يقولونه.

أرى أننا نحن -رجال المسرح ونساءه- ممن لم نتخلّ أبداً عن ضرورة فعل المسرح من أجل المساهمة في جَعْلِ مجتمعنا أفضل، نجد أنفسنا جاهزين لخوض معركة؛ وأقصد بكلامي معركة اجتماعيّة لا معركة بنادق.

... أنا مخرج مسرحي كي أُخرج ما أفكر به أو أراه مناسباً، لا لكي أُخرج ما يُلقى إليّ؛ وإلا سأترك فعل المسرح حينئذٍ ولن أكون محترفاً مسرحياً؛ أو أنني لن أعيش من المسرح، لأن المهنة ليست أكثر من أن تعتاش مما تعمله، وهذا غير ممكن فيما لو عرضت نفسي للبيع وتنفيذ ما يطلب مني. يترآى لي أن هناك فارق كبير بين ما يدعى "مهني صاحب صنعة" يستطيع أن يشتغل أي شيء يؤمر به، وبين المسرحي الذي يؤمن بما يفعل، ويفعله لأنه يشعر به، ومنه يحقق حرفته. أنا لا أقدر على إخراج مسرحية للكاتب الإسباني ألفونسو باسو خيل (1926-1978). بالطبع أستطيع أن أخرج مسرحيّة، وأصدر الأوامر، وأقود المسار الدرامي بدقة عالية كما أولئك المحترفين الذين يخرجون أعمالاً لألفونسو باسو خيل أو المؤلف المسرحي أنطونيو بويرو باييخو (1916-2000)، ولكن الأولوية هي لما يهزّني ويدفعني لفعل المسرح، وقبل أي شيء، وفوق أي اعتبار آخر، ذلك الوجع الذي تسببه الأشياء التي تحصل في الأندلس بلدي. وقد بدأت أشك في جميع أولئك الذين يعتريهم الألم مما يحدث بعيداً عنهم، ويتخطون بلامبالاة كل ما يجري من حولهم. لا أصدق كثيراً مثل هذا الألم الكوني آن لا تقدر على الإحساس بالوجع القريب. توجعني الأشياء التي تحصل في أرضي، إلا أن المصادفة الحزينة تشير إلى أن هذه الأشياء لا يقتصر حصولها في أرضي فقط، وإنما في وطن الآخرين كذلك، وعليه أشعر بالإلفة معهم.. مع الآخرين.

* * *

أن يكون المرء أندلسياً في راهن اليوم، يحمل بحد ذاته معنى الانتماء لكفاح. ومجرد الإعلان عن جديتنا وسط هذا الوسط الذي يسوده العبث والتفاهة، أرى أنه يحقق دون أن يقصد المرء نوعاً من الانتماء لكفاح.

* * *

اقتدرت الأندلس وقويت على الصور المتخلية والمغالطات التي أشيعت عنها. وانحصر تأثير هذه الممارسات المنعزلة في الصورة المؤقتة للأندلس، دون أن تصيب واقعها وصورتها الفعليّة.

إن شعب الأندلس يبحث عن هويته المتواشجة مع الماضي. والخطر أن يشتبك البحث مع أحداث مشوهة لشخصيته، لأن هذه الأرض عانت الكثير من التشويهات الثقافية عبر تاريخها. والوصفات العلاجيّة للخروج من النفق الذي نجد أنفسنا فيه واضحة: عدم نسيان تاريخنا، والابتعاد عن الرعونة والسخافة، وبناء فن يتردد صدى جديته من حيث القيمة الفنية والمحتوى الاجتماعي، وأن يُجعل من إقليم الأندلس بلداً بمبادئ اقتصادية تسمح بالتفوه بلغة لاتراتبيّة تساوي بين البشر.

يحتاج إقليم الأندلس لرعاية تعبيره الفني، فقد أضاع كرامته بسبب التلاعب المخادع بفنه، وبحجة الفلوكلورية التي أُسيء فهمها؛ ولكن استرداد الأشكال الفنية الحقيقية لا غير، يستطيع أن يعيد لها هويتها.

* * *

إن صلاحية إطلاق صرخة، أو دَفْع محفّز، تظل سارية المفعول دوماً؛ وإذا لم تصبّ مباشرة في الشجب العلني، فإنها على الأقل تخدم للتذكير بما تبقى ويتعين القيام به لتحقيق مجتمع أكثر عدلاً، حيث ينبغي على الفن من خلال موقفٍ نقدي مثابر ودورٍ في الالتزام، أن يكون له حضور أو شهادة.

... أعتقد أن على الشعوب أن تكون حاضرة، ببصمات مؤثراتها، في المحاججة الفنية والاجتماعية الذي يتم تطويرها في العالم؛ أنها طريقة المشاركة الأكثر أصالة لتحديد الهوية ومعرفة الثقافات المتنوعة الحية التي تميزنا عن بعضنا.

إن الرسالة أو الحاجة للقول، لقولِ شيء ما، هو ما يثري العمل المسرحي. والعرض المسرحي يمكن أن يكون محض نزوة جماليّة، بينما المحتوى أو القول هو حاجة دائمة.

* * *

نحن معنيون بمسرح الالتزم لأنه يكشف الكثير من الأكاذيب التاريخية؛ لكنه بنفس الوقت التزام مع الشكل الفني، لأن الشكل هو مغامرة، حتى مخاطرة جماليّة تجري حينما يُسرَد، أو حينما يُقال، أو حينما يُخلق. ومجازفتنا الجماليّة كليّة من حيث المبنى والمعنى.

* * *

إن الجَدَل الحجاجي في المسرح ليس حول مواضيع يتناولها، بل حول أشكال فنية يعالجها، والتغيير لابد أن يطال الجماليّة، فعند هذه النقطة تماماً يقع حجر الزاوية. بناء عليه، اختفت تماماً فرق مسرحية كان لديها محض التزام ايديولوجي منذ حوالي خمسة وثلاثين عاماً؛ كما أخذ حجاجها بالاختفاء مقدار إمكانية نقل مناظرتها الأيديولوجية

إلى حقول أخرى لا تنتمي حصرياً إلى عالم المسرح. في حين استمرت الفرق التي كان لديها التزام مع مضمار الالتزام مع الشكل.

* * *

يُعرَف إقليم الأندلس على نطاق العالم بفنه، ولكن ينبغي العمل على الإرتقاء بكرامة هذا الفن.

... الفنان ينبثق من الحاجة للتعبير والتواصل، لا من النزوة أو تمضية أوقات الفراغ. بالتأكيد لكل فرد مفهومه الخاص عن الفن وعن المسرح، ولا ينبغي وجود رأي أحادي، أو موحد وموزع من قبل المؤسسات. وعلى الفنان أن يكون حراً ويمتلك فكراً نقدياً فيما يخص المجتمع الذي يعيش فيه. ويمكن لمبادئه الإبداعية المشاركة في خلق إدراك ما، وأفضل بكثير إذا كانت هذه المبادئ الإبداعية مثيرة للأحاسيس وممتعة.

* * *

يعيش المسرح تحدياً، وعليه أن يستعيد وظيفته الاجتماعية والفنية، وفعاليته كوسيلة تواصلية من فرد لآخر. إن عودة الفنان للقاء مع الحدث الحميمي، والعزيز على القلب، الذي يمثله المسرح هو معنى من معاني التحدي في هذا البلد. وضياعه سيكون بمثابة الاستسلام لثقافة لا تنتمي لنا. المسرح هو فن، وبما أنه كذلك لا يمكن أن يكون أبداً مهنة قطعيّة لاشك فيها، أو محسومة لا تحتاج لتجربة. لقد قُدمِت عروض مسرحية رصينة تعتمد على صنعة حرفية جيدة أكثر من العروض المشغولة بفعل الإحساس بالألم. كما لو أننا لم نعد نشعر بالآلام الشخصية، رغم أن المسرح هو جرح نازف لا يلتئم ولا يبرأ. إضافة لذلك، يبدو مؤخراً، أن الالتزام يعتبر تقليعة أو موضة فات أوانها، وبأن على المسرح أن يتوجه فقط نحو التسلية.

إذا لم يحس رجل المسرح، ولا يتوجع رغم كل الوقائع العنيفة، والتعسف، ولاعدالة، والجوع، فإن ما يقوم به لا يعدو أن يكون تريضاً أو تمريناً على صنعة. فنان المسرح ليس باستطاعته مطلقاً أن يكون إلى جانب السلطة أو بالقرب منها، وإنما عليه أن يمتلك فكراً نقدياً. إن الفنانين العظام استجابوا جميعهم لهذه الوظيفة، ولابد أن نتابع على هذا الدرب النموذجي. والالتزام يمكن أن يكون فناً يتفوق على الفن الأرعن الغث. بالتأكيد سيكون هناك من يرى أن ذلك يوتوبي. حسناً، مباركة هي اليوتوبيا طالما أنها تبذر الأمل!

العاملون في الورش المختلفة، الرسامون، المسرحيون.. إلخ، يتوجب علينا الكفاح كي تكون القيم الأخلاقية الحقيقية، التي تهبنا الحياة، فوق قوانين السوق.

... المسرح هو طقس. إن كل عروضي المسرحية لها سمة قدسية وطابع شعائري. وبما أنه مسرح مولود من الحياة، لا من الكتاب، فإن استعادة الطقس هو المسعى الجوهري فيه.

كل ما ليس بشعائري اليوم، يبدو لي أنه اعتداء على المسرح. ما من مبرر أن يكون الفن إيضاحياً تفسيرياً، ولا أن يقص حكايا كاملة. من وجهة نظري، المسرح ملزم بأن يثير الإنفعالات وهو يخدم مصالح المجتمع. وأدرك المسرح فقط على أنه فعل جميل مقدس وملتزم.

* * *

المسرح ليس لديه إلا تاريخ واحد عامة، وهو تاريخ أدبي كتبته البرجوازية الصغيرة؛ في حين أن تاريخنا المسرحي يشكل اقتراحاً من وجهة نظر أخرى، وأقصد بها وجهة النظر الشعبية. بمعنى أن هناك أفراداً من بيئة اجتماعية لم تقل كلمتها أبداً فيما يخص المسرح، ولديها الرغبة بقول أشياء بواسطة غنائها، وموسيقاها، وصمتها، وخوفها؛ وبالمحصلة هذا سيؤدي لطرح حوار جدلي آخر، سياسي واجتماعي، في العروض المسرحية.

فنون الفلامنكو، على سبيل المثال، مهمة بالنسبة للمؤسسة الحكومية، طالما أنها تساعد على الهضم الجيد (بعد وجبة عشاء)، ولكن حذار!. حينما توظف فنون الفلامنكو لتحقيق التفكير وإعمال الذهن، فإن الموقف منها يختلف ولا يعود هو نفسه. هذا التوظيف لا يروق لمن لديه مفهوم ركيك أرعن حول الفلامنكو كتسلية؛ إن موضعة غناء الفلامنكو في الحالات التي نقدمها، وليتقوّلوا ما يتقوّلون، هو حوار جدلي سياسي واجتماعي رغم أن موضوع العرض قد يكون عن "الفراشات الزرق".

* * *

يجب استرجاع الشعب المطرود من قبل جمهور المسارح.

المسرح يمكن له أن يكون التعبير الفني الأمثل لشعب ما.

أنا أبحث عن أوليس في نواصي شوارع حارتي.

ما من ثورة إن لم تتغير الأشكال.

* * *

علاقتي مع السلطة السياسية هي علاقة مواطن يطلب من الكوى (جمع كوة) الحكوميّة نفس المساعدات التي يطلبها أي مواطن آخر. لأن المال العام هو لتنفيذ مشاريع لأجل الصالح العام. لا أملك أي معاملة تفضيلية من قبل السلطات الحكومية. وفرقة "لا كوادرا" تتابع طريقها بحسها النقدي نحو الحياة والفن. تتابع تحقيق مهمتها الاجتماعية بنضح فني امتلكناه على طول السنين بلا أدنى شك، ورغماً عن خَرَق قد يبدو علينا أحياناً.

* * *

المسرح هو التزام باستمرار، كل ما فيه التزام، حتى (اختيار) اللا-التزام هو التزام.

* * *

إن عزو ثقافة مسرح الفخفخة والتباهي بضخامة الإنتاج يضر كثيراً بمسرح المحتوى، والذنب يقع على هذه الثقافة المسرحية المبذرة بالمؤثرات الفنية، الملئية بالسطحية، والفارغة من المضامين. هناك نسيان للأكثر أهمية في الوظيفة الاجتماعية للمسرح، ألا وهو خطاب العمل الفني.

أحياناً، عندما أعود إلى الأندلس بعد غياب، أصادف أشياء يخيل لي أنها مختلفة عن تلك التي عهدتها، ولكن عند كشط الطبقة السطحية قليلاً، فإن هذه الأشياء هي نفسها التي أعرفها وما من شيء تغيّر. الأمر الذي يؤسفني كثيراً. والآن تتبدى على أنها فنون أندلسيّة حصراً طقطوقة "الكوبلا"، والفلكلور الذي يهطل علينا بتواتر مغالي.. في حين أنها ليست أكثر من كلِيشيه مزيفة لفنوننا.

حاولت الأندلس تقليد نموذج ثقافي مفروض من الخارج، معتقدة أن الهوية هي الرعونة والسخافة. ولكن آن تشبه الأندلس خوان رامون خيمينث، أو فيديركو غارثيا لوركا، أو بيكر، أو بيكاسو، أو كل هؤلاء الأندلسين الكونيين العظام، آن تشبه الجدية المتأملة والأسيّة التي كانت لهم، حينها سيُفهم أن الأندلس هي أمة معمرة وحكيمة، وتحتاح أن تشغل موقعها الثقافي في كونشرتو الأمم في العالم.

* * *

البحث عن الهوية ليس نزوة أو هوى عابر، بل ضرورة وحاجة للسير نحو الأمام منتعلاً حذاء عتيقاً. حينما يتم الحديث عن الشعوب، لا يمكن نسيان أولئك الذين ساهموا في التكوين الانفعالي للشعب؛ لا يمكن نسيان الشعب التي ضحى من أجل الشعب.

* * *

فنٌ بلا دلالة سياسية، بلا التزام اجتماعي، هو فن لا يستطيع الوجود.

* * *

أما عن كفاح الأندلس الأليم من أجل استرداد تاريخها، فأنا أحس، أكابد، وأبكي الأرض التي أطأ (تشكل جملة تابورا معارضة لعبارة المتصوف القديس يوحنا الصليب في حب الذات الإلهية). بالنسبة لي الأندلس هي كل ما أملك من الدنيا، وأكافح من أجل أن تسترد حقيقتها. ولا أعتقد الفن كنزوة أو هوىً عابر.

* * *

على كل عمل فني أن يؤدي وظيفتين ضروريتن: الوظيفة الفنية والوظيفة الاجتماعية؛ لأن فصل الفن وعزله عن سياقه الاجتماعي هو فعل أرعن وعبثي ولا جدوى منه.

* * *

المسرح ليس محض تسليّة بل عنصر تأملي وله وظيفة اجتماعية. ولا يزال المسرح شكلاً تواصلياً من شخص لشخص، وقابلاً للتصديق أكثر من وسائل الإعلام التكنولوجية. وهو، أي المسرح، يُسهَل تلاقي جميع الفنون ضمن شكل تواصلي واحد، إنه تلاقي جميع الفنون التي لها قدرة على جعل الجمهور يفكر ويشعر باللذة.

يساعد المسرح على تحسين شروط الحياة، ويتجذر سحره من خلال طبيعته كفن عابر يتوجب إعادة فعله، وارتكابه على الدوام، فهو يجبرك على أن تعيد تأليف وتحقيق أوهامك وتطلعاتك باستمرار.

* * *

الالتزام هو العمل دون نسيان أنني أنتمي لمجتمع له مشاكله. وليس على الفنان أن يكون شخصية تقضي سحابة عمرها بين السحاب. من واجبه حفر قنوات تصريف لجهده على ضوء غاية ما. واليوم الذي أتنازل فيه عن هذه الغاية، هو اليوم الذي أترك فيه المسرح.

* * *

أذكر المشغل الذي عملت فيه عامل لحام. أذكر الرسوم الأولى التي باشرت بتحقيقها. كنت شرعت بإنجازها مستخدماً صفائح معدنية، وبدأت الرسم بواسطة لحام كهربائي. لنقل، أني استخدمت عملي في المشغل، الذي كان يؤمن لي لقمة الخبز، كتعبير فني. كل شيء تحول إلى فن تواصلي من خلال هذا التوظيف السحري للحواس، حتى الدعوات والمطالب الاجتماعية، وصراعي من أجل تحسين المجتمع الذي أعيش فيه، جميعها تحولت إلى فن؛ ومن أجل الابتعاد عن الغوغائية الثرثارة، والتشدق، طفقت أفعل الفن.

... عندما يكون الفن ضرورة اجتماعية، وحاجة حياتيّة، فإنه لا يمت بصلة لفن النزوة الآخر.

... دائماً ما كنت يداً بيد على المستوى الفكري مع زملائي المسرحيين، بكل أنواع الالتزامات، ولكن لدي القليل من الإلفة والتشابه الفني مع زملائي في المسرح عامةً؛ فبشكل أو آخر، أفهم المسرح من منظار اجتماعي وجمالي لا يتأتى على الإطلاق من نظرة البرجوازية الصغيرة للفن المسرحي، ولا يلامسها بأي شكل من الأشكال.

* * *

مازلت أعتقد أن على الفن أن يكون كوخز مهمازٍ يحث الوجدان الواعي. ولا يمكن استخدامه حصرياً لأجل اللهو؛ لابد أن يعبر أيضاً عن الألم، فالمواجع تدفع للتأمل دوماً. يبدو لي أنه حينما تحضّ وتستفز التفكير، فهذا يعني أنك شخص متمرد. ومن جهتي سأكون هذا المتمرد طوال حياتي.

الفن بالنسبة لي هو شيء غاية في الجدية، ومن يمتهن الفن لديه مسؤولية كبيرة جداً مع ولأجل المجتمع. ولا يتحتم على الفنان أن يتمتع بامتيازات خاصة؛ فهو شخص آخر عليه أن يساهم، كما جميع الأفراد، بنشاطه من أجل تحسين المجتمع.

* * *

(نقلا عن الثقافة العالمية، س 33، ع 189، مايو–يونيو، الكويت، 2017)