تجري أحداث الرواية في يومين فقط، بيد أن السرد يتفتح عن سرد؛ فيأخذنا عبر تداعيات ذاكرة شخصياته إلى عوالم يتداخل فيها الواقعي والمخيلة والأزمنة المختلفة، ووجهات نظر متعددة دون يقين أو ثبات. ويصوغ الروائي سرده بسخرية راقية من أبطاله اللاأبطال بامتياز؛ مفجرا الغروتسك والملهاة في حضرة التراجيديا.

بِالتّساوي (رواية)

خليل الرز

 

I

كانا يتجاوران وراء الإمام في صلاة الجمعة، وقد ظن الولدُ دائماً أن قلب أبيه يدقّ في قلبه كلّما تلامسا بالمصادفة في الركوع والسجود. في كلّ مرة كان يشعر بشدّة فرحه به، هو كبيره عبد الهادي، مصلّياً إلى جانبه أمام خلق الله. والدقّات نفسها كان يراها تلتمع في عينيه كلّما طمأنه أنه، بعد البكالوريا، سيحقق له أمنيته ويدرس الصيدلة. وكان أبوه، منذ بلغ عبد الهادي الثامنة من عمره، قد قرأ، بحضور شيخٍ وشهود، فاتحةَ زواجه من بديعة- صُغرى بنات صديقه وجاره في سوق الحميدية، فنَعِما لسنواتٍ طويلةٍ بامتيازاتِ زوجين قاصرين عفيفين ومدلّلين. كانا، كلما التقيا، يقلّد معها وقارَ أبيه وتقلّد معه حياءَ أمها، وأهلوهما يستمرئونهما عروسين من قطن وقماش على حدٍّ ساحرٍ بين الجدّ واللعب. ما حدث بعدئذٍ أن الأخ الأصغر شلح ذات يوم قميصه الداخلي أمام عبد الهادي، فعرف فيه أحد قمصانه الداخلية. لم يكلّمه. ذهب إلى السوق، اشترى بكرة خيوط حمراء، وعاد إلى أمه. رجاها بقلب ممزق أن تُعلّم بقطبة حمراء كلَّ ياقات قمصانه الداخلية، فلا تختلط بغيرها بعد الآن. ثم ترقّب بصبر نافد متى سيشلح أخوه أمامه ليُدقّق في ياقة قميصه الداخلي. وفي أول فرصة سانحة لم يتمالك عبد الهادي نفسه، فبدأ يرتعش أمام أخيه الأصغر عندما شرع أخيراً بخلع ثيابه. وإذ لمح قطبته الحمراء على الياقة التي أحاطت بعنق أخيه المعافى الجميل ضاقت به الغرفة، فخرج مسرعاً إلى الليوان، انهدّ على أول مقعد هناك وفهم أنه ضعيف. منع نفسه من الذهاب إلى أهل بديعة ثلاثة أيام متوالية، فاستفقدته هي في اليوم الرابع. سألته عن غيابه، فأجابها بأنه يتمرّن بأصص الورد وطناجر النحاس لكي يصبح قويّاً. ضحكت بديعة. وضّح لها أن الشخص عندما يكون قوياً لا يجرؤ أخوه الأصغر على لبس قميصه الداخلي. ضحكتْ أيضاً. خاف عبد الهادي أن يسقط من عينيها فسكت. قرّر أن يتمرّن بالخفية عنها، وعندما سيصبح قويّاً سوف تفهم كل شيء. أخوه الأصغر نفسه لم يفهم لماذا أصبح يعذّب نفسه كل هذا العذاب بخاصة حين بدأ يصبّ أنصاف تنكات السمنة بالبحص والإسمنت ويعاركها طوال هذه المدّة، حتى حدث ما لم يكن في الحسبان- كان عبد الهادي قد أصبح فتى يافعاً، وكان الوقت بعد أذان المغرب بقليل. بحث عن أمه فوجدها تنظف الأواني في المطبخ. سألها، وهو يغالب حِمْلاً يكبس على روحه، عمّا إذا كانت هي أمّه بالدرجة نفسها التي هي فيها أمّ أخيه وأخواته. نظرت إليه بعينين مستفهمتين كأنها لم تستوعب ما يرمي إليه، ثم استدركت نفسها بشهقةٍ قصيرة، وشهّدتْ الله والرسل والملائكة أن الجميع عندها بسعر واحد. اختنق عبد الهادي، ولم يعرف إلى أين يذهب بنفسه من الألم، فخرج من المطبخ وإذا أخوه الأصغر يدخل من الزقاق إلى أرض الحوش. تلفّت عبد الهادي حوله ولم يجد حجراً، فهجم على درج العلّية. علّق قدميه في الهواء، واندفع يصعد الدرج الطويل على يديه القويّتين. بلغ الدرجة الأخيرة، ثم عاد بسرعةٍ أسكَرَتْهُ. وما إن وصل إلى الدرجة الأولى حتى قلب قلبةً في الهواء وجاء شكّاً على قدميه في مواجهة أخيه المبهوت. وكانت شجرة الليمون بجواره، فمال إلى جذعها وانفجر بالبكاء. لم يدرك الأخ الأصغر أن عبد الهادي قد انتصر عليه الآن، وأنه يستطيع بَطْحَهُ على الأرض في هذه اللحظة وبيدٍ واحدة. ظهرت أمهما مستطلعةً من المطبخ. لم يخجل عبد الهادي من بكائه أمامها، ملص من بين ذراعيها إلى باب الحوش قبل أن تلبّكه بحنانها المشاع. كانت ظلمة خفيفة قد ملأت الزقاقات الثلاثة التي أخذته إلى بيت بديعة. وكان قد توقف عن البكاء حين فتحت له الباب، لكنّ لمبة دهليزهم أنارت لها وجهه المخضّب بالدموع. لم يدخل، قال لها فقط:

- سآخذ البكالوريا، بَسْ شيلي من راسك وراس أبي كلية الصيدلة.

لم تنقل بديعة، طبعاً، قرار عبد الهادي الرهيب هذا إلى أبيه، فنقله هو بنفسه عندما أخذ البكالوريا. وما زاد الطينَ بلّةً عليه أن علاماته التي كانت تؤهله الدخول إلى كلية الصيدلة دخل بها بدمٍ بارد إلى قسم اللغة العربية في كلية الآداب. لم يصدّق أبوه أن يكون الولد قد كبر بهذا الصلف وهذه السرعة، فقطع عنه فوراً مصروف جيبه. ثم أرسل أم عبد الهادي تدعو ابنها من علّيته إلى العمل لديه في أحد أكبر محلات الألبسة الجاهزة في الحميدية إذا كان يودّ الحصول على المال. قال عبد الهادي أنا أعرف أين سأعمل. ذهب في صباح اليوم التالي وعمل حمّالاً بين محال تجّار الجملة والمفرّق في السوق القديم نفسه. وكان يعرف أنه لن يستقرّ في هذه المهنة لأكثر من يوم واحد، ذلك لأن أباه يحب الحياة ولن يسمح له بأن يصيبه بالجلطة بسلوكه العابر المرتجل الأهوج. تدخّلت الأم في مساء ذلك اليوم الفاصل نفسه لإنقاذ كرامة زوجها المهدورة في السوق. استمرّت مداولاتها ساعةً كاملةً تنقّلتْ فيها كالمكّوك بين غرفة ابنها في العلّية وغرفة نوم زوجها في الطابق الأرضي. ثم تمّ الاتفاق على أن لا يعود عبد الهادي إلى العمل سيء الصيت مقابل أن يُعفى من صلاة الجمعة، ويعاد إليه مصروف جيبه مضافاً إليه المبلغ الضروري المناسب لطالب جامعي مرفّه كما يليق بنجل تاجر كبير. لكنّ أباه، رغم توسّل أمه، أصرّ في النهاية على حرمانه من المشاركة بطعام الأسرة بحضوره. عرفت بديعة في اليوم التالي ما حصل بين عبد الهادي وأبيه، ولم تبقَ على الحياد فترةً طويلة- تدخّلتْ بعد ثلاث سنوات، وهوّنت من مصيبة الأب بانتسابها هي، كرمى لخاطره، إلى كلّية الصيدلة، فأصدر في اليوم نفسه عفواً يسمح بموجبه لعبد الهادي بالمشاركة بطعام الأسرة بحضوره من جديد. وكان عبد الهادي قد اعتاد في السنوات الثلاث الماضية أن يتناول طعامه مستلقياً على السرير، أو جالساً على كرسي طاولته بالمقلوب، أو مستنداً إلى حافة الطاقة المسدودة في غرفته، فأبلغ أمه أنه لا يريد العودة إلى عدّ أنفاسه وسكناته بجوار أبيه إلى طاولة الأكل. لاحظ الأب غياب عبد الهادي عن أول وجبة طعام بعد عفوه، وفهم لأول مرة أنه قد خسره. لكنه لم يستسلم- أنهى طعامه كما لو أن شيئاً مهماً لم يحدث، ثم أرسل لعبد الهادي مبلغاً كبيراً من المال فوق المصروف الذي كان قد اشترطه عليه قبل سنوات. إن هذا المال هو في نهاية الأمر ماله، قال، كأنما لنفسه، بصوت خفيض وهو يصفن بِزرّ البلوزة التي ترتديها أم عبد الهادي. وكان عيد الأضحى على الباب، فانتظر أن يبادره ابنه الكبير بنيّته الصافية ويصالحه بهذه المناسبة بعد تجافيهما الطويل. وكاد عبد الهادي أن يفعل لولا سميع. كان سميع زميله في كلية الآداب، ويكبره بأكثر من عشر سنوات، ويعجبه بسعة اطلاعه واعتداده بنفسه وتنكّره لأولاد قريته من المسؤولين الكبار في العاصمة. ولأنه كان يدرس ويتقلّب، في الوقت نفسه، في أعمال متنوعة شاقة أحياناً يعتاش منها لم يُتح له أن ينهي كلّ سنة دراسية بسنة. وكان في تلك الفترة يبحث عن عمل، فأبدى له عبد الهادي، فجأةً وكما لم يفعل قط، رغبتَه بالعمل أيضاً. ارتاب سميع بجدّيته أوّل الأمر، ثم سرعان ما استطرف الفكرة واقترح عليه، كما يفعل معظم الأبطال القرويين في العديد من الروايات السورية التي بدأ عبد الهادي بالتعرّف إليها آنذاك، أن يجرّبا حظهما معاً في بيروت. لم يخبر عبد الهادي بسفره أحداً سوى بديعة. كان يعرف أن فمها سيبقى مقفلاً حتى على الشوك إذا أمّنه تحت لسانها. وتحت وطأة السحر الذي غمره به ترْكُهُ المنزلَ لأول مرة تصوّر، وهو في السيارة إلى بيروت، أنه سوف يتحرّر الآن من المصروف الكبير الذي يشتريه به أبوه. كان كل شيء من حوله يعزّز في نفسه هذا الانعتاقَ الطازج الفتّان الذي لا يُرَدّ- هواءُ الشبّاك القويّ البارد المستمرّ الذي ينسف شعره إلى الوراء، وإعلاناتُ الستائرِ والأحذيةِ والبياضاتِ والبنوكِ الجديدة المسرعة على طول الطريق بعكس الاتجاه، والرمادُ الذي يتطاير من السيجارة المتواصلة في فم السائق، ونومُ سميع العميق إلى جانبه منذ أوتوستراد المزة، وكذلك نجاتُهُ المحققة هذه المرة أيضاً من عيد الأضحى، ومن القبلة التي كبر معها وحلم بها دائماً في عشيّات الأعياد قبل كلية الآداب، القبلةِ القديمةِ التي كان يضعها في صبيحة كلِّ عيد فوق يد أبيه الكبيرة الليّنة المنمّشة النظيفة البيضاء. استأجر في بيروت شقةً مفروشة بإطلالة جميلة على البحر في عين المريسة بمساعدة سميع. لكنّ سميع لم يوافق لا على السكن معه بلا مقابل ولا على مشاركته في أجرة الشقة. احتجّ بأنه لم يأت إلى هنا لكي يدفع ثلاثة أرباع ما سيجنيه أجرةً للفراش الذي سينام عليه فقط. ثم تركه وذهب إلى الأوزاعي، وسكن، كما سيعرف عبد الهادي بعدئذٍ، مع عاملين سوريين في غرفة إسمنتية عارية تشترك مع غرفتين مجاورتين بفناء ضيق ومرحاض بلا سقف. وإذ ألفى نفسه وحيداً في يومه الأول في بيروت بدت الشقة لعبد الهادي موحشةً وأشدّ اتساعاً مما هي عليه، فنام في أول المساء. ثم استيقظ باكراً في صباح اليوم التالي وهو يهجس بسميع الذي لن يأتي على الأغلب قبل عثوره على عمل. ورغم حماسته المبكّرة، وهو ما يزال في الفراش، إلى الانخراط الفوريّ حتى أذنيه في شيء مفيد لم يجرؤ عبد الهادي، هو الذي لم يمدّ يده إلى عمل قط، على تحديد ما يمكن أن يقوم به في بيروت بشكل متقن وبأجر جيد وبلا فضائح. ثم ما أراد من الآن، وقد وقف يجفّف وجهه أمام المغسلة في الحمّام، أن يتعشّم بعمل لائق فلا يتأسّف، إذا خاب أمله، على أحد أو شيء في الشام. ولكي يقطع الطريق على أيّ حجّة تُبرّد همّته العالية هيّأ نفسه، وهو يفتح البراد في المطبخ، لأن يوافق على أي عمل حتى ولو كان غرسوناً في مطعم. لم يجد طبعاً ما يأكله في البرّاد، فذهب إلى الخزانة، وفي مرآتها تأكّد من أنه سيكون مع بذلته الأنيقة التي بدأ بارتدائها غرسوناً ناجحاً، وسيجني، ربما، دخلاً ممتازاً من بقشيش الزبائن لا أكثر. ثم انتبه إلى بدنه الذي اقشعرّ كلّه مع كلمة "بقشيش"، لكنه ردّ ذلك فوراً إلى خبرته المعدومة بمثل هذا النوع من الدّخل. ثم عقد ربطة عنقه وانشغل بالصحون التي سيسقطها في اليوم الأول من كل بد- سوف يتشظى الزجاج ويتناثر الزيتون تحت الطاولات وتتدحرج الكبّة المقلية بين أرجل الزبائن وتنكبّ اللبنة والمسبّحة والسلطة على البلاط. ومع أصابع البطاطا التي سوف تتبعثر أيضاً في كل مكان خشي عبد الهادي أن يكون بمبالغته الآن بتساقط الصحون من يديه في مرآة الخزانة إنما يعبّر عن نيّته المسبقة برفضه العملَ في أي مطعم، فقرّر بصوت مسموع أنه لن يكون على هذه الدرجة من الخراقة. إنه في النهاية لن يحمل إلى طاولات الزبائن أسماكاً حيّةً لتنزلق بهذه الطلاقة من بين أصابعه. وإذا اقتضت الضرورة فسوف يعرف، في كل الأحوال، كيف يُنفّس وجهَ المعلّم المحتقن وراء طاولة الحساب بتلافيه كلّ ما سيتسبّب في تلفه على حسابه مهما بلغت قيمته. وإذا كان السكارى سيضايقونه في آخر الليل، عندما سيعنّيه أحدهم مثلاً إلى المطبخ من أجل نصف ليمونة أو سنّي ثوم، فإنه سيتعلّم في غضون يومين أو ثلاثة على الأكثر كيف يعتبر قلةَ الذوق نوعاً من التعبير عن حاجة بشرية ملحّة، مع أن الإنسان لا يتحوّل تلقائياً إلى قليل ذوق عندما يحتاج فجأةً إلى نصف ليمونة أو سنّي ثوم. لا داعي فعلاً للاستهانة بالآخرين لمجرّد أنهم ليسوا غراسين عن بكرة أبيهم، ويحتاجون، فوق ذلك، لمن يخدمهم ويرحّب بهم ويبتسم لهم في المطاعم. كما لا ينبغي له، من ناحية أخرى، أن يستهين بنفسه ويتصوّر أن غلاظات الزبائن كلّها سوف تنصبّ فوق رأسه فقط. ثم إن تعابيره المنتقاة المنمّقّة المختلفة عن تلك المتداولة بين الغراسين سوف تردع أي زبون غليظ عن فَقْسِ سُكْرِه عليه. وهنا لاحظ عبد الهادي أنه بدأ يتوتّر في مرآة الخزانة، فأخرجه منها جرس الباب في الوقت المناسب. طالعه سميع أمام الباب المفتوح بابتسامة عريضة ظافرة. وعندما دخل وبشّره بأنه استدلّ بسرعة قياسية إلى ورشة دهان- المأوى الدائم، كما قال، لعديمي الصنعة والموهبة، انزاحت حالاً عن قلب عبد الهادي كلّ الصحون التي كان سيكسرها وكل ثقيلي الدم الذين كان عليه أن يخدمهم ويجاملهم بلا توقّف. تنفّس ملء رئتيه وهو يمتنّ بنظراته لسميع ويشاركه بابتسامته الطويلة المستمرّة حتى الآن. إلا أن سميع بادره فوراً بالوقت الذي أدركهما وأن عليه أن يغّير بلا إبطاء بذلته الجديدة الرسمية التي يرتديها ببنطلون وقميص قديمين. وإذ لم يكن في خزانة عبد الهادي غير بذلتين مشابهتين طلب إليه سميع أن يخلع ربطة عنقه على الأقل لكي لا يشعر رئيس الورشة بالذنب عندما سيعلّقه على رأس السيبة بعد قليل. ورغم أن عبد الهادي قد خلع جاكيته أيضاً قبل خروجهما السريع من الشقة فقد عامله رئيس الورشة منذ الدقائق الأولى لظهوره بتحفّظ واضح غير مفهوم، ما رتّب عليه أن يبرّر نفسه طوال الوقت باندفاعه السعيد إلى العمل وتيقّظه الشديد والممتع في استيعاب وتنفيذ توجيهات سميع العمليّة التي بدأ يلقّنه إياها منذ وصولهما أولاً بأول. لكنّ السعادة غير المألوفة التي ملأته، وهو يلوّث يديه وملابسه ببقع الدهان لأول مرة في حياته، لم تستمرّ طويلاً، فقد استحالت مع مرور الوقت البطيء إلى شعور بالتعب لا يطاق. ثم اعتقد بسهولة بعد عدة ساعات أن ذراع أيّ دهّان في العالم كيانٌ بطولي معقّد ومجهول. إن السنوات التي أمضاها مع أصص الورد وطناجر النحاس وأنصاف تنكات البحص والإسمنت ثم وزنات الحديد على اختلافها بعد ذلك لم تساو عنده ساعةً واحدةً من تكرار ذراعه الحركةَ نفسَها إلى ما لا نهاية. لقد ظلّ جسمه طيلة ذلك النهار يتحجّر بأكمله على الأرض أو على السيبة لتتمّ وتستمرّ تلك الحركة الدؤوبة المتشابهة التي لا تقطعها إلاّ ثانيةُ غمرِ الفرشاة في سطل الدهان. ثم صعقه، في مساء ذلك اليوم المضني الطويل، أن أجره كان أقل بكثير من أنه لم يعد يشعر بذراعه.

- أخي أنا بطّلت. زلّ عبد الهادي.

- أنت حر. ردّ سميع.

لم يتوقّع عبد الهادي أن يترك العمل بهذه السرعة. لكنه لم يُثمّن المزاج الطيّب الذي عاد به من الورشة التي هجرها إلا في صباح اليوم التالي. لقد ضبط نفسه، ما إن فتّح عينيه ونزل من سريره، متلبّساً برغبة مخجلة أصيلة في أن لا يبحث عن عمل آخر. بيد أنه عاد في مساء اليوم نفسه واعتبر، فيما كان في الحمرا يجلس في مقهى إلى طاولة على الرصيف، أن هذه الرغبة عابرة حتماً بالنظر إلى تصميمه على تحجيم أبيه في حياته بأي ثمن. العلّة كلّها في النقود التي جاء بها من الشام، فكّرَ وهو يعثر على شبهٍ واضح بين حذائه وحذاء شاب يجلس مع فتاته إلى طاولة مجاورة، فأنت لن تجد معنى للاعتماد على نفسك مهما حاولت، ولن تقتنع بالعمل الشريف مهما سعيت إليه مادامت جيوبك منتفخة بمال لم تبذل فيه قطرة عرق واحدة. ثم اعتقد، عندما قهقهت الفتاة مع صديقها الشاب، أنه لم يبالغ بآلام ذراعه في يوم عمله اليتيم ذاك إلاّ لأنه يستطيع في الواقع أن يملأ وقته بتبذير المال لا بكسبه. لو جاء إلى بيروت، كما فعل سميع مثلاً، بأجرة الطريق فقط لأدرك المعنى الحقيقي للبحث عن العمل، أيّ عمل، ثم إيجاده والمثابرة عليه، فليس ثمة هنا خيار آخر. ثم توصّل عبد الهادي، بعد أسبوع كامل من التسكّع في بيروت، إلى ازدراء نفسه بينما كان يخرج من المطبخ بالحليب الساخن والكعك وركوة القهوة إلى الشرفة. جلس يتناول إفطاره الشهيّ بمزاج رائق، ثم انتبه بعد قليل إلى أن ازدراءه لنفسه قد تضاعف تلقائياً حين شعر في فمه بلذّة ذوبان الكعك المُثقل بالحليب والقهوة. وحين انغمس، دونما إرادة منه، في تحديد الأفق البعيد المتماهي بين زرقة السماء وزرقة البحر تمكّن أيضاً من تنغيص متعته هذه بسميع المعلّق الآن مثل قديّس مجهول في ثياب قذرة تحت ذراعه المتكررة بلا هوادة على أحد السقوف في بيروت. وكان النسيم، فوق ذلك، عليلاً إلى درجة مُحرِجة. يا إلهي! وهذه العصافير وكركرة الأطفال المتناهية من ناصية الشارع والشمس وفيروز من نافذة قريبة لم يعرف كيف يفنّدها جميعاً، أو يجد لها مكاناً ملائماً في صباحه المتأخر المذنب هذا ريثما ينتهي من تناول الفطور على الأقل. أنقذته في هذه اللحظة طائرة مدنية اقتربت من مطار بيروت واستغرقت بضجيجها المزعج كعكته اللذيذة الأخيرة وبقايا الكوب من القهوة والحليب وفيروز والأطفال والعصافير. وفي لحظة حازمة، بعد هبوط الطائرة مباشرةً، نهض أخيراً وهو يتجاهل بإصرار نورسين بعيدين لاحظهما في اللحظة الأخيرة. سارع إلى المطبخ مثل مطارد بسعادات هنيئة نافلة وعنيدة. لكنه حين وضع صينية فطوره المأكول إلى جانب المغسلة لم يعد قادراً على تجاهل النورسين المحلّقين الآن في إطار نافذة المطبخ الممتلئة تماماً بالزرقة. لن يمنعه النورسان، في أغلب الظن، من القيام، اليوم تحديداً، بما يجعله جديراً بشيءٍ آخر غير الازدراء. لا شيء أنجع هنا من العمل مرةً أخرى وأخرى. العمل وحده سوف ينقذه من تهشيم نفسه وسوف يعطي معنى واضحاً وناصعاً لوجوده في بيروت. ومادام، مع محفظة نقوده المحشوّة حتى الاختناق، لن يقتنع بأيّ عمل ويثابر عليه فلابد له، اليوم بالذات، من التخلّص، بأي وسيلة، من مال أبيه كلّه. ثم شعر عبد الهادي بأن قراره الحازم هذا بحدّ ذاته قد منحه حقاً أقوى بمشاهدة النورسين في النافذة، فظنّ أنه قد يكون الآن جديراً أيضاً بأن يستمع إلى أغنية كاملة لفيروز دون تعكيرها بأي قدّيس أو طائرة. ولكي لا يبرد قراره ارتدى عبد الهادي ملابس خروجه بسرعة ونزل إلى الشارع. لن يفرغ جيوبه بالسرعة المطلوبة طبعاً بمشتريات متفرقة من قبيل الألبسة والأحذية والعطور. ومن غير المعقول للأسف أن يضع محفظة نقوده كاملةً في يد شحّاذ ويهرب، أو أن يقترب الآن من أول سلّة مهملات على الرصيف ويفرّغها فيها. كما لن يكون أقلّ شذوذاً أن يشتري موتوسيكلاً حديثاً ويحطّمه بمطرقة يطلبها من البائع ثم يتركه له ويخرج. بيد أنه، حين نزل إلى الشارع هذه المرّة، أفلح فجأة في التخلّص فعلاً من معظم ما كان معه من مال بشراء لوحة فنية فَهِمَ من صاحب المعرض أنها لرسام سوري. وكان يدرك سلفاً أنه لن يجرؤ على تركها في مكانها في المعرض مادام دفع ثمنها، فسارع إليها مباشرةً مثل شرّ لا بدّ منه، حملها وخرج بها إلى الشارع. ومع نفوره الشديد منها بدأت الآن تزداد حجماً بين ذراعيه المفتوحتين إلى الآخر مع كل خطوة يخطوها على الرصيف. ورغم شعوره بها عاراً شخصياً كريهاً يعرضه بيديه على الآخرين كان يفاجئه أحياناً مَن يلاقيه في طريقه وينظر إليها أو إليه بإعجابٍ أو تعجّب. مع ذلك لم يكن بوسعه لا أن يفخر بها أمامهم، ولا أن يسوّغ وجودها المخجل بين يديه. وكان أكثر ما ضايقه أنه لم يكن يعرف إلى أين سيأخذها، وأنها، إلى ذلك، تمنعه من رؤية ما يدور في الشارع إلى يساره. وإذ خشي، إن هو التفت، أن يصفع بها من يمكن أن يكون وراءها في تلك اللحظة، تابع سيره على الرصيف في خط مقيت مستقيم. ثم في لحظةٍ كان قادراً فيها على أن يسندها أمام الناس إلى باب بناية ثم يهرب، خلّصَتْه فجأةً من مشاعره المُقْبِضة فتاةٌ بشورت جينز منسّل وفخذين سمراوين طويلتين رآها في مجال رؤيته المحصور على الرصيف متجهةً نحوه كما لا يمكن أن تتقدّم من شخص آخر بذلك الفضول. تريّثت أمامه لبرهة، ثم انزلقت وراء اللوحة تتفرج عليها في أغلب الظن. وجد عبد الهادي نفسه يفتل في مكانه ببطء ليمكّن الفتاةَ من مشاهدة أفضل رغم كل شيء، وآملاً، في الوقت نفسه، أن يلمح مرة أخرى حافة شورتها العالية. لو لم يشتر اللوحة لاستمتع بهدر مال أبيه اليوم على هذه الفتاة. ولكنْ كيف كان سيلفت نظرها من دونها؟ شعر الآن بأنه يقود اللوحة بصورة، لابد، أعجبت الفتاة، فصار لبرمه في مكانه معنى سعيد. لكن حدّ اللوحة لم يكشف له إلا عن عابرين مختلفين ومحلات أحذية وألبسة وأدوات كهربائية وسيارات وموتوسيكلات. ثم بدأ يتكرر أمامه بائع صحف ببنطلون أبيض من وراء نظّارة سميكة، ثم امرأة عجوز تحمل بيدها شمسية مطوية مهترئة، ثم رجل وامرأة بينهما كلب بوليسي بلسان مدلوع. أيقن عبد الهادي الآن أن حدّ اللوحة لن يكشف له عن الفتاة ذات الشورت العالي المنسّل مرةً أخرى، فتوقف في مكانه، وكانت وجهته هذه المرة نحو الطريق حيث لمح سيارة تكسي في انتظاره. فتحت له العجوز صاحبة الشمسية باب المقعد الخلفي، فضمّ اللوحة هناك، ثم جلس في المقعد الأمامي. وجد نفسه هنا يطلب من السائق دون تردد أن يأخذه إلى الأوزاعي. كيف غاب سميع عن باله على باب المعرض؟ ورغم أنه لم يكن يعرف ما إذا كان سيجده في غرفته في هذا الوقت إلاّ أنه أحس بالارتياح لمجرد أنه عرف أخيراً إلى أين سيذهب باللوحة. كانت، الآن، مسنودةً وراءه مثل أخت كبرى قبيحة سكرانة وسفيهة. اتّخذ هيئةً صارمة ليقطع أمام السائق أيّ صلة يمكن أن تربطه إليها. ما أحب أن يسأله شيئاً عنها، فتجاهل يده عندما استدرجه إلى الكلام بسيجارة مدّها نحوه. لقد كره أن يدافع عن نفسه أو يبررها أمام شخص غريب سوف يغادره إلى الأبد بعد دقائق. وصل أخيراً إلى رأس الزقاق الضيق الذي يأخذه إلى سميع. تجمّع حوله، ما إن سحب اللوحة من المقعد الخلفيّ، أطفال من أعمار متقاربة. كان عليه، الآن، أن يمشي مئتي متر متعرّجة بين منازل مبنية على هواها. لكنّ ما فاجأه أن اللوحة لم تعد تشعره بالعار أمام الأولاد، فقد تطوّعوا بحملها معه تلقائياً دون أن ينبس بحرف. كانت بين أكفّهم الصغيرة مثل رجل مريض لا يقوى على المشي، فاضطر عبد الهادي لأن ينسجم مع خطاهم القصيرة الحذرة والمتدافعة برفق لكي لا تنخضّ اللوحة. عبّر ولد عن إعجابه بطائر يطير فيها قرب أنفه، ثم نظر إلى عبد الهادي بعينين يقظتين، وقارنه، كأنما، به. ودّ عبد الهادي لو كان كما رآه هذا الولد. وحين توقف أمام باب سميع كان الأولاد قد حسّنوا كثيراً من ظنّه باللوحة، فشعر بأنه لم يأت إلى هنا لكي يتخلّص منها، بل لكي يقدمها هديّة لسميع. طرق الباب بثقة أكبر مما لو كان وحده. فتح سميع وفوجئ بعبد الهادي يسلّمه طرف اللوحة، فسحبها منه تلقائياً. استلم عبد الهادي الطرف الآخر من الأولاد ودخل. وعبْر الفناء الضيق، حيث تنتشر رائحة المرحاض المكشوف، قاده سميع إلى غرفته. لاقاهما هناك ثلاثة رجال يفوح من أجسادهم عرق ونفط وزيت قلي. تناولوا اللوحة، ثم استطلعوا وجه سميع عن الخطوة التالية، فنظر هذا إلى عبد الهادي.

- علّقوها على مسمار الجواكيت! قال عبد الهادي.

نزع سميع كومة ألبسة قديمة من على مسمار أسود طويل. تحرّك الرجال ببطءِ وجدّيةِ مُشيّعين، وعلّقوا اللوحة على الحائط مثل ميّت من الذوات. كانت مائلة. لم يجلس عبد الهادي، اعتذر من سميع وأخبره على عجل بأنه عائد إلى الشام. وكان في هذه الأثناء يبحث في اللوحة عن الطائر الذي فتن الصبي وقارنه به. لم يجد ما يشبه الطائر. كان ثمة سفينة بأشرعة بيضاء ممزقة تترنّح، كأنما، في بحر متلامع هائج، وقد امتدّ، بمحاذاة صاريها الذي يغيب ويظهر بين الغيوم، سلّمٌ طويلٌ من الحبال من سطحها المضطرب إلى حافّة قمر غائم بعيد.

- واللوحة؟! قال سميع.

- هديّة للشباب، اعتبروها مثل شبّاك. ردّ عبد الهادي وهو ينظر إلى القمر.

وبالفعل لم يكن للهواء منفذ إلى غرفتهم الاسمنتية الخانقة سوى الباب، فأغوتهم، كأنما، فكرةُ أن يُطلّوا من شبّاك على بحر هائج وقمر مضيء. وقبل أن يصحو سميع من هذه الغواية المباغتة الخاطفة ودّعهم عبد الهادي وهم عالقون جميعاً بشبّاكهم المائل. خرج إلى البيوت المتراكبة على طرفي الزقاق المتعرّج الضيق وقد انتبه الآن فقط إلى فَتْرَةِ لسانِهِ عند سميع- هل هو عائد إلى الشام حقاً؟ لمح من بعيد الولدَ الذي أوهمه بأنه طائر، بينما مارآه كان سفينة توشك على الغرق تحت ضوء القمر. لكنه حين حاذى الولد المستند إلى أول زاروب فرعيّ طويل استردّ فجأةً من عينيه اليقظتين إحساسَ الطائر الذي فقده في غرفة سميع، فطار إلى مفرق الأوتوستراد. أخذ سيارة إلى عين المريسة، ومنها إلى البور. ومن هناك ركب فعلاً إلى الشام. في الطريق ساعدته السيارة بالشعور بأنه حرّ وخفيف. وفي الاستراحة أعجبه أنه لا يملك من النقود ما يكفي لأن يجلس في مكان ويحتسي فنجان قهوة. لكنه تأكّد في أوتوستراد المزة فقط أن السيارة التي تنطلق به مثل سهم إنما كانت تعيده إلى قفصه القديم. اعترف الآن، كأنما لشخص آخر يجلس في داخله، أن العمل، أيّ عمل، لا يلائمه في ظرفه الحاليّ، وقد لا يلائمه أبداً، وعليه أن يفهم، بلا إبطاء، ويقبل، دون ذيول ولا أوهام، عودتَه بهذه السرعة الجنونية إلى النقود التي افترض، قبل بيروت وفيها، أنه سيتحرّر منها. لكنه حين وصل إلى حارة الباشا وشارف الدخول في الزقاق الذي يفضي به إلى المنزل انعطف فجأة في الزقاق الذي يأخذه إلى بيت بديعة. لم يطرق بابها، تريث قليلاً في الظلمة، ثم خمّن أنها قد تكون في كلّية أبيه حتى الآن. كانت الساعة قد تجاوزت السابعة مساء بقليل، فوجد أن ينتظرها في طريق عودتها من سوق الصوف. ثم استوقفته رائحة الشواء أمام قصّاب العائلة. تذكّر أنه لم يذق لقمةً منذ الطائرة المدنية على الشرفة. لكنّ الوقت الذي سيستغرقه طعامه قد يفوّت عليه مفاجأة بديعة، فلم يدخل- لن يأكل على حساب أبيه هذه المرة على الأقل، قرّر، وقد لمح بديعة من بعيد، فاندفع إليها وهو يبلع لعابه الفارط ويطرد من ذهنه رائحةَ الشواء بصعوبة.

- أنا جوعان جداً. قال.

بدت بديعة مفتونةً بظهوره المفاجئ وربما بالمعنى الحلو أيضاً في أنه عندما يجوع بعد غياب يلجأ إليها هي دون غيرها، فدعته إلى العشاء في بيت أهلها. رفض دعوتها، ثم شعر على الفور بأنه سخيف- ماذا كان ينتظر منها إذاً؟ أن تطعمه يدها أم حجابها الشرعي؟؟ أم تشتري له لفّة كباب بينما يختبئ هو من قصّاب العائلة في كولبة الحارس؟ سألته فجأة بعد خطوات قصيرة مضطربة عمّا إذا اشتاق إليها، فهزّ رأسه بالإيجاب. ثم ظنّ أنه يخفي عنها إحساساً آخر شبيهاً جداً بحجر ملوّن جميل في كأس ماء نظيف شفّاف. اعترف لها، بلا مناسبة، بفخذي الفتاة السمراوين صاحبة شورت الجينز المنسّل في بيروت. احمرّت بديعة، وسبقته بعدّة خطوات حردة، فلحق بها. وكان حتى الآن لم ير فخذيها لكي يفضّلهما على فخذي صاحبة الشورت. حاول إقناعها بأن عينيه وقعتا عليها كما تقعان عادةً على السيارات والعجائز والشماسي المهترئة وباعة الصحف والكلاب البوليسية. وحين لم تقتنع لم يجد في نفسه أدنى رغبة في إقناعها من جديد. ثم بدا كما لو أن خاصرته قد لمعت عليه بألم شديد، فقد غضّن وجهه وتريّث لحظةً في مكانه أمامها قبل أن يتركها مسرعاً إلى بيت أهله. بكت أمه بين ذراعيه. كان قد مضى تسعة أيام على غيابه. جلس بين أخواته مثل ملطوم على وجهه. لم يردّ على أسئلتهنّ الكثيرة، فتركنه وشأنه كما لو أنه لم يغب يوماً واحداً. وكما لو لأنه لم يغب يوماً واحداً دخل أبوه إلى المنزل ورآه جالساً على درج العلّية، فرمى عليه السلام كأنه لم ينزعج قط من قسم اللغة العربية. ثم جاءت إحدى أخواته بعد قليل ودعته إلى العشاء كأن أباه لم يحرمه منه قبل ثلاث سنوات ولم يعف عنه قبل عيد الأضحى. استجاب عبد الهادي هو الآخر، فقام واتجه إلى غرفة الطعام ببداهة شديدة كما لو أنه لم ينل بعدُ شهادة البكالوريا. كان الأب على رأس الطاولة المستطيلة، بينما احتل الأخ الأصغر مكان عبد الهادي القديم إلى يمينه. تردّد عبد الهادي قليلاً ثم جلس، كما لم يتوقع أحد، في المكان الذي تجنّبه الجميع طيلة أيامهم، ذلك المواجه لمكان الأب تماماً على رأس الطاولة المستطيلة من الجهة الأخرى. بدا عبد الهادي جذاباً في مكانه الجديد مثل عورة مكشوفة في عيونهم المبهورة الشاخصة إليه. تنحنح الأب، فغضّوا أبصارهم عنه، كأنهم ستروه. سبقهم أبوهم إلى الطعام، فلحقوا به مخلصين، ثم حاولوا جاهدين أن ينقذوا هيبته القديمة الغالية بضوضاء شوكاتهم وملاعقهم وقرقعة أطباقهم وطحن أسنانهم. لم يجد عبد الهادي محلاًّ ليديه بين جلبة أيديهم- كان مأخوذاً بأبيه. منذ متى لم يره واضحاً هكذا؟ كان يحيط بالأشياء والحيوات من حوله دون أن يلتفت إليها. وأحياناً كانت عيناه الصافيتان تمسحانه بنظرة مالكةٍ سريعةٍ كانعكاس بريقهما الأخضر لبرهةٍ عابرة على المملحة أو على ياقة أخته الصغرى. منذ متى لم يره جميلاً هكذا؟ ربما لأنه لم يجلس قطّ في هذا المكان المُتَجَنَّب الفتّان لكي يراه كما يراه الآن. أحبَّ لو كانت يده طويلة ليلمسه من مكانه، لكنه خاف، لو فعل، أن ينهي عشاءه قبل أن يشبع من النظر إليه. ذكّرته أمه فجأة بصحنه الفارغ. لم يسمعها. وبدا أن أباه أيضاً لم يسمعها- ربما كان يمنحه فرصة لا تفوّت لكي يحفره في ذاكرته أكثر فأكثر، فقد لا يتاح له أن يجلس في مكانه هذا مرة أخرى، أو أن أحداً منهما كان ينبغي عليه أن يموت في تلك الليلة. كان عبد الهادي يتحسّس، بنهم، شوقَ أبيه إليه في كلّ شيء من حوله- في أمه المذنبة كالعادة بلا سبب، في أخواته المتجاهلات سحرَه بمكانه الجديد، في أخيه الأصغر المنهمك كلّه بالطعام، في الستائر المذهبة حتى السقف خلف شعره الأشيب وجبينه العالي، في صورة الجدّ على طربيزتها الرخامية، في النافذة العريضة المفتوحة على أرض الحوش، في الليمونة التي تظهر من هناك وفي أولِ الدربزين على درج العلّية. "يا أبي!" أراد عبد الهادي أن يهتف بها بأعلى صوته، ففزّ من مكانه فجأةً كما تسقط مزهرية خزف على البلاط. خرست ضوضاء العشاء، والتفت الجميع إليه بينما سطع البريق الأخضر في عيني أبيه الزيتونيتين، وقد رفع رأسه إليه.

_ كنت في بيروت. قال عبد الهادي بصوت مرتبك خفيض، ثم غادر غرفة الطعام مسرعاً إلى غرفته في العلّية. ارتمى على سريره، غطى وجهه بمخدّته، وحاول جاهداً أن لا يفكر بشيء، فكل شيء كان سيقوده في تلك اللحظة إلى نحيب كان سيبدو له معيباً لو حصل.

في الساعة الثالثة من بعد ظهر اليوم التالي غاب عبد الهادي عن طعام الغداء، ثم عن العشاء، ثم ظلّ يغيب عنهما. وقد علّمته استجابات أبيه لكل ما يريد عن طريق أمه أن لا يراه، وأن لا يبادله كلمة إضافية واحدة عدا التحية العابرة إن صادف ولاقاه في طريقه فقط. وبدا الأمر كأنهما، مع مرور الأيام، قد فقدا معاً كل الأسباب لأيّ لقاء بينهما في المنزل أو في أي مكان آخر ولو في المناسبات. إن عبد الهادي لا يذكر الآن المرة الأخيرة التي رأى أباه وبادله فيها بضع كلمات. ربما كان ذلك منذ عشر سنوات عندما تخرّجت بديعة من كلية الصيدلة- جاءت تبشّر أباه بتحقيق أمنيته العزيزة القديمة، فلم تجده، ما اضطر عبد الهادي لأن ينتظره معها. وعندما جاء كافأها بقبلة على جبينها، ثم التفت إليه فجأة، وقبّله هو أيضاً في المكان نفسه. لم يفهم عبد الهادي آنذاك دوافع أبيه، فظن أنه قد قبّله ليقينه من أنه لن يراه متخرجاً قط من قسم اللغة العربية، أو أنه وجد في تخرّج بديعة سبباً مناسباً ليضمّه إلى صدره بعد سنوات طويلة.

البارحة تلقّى عبد الهادي من أبيه قبلة شبيهة.

كانت الساعة قد تجاوزت منتصف الليل عندما فتح الباب ودخل. كان أبوه يصلّي تحت الليمونة على غير العادة في مثل هذا الوقت. لم يقطع صلاته إذ مرّ بمحاذاته، إنما افتعل سعلة قوية مفادها أن يلبث عبد الهادي في مكانه ريثما ينتهي. "ياإلهي!" منذ متى لم يسمع عبد الهادي سعلة أبيه القديمة المفتعلة في الصلاة؟! كم أنّبهم بها صغاراً، كم توعّدهم بها، كم نبّههم بنبرتها العالية إلى فتح الباب، وإلى الردّ على التلفون، وإلى الأخت الصغيرة التي اقتربت من المدفأة الحامية! ختم الأب الآن صلاته، وبينما نهض ببطء على سجادته الصغيرة استحالت ملامحه المستقرّة الخاشعة إلى أخرى فرِحةٍ ومحتفيةٍ بعبد الهادي. بدا كأنه كسر ميعاد نومه حتى هذه الساعة المتأخرة من الليل ليبارك له صنيعاً خارقاً. ولأن عبد الهادي لم يذكر في تلك اللحظة أنه فعل شيئاً استثنائياً يستحق عليه تلك البركات، فَهِمَ الخطى المتلعثمةَ السعيدة التي تقدّم بها أبوه نحوه على أنها دلالة مرض. لكنه استسلم له، وقد ضمّه إليه يشمّ كتفيه وعنقه وملامح وجهه حتى إذا علّق قبلته أخيراً فوق جبينه ابتعد عنه قليلاً ليتأكّد، كأنما، من تمامه دون أن يفلته من قبضتيه الليّنتين. كان عبد الهادي يقنّع بلبلة أفكاره بابتسامة عريضة جامدة، وينتظر من أبيه أن يجلو له غموض عواطفه الجيّاشة ببعض الكلمات. لم يفه أبوه بشيء، إنما أسبل يديه، ما عنى لعبد الهادي إذنه بالصعود الآن إلى غرفته، فصعد وهو يعتقد أن أباه طاعن بالسن بصورة لا تصدّق. وإذ شعر بأنه ما يزال يتطلّع إلى ظهره لم يلتفت إليه، بل خفّ إلى غرفته مثل فريسة قوية وسريعة. لم يكن يتوقّع مثل هذه النهاية لليلة أمس. كان متأكداً من أن أمه في الصباح الباكر سوف تفسّر له بالكلام المبين العواطف التي غمره بها أبوه قبل قليل. ثم بدا لنفسه، وهو يخلع ملابس خروجه ويرتدي بيجامته، كما لو أنه لا يعرف فعلاً اليوم الحافل الذي ينتظره في الغد، فأطفأ النور، واندسّ في فراشه ونام.

* * *

II

ثلاث بيضات كانت كافية. دقت الساعة في غرفة الجلوس. نظر الأستاذ سميع إلى ساعة يده، ثم كسر ست بيضات. الواحدة بعد منتصف الليل. عزل الصفار في صحن محجّر عميق، والزلال في زبديّة نظيفة. الست بهيجة لا تستيقظ في مثل هذا الوقت. أفرغ فوق الصفار كأساً صغيرة طافحة بزيت الزيتون، ثم بملعقة خشبية وحّد السائلين في حاصل جديد. ليس ثمة غير وهسِ قدميه في المطبخ. لن يتبرع، على كل حال، لثقوب المغسلة بكل هذا الزلال. لمح باب الشقة من مكانه، ولم يوح له بما سيحدث بعد قليل. خفق الزلال في الزبدية بالملعقة الخشبية ذاتها ثم أغمض عينيه وكرعه مطمئناً- ليس كريهاً جداً. لمح باب الشقة مرة أخرى، ومرة أخرى لم يفصح له بشيء، فعرّى جذعه. مال نحو المغسلة، وجعل يفرك جلدة رأسه بصفار البيض وزيت الزيتون. وإذ بلّغها جيداً صبّ على شعره الرمادي الخفيف ما تبقى في الصحن وحرص بأصابعه العجولة أن لا يسيل شيء منه إلى رقبته، أو إلى وجهه. تأكد الآن أنه لن يفعل، بعدُ، أفضل مما فعل، فهمّ أن يعتدل بجذعه. وهنا قدّر أن عموداً قد هوى ونطح باب الشقة من الخارج. انخطف ملتفتاً، وعرف على الفور أن صفار البيض بزيت الزيتون قد بدأ يسيل على جبينه وفوق أذنيه. هوى العمود على الباب من جديد عندما وصل السائل الموحّد إلى عينيه، فصار يعركهما بيديه الملوّثتين، لكن غباشتهما لم تمنعه من أن يرجح احتمال صمود الباب، وكذلك كان- لم ينفلق الباب من الضربة الثانية. جاءت الضربة الثالثة، وأتلفت فوراً لدى الأستاذ سميع الاحتمال الذي رجّحه قبل لحظة. كانت تلك المرة الأولى التي يجرب فيها صفار البيض بزيت الزيتون، وطبعاً لو كان بدونهما الآن لما هرع إلى الباب ليفتحه. عرف في هذه اللحظات العصيبة قيمة أن يزيل المرء ما يلطّخه بمجرّد رغي صابونة بحبل ماء، لكنّ الضرب على الباب لم يتوقف لكي يجد الصابونة ويعثر على الماء. خرج إلى الموزّع أخيراً. تحسّس برؤوس أصابعه كيف كان الباب ينحني إلى الداخل من هول ما يوقعون به من الخارج. لم يحاول سنده بجثته القليلة على أي حال. إن أي مقاومة من طرفه سوف يشعرون بها، ما سوف يضاعف كَلَبَهم على الدخول. خاف فقط من أن تفيق الست بهيجة. إذا أفاقت سوف تفتح الباب من كل بد. لن تسمح لأحد بأن ينهار بكل هذه المزربّات على باب شقتها كائناً من كان ومهما كان السبب. هجم على باب غرفتها قبل أن تفتح، تشبّث بمسكته، وشدّها إليه. بدأت أصابعه تنزلق على المسكة بصفار البيض وزيت الزيتون. ترك الذيل، وركّز ثقل جسده على الطرف الذي يصل المسكة بقفل الباب. ولكي يؤمّن ثباتَه لزّ ظهره بالحائط، وتعلّق بيده الأخرى بمسكة باب دهليز المطبخ. كانت عيناه المغبّشتان شاخصتين بباب الشقة الصامد حتى الآن. يا إلهي! لماذا لا يستيقظ الجيران؟!! لماذا لا يفتحون أبوابهم الآمنة ليردّوا هذا التبلّي الجائر على باب امرأة عجوز ومستأجرها المسالم القديم؟ لماذا لا يتصلون بالشرطة؟ لماذا لا يتساءلون بصوت عال عمّا يجري من وراء أبوابهم المغلقة على الأقل؟ ما الذي يضير أحدهم إذا أخرج زوجته الآن إلى شرفتها وجعلها تولول في ظلام الشارع؟ لعلّ سكراناً ينتخي ويتورّط بالصعود. لعل فتياناً أشداء يجدونها مناسبة للتحرش بأحد. لعل كلباً يعوي مع قلب الأستاذ سميع. لا أحد. لا أحد. الضربات تنتظم تارةً، وتضطرب أخرى. ضربات لا تهدأ بالقبضات، وربما بالأحجار، وربما برؤوس العواميد، ثم هذا اللغط المبهم الحانق الخفيض الذي يملأ الفراغات الرفيعة بين هذه النازلات على الباب. وإذ أصبح الباب الآن غائماً تماماً في عيني الأستاذ سميع صار يتحزّر أحواله من وراء الستار السميك الذي أسدله على وجهه صفارُ البيض بزيت الزيتون وعرقُه المتصبب ومفرزاتُ عينيه المحملقتين رغم كل شيء. ثم ما لبث، مع تسرّب العازل اللزج إلى داخل أذنيه، أن أحسّ بنفسه يغوص ببطء في هلام متماسك ثخين حتى غطس كلّه في صفرة كتيمة مالحة وزنِخَة، وهكذا زال، شيئاً فشيئاً، دويّ الباب. تنهّد، الآن، بملء رئتيه دون أن يترتّب على ذلك أي تبعات، غير أنه لم يفلت مسكة باب غرفة الست بهيجة حتى أنصت بكل أعضائه ولم تخترق هلامه الأمين نأمة واحدة. خيّل إليه أن المقتحمين عليهما الشقة لابدّ قد يئسوا من الباب أخيراً، فأفلت باب الدهليز أيضاً. وكان لن يزيل، بيديه الطليقتين الآن، الغمامةَ السميكة الدّبقة التي تلتصق بحدقتيه، فأخرج من أذنيه ما استطاع من السائل اللزج وتأكّد بكلّ جوارحه المتاحة بصعوبة من اختفاءِ حتى اللّغط الخفيض الحانق- لقد ذهبوا. والآن، ماداموا ذهبوا، كيف لم ينجح كلّ البلاء الذي أنزلوه على الباب في إيقاظ الست بهيجة؟ ما الذي أغرقها في نومها حتى الآن؟! أتكون قد ماتت من الخوف؟؟ ثنى سبابته ونقر على بابها نقرتين واهيتين.

- مين؟؟ جاءه صوتها، كأنما، من غيابة جب. ستخرج الآن فماذا يقول لها؟

- مين؟؟ استفهمت مرةً أخرى من مكان أقرب، ثم فتحت بابها: _ شو عامل بحالك؟!!

أراد أن يسألها عمّا إذا سمعت شيئاً فظيعاً كان يحصل على باب الشقة قبل قليل، لكنّ صوتها، هي التي يوقظها عادةً مشيُ قِطٍّ في الموزّع، لم يشِ له بشيء آخر غير انشراحها برؤيته رغم تأخّر الوقت، ثم ما أراد أن ينزلق إلى متاهة تكذيب حواسّه أو حواسّها.

- خذيني إلى الحمام لو سمحت. قال، ثم سمع كركرتها وهي تمسك بيده وتقوده إلى هناك.

- افتحي الدوش، وسلميني صابونة الغار، واتركيني وحدي من فضلك!

تابعت العجوز كركرتها، وهي تلبّيه بالسرعة التي يتيحها عمرها الطويل، ثم خرجت. لم يكن الأستاذ سميع ناقماً عليها لأنها ضبطته متلبّساً بوصفتها التي استخفّ بها منذ يومين- كانت قد فسّرت له عدم تساقط شعرها حتى الآن بفركِهِ، كلَّ هلال، بصفار ثلاث بيضات ونقطة زيت زيتون. وقد ظلّت كركرتها البريئة تحدث في باله، وهو تحت الدوش، كدليلٍ دامغٍ ونهائيّ على السلام الحقيقيّ الملموس في الشقة. إلا أن الصمت الكلّي الآمن الذي توقّعه بعد أن أسكت الدوش مباشرةً تعكّر فوراً بالتلفون الأسود الذي عاد يرنّ في رأسه بلا رحمة. وكان قد رنّ قبل ذلك في تمام العاشرة والنصف من صباح اليوم نفسه فوق مكتبه في الإدارة العامة لاستنهاض التراث العربي في أبو رمانة. وكان، الآن، لا يريد التسليم بتداعي قواه، فاستجمعها بصعوبة وإصرار، رغم الرنين المتواصل في جسده كلّه، وتمكّن من أن يخرج من البانيو ويلبس برنسه المعلّق على ظهر الباب، ثم يخرج من الحمّام دون أن يتعثر بشيء على الإطلاق. لم يلتفت إلى العجوز التي كانت تليّف مَسْكتَيْ غرفة نومها ودهليز المطبخ في هذه الأثناء، اندفع مسرعاً إلى غرفته، أغلق بابه وراءه، وطقّ قفله بلا إبطاء لكي تفهم أنه لا يريد أن يراها، فلا داعي لانتظاره في غرفة الجلوس. كان لا ينبغي له في هذا الوقت الحرج أن يُتيح لها رؤية عينيه، وإلا فسوف تحزر حتى الرنينَ الذي يهزّ كيانه في هذه اللحظات. إن نظرة واحدة منها كافية لأن تفهم كل شيء، فتفسد عليه يوم السبت منذ الآن- لن يكون قادراً، مع تدخّلها السافر الأكيد، أن يتمتّع بكل ما يقتضيه اليومان المعقّدان القادمان من الحنكة والخبث والهدوء. وإذ ارتدى بيجامته على عجل وأطفأ النور وطمر نفسه كلّها في الفراش قّرر، وهو يغمض عينيه تحت لحافه السميك، أنه لن يرى الست بهيجة قبل صباح الأحد. ولذلك لم يظهر من غرفته عندما استيقظ باكراً في صباح اليوم التالي، فلم يتناول الفطور معها كما يفعل بالعادة، بل ظلّ مستلقياً في فراشه يحدّق بنصف حلقة حديدية مثبّتة بالسقف.

- أنا نائم. قال، وهو في فراشه، بصوت قوي خالٍ من أي أثر للنوم حين استبطأته الست بهيجة في السابعة ودقّت عليه الباب.

لن يتسنّى لها في هذا الصباح أن تحدّثه، مع الشاي والجبنة والزيتون، عن الكمّونية وفاطمة المغربيّة والأشقر وبهيّة خانم والمفعوص ومرمر زماني وحج حسين وآخرين ينتظرونها بعد الفطور مباشرة في حديقة السبكي. كما لن يتيح لها غداً أيضاً فرصة أن تحدّثه عنهم. إن كل شيء من حوله أصبح يُبْطن غير ما يظهر، فأي قطّة على سبيل المثال، مهما أطعمتَها ووضعتَها في حضنك وملّستَ لها وبرها، يمكن أن تتحوّل في أي لحظة إلى كائن مريب، بل إلى مصدر للشرور المحضة مثل كل الكائنات والأشياء الأخرى كالست بهيجة نفسها، وكنصف الحلقة الحديدية هذه المتدلّية من السقف بلا مناسبة والمصمّمة، ربما، لثريا غير موجودة لن يكون في مقدورها أن تحملها أبداً. أبداً. ثم تناهى إليه، وهو مايزال في فراشه، كيف فتحت الست بهيجة باب الشقة وطبقته وراءها برفق. لابد أنها، قبل خروجها إلى قطاطها في الحديقة، قد أخذت معها الكيس البلاستيكي الأبيض المليء برؤوس الدجاج. دائماً يجلس هذا الكيس في البراد على الرف الأول في مقابل الخط الثاني من البيض. البيض. زيت الزيتون يكون عادةً على الرف الثاني فوق المغسلة، والملعقة الخشبية لا تغادر، إلا عند اللزوم، حزمةَ الملاعق الواقفة في كأس بلاستيكية مخرّمة على الحائط، والزبادي، دائماً، في خزانة الزجاج. أما نصف حلقة الحديد هذه فلا يعرف الأستاذ سميع متى نبعت من السقف. لقد لاحظها اليوم لأول مرة عندما فتح عينيه في الصباح الباكر، وحمد الله فوراً على أن الست بهيجة لم تكترث بها، قبل أن يكتري غرفة عندها، فلم تعلّق عليها ولا حتى ثريّا صغيرة. ما الداعي فعلاً إلى ثريّا سوف تسقط في كل الأحوال؟ سوف يتطاير كريستالها إلى كل مكان، إلى النافذة فتكسر زجاجها وإلى الجدران فتُبَعّج ورقها وإلى السرير فتصيب الأستاذ سميع- كريستالة صغيرة واحدة سوف تذهب في عينه اليمنى مثلاً، وأخرى أكبر منها قد تذهب، في الوقت نفسه، إلى شفته العليا. وكان لا ينقصه، في هذا الوقت الدقيق بالذات، أن يكون بعين مقلوعة وشفة مشرومة، فنهض من سريره ليتخلّص، في هذا الصباح على الأقل، من الثريّا التي ستظل تسقط وتتحطم في غرفته، وسيظل كريستالها المتطاير يستهدفه بلا توقف مادام مستلقياً في فراشه. وقف أمام النافذة وفتحها. لم تقتحم غرفتَه قط ضوضاءُ الشارع بمثل هذا الوضوح وهذا العداء، فعاد وأغلق النافذة بإحكام، وهو يتجنّب بصعوبةٍ استنتاجاته المؤلمة الجاهزة على رأس لسانه. ثم اعتبر بسهولة، تحت وطأة استنتاجاته الملجومة تلك، أن الانسان الموظف يستطيع في حقيقة الأمر أن لا يكون وراء مكتبه في صباح يوم السبت. أما إذا كان غيابه هذا السبت مرخّصاً بإجازة ممهورة بخاتم وتوقيع مدير الإدارة العامة لاستنهاض التراث العربي في الجمهورية العربية السورية فمن باب أولى، وهذا ما حرص الأستاذ سميع على القيام به على أكمل وجه. إذاً ما الداعي لتفكيره بصباح السبت منذ صباح الجمعة؟ المشكلة بدأت البارحة في يوم الخميس. كان وراء مكتبه يصوغ كتاباً موجهاً إلى فرع الإدارة في محافظة الرقة عندما رن التلفون في العاشرة والنصف. التلفون الإنكليزي الأسود. رفع السماعة، وسمع صوت امرأة دهنيّاً عريضاً يصبّح عليه. ردّ الصباح باعتدال يليق بموظف حكومي قديم، نزيه ومحترم، ثم ازرقّ من وقع المفاجأة- لقد هنأته المرأة بعيد ميلاده التاسع والأربعين الذي صادف دون أن ينتبه في ذلك اليوم. ثم كانت المفاجأة الأكبر عندما استفسر منها في غمرة اضطرابه عمّن تكون:

- ابتسام. أجابت بالصوت الدهنيّ العريض نفسه ودرجة الحماسة نفسها.

فكّر الأستاذ سميع أن أفضل ما يمكنه عمله الآن هو أن يطبق السماعة فوراً. لكن ابتسام قدّرت، كأنما، وقعَ مفاجأتها عليه، فنوّهت له قبل أن تنسحب من المكالمة بأنها سوف تنتظره في المكان نفسه الذي رعى مشاعرهما الأولى قبل أكثر من عشرين عاماً، في مقهى النوفرة، في العاشرة من صباح السبت. أعاد سماعة التلفون إلى مكانها بهدوء شديد. ثم سحب منديله من جيبه وجفف عرق جبينه، وهو يتأكّد بزوايا عينيه من أن زملاءه في الغرفة كانوا تماماً كما تركهم قبل المكالمة. الهواء فقط أصبح قليلاً جداً، قال في نفسه، لكنه لم يفهم العلاقة التي نشبت الآن بين الكرسي الذي يجلس عليه وبين فنجان القهوة في يد الآنسة الجالسة إلى الطاولة المقابلة- لقد سقط الفنجان من يدها وتحطّم على الأرض عندما أمسك بكرسيه ورجع به إلى الوراء لينهض. وكان مستعداً لأن يعتذر منها، لكن انشغالها بلمّ شظايا الفنجان شجّعه لأن يملص من وراء مكتبه كأنه بريء فعلاً من كسر أي شيء. تلقّته في الكوريدور سكرتيرة المدير، فاستعصت عليه فوراً الابتسامة الملتمعة المُسَنّنة التي طعنته بها. ثم شعر بأنها على علم تام بالمفاجأتين اللتين تلقاهما لتوّه من التلفون الأسود. أطرق إلى الأرض أمامها كأنه يعترف بهما، وهو يتجاوزها بخطوات مترددة قصيرة ومذنبة. كان يود النزول إلى الشارع ليخلو إلى نفسه بين أناس لا يعرفهم ولا يعرفونه، لكن السكرتيرة، المتريّثة حتى الآن أمام مكتبها والتي يتحسّس وجودها السليط بظهره ونقرته وقذاله، جعلته يغيّر طريقه باتجاه المغسلة- لا حاجة له، فوق مفاجأتيه، إلى تمسيك المدير معلومةً تافهة يتغنّى بها من قبيل خروجه إلى الشارع في أثناء الدوام الرسمي دون علمه. كان المستخدم الشاب أنس يستعد في هذه الأثناء لجلي الفناجين والأطباق المستعملة وراء المغسلة. وقف الأستاذ سميع وراءه مباشرة وجعل، من فوق كتفه، يتفقّد نفسه في المرآة. كان لونه مخطوفاً وقد ابتلع شفتيه في حركة عصبيّة احتفظ بها حتى الآن، ما طوّل أنفه بوضوح ودفع بذقنه الحليقة الصفراء إلى الأمام. وكان لا يمكن لفتى مثل أنس، مهما صغر شأنُه، أن يتحلّى بالصبر فترةً طويلة على التصاقه بظهره، فتقلقل في مكانه والتفت إليه. لكنّ الأستاذ سميع، الذي انتبه إلى الضيق الذي يُظهره أنس بجلاء، لم يتلحلح عنه فقد عزّ عليه على الفور شقاء هذا الإنسان الذي سيقضي عمره وراء المغسلة في طحل البن وثفل الشاي. وإذ أحس أن تعاطفه العميق مع أنس قد خفّف من العناء الثقيل الذي أخرجه من وراء مكتبه ألفى نفسه يعيد اعتبار المستخدم بقوة أكبر ويعرض عليه، بأنوثة حلاّق، أن يساعده في غسل الفناجين التي بين يديه، ما رأيك؟

لم يفهم أنس، فشعر، كأنما، بالإهانة: - روح شوف شغلك أستاذ!

لم يصدّق الأستاذ سميع سوء فهمه: - يا سيّد أنس... ثم لم يكمل كلامه هذه المرّة إذ بدا أنس الآن متأكّداً من إهانته، فأمسكه فوراً من ذراعيه، ودفعه أمامه حتى وصل به إلى باب الطابق. وكان أنس قادراً، في أغلب الظن، على ابتلاع اسمه مسبوقاً بـ"يا سيد" لو أن الأستاذ سميع قالها بشيء من السخرية أو المداعبة. أما أن يقولها بمثل ذلك الجدّ والنزاهة والتوسّل فهذا ما لم يفهمه، لأنه أنس، مجرّد أنس. لمح الأستاذ سميع من باب الطابق المفتوح الدرجَ النازل إلى باب الإدارة في الوقت المناسب، فاتجه إليه بسرعة وهو يعتقد أن السيّد أنس قد حقد عليه بلا سبب واضح. ثم ظن أن كل إنسان يقطع التاسعة والأربعين من عمره فجأةً وبالتلفون وتنتظره ابتسام في يوم السبت وفي مقهى النوفرة قد يصبح هدفاً سهلاً لحقد الآخرين. تحقق من صحة فكرته هذه في الشارع عندما شعر بتكالب عيون المارة عليه - كأنهم كانوا، هم أيضاً، على معرفة مفصّلة بمفاجأتيه، فبدوا في عينيه لئيمين مُزدرين مُتحاملين. رفع الأستاذ سميع يديه كلتيهما وتلمّس رأسه في حركة عفويّة سريعة، فلم يصادف ما يحميه غير فتائل شعره المبلّلة بالعرق. وكان من غير المعقول أن ينكر أمامهم بلوغه، قبل دقائق فقط، التاسعة والأربعين، فكل إنسان يفعل ذلك عادةً دونما قصد منه، بل رغماً عنه ودون أن يشعر، المهم أن لا يهنّئه أحد، كائناً من كان، بعيد ميلاده. إن الكلمات الطيبة هنا والأمنيات المعسولة بالصحّة والسعادة والعمر الطويل ما هي في حقيقة الأمر إلاّ حساب قاسٍ وظالم كان يسهل على الأستاذ سميع تفنيده في مطلع شبابه بالآمال العريضة الحامية العمياء، أما الآن فلا يريد أن يُكرَه عليه، وقد كان قادراً، قبل تلفون ابتسام، أن يعيش سنوات كثيرة أخرى دون أن يبلغ التاسعة والأربعين أو حتى الثامنة والأربعين. ابتسام نبقت له من سماعة الهاتف مثل مكيال صارم ودقيق ومختص بإحصاء عمره، فورّطته، دون أن تدري، بكل هؤلاء البشر الذين يغصّون به الآن مثل عظمة في حلوقهم. عاد الأستاذ سميع إلى مكتبه فالهواء في الشارع كان قليلاً أيضاً. وإذ استقر فوق كرسيّه من جديد أدرك ضرورة أن ينتبه إلى عواقب حركته في هذا اليوم بالذات، فقد لا تقتصر على كسر فنجان قهوة آخر في يد الآنسة المقابلة. إنه الآن لا يضمن سلامة حتى الأشياء الاعتبارية في الإدارة كلّها واقفةً كانت أو مسنودة أو معلّقة. ثم وجد من الأسلم له ولكل شيء من حوله أن يعود اليوم باكراً إلى شقة الست بهيجة، فسوّى إجازة ساعيّةً لما تبقّى من يوم الخميس، وأخرى إداريّةً ليوم السبت حسب الأصول. ولم ينسَ، حين نهض، أن لا يزحزح كرسيه من مكانه هذه المرة، فخرج من وراء مكتبه بسلاسة قِط. ولحسن حظّه كانت سكرتيرة المدير منهمكةً بحديث هاتفيّ طويل حين دخل إليها، فنجا من ابتسامتها المُسَنَّنة اللامعة، وضع إجازتيه على طاولتها وخرج سالماً تقريباً من مكتبها على رؤوس أصابعه. وحين نزل إلى الشارع حاول جاهداً أن لا ينظر في وجه أحد، وأن يتأكّد، قدر الإمكان وفي كل خطوة، من أن شيئاً لافتاً جداً لم يترتّب على حركته الحذرة والحثيثة بين الناس والأشياء حتى وصل إلى شقة الست بهيجة.

عندما عادت الست بهيجة اليوم من دوامها في حديقة السبكي كان الأستاذ سميع قد تناول طعام غدائه باكراً. ثم لم يجل الصحون، تركها كما هي في المغسلة لكي تعرف أنه قد سبقها، فلا تنقر عليه الباب لتدعوه إلى الغداء معها كالعادة. ثم فكّر، في أثناء قيلولتها، أن يخرج ويشتري بذلة جديدة لموعده في مقهى النوفرة بالغد، وقد يكون من المناسب أيضاً أن يعرّج في طريقه على حلاّقه العجوز، مع أنه لا يضمن عواقب ظهوره الآن لا بين المارّة ولا بين الزبائن في صالون الحلاقة- الحلاق نفسه قد لا يتعرّف عليه، وقد يتجاهل وجوده كلّه حتى يحين موعد إغلاق الصالون. ثم أنقذته من مغامرة مشواره هذا خزانةُ ألبسته حين فتحها ليغيّر ثيابه، فشعر بالارتياح- لمح بذلةً جديدةً مازال يحتفظ بها محشورةً في الخزانة بدبابيسها منذ ست سنوات، ثم إن قَصّة شعره، الخفيف أصلاً، لم يمض عليها أكثر من أسبوع واحد، ناهيك عن الست بهيجة التي يتجنّب، قدر الإمكان، لقاءها قبل صباح الأحد أو حتى مساء السبت على أقلّ تقدير- لذلك كلّه وجد الأستاذ سميع أنه سيكون أكثر نضارة وإقناعاً إذا ذهب إلى موعده غداً بعد أطول ساعات ممكنة من النوم، فطقّ طقّةً إضافيةً في قفل غرفته، ثم أطفأ النور ودسّ نفسه في الفراش- سوف يكون في الساعة الواحدة بعد منتصف الليل في سابع نومِهِ ولن يشعر بباب الشقة إذا حدث وتكالبوا عليه اليوم أيضاً. فكّر في الظلام، ثم أغمض عينيه. لكنّه شعر بالباب بعد ساعات قليلة فقط عندما دوّت في الشقة دقّة الجرس الموثوقة الوحيدة لديه: رنتان قصيرتان، ثم رنة طويلة.

- عبد الهادي! نبس تحت لحافه ثم شبّ واقفاً وهو يشعر بأمان مفاجئ أصبح معه قادراً، كأنما، على الظهور أمام الجميع بريئاً من هواجسه الكريهة الجديدة منها والمزمنة. أشعل النور ونظر إلى ساعة يده- العاشرة ليلاً. أدار مفتاح القفل متلهّفاً وشقّ باب الغرفة. كانت الست بهيجة قد فتحت باب الشقة لعبد الهادي الواقف الآن في الموزّع مثل طاووس، متألقاً ببذلة سوداء فخمة وقميص أبيض وربطة عنق ذهبية اللون. ثم فهم الأستاذ سميع ترحيبَ الست بهيجة الحار والطويل بعبد الهادي كمحاولة لجرّه هو إلى غرفة الجلوس، فأشار له يستعجله من وراء ظهرها تاركاً له الباب موارباً قبل أن يتراجع إلى قلب غرفته. دخل عبد الهادي بعد قليل وقد طبق الباب وراءه على أنفاس الست بهيجة التي مازالت تلاحقه بترحيبها الحامي. تبختر قليلاً في الغرفة مثل سيد كبير في مسرحية كوميدية وهو يسحب وراءه ذيولاً من عطر طيّب مخلوط باليانسون، ثم توقف تحت الثريّا التي تخيّلها اليوم الأستاذ سميع في الصباح الباكر، وكما يفتتح مزاداً قال:

- اليوم يتمّمون دين الآنسة بديعة بعقد قرانها حكوميّاً عليّ.

* * *

III

عندما خرج الأستاذ سميع وعبد الهادي من شقّة الست بهيجة كانت أزهار تقفل باب غرفتها في الطابق الأول في فندق الاستقلال. وبينما نزلت تطقطق بكعبي حذائها على الدرج تمكّن موظف الاستقبال من البصق على رؤوس أصابعه وتبريم شاربيه وتركيز فراشة قميصه الكرزية على عجل قبل أن تظهر عليه في الصالة. كان الأستاذ سميع يعانى من أسئلة صعبة لم يظفر بجواب شافٍ واحد من عبد الهادي على أيّ منها قبل أن ينزلا إلى الشارع- فإذا كان لن يذهب إلى عقد قرانه الرسمي على بديعة في هذه الليلة فلماذا ورّط أهله وأهلها بتحديد الموعد وتوجيه الدعوات؟ وإذا كان الأمر قد ترتّب من دونه على اعتبار موافقته تحصيلاً لحاصل، مادام وبديعة زوجين عفيفين حتى الآن بقوة فاتحة قديمة مقروءة بشيخ وشهود وما دام لم يأخذ عليها شيئاً طيلة هذه السنين، فلماذا لم يعلن لأمه مثلاً معارضتَه لهذا الإجراء الرسمي، أو تأجيلَه على الأقل، عندما حملتْ له النبأ السعيد في الصباح الباكر من هذا اليوم؟ وإذا كان قرار السيد عبد الهادي قد هبط عليه من السماء في اللحظة الأخيرة فلماذا سمح لأمه أن تستمرّ بزغاريدها من حوله حتى لحظة مغادرته المنزل في أول المساء؟ لماذا استحمّ برعايتها وتهندم بإشرافها كما لو أنه ممتنّ وراض ولا تسعه الدنيا؟ لماذا أوحى لكل المبتهجين به بأن خروجه هذا المساء من المنزل لدقائق فقط؟ ثم إذا كان لم يعد إلى رشده في الساعتين اللتين قضاهما في خمّارة آكوب فماذا يريد منه الآن؟ لماذا طلب إليه أن يدشّن في هذه الليلة بذلته الجديدة منذ ست سنوات والتي كرّسها قبل ساعات فقط للقاء ابتسام في الغد؟ ثم إلى أين سيأخذه في هذا الوقت المتأخّر من الليل؟ كانت الساعة قد تجاوزت الحادية عشرة ببضع دقائق عندما ظهرت أزهار في الصالة. وإذ اقتربت من الحاجز الخشبي لتترك مفتاح غرفتها لدى موظف الاستقبال استوقفها هذا بتهذيبٍ ملتوٍ لا تطيقه عادةً، ولفت نظرها، بأمانة عبدٍ مأمور متفهّم لهفواتها، إلى ضيق ابن المعلّم، الذي عبّر عنه بالتلفون قبل قليل، من عدم وصولها اليوم أيضاً في الموعد المحدّد، وأنه، اعتباراً من يوم غد، لن يرسل إليها، للأسف، سيارة خاصةً تنتظرها على باب الفندق ريثما تنتهي من خزعبلاتها الطويلة كما قال. لم تعلّق أزهار بكلمة واحدة، ولم يشِ وجهها بأي تعبير جديد محدّد كما لو أن الحديث يجري عن امرأة أخرى. لكنها، بعد خروجها من الفندق وقبيل أن تنضمّ في باب السيارة الخلفي المفتوح أمامها بمحاذاة رصيف الشارع، تريثت للحظات واعتقدت أن ابن المعلّم يساومها من جديد على زيارتها في النهار عشيّة تجديد عقدها. كان الأستاذ سميع بَرِماً بإهابه الاحتفاليّ حين انضمّ في سيارة تكسي إلى جانب عبد الهادي الذي طلب إلى السائق أن يمضي بهما إلى قلب البلد. وبينما ظلّ الأستاذ سميع يصوّب عينيه القلقتين المستفهمتين إلى عبد الهادي حافظ هذا على صمته وانشراح أساريره طيلة الطريق حتى استوقف السيّارة فجأةً في شارع القوتلي، ونزل منها. دفع بورقة نقدية من النافذة إلى السائق، ثم وقف على الرصيف يروز الأستاذ سميع في نزوله المشتّت والأنيق والمتثاقل. وإذ استوى إلى جانبه بملامح وجهه المتذمّرة جعل يدور من حوله كما يتأكد من دوزانه في اللحظة الأخيرة قبل اختبار صعب، ثم أمسكه من يده واتجه به إلى باب كباريه مجاور. وكانت الأسئلة اللعينة ماتزال ترعى فؤاد الأستاذ سميع وتتدفق من عينيه الموصوصتين وأنفه المتشنّج سخطاً على صديقه الأحمق المبتسم الراضي، فلم ينتبه إلى طبيعة المكان حتى خلّفا وراءهما الباب المتوّج بأنوار مبهرة ووقفا أمام درج نازل شبه مظلم بنوّاسات زرقاء خافتة على الجانبين، وقد بدأ يلفحهما من أعماق بعيدة عبّار هواء قوي دافئ مشبع بالأنفاس والدخان وروائح مستحضرات التجميل وعرق نساء متراكمات وعطن نفّاذ لشهوات تُرتكب في مكان مزدحم سيئ التهوية. أراد الأستاذ سميع أن يبدي شيئاً من الاعتراض على سبيل التذكير بنفسه كموظف حكومي محترم، فحال دون هذا الواجب رجل طويل بشاربين غليظين وزندين مفتولين نبق من منعطفٍ عند آخر الدرج، ووقف في الزاوية وتكتّف. وكان النور أشدّ كللاً من أن يساعد الأستاذ سميع في قراءة نوايا الرجل، لكنه كشف له، رغم كل شيء، أثرَ لحية نابتة على وجهه، فالتصق، من باب الاحتياط، بعبد الهادي، وتابعا نزولهما في المنعطف إلى اليسار كما لو أن الرجل المتكتّف جزء من الحائط لا أكثر. استقبلتهما بعد نزول بضع درجات أخيرة ظلمةٌ شفّافة زرقاء هي الأخرى. وعلى كونتوار طويل، إلى اليسار أيضاً، ميّزا امرأتين خمسينيتين ضجرتين بأذرع عارية مترهلة وصدرين مدلوعين. ثم من اليمين حيث دائرة البست الفارغة، ومن بين الطاولات المزدحمة حولها صفّاً وراء صف بالزبائن الغامضين والنساء البرّاقات، تقدمّ منهما رجل بفراشة سوداء على ياقة قميصه الأبيض. كأنّ خطواتهما المتوجسة والخبرة الملفّقة التي انتحلها عبد الهادي في ارتياد مثل هذه الأماكن قد ساعدت الرجل ذا الفراشة في حزرهما من أول نظرة، فتحسّس، على الأغلب، امتقاعَ وجه الأستاذ سميع رغم الإنارة الضعيفة، وسمعَ وجيبَ قلبِ عبد الهادي المتسارع رغم قناعه الواثق. ثم شرع، كأنما، يعزّز لهما تصورهما الأوّلي عن الكباريه مبالغاً بالاحتفاء بهما، الأمر الذي اعتبره الأستاذ سميع بصورةٍ خاصة مودّةً صادقة من رجل غريب، فتمكّن من ترميم خطواته وراءه إذ قادهما بين الطاولات إلى درج خشبي لولبي ضيق ومظلم. وبينما بدا، لكليهما، تتبُّعهما المخلص للقميص الأبيض الذي يسعى أمامهما تجربةً دوريةً يمر بها، ربما، كل زبائن الكباريهات شعرا، مع ذلك، بغرابة وضعهما حين أدخلهما الرجل إلى مقصورة دامسة في البلكون تطلّ على زيق البست بصعوبة. ثم ما لبثا أن وجدا نفسيهما وحيدين في هذا المكان الموحش المعتم والخانق بعد أن استأذنهما الرجل ذو الفراشة بالنزول للحظات. شعر الآن عبد الهادي بعبء ادّعائه معرفةَ هذه الأجواء، فبادر وكشف للأستاذ سميع، بصوت شجاع وخافت، أنه فكّر كثيراً بالمجيء إلى الكباريه، لكنْ هذه هي المرة الأولى التي يطأ فيها هذه الأمكنة. ظلّ الأستاذ سميع معتصماً بالظلام بضع لحظات، ثم انفجّ قلبه فجأةً عندما أَوَّلَ اعتراف عبد الهادي بـ"المرة الأولى" على اعتباره تملّصاً مسبقاً من مسؤولية ما قد يحدث بعد ذلك، فسارع واستفسر منه عن قصده. لم يجبه عبد الهادي، فاعترافه ذاك قلّل في نفسه كثيراً من هيبة المكان وما عاد جهلُه به عاراً يؤاخذ عليه. انفجر الأستاذ سميع بشتائم خافتة لنفسه لأنه سمع كلمته وخرج من شقّة الست بهيجة، ثم ابتلع لسانه بظهور الرجل ذي الفراشة السوداء من قلب الظلام مصاحباً، هذه المرّة، فتاتين مُعتمتين وزجاجتي ويسكي وضعهما على الطاولة.

- من الفلبّين! قال ذو الفراشة مشيراً إلى الفتاتين بصورة أظهرتما كما لو أنهما اسْتُورِدَتا منذ قليل بطلبيّةٍ عاجلةٍ خاصةٍ من أجل هذه الطاولة بالذات.

اشتعلت فجأةً أنوار البست الباهرة في هذه الأثناء وأضاءتهم جميعاً- كان الأستاذ سميع مايزال غاضباً من تنصّل عبد الهادي من توضيح "مرّته الأولى" حتى الآن، لكن إنارة الفتاتين المباغتة لطّفت كثيراً من جدّية استيائه من صديقه. ثم زال استياؤه تماماً عندما ظهر عليه إبطُ إحداهما الحليق، فعاد عبد الهادي فوراً، كما كان دائماً بالنسبة إليه، صديقاً عصيّاً على أي تحوّل مريب. ثم انفرجت أساريره، وإن بتحفّظ متعثّر، حين خصّص له الرجل الحصيف ذو الفراشة إحدى الفتاتين وأجلسها إلى جانبه بإشارة من سبّابته الغليظة، بينما كان عبد الهادي يُظهر نفوراً ظاهراً من الحصّة التي استقرّت بقربه منذ لحظات. انتبه الأستاذ سميع إلى الكفّ الصغيرة التي استلقت إلى جانب يده على حدّ الطاولة مثل مخلوق أليف وناعم، وبدا مثل ولد مبسوط وخجلان. ثم بعينيه السعيدتين بدأ يلوم عبد الهادي على سحنته المكدّرة التي كان يُريها لرجل الفراشة اللطيف الذي لم يذنب بشيء. إلا أنه، مع كلّ ارتياحه البالغ من الحرارة التي بدأت بعد قليل تتسرّب إليه من فتاته، لم يجرؤ على النظر إلى وجهها، فلربما كان عليه أن يفعل شيئاً آخر قبل ذلك. إن خبرته الماضية بالمرأة أشدّ ضحالةً من أن يستعين بها في هذه اللحظات العمليّة، فكان لابد من عودة المزاج الطيب إلى عبد الهادي بالسرعة القصوى لكي يقلّده على الأقل، فلا يظهر أمام صاحبة الكفّ، المستلقية مثل مخلوق أليف وناعم إلى جواره، مفجوعاً وعديم نساء. تنحنح رجل الفراشة، ثم طمأنهما بلكنة ملغومة بأن بإمكانهما الآن أن يأخذا حريتهما إلى الآخر، مشدّداً على آخر الحرية، ثم منوهاً بصوت خفيض بأنه لن يكون بعيداً من هنا وسوف يبلّغهما بأي طارئ إذا حدث. وبينما فتح القنّينة الأولى وشرع بملء الكؤوس عاد إلى صوته الطليق وطالب بثمن الويسكي النازل مع البنتين. وهنا زفر الأستاذ سميع زفرة طويلة على نكران الجميل الذي يُكافأ به هذا الرجل الطيّب الخدوم، فقد خيّب عبد الهادي أمله بطلبه المباغت من رجل الفراشة أن يأخذ معه البنت التي جعلها من نصيبه قبل قليل. ثم لم يمكّنه الضجيج العالي الذي أطلقه الآلاتية فجأةً على البست من أن يسمع الكلمتين الأخيرتين اللتين صوّبهما صديقه الجاحد إلى الفراشة السوداء على القميص النقيّ الأبيض، وهو يخرج محفظة نقوده. استلم رجل الفراشة حسابه مبتسماً، ثم سحب إحدى زجاجتي الويسكي من على الطاولة مشيراً إلى جارة عبد الهادي أن تتبعه. ما أدهش الأستاذ سميع أن الرجل الأمير لم يتذمّر من سلوك صديقه غير المسؤول. ورغم أن الميزان أصبح الآن مختلاً لصالحه مادام صديق عمره بلا امرأة ساخنة تلتصق به، إلا أنه لم يعرف حتى الآن ما إذا كان الوقت قد حان لأن يلتفت إلى فلبينيّته الباقية ويتمعّن بها. نبعت في تلك اللحظة راقصة من وراء الآلاتية على البست فيما وصل ضجيجهم إلى ذروته. وبينما صارت تدور على حافة البست كانت تغيب في كل دورة عن الزيق الذي تشرف عليه مقصورتهما. جذب عبدَ الهادي شيءٌ لافت في جسد الراقصة المتبدّي من بين بذلتها المشرّطة والمرفرفة وراءها في الهواء. ثم استطاع، رغم محدوديّة الجزء الذي يتيسّر له من البست، أن يعرف بعد قليل أن ما يقلقه من جسد الراقصة هو مؤخرتها بالتحديد. ومع أنها لم تكن تختلف كثيراً عن أيّ مؤخرة نسوية حسنة التكوين فقد ساعدته هذه المؤخرة بالذات في مراجعة نفسه وفي أن يشعر، وإن متأخراً، بأنه ظلم الفتاة الفلبينية التي صرفها قبل لحظات. كان جليّاً أن الراقصة على علم قليل بإدارة كنوزها الفاتنة. كانت عملياً لا ترقص بقدر ما تخبّ بخطى قويّة متكسّرة ترتجّ لها أعضاؤها بصورة لا تتساوق مع انسياباتها الأصلية، ما كان يشوّهها بخروج تعسّفي خاطف ومستمرّ من صورتها الجليلة المألوفة. والغاية المثلى للرقص، كما هو معروف، تكمن في تجلّي جمالات الجسد أكثر فأكثر في سياقات جديدة لم يعهدها أيضاً في حركته الطبيعية. لكنّ الفرق هنا رهيف وجوهري بين تشويه الطبيعة وتخييلها. ومن هنا فإن مؤخرتها المضطربة الآن بلا ناظم جميل قد ربّت في دخيلة عبد الهادي حسّاً عالياً ومتأملاً بمصائر بنات الليل. ولو كانت الفلبينية إلى جانبه لصرّف فيها كلّ عواطفه النبيلة السامية المستقاة من هذه المؤخرة المورَّطة، ولكان قضى معها ليلة كاملة دون أن يمسّها. لقد تهيأ له أن كل ما تحتاجه امرأة في الكباريه هو أن تحترمها. وأن تحترم غانية مثلها يعني أن تنقدها أجرها، وتعاملها كأي امرأة جميلة لم يمض على تعارفكما وقت طويل. ثم تلفّت حواليه ولم يجد أقرب من الفلبينيّة الباقية التي تجلس الآن إلى جانب صديقه، فتفحّصها بنظراته. كان الأستاذ سميع قد تمكّن لتوّه من إنهاء كأسه الثانية، فسارعت تملؤها له من جديد فلبينيّتُه الخرساء حتى الآن. ألم تتعلّم كلمتين باللغة العربية؟! تساءل الأستاذ سميع في نفسه، وشملها لأول مرة بابتسامة وقورة قدر الإمكان. وتبعاً لما تبيّن في الحال كان لدى الفلبينية، على ما يبدو، فهمٌ موحّد لكل ابتسامات الزبائن الذين يجلسون في المقصورات المنزوية الدامسة، فقد ردّت أوتوماتكياً على ابتسامة الأستاذ سميع شبه المحتشمة بأن مدّت يدها تحت غطاء الطاولة، ووضعتها، برفق، فوق سحّاب بنطلونه. نقز الأستاذ سميع على الفور، ثم انهمك يسعل بكل طاقته، فالتفت إليه عبد الهادي. ولمّا ظل ملتفتاً إليه قدّر الأستاذ سميع أنه، لابدّ، يبحث عن يد الفلبينية المفقودة، ما اضطره لأن يوقف سعاله ويقول:

_ في إذاعة لندن... ولم يُكمل، فضجيج الآلاتية سيحول دون سماع صوته مهما رفعه، ثم إن عبد الهادي عاد يتفحّص فلبّينيته، فالتزم الصمت كما يختبئ وراء نظّارة سوداء فوق عينيه. وكان أراد، تحت وطأة الكفّ الراقدة فوق سحّاب بنطلونه، أن يحدّث عبد الهادي عن كاميرا، في إذاعة لندن، بحجم حبة الالتهاب لتصوير الأمعاء الدقيقة سمعهم يتحدّثون عنها البارحة في "عالم الظهيرة". وإذ تأكّد الآن من أن عبد الهادي لا يبحث عن يد فلبينيّته، بل هو مشغول بها نفسها مع أنها ليست من اختصاصه، استبعد من كل قلبه أن يقبل صديقه الوحيد باستعمال يدها الثانية، لأنه، إذا قَبِلَ بذلك، فلن يكون لديها يد ثالثة تنهي بها كأسها المليئة. وكان عبد الهادي قد بدأ يجرّب على فلبينيّة الأستاذ سميع عواطفه السامية التي ما يزال يستقيها من مؤخرة الراقصة الرديئة بين فترة وأخرى، لكن الفلبينيّة لم تُبدِ له ما يشي بأيّ اكتراث حيال هذه العواطف، فردّ ذلك إلى الكرسي الشاغر الذي يفصل ما بينهما- انتظر حتى غابت الراقصة في الأجزاء التي لا يراها من البست، وانتقل إليه. صعد الدم فوراً إلى رأس الأستاذ سميع جرّاء هذه الحركة القرعاء، فقد فهمها محاولةً لجوجةً ثانيةً من عبد الهادي لكي يضبطه متلبّساً بيد الفلبينية- ماذا يريد منه حقاً هذا الرجل؟ هل ينتظر منه أن يستغفره على سكوته عمّا حدث قبل قليل فوق بنطلونه تحت الطاولة، أم يثبت له أن ما فعلته البنت هو من صميم حياة الكباريه؟ ثم زادت من ضيقه نظرة طويلة مستفهمة ومتعمّدة، بالتأكيد، صوّبها عبد الهادي إلى المكان الشاغر الذي كانت يد الفلبينية مستلقيةً عليه قبل أن تختفي، فصمّم الأستاذ سميع في الحال أن ... لكنه، بدلاً من ذلك، أفلت، فجأةً ورغماً عنه، شهقةً عاليةً قطمها على الفور، وقال لعبد الهادي بصوت مرتفع:_ كاميرا.. كاميرا بحجم حبة سيبروفليكس عيار 750.

كانت الفلبينية قد بدأت تُمَلْمِلُ أصابعَها فوق سحّاب بنطلونه. لكنّ عبد الهادي انشدّ في هذه الأثناء إلى البست حيث كادت حركة خرقاء أن تسقط الراقصة على وجهها، فانشمر ذيلها المشرّط عن مؤخرتها فترةً أطول، وبتفاصيل أوضح من المعتاد. كافأها الزبائن المخمورن فوراً بتصفيق حاد. ثم أدركت الراقصة، على ما يبدو، أن ما أثار زوبعة الإعجاب المفاجئ لم يكن رقصها، بل الحبل الليلكي الرفيع البرّاق الذي يحزّها بقسوة بين أليتيها، فصارت الآن تقلّد حركتها الخطرة الخرقاء بحذافيرها مرةً بعد مرة. وكان الطبّال على وجه الخصوص يبذل كلّ مهاراته ليسقطها في الفخ ذاته. لكن الحركة الخرقاء تلك كانت تمنح مؤخرتَها في رأس عبد الهادي فرصةً ثمينةً للثبات، فتستعيد جلالها الطبيعيّ في مشاعره مادامت الحركة في الرقص الرديء لن تعني غير تشويه الجسد. وكان ثباتها ذاك يأتي بصورة توازن مباغت قبل سقوطٍ بدا مؤكداً قبل لحظة، فيجمد جسدها في تراميه نحو الأرض مبرزاً مؤخرتها نحو الأعلى مثل موضوعٍ رئيس لنصب تذكاري مذهل يتمّ للحظاتٍ لأغراض رخيصة. وما كان يخلب عبد الهادي في كل مرة أنّ الراقصة كانت تنجح في اقتناص اللحظة الأمثل من حركتها الخرقاء لجمود موضوعها الفذّ الرئيس. ثم ودّ لو يستغرق جمودَها الساحر بحواسه كلّها، فلا يفلت منه شيئا، فوقف. وقد بدأ يؤلمه، في هذه الأثناء، أنها لا تجمد خصيصاً من أجله، وأنها تجمد بهذه الصورة الكاملة لأنها عثرت، عن طريق الخطأ، على وضعٍ يزيد من شأنها بين زبائن مهمومين بفتحتي سبيليها لا أكثر. وكان ألمه لذيذاً إلى درجة أنه لم يعرف ماذا يفعل حين أنهت وصلتها بسلام وانسحبت من البست. جلس ممسوساً حتى العظم بفقدها ومُسلّماً، تلقائياً وبلا أساس، بأنه، لابدّ، قد فقدها للأبد، فشعر برغبة قوية بالشفقة على نفسه وعلى الآخرين. بدت الفلبينية الآن شاردة إلى جوار الأستاذ سميع كما لو أنها في بيجامتها المفضّلة تستلقي على أريكتها المحبّبة في صالون منزلها الخاص، تفصفص البزر، وتشاهد في التلفزيون فيلماً مملاً عن تاريخ الطيران لم تغيّره حتى الآن لأن جهاز التحكّم بعيد عنها. وهكذا لم تتأثر مشاهدتها التلفزيونية تلك بالاستجابة المتواترة التي صار الأستاذ سميع يُظهرها أخيراً تحت حركة أصابع يدها المفقودة، بل تابعت ذبولها المنزليّ الأليف أمام طائرات ألمانية، ربما، استُخدمت في الحرب العالمية الأولى. غير أن الأستاذ سميع ما لبث أن أصدر فجأة أنّةً سحبها، كأنما، من كل أيامه القاحلة. وكان لا يحتاج إلى مغمغتها في أذني عبد الهادي إذ تكفّل بذلك على الفور ضجيج الآلاتية الذي دوّى من جديد حين ظهر على البست مطرب عجوز بباروكة شعر كحليّة داكنة. كانت الفلبينية قد فكّت سحّابَ بنطلونه وحشرت كفّها الصغيرة الدافئة في فتحته. ثم لم يعد الآن قادراً على تمويه انقياده الكامل ليدها حين تحكّمت هذه المخلوقة الأليفة الناعمة من شيئه المقدّد القديم. وكانت كأسُ الويسكي الثالثة التي أنهاها لتوّه قد ساعدته على الأغلب في نبش دعارة يابسة ومقيّدة في أعماقه منذ سنين بعيدة، فصدّق بسهولة شديدة أن ما يحدث تحت غطاء الطاولة لا يحدث مع عبد الهادي، بل معه بالذات. كان كلّ شيء يدلّ فعلاً على أن الشيء الواقف هناك إنما هو شيئه الخاص وقد انبعث بعد موات طويل.

- أصل الغرام، الغرام، الغرام نظرة. بدأ المطرب العجوز.

المهم أن لا ينتبه عبد الهادي إلى الحركة المريبة المتوالية تحت الطاولة، هجس الأستاذ سميع، فعبد الهادي الشارد الآن في الفراغ الكبير الذي يشكّله المطرب العجوز على البست هو نفسه عبد الهادي القادر أكثر من كل الآخرين على رؤية أفعال صديقه وهي، بعدُ، نوايا تحوم في رأسه مثل ذبابات دائخة.

- يا شبكتي بالعين ياعيني آه يا عيني.

وكانت الفلبينية، في غضون حركة يدها الروتينية المتسارعة بحكم خبرة آليّة سابقة في الغالب، ماتزال تبدو ضجرة من متابعتها تاريخ الطيران، فلم تهدف، كأنما، إلى شيء محدّد حين جذبت كفّها فجأةً إلى الوراء كردّة فعل، ربما، على ارتطام طائرة بأخرى في برنامجها الوثائقي على شاشة تلفزيونها المفترض. لكنّ ما حدث في الحقيقة أنها بحركتها العفوية تلك قد أخرجت معها شيء الأستاذ سميع من تحت غطاء الطاولة. ولمّا عادت تثابر على حركة يدها المريبة المتكرّرة المملّة في الهواء الطلق لمحها عبد الهادي.

- مثل حبة فصوليا بيضاء مسلوقة أو أصغر من قلب الفرّوج بقليل _ قال الأستاذ سميع بصوت متحشرج، وهو ينظر في عيني عبد الهادي مباشرةً ليتحقق من فضيحته المستمرة رغم كل شيء -وفي معدة الإنسان تصبح هذه الكاميرا مثل أي شيء مبلوع لا يُهضم كأي زر قميص أو ليرة حديد- تابع بشفتين مرتعشتين وعينين شاخصتين فيما بدا عبد الهادي مثل نائم مفتوح العينين _ المهم أن لا تعصى رزّة في عين الكاميرا الوحيدة.

- يللي كويت الفؤاد، الفؤاد، الفؤاد ارحم.

ثم أراد الأستاذ سميع أن يخبر عبد الهادي بأن العلماء حسبوا حساب الرزّة فجعلوا العدسة بمستوى سطح الحبّة، لكنه لم يستطع، فقد اشتدّ لهاثه وتلاحق بصورة لم يعد معها قادراً على نطق كلمة سليمة واحدة. كأنه كان في تلك اللحظة يستعدّ للقفز من حافة شاهقة، فتمسّكت سلفاً كلتا يديه بكاسه المشروبة على الطاولة مرتجّاً كلّهُ، بينما كان وجه الفلبينيّة ينضح بالسأم الشديد من البرنامج السخيف الذي لم ينته حتى الآن.

- أسباب ضناي العين.

هوى الأستاذ سميع أخيراً بأنّةٍ جَرِشةٍ تلاحقت متقطّعةً إلى خفوت فاجع، فانقطع، كأنما، البثّ التلفزيوني فجأةً أمام الفلبينيّة، وصفّق زبائن الكباريه.

- ضناي ضناي العين.

أمسكت الفلبينية زجاجة الويسكي، ودلقت ما تبقّى منها فوق يدها الأخرى تحت الطاولة على وقع الآهات والتصفيق، كأنها، بهذه الطريقة، قد كنست قشور البزر التي تناثرت على سجادتها النظيفة في أثناء فرجتها المضجرة التي انتهت أخيراً، فلم يعد لديها ما تفعله الآن. قامت وانسحبت من الطاولة مثل قطة ملولة. رفع الأستاذ سميع سحاب بنطلونه، وهو يتمنّى بكلّ جوارحه لو أن عبد الهادي يخفي وجهه بين مرفقيه فوق الطاولة ثم لا يرفعه إلى الأبد. كيف يحتمل الإنسان أشخاصاً قريبين إلى هذا الحد في مثل هذه اللحظات؟ كان، الآن، كمن ضبط نفسه على حقيقتها العارية المروِّعة. لم يصدق أن هذه النفس هي نفسه بالذات. إن نفساً كهذه لن تشرّف موظفاً حكومياً خلّف وراءه ما خلّف هو من سنوات الخدمة الطويلة النزيهة والمتفانية. كيف سيتحمّلها بين جنبيه بعد الآن؟ لقد حصّنتْها له أيامه الرصينة المتشابهة الماضية، فلم تقع في الاختبار لتكشف عن معدنها الأصلي الرخيص. أيّ نتيجة فاضحة برهنت عليها التجربة، يا إلهي، أيّ نتيجة! ولم يكن ممكناً للأستاذ سميع أن يفرّ بعاره من المقصورة اللعينة على رؤوس أصابعه. إن نظرة استفهام واحدة يصوّبها نحوه أحد الغرباء المحتشدين في الكباريه سوف تسمّره في مكانه مثل مذنب مكشوف وهارب. ثم تذكر الرجل المتكتّف على قرص الدرج ولحيته النابتة، وعرف أنه محكوم بعبد الهادي.

- صيد العصاري يا سمك يابني. كان المطرب العجوز يتعرق بغزارة ويجهد في كل مرة يمسح فيها وجهه ورقبته أن لا يسحب بمنديله الكبير باروكته الكحليّة الداكنة.

شَخَصَ عبد الهادي فجأةً بعينين مبهورتين إلى المقصورة المجاورة كأنه لا يصدّق ما يراه- كانت الراقصة ذات النصب التذكاري المذهل تجلس هناك أمام رجل بدين يميل إليها من فوق كرشه بصعوبة ويضمّ رأس أنفها بين شفتيه بعناء، بينما كانت تلاحظ من وراء ظهره نظرات عبد الهادي المتحرّقة إليها.

- تلعب بالميّه لعبك يعجبني.

وكان الأستاذ سميع الآن قد بدأ ينتظر، بصبرٍ نافد، متى يلتفت إليه عبد الهادي أخيراً ليعرف ما الذي تبقّى منه في عينيه بعد الذي حصل. لم يلتفت عبد الهادي إليه. ثم لم يلتفت إليه رغم أنه قام من محلّه، ليذكّره بنفسه، ثم جلس. خيّل إلى الأستاذ سميع أن عبد الهادي لم يعد يراه، فتذكّر ابتسام. لم يعرف ما إذا كان سيستطيع، في هذه الحال، أن يذهب غداً إلى موعده معها في مقهى النوفرة. إن ابتسام ليست لعبة بين يديه لكي يذهب إلى لقائها شاحطاً وراءه نفسه الدنيئة بعد فراقٍ طويل. ثم تذكّر أيضاً الإدارة العامة لاستنهاض التراث العربي وكاد يقتنع بعدم جدارته بثقتها، لكنه لجم تهوّره في اللحظة الأخيرة، ولم يجرؤ على الإنزلاق إلى هذا الفخ الذي ينصبه له عبد الهادي بتطنيشه الفظيع. إن الإدارة العامة لاستنهاض التراث العربي فوق أيّ مساومة أو بازار، ولن يتنازل، لا اليوم ولا غداً ولا بعد غد، عن ثقتها به أياً كانت الظروف والأسباب. وعلى الشريف عبد الهادي أفندي والبتول ابتسام خانم أن يقبلاه كما هو بعجره وبجره. وإذا كانا ينتظران، بهذه الطريقة، أن يتبرّع لهما باستقالته من الإدارة غداً فهما مخطئان. لماذا يريدان تحميله تبعات دناءة متخفّية في نفسه دون علمه؟ إلاّ إذا كانا ينويان محاسبته أيضاً على ديدان بطنه. وهنا نهض عبد الهادي، فقد قامت الراقصة فجأة، واتجهت نحو الدرج الخشبي اللولبي المظلم، فاندفع وراءها مثل مسحور. وعند أول الدرج نبق له الرجل ذو الفراشة السوداء وحال بينه وبينها بقوة متمرّس- وجّهه إلى مقصورته ووعده بالراقصة بعد نهاية زجاجة الويسكي على طاولة البدين. رجع عبد الهادي إلى مكانه متوجساً، كأنما، من هزيمة محققة. كان على ثقة غريبة من أن الرجل ذا الفراشة قد خدعه لأن الراقصة لن تعود، وأنها قامت أصلاً بإشارة منه لكي يبعدها عنه هو بالذات. ثم عاد وتملّص بسهولة من تسليمه بفقدها إلى الأبد عند مغادرتها البست، واعتقد الآن بسرعة أنه كان على أحرّ من الجمر في انتظارها هي دون غيرها، وإلاّ فلن يكون أي معنى للخطّة التي يحوكها ضده رجل الفراشة. لكنّ الراقصة ظهرت من الدرج اللولبيّ المظلم من جديد، مرّت بطاولته تتثنّى في طريق عودتها إلى مقصورة الرجل البدين حيث جلست مرةً أخرى في مكانها أمام كرشه. وبينما مال والتقم أنفها عادت تلاحظ نظرات عبد الهادي من وراء ظهره. إلى أين نزلت؟ تبوّلت؟ اتصلت بالتلفون؟ بمن؟ هل سيأتي هذا الآن ويأخذ دور عبد الهادي عليها؟ لكنه قد حجزها قبله لدى رجل الفراشة، فبأي حق إذاً سيتسلْبط على دوره؟ لن يسمح له، لن يسمح!

- أنا لا أسمح لك يا سيد عبد الهادي أن تستشرف عليّ- ارتفع صوت الأستاذ سميع، وقد طبش كعب كأسه الفارغة على سطح الطاولة- أنا لولاك ما دست هذا المكان.

لم يسمعه عبد الهادي ليس لأن ضجيج الآلاتية والمطرب العجوز قد حال دون ذلك، بل لأن بنتين جديدتين قد نزلتا على طاولة البدين مع زجاجتي ويسكي. ومن هناك رشقه الرجل ذو الفراشة بنظرة سريعة فهم منها أن الراقصة ستكون بعد قليل على طاولتك يا عزيزي، ثم فهم منها أن عليك أن تنتظر حتى تفرغ طاولة البدين من كل زجاجات الويسكي، ثم فهم منها أنني لن أتمكّن من البرّ بوعدي لك فالزمْ مكانك واحذرْ من أي حماقة، ثم لم يفهم منها شيئاً. لكنّ رجل الفراشة وضع الآن يده برفق على كتف الراقصة، ثم انحنى وهمس شيئاً في أذنها. وهنا فقط، في هذه اللحظة الدقيقة الحاسمة، انتبه عبد الهادي إلى أن الأستاذ سميع يخاطبه بحرارة. كان كلامه عالياً ومتراكباً وينغّص عليه تجسّسه الملهوف على المقصورة المجاورة، فأحكم سدّ أذنيه براحتيه.

_ وإذا كنت تظن أنني ما رفعت ذيل امرأة في حياتي - واصل الأستاذ سميع - فأنت غلطان وأكبر غلطان. وعموماً أنا لا أحكم على الرجال من ذيول النساء.

ثم لم يستسلم الأستاذ سميع لفكرة أنه قد خسر عبد الهادي فعلاً. إن ما ترسخ بينهما من المودة الطويلة يجب أن لا يتزعزع بمجرّد فلبينية. وفوق ذلك فإن المسألة لا تتوقف عند عبد الهادي فقط، لأن إصراره على موقفه العنيد يعني أن ابتسام نفسها ستقف إلى جانبه غداً. أيّ خواء، يا إلهي، أي خواء سوف يلاقيه في لقاء ابتسام! سوف تستوضحه غداً بالتفصيل الممل عمّا حدث، لأن يد الفلبينيّة الآثمة سوف تتدلى بالتأكيد من عينيه إلى سطح الطاولة في مقهى النوفرة، وسوف تتدلى في يوم الأحد أيضاً على سطح مكتبه أمام زملائه في الإدارة العامة لاستنهاض التراث العربي. دائماً وبطريقة من الطرق تتعمّم شؤونه الخاصة على جهات كثيرة. والأستاذ سميع يعرف، قبل غيره، أن أعضاء جسمه بالذات هي أول من يشي به عادةً ويشهد عليه أمام الآخرين. نعم إن عينيه تخونانه، ورجليه تخونانه، وظهره يخونه، وطريقته بالمشي والأكل والسعال تخونه وحتى ألبسته تخونه. إن كيانه كلّه يصبح شفّافاً كالزجاج النظيف كلما دفن في داخله إثماً لا يليق به كموظّف حكومي له مستقبل مرموق. لكنه واثق أيضاً من وجود وسائل أخرى لا علاقة لها بأعضائه، ولا عمل لها إلاّ نشر غسيله الوسخ. وطبعاً كان يمكن تلافي آثار يد الفلبينيّة المشؤومة لو أنها فعلتْ ما فعلتْه بعد شهرين من الآن عندما سيتقاعد المدير الحالي للإدارة العامة لاستنهاض التراث العربي. إن كل شيء يقول في هذه الأيام إن المدير القادم للإدارة هو الأستاذ سميع. لقد تناساه المعنيون بالأمر عندما شغر مكان المدير في المرتين السابقتين. وما كان يفاقم شعوره بالغبن الأسود أنه اعتقد دائماً أن أحداً لا يضارعه من حيث الإنصياع والكفاءة وطول الخدمة في أحقّيته بقيادة الإدارة العامة لاستنهاض التراث العربي. ثم إنه منذ خيبته الثانية عندما تعيّن المدير الحالي، ومع إحساسه المتنامي بأن الأفكار في رأسه يراها الآخرون فوراً، صار يحرص على تنظيف رأسه سلفاً من كل فكرة تفوح منها رائحة مختلفة عن الرائحة الموحّدة ليس فقط في الإدارة العامة بل وفي كل المؤسسات الحكومية الأخرى. ومن أجل هذا الغرض ظلّ يتسلّح بالأفكار القومية الخالدة منذ سنين طويلة في افتتاحيات الصحف الرسمية وفي أخبار القناة السوريّة دون غيرها، كما واظب دائماً على تَنْكِيهِ آرائه النادرة أمام الموظفين بمعجزات الحكومة حتى ولو كانت عن تحديث أداء الحمامات في الحدائق العامة. لقد تعب الأستاذ سميع حقاً من شعور المدير القادم الجدير المخلص المطيع الغيور والمغمور حتى اللحظة في الظل، والذي يمكن أن تستقوي عليه أي حشرة في الطريق. والآن عندما توشك الإدارة أن تصل إلى فمه تتدلى يد الفلبينية من عينيه وتبعدها ببساطة، وقد ترمي بها في أي حلق مفتوح آخر. الشخص الوحيد القادر على فعل شيء من أجله هو عبد الهادي. لقد كان عبد الهادي دائماً ركناً أساسياً من كيانه في العاصمة القديمة. كان دائماً تلك القشة، أو الحجرة، أو الكلمة التي رجّحت وترجّح كفّة الأستاذ سميع بلا تردد على كفّة مصاعبه حتى ولو لم يلتقيا إلا لماماً. لقد كان كافياً للأستاذ سميع أن يثق ثقة لا حدّ لها بأن بوسعه دائماً وفي أي وقت أن يطرق باب عبد الهادي لا لشيء إلا لكي يتلقّى، ببساطة وعند الضرورة القصوى، قشته الثقيلة وحجرته الفصل وكلمته الطيبة. والآن إذا رضي عبد الهادي عنه فلن يرى يد الفلبّينية في عينيه، لن يتذكرها، سوف ينساها تماماً مثل ورقة داسها في الطريق دون أن ينتبه. وحين لا يراها عبد الهادي فإن أحداً لن يراها لا في مقهى النوفرة غداً ولا في الإدارة يوم الأحد، لأنها عندئذٍ لن تتدلى أصلاً من عيني الأستاذ سميع. ولكي يرضى عبد الهادي يجب أن يغفر له، فكيف يطلب منه أن يسامحه على نفسه الدنيئة إذا كان هو نفسه لم يسامحها في واقع الأمر؟ شبّ عبد الهادي فجأةً، وتوازن بصعوبة على قدميه. كانت الراقصة مقبلةً نحوه يسبقها الرجل ذو الفراشة منشرحاً مع زجاجة ويسكي. وقف الأستاذ سميع، هو الآخر، وقد طفرت من عينيه نظرة احتقار سافرة نحو سبب بلائه- رجل الفراشة. ثم تلكّأ في الاستجابة ليد الراقصة الممدودة نحوه متعوّذاً منها، وكان مصمماً على أن لا يقابلها بيده لولا النظرة المفاجئة التي صوّبها إليه عبد الهادي. جلسوا. ملأ رجل الفراشة الكؤوس، وقد صان انشراحه بالأمنية التي حققها لعبد الهادي رغم أمارات الازدراء الصريحة التي كان يخصه بها الأستاذ سميع بلا توقف. ثم زاد انشراحه عندما تناول من عبد الهادي بقشيشه المميّز مع الحساب. ومع ذهاب رجل الفراشة خطر للأستاذ سميع أن هذه المرأة التي يبالغون بالاحتفاء بها بلا مبرر قد تفعل مع عبد الهادي ما فعلت معه الفلبينية. أعجبته الفكرة على اعتبارها وسيلة مضمونة للتعادل بالعار، ما سوف يدفع عبد الهادي قطعاً إلى تبادل الصفح عما جرى. وفي الحال لانت ملامحه المتشنّجة كنوعٍ من تزييت وتسليك يد هذه المرأة إلى سحّاب بنطلون عبد الهادي. كان المطرب العجوز ينحني في تلك اللحظة مودّعاً جمهوره الخمران، وقد ثبّت بيده باروكته الكحليّة الداكنة لكي لا تنزلق إلى الأرض. وكان يتساقط عليه ويشيّعه في انسحابه البطيء تصفيق متقطّع ومهدود. ثم فرغ البست من الآلاتية أيضاً. وساد لغو مبهم متواصل تنفرُ من سطحه أحياناً ضحكةٌ مترنّحة رفيعة هنا، وقهقهة مجلجلة هناك. وبعد أن أُطفئت أنوار البست عادت الظلمة الزرقاء المشعة لتحوّل الحضور إلى خيالات غامضة وهائمة. ضاقت الراقصة من الإرباك الأصم الذي لم يعرف كيف يخرج منه صاحبا الطاولة فقدّمت نفسها:_ أنا أزهار.

- أزهار؟! استغرب الأستاذ سميع.

- أنا عبد الهادي. قال متنهداً.

لم يفهم الأستاذ سميع ما الذي جعله يستغرب اسمها فوجد نفسه يقول: _ الحقيقة يا آنسة... ثم أمسك عن الكلام معتقداً بعد فوات الأوان أنها على الأغلب ليست بآنسة.

- أنا من تونس. أردفت أزهار.

- الله! من تونس!!؟ عبّر الأستاذ سميع عن عجبه الغامض من جديد، وإذ لم يجد ما يبرره هذه المرّة أيضاً أمام عبد الهادي على الأقل أخرج منديله من جيبه وتمخّط.

إذا كانت أزهار، ما أجمل اسمها، من تونس فلربما كان من اللباقة بمكان أن يحدثها عبد الهادي عن بلدها. ولكن ماذا يعرف عن تونس غير فريد الأطرش؟ كان يذكرها على مسامعه من بساط الريح قبل أن يطفئ الراديو ليقيّل مع بداية نشرة أخبار الثانية والربع. وكان لا يريد أن يصدّق أن تكون معلوماته عن تونس فقيرة إلى هذا الحد مادامت أزهار من هناك. ثم تذكّر، في اللحظة الأخيرة، الحبيب بورقيبة وإذا الشعب يوماً. وكان ذلك أيضاً، كبساط فريد الأطرش، أبهتَ من انبهاره بأزهار، فظل ساكتاً. استرعت الرطوبة تحت الطاولة اهتمام أزهار، فرفعت طرف الغطاء وألقت نظرة متفحّصة طويلة. شعر الأستاذ سميع أنها تتمعن في سرج سرواله الداخلي. وكان من المستحيل طبعاً أن يحتجّ، أو يختفي من مكانه بلمحة بصر، فاعتبر فوراً أنه لا يجالس قدّيسين في نهاية الأمر- إن هذه المستطلعة بعينيها البريئتين إنما تدّعي جهلها المطبق بهذه الرطوبة، مع أنه متأكّد من أنها روّمت مثلها تحت طاولة أخرى في هذه الليلة بالذات. كان لا ينقصه شريف آخر إلى الطاولة، ومن باب أولى شريفة من هذا الصنف. لكنّ الأرضيّة الخشبيّة، المتشبّعة بالغبار والمنقوعة بالويسكي الذي دلقته الفلبّينية ومواد متقادمة أخرى ثوّرها الكحول، قد ضوّعت الآن رائحةً منفّرة تجلّى أثرها فوراً على وجه أزهار، فاعتبر الأستاذ سميع اشمئزازها إهانةً صريحة موجهة إليه. وكاد، من شدّة غيظه، أن يرفع غطاء الطاولة إلى الآخر لولا أنه تمالك أعصابه في اللحظة الأخيرة. إن أيّ ردٍّ منفعل من ناحيته سوف يعطّل عليه فكرة التعادل بالعار مع عبد الهادي، ما سيُبقيه شريفاً لا يُطاق إلى النهاية. وهكذا قرّر أن يزيل الرطوبة المنفّرة من بال أزهار، وأن يُطرّي الجلسة، فوق ذلك، كرمى للإدارة العامة لاستنهاض التراث العربي على الأقل. رجع بجذعه الآن إلى ظهر الكرسي مُعرّماً ومبتسماً، ثم أنشد متّئداً ومتمطّقاً بكل حرف:

- إذا الشعب يوماً أراد الحياة فلابد أن يستجيب القدر.

اندهش عبد الهادي من حضور تونس بنفس الطريقة الفقيرة لدى الأستاذ سميع أيضاً. لكنّ أزهار لم تكن في وارد الشعر والشعراء في تلك اللحظة، فقد أعادت غطاء الطاولة على ما كان عليه ونهضت مستاءةً. أدرك الأستاذ سميع فوراً أنه لن يكمل استظهار البيتين التاليين من القصيدة، ولن ينطلق إلى قصائد أخرى أشدّ حنكةً في تسييل العواطف بين أزهار وعبد الهادي. حملت أزهار زجاجة الويسكي بِيَد، وكأسَها باليد الأخرى، وتوجهت إلى الممرّ الدائري الذي تنفتح عليه كل المقصورات. جلست إلى طاولة شغرت منذ قليل على حرف البلكون، فلحقها عبد الهادي مع كأسه أيضاً. ظل الأستاذ سميع جالساً إلى طاولته مثل متستّر على رطوبته الخاصة، وبذلك لن يتعادل بالعار مع صديقه عبد الهادي، مع أن خيانة الصديق للصديق ليست أقلّ عاراً من يد الفلبينية. وما فعله عبد الهادي بهجره إلى طاولة أخرى مع رقّاصة كباريه لا يمكن أن يتسمّى بغير الخيانة. ومن يخون صديقاً يخون وطناً في النهاية. استوقفتْ الأستاذ سميع فكرةُ مقارنة نفسه بالوطن كموضوع دسم قابل للخيانة المميّزة على مرّ العصور. ثم قاده إحساسه العارم بالغبن إلى فكرة الوطن المكبوب على قارعة الطريق، فاقشعرّ بدنه من شعريّة الحيف الذي ألحقه به عبد الهادي، وهو يشعر بنفسه ورقةً مُجَعْلَكةً أو ريشةً في مهبّ الريح. لم يعرف عبد الهادي، بعد بانتقاله مع أزهار إلى الطاولة الجديدة، كيف يخرج من صمته المطبق. وكان يودّ لو يسلّيها بلا إبطاء، ويتطلّع، في أثناء ذلك، إلى أن يعجبها أكثر من الجميع، فلا يسقط من عينها طيلة السهرة ومن ثم لا تضطر إلى أن تُسارق أحداً بالنظر من وراء ظهره. بيد أن الخواطر التي تهافتت على رأسه كلّها بدت له غير مناسبة، وسوف تنمّ، إن تشدّق بها، عن ركاكةٍ قد تجعل أزهار تفضّل لو كانت بين ذراعي الرجل البدين حتى الآن. ثم ما لبث أن تمنّى لو يستيقظ الآن ويجد نفسه في سريره لخمس دقائق ثم يعود إلى الكباريه. خمس دقائق فقط. خمس دقائق ريثما يجد ما يقوله لأزهار. لكنه ليس نائماً لكي يستيقظ. لا، ليس بنائم. إنه يذكر تفاصيل يومه الطويل منذ استيقاظه في الصباح الباكر: حفيفُ الأثواب الجديدة، الهمسُ المتدافع المكظوم عبثاً والموشك على الانفجار بالصوت العالي البهيج، وضحكُ أخواته الذي تفلّت أخيراً وانتشله تماماً من غفلة النوم، ففتح عينيه. كانت أمه وأخواته وبناتهن يتحلّقن حول سريره يضحكن ويتملّين به كما ليثقن للمرة الأخيرة أن النائم المستيقظ الآن في مثل هذه الساعة إنما هو عبد الهادي. وإلى سلةٍ؟؟ خلف ظهرها مدّتْ أمه يدها وشرعت تزغرد وتنثر فوقه ياسميناً مقطّفاً منذ لحظات. لم يكن والده إذاً مجرد طاعن بالسن حين علّق قبلته على جبينه في الليلة البارحة. فكّر تحت لحافه. ثم رأى في وجه أمه السعيد مقلوبَ وجهِ بديعة الدامع قبل أسبوعين، فجلس في سريره. نعم لقد نجحت بديعة بعد ما يقرب من ثلاثين عاماً من قراءة فاتحتها عليه، وبعد أكثر من عشر سنوات من تبرّم أمها ونقّها من أن ابنتها تفني زهرة شبابها عَ الفاضي فلا هي معلّقة ولا هي مطلّقة، نجحت أخيراً، قبل أسبوعين فقط، من أن تفيد من زلّةٍ ما زلّ عبد الهادي بمثلها أبداً- كان قد رافقها إلى بيت أهلها بعد عشاء متأخر في مطعم. وعلى بابهم، قبل أن تفتحه مباشرةً، التصق بها فجأةً وانزلقت يده، كما لم يفعل قط، داخل جلبابها الشرعي وقبض على بطنها تحت سرّتها بقليل. كان الزقاق مقفراً، كأنما، بالاتفاق مع بديعة. وكذا القمر كان ينير لعبد الهادي وجهها الدامع الآن بوضوح حين شهقت وطلبت منه ولداً. وبينما شعر بأنه عجوز وحزين ومقصِّر انتزعت بديعة نفسها من بين يديه، ثم فتحت باب أهلها وغابت تركض في ظلام دهليزهم العميق بينما كان الزقاق الفارغ يرجّع نحيبها الجارح الطويل. لم يدخل وراءها. أغلق الباب الذي تركته مفتوحاً، وذهب إلى أُمه. نقل إليها طلب بديعة كما سمعه دون تعليق أو تبهير أو تبخيس، ثم صعد إلى غرفته مضطرباً ومشوّشاً. وكان كل ما لاحظه في الأسبوعين الفائتين أن بديعة تردّدت أكثر مما يجب إلى بيت أهله. وكانت في أثناء زياراتها المتلاحقة تلك تنظر إليه، كلما صادفته، كما تنظر إلى أخ غالٍ قديم مرفوع على كرسي متحرك أو في سفط كبير مُخبّأ في سقيفة خصيصاً من أجلها. وكانت أخواته وبناتهن يخترعن الأسباب طيلة هذه الفترة لملامسته كما لو عَرَضَاً، ولكنْ بحرصِ مَنْ يضيف في المكان المناسب الوردةَ الأهم في المزهرية. وكان قادراً حتماً أن يربط هذه السعادة المنزلية غير المألوفة في الأسبوعين الأخيرين بالولد الذي طلبته بديعة، لكنه لم يملك الجرأة الكافية، ولا الغاية الواضحة لأن يحدّد ذلك بالكلمات. غير أنّه، في المقابل، تجاهل بإصرار تواطؤَه المكشوفَ معهم جميعاً فيما يذهبون إليه كما لو أنه معني فعلاً بولد بديعة الذي سيظهر في السنة القادمة، وبنحيبها الذي مازال يرجّعه الزقاق في أذنيه حتى الآن- ألم يشترِ بذلةً جديدة قبل ثلاثة أيام لأنه ملّ فجأةً من خزانة ألبسته كلها؟ وشعره ألم يحلقه في مساء البارحة بالذات لأنه مرّ بالمصادفة بحلاّقه ولم يكن عنده، على غير العادة، أحد من الزبائن؟ لكنه في صبيحة هذا اليوم فقط، وتحت الياسمين المنهمر عليه والضحك والزغاريد، لم يجد بداً من الاعتراف بكل تلك المصادفات المقصودة، وتقبّلِ "المفاجأة" السعيدة التي حضّرنها له بتكتّم ساحر مفضوح أمام عينيه. وهكذا سيكون الخميس القادم يوم سعد بديعة- سوف يتزوجها بالمعنى التطبيقيّ العاري المباشر لهذه الكلمة. أما اليوم فقد هيّئ كل شيء لترسيم الفاتحة القديمة بعقد قران حكومي- القاضي، الأقارب، الأصدقاء، الجيران، المعارف، الزينة، صواني الضيافة، الهناهين والزغاريد. كان كل ما ينقصهم الآن عبد الهادي فقط، وعبد الهادي لم يعرف، حتى اللحظة، كيف يسلّي أزهار. كانت أزهار تشرب الويسكي بتعقّل مسبق، فلا ينبغي لها أن تفقد وعيها باكراً مادام أمامها الكثير لتشربه على طاولات أخرى قبل رضا المعلّم، المعلّم المضمحلّ وراء طاولة مضمحلّة في الزرقة السميكة ودخان السجائر الكثيف والبربرة الجماعية المتصاعدة من الصالة. لكنها من مكانها كانت الآن تشعر بشاربيه المنبّلين، وتراه بقوةِ رهبتِها من عينيه اللتين لا يعجبهما العجب. ولأن عليها أن تنهي زجاجة الويسكي على طاولتها الجديدة بالسرعة اللائقة الممكنة جعلت تهزّ عبد الهادي من يده كما توقظه ليشاركها بها، مع أنها واثقة من أن إحدى صاحباتها الكاسدات سوف تمر بعد قليل، بإشارة من المعلّم أو ابنه، لتساعدها بكأس أو كأسين. ظهر رجل الفراشة على البلكون فجأةً مثل حصوة سوداء مقذوفة إلى قلب عبد الهادي. لكنه مرّ بهما دون أن يتوقف، وإن تباطأ حين حاذاهما. ماذا يريد؟؟ يده تنوس حائرةً إلى جانبه كالبندول- هل ستستقرّ برفقٍ على كتف أزهار عندما سينحني فوقها في طريق عودته ليهمس شيئاً في أذنها؟ تلفّت عبد الهادي من حوله يبحث عن الرجل البدين، ولم يجده. ثم لم يجرؤ على التحقّق من غايات رجل الفراشة في عينيّْ أزهار ذاتها، فجعل يتأمّل بتركيزٍ وشغفٍ أصفرَ بروتيلها الذهبيّ. ماذا يفعل الأصفر الذهبي بأزهار؟ ماذا تفعل أزهار بالأصفر الذهبي؟ ماذا يفعلان معاً بكلّ المقصورات المفتوحة عليهما في الممر الدائريّ على حدّ البلكون؟ إن عبد الهادي معرّض في أيّ لحظة لأن تفتن أزهارُ وأصفرُها الذهبيّ أيّاً من الذين يراقبونها من بعيد، الذين يحجزون أدوارهم عليها الآن عند رجل الفراشة. ما أكثرهم! ما أجملها! ما أوقح رجل الفراشة! ثم لم يعد عبد الهادي قادراً على الصمت أكثر من ذلك، فاستفسر فجأةً من أزهار عمّا ستفعله بعد نهاية زجاجة الويسكي.

ضحكت: - أفتح غيرها عند غيرك.

لن تذهب إلى غيره، والويسكي سوف ينبع من خشب الطاولة حتى نهاية السهرة- قرّر، ثم رفع يده. ظن الأستاذ سميع أن عبد الهادي سوف يصفع أزهار أخيراً، بينما طار رجل الفراشة إلى عبد الهادي.

- ثلاث قناني ويسكي! طلب بصوت منفعلٍ خفيض.

لم تصدّق أزهار. لقد أصبحت الآن، على غير مألوفها في ليالي الكباريه، تستطيع فعلاً أن تمتنع حتى آخر السهرة عن شرب قطرة واحدة فوق طاقتها مادام عبد الهادي سيدفع بعد قليل ثمن الويسكي الذي سيتكوّم على الطاولة. في هذه الليلة سوف تخرج، إذاً، على رجليها من الكباريه. وبرجليها سوف تصعد إلى التاكسي، وبهما تحديداً سوف تنزل منها. في هذه الليلة لن يحملها أحد ولن يسندها أحد. في هذه الليلة سوف تستحم مثل أيّ امرأة ما تزال قادرة على الحركة بعد عمل شاق. ومثل أيّ امرأة أخرى سوف تخرج من الحمام خفيفةً نضرةً وفي ذروة إحساسها بأعضائها. سوف تهنأ بنعومة بيجامتها القطنية وبياض شرشفها وبرودة مخدتها النظيفة. اليوم لن يزحف ابن المعلم إلى سريرها، ولن تعيش كوابيسها معه على حد بين الغيبوبة التامة وبَرْمِ الأشياء من حولها. وعندما ستستيقظ غداً لن تجد نفسها عارية ومشلوحة على الكنبة أو على طرف السجادة أو في الحمّام. اليوم ستقفل بابها بيدها، وإذا طرق الباب لن تفتح له، وإذا ألحّ سوف تفتحه وتمنعه من الدخول. اليوم سوف تقول له "لو سمحت بدّي نام" أو "عندي دورة اليوم آسفة" أو "روح يا إبن القحبة نام مع إمك". اليوم ستقول له ما تريد، ولن يزعل المعلم مادامت فتحت في هذه الليلة ست زجاجات ويسكي. المعلم يزعل عندما تفتح أقل من ثلاث زجاجات في السهرة. عندما تفتح زجاجتين فقط يذكرها دائماً في اليوم التالي برقصها الرديء، وأنها كانت البارحة مثل الجمل الفلتان على البست. اليوم سوف تكون بنظره فنانة كبيرة وجديرة بكباريه وليس بكرخانة. إنها تسمعه منذ الآن يقول لها "تصبحي على خير مدمازيل أزهار". إنها منذ الآن تقبض على رضاه مثل شهادة حق أو عقد جديد بشروط أفضل أو ضمانة أكيدة من الطرد. لكن شيئاً ما، إلى جانب الغبطة التي لا توصف برضا المعلم، شيئاً ما قد رنّ في بطّة ساقها من أجل عبد الهادي، حلّق شيءٌ ما، اشتعل شيءٌ ما، ضروريٌّ، لذيذٌ ومنتظَر. كان الأستاذ سميع قد رأى من مكانه كيف نزلت قناني الويسكي الثلاث على طاولة عبد الهادي وكيف لقف رجل الفراشة رزمة النقود منه، فتساءل في نفسه وبمرارة عن السبب الذي يمنع عبد الهادي حتى الآن من طرده من الكباريه. لماذا يتحمّل وجودَه مثل غصّة في الحلق إذا كان منشرحاً كلّ هذا الإنشراح؟ قم يا سيد عبد الهادي تنصّلْ من صديق عمرك يا أخي، ماذا تنتظر؟ قم سلّمْه إلى الليل البهيم أو على الاقل إلى الرجل اللئيم صاحب اللحية النابتة الذي يكمن له على قرص الدرج. ولا تستعجلْ، كلّفْ خاطرك وتريّثْ حتى يعجنه أمام عينيك برجليه ويديه، حتى يُلخْلِخه لك بحائط اليمين وحائط الشمال، ويسحله من أجلك وراءه مثل ذبيحة على الدرج الطالع. وقبل أن تعود إلى كاسك وطاسك وشرموطتك اتبعْه يا أخي لترى بأمّ عينيك كيف سيشحطه لك على زفت الطريق العام، وكيف سيسلّمه لكلاب آخر الليل لكي تمزّق له بذلته الجديدة التي دشنها اليوم كرمى لك، ثم لا تخف اقترب منه وتأكّدْ من الدم الذي سيسيل من أنفه ومن بين أسنانه بأصابعك الحسّاسة النظيفة. كانت أصابع عبد الهادي مستسلمة على ركبته القريبة من ركبة أزهار حين نزلت بكفّها وحطّتها على ظهر كفّه.

_ أصابعكَ باردة. قالت، وأخذتها إلى حضنها، ثم كَمَرتْها بكفّها الثانية.

أمسك عبد الهادي في اللحظة الأخيرة عن شكرها لكي لا يظهر الدفء الذي يتلقّاه منها بمظهر الصدقة. هزّ رأسه فقط، كما لو أنه يشاطرها رأيها النزيه بما يخصّ برودة أصابعه، ثم ندم على ذلك. صرف بأسنانه وهو يدرك أنه بسخفه هذا إنما يفوّت على نفسه التنعّم بيده المغمورة بطراوة أزهار، أزهار التي تنظر إليه كما تسرح بعيداً في لهبٍ أزرق مأمون داخل مدفأة من وراء مستطيل قزازتها الصافية المقاومة للنار. ما حاجة عبد الهادي فعلاً لكلام سمعته أزهار من غيره؟ فقط لو أنها تلتقط كفّه الثانية وتغطّسها هي الأخرى في حضنها. فقط لو تغطّس رأسه وكتفيه وذراعيه، لو تغمره كله بأصفرها الذهبيّ الليّن، لو تضيّع أثره فيها فلا يستدلّ عليه أحد في هذه الليلة على الأقل. في هذه الليلة سوف يذهب إلى شقّتها، شقتها الصغيرة لابدّ- غرفة نوم، صالون صغير على قدّهما، صوفا جيدة، أربع كنبات تفي بالغرض، طاولة أكل، حمّام بقدر الإمكان، مطبخ ما، موزّع قصير، نافذة لشخصين تطل على أسطحة لا نهاية لها وصحون ستلايت لا تحصى وقمر بعيد، ثم قطة بعينين زرقاوين تنتظر في سلة صغيرة تحت علاّقة الملابس أو تحت طاولة تلفزيون 14 بوصة في صدر الصالون. ستكون القطة جائعة، سوف يطعمها عبد الهادي بيده كما لو كانت أزهار، سوف يهرتم معها كأنها هي ريثما يفتح البراد ويطال من أجلها صحن اللبن. لا تشتهي اللبن؟ طيّب بكرة مرتديللا سوف يهرّمها إلى قطع صغيرة ويضعها لها في صحنها الزجاجي النظيف المقلوب على زيق المغسلة. أما إذا أصرّت أزهار فسوف يتنازل لها طبعاً عن متعة إطعام قطتها. لن يشبع من التملّي بهما الواحدة في حضن الأخرى كأنه رجل لامرأتين. ثم سيدعهما آمنتين ليذهب إلى المطبخ ويحضّر العشاء؟ أم الفطور؟ لأن الشمس سوف تطلع بعد ساعتين من الآن. لا فرق، سيحضّر الطعام لكليهما، والجلي على أزهار.

- بس ما عندي بيت أنا نازلة في أوتيل. قالت أزهار.

في هذه الحال سيقيم عبد الهادي في الغرفة المجاورة لغرفتها في الأوتيل نفسه. سوف يفصل ما بينهما حائط فقط، حائط متفهّم ومتسامح، لأن حائطاً غيره لن يتحمّل رسائله الحميمة التي سيدقّها عليه، والتي سينقلها طبعاً إليها بأمانةِ عمّة عجوز- الدقّة الخفيفة تعني تصبحين على خير، الدقة الأقوى: تغطّي جيداً الطقس بارد، الدقّتان الخفيفتان: لو سمحتِ احلمي بي. ثلاث دقات خفيفة: حكاية ما قبل النوم.

- الطابق الأول كله للفنانات. قالت أزهار.

- مين الفنانات؟

- فنانات الكباريه.

- طيّب في الطابق الثاني. فوق غرفتها تماماً.

_ الطابق الثاني مشغول ليل نهار بالمصطافين، لأن الأوتيل لصاحب الكباريه.

_ والطابق الثالث؟؟

_ ما في طابق ثالث.

اضطر عبد الهادي لأن يملأ كأسه من جديد لأن الفندق الطبيعي يجب أن يتألف من ثلاثة طوابق على الأقل، ولأنه لم يعثر على أزهار بعد كل هذه السنين لكي يكبّها في البحر. ربما كانت حياته كلها قبل هذه الليلة لا أكثر من مصادفات باهتة ومتداعية بلا ضرورة ولا سياق. من يدري؟ ربما نزل اليوم إلى الكباريه لأول مرة بقوة قدر محتوم. ربما كانت أزهار ضلعه المكسور منذ الأزل دون أن يدري. فكيف يبتعد عنها لمجرد أن صاحب الكباريه فكّر ذات يوم بفندق من طابقين فقط؟ سوف يقيم عبد الهادي في أقرب فندق إليها، أوتيلك بعيد؟؟

- لأ، في بستان كليب، "فندق الاستقلال".

لكن عبد الهادي لن يعجز عن استئجار شقة قريبة جداً من الفندق يعيشان فيها معاً. والأفضل أن تكون الشقة بعيدة جداً عن الفندق والكباريه إذا كانت أزهار سوف تعيش معه.

- لا يمكن.

- ليش؟؟

- ينفسخ عقدي مع صاحب الكباريه، ويرحّلني إلى بلدي ثاني يوم.

مشت كلمة "عقدي" على عنق عبد الهادي مثل حشرة طويلة ذات كلاّبات لا تحصى من الطرفين وإبرة سامة، فنفضها عن باله، وارتجل على وجه السرعة فكرة فجّة، وجعل يحوم حولها بسرعة كبيرة دون أن يعرف كيف يهدّي عليها. ولكي لا يتراجع عنها ودّ لو يفشي بها إلى أزهار، وإن كانت فكرة شائكة مؤلمة معتمة هنا ومضاءة هناك، لكنها على كل حال كانت مخرجاً مشرّفاً حاراً جميلاً وجديراً بمحب أعمى. خافت أزهار- كأنها لقفت فكرته الفتّانة الهوجاء التي اشتعلت في عينيه بوضوح، لكنها ليست مستعدة لأن تنساق معها، يجب أن تعارضها بحزم لأنها لا تريد أن تعود إلى تونس بهذه السرعة، أو تجد نفسها فجأةً عاهرة شوارع وقوادين وزعران وشرطة آخر الليل. إنها ببساطة لن تتحمل عبد الهادي. سوف يكون مثل غيره عندما ستتحقق فكرته وتبرد. لن يتردد آنذاك باتهامها حتى بألم أضراسه وبإسهاله المفاجئ وبانقطاع الكهرباء وبالمطر الذي لم يتوقف منذ أسبوع. سوف يظهر دائماً مغدوراً بها، مغبوناً، كأن القدر تآمر عليه وألصقها به هو الذي يستحق، الآن فقط، أجمل منها وأطهر. ولأنه لن يعرف لوجهه مكاناً يخبئه فيه عن العالمين سوف يفعّسها بيديه ورجليه وشحّاطته وخشبة الفرم وذيل المسّاحة. ثم لن يعفيها آخر الليل من تودّده فقط لكي ينام معها بدون فضائح، بدون جيران يتوسّلون بالدق على الحائط والسقف والباب لكي يكفّا عن عراكهما المعيب. سوف ينام معها في النهاية، ولن ينتبه إلى أنه ينام الآن مع كومة لحم هامدة زرقاء منفّخة مدمّاة وإن كانت مثقوبة. لا، لا تريد ولن تقبل أزهار بعبد الهادي إلا زبوناً دسماً متحرّقاً عليها كل مساء هنا، هنا في الكباريه، فمن يوقفه الآن؟ ومَنْ، كرمى لله، يأتي ويقلب هذه الطاولة على الأرض بكل ما عليها لكي تستطيع أزهار أن تنهض وتمضي إلى حال سبيلها؟؟ من يمسكها من يدها الآن ويشدّها من الطاولة رغم أنف عبد الهادي وأنفها؟؟ يجب أن يفعل أحدٌ ما شيئاً من أجلها قبل أن يُسلّمها عبد الهادي فكرته المحزنة المحزنة المحزنة. يجب أن ينقذها أحدٌ ما منه، هو الأحمق المتهافت المزهوّ الركيك العذب. لكنّ عبد الهادي ابتلع فجأةً فكرته المشرّفة الهوجاء عندما شعر دون أن يلتفت أن رجلاً غاضباً يقترب من الطاولة ويستهدفه.

- شرّفْ يأ أفندي يا إبن الأفنديّة، شرّف يا شريف يا إبن الأشراف، شرّف قوم وصّلني عَ البيت. بعق الأستاذ سميع وقد قبض على كتف عبد الهادي.

قامت أزهار من الطاولة مثل مُنتشَلةٍ من النار وابتعدت بسرعة، فوقف عبد الهادي ولم يدركها. ودّ فقط أن يهمس لها قبل أن ترحل بأنه يعبدها وأنه...

- شرّفْ إمشِ!

جذبه الأستاذ سميع بقوّة، ودفعه أمامه باتجاه الدرج الخشبي اللولبي المظلم. ثم لم يفلته حتى وصلا إلى باب الكباريه. كان الرجل الطويل ذو اللحية النابتة والزندين المفتولين ما يزال واقفاً هناك. حيّاه الأستاذ سميع بمودّة حذرة، ففوجئ بالحرارة التي ردّ بها عليه، ما اضطره لأن يفلت كوع عبد الهادي ويصافحه. فتح عبد الهادي باب سيارة تكسي واقفة عند حافة الرصيف وجلس، ثم سارع الأستاذ سميع وانضم إلى جانبه في المقعد الخلفي. لم يتبادلا كلمة واحدة في الطريق. كانا يستمعان فقط إلى هدير المحرك الذي ترجعه الشوارع الخالية. لم يتوقع الأستاذ سميع أن ينزل عبد الهادي من السيارة عندما وصلا إلى باب البناية التي يسكن فيها مع الست بهيجة، ولكنه نزل. كان يعرف أن عبد الهادي لا يشارك أحداً بغرفةٍ ينام فيها، لكنه يستطيع أن يشرب فنجان قهوة مثلاً.

- لا أريد. قال عبد الهادي، وقد قرفص يتفحص شيئاً صغيراً على الرصيف. ثم نهض بعد قليل - تصبح على خير. قال، ولم يتحرك من مكانه.

تلبّث الأستاذ سميع قليلاً، ثم دخل البناية وصعد إلى الطابق الثاني. كان المصباح مضاءاً فوق باب شقة الست بهيجة. دسّ مفتاحه في القفل ودوّره فيه ببطء شديد، ثم نظر إلى ساعته ولم يجرؤ على فتح الباب. كانت قد مرّت ساعتان على الواحدة بعد منتصف الليل. لكنّ الباب انفتح أمامه فجأةً عن ابتسامة مرحّبة عريضة على وجه الست بهيجة في لباس خروجها. كان كلّ شيء وراءها كما كان حرفيّاً منذ سنين، فسحب الأستاذ سميع مفتاحه ودخل. انضمّ في غرفته حالاً دون أن يلتفت إلى الست بهيجة. طبق وراءه الباب وأشعل النور- كل شيء على ما هو عليه هنا أيضاً. ثم فتح النافذة- كل شيء كما ينبغي أن يكون في مثل هذا الوقت في شبابيك البناية المقابلة. ولمزيد من الاطمئنان ألقى نظرة إلى الشارع- كان عبد الهادي مايزال هناك مقرفصاً في المكان ذاته وقد رفع رأسه الآن إلى الأعلى على صوت فتح النافذة لِبرهةٍ قصيرة، ثم عاد ينظر بين قدميه.

- ذيل أبو بريص يلعبط. قال عبد الهادي.

- وحده؟ سأل الأستاذ سميع بصوت يكاد لا يُسمع.

- وحده. أجاب عبد الهادي بصوت خفيض أيضاً بعدما سمع صوت إغلاق النافذة فوقه، ثم نهض ومضى متثاقلاً في الشارع إلى أول تقاطع. إلى أين يذهب؟ إذا تابع إلى الأمام سيصل إلى حديقة السبكي بعد تقاطعين. وإذا انعطف إلى اليمين سيصل بعد نصف ساعة مشي إلى جبانة أويس القرني. أما إذا انعطف إلى اليسار فسوف يجد نفسه بعد عشر دقائق في شارع بارون. بدا له شارع بارون أفضل من الحديقة والجبانة. لن تكون الوحشة تامة هنا، سوف يصادف، لابدّ، بعض السكارى المتأخرين النازلين من "العندليب" والطالعين من "حنّا كعده"، ثم إنه لن يتعب هنا في العثور على غرفة في فندق.

* * *

IV

حين استيقظ عبد الهادي بدا لنفسه، قبل أن ينهض، قناعاً جديداً لشخص مجرّد ينام دائماً في هذه الغرفة ويغيّر أقنعته طبقاً لنزلائها المختلفين. السماء صافيةٌ في نصف النافذة الطويلة ليس من أجل عبد الهادي إذاً، بل من أجل ذلك الشخص إذا كان يفضّل النور. ومن أجله أيضاً، إذا كان يفضّل الظل، حجبت الستارة الثقيلة النصف الآخر من النافذة. تحسّر عبد الهادي لأنه لا يستطيع أن يدّعي لنفسه قطعة السماء، تلك المستطيلة الزرقاء المضيئة أمام عينيه. وكذا الشرشف الأبيض يستلقي عليه ولا يدّعيه. وهذا الغطاء يمنح النعومة والإحساس العارم بالنظافة والدفء وفقاً لحرص الإدارة عليك أنت أيها العزيز الطارئ بشخصك، والدائم باعتبارك نزيلاً مجرّداً مرموقاً في فندق مرموق. قشر عبد الهادي الغطاء عنه، كأنه اكتشف، الآن فقط، حقيقةَ هذه الخدمات المراوغة الملساء، فقرر أن يتخلى عنها ويزدريها. لماذا جاء إلى الفندق؟ إلى أين كان يمكنه أن يذهب؟ وقف بكيلوته الأبيض في وسط الغرفة مثل مخدوع. لن يشرب قهوته هنا. لابد من ارتداء ملابسه أولاً. أين ساعته؟ على الطاولة. لقد تأخر! لن يشرب القهوة في مكان، ثم إن ذقنه طويلة. لن يحلقها أيضاً لأن أي حلاّق في الدنيا لن يحلق له على الطاير، ولأنه، الآن، قد ترك باب غرفته مفتوحاً وانطلق على الدرج يزرّر قميصه ويرفع سحاب بنطلونه ويبكّل سيره ويعقد ربّاطي حذائه. لماذا لم يستخدم المصعد؟ انتبه عندما خرج من باب الفندق إلى أنه نسي ربطة عنقه الذهبية هناك. من غير المعقول أن تكون كل سيارات التكسي مشغولة. لن يعكر مزاجه من أجل ربطة عنق. سوف يمشي نحو تقاطع القوتلي حيث تصب السيارات القادمات من جادة الخندق أيضاً. مع أن ربطة العنق بالذات هدية من بديعة. سوف يصعد في أي سيارة باتجاه فندق أمية حتى لو اضطر إلى أن ينزل في مكان قريب من هناك. أخيراً صعد في سيارة مشغولة براكب واحد يمضي في الاتجاه نفسه. إذاً قد يصل في الوقت المحدد تماماً. بالعادة يصل عبد الهادي إلى هناك قبل دقيقة أو دقيقتين سوف يقبل اليوم أن يصل بدونهما، المهم أن يصل في الثامنة وعشر دقائق بالضبط. بدا السائق منيعاً أمام أي رجاء بمضاعفة السرعة فقد كان مثل مُقَلَّع من بيته قبل لحظات. لمح عبد الهادي نفسه في المرآة- شعره منكوش، وآثار النوم مازالت على وجهه.

- لو سمحت ممكن تسرع شوي؟؟

كان السائق منيعاً فعلاً. كأن عبد الهادي قد توجه بطلبه المتلهّف إلى المقود أو المرآة. في المرآة خلخل شعره بأصابعه. لن يشرح للسائق شيئاً، فلن يكسب، إذا فعل، غير مزيد من التجاهل على الأغلب. الأفضل أن يُنوِّم على رأسه خصلة شعر عنيدة منتصبة في المرآة مثل أذن قط أسود. أفلح في مغمغتها في شعره الكثيف النائم عندما وقفت السيارة أمام فندق أمية. حاسب السائق وقذف بنفسه إلى الخارج. كانت الساعة قد تجاوزت الثامنة بإحدى عشرة دقيقة. قطع الشارع، وبدأ ينحدر على الرصيف النازل باتجاه التجهيز. التفت وراءه. لا أحد. تأخرت هي أيضاً. لن تمشي الشارع بطوله بدقيقتين إلاّ إذا وصلتْ اليوم قبل أربع دقائق أو خمس. كان الرصيف ينزلق تحته بقوة غريبة نحو المنعطف. في العادة تظهر عند أول المنعطف عندما يستلم عبد الهادي أول الرصيف في الثامنة وعشر دقائق ويكون أمامه رصيف كامل من مشاهدتها- كان في تلك اللحظات يميّز بكثير من المداراة كيانَها الملوّن الصغير الحار النابض المتقدم نحوه، ثم يباشر فوراً في عزلها لنفسه من وطأة ما يحيط بها من مبانٍ ضخمة غنيّة عن التعريف بكل دلالاتها وظلالها الثقيلة الفارقة: يخلّصها من بريق الفورسيزينز وراءها مباشرةً، ومن تداعيات فرنسا على حائط التجهيز إلى يمينها، ومن المتحف الوطني والمتحف الحربي والتكية السليمانية وكلية الحقوق في الأفق البعيد، ثم يتأنّى بانفراده بها شكلاً دؤوباً باهراً ودقيقاً على خلفيةٍ نجح، لتوّه، في تحييدها. وهنا يتلبّث في الحفاظ على وجهها غامضاً قدر الإمكان- دائماً يكون، في خطواتِ ما قبل تجلّي ملامحها، أكثر جسارة في ترك العنان لحواسه ورغائبه الدفينة لتستقبلها على هواها. كانت عيناها الواضحتان تمنعانه من النظر إليها بصفتها جسداً قابلاً لهصره بين ذراعيه. وبقدر ما تسمح به خطاه المنتظمة كان لا يتردد في تأجيل ملامحها المعبودة، ويفصح في الوقت ذاته عن بذاءة حواسه في إقبالها الفاضح على جسدها. وكلما قاربت الخطوات ما بينهما أكثر فأكثر كانت حواسه السليطة تنكمش أكثر فأكثر، فلا يتبقّى منها غير ضجيج قلبه المضطرب العالي عندما يميز عينيها بوضوح. عند ذلك فقط يسترق النظر إليها بقنوط الزاهد وحيرة العاشق وحياء العذراء. وغالباً ما كان هنا ينكسر بعينيه نحو حذائها وجوربيها فيمنحها من أعزّ الخطوات القريبة منها خطوةً أو خطوتين. ثم يمنح محفظةَ يدها خطوة أو خطوتين، ولِيدها الطليقة الذاهبة الآيبة خطوةً أو خطوتين، ولأزرار قميصها بضع خطوات. ثم من جديد يرفع نظره إلى وجهها العليّ خطوتين أو ثلاث ليصطاد، كأنما، أعطيةً ما بمثابة سكّرة لصباحه أو مجرّد لهّاية لمشاعره بعد أن تغيب: ما يشبه ابتسامةً تحدث في داخل شفتيها، أو شوقاً خفياً إليه تشي به يدها، مثلاً، إذ ترفع خصلة من شعرها عن جبينها. ثم قبل أن ينهي حصته من الرصيف، عندما تحتلّ بحضورها المشهد بأكمله من شدّة قربها، كان عبد الهادي يخفض بصره بمحاذاتها وقد كَمَنَ لها بكيانه كلّه وراء أنفه وأذنيه ليفسّر، كأنما، وجيب قلبها، ويستنطق رائحة هواجسها. خطوة صاعقة واحدة فقط كانا يشتركان في خطوها متلاصقين إنما باتجاهين مختلفين، هي في صعود إلى أول الرصيف، وهو في نزول إلى نهايته لينعطف، بعدها، إلى اليمين. ولكنْ هاهو قد قطع اليومَ كاملَ حصته من الرصيف منذ ما يقرب من عشرين خطوة سارها من حصتها ولم تظهر من المنعطف. هل مرضت بهذه السرعة؟ كانت في يوم الخميس كما كانت في يوم الأربعاء. هل مرض أبوها فلازمته لأنها وحيدته ولأن أمها قد توفيت في العام الماضي مثلاً، أم مرضت أمها فلازمتها نظراً لأنها وحيدتها ولأن أباها قد هجرهما منذ سنتين؟ ربما، ربما. المهم أن لا تكون قد تزوجت. مع أن الإنسان إذا تزوج لا يغيّر طريقه الذي يمشي عليه كلّ يوم وإلاّ فلن يتسنّى لعبد الهادي أن يراها غداً وبعد غد. واليوم ليس الثلاثاء لكي تخرم أسبوع ظهورها به كما تفعل أحياناً. اليوم سبت، ومنذ عرفها ظهرت في كل السبوت. كانت خطواته الآن تُتَكْتِكُ إلى الأمام مثل عقرب لا مبالٍ عنيد، كأن لدى قدميه غاية أخرى تسعى إليها بمعزل عن مشاغل قلبه، فلا رحمة في تقدمهما ولا هوادة ولا تردد. وكان الصباح قد بدأ يذبل في عينيه بشدّةِ اندفاعه إلى المنعطف. حتى أشجار الزنزلخت على طول الشارع التي تعترضه بالعادة مثل صفٍّ من مهنّئين بعد أن يكون قد رآها مقبلة، حتى هي كادت تنقلب بالسرعة نفسها إلى مجرد ديكور فائض عن الحاجة لأن من غير المعقول أن تنهض بمثل هذه الجذوع ومثل هذا التناسق، وتورق بمثل هذه الأمشاط الغزيرة الخضراء بلا سبب. وكان عبد الهادي يتوقع ويتمنى أن شيئاً برحابة السماء مثلاً لم يزرقّ اليوم بمثل هذا الصفاء بمحض المصادفة- لابد قد فعلها لغايةٍ لن يكون عبد الهادي مستثنىً منها. وكذا ذلك العصفور على حافة تلك النافذة لا ينقر خشبها بمثل هذه الهمّة ليحكّ منقاره فقط- لابد أنه يفعل ذلك لغايةٍ لن يكون عبد الهادي مستثنىً منها. وهذا التلميذ المتأخر عن المدرسة هل يسرع إلى دروسه بمثل هذا النشاط لكي يتجنب فقط توبيخ الأستاذ؟ لن يكون عبد الهادي مستثنى أيضاً من غاية ذاك البساط الذي يتشمّس على الشرفة وهذا البسكليتِ المسنودِ على باب البناية وهذا الصدأ الذي أكل اسمَ الطبيب على اللوحة تحت ياسمين هذا السياج. إذاً لا يمكن أن يكون عبد الهادي مخدوعاً، لأن أيّ حائط في الدنيا عندما لا يقف عبثاً بجوارك إنما يعدك بشيء. إذاً لا شيء يمنعها اليوم من الظهور، لا شيء يمنعها اليوم من الظهور، لا شيء يمنعها اليوم من الظهور، لا شيء يمنعها اليوم من الظهور، فظهرت! ظهرت الآن من المنعطف، وملأت على الفور فراغها الخاص في سلوك الأشياء في الشارع المنحدر نحو التجهيز. ظهرت كما تُفتح نافذة فجأة، وكما تتدلى سلّة من الطابق الثالث إلى حضن البقال، وكما تُذكّر سيدةٌ من شرفتها ابنَها الذي قطع الشارع أن يمرّ في عودته ببيت ستّك يا حبيبي، لاتنس! أصبح ظهورها، بسرعة وسلاسة وإتقان، من صميم الصباح في هذه الدقائق. لكن الوقت فقط، ضيقَ الوقت أربك عبد الهادي، فقد مشى حتى الآن كامل حصته وما يقرب من نصف حصتها من الرصيف. لم يعد ثمة محلّ لبذاءة حواسه وفجورها بها، فقد كانت عيناها واضحتين تماماً. ثم لم يجد مكاناً لخطوات يخفض بصره فيها، إذ شغلته، الآن، ملامحها التي لم تظهر قط بمثل هذا الحزن العميق. ظلّ متعلّقاً بوجهها يستفهمه طيلة الوقت الخاطف بأسئلته الحارة الغزيرة الخرساء. ثم قبل عدة أنفاس حارقة من محاذاتها، وكما لم تفعل قط، التفتت إليه فجأةً- فهل سقط عبد الهادي على الأرض فالتفتت إليه، أم أنها التفتت إليه فسقط؟ ربما لم يسقط. بلى قد سقط، لأنه لن يعرف، دون ذلك، كيف سيفسّر الغبار على بنطلونه وكذا الألم الذي سيشعر به على ركبتيه في وقت لاحق. لكنه، رغم سقوطه الأكيد، أفلح بالنهوض في النّفَس الضروريّ الأخير وخطا معها خطوتهما المشتركة الصاعقة الوحيدة دون أن يسمع هذه المرة غير قلبه بأسئلته العالية المتدفقة بلا جواب عن حزنها العميق. والآن، وقد أصبحتْ وراءه، هل تسوّغ له التفاتتها الفصيحة الصريحة الأولى أن يلحق بها ويستفهم بلسانه الفصيح الصريح عما يمكن أن يفعله من أجلها؟ لم تترك له قدماه الصارمتان المتقدّمتان به إلى الأمام محلاًًّ للإجابة، فقد وصلتا إلى آخر الرصيف، وانعطفتا به نحو اليمين بحزم. كانت السماء هنا أيضاً صافية وزرقاء. لم يكن عبد الهادي هنا أيضاً طارئاً على أثاث الشارع الجديد من أشجار وطيور وعابرين ومنازل. نظر إلى ساعته وعرف أنه وصل اليوم إلى هذا المكان بعد دقيقة من المعتاد- الدقيقة اللعينة نفسها التي تأخرها عن الثامنة وعشر دقائق. لماذا لا يتحرر من هذه الدقيقة-الفخ، فلا يقع فريسةً لها مرة أخرى؟ لماذا لا يركضها الآن؟ انطلق يجري فوراً، وصار يستقبل الأشياء التي كان يراها في هذا الشارع عادةً، إنما بعد تسع وخمسين ثانية، ثم صار يستقبلها بعد خمس وخمسين ثانية، ثم بعد أربعين ثانية، ثم بعد ثلاثين ثانية، ثم بعد عشر ثوان، ثم بعد ثانيتين. ثم أراد عبد الهادي أن يسلّف نفسه هامشاً إضافياً من الوقت، فتابع ركضه وصار يستقبل الأشياء في الشارع قبل خمس ثوان من المعتاد، ثم قبل عشر ثوان، ثم قبل عشرين ثانية. ثم انعطف راكضاً إلى اليمين في دخلةٍ تأخذه إلى ساحة النجمة، وهو يجمّع المزيد من الثواني الاحتياطية حتى إذا بلغت دقيقة كاملة توقف عن الجري، وتابعت قدماه الصارمتان المشية الثابتة المعهودة. سوف يحتاج الآن إلى ما يقرب من دقيقتين لكي يصل إلى موقف الباص في الساحة. هنا سوف ينفق الدقيقة الفائضة التي في حوزته على إصلاح هندامه. كما يستطيع في هذه الأثناء أن يستدري بخارطة العاصمة القديمة الملصقة على ظهر الموقف الزجاجيّ في انتظار اللحظة المثالية المناسبة عندما سينبق كلب الشيان لو من باب البناية في عمق شارع العائدي المكشوف أمامه. دائماً يظهر الكلب الضخم في مثل هذا الوقت، ثم يقطع الشارع مسرعاً إلى سور دار السلام حيث يفرّغ بحماسةِ سجين الدفعةَ الأولى من مثانته المحتقنة ريثما تخرج صاحبته الجميلة. أحياناً تضطر لانتظاره وهي تحدب عليه من بعيد بنظرة امرأة وحيدة في مقتبل العمر. لم يتمكّن عبد الهادي، في واقع الأمر، من تحديد ما إذا كانت وحيدة فعلاً. كل ما توصّل إليه مؤخراً بهذا الشأن هو أن في بنصر يدها اليسرى خاتمين متلاصقين وليس خاتماً واحداً كما توهم من قبل. على كل حال هو لن يتزوجها. وإذا كانت متزوجة فإن زوجها لا يمكن أن ينافسه عليها، على الأقل لأنه لا يشعر بأثره لا في بيجامتها الرياضية التي تظهر بها باستمرار، ولا في طريقتها بالمشي، ولا في الأشياء التي تسترعي اهتمامها في الشارع. من كان ينافسه عليها حقاً وفعلاً وبلا توقف هو كلبها المخيف. وما جعل عبد الهادي يتردد حتى الآن في اتخاذ أيّ إجراء عدائي صريح تجاه غريمه هذا ليس فقط لأنه برقبة عجل ورشاقة فهد وارتفاع حمار يافع، بل ولأنه، فوق ذلك، حيوان فطين إلى درجة أنه يستثني مدخل المخفر من المداخل المجاورة التي يقسّط بوله مقابلها على السور الطويل، فهو يدرك بغريزة غوريلا أن من يتردد إلى هذا المبنى أناس مباشرون وربما أشدّاء. أضف، وهذا الأهم، أن ما جعل عبد الهادي يكظم عداءه تجاه هذه الآفة هو أنه يخاف من أي كلب في الدنيا حتى ولو كان جرو بودول، فما بالك بشيان لو في ميعة صباه. لكن ذلك لم يمنعه قط من أن يقبل معه حتى اللحظة نزالاً مبطناً كريهاً مقززاً ومفزعاً رغم كل قوّته التي جمعها طيلة حياته. ما يعرفه عبد الهادي جيداً هو أنه سوف يظل يمرّ بهذا الشارع في مثل هذا الوقت من كل صباح حتى ولو مات من الرعب في كل مرة. والمشكلة الآن أصبحت أعقد من مرورٍ باسلٍ بجانب حيوان مفترس من هذا الطراز، فقد أصبحت المرأة الجميلة لا تبخل، في الظاهر، على عبد الهادي بما يطمئن باله بأنه في نهاية المطاف قد أصبح أقرب ما يكون إلى أحد معارفها. كأنها تخلت عن ادّعائها في الأسابيع الأولى من لقاءاتهما الصباحية المنتظمة بأنها حين تلتفت إليه إنما تلتفت لتلاحظ الأشياء التي تحدث وراءه. كأنها الآن بدأت تنظر إليه دون سواه بعينين هائمتين في أغلب الظن، وربما بشفتين منفرجتين عن لهفة صريحة وغير قابلة لأكثر من تأويل واحد حار وواعد. وقد أصبح عبد الهادي يعتقد أن الوقت قد حان ليكلّل إشاراتها الحميمة إليه بخطوته الفصل بأن يقترب منها، رغم كل شيء، ويرمي عليها الصباح. فكيف يفعل ذلك دون أن يمزقه الكلب؟؟ إن خطوة من هذا النوع سوف يعتبرها الكلب تحدياً صريحاً لطبيعة عمله، ما سوف يورّط عبد الهادي باحتكاك مباشر معه قد يتحول فجأة إلى صدام عنيف لن يخرج منه إلا خاسراً بالتأكيد. وقد صارت هذه الخطوة الفاصلة تظهر له بلبوس قدر محتوم، فرأى، قبل أن تتطور الأحداث على هذا النحو، ضرورة أن يتسلح بموس كبّاس تحديداً. من المعيب فعلاً أن تسدّد مسدساً في وجه كلب وتحت أنظار امرأة جميلة. وطبعاً سوف يشهر عبد الهادي المسدس، إن تسلح به، قبل عشرين خطوة من خطوته الفاصلة، ما سوف يزيد من سخرية المشهد. الموس الكباس حصراً سيكون بمثابة ضرورة مفاجِئة وقصوى وخافتة، ولن يكون ثمة معنى لاستخدامه قبل الالتحام مع الخصم. وبما أن هذا الخصم لن يصاب على الأغلب بمرض فتّاك يفتك به في القريب المنظور، فقد بدأ جسد عبد الهادي يقشعرّ منذ أسبوعين كلما خطر له هذا الالتحام المتوقع. ثم خشي أن يعمل شراء الموس على تقريب ساعة الصفر، ولذلك لم يجرؤ على شرائه حتى الآن. وهكذا صار يقتل الكلب في سريره، فمنذ أسبوعين لا يكلّ من قتله يومياً في مناماته. وفي كل المرات يكون الكلب ميتاً قبل أن يقتله عبد الهادي- يرى نفسه في البداية وراء خارطة العاصمة وهو يراقب شارع العائدي، كما يفعل الآن، ثم لا ينبق الكلب أولاً من باب البناية، بل المرأة الجميلة وهي تسحله ميّتاً وراءها على الأرض بحبل متين، تشحطه بمزاج طيب وهي تبتسم من بعيد كأنها تتباهى بجثته الهامدة. وهنا ينطلق عبد الهادي نحوها، وعندما يصبح على مقربة منها يقرر الآن فقط أن يقوم بخطوته الفاصلة، فيهجم على الكلب المتسطّح وراءها ويطعنه في فخذه بموسه الكباس الذي لم يجرؤ على شرائه، ثم يلتفت إليها ويرمي عليها الصباح. ولأن المرأة، عندئذٍ فقط، لا ترى طائلاً من جرّ كلب ميت ومقتول في فخذه فوق ذلك، فإنها ترمي من يدها الحبل المتين فوق جثته، فيجفل عبد الهادي ويستيقظ. وفي برهة خاطفة تمنى عبد الهادي، الكامن الآن وراء خارطة العاصمة في ساحة النجمة، لو أنه في سريره يحلم هذه المرة أيضاً. لكنْ سرعان ما فقدت هذه الأمنية معناها، فقد نبق في هذه اللحظات مثل شمس لا تدحض كلبُها القوي الرشيق العالي من باب البناية. وكان على عبد الهادي أن يخرج الآن من كمينه على وجه السرعة ليلاقيه. خرج من وراء موقف الباص مثل مدفوع في ظهره باتجاه شارع العائدي. وكان لا بد، في كل الأحوال، من أملٍ ما، استمدّه مباشرةً من ظهورها المتلكّئ عند باب البناية، ثم من مشيتها الواثقة باتجاهه، فهي بالنهاية صاحبة الكلب ولن يعتدي عليها مهما منعته من الاعتداء على الآخرين بلا سبب. ومادام عبد الهادي موضع اهتمامها الصباحي، ومادام لا يحلم الآن، فسوف تجنّبه، هي دون غيرها، من التحام واقعي غير متكافئ مع كلبها المسلّح بطبيعته. للأسف لا ينمو للإنسان في مثل هذه اللحظات خيزرانةٌ قصيرة بين أصابع يده اليمنى. خيزرانة غليظة كان عبد الهادي سيهوي بها بين عيني الكلب في اللحظة المناسبة. ولكن ما حاجته إليها إذا كان اليوم لن يلتحم معه، إنه ببساطة لن ُيقدم بعد قليل على خطوته الفاصلة، ومن ثم لن يقترب منها ولن يرمي عليها الصباح كما لابد سيحدث ذات يوم. وإذا اقتضى الأمر فسوف يتجاهلها مادامت تتكالب في صدره هذه الهواجس. سوف يمر اليوم بالذات بجانبها كما لو أنها لم تخصه قط بإشاراتها، إنما مرفوع الرأس، وربما عاقداً حاجبيه على فكرة متعالية وسخيفة. المهم أن يفهم الكلب أن عبد الهادي لن يتنازل عن مروره بجانب صاحبته. وسوف تفهم، هي، مادامت جميلة إلى هذا الحد، أن المسألة مسألة توقيت لا أكثر، لأن عبد الهادي لن يسمح للكلب بأن يحدّد هو ساعة الصفر لمعركتهما القادمة، ومن ثم لن يسمح له بأن يجرّه جرّاً إليها قبل موعدها الذي يحتفظ لنفسه بحق تحديده هو الإنسان الواعي مرهف الأحاسيس ونبيل المشاعر. كل ما عليه الآن هو أن لا يسلّم الكلب مستمسكاً واحداً يؤلّبه عليه في التوقيت الخطأ. حافظ عبد الهادي على خط سيره المعهود معيّراً سرعتَه على أفضل لحظة للتقاطع مع المرأة وكلبها بحيث تقع أمام محرس المخفر. لكنّ ما حدث بعد قليل أبطل حساباته كلّها، فقد بطّأت المرأة الجميلة، فجأةً وعلى غير عادتها، من وتيرة تقدمها إلى درجة لافتة. وهنا وجد عبد الهادي نفسه يلقف من تباطئها المقصود معنى جريئاً وحميماً صوّبته إليه من بعيد- إنها، لابدّ، تستدرجه إليها، ملّت من انتظار خطوته الفاصلة فقررت أن تعفيه منها وتقوم بها، هي المرأة، بنفسها. ولأنها لا تريد أن تشهّد حارس المخفر على خطوةٍ لها خصوصيّتها الشديدة آثرت أن تقصّر خطاها بانتظار عبد الهادي. بأي وجه، إذاً، سيظل متردداً بعد الآن؟ وكيف يسمح لنفسه أن يُخيّب امرأة إلى هذا الحد؟ أن يوصلها بمخاوفه الغبية إلى حد المغامرة بخفر أنوثتها؟ كيف يدفعها بيديه، وبهذه الصورة المهينة، إلى انتحال خطوةٍ فاصلة كان على رجل مثله أن يتخذها؟ لكنّ الوقت، مع ذلك، لم يفته تماماً لينقذ كرامتها. ما زال أمامه ما يقرب من خمس خطوات طويلة وكافية ليقرّر ما إذا كان سيتجاهل نداءها أو أنه سيسبقها إلى خطوته الفاصلة التي فاحت رائحتها منذ أسبوعين. ثم وجد عبد الهادي نفسه يندفع نحوها مباشرةً منتشياً بتدفق خطاه. لم يوقف تهوّرَه خروجُ الحارس من المحرس. تجاوزه عبد الهادي بخفّة مريبة، فراقبه ذاك حتى آخر حجر في المبنى الذي يحرسه، ثم كاد يعود إلى محرسه لولا أنه لمح، على الأغلب، المرأة الجميلة المتمهّلة- ربما كان الحارس نفسه ينتظر مرورها في مثل هذا الوقت أيضاً. وإذ أصبح مفهوماً الآن أن عبد الهادي إنما يستهدف المرأة الجميلة بجموحه الظاهر زام عليه كلبُها من بعيد بنبحةٍ خشنة قوية ومبتورة. لم يأبه عبد الهادي، فاندفع الكلب نحوه، وبقفزتين اثنتين وصل إلى منتصف المسافة إليه.

- تعال حبيبي! رفعت المرأة الجميلة صوتها، فتسمّر الكلب في مكانه - تعال حبيبي! كررتها بصوت أعلى حين تقدم الكلب مرة أخرى، فتسمّر من جديد. ولكن اندفاع عبد الهادي ولهاثه المسموع أخرجا الكلب عن طوره وقد أصبح في مدى قفزة واحدة فقط. سمع عبد الهادي تلقيم مسدس من ورائه فالتفت. كان الكلب في هذه اللحظة في الهواء منقضّاً عليه بينما كان الحارس يسدّد مسدسه على الكلب من مسافة قريبة- لعله كان، هو الآخر، ينتظر هذه الفرصة الثمينة ليتخلّص منه. ثم في اللحظة الحرجة الأخيرة وثب عبد الهادي باتجاه يد الحارس ورفعها نحو السماء بلكمةٍ قوية وسريعة. انطلقت الرصاصة الآن فأخطأت الكلب، بينما أخطأ الكلبُ عبدَ الهادي، ثم جمّده الانفجار لثانيةٍ قبل أن ينبح وتصل إلى رقبته المشرئبة يدُ صاحبته الجميلة.

- تعال حبيبي!

أراد عبد الهادي أن يرمي عليها الصباح أخيراً، لكنها ابتسمت ابتسامة قليلة جداً، وانزلقت بكلبها بسرعة من بينه وبين الحارس كأن شيئاً لم يكن.

- كان روّحك. قال الحارس.

لم يعلّق عبد الهادي بشيء، تركه واقفاً بعيداً عن محرسه، وتابع طريقه إلى أول منعطف نحو اليسار ليعود إلى ساحة النجمة عبر الشارع الموازي. كان واثقاً من أنها عنته هو بابتسامتها وليس الحارس، لأن من غير المعقول أن تبتسم لرجل حاول قتل كلبها الحبيب وتتجاهل عبد الهادي الذي خلّصه من موت محقق. مع ذلك كان حزيناً بعض الشيء، ربما بسبب قلة الابتسامة، وربما بسبب فنجان قهوته الأول الذي لم يشربه بعد، وربما بسبب الغبار الذي لاحظه على بنطلونه عند ركبتيه، فمال ونفض شيئاً منه على عجل. وحين وصل إلى ساحة النجمة من جديد كان موقف الباص قد تجرّد كالعادة من أي معنى خاص بالنسبة إليه في مثل هذا الوقت، فلم يلتفت إليه. تابع طريقه إلى شارع رشدي الشمعة، وإذ بلغ نهايته قطع سيل السيارات إلى رصيف الفورسيزينز، ومن هناك صعد إلى الجسر. ثم لم يستغرق وصوله إلى البرامكة من الوقت أكثر من المعتاد. الآن سوف يقضي بهدوء دقيقةً أو دقيقتين عند كشك الجرائد المقابل لجامع الرازي. سوف يشتري أول جريدتين تقعان تحت يده، وريثما يعيد له صاحب الكشك كمالة النقود ستنزل الفتاة ذات الشعر الأحمر من ميكروباص قطنا. سيكون جاهزاً عندما تمرّ بجانبه وتجتازه دون أن تلحظه كما لو أنه جزء ثابت من كشك الجرائد. ثم ستقطع الشارع نحو مشفى التوليد بخطى مطمئنات متشابهات دون أن تلتفت إلى الوراء مثلاً لتجد عبد الهادي في أثرها. سوف تنزل بمحاذاة سياج المشفى ثم سياج الجامعة إلى أول الجسر حيث ستنتظر سرفيس باب توما. هناك لن يقف عبد الهادي إلى جوارها تماماً، سوف يسمح لأشخاص آخرين أن يجاوروها لكي لا تخاف من فكرة تعقبها إن كانت قد لاحظته في المرات السابقات. لكنه سوف يفيد من مهاراته العالية التي اكتسبها مع الأيام في أن يصعد إلى الميكروباص بعدها مباشرة لكي يجلس في مواجهتها على مقعد معاكس. سوف ينظر فوراً إلى الشارع عبر النافذة ليمنح نفسه فرصة يائسة جديدة في أن تنظر إلى الأمام فتراه. سوف يكون بوجه يومض من تحت رزانته بحزن عميق قد يعجبها. وعندما سيلتفت نحوها ستكون عيناها معلّقتين طبعاً على قفل حقيبتها المستلقية دائماً على ركبتيها. سوف يراهن على كبسة فرام قوية ترفع له وجهها ليتأكّد مرة نادرة أخرى من لون عينيها العسليتين ومن سلامة كل النمش العزيز على وجهها، وعندما ستعود بعينيها إلى قفل حقيبتها سوف يعود، هو أيضاً، إلى أصابعها الحليبية العارية من الخواتم حتى الآن. ولن ييأس تماماً من إمساك اللحظة التي تنظر فيها إلى الأمام إلاّ عندما سيصل الميكروباص إلى ساحة السبع بحرات. سوف يعترف عندئذٍ بأنها، في هذا الصباح أيضاً، مازالت تخلص الحب لذلك الشاب الذي تتجاهله من أجله منذ رحلتهما المشتركة الأولى في سرفيس باب توما. وسيجد أن رجلاً طبيعياً مثله يقترب بلا هوادة من بلوغ السابعة والثلاثين ينبغي أن يغتبط لفتاة تجاوزت لتوها أعوامها العشرين تربطها قصة حب نقية إلى شاب من جيلها حتماً، وهو دمث حتماً، جميل حتماً، شغوف بها، ذو سمعة حسنة، وجدير بها حتماً، حتماً. وإذا كان هذا الفتى قد أحجم طوال هذا الدهر عن طلب يدها فلابد من مشكلة حالت حتى الآن دون ذلك. أبوها موافق على الأغلب لأنه لن يجد صهراً أفضل منه مادامت ابنته الملاك تخلص له كل هذا الإخلاص. الولد، إذاً، ينتظر تخرجه من الجامعة، أو أنه فقير وأبيّ ولا يريد أن يظهر أمام أهلها الميسورين بمظهر الدمية التي أحبتها ابنتهم المدللة، فوافقوا على شرائها لها بلا أيّ اعتراض. لكنّ عبد الهادي قادر، في النهاية، على مساعدته من وراء ظهرها، ولن يعدم الوسيلة في تحسين ظروفه مهما كانت سيئة. ولكي يساعده ينبغي عليه، طبعاً، أن يعرف من هو وأين يعيش. سوف يذهب معه إلى بيت أهلها، وبيده سوف يلبّسها من أجله خاتم الخطبة. وطبعاً لن يذكّرها عبد الهادي بنفسه هناك. لكنها هناك لن تستطيع تجاهله. سوف تنظر هذه المرة إلى الأمام وسوف تراه بحذافيره فهو ،على الأقل، سيكون سعيداً بخطبتها من فتى أحلامها الذي ساقه إليها بيديه. وفي ليلة العرس سيحجز عبد الهادي لهما أسبوع عسل على شاطئ البحر، ثم على باب السيارة التي ستأخذهما إلى هناك سوف يقبّل العريس من جبينه، وسوف يجرؤ آنذاك فقط على لمس أصابعها الحليبية وتقبيلها. وبينما سيشرب القهوة مع أهلها بعد رحيلهما سيصل طبعاً خبر الحادث الأليم الذي ستتعرض له سيارتهما المسرعة على أبواب العاصمة. وفي الحال سيتجلّل عبد الهادي بالعار الذي انتظره على أحرّ من الجمر لأن العروس سوف تكون الناجية الوحيدة. ولأنه لن يكون قادراً آنذاك على تمويه سعادته المعيبة بنجاتها وحدها سوف يغادر بيت أهلها على وجه السرعة عندما ستتهيأ، اليوم أيضاً، للنزول من الميكروباص في موقف السادات. سوف تنزل كعادتها كما لو أن المقعد الذي يقابلها فارغ تماماً. وكالعادة أيضاً لن ينزل وراءها، سوف يتابع احتقار أنانيّته التي لن يتخلّى عنها في تقويض حبها حتى نهاية الخط في ساحة باب توما، حيث سينزل ويتوجّه نحو القيمرية. وكذلك كان، وكما توقع تماماً. في القيمرية كان لديه متّسع من الوقت لأن يمضي على هينته في طريقه إلى الكافتيريا التي يتناول فيها عادة فنجان قهوته الثاني. وبما أنه لم يشرب اليوم فنجانه الأول فقد قرر أن يطلب فنجاناً مزدوجاً. غالباً ما تكون الكافتيريا خالية في مثل هذه الساعة، لكن شخصاً استحلى، اليوم، من بين كل الطاولات الشاغرة طاولتَه المفضلة وسبقه إليها. كان بلحية مُحفّرة وعينين حمراوين. ربما كان من الرسامين الذين يصطادون زواراً مبكرين إلى رسومهم المعروضة في الطابق الثاني من الكافتيريا. أعطى عبد الهادي ظهره لصاحب اللّحية وجلس إلى طاولة أخرى. انتبه الآن فقط إلى أن الصحيفتين اللتين اشتراهما من البرامكة كانتا سوريّتين- إذاً يستطيع أن يكتفي بواحدة. جاء الغرسون فطلب منه فنجانه المزدوج وأهداه الجريدة الزائدة. كانت القهوة لذيذة إلى درجة أنه لم يشعر بأن المقال الذي بدأ بقراءته كان عن الإصلاح. شعر بذلك فقط عندما ظهر أمامه صاحب اللّحية المحفّرة مستأذناً الجلوس إلى طاولته لِلَحظة. استغرب عبد الهادي العمودين الكاملين اللذين قرأهما من المقال دون أن يشعر، لكنه سمح، بنصف ابتسامة، لصاحب اللّحية أن يجلس. ثم قبل أن يبرر الرجل مجيئه أشار له عبد الهادي بإصبعه إلى النقطة التي وصل إليها من المقال، وإلى أنه يستطيع أن يكمله عنه إذا شاء. ثم نهض في الحال، حمل فنجان قهوته وذهب إلى طاولته المفضلة. انكبّ صاحب اللّحية على الجريدة، بينما تابع عبد الهادي، هناك، فنجانه بهناءة أكبر. كان الوقت المتبقي لديه يتّسع لفنجان سريع ثالث، لكن صاحب اللّحية المُحفّرة صار يحوص وراء المقال، وقد يهبّ نحوه في أي لحظة ليسمعه كلامه المحبوس في فمه حتى الآن. وجد عبد الهادي أن ينفق الوقت القليل الفائض في الطريق إلى المشفى الفرنسي. ترك الحساب على الطاولة، وبينما كان متوجهاً نحو الباب لاحظ أن صاحب اللّحية قد بدأ بطيّ الجريدة، فسارع بالخروج قبل أن يبرهن ذاك على نزاهته في إعادة الجرائد إلى أصحابها. سوف يكون على مفرق المشفى الفرنسي في العاشرة والنصف، وربما قبل ذلك بقليل. في هذا الوقت تقريباً تخرج من الباب الخلفي للمشفى، أو من باب آخر في نفس الزقاق، امرأةٌ سمينة جداً، ودائماً بحقيبة قماشية كبيرة محشوة بكتل غامضة كثيرة لم تسمح قط بإغلاقها. وقد دأبت المرأة باستمرار على تغليف هذه الأشياء المجعبرة بمشمّعة مزهّرة قديمة من تلك التي تغطي طاولات مطاعم الكباب في باب الفرج. اعتاد عبد الهادي أن ينتظرها حتى تقطع إشارة المرور ليقترب منها ويتناول حقيبتها المنتفخة الثقيلة، ثم يتقدم إلى الأمام بخطوات متمهلة محسوبة فلا تنقطع يداها الكتانيّتان، ودائماً باتجاه ساحة باب توما التي غادرها قبل قليل. كانت المرأة تحرص على أن تتأخر عنه بضع خطوات، ربما لأنها تظن أنه يخجل من المشي بجوارها، وتحاول قدر الإمكان أن تكون مجرد امرأة سمينة جداً تمشي في الشارع وكأن الحقيبة التي يحملها عبد الهادي لا تمتّ إليها بأيّ صلة. ومن ناحيته لم يحاول عبد الهادي قط أن يعرف شيئاً عن محتويات الحقيبة، أو عن مصدرها الذي لا ينضب. كان كل ما يهمه هو أن يحملها كل يوم، وأن صاحبتها لا تتردد بالسماح له بذلك. ثم اعتقد مع الأيام أن هذه المرأة ترفض بحزم تسليمَ حقيبتها لأي شخص آخر في الشارع مهما أبدى استعداده لحملها. وقد أَعجَب عبد الهادي دائماً هذا الاطمئنان إلى أنها لن تستبدله بأحد أياً كان. وكان يحلو له أن يرى أنهم، هو وهي والحقيبة، يتهادون على الرصيف بتناغم كبير إلى درجة أن الناس في الشارع لا يشعرون بمرورهم، كأنهم غائبون لمجرد أن كلاًّ منهم يحتاج إلى كلّ منهم بالذات وبالضرورة وعلى وجه الحصر. وحين يبلغ الساحة كان عبد الهادي ينحرف بحمله إلى اليسار، ويتابع مشيته الحذرة حتى يصل إلى باب شرقي. هناك وتحت القنطرة الحجرية العالية كان يهبط بالحقيبة على الأرض. ينتظر حتى تلحق به المرأة التي تميل على جانبيها لتساعد نفسها في قلع رجليها العظيمتين من الأرض في كل خطوة. كانت تصل لاهثة عرقانة وزائغة النظرات، تجلس على حقيبتها فتغيّبها تحتها، ثم تنظر إلى الأرض كأيسر مكان لتعليق العينين ريثما ينسحب عبد الهادي. إلا أنّ عبد الهادي قرر فجأةً في هذا الصباح أن يعتذر غداً من المرأة البدينة عن عدم تمكّنه من انتظارها اليوم حتى العاشرة والنصف- كان قد وصل إلى أمام باب المشفى الفرنسي قبل دقائق من موعده معها عندما سقطت كرة حمراء من يد طفل في نافذة مطلّة على الشارع. كرجت الكرة من جانبه على الرصيف فتبعها حتى هدّتْ أمام جام كتب معروضة. مال عبد الهادي ليلتقطها، فظهر أمامه أبو القاسم الشابّي من وراء الزجاج في ديوان سميك. التقط الكرة ودخل المكتبة. اشترى الديوان، وعاد راكضاً إلى الولد. رمى إليه بالكرة، والتفت إلى الشارع. أوقف سيارة تكسي وطلب من السائق أن يأخذه إلى فندق الاستقلال في بستان كليب.

* * *

V

كان باب الفندق بمصراعين من خشب صقيل وكرتين نحاسيّتين ملأ عبد الهادي كفّه بواحدة منهما، ودفعها. انشقّ الباب، وسبقته إلى الفتحة يدُهُ الثانية وهي ترفع أمامه ديوان أبي القاسم الشابّي. كانت أزهار قد استيقظت منذ لحظات، لكنها لم تنهض من فراشها، ظلّت مستسلمةً إلى يقظةِ حواسّها التامة وشعورِها الفريد العارم بالراحة بعد نومٍ عميقٍ خالٍ من منغّصات الكحول الزائد وكوابيسه المعتادة. وما ضاعف، الآن، من غبطتها إحساسُها اللذيذ، الذي لم تألفه في مثل الأوقات، بنظافة جسدها، فقد مكّنتها قواها في الصباح الباكر، كما لا تفعل عادةً بعد عودتها من الكباريه، أن تستحمّ، مثل سيّدةٍ تمارس سلطتها الكاملة على أعضائها وعلى ما يحيط بها في غرفتها الخاصة، وأن تلبس بيجامتها، وأن تستمتع أخيراً، قبل أن تنام، بالنظر إلى نفسها طويلاً في المرآة، وهي تتنهّد، كأنما، من سعادةٍ طاغيةٍ غامضة. كان موظف الاستقبال، في هذه الأثناء، وراء حاجزه الخشبي يفكّر وينتظر سبباً آخر لمزاجه العكر غير لطّاشة الذباب- لسْعَتُها اليوم كانت أقوى من المعتاد. دائماً كان يشعر بأنه الرجل المناسب في المكان المناسب كلما اصطاد ابن المعلّم ذبابته الدورية على خدّه اللحيم الواسع. وهو، كموظف استقبال حريصٍ على رواق سيّده ودوام رضاه، لا يألو جهداً في توفير كل الظروف الملائمة لممارسته هذه النزوةَ الصباحية المحروفة- يستنظف له أمرن اللطّاشات الموجودة، ويفاجئه أحياناً بواحدة جديدة يشتريها له خصيصاً بعد أن يتأكد بنفسه من صلاحيتها على خدود لحيمة واسعة في الهواء، ثم يضعها في متناول ملاحظته المباشرة، فلا يكلفه اختراع ذبابته وقتلها أكثر من العجالة التي يمر بها عادةً من أمام الحاجز الخشبي. هل عكّر مزاجَه أن لسعة اللطّاشة اليوم بالذات كانت بقوة كأس إضافية من الويسكي الفاخر بينما لن ينال في الواقع قطرة إضافيّة واحدة؟ أبداً، لأنه سيكون قليل ذمّة وعديم وجدان إذا فاضل بين كرم ابن المعلّم ونزواته، فهو يجود عليه بكأس مترعة وحيدة من زجاجته الخاصة مع وصول الفنانات المترنّحات العائدات من الكباريه في آخر الليل ليس لأنه يستعمل خدّه في الصباح، بل لأنه قبضاي وإبن ناس. ما الذي عكّر مزاجه إذاً؟؟ الصالة من حوله مرتّبة، والليلة البارحة كانت نظيفة من الزيارات الودّية التي تواظب عليها الشرطة الأخلاقية عادةً. كما لم تُسجَّل حالة تسمم كحولي واحدة لا بين الفنانات ولا في صفوف الزبائن في الطابق الثاني، فلم يكن ثمة داعٍ لا لتخفيق الممرضين المناوبين ولا لعواء سيارات الاسعاف في آخر الليل. والأصوات عموماً تلاشت تماماً في الخامسة صباحاً عندما هجع الجميع في غرفهم كالقتلى. وهنا انقطعت فجأةً هواجس موظف الاستقبال الممضّة هذه بالكتاب السميك الذي ظهر الآن من فتحة باب الفندق، فجعل يدقّق بظهور صاحبه. كان عبد الهادي قد دخل مباشرةً بعد ديوان أبي القاسم الشابّي، وفي طريقه إلى الحاجز الخشبي جعل يقسّم، برنينِ حذائه المنتظم على البلاط، السكونَ في الصالة الواسعة إلى أجزاء متساوية، ما أكسب هيئته حزماً من نوع خاص. حاول موظف الاستقبال أن يحزره قبل أن يصل إليه، فلاحظ على وجه السرعة أن بذلته السوداء ما تزال تشي بفخامتها رغم بعض الغبار على ركبتيها، وأنّ سحنته، مهما بدت غريبةً، يمكن تمييزها بسهولة عن تلك التي يدخل بها الأشقياء المتطفّلون أحياناً على طمأنينة الفندق في مثل هذا الوقت.

- نعم؟؟ بادر موظف الاستقبال.

- أزهار. قال عبد الهادي.

وهنا، ومن حيث لم يحتسب موظف الاستقبال، انحلّ فجأةً في رأسه لغزُ مزاجه العكر- بدأت القصة في الصباح الباكر. وكان يمكن أن لا تبدأ لولا استثناءٌ صغير حَدَثَ معه ولم يتنبّه لتبعاته إلا بدخول هذا الرجل وكتابه:

كعادته عندما تشير ساعة الصالة إلى الخامسة والنصف صباحاً ينهض موظّف الاستقبال من وراء حاجزه الخشبي، ويقفل الباب الخارجي من الداخل، ثم يصعد إلى الطابق الأول. يتأكد هناك من همود الوهس والحِسّ والنَفَس وراء الأبواب المغلقة، ثم يقترب من الباب الذي يتركه ابن المعلّم نصف مفتوح على الكوريدور الطويل لغرف الفنانات. يدخل دونما حذر بصفته شخصاً مخوّلاً بالدخول بلا إذن مسبق كما لو أنه، بوجوده الدوريّ هنا، يتمّم مكوّنات المشهد الذي يتكرر دائماً في مثل هذا الوقت. الستائر السميكة مسدلة. المصباح مضاء. شاشة التلفزيون تعرض بصوت ضعيف فيلماً عربياً على الأغلب. ابن المعلم مكبوب على وجهه فوق السرير بألبسة خروجه الكاملة. زجاجة الويسكي الفاخر شبه فارغة. الطعام على حاله تقريباً. بعض فواكه مقشرة وأخرى معضوضة. أحياناً يلتقط موظف الاستقبال تفاحة ويأكلها بقشرها فيما يتحقق من دوران المفتاح الصغير في قفل الخزانة، ومن أن النجار قد نسي مرة أخرى تصليح مسكة الجارور الثاني في الكومودينو، ومن أن الأوان قد حان فعلاً لتغيير ورق الجدران. ثم يمدّ يده وينتزع ورقة من الروزنامة على الحائط قرب السرير، ويذهب بها إلى الحمام ليقرأ على ظهرها حكمة اليوم الفائت قبل أن يرسلها إلى سلة المهملات هناك. ينظر، بعد ذلك، إلى المرآة الصغيرة فوق المغسلة، فيستخشن ذقنه كالعادة. يشلح جاكيته وفراشته الكرزيين، ثم قميصه الأبيض. وبينما يمضغ لحناً غريباً بصوت خفيض جداً ينهمك بحلاقة ذقنه بماكينة ابن المعلّم، ثم ببشكيره يجفف وجهه، وبفرشاته الرطبة أيضاً ينظف أسنانه جيداً. يستعيد، بعد ذلك، هندامه السابق، ثم يفرك راحتيه برشّتين من الكولونيا المفضّلة لدى ابن المعلم، يمسح خديه الواسعين بها، وينقل الرائحة الشذيّة برؤوس أصابعه إلى شاربيه المنبّلين قبل أن يطفئ النور ويخرج من الحمام. وفي منتصف الغرفة يسعل سعلة قصيرة على سبيل تجريب الهيبة، وهو يلقي النظرة الأخيرة على طلعته في مرآة الخزانة. يرضى عن نفسه أخيراً، فيترك كل شيء على ما هو عليه، ويخرج إلى الكوريدور كما لو كان ابن المعلّم تاركاً وراءه الباب نصف مفتوح. وكما لو كان ابن المعلم يتوجه أيضاً إلى غرفة أزهار. ومع أن بابها يكون مفتوحاً في هذا الوقت لأنها لا تكون، عادةً، بكامل وعيها عندما يُعيدونها من الكباريه، إلاّ أن موظف الاستقبال يتسلّح دائماً بالمفتاح الاحتياطي، فهو، بطبيعته، لا يحب المفاجآت. ورغم إدراكه أنه مقبل على امرأة في غيبوبة كافية فإنه لا يعرف من أين يتلبّسه الاضطراب على بابها، ويبدو كمن يستعدّ للتراجع لولا يده التي تنفصل عنه في اللحظة المناسبة وتدفع الباب أمامه كأنها يد غيره. ثم لا يتمكّن من استعادة توازنه إلا برؤية أزهار عاريةً وجامدةً في الوضعيّة التي تركها عليها ابن المعلم قبل ساعة على الأقل من زيارته. أحياناً تكون مبطوحة على وجهها فوق السجادة- يداها مسبلتان على جنبيها، بطنها تستند إلى كرسي مكياجها الصغير الملبّس بالجوخ، وفخذاها متباعدتان عن آلة أنوثتها الكاملة. ولا يكون عليه، عندئذٍ، إلا أن ينزل على ركبتيه وراءها ويباشر عمله، تماماً كما لو كان ابن المعلّم. وأحياناً تكون مستلقية على ظهرها فوق السرير- كعباها ملتصقتان بأليتيها مثل امرأة خالية من العظام، رجلاها منفرجتان، ومؤخرتها مستقرّة على مخدة ريش صغيرة. ويكون عليه هنا أن يجثو قدّامها ويميل فوقها، تماماً كما جثا قبله ابن المعلم ومال. وأحياناً لا يجدها في الغرفة، بل في الحمام، وقد انكبّ جذعها داخل البانيو وتفرّقت ساقاها على سيراميك الأرضيّة، فيثني ركبتيه بالمقدار المناسب ويلتصق بها متشبّثاً بخلاّط المغسلة المجاورة تماماً كما التصق ابن المعلم قبله وتشبّث. وإذا حدث ولاحظ خيط دم نازلاً إلى رقبتها فإنه يتفهّمه على الفور، ويقدّر أنها لم تشرب اليوم ما يكفي من الويسكي في الكباريه فشغّلت لسانها البذيء بينما لا يحب ابن المعلم الصوت العالي، ما اضطرّه، على الأغلب، إلى أن يدقّ رأسها بشيء صلب أعاد إليها سلامها الكلّي تحته. وابن المعلم حريص، في كل الأحوال، على تحكيم ضرْبتِهِ، إذا احتاج الأمر، في المكان الذي يغطّيه شعرها الكثيف فقط، فلا يترك أثراً على وجهها لكي لا يزعل أبوه- لن تستطيع بعين متورّمة وجبين مفتوح أن تفتح من قناني الويسكي على طاولات الزبائن أضعاف ما تفتحه غيرها من البنات. موظف الاستقبال نفسه لا يحب الصوت العالي تماماً مثل ابن المعلم، ولذلك لا يستثني أن يخبط رأسها بخلاّط البانيو أو ظهر السرير أو بلاط الغرفة، لكنه لم يستلمها حتى الآن من ابن المعلم في حال استدعت هذه الضرورة. أما شتائمها الخافتة المتقطّعة التي تطفو فوق شفتيها مع فقاعات زبدها من حين إلى آخر فلا تثير حفيظته على الإطلاق، بل يستمرئها في حقيقة الأمر. فهو حين يلجها يستمتع بتضادٍّ لا يثمّنه عالياً إلا من ينام مع شابّة ميتة منذ فترة قصيرة جداً، أو مع أزهار في مثل هذا الوقت. إن جسدها العاري والمكشوف حتى الآن منذ الدقائق الأولى لدخول ابن المعلّم عليها يتحوّل إلى كيان من برودة حليبية مزرقّة، فلا تملّس أصابع موظف الاستقبال، عملياً، إلا حلمتين كحليّتين متصلّبتين وثديين مُثلّجين وبطناً مبرغلاً وفخذين مقشعرّتين طيلة الوقت. لكنّ ما يجعله يثمّن تخشّبَها البارد هذا هو اللهيب المفاجئ الناعم الذي ينزلق إليه في أحشائها الدفينة. ثم في ذروة نشوته تشتعل فيه رغبة لا تقاوم بشتائمها التي تصعد من ضباب غيبوبتها الكثيف، فيدنو من فمها المغمور بالزبد ويتلقّى بشفتيه الظامئتين، أولاً بأول، بذاءاتها الشهيّة الخافتة المتقطّعة الممزقة. ثم لا ينهض عنها، في النهاية، إلا لاستحالة أن ينفق من الوقت فوقها أكثر من ذلك. يصلح، عندئذٍ، هندامه أمام مرآة زينتها، وهو يتملّى بها من بعيد كما يحدب على حيوان منزليّ عزيز نائم سوف يكون ضرورياً لابن المعلم في الصباح القادم الضرورةَ نفسها بالنسبة إليه من بعده. وقبل أن يخرج، ولكي لا تصاب أزهار بالبرد، لا ينسى أن يغطيها ببطانيّتها أينما كانت، على السرير أو فوق كرسي مكياجها أو في داخل البانيو أو في أي مكان آخر. أما الاستثناء الصغير الذي حدث في صباح هذا اليوم فقد بدأ بعد خروجه من غرفة ابن المعلم في السادسة واقترابه من غرفة أزهار حليقاً معطّراً ومضطرباً. كانت المفاجأة الأولى أن بابها لم يستجب لدفع يده، لكنّ ذلك لم يعن له شيئاً، فلم يتراجع. مدّ يده إلى جيبه، كما لم يفعل قط، واستلّ المفتاح الاحتياطي. وبينما جعل يخرتش به في ثقب القفل حدثت المفاجأة الأهم- انبلق الباب أمامه وظهرت أزهار. لم تكن عارية هذه المرّة، ولا في غيبوبة. كانت واقفة على قدميها في بيجامتها القطنية تسدّ أمامه الطريق وعيناها تشقلانه، من تحت منشفةٍ لفّتْ شعرها الرطب، بنظرات ازدراء واضحة. وفي تلك اللحظات المضطربة السريعة فوّت موظف الاستقبال على نفسه أن يستنتج أنها لم تسمح لابن المعلّم بالدخول قبله هذا الصباحَ مادامت الآن تعي ما تقول وما تفعل، فظلّ واقفاً أمامها.

- خير؟؟ استنكرت أزهار.

لم يُجب. فكّر لأول مرة بما لا يفعله ابن المعلم عادةً في وعيها الكامل- بخيط الدم نفسه الذي يعيد إليها هدوءها الكلّي عندما تكون في شبه غيبوبة، فتقدّم إلى الأمام. لكن يدها كانت قد ارتفعت في الهواء وألصقت صفعة قوية على خدّه قبل أن يدخل.

- كلب، نذل، حقير..

ولكي لا تكمل سلسلة صفاته التي يعرفها، بخاصة أنه لا يحب الصوت العالي، انسحب بخفّةِ موظف استقبال ولباقته، ونزل إلى حاجزه الخشبي في الصالة. وكان لا يمكن لمزاجه أن يتعكّر من صفعة أزهار بحدّ ذاتها وإلاّ لما فقدت أهميتها حتى دخول هذا الزبون الأنيق وكتابه. ما كان يعكّر مزاجه إذاً هو حدسه المبكّر الغامض، الذي لم يجرؤ على الإقرار به، للعلاقة، التي اكتشفها الآن بوضوح، بين صفعة أزهار وبين قوة اللسعة الإضافية التي اصطاد بها ابن المعلّم ذبابته في أثناء خروجه من الفندق هذا اليوم. إن قوة اللسعة التي هوت بها اللطّاشة على خدّه ما هي في حقيقة الأمر إلا تعبير عن علم ابن المعلّم بصفعة أزهار، مع أنه في العادة لا يوقظها من نومها ليتفقّد أحوالها قبل أن يغادر. وعندما يعلم ابن المعلم بصفعة أزهار فلابدّ أنه يعلم أيضاً أن موظف الاستقبال لم يتلق هذه الصفعة وهو في مكانه وراء حاجزه الخشبي، بل أمام بابها. وبما أن أزهار لم تخرج قط من غرفتها لتصفع العابرين المسالمين في الكوريدور، فإن ابن المعلم سوف يفهم القصة كاملةً بنفسه. ورغم أن موظف الاستقبال يستطيع أن يلفّق أسباباً لخرتشة مفتاحه في قفل أزهار، فهو بالنهاية لم يُمَسّكها كلمة واحدة تشي بنواياه ولم يُتَح له أن يُقْدم البارحة على فعل مشين ملموس معها، إلا أنه لا يضمن صموده أمام ابن المعلّم- سوف يعترف له بالحقيقة حتماً إذا ما نخزه في صدغه وسأله عمّا جرى، فهو أكثر لؤماً من أن يصدّق أيّاً من أكاذيبه في مثل هذه اللحظات، فوق أنه لن يتحمّل وسواساً إضافياً واحداً متعلّقاً بأزهار. إنها، كما لم تفعل بنت قبلها، لا تخفي في صحوها كراهيتها لابن المعلم، وتقوّم الدنيا على رأسه كلما انفرد بها قبل ذهابها إلى الكباريه، ما جعله منذ عام تقريباً يكتفي بالخلوة معها بعد عودتها فقط. لكنه بالمقابل قطع رزقها من الصعود إلى النزلاء الكهول الميسورين الذين يصطافون في الطابق الثاني على مدار السنة. وكان بمقدوره، طبعاً، التخلص منها بسلطة الابن الوحيد على أبيه، فيقنعه بفسخ عقدها وتسفيرها إلى أهلها في أي وقت. لكنه لم يفعل. على العكس، كان دائماً ينتظر على أحر من الجمر الليونة التي تبديها له كلما شارف عقدها على الانتهاء لكي يعزز مكانتها لدى أبيه، فيجدده بلا تردد. وبما أنها لم تُبدِ له شيئاً من ليونتها في هذه السنة حتى الآن، فإن ذلك قد ضاعف لديه بالتأكيد من وقع ما حدث أمام بابها في صباح هذا اليوم. وهكذا لم يعد موظف الاستقبال الآن في مزاج عكر، بل في ذعر شديد أفقده فجأة قدرته على الوقوف، فسقط على كرسيه وراء حاجزه الخشبي.

- أزهار.. أريد أزهار. كرّر عبد الهادي.

- أزهار نائمة. قال موظف الاستقبال بعد صمت ثقيل بصوت يكاد لا يُسمع. ثم أخرج منديله الأبيض من جيبه، مسح جبينه، استند برأسه إلى ظهر الكرسي، وأغمض عينيه، فبدا مثل غارق في النوم. شعر عبد الهادي الآن بأنه وحيد في الصالة. وكاد يجلس على مقعد قريب ريثما يستيقظ الرجل لولا خاطر مبهم أكّال جعله يحملق بوجهه طويلاً. ثم لم يصدّق عينيه حين تكشّف خاطره اللجوج فجأةً عن الشبه المذهل بين بديعة وموظف الاستقبال. لو كانت بديعة بشاربين منبّلين وكان موظف الاستقبال بحجاب شرعي لأصبح عسيراً على عبد الهادي أن يفرّق ما بينهما. وما كان بوسعه أن يتمالك نفسه من وقع المفاجأة، فانجرف، تلقائياً، في شعور قويّ بالتقصير تجاه هذا المخلوق الصابر المسالم الغافل. كان في تلك اللحظة قادراً على الاعتراف بكلّ المرارات التي تسبّب بها لبديعة في حياته لولا القوة التي استمدّها من أبي القاسم الشابي. كان الديوان ما يزال في قبضته، فضمّه إلى صدره مثل خشبة متينة عائمة أو حقيقة ساطعة لا تُدحض، وتأكّد على الفور من أنه عاشق بلا رجعة ويستحيل عليه، في تلك اللحظة على الأقل، أن يستسلم لامرأة بشاربين غليظين أياً كانت. لم يعد الآن جلوسه ممكناً ولا وقوفه أمام الحاجز الخشبي، فاتّجه مسرعاً صوب الباب وهو يصدّع السكون في الصالة الكبيرة الفارغة، برنين حذائه المضطرب، إلى أجزاء عشوائية متنافرة وحادّة. لَحَمَ وراءه مصراعي الباب الضخم الصقيلين، وقطع الشارع نحو الرصيف المقابل، ثم استدار نحو الفندق. مادامت أزهار نائمة فسوف ينتظرها هنا حتى تستيقظ. من هنا صار، الآن، يرى موظف الاستقبال، عبْر النافذة الواسعة المطلة على الشارع، غارقاً في كرسيه بينما لم يكن يراها. نوافذ الطابق الأول مصفوفة على نسق طويل بستائرها المسدلة. واحدة فقط كانت نصف مكشوفة، لا يمكن طبعاً أن تكون بالضرورة نافذة أزهار لأنها نائمة ولأن بديعة لا تكذب. ما الداعي إذاً إلى الغصّة في الحلق؟ الأفضل أن لا يلتفت إلى الوداعة التي ينام بها موظف الاستقبال. الأفضل أن يختار نافذة من نوافذ الطابق الأول، ثم يذهب ويقف في مواجهتها تماماً على الرصيف. اختار النافذة الأولى، ثم الثانية، ثم الثالثة، ثم الرابعة، ثم الخامسة، ثم السادسة. رفّ قلبه بالحماسة نفسها أمام النوافذ جميعها، فقد توقّع أزهار نائمة في كل الغرف. ثم عاد أدراجه وتأكد، بالبطء نفسه والمتعة المعذِّبة نفسها، من وجودها في كل نوافذ الطابق الأول حتى إذا وصل إلى مواجهة النافذة الأولى من جديد بدا له موظف الاستقبال مؤلماً بوضوح في النافذة التي تحتها مباشرة.

- تفضّل! دعاه الفوّال من ورائه بصوت جرش إلى مطعمه المقابل لباب الفندق.

منذ متى لم ير شخصاً بطربوش أحمر؟ لابدّ أن أزهار، حين تستيقظ وتزيح الستارة في النافذة الأولى، ترى، أول ما ترى، الفوالَ وطربوشه الأحمر. لابدّ أنها لامست بنظراتها الناعسة مرطبانات مخلل الخيار والفليفلة واللّفت مرّاتٍ لا تحصى. مع ذلك لم يستجب عبد الهادي لدعوة الفوّال. إذا دخل فسوف يرى ما لا يعنيه من الأشياء التي لم تقع في نطاق رؤية أزهار. اكتفى بالأشياء التي قدّر أنها رأتها من بعيد، فشرعت نظراته تتعقّب نظراتها الماضيات، تلتصق بها وتستعيدها تحتها حيةً حارةً راهنةً على حلّة الفول، وجاط الحمّص، وباقات البقدونس، وكراسي القش، وآية الكرسي، وصورة والد الفوال. ثم على البرّادات، إذا أطلّت أزهار من النافذة الثانية، والغسالات، والأفران الكهربائية، والمراوح، وطحّانات البن، وخفّاقات البيض. ثم على المغاسل، إذا أطلّتْ من النافذة الثالثة، والحنفيات والخلاّطات وألواح السيراميك والبانيوهات والمراحيض الإفرنجية. ثم على رفوف الأحذية، من النافذة الرابعة، والسيور والبوابيج والحقائب الجلدية. ثم على جحش الكواء، من النافذة الخامسة، والملابس المقلوبة على بطاناتها والمنشورة أمام مصبغة الإيمان بعد التوبة. وأخيراً على كراسي الخيزران، والطاولات المخلّعة، وصفّ الأراكيل الطويل في المقهى المقابل للنافذة السادسة. لكنّ أزهار تستطيع أن تستيقظ من النوم دون أن تزيح ستارة نافذتها، فتنهض من فراشها وتذهب إلى الحمّام، تستحم، ثم تعود لتجلس بمناشفها أمام مرآتها وتفكر بعبد الهادي. كما تستطيع، أيضاً، أن لا تنهض من سريرها، وأن ترتفع حرارتها، وأن تبرم الغرفة بها بلا توقّف، وأن ينحبس الهواء في صدرها، وأن تحاول الجلوس فتسقط من سريرها إلى أرض الغرفة، ثم تعجز، بعد ذلك، عن مدّ يدها إلى التلفون لتطلب النجدة، فتفكّر في تلك اللحظة اليائسة بعبد الهادي...ياااااا عبد لــهاااااادي ي ي ي! يااااا عبد لــهاااااي ي ي ي ي! ياااااا...هرع عبد الهادي إلى باب الفندق، فتحه من جديد ودخل. كان موظف الاستقبال مايزال يزخر بالبراءة فوق كرسيّه مثل ضحية نائمة بذقن بديعة وغمّازتها وأنفها وإغماضة عينيها. كيف سيتحمل نظراتها إن أيقظه؟ لو كان يعرف كيف يعثر على أزهار بنفسه لما فكّر بتعكير الصفاء المدهش الذي ينام به هذا الرجل. لكنْ هاهو يبلل شفتيه بلسانه ويُفتّح.

- نعم؟ قالها موظف الاستقبال دون أن يرفع رأسه عن ظهر الكرسي.

- أريد....لم يكمل عبد الهادي.

- نائمة. قاطعه موظف الاستقبال ثم أطبق جفونه من جديد. لكنه ما لبث أن فتح فجأةً عينيه الحمراوين: - شو بتريد من أزهار.

لم يعترف له عبد الهادي بحقيقة مشاعره تجاه أزهار، فالذنوب القديمة التي أضرمها في روحه شبهُهُ الصارخ ببديعة لم يعرف حتى الآن كيف يخمدها تماماً. احمرّ وجهه فقط، ونظر منكسراً إلى ديوان أبي القاسم الشابي في يمينه. ثم قرر أنه لن يجيب عن سؤال موظف الاستقبال في كل الأحوال، فرفع رأسه من جديد وشمله بنظرة طويلة متعاطفة دون أن يعده بالتوبة عن الغاية التي يسعى إليها الآن بكلّ قواه.

- بتعرف أزهار من زمان؟ ألحف موظف الاستقبال على انتزاع كلمتين، سرّين، ربما، صغيرين ضروريين يصفع بهما أزهار أمام ابن المعلم في لحظةٍ ستكون شديدةً عليه من هذا اليوم المشؤوم. لكنّ إلحافه هذا بدا لعبد الهادي طفولياً على طريقة بديعة عندما تستنطقه ببراءتها العذبة عمّا إذا كان يعجب "أحداً" من بنات خالته رسميّة كلما علمت بزيارة إحداهنّ إلى حارة الباشا. كانت أسلئتها القليلة القصيرة المتتالية، عندئذٍ، تزلّ من فمها بصورة تبدو معها كأنها لا تسأل بل تفكّر بصوت خافت مسموع، فلا يكون على عبد الهادي أن يجيب على أيّ منها، بل أن يفتتن بها فقط. ورغم أنه الآن لن يتراجع عن أزهار فقد ألفى عبد الهادي نفسه مأخوذاً بالعذوبة التي يستنطقه بها موظف الاستقبال حتى ودَّ لو يمدّ يده إلى وجهه من فوق الحاجز الخشبي ويداعب غمازة ذقنه التي يحفظها عن ظهر قلب. لكنه أدرك في الحال أن موظف الاستقبال لن يفهمه، وأنه، إذا ظلّ واقفاً أمامه دقيقةً أخرى، فسوف يضعف حتماً ويفعل ذلك رغم كل شيء. استدار عبد الهادي على الفور، وانسحب مسرعاً باتجاه الباب، فتحه وخرج إلى الشارع. عاد أدراجه إلى الرصيف المقابل، ولكي لا يدعوه الفوال مرة أخرى أعطى ظهره هذه المرة لوكالة الأدوات الكهربائية المنزلية المجاورة واقفاً بمواجهة النافذة الثانية في الطابق الأول. لا جديد. وكذا في النوافذ الأخرى. لعله كان جباناً قبل قليل. كان عليه على الأقل أن يبلّغ موظف الاستقبال، حتى ولو كان بديعة، باحتمال عجز أزهار عن استخدام التلفون. كيف انعقد لسانه وتركها وحدها تختنق، ربّما، على سريرها الآن؟ لكنه لن يتحرك من هنا قبل أن يراها ويطمئن عليها، إنما عبر وسيلة أخرى أو شخص آخر غير موظف الاستقبال. أما إذا صحّت هواجسه السوداء فسوف تشرف أزهار على الهلاك طبعاً ريثما يتدبّر إليها طريقاً آمناً لا يمرّ بعذوبة بديعة حين تطرح أسئلتها عن بنات خالته رسميّة. وكان لا يريد أن يُسلّم باستحالة الوصول إليها بأسرع ما يمكن، فشعر بإنهاك مفاجئ. لن يستريح، طبعاَ، في المقهى القريب لأن أكثرية النوافذ في الطابق الأول سوف تغيب عن عينيه إن فعل، أمّا بذلته السوداء الفخمة فسوف تتبقّع بالغبار إذا جلس في مكانه على الرصيف. وفي الحال ضبط عبد الهادي المعنى اللذيذ في أن يلوّث الإنسان بذلة فخمة في سبيل من يحب، ناهيك عن سمعته التي لن تنجو من الغبار أيضاً، فسارع وجلس على الرصيف باندفاعٍ خفّف كثيراً من معاناة أزهار في باله. ثم ساعده فضول المشاة، بأنظارهم الدبقة والمستفهمة، في أن يجلس بكل جوارحه كما لو أنه قد قطع بهذه الطريقة نصف الطريق المؤدية إلى أزهار. كان راضياً عن نفسه، الآن، ومزهواً بها مادام فعل ما في استطاعته مبدئياً لنجدة أزهار. وبالفعل ماذا يمكنه أن يفعل في سبيلها أكثر من جلوسه على الرصيف ببذلته الفخمة؟ كان ينقصه فقط أناس يعرفونه، وآخرون يعرفون أباه، وآخرون غيرهم يعرفون أهل بديعة ليستمتع بحوقلاتهم واستنكارهم حَطَّهُ قدْرَ نفسه إلى هذه الدرجة. وفي حقيقة الأمر إن أحداً غيرهم لن يقوّم جيداً ما أقدم عليه، لكنّ أحداً غير موظف الاستقبال لن يسعد بذلك كما ثبت بعد قليل- حين نهض واقترب من نافذة الصالة الكبيرة. لم يكن ينتظر رؤية عبد الهادي من جديد، لكنه لمحه الآن عبر الزجاج الواسع النظيف مُفنّشاً على الرصيف المقابل. راوده شعور فوريّ بأن طمأنينته التي فقدها بظهور هذا الرجل وكتابه أمام حاجزه الخشبيّ قد يستعيدها به فعلاً، فبدا كما لو كان في أمسّ الحاجة إليه- هو وحده من سينقذه، ربما، من ورطته. حسنٌ، فكّر، مازال ممكناً إذاً عمل شيء نافع. هذا الرجل الرزين الزريز ببذلته الأنيقة وكتابه السميك لا ينضحك عليه بسهولة ولا يبهدل حاله بهذه البساطة لو لم يربطه شيء مضمون بالشرموطة أزهار. أزهار عاشقة حتماً، وما عليه، كموظف استقبال خبير بالقحاب، إلا أن يفيد منها ومن عاشقها الملقوح على الرصيف في ترتيب فضيحة مدويّة. الفضيحة وحدها قادرة على استعادة مكانته، كشخص يُعتمد عليه عند الشدّةّ، عندما سيتدخّل في الوقت المناسب لينهيها على طريقته المجرّبة. يجب أن يفهم ابن المعلّم أخيراً أن أزهار لا تستحق أن يضحّي به من أجلها حتى ولو خرتش مفتاحه في فرجها في الصباح الباكر، فهي في النهاية ليست أكثر من عاهرة بينما هو أكثر بكثير من مجرّد رجل استقبال. وابن المعلّم لن يفهم ذلك جيداً إلا بفضيحة كبيرة تطعنه كرجل في الوقت ذاته وتُخرج أباه المعلّم نفسه من طول باله أخيراً فيقرّر تأديب هذه العاهرة ومن يقف وراءها. لن يجد ابن المعلّم آنذاك وجهاً ولا طاقةً للإصغاء إلى أوهامها ثم تصديقها فوق ذلك. أما حقيقة ما جرى في الصباح الباكر، إن تذكّرها واستفسر عنها، فلن يكون موظف الاستقبال مضطراً للاعتراف بها لأن ابن المعلّم لن يكون آنذاك في وارد نخزه في صدغه- سوف ينصت إليه وحده، ووحده سوف يعرف كيف يبهّر له ما حصل، يملّحه ويعجنه ويخبزه ويقدّمه له على قدّ ما يزيل شكوكه به ويعيده في نظره ذلك الرجل الوفيّ الأمين الذي لا غنى عنه ولا بديل. وفي زهوة إحساسه بالفضيحة التي لم تتحقق بعد بدأ موظف الاستقبال، منذ الآن، يستعذب بكل حواسّه الذبابةَ التي سيهرسها ابن المعلّم غداً على خدّه بسلاسة وعفوية كأنه لم يقترب من باب أزهار في هذا اليوم. المهم، الآن، أن يستجيب لنواياه هذا العاشق الأنيق المثقف أبو الكتاب السميك. ثم لم يعد يحتمل وجيب قلبه المتعالي الآمل، فاتجه نحو الباب وخرج إلى الشارع. صار هنا يرتعش من شدة اهتياجه، وما كان ينبغي له أن يكون البادئ في مشكلة سوف تؤثّر على سمعة الفندق الرقيقة أصلاً، فوجد نفسه يصيح بصوتٍ ارتفع بوضوح فوق ضجيج الشارع: _ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم!

كان عبد الهادي قد لمحه من الرصيف المقابل، ففزّ من مكانه مرهفاً حواسه كلّها إليه، لكنه لم يفهم الغاية من صراخه من وراء المشاة والسيارات والمتوسيكلات العابرة. وكان لا يريد أن يفهم من حدّته الواضحة أن هذا الرجل المسالم العاثر سوف يفتح معه الآن، لسببٍ من الأسباب، حساباً عسيراً مؤجّلاً، كأنما، منذ زمن طويل، فصاح كما يتهرّب من طعنة محققة:

- نعم؟؟؟

- منّك، منّك، أعوذ بالله منّك! رَعَدَ به موظف الاستقبال من جديد بصوت أغلظ وأعلى.

كانت أزهار تمشّط شعرها أمام مرآة الخزانة عندما تأكّدت أن ما سمعته كان هدير موظف الاستقبال في الشارع، فسارعت إلى الستارة، أزاحتها وفتحت النافذة الأولى في الطابق الأول. لمحها عبد الهادي من الرصيف المقابل، فتعلّقت كفّه في الهواء وهي ترفع عالياً ديوان أبي القاسم الشابي مثل وردة حمراء بساق طويلة. ثم ما لبث أن نزل إلى عرض الشارع يقطعه بخطوات متّئدة ثابتة، بذراعه المرفوعة وعينيه اللتين لا تريان شيئاً غيرها في النافذة. ورغم زمامير السيارات وشتائم السائقين وصافرة الشرطيّ التي بدأت تنهال عليه من بعيد تابع عبد الهادي مشيته الوئيدة ذاتها، مثل مُسرنَم أو مسحور، حتى وصل إلى الرصيف المقابل. لم يقترب الآن من باب الفندق. كان قد أدرك قبل ظهورها أن الصعود إليها لن يكون عبر هذا الموظف الصابر الذي تحمّله كثيراً قبل أن ينفجر بالصراخ. سوف يتجنّبه الآن قدر الإمكان لأنه سيجيب هذه المرة بوضوح كامل عن كلّ أسئلته وسيعترف له بلا مواربة بحقيقة مشاعره تجاه أزهار إن عاد واستفسر عنها. وكان موظف الاستقبال قد قدّر، في هذه الأثناء، أن أزهار في نافذتها، فتراجع خطوتين إلى الوراء لتخفيه مظلّة المدخل- الآن تستطيع العاهرة أن تنزلق إلى الخطأ بسهولة أكبر فيفقد هذا الأبله صوابه. بدا الآن عبد الهادي لنفسه، كما لم يبدُ في يوم من الأيام، رشيقاً خفيفاً يكاد الهواء يرفعه ويطير به في أيّ لحظة. في حياته لم يفكّر بحكمة الرتيلاء في المشي على الحائط، لكن الزحف إلى نافذة أزهار على حائط الفندق بدا له، في تلك اللحظة، غاوياً وممكناً أيضاً. حشر ديوان أبي القاسم الشابي في قميصه، ثم قفز مثل هرّ إلى نافذة الصالة الكبيرة العالية، وقف على حرفها بطوله، ثم بقفزةٍ أخرى طالت رؤوسُ أصابع يديه إفريزَها الحجريّ. وإذ شبّ إلى الأعلى، حطّ ركبته على حدّ الإفريز، ثم استوى عليه مستعيناً بحجر الحائط المُفرّض إلى مستطيلات. كان ثمة الآن ما يشبه كوّة ضيقة أمام ركبته اليمنى. رفع رجله ودسّ بوز حذائه فيها ناقلاً إليها ثقله الأكبر من الإفريز ومعلّقاً، في هذه الأثناء، قدمه الثانية في فرضة بين حجرين، بينما تشبّثت أصابع يديه بحواف حجريّة نافرةٍ أعلى. أصبح ما يفصله الآن عن نافذة أزهار في الطابق الأول ما يقرب من ذراع. ولم يكن هنالك مرتكز أمين أعلى من الكوّة لينقل إليه نقطة ارتكازه، فكان يحتاج إلى رشاقة ضب وحنكة عنكبوت لكي يقطع بسلام المسافة الحاسمة المتبقّية على مجرّد أحجار نافرة مستطيلة. إن أي تردّد أو خطأ في تقديرِ وتوقيتِ حركة أطرافه الأربعة سوف يهوي به الآن إلى الأرض بالتأكيد، فتلبّث في مكانه لا يريم. كان الناس قد تجمهروا تحته على الرصيف، بينما كان موظف الاستقبال ما يزال خانساً في المدخل. كان يخشى أن يوقف ظهوره السافر الفضيحةَ في منتصفها، فقد يضطر إلى التدخل لإنهائها بأقل ما يمكن من الخسائر أمام من يعرفونه. كان لا ينقصه شهود يتهمونه بالتقاعس بأداء واجباته، ففي مثل هذه الأحوال عليه أن يتصرّف بمقدار العنف المتعارف عليه في مثل هذه الأماكن الغاوية. إنه في النهاية، نعم، ليس مجرّد موظف استقبال، وروّاد هذا الفندق ليسوا مجرد نزلاء لا همّ لهم غير النوم البريء. لكنه، رغم ذلك، ظلّ لابداً في لذْوَته حتى سمع أصوات المتجمهرين وهم يستغيثون بيا لطيف، يا لطيف! وبدا له أنهم ينتظرون بجلبتهم المتصاعدة أن يسقط عاشق أزهار في أيّ لحظة، فظهر أخيراً. اندغم في حشد الناس دون أن ينتبه أحد إليه، فقد كانت الرؤوس مشدودة كلّها إلى الأعلى. فكّر أنه لن يجني الفضيحة، كما ينتظرها، إذا سقط هذا العاشق الآن إذ لن يكسب من تكسير عظامه على الرصيف غير وجع الراس من عويل الإسعاف، وتلوّي رجال الشرطة، بعد ذلك، بتمثيل حرصهم الممل والمُكلِف على النظام. ما يريده ويتمنّاه، في هذه اللحظات على الأقل، هو نجاته تحديداً على أن تتم بمساعدة أزهار الصريحة أمام أعين الجميع. بلا مساعدتها سيبدو هذا العاشق مجرّد متطفّل أو مهووس، ما سيلطّف كثيراً من الفضيحة الناقصة حتى اللحظة. ولكي تساعده أزهار كان لا ينبغي له أن يسقط، كان عليه أن يكمل طريقه إلى حدّ نافذتها بطريقة من الطرق. وفي نشوة غريبة انتظر موظف الاستقبال، وهو يفور في مكانه، أن تُكمل أزهار فضيحتها بشرشف سريرها تدلّيه إلى مخبولها ليصعد عليه. وكانت أزهار ماتزال في نافذتها، تسمع لهاث عبد الهادي ولطفَ الناس به، وهي تخشى أن يكون قد وصل إلى مدى يديها المضطربتين لو مدّتهما إليه، فلم تثن جذعها إلى الخارج لتتأكّد. أرادت أن تهرب بعينيها إلى الطربوش الأحمر على رأس الفوال، كما لو أن أحداً لن يسقط بعد قليل فيتحطم من أجلها، لكنّ مشطها كان مايزال بين أصابعها فوجدت فيه فوراً ما يشغل يديها عن الحركة الضرورية الزائدة. تتحسّست المشط مثل قيد ضيق أمين وجعلت تمشط شعرها الذي لا نهاية له. وكانت يداها، المخاتلتان المرتعشتان اللتان لا تُحزران، لا توحيان فعلاً بغير غيابهما وراء المشط في شعرها المُضني الطويل الذي لن ينتهي، ربما، قبل سقوط عبد الهادي. لكنّ ما سقط فجأةً لم يكن سوى مشطها إلى أرض الغرفة عندما سمعت صوت عبد الهادي: - أزهار!

سبقتها يداها الخدّاعتان الفضّاحتان المتحفّزتان إلى حدّ النافذة، فثنت، الآن فقط، جذعها إلى الخارج. خيّل لعبد الهادي أنها ابتسمت له وهمست باسمه، فملأه على الفور إحساسٌ عارمٌ بأنه ضبّ حقيقي، فلماذا لا يصعد؟ ما حاجته أصلاً إلى ارتكاز أمين لجسده في بعض الذراع المتبقّي من الحائط إلى أزهار؟ إن الكوّة الثابتة تحت مشط قدمه اليمنى الآن يمكن أن ينطلق منها بدفعة قوية ودقيقة، وقدمه اليسرى لن تستقر بثقلها على موطئ جديد في الأعلى، إنما سوف تلامسه بلمح البصر بقوةٍ كافية لأن يكمل اندفاعه بها إلى حيث يعلّق يده اليمنى بحافة النافذة، وعندئذٍ لن تبخل عليه أزهار بيدها إن أفلت من حسابه شبراً من الحائط. ثم لم يسمع عبد الهادي الأصوات التي تعالت تحته عندما شبّ مثل ضبّ ووجد نفسه قريباً جداً من أزهار، بينما كانت أصابعه كلّها قد تعلّقت بحافة نافذتها. انفصل الآن موظف الاستقبال عن الحشد المتلهف إلى نهاية الفرجة- لن تتراجع أزهار عن إكمال فضيحتها مادامت لم تُفاجأ ببهلولها، لم تفزع ولم تستجرْ منه بأحد كأن تعليقه في هذا الوقت بنافذتها كان من تصميمها وشغل يديها، بل إنها تحتفي به بشفتيها الفاسقتين وعينيها الرامشتين وخصلات شعرها المخيمة عليه على مرأى من الجميع. لم يعد ينقص موظف الاستقبال إلاّ يدها. فقط لو تختم فضيحتها بيدها فلا تنغّصها في اللحظة الأخيرة. لو بيدها فقط تمسك بإحدى يديه وتشدّه إليها! لكنّ أزهار حصّلت موظف الاستقبال يراقبها على الرصيف المقابل، فارتدّت فجأةً عن حدّ النافذة- بدا لها متهللاً يبتسم، وقد أرهبها أن شاربيه المنبّلين التبسا لديها فجأة بشاربي المعلم ذاته، فلم يعد مقززاً فقط، بل ومخيف. لكنها، مع ذلك، لم تطبق النافذة على أصابع عبد الهادي رغم أنه قد يكون مثل غيره من الرجال مادامت على البست مثل الجمل الفلتان عندما تفتح في الليلة الواحدة أقل من ثلاث زجاجات ويسكي. لو كانت لهلوبةً حقيقيةً للرقص الشرقي دون أيّ تدخلٍ من قناني الويسكي ولا من الحبل الرفيع البراق بين أليتيها لما خافت من أي شاربين في العالم، ولكان بوسعها الآن ببساطة أن تمدّ يديها كلتيهما إلى عبد الهادي فتنقذه من سقوطه الأكيد لأنها ببساطة تريد أن تفعل ذلك ولن تكون مُلزمةً بتبريره أمام أحد كائناً من كان. ثم ظنّت، لبرهةٍ خاطفة، أنها إذا طبقت، الآن، النافذة على أصابع عبد الهادي فسوف يتحسّن رقصها مباشرةً في عيني المعلّم على الأقل، لكنّ يديها المرتعشتين اللتين لا تُحزران لم تستجيبا لها. كانت أصابع عبد الهادي تتشبّث بحدّ النافذة. وكان في مقدوره أن يتعلّق مدة أطول بكثير لو ظلّت أزهار تنظر إليه، فاعتقد، وقد طال غيابها، أنه سيسقط الآن لا محالة إذا لم يتابع صعوده- دفع بكلّ قواه الحجر النافر بقدميه، ثم ارتفع بصعوبة شديدة على يديه حتى استند بكوعيه على حد النافذة. أصبحت أزهار الآن في مطال يده، وقد ظهر وراءها أثاث غرفتها كما تخيّله وأحبه. ماذا يقول لها الآن؟ ها قد وصل أخيراً، فماذا يريد منها على وجه الدقة؟ حسنٌ، إنها ليست محمومة، والهواء لا ينحبس في صدرها، وتستطيع، إذا احتاجت، أن تحرك يديها وتطلب النجدة من التلفون. وماذا بعد؟! هل سيعود أدراجه إذاً مادام قد اطمأن عليها؟ كيف؟ إن من غير المعقول أن يتعنّى كل هذا العناء لكي يراها على هذه الدرجة من القرب والانفراد ولا يجد ما يقوله لها. تذكّر عبد الهادي ديوان أبي القاسم الشابي، فرأى فيه مبرراً كبيراً لوجوده مشبوحاً على نافذتها. ثبّت نفسه بيد واحدة، وسحب بالثانية الديوان من تحت قميصه، ثم مّده إليها مثل وردة حمراء بساق طويلة ومرتعشة. تناولت أزهار الديوان، وهي تراقب موظف الاستقبال الواقف مباشرةً فوق رأس عبد الهادي على الرصيف المقابل وقد عرّض ابتسامته الآن حتى ظهرت أنيابه تحت شاربيه الكريهين. شعرت أزهار برغبة شديدة بالتقيّؤ وهي تحملق به، فأصبح الديوان في يدها حجرةً ثقيلةً رمت بها إليه مباشرةً بكل ما أوتيت من قوة، فارتطم بوجه عبد الهادي. شهق الناس المتجمّعون في الشارع حين مال عبد الهادي إلى الوراء وهوى. ثم لم يتركوه للرصيف، اتّحدوا تحته وهم يلهجون بالّلطف به، وتلقّفوه. لمّ موظف الاستقبال ابتسامته أخيراً كما لو أن عبد الهادي قد شذّ بسقوطه عن ما كان متفقاً عليه إلى النهاية. لكن ما أُنجز، رغم كل شيء، ليس بالقليل. كان عبد الهادي في ذهول ربط لسانه وزيّغ نظره عندما سطّحه الناس مثل خرقة على الرصيف. وإذ تحلقوا حوله شعر بأنه مستلق على ظهره في حفرة عميقة. لم يميّز وجوههم، ولم يسمع لغطهم، انشغل بالسماء البعيدة فقط، فاستغرقته تماماً كأنه انزلق فجأةً في نوم أزرق صافٍ عميق. كان موظف الاستقبال، في هذه الأثناء، قد شق طريقه إليه ليقوم بواجباته بمقدار العنف المتعارف عليه في مثل هذه الأماكن الغاوية، فمال نحوه والتقطه من كتفيه، وأنهضه بقوة فيل على قدميه المترنّحتين. وما كاد يتوازن أمامه بمشقة كبيرة حتى وجّه إلى جبينه لكمة قوية فتحت جرحاً مقبولاً فوق حاجبه، وأسقطته على الأرض من جديد. كان كل شيء بالنسبة إلى عبد الهادي يدلّ في تلك اللحظة على أنه شخص سيئ وأن بديعة على حق. عاد موظف الاستقبال وأنهضه مرة أخرى على قدميه، ومرة أخرى أسقطه على الأرض بلكمةٍ دقيقة هوت على فمه، وأدْمَته. ماذا يستطيع عبد الهادي أن يقول لبديعة الآن؟ أنهضه موظف الاستقبال من جديد. بديعة التي صبرت كلّ هذه السنين. اندفعت القبضة القوية المحكمة إلى بطنه، فأردته على الرصيف وقد دلّ تلوّيه الواضح على أن موظف الاستقبال لم يتجاوز، ربما، حدود واجباته المسموح بها حتى الآن. بديعة المسكينة التي طلبت ولداً. انحنى موظف الاستقبال إليه، أمسكه من ياقة جاكيته الأسود، وشحطه وراءه إلى الحائط، رفعه وسنده إليه وهو يمسك بخناقه. لم يقو عبد الهادي على النظر إلى عينيه المألوفتين، ولا إلى غمّازة ذقنه الرائعة. وهنا أدرك موظف الاستقبال بحسّه المهنيّ الرهيف أن أي لمسة إضافية سيقوم بها بعد الآن سوف تقلب بطل فضيحته إلى ضحيّة مؤكّدة، فبصق في وجهه وتركه. سحل عبد الهادي على الحائط حتى جلس القرفصاء على الأرض. كان الناس الذين أنقذوه من الرصيف يتفرجون على تأديبه باهتمام وتَفَهُّم واضحين، لكن ديوان أبي القاسم الشابي كان بين أرجلهم. تشكّك عبد الهادي بقدرته على الوصول إليه في هذه اللحظات، فمال إلى الأمام ومشى على أربعته حتى خلّصه من بين الأحذية. وإذ حاول الآن أن ينهض أمسك به رجل من ذراعه حتى استوى على قدميه، ثم ظلّ للحظات ينظر إليه بابتسامة عريضة ويشدّ على يديه، كأنما، بإعجاب شديد. شكره عبد الهادي، وانسحب متثاقلاً من بين المحتشدين من حوله ليغيب عن أعينهم بعد قليل في أول منعطف.

* * *

VI

في كلّ زياراته الطويلة للصيدلية كان الطبيب الشاب يتكلّم ويقرش، ببطء وتلذّذ، أصابع كعك يستلّها من قلب كيسٍ ورقيّ أمامه على طاولة بديعة. إن شيئاً لا يستعجله للعودة إلى عيادته، كما يقول، فزبائنه نادرون، وممرضته لا تتمتّع بمواصفات مسلّية، وإن كانت تزوّده بنصف كيلو من كعكه المفضّل مرةً كل يومين. وكان يميل، تحت تأثير تربيته المنزلية كما يردد أحياناً، إلى اهتمامه بالموضوعات التي قتلها الدارسون بالبحث والتمحيص قبل أن تصل إلى يديه. ولا يفوّت، في أثناء ذلك، أن يظهر أمام بديعة بمظهر المتبرّع لوجه الله بالمعلومة الدقيقة. وغالباً ما يعزّز أمانته العلمية وحسّه الأسرويّ التوثيقي العالي بقصاصة ورق يخرجها من عبّه ويقرأ منها بعض الأرقام والمصطلحات. كانت بديعة الآن جالسةً وراء طاولتها تنظر إلى الساعة الرقمية على شاشة التلفون وتنتظر متى تنتهي الدقائق العشرون المتبقّية على بلوغ الثانية من بعد الظهر- موعد استراحة الغداء. وفي تعبيرٍ، ربما، عن ضيقها الشديد من بطء الوقت ودّت فجأةً لو أن الطبيب الشاب يمتنع اليوم عن الكلام وقرش الكعك. هي، بالعادة، لا تتضايق من ضوضائه على خلفية عملها لأنها، غالباً، لا تنصت إليه، وإذا حدث فإلى جُمل متباعدة، فلا يعود ثمة خيط موصول لمعنى. ولابدّ أن الطبيب الشاب قد لاحظ، منذ بداية زيارته، المكياجَ الممسوح بصورة رديئة على وجهها، فهي، بالعادة، لا تستعمل أياً من المساحيق. وربما لهذا السبب كان حديثه، اليوم، عن طبيعة النشوة الجنسية لدى النساء. لقد أثبتت التقارير الأخيرة في الولايات المتحدة وفي بلدان عديدة، كما قال، أن أكثرية النساء بحاجة إلى شكلٍ من أشكال الإثارة الخارجية غير المهبلية كي يبلغن ذروة النشوة الجنسية، وأن معرفة ما إذا كان الجماع المهبلي وحده يوصل أكثرية النساء إليها قد أثارها العلماء منذ فترة طويلة. الباحثة ألبيرت إيليس مثلاً نشرت في الخمسينيات، تصوّري!، دراسة قيّمة بعنوان "هل هزة الجماع المهبلية خرافة؟". ثم اشتغلت على الموضوع نفسه الباحثة آن مودت ونشرت في عام 1970 في مجلة راديكال فيمينيزم دراسةً لا تقل أهمية بعنوان "خرافة هزّة الجماع المهبلية". وفي ألمانيا نشرت آليس شفارزر في عام 1975 كتاباً يناقش، هو الآخر، فكرة وصول النساء إلى هزة الجماع بعد ولوج مهبلي متقن وبسيط. شعرت بديعة بالغثيان، فسارعت إلى حمّام صيدليتها الصغير، فكّت حجابها، غسلت وجهها وجففته. ثم سرحت أمام المرآة في انتفاخ جفونها واحمرارها. لقد بكت كثيراً قبل أن تنام البارحة- انتظرت حتى تأكدت من أن أمها لن تطمئن عليها بعد الآن، ثم كبست وجهها في قطن المخدة، وجذبت بيدها اللحاف إلى ما فوق رأسها، وبكت بقوة. كانت ليلة لا تصدق. واليوم لا حسّ ولا خبر. ثم ما أرادت أن تفقد الأمل سلفاً من ليلة اليوم أيضاً، فشجّعت نفسها بابتسامة لم تظهر أمامها في المرآة، ثم لبست حجابها من جديد وخرجت من الحمّام. زمّ الطبيب الشاب فمه بطريقة لا تعيقه عن طحن الكعك ولكنها تشي بأهمية معلوماته اللاحقة، فالدكتور ليش شيفر نشر في عام 1973 أطروحة دكتوراه حُضّرت سابقاً في جامعة كولومبيا بالتعاون مع مرغريت ميد وباحثات أخريات، وقد أكّدت فيها ثلاثون امرأة أن عدم بلوغ ذروة النشوة الجنسية أثناء الجماع كان، بالنسبة إليهن، أمراً عادياً. فكرت بديعة أن الطبيب الشاب لو كان يعرف ما حدث معها البارحة لما تابع ضوضاءه المعتادة. ثم اعتقدت أنها بإمساكها حتى الآن عن وضعه في صورة ما حدث إنما تدفعه بيدها إلى مزيد من الضوضاء، وهكذا يضع الطبيب الشاب نفسه في وضع لا يليق به دون أن يدري، وسوف يخسر احترامها دون أن يقصد. سوف تعترف له إذاً بما حدث، على الأقل لكي تصون له كرامته التي يهدرها بجهله، ولكي يظل الشخصَ المرحّب به في زياراته القادمة. ثم رأت أن من غير المناسب أن تبلّغه بما حدث معها وهي جالسة، فوقفت مادام واقفاً. وهنا توقفت أمام الصيدلية سيارة تكسي نزل منها، بعد قليل وبمشقة كبيرة، عبد الهادي بوجهه المدمّى. وفي دراسة نفسية ظهرت في عام 1972 كان الدكتور سيمور فيشر قد تحقق من أن ثلثي النساء اللواتي سُئلن أعلنّ أنهن لا يستطعن بلوغ ذروة النشوة أثناء الجماع بحدّ ذاته. لم يحدث قط أن هجمت بديعة على عبد الهادي ورمت بنفسها بين ذراعيه، وكان الآن، من أجل ظهوره المفاجئ، يستحق البكاء على صدره. لكنها لم تعد، منذ لمحته، قادرة على تحريك قدميها، فظلّت، مثل مقيّدة إلى طاولتها، بوجه مذهول تتفقده بعينين محمرّتين بدمع محبوس من مسافةٍ بدت مُضنيةً إليه- جرحٌ مفتوح على جبينه، دم مخثّر على شفتيه، بذلته الجديدة معفّرة بالتراب، وربطة عنقه الذهبية التي أهدتها إليه البارحة لا يرتديها. لكنه، رغم ذلك، يقف الآن أمامها كلّه مثل ولد ضالّ عائد، وفي يده كتاب. كان عبد الهادي مايزال، حتى الآن، غير قادر على النظر إلى عينيها وغمّازة ذقنها الرائعة، فشرد برِجل طاولتها مستنداً برأسه إلى باب الصيدلية حتى تسربت إلى أنفه رائحة كريهة لا تطاق. وقد تساءلت الباحثة هيلين سنجر في كتابها "العلاج الجنسي الجديد" الصادر في عام 1974 عن شرعية إطلاق صفة "غير العاديات" على النساء اللواتي لا يوصلهن الجماع وحده إلى النشوة الجنسية. لا يمكن أن يكون في الصيدلية جرذ متفسّخ أو جورب قذر، فكّر عبد الهادي عندما دعته بديعة إلى الدخول بصوتٍ سعيد متكسّر، كما يستحيل أن تفعلها هي بكل هذه البراءة وهذا التفاؤل، إنها تخجل، على الأغلب، حتى من نفسها إذا نفّست أنابيبها الداخلية على انفراد فما بالك إذا كانت في صيدليتها وأمام شخص غريب. ثم، لسببٍ ما، خيّل إليه، فيما كانت تقدّمه إلى الطبيب الشاب، أن هذا المتحذلق الواقف وراء كيس الكعك لابد أن يكون المصدر الوحيد للقرف الحاصل. وبينما بدأ يتلفّت من حوله باحثاً بوجه متقزّز عن مفتاح مروحة السقف، انتبه متأخراً إلى أن بديعة قد قدّمته قبل قليل باعتباره "عبد الهادي" فقط، فاستغرب كما لو أنه ليس عبد الهادي. ثم لم يعر انتباهاً كافياً لتقديمها ضيفَها ذا الروائح الكريهة إليه، فقد عثر على المفتاح وشغّل المروحة رغم أن حرارة الجوّ كانت أميل إلى البرودة. ابتسمت بديعة ابتسامة عريضة وهي تنظر إلى الطبيب الشاب لتموّه، ربّما، الهواء البارد الذي بدأ يلعب بشعره. فقطع هذا سلسلة أفكاره العلمية على نحوٍ مباغت، وأشار، بِغُنّةِ خبير، إلى ضرورة تضميد اللحم المتهتّك فوق حاجب عبد الهادي. ثم استلّ كعكة جديدة من كيسه وغرق من جديد في قصاصة يده، فالأبحاث التي جرت بين عامي1971-1976 أكّدت، هي الأخرى، بما لا يقبل الشك أن ثلثي النساء المُسْتَفْتَيات، وهي النسبة المئوية نفسها التي توصّل إليها الدكتور فيشر، يبلغن ذروة النشوة عبر وسائل معروفة أخرى غير الجماع. لم يتعرف عبد الهادي إلى يد بديعة عندما أمسكت به الآن وجذبته إليها برفق ممرضة وراهبة. كانت لمستها مليئةً بذلك الدفء العمومي الذي يخنقون به المرضى الميؤوس منهم في لحظاتهم الأخيرة. ولمّا أجلسته على كرسيها، بحنانٍ بدا له هو الآخر فضفاضاً جداً من شدّة إنسانيّته، أراد أن يتحقق، في عينيها على الأقل، من دِفئها الخصوصيّ القديم الذي لا يتّسع لأحدٍ سواه، ولم يستطع- كانت قد ابتعدت عنه إلى مفتاح المروحة، أطفأتها وتوجهت إلى الحمّام بنزاهةٍ ثقيلة ورشاقةٍ لافتة. وهنا توقف الطبيب الشاب، فجأةً، عن الكلام. اعتقد عبد الهادي أنه سيتوقف تماماً عن الإحساس بالرائحة الكريهة عندما سيتوقف الطبيب الشاب عن قرش الكعك أيضاً. لكنه لم يفهم ماذا أراد أن يقول بامتناعه عن الكلام في غياب بديعة. هل يعتقد آكل الكعك هذا أن عبد الهادي أقل من أن يخصه بكلامه ذي الصنّة النفّاذة؟ أم أنه يريد أن يدلّل بذلك على عمق العلاقة المميزة التي تربطه إلى بديعة، والتي لا يفضّل تعكيرها بشخص آخر من أمثاله؟ وكان بمقدور عبد الهادي، كما ظنّ بعد صمتٍ شائكٍ قصير، أن يوضّح للطبيب الشاب خصوصيّة وجوده في هذا المكان، فيمسك بكيس كعكه مثلاً ويرمي به إلى رصيف الشارع، لكنه سرعان ما ارتاب بأسبابه التي يمكن أن تسوّغ له تصرّفاً من هذا القبيل- إن هربه، البارحة، من ترسيم الفاتحة القديمة لن يُظهر، اليوم، رميَه الكيس باعتباره برهاناً على العلاقة العريقة التي تُقيّد بديعةَ به، بل باعتباره وقاحةً وسوء استعمال لدالّةٍ عليها لم تعد، ربّما، مؤكّدة. بيد أنه، مع ذلك، لم يبتلع، ولن يقبل بأيّ حال، أن تُساويه بديعة بأيِّ رجل آخر رغم تسليمه بأنها شخص بالغ ولها وحدها أن تحدّد من تريد ومن لا تريد- فزّ من على الكرسي فجأةً كما لو أنه سيقدم الآن على خطوة محسوبة تالية حاسمة. وإذ ظلّ واقفاً فقط لم يجد ما يدعوه إلى تبرير انتفاضه المفاجئ للطبيب الشاب كما لو أن وقوفه بحدّ ذاته قد أثبت، حتى للأعمى، أن بديعة جزء لا يتجزأ من تاريخه الشخصي مهما تحجّج الآخرون بهربه منها البارحة، وأنه قادر، إذا دعت الضرورة، على فعل ما لا يحلم به هؤلاء الآخرون من أجل أن لا يخسرها. ثم جعل يتلفّت من حوله كأنه يتفقّد وسائله المجرّبة في الحفاظ على بديعة- كان تحت الطاولة سخانة كهرباء مطفأة، وسلّة مهملات، وإبريق بلاستيكي صغير أحمر، ومسند خشبي للقدمين، وفوق الطاولة تلفون، ودعاية خافض للحرارة على شكل مقلمة، وعلبة محارم، ومفكّرة كبيرة مفتوحة على أسماء أدوية وعناوين وأرقام هواتف مكتوبة بالطول وبالعرض وخربشات على شكل نوابض ممطوطة ودوائر مطعوجة وبسم الله الرحمن الرحيم بين قوسين مُذَنّبين، ثم نظر إلى الأعلى فكانت المروحة، وأربع نيونات مزدوجة تتدلّى من السقف بين فيترينات الأدوية. وبينما لفَتَهُ أخيراً باب الصيدلية المفتوح أمامه على بعد ستّ خطوات أو خمس خشي عبد الهادي من أنه، مع هذه الأشياء كلها، قد لا يكون قادراً على فعل شيء محدّد ملموس يحمي بديعة من الطبيب الشاب. إن هذا الرجل، بالنظر إلى ملامحه المنيعة المتكررة التي تتجاهله بإصرار، لم يفهم حتى الآن، رغم انتفاضه من كرسيّه واقفاً على قدميه بجلاء، أن بديعة ضالعة بأيامه منذ وعى الدنيا، وأنه لن يتنازل عنها لأحد بخاصة إذا كان يقرش الكعك بطريقة تفوح منها رائحة فساء. ثم رأى عبد الهادي أن الأوان، ربما، قد حان الآن لأن يثبت له تاريخها الطويل في عمره بالكلام المباشر الجارح الصريح. لكنّ اليومَ المشمس وراء باب الصيدلية قد شدّه إليه في تلك اللحظة، فتوقّع أن يكون الهواء منعشاً هناك ولا يحتاج إلى كلمات تثبته أمام أحد، بينما يضطرّه هذا المخلوق إلى إثبات بديعة في حياته، وهي البديهة الواضحة فيها كالنوم واليقظة والخيبة والكتب والنقود. وكان من غير المعقول أن ينشغل بالهواء المنعش أكثر من ذلك مادامت بديعة معلّقةً بينه وبين الطبيب الشاب، فحاول بكل طاقته ولم يتذكّر كلمةً جارحةً واحدةً تحسمها لصالحه. ثم انتبه، كأنما في الوقت المناسب، إلى يده المرتعشة وهي تقبض بقوة على ديوان أبي القاسم الشابي، فوضعه فوراً على حرف الطاولة وهو يدرك جيداً أن الانسان عندما يضع على الطاولة ديواناً، ولو كان للمتنبي، فإنه لا يستردّ بديعة. ثم صار يسمع لهاثه، وهو واقف، حين خطر له أن بديعة لم تكن، ربما، أكثر من هباءٍ مزمنٍ رافقه في حياته كلّها، فهو، رغم الكعك الكريه المتواصل، لم يجد ما يقوم به فعلاً، أو حتى يقوله، من أجلها في هذه اللحظات شديدة الطول والقسوة والضيق. وأراد، كأنما، أن يتنفّس رغم كلّ شيء- أن ينهي عجزه المبرّح المستمرّ بخروجه الآن إلى هناك، إلى ذلك اليوم البديهيّ الأصليّ المشمس خارج الصيدليّة. وبينما همّ، بكلّ هواجسه الثقيلة الخانقة، بالتوجّه أخيراً نحو الباب إذا به، بدلاً من ذلك، يخلع، بسرعةٍ ونزق ظاهرين، جاكيته الأسود ثم قميصه الأبيض، وهو يبربر بكلام متداخل خفيض حانق، ثم يكوّمهما على الطاولة أمام الطبيب الشاب كآخر دليلين ممكنين لديه على حياة بديعة في حياته. ثم ما لبث أن استدرك، قبل أن يجلس، قميصَه الداخليّ فخلعه ووضعه هو الآخر في وجه الطبيب الشاب الذي لم يكفَّ، مع ذلك، عن قَرْش بديعة ببطء وتلذّذ. عادت بديعة من الحمّام وهي تحمل إناء عليه ملقط وقطن وشاش وزجاجة معقم وعلبة ذرور. وقد أفاد تقرير هايت، انبعث الطبيب الشاب، أن العادة السرية هي إحدى أهم الطرق التي تلجأ إليها النساء لبلوغ النشوة. لم تعرف بديعة، مع مفاجأتها بجذع عبد الهادي العاري أمامها لأول مرة، ماذا تفعل بالأغراض التي تحملها، فأنقذتها من حيرتها عندئذٍ الساعةُ الرقمية على شاشة التلفون إذ بلغت الثانية تماماً. وضعت ما في يديها إلى جوار كومة الألبسة على الطاولة، ثم أسرعت إلى الغلق الحديدي، أنزلته إلى أكثر من نصف باب الصيدلية، وعادت لتقف إلى جانب عبد الهادي دون أن تلتفت إليه. ثم كأنها فوجئت بوجود الطبيب الشاب في الصيدلية حتى الآن، فجمد على فمها ما يشبه ابتسامةً تلقائيّةً مستفهمةً ظنّته معها سوف يأخذ كيس كعكه ويذهب. لم يذهب الطبيب الشاب لأن الرسوم التشريحية للعضو الأنثوي التي قامت بها الفنانة سوزان كاج أتاحت فهم الجنسية المؤنثة بشكل أفضل. وكان عبد الهادي قد اعتقد أن بديعة لم تظهر من الحمّام بكل هذه الخفّة وهذه الفتنة وهذا البهاء إلا من أجله، وأن أقصر طريق إلى منع الطبيب من الاستمرار في تفريغ روائحه الكريهة هو أن تعترف له بحبها على وجه السرعة وبصوت عال وفصيح كما لم تفعل في حياتها قط. ثم ركّز فكره كلّه في شفتيها المطبقتين وانتظر، انتظر. ثم انتظر يدها على الأقل أن تحطّها حالاً على رأسه وتنوّم براحتها شعره المنكوش. أما إذا أخذت إحدى يديه من حضنه وحشرتها في جيب صدريتها البيضاء فلن يبقى لهذا الرجل السميك أي عذر يمنعه من أن يفهم أخيراً أن بديعة على قدّه وتلبسه كالخاتم. ومن المؤكد أن فرويد كان سيقدر رسوم سوزان كاج، وأن بديعة لن تستغني عن عبد الهادي، لأن التشريح الداخلي للعضو المؤنث لم يكن معروفاً في عهد فرويد، ولأن الفاتحة القديمة لم تبرد على مرّ السنين وشهودها مازالوا يدبّون على عصيّهم وباكوراتهم إلى سوق الحميدية كل صباح. وبالفعل لا ينبغي لشيء، أياً كانت كراهته، أن يقلق عبد الهادي لأن أحداً غيره لن يكون قضاء بديعة وقدرها. لكنها، مع ذلك، لن تخسر شيئاً إذا صرّحت الآن بعظمة لسانها للطبيب الشاب بأنه يضيّع وقته معها بلا فائدة، والأفضل له ولها ولعبد الهادي أن يحمل فوراً كيس كعكعه ويخرج من الصيدلية. وكان جذع عبد الهادي العاري، على خلفية تشريح سوزان كاج للعضو الأنثوي بلسان الطبيب الشاب، قد اكتسب تأثيراً إضافياً على بديعة، ما عرقلها من تضميد اللحم المتهتك على جبينه حتى الآن. وكانت تدرك خطأ تركه أكثر من ذلك دون إسعافٍ أوليّ، فقررت، لكي ترى الملقط وتعرف كيف تفتح زجاجة المعقم وكيف تلفّ الضماد، أن تُناول عبد الهادي قميصه الداخليّ ليرتديه- نزلت عليه فوراً برؤوس أصابعها والتقطته من على الطاولة. ثم أرادت أن تسلّمه رأساً إلى عبد الهادي، لكنّ العلماء في قصاصة الطبيب كانوا يشيرون في هذا الوقت إلى أهمية إثارة البظر بفم الشريك، فَعَصِيَ القميص بيدها- كان دافئاً وأبيض، فوق ذلك، ناصعاً كاليقطين، فما فرّطت به، أمسكته بيدها الثانية وقرّبته من جسدها، وما إن التصق ببطنها من فوق صدريتها البيضاء حتى سحبت نَفَساً مفاجئاً عميقاً ترافق مع اندلاع كمّه الزلق إلى أسفلها الحار النظيف المزرّر بإحكام. شعر عبد الهادي بنفسه داخل قميصه الداخلي وأن بديعة قد ضمّته إليها الآن وهي تحمله بالمقلوب فوقع فمه عند مفرق فخذيها بالضبط. ولم يكن لديه خبرة سابقة بهذه الوضعية ليستعين بها في هذه اللحظات، بينما لم يتوقف العلماء في القصاصة نفسها عن التأكيد مرةً أخرى وأخرى وباللسان الكريه نفسه، على سهولة الإثارة البظرية وضرورتها في مثل هذه الأحوال. وبالقياس إلى العِشرة الطويلة مع بديعة لم يكن عبد الهادي ليتخيّل شيئها إلاّ كياناً مكنوناً عريقاً ساري المفعول وغير مفهوم. ومن ثم لم يكن ليعتقد أن يكون لهذا الشيء المحترم بظرٌ أصلاً لكي يبدأ بإثارته، ثم إن تصورّاته السابقة عنه لم توحِ إليه قط إلاّ بأشياء مجيدة وغابرة من قبيل رضا الوالدين، وزيارة المقابر في الأعياد، والمشي في الجنازات، وصلة الرحم، وفتح الأندلس، وربع الصوت، والإسطرلاب، وكلمة "الجبر"، والأرقام العربية. ولذلك كان الطبيعي والمتوقّع أن لا يكون لوجود فم عبد الهادي فوق شيء بديعة أي تداعيات أخرى غير الإحساس بالذنب والحرَج ثم الغموض. لكن ما حدث كان فوق كل التصوّرات التليدة المنتظرة، فعلى وقع الدراسات التي ظلّت تتعمّق في الأعضاء المؤنّثة بعد رسوم كاج، وجد عبد الهادي نفسه يفكّر ويتعمّق هو الآخر في شيء بديعة الذي تحوّل، تحت ضغط شفتيه وتدفّق نتائج البحوث، إلى عضو أنثوي جدير ببظرٍ وعلماءَ يدرسونه شأنه شأن الأعضاء الناضجة الأخرى التي تتعاقب على لسان الطبيب الشاب. ثم خيّل لعبد الهادي أن لسان الطبيب الشاب قد بدأ يتماهى بلسانه شيئاً فشيئاً حتى لم يعد يميّز أيّ اللسانين يتابع تشريح الأعضاء الأنثوية على مرّ السنين وأيّهما يفكّر ويتعمّق الآن في عضو بديعة بالذات. ورغم أن القميص الداخليّ المقلوب على بطنها يمكن أن يشكّل دليلاً ما على تعمّقه هو بالذات في عضوها، إلا أنه، مع خبرته المعدومة في مثل هذه الطرق بالتفكير، كان على ثقة من أن المتعة المحروفة التي يجنيها الآن، بسلاسة وتفوّق، ما كان لها أن تتمّ لولا لسان الطبيب الشاب. ثم إن النزاهة الكاذبة والموضوعيّة المغرضة اللتين يتحلّى بهما هذا الرجل في سرده العلميّ الشبِق يكشفان بوضوح عن رغباته الصريحة ببديعة، الأمر الذي سرّع في عمليّة التماهي المذهل بين اللسانين وضاعف، في الوقت نفسه، من الرائحة الكريهة في الصيدلية فأصبحت لا تطاق. وكان عبد الهادي مستعدّاً، رغم اختناقه الواضح، أن يتنفّس المزيد والمزيد من الهواء المقرف مادام مترافقاً مع السعادة الخلاّبة غير المطروقة التي تغمره الآن. لكنّه لم يعرف كيف ينجو، في أثناء ذلك، من فكرة تساويه المُحبِط القائم، الآن، والمكشوف مع الطبيب الشاب في علاقة شديدة الخصوصيّة مع بديعة كان ينبغي أن لا تتعدّاه إلى إنسان آخر. وكان انغماسه بحصّته من السعادة أقوى من أن يجرؤ على إفسادها بعزلها التعسّفيّ عن حصتَيْ بديعة والطبيب الشاب، فظلّ مختنقاً حتى العظم بالرائحة الكريهة، وسعيداً حتى العظم، ومسموماً حتى العظم بأنه الآن لا يفرق عند بديعة عن أيّ رجل آخر يتعمّق فيها في مثل هذا الظرف وفي مثل هذه الوضعيّة. وفيما هو كذلك إذا بالطبيب الشاب ينسحب من حصّته من السعادة على غير انتظار- طوى قصاصته فجأةً، وأعادها إلى عبّه على عجل، ثم توجّه نحو الباب كما لو أنه تذكّر في اللحظة الأخيرة موعداً خطيراً شغله حتى عن إلقاء السلام قبل أن يملص من تحت الغلق. انفجرت بديعة بالبكاء. ثم سارعت، في غمرة انتحابها الشاكي، إلى الباب بطريقةٍ بدت معها كأنها ستملص هي الأخرى وراء الطبيب الشاب. غير أنها أنزلت الغلق حتى النهاية، ثم أدارت مفتاح القفل في باب الألمنيوم، وعادت في الظلام الدامس الذي عمّ الصيدلية باتجاه الطاولة. كبست زر المصباح فوق سطحها، ثم جلست على الكرسي تتابع بكاءها الحار العالي في قميص عبد الهادي الداخلي الذي مازال بين يديها. كان عبد الهادي قد أغمض عينيه عندما تبددت العتمة القصيرة بالنور الذي أشعلته بديعة. كأنه فوجئ بحاجته الماسة إلى الظلام عندما نزل الغلق إلى النهاية، فلم يستوعب جلاءه بهذه السرعة. كان، كأنما، ينتظر هذه الظلمة المفاجئة التامّة منذ الصباح، وربما منذ مساء أمس، أو قبل ذلك بكثير. كأن تمزّقاً واسعاً أكّالاً في روحه كان لا يسدّه في الفترة الأخيرة إلا ظلام كلّي مباغت كالذي خسره قبل قليل، فبدا من دونه الآن مثل مُنتشَلٍ من أعماق نومة هنيئة، وكاد يستغرب وجوده في الصيدليّة لولا كيس الكعك الذي نسيه الطبيب الشاب على الطاولة. ثم لم يفهم لماذا تبكي بديعة بهذه الحماسة وهذا التدلّه، فشرد بها- خيّل إليه أنها في حضور الطبيب كانت أجمل منها الآن بما لا يقاس، ثم خشي أن يكون وجوده معها في غيابه قد فقد كثيراً من معناه ومبرراته - لابد إذاً من روائح كريهة وكعك متواصل وعلماء لا يتوقفون عن التشريح لكي يستسيغ امرأةً قضت عمرها تنتظره وكادت تصبح البارحة زوجته حكومياً. يا إلهي! أيّ هواجس غريبة تتناهبه الآن! يجب أن ينام، إنه متعب لا أكثر. إذا نام فسوف يكتشف، عندما يستيقظ، كم كان مجحفاً بحق بديعة وكم هو مدين بالاعتذار إليها جرّاء ما يخطر به الآن. ثم، بقوةِ سؤاله المؤلم القديم الذي طرحه في صباه على أمّه في المطبخ، استطاع أن يرى في فقدان بديعة رونقَها تعبيراً جليّاً عن انحيازها التامّ والسافر إليه وحده بلا عنعنةٍ أو لُبس، فانبرى يبالغ في إزالة حُسْنها المراوغ. وفي غضون لحظات معدودة أصبحت، في عينيه، تُظهِر بانحنائها فوق قميصه الداخليّ سماكةً مذهلة من الشحم فوق لوحَيْ كتفيها على شكل ثديين خلفيين بينما جلس ثدياها الأماميّان العظيمان قدامها لأول مرة على الطاولة. ثم ساعدته بديعة نفسها في استكمال تهيؤاته عن حُسنها المفقود حين تمخّطت بقوة لافتة لو سمعها الطبيب لما قرش عندها كعكة واحدة. وإذ انتبهت بديعة، بعد فوات الأوان، إلى أنها فرّغت سوائل أنفها الطويلة دفعة واحدة في قميص عبد الهادي، أبعدته عن وجهها وقد رمحت في مكانها وقطعت بكاءها بغتةً. وكانت لا تستطيع النظر إلى عبد الهادي، فذهبت بعينيها إلى إناء التضميد. كان عبد الهادي في هذه الأثناء يكتشف، ببراعةٍ واندفاعٍ كبيرين، أنفَها الجديد الضخم وقد حمّرته السوائل الحارة، وجفونَها وقد تسلّخت من التسميط، وشفتيها وقد تفزّرتا بلحم وردي مسلوق. لو تلبّث الطبيب قليلاً لرأى بأم عينيه ماذا تفعل عدة دقائق من البكاء بوجه بديعة. ماذا يحدث، يا ألله، لو أن بديعة بكت طول العمر؟! يا ألله ما أجمل بديعة عندما تكون قبيحة جداً! يا ألله لا تقطع البكاء عن وجه بديعة لكي يظل عبد الهادي متأكداً من أنها سوف تنحاز إليه دائماً وتقبله في كل الأحوال. لن يُحيجه قبحها بعد الآن إلى أي سخّانة كهرباء تثبتها في حياته. قبحها هو الدليل الدامغ الأكبر على أنها، هي بالذات، ضلعه المكسور هو وحده دون غيره. وكانت بديعة قد كوّرت القميص الداخلي الرطب وركنته إلى جانب التلفون- إذا غسلته الآن لن تجد مكاناً لنشره في الصيدلية، ثم من أين تأتي بالوقت والطست ومسحوق الغسيل إذا كانت لم تضمد عبد الهادي حتى الآن- نظرت إليه أخيراً بعينين مكسورتين، فاختنق وجهها بالدم وملأ الدمع المالح أنفها الناضج من جديد. ما أروعها! ثم قامت من مكانها بصعوبة. ما أجلّ وأثقل مؤخرتها الملفوفة بصدريتها الواسعة البيضاء! رسمت الآن بملامحها، المتورّمة بصورة لا تُصدّق في عيني عبد الهادي، انطباعاً حازماً قدر الإمكان وهي تنشق بأنفها دموعها الجديدة اللزجة. لكنها ما لبثت أن رقّت على نحو مفاجئ حين انخطف بصرها نحو شفتيه المدمّاتين- ليته يمرّ بهما على طول كمّها الناصع! تمنّت، ثم طلبت إليه بخفر عروس في ليلة دخلتها أن يجلس على كرسيها. ليته يمرّ بشفتيه المدمّاتين هاتين على ياقتها النظيفة العالية! جلس عبد الهادي مفتوناً بغبغبها الذي لم يره قط منتبجاً تحت ذقنها المرتعشة. ليته، ياربّ، يمرّ بشفتيه المدمّاتين على حافة حجابها الطاهر! نقز عبد الهادي تحت رأس الملقط والقطنة الباردة الملتوتة بالمعقم. نقزت معه بديعة، ولكي تحبس عينيها في حدود اللحم المتهتك على جبينه فقط انبرت بأنفاسها المبهورة تخبره، كما تشكوه إليه، كيف قلبوا الدنيا عليه البارحة ولم يجدوه، وكيف بقي القاضي الحكومي كرمى لوالده حتى انفضّ جميع المدعوين بعد الواحدة صباحاً، وكيف أغمي على والدته عندما اعتبرتها عمته بهيرة غشيمةً أمام الضيوف، وأنها ضيّعت بإهمالها ولداً مثل الوردة الجوري بشربة ماء، وأنها لو ربّت جَدْياً لكان أحسن لها وأليق بها، وأن أخاها والد عبد الهادي لو تزوج بقرة لربح حليبها على الأقل، ثم كيف جاءت الست بهيجة بعد منتصف الليل تطالب بالأستاذ سميع، وكيف هدّدت بأنها سوف تشتكي للشرطة إذا لم يظهر حتى الصباح لأن الأستاذ سميع لا يخرج بعد السابعة مع أحد ولا يتخربط عدّانه إلا لمّا يزوره المنظوم عبد الهادي. ثم أمسكت بديعة عن الكلام لكي لا يسقط بالخطأ شيء من الذرور في عينيه، فيما انحنت فوقه لمزيد من الحرص. صار عبد الهادي يستنشق أنفاسها لأول مرة من هذه المسافة القريبة جداً- كانت أقرب ما تكون إلى بخار يتصاعد من عدس على نار حامية، عدس بيتوتي قديم يعجّ عادة في مطابخ الأمهات في غياب الآباء. وإذ أيقن عبد الهادي أخيراً أنها بهذه الملامح المتداخلة سوف تحبه للأبد ولن تتخلى عنه مهما قرش الناس كعكهم في صيدليتها، همّ بالنهوض ليبرهن لها على حبه الكبير. لم تسمح له بالنهوض، ثبّتتْه على الكرسي بساعديها، فقد حان أوان الشاش. لم ييأس، انتظر حتى أحكمت تلزيق الضماد حول رأسه. وما كان لعواطفه العميقة أن تبرد في هذه الأثناء، فنهض. تبعته بقطنة جديدة ملتوتة بالمعقم على رأس الملقط، ونظّفت آثار الدم على شفتيه بشغف. وقعت عينه، عندئذٍ، على ديوان أبي القاسم الشابي، فعرف الآن فقط أنه اشترى الديوان منذ الصباح خصيصاً من أجل هذه اللحظة. انتظر حتى انتهت بديعة من شفتيه، ثم تناول الديوان باحترام واحتفاليّة لافتين وقدمه إليها بسخاء، وقد خُيل إليه أنها تسمع الآن دقات قلبه العالية. ثم أراد أن يلقي الضوء على مزيد من عواطفه، فقال:

- هذا شاعر معذّب.

أدرك فوراً أن ما أراد قوله كان شيئاً آخر، فالقليل الذي يعرفه عن أبي القاسم الشابي لا يخوّله بهذا التعريف. ثم إذا كان شاعراً معذباً فعلاً فإن ذلك لا يشرح لبديعة مقدار ما يكنّه لها من مشاعر عميقة. لو كان الديوان لقيس ليلى مثلاً لاستطاع، ربما، تحديد مقاصده بصورة أفضل. تناولت بديعة الديوان بتأثر بالغ، وضمّته إلى صدرها كما لو أنه قميص عبد الهادي الداخلي. كانت دائماً واثقة من ذوقه الرفيع وشفافيته الشديدة. ولكي تؤكد أنها ممسوسة بلفتته الرمزية الرهيفة وجدت نفسها تستظهر أمامه بصوت ضعيف رقيق ومكسّر:

- إذا الشعب يوماً أراد الحياة فلابد أن يستجيب القدر.

استغرب عبد الهادي لبرهة خاطفة، وكاد يضيق من جديد بالمعلومات الفقيرة الموحّدة لدى الجميع. لكنه، وبقوةِ الحنان التي تدفقت بها الكلمات على لسان بديعة، وجد نفسه يجيب بالصوت الضعيف الرقيق المكسّر نفسه:

- ولا بد للقيد أن ينجلي ولا بد للّيل أن...

وهنا زقزق قلب بديعة من الفرح، فانبرت بحماسة متهدّجة تصوّب الأخطاء اللذيذة التي وقع فيها زوجها الحتميّ:_ للّيل أن ينجلي وللقيد أن ينكسر.

لم يدرك عبد الهادي ما إذا كان هناك فرق جوهري بين المعنيين، لكنه كان سعيداً جداً بأخطائه مادامت بديعة مفتونة بتصويبها إلى هذا الحد. سوف يخطئ من أجلها في المرات القادمات. سوف تتعثر خطاه، سوف يتلعثم بكلامه، وسوف يخرج من النافذة عندما ينبغي له الخروج من الباب. لبديعة وحدها أن تعلّمه، وله أن لا يتعلّم، أن لا يحفظ الدرس إلى الآخر، أن يطرق إلى الأرض، أن لا يكتمل أمامها، أن يظلّ ناقصاً بإصرار، وأن لا يكلّ أبداً من مآخذها عليه هو الولد العفريت طول النهار والمذنب دائماً بين يديها عند المساء. ليتها تؤنبه الآن بصرامة أستاذة في الحساب العسير! يا إلهي كم أساء إليها! كم أساء إليها يا إلهي! ليتها تأخذه الآن، مرّةً وإلى الأبد، إلى تلافيف شحومها العظيمة الرحيمة المحجوبة التي اكتشفها قبل قليل! وفي لحظة صفاء عذب رفع رأسه إلى السماء المشمسة البديهية الأصيلة الزرقاء ولم يجدها- فوجئ بمروحة السقف، فحضرتْهُ الرائحةُ الكريهة والعلماء وقميصه الداخلي المقلوب على بطن بديعة الجميلة الرشيقة في أعين الجميع آنذاك، بديعة القبيحة الكاملة الآن المنحازة إليه، ربما، إلى الأبد. ربما، ربما. ثم ألفى نفسه منقاداً، بقوّة خارجة عنه، إلى مفتاح المروحة، فاقترب منها، كما يستغرق في أفكاره المتضاربة، وشغّلها إلى الآخر، ثم عاد ووقف تحتها مباشرةً وهو ينظر إليها ويستنشق ملء رئتيه هواءها القويّ البارد. قلقت بديعة، فاقتربت منه وأمسكته من مرفقه وشدّته إليها من تحت المروحة. التفت إليها، فلمح قميصه الداخلي مكوّراً إلى جانب التلفون، التقطه وانضم فيه. شعرت بديعة أنه إذا أتم ارتداء ملابسه فسوف يطير من بين يديها، لكنها لم تجرؤ على استبقائه وهي ترى سوائل أنفها تنتشر أمامها الآن لطخاً معيبة على صدر قميصه الداخلي الملبوس. ولكي تخفيها بالسرعة الممكنة مدّت يدها وناولته قميصه البوبلين الأبيض ليرتديه. ثم ذكّرته، فيما بدأ يبكّل أزراره، بأن القاضي الحكومي سوف يعود اليوم مع كل المدعوين، ويتعيّن عليه أن لا يخذلها في هذه الليلة أمام أهلها على الأقل- عليه أن يحضر من كل بد لأن ليلة الدخلة على كل حال سوف تكون في يوم الخميس القادم أليس كذلك؟؟ أليس كذلك؟؟ أليس كذلك؟؟ ظل عبد الهادي صامتاً، ومستعداً لأن تنشق الأرض وتبتلعه في تلك اللحظة. وريثما يجيب بالإيجاب عن سؤالها الملحّ أخبرته بديعة أن أمها البارحة بعد عودتهم إلى المنزل قبيل الساعة الثانية صباحاً أصيبت من حرّتها بنوبة ربو شديدة، فنقلها أبوها إلى المستشفى. لكن بديعة لم تسكت لها بعد أن عادت إلى البيت وصارت تندب حظها وحظ ابنتها الأسود من عبد الهادي. فهّمتها بوضوح وللمرة الألف أن عبد الهادي زوجها حتى بدون عقد الحكومة، وأن رجلاً غيره، مهما أسعفوكِ إلى المستشفى، لن يرفع لها ذيلها. ولمّا ظلّ عبد الهادي صامتاً حتى الآن انتبهت بديعة إلى الغبار على بنطلونه، فقرفصت أمامه في الحال وصارت تنفضه بقوّة. شعر بألم ممض عندما وصلت إلى ركبتيه، لكنه ظلّ يستمع إلى سلسلة مخططاتها، في هذه الأثناء، عن مستقبلهما السعيد المشترك الذي سيبدأ في يوم الخميس القادم أليس كذلك؟ أليس كذلك؟ أليس كذلك؟ وكان من غير المفهوم أن تيأس من جواب عبد الهادي الإيجابيّ بعد عشرات السنين، فظلّت، بقوّةِ فاتحتهما القديمة الصامدة حتى الآن، تلطم الغبار على بنطلونه وتعِده بالهمّة نفسها بولد سيسميانه على اسم أبيه، ثم بولد آخر على اسم أبيها، ثم سيكون بوسعهما الخروج من حارة الباشا إلى شقة في عمارة. ستكون العمارة قريبة من روضة أطفال ومدرسة ومستوصف لأخذ اللقاحات في مواعيدها الدقيقة، وعلى عبد الهادي أن يكون حليماً إذا تشاقى الأولاد، لأنها لن تسمح بكلمة قاسية واحدة توجّه إلى أي منهم أبداً، أبداً، هل تفهم؟ ثم لم يعد عبد الهادي يشعر بركبتيه من الألم، لكنه مطّ جذعه من فوق بديعة وتناول جاكيته الأسود من على الطاولة ولبسه. توقفت بديعة عن لطم الغبار الذي ظلّ عالقاً على بنطلونه ونهضت، فقد خشيت من أن يخرج بالفعل مادام أتمّ ارتداء ملابسه. وكان عبد الهادي في أشدّ الحاجة لأن يثبت لها العكس لأن أحداً لا ينتظره، وليس ثمة مكان يذهب إليه. لكنها أمسكت بيديه تودّعه كما لو أنها عاجزة فعلاً عن استبقائه دقيقة أخرى، فامتلأ أنفها بدمعها المالح من جديد، وارتعشت ذقنها وأكّدت عليه من جديد أن يؤجل كل شيء ويأتي في المساء بعد صلاة العشاء مباشرةً. وكما تتوسل منه تعهداً بالمجيء هزّت يديه للمرة الأخيرة قبل أن تتركهما يسقطان في الفراغ. أكد لها أنه سيأتي من كل بد، وكان يودّ لو عادت وأمسكت بيديه بإصرار فلا تسقطان في الفراغ مرةً أخرى. لكنها ابتسمت له، بدلاً من ذلك، بعينيها المليئتين بالدموع، فتراجع إلى الوراء خطوتين وهو مايزال ينتظر بمرارة أن تهجم عليه وتمنعه من الخروج. لم تفعل. ظلت ذقنها ترتعش فقط. استدار وخرج من الصيدلية. كان كيس الكعك الذي تركه الطبيب الشاب يتحرك على سطح الطاولة تحت هواء مروحة السقف، ثم ما لبث أن سقط إلى الأرض- كان فارغاً.

* * *

VII

لن يعود عبد الهادي إلى الفندق في شارع بارون. لن يستعمل مرة أخرى غرفة الشخص النموذجي الذي يغيّر قناعه تبعاً لوجوه النزلاء المتعاقبين. لن يتنكر هذا الكائن المجرّد بوجهه مرةً أخرى. يستطيع، إذا شاء، أن يستعمل ربطة عنقه الذهبية التي نسيها هناك. إلى أين يذهب إذاً؟ سوف ينتهي مبدئياً من هذا الشارع حتى أول مفرقين، وهناك سوف يقرر ما إذا كان سينعطف نحو اليمين أو نحو اليسار. بدأ يتحسس في وجوه المارة وبعض الواقفين أمام فيترينات المحلات كم هو متعب وكم هو غريب. سوف يذهب إلى مقعد منزوٍ في الحديقة العامة ويستلقي عليه. مقاعد الحديقة، هي الأخرى، لكل الجالسين المتعاقبين عليها الذين يمكن اختزالهم، هم أيضاً، بجالس نموذجي واحد يتكرر بلا كلل بوجوه مختلفة سيكون عبد الهادي أحدها بعد قليل. لن يذهب إلى الحديقة. إذا ذهب إلى السينما واسترخى في محلّه طيلة عرض الفيلم سوف يكون، هنا أيضاً، أحد أقنعة المُشاهد المجرّد الواحد المتكرّر في كل صالات السينما. لن يذهب عبد الهادي إلى مكان، سوف يظل ذاهباً فقط. لكنّ الرصيف، هو الآخر، لكلّ الذاهبين بلا استثناء مثلما الشارع لكل السيارات، وإشارات المرور لكل السائقين على الإطلاق، والأشجار لكل المستظلّين بها من الناس والكلاب والقطط والهوام، والهواء لكل أنوف المخلوقات بالتساوي الممل، والسماء زرقاء لهم جميعاً وبالقسطاس. ما الداعي إذاً للفروق الشكلية بين هؤلاء البشر الذين يتقاسمون هذا العالم بهذه الدقة؟ ما الداعي إلى وجوههم؟ ما الداعي للطول والقصر؟ ما الداعي للألوان؟ ما الداعي للأسماء؟ ما الداعي لعبد الهادي إذا كان أيّ عبد العزيز في العالم يمكن أن يحلّ محلّه؟ وماذا سيخسر عبد الهادي لو كان شجرة زنزلخت أو عين كلب أو كيدون بسكليت أو صخرة على رأس جبل؟ يا إلهي ما أقبح العدل وما أقساه! يا إلهي إجعل عبد الهادي يكفّ عن هذره! يا إلهي دبّرْ له مكاناً ينام فيه قبل أن ينفجر الآن ويضمحل في الهواء! بطّأت سيارة تكسي من سرعتها حين جاورت عبد الهادي كما تبطئ أيّ سيارة تكسي شاغرة عندما تمر براكب محتمل. أشار عبد الهادي بيده لها تماماً كما يشير بيده أيّ شخص آخر يستوقف سيارة أجرة تمر بجواره. فتح الباب الخلفي كما يفتحونه جميعاً، وكما يجلسون جلس. استفهم السائق في المرآة كما يستفهم السائقون عادةً في مراياهم عن الجهة التي ينوي الراكب النموذجي الذهاب إليها. لن يذهب عبد الهادي إلى مكان، فلم يفصح للسائق عن جهة محددة، ابتسم له فقط. كرجت السيارة بهما إلى الامام، وظلّ السائق في المرآة ينتظر جواب عبد الهادي حتى وصل إلى المفرق فأوقف السيارة واستفهم منه مرة أخرى.

- سوق! قال عبد الهادي، ثم أردف:_ سوق شي بخمسمية ليرة.

لم يفهم السائق، فاضطر عبد الهادي إلى أن يُخرج محفظة نقوده. باغته أنها تحتوي على ورقة نقدية واحدة فقط. سحبها، فكانت من ذات الخمسمئة. ناولها مع ذلك إلى السائق، وطلب منه أن يطعمها كاملةً لعدّاد السيارة. عبّر السائق، رغم ذلك، عن حاجته لتوضيح أبسط.

_ سوق، ونزّلني لمّا تنتهي الخمسمية ليرة في العدّاد. قال عبد الهادي.

استغفر السائقُ ربّه بصوت خفيض، ثم انعطف إلى اليمين بنزق. ظن عبد الهادي أن السيارة ستتابع سيرها به إلى الأمام، فاستطاب الآن أن تُخذل ظنونه ما دام لا يذهب إلى مكان. في البداية بدت له الأماكن التي يتلقّاها من وراء الزجاج تتمةً مألوفةً لطريقٍ بدأ منذ قليل من صيدلية بديعة. ثم صارت السيارة تقطم اتجاهاتها وتحرفها دون توقف ولا تعيين. ثم شيئاً فشيئاً أصبح عسيراً على عبد الهادي أن يحدّد موقعه من العاصمة القديمة. كانت السيارة بسرعتها وعشوائيتها تحوّل المدينة في عينيه إلى قصاصات مناظر مبعثرة لم يعد قادراً على تجميعها وتلصيقها. كان يقع أحياناً على مبنىً ظنَّ حتى قبل ثوانٍ أنه يعرفه، وربما كان قد تردد إليه غير مرة، لكنه سرعان ما يتشكّك به عندما يتّصل فجأة بمنشآت مبتورة من أماكن أخرى لا تحدّه في الواقع. ثم خيّل إليه أنه في مدينة لا يعرفها- كأن الراكب يتحول تلقائياً إلى شخص غريب في مدينته الخاصة عندما لا يكون نموذجياً، والمناظرَ تصبح منطقيةً من وراء الزجاج وعلى قدّ تصوراته عنها إذا كان كذلك. وهكذا لن يستعيد عبد الهادي مدينته التي فقدها قبل قليل إلا إذا حدّد الآن للسائق وجهة ركوبه. لكنه لا يذهب إلى مكان، وسوف يظل ذاهباً فقط. سوف تهذي به السيارة بلا رحمة، وتُفكّكُ له الشوارع ناثرةً محتوياتها وراء عجلاتها السريعة. وكان أهون على عبد الهادي أن يغمض عينيه ويسند رأسه إلى ظهر المقعد ويستسلم لجسمه المضعضع وللنعاس الشديد الذي يثقل جفونه. لكنه سوف يفوّت على نفسه، إذا فعل، إحساسَه الفريد بأنه لا يتكرر الآن في أي مكان آخر، ولا يمكن لأحد كائناً من كان أن يحلّ محله، وليس لأحد مهما كان مجرّداً أن يتقنّع به. الآن فقط يتبدّى جلياً لعبد الهادي أن ما يخصّه لا يخص أحداً سواه، فاستخفّ بالغثيان الذي بدأ يعصف به، وفهم بسهولة أن الوضع المميز الذي هو فيه لن يمر بلا ثمن. حسنٌ، فلتتقطعْ أحشاؤه! سوف يتقيؤها على صدره إذا دعت الضرورة. لتبرمْ به رأسه قدر ما تشاء! لن يهدّيها بين كفّيه مهما ارتطمت بالزجاج إلى يمينه وبالمسكة المنكّلة أمامه. ثم شعر عبد الهادي أن المدينة الغريبة التي تصفق النوافذ بمناظرها المقصقصة المتطايرة بدأت تبتعد عن السيارة شيئاً فشيئاً حتى عدمها تماماً عندما هوى في ظلام زلق عميق أشبه ما يكون بالغيبوبة التامة. صارت رأسه تتقافز بحياد كلّي على زجاج الشبّاك المجاور بينما ظلت عيناه مفتوحتين بإصرار فيزيائي وحشي. كان لا يرى ولا يميّز أن السيارة في تلك اللحظات تخترق به ساحة الأمويين. وكان لن يشعر بأي فرق لو أنها تَدَهْدَتْ به من أعلى قاسيون. ثم لم يعنِهِ في شيء أن الشارع الذي صعدت فيه السيارة كان باسم المهدي بن بركة. كانت رأسه لن تتوقف عن الطرق بالزجاج لو كان الشارع باسم شخص عادي آخر. لم يكن لديه أي اهتمام ليعيره لحديقة الجاحظ حين مرت بجواره، وكذا حين مرّت مسرعةً السفارةُ الفنلندية والسفارة السعودية والمركز الثقافي العربي والمركز الثقافي الأميركي والمبنى السابق للمجلس الثقافي البريطاني والجسر الأبيض وساحة عرنوس وشارع الباكستان وساحة السبع بحرات وشارع بغداد المنحدر إلى باب الفرج وجادة الخندق وباب النصر وباب الحديد وجبّ القبة ودوار القلعة ثم سوق الحميدية وباب سريجة وباب بغداد والسرايا القديمة وسينما الشرق ومكتبة الخابور وشارع المنصور والمجمع الحكومي وثانوية خديجة للبنات والسجن والمقصف وكنيسة الروم الأرثوذكس ثم الدلاّلين وساحة المشاطية وأشهر بائع عجّة فيها والأوظلية وحمّام رقبان وبانقوسا وباب الحديد مرة أخرى وسوق الهال القديم والبحصة وجسر فيكتوريا وساحة الأمويين مرة أخرى والميدان والحي الروسي ودار العجزة، وتماماً في الشيخ طه عندما انحرفت السيارة باتجاه السريان الجديدة، بينما كان العدّاد يلتهم الخمسمئة ليرة بنهم جنوني، لم يسيطر السائق على سيارته الطائرة عند الدوار المزدحم. فرملها بقوة، فقطعت إشارة المرور وهي تشحط دواليبها الثابتة على الإسفلت حتى كادت تدخل في خزان وقود سيارة شحن. ارتطمت رأس عبد الهادي بالمسكة الحديدية المنكّلة أمامه، فانتشله الألم من غيابه العميق. رأى كيف خرج السائق من السيارة وبدأ يتعالج مع شرطي سير أنشأ بعد قليل يعاتبه بمودة واضحة، بينما كانت تصم الآذان زماميرُ سيارات واقفة في مفارق أربعة. ثم لمح عبد الهادي وراء صفّ من أشجار صنوبر على رصيف مقابل عملاقاً عارياً، رآه من قبل حتماً في مكانٍ غاب عن باله الآن، بكيلوت بكّيني أزرق وجسد برتقالي مُحزّز مدهون بالزيت ومليء بالشبابيك المفتوحة والمغلقة. ثم تذكّره بعد قليل، وفهم لماذا كان يتخيّل عمته بهيرة كلّما رأى بطلاً من أبطال الكمال الجسماني- كانت زياراته النادرة لها، وقد حدثت الأخيرة منها قبل عامين، مُعَلّمةً كلَّها بهذا الإعلان الكبير عن "بيت الرياضة لكمال الأجسام" المرسوم على طول خاصرة البناية التي تسكن فيها. كانت السيارات الآن ماتزال متداخلة في عيني عبد الهادي من وراء الزجاج الأمامي، وقد انضمت إلى جوقة الزمامير شتائم السائقين من كل صوب، فنزل من السيارة بصعوبة. وما إن وطأ أرض الشارع حتى شعر بدوّار شديد جعله يفكّر فوراً بالعودة إلى مكانه في السيارة لولا عمّته بهيرة- لمحها أمامه فجأةً تستند بكوعيها على حدّ نافذتها المفتوحة في منتصف كيلوت العملاق البرتقالي المحزّز. قطع الشارع الصاخب مترنّحاً بين السيارات الواقفة باتجاه الرصيف المقابل. شعر برغبة بالتقيّؤ عند أول شجرة صنوبر، فاستند إلى جذعها وتهوّع بلا جدوى عدة مرات، ثم مشى مثل سكران أمتاراً قليلة بمحاذاة أصابع قدمَيْ العملاق قبل أن ينعطف إلى اليمين نحو واجهة البناية. اعتقد عند بابها أنه قادر، رغم كل شيء، على حمل رأسه الثقيلة إلى الطابق الثالث، لكنه ما كاد يبلغ الطابق الأول حتى تدلْدلت على صدره، فما عادت عيناه طيلة صعوده البطيء تريان شيئاً آخر سوى بَياض قميصه البوبلين. ثم وجد رأسه تتدلدل بعد قليل على ظهر عمته بهيرة عندما فتحت له الباب، فامتلأت عيناه على الفور بورود فضّية وسوداء لا تحصى. وكانت العمة قد شهقت، من وقع المفاجأة على الأغلب، واغرورقت عيناها بالدموع، وأرادت، كأنما، أن تذرفها فوراً، لكنّ عبد الهادي حال دون ذلك حين رمى نفسه فوقها مباشرةً، فوجدت نفسها تمنعه، قبل أي شيء آخر، من السقوط على الأرض رغم شيخوختها الظاهرة. ماذا يفعل زرّ خمري كبير فوق مؤخرتها؟ وكان ضيقها الآن واضحاً من رأسه الضخمة التي أصبحت تكبسها نحو الأسفل وتدفعها إلى الوراء في آن، فتراجعت تحته وسايرت انهدامه عليها حتى ضمّته، رغماً عنها، في كوريدور المطبخ، وهي تتوازن بصعوبة فوق حذائها ذي الكعب العالي. لكنّ عينيها، رغم ذلك، ظلّتا مغرورقتين بدموعها عبثاً طيلة الكوريدور، فبدت معها، وقد احمرّت كلها من ثقله الباهظ، كأنها لن تذرفها كرمى لابن أخيها الهارب البارحة من عقد قرانه، والعائد إليها بالذات. وربما كان في فمها أشياء ضرورية كثيرة لن يتاح لها، هي الأخرى، أن تعبّر له عنها بعد أن فقدت سياقها الحار كأن تصاب على الأقل بذعر كاذب أو صادق من جرح رأسه الذي قد يكون بليغاً تحت الضماد. إلا أنها الآن، وقد وصلت أخيراً بحمولتها المضنية إلى المطبخ، بدت كأنها لا ترغب بشيء آخر سوى أن تلتقط أنفاسها، فمالت فجأةً بابن أخيها وتركته يسقط.

- خنقتني! صرخت مستثارةً وهي تسحب أنفاساً طويلة متلاحقة، كأنما، من حلاوة الروح.

استند عبد الهادي إلى أول شيء تلقّى كوعيه بمحض المصادفة، فكان ظهر برّادها الصغير. كانت العمة الآن ماتزال عالقةً باستثارتها، فبدلاً من أن تباشر، ولو متأخرةً، بأيّ من الواجبات الودودة التي يمكن أن أن تخطر ببال أيّ عمة لبقة تجاه ابن أخيها المضمّد انفجرت في وجهه، مع لهاثها المتفاقم، ووصفته بقليل الحسّ وعديم الوجدان. لم تفهم كيف يمكن لرجل مُقَدَّر مثله ببذلة سوداء وقميص أبيض أن يدق باب امرأة مثلها ثم يرمي حاله عليها مثل كيس الحنطة كما عبّرت وهي تنثر لعابها على وجهه. ثم شبّهته ببغل الشموس، وبدت كأنها تستطيع من حرَّتها أن تشحّر وجهه، فهي تكره كل جنس البغال من يوم ما زوّجها جدّه- أبوها، الله لا يرحمه، من ابن أخته البغل. نعم البغال لا ينقصونها يا سيد عبد الهادي، تابعت بحدّة أكبر، فلاحظ عبد الهادي مسكة باب البرّاد. وأبوك نفسه يا أفندي كان له إصبع كبير في تزويجها من ذلك البغل فقط لأنها لحست طيز أمك. كانتا يومها في حمام السوق، وكنتَ بسلامتك قردها الصغير بين فخذيها تمعك لك راسك بالبيلون. فتح عبد الهادي باب البراد، وشعر على الفور بأنه لم يأكل منذ ثلاثة أيام. وفي هذه الأثناء كانت عمتك بهيرة تفرك شعرها بالصابون، فدخلت الرغوة في عينيها، ولمّا مدّت يدها إلى الطاسة في الجرن لتشطف رأسها لم تجدها- "وين الطاسة يا ستّ الحسن؟" لم تردّ الحيّة أمك عليها لأن الطاسة كانت في مكسورتها تُسبّعك بها، وكنت أنت تصوي تحت الماء الحار مثل فرخ الجان. وجد عبد الهادي في البراد زورقاً كبيراً معرّماً بدراويش الكبّة المقلية. وكان الصابون يفلفل جفون عمتك فصارت تعرك عينيها وتُسَلّق بلاها عليك وعلى أمك. مدّ عبد الهادي يده إلى زورق الكبّة، وصار يأكل. وطبعاً لم تسكت أمك، اشتهت لعمتك أن تلحس طيزها عند هالصّبح، ورمت الطاسة على الأرض. اكتشف عبد الهادي صحن لبن في الطبقة الثانية. لم تصدق عمتك بهيرة أذنيها، غمرت رأسها كلّها في جرن الماء وقامت مثل سبعة بنت سباع، سلتت شعرها من الماء بحركة عنيفة واحدة، عقدته فوق رأسها، ثم هجمت على أمك وهي تحلف بالعظيم وكسر الهاء أن تحقق لها شهوتها وتلحس لها طيزها الآن أمام كل خلق الله في حمام النسوان، فانهزمت أمك أمامها مثل كلبة مرعوبة. صار عبد الهادي يغطّس دراويش الكبّة باللبن قبل أن يأكلها. وأنت يا سيد عبد الهادي كنت تعوي بالمقلوب فلقفتك النسوان من بين يديها، لكن ما تجاسرت لا بنت حلال ولا بنت حرام على الوقوف في وجه عمتك بهيرة، تركوها لها وهي تركض أمامها بدون وعي حتى فحّمت ووقعت أمام درج القمّيل مثل عنزة مسبوعة. أمسكتْها عمتك من شعرها الطويل، لفّته على يدها ونيّختها على الأرض، بطحتها على وجهها، داست على ظهرها بركبة واحدة، شمرت لها مئزرها، فطلع قفاها عليها مثل الشمع الأبيض، ثم تناولت عمتك قبقابها الجديد وصارت تلحس به طيز أمك بكل عافيتها وطول يدها دَقْ دَقْ دّقْ دّقْ دّقْ. لم يُخلّصها أحد ولم تقم عنها حتى تفزّرت أليتاها بالدم تحت القبقاب. شبع عبد الهادي، فأغلق البراد، وجرّ نفسه إلى المغسلة، غسل يديه وفمه، ثم نظر إلى نفسه في المرآة- كان ضماده المحكم العريض يغطّي جبينه، فصفن بوجهه حتى ظهرت عمّته وراء كتفه، فالتفت إليها وتناول منها المنشفة. وأمك يا سيد عبد الهادي لا تحتاج إلى سبب حتى تعرض رفرافها على أبيك، فقامت القيامة لمّا رأى سروالها معبّأً بالدم في تلك الليلة. ومن يومها حلف جدك وأبوك أفندي أن يزوجا عمتك من أول طارق حتى ولو كان قرباطياً. مشى عبد الهادي متثاقلاً باتجاه الصالون، استلقى هناك على الصوفا، فَرَدَ المنشفة على وجهه، وغرق مباشرةً في النوم. غابت العمة بهيرة في إحدى الغرف، وعادت إلى الصالون بحرام صوف غطّت به ابن أخيها، ثم جلست على الكنبة المواجهة كأنها ما تزال تختنق بالكلام المرير. ويا ليت كان قرباطياً! لو كان البغل الذي زوجوها منه قرباطياً لكانت عمتك بهيرة بألف نعمة من الله. القرباطي كان على الأقل يفهم بقلع الأضراس وفتل الحبال وشدّ الدربكّات ودق الطبول والشنشطة من بلد لبلد. أما بغلها المحَصّن بصُفَف الخارج ورضا الوالدة فلا يفهم بغير العلف ونقل الحكي. ولأن جدّك، على مقامه الكبير، كان يحب الفسفسة ويعتمد في هذه الهواية على ابن أخته، وحتى تبرد طيز أمك ويتهنّا أبوك بنومة الظهر وآخر الليل، ولأن ابن الأخت له على الخال وابن الخال وكان دائماً تحت اليدين وبين الرجلين عندهم، فقد تذكّروه ولقطوه بالملقاط وحطّوه في حضن عمتك عريس العمر وخيّال الكحلا. لكنْ عمتك بهيرة ما مسّكته ولا ظفر إصبعها الصغير سنة كاملة، هي تنام في غرفة النوم وهو على فرشة اسفنج في قبو المؤونة. وابن الكلب ما ملّ ولا كلّ، انتظر حتى سأله جدك عما إذا كانت بهيرة تنتظر شيئاً على الطريق، فاعترف لخاله بكل شيء. في الليلة ذاتها جاءها أبوك وظل يدبك عليها حتى تركها بين الحياة والموت، وعندما راح نزل الآن عريس الهنا على عمتك بهيرة وأخذها. اختنق صوت العمة، فتناولت محرمة من علبة بجانبها ومسحت كحلتها التي نزلت على خديها. ومن يومها تعلّم البغل كل شهرين ثلاثة أن يهدف إلى غرفة نومها، ودائماً بعد أن يدبك عليها أبوك. وأبوك يدبك عليها كرمى لخاطر جدك، وجدك يبعثه إليها كرمى لخاطر أخته التي كانت تنقّ في رأسه لكي ترى ضنا وحيدها البغل قبل أن تفطس. بس ألله العالي ما كحّل عينيها المعمّصتين بفرخ بغل واحد لأنه يعلم بالحال وما أراد أن يسوّيها جدة بكندرة أبيك وعلى حساب طيز عمتك. ثم جاء يوم فرط فيه معلاق البغل على كاس شاي. وكان إبريق الشاي قدّامه، لكنه لم يمد يده إليه لأن أباك في هذه الأثناء كان يدبك فوق عمتك. ثم طقّت مرارة البغل، وخاف أن يبرد الشاي قبل أن ينتهي أبوك من حفلته فوق عمتك، فقام الغشيم ولحّق نفسه بكاس شاي كبيرة. سمع أبوك القرقعة، فالتفت إليه، ولم يتحمّل منظره وهو يشفط الشاي الحار ويتمطّق به في هذا الوقت، فترك عمتك وشال كفّه ولطم بها صهره العزيز على بوزه. طارت الكاس من تحت براطيمه وسال الدم من بين أسنانه. ويا حزرك بماذا ردّ راعي البيت؟ ولا بشي، صبر حتى راح أبوك بعد أن بزق في وجهه ثم قام، مسح بكمّه البزاق والدم عن شاربيه وصب لنفسه كاس شاي ثانية وشربها على هينته. في تلك الليلة لم يقترب من فراش عمتك، وأبوك من يومها ما دبك فوقها. في ذلك اليوم عرفت عمتك أنها غالية في قلب أبيك، ثم تأكدت من معزّتها لديه لمّا جاءها البغل في اليوم الثاني، وقال "أخوكِ قلّعني من المحلّ". زغردت عمتك بهيرة وظنت من حرقة قلبها أن أباك لن يدفع له بعد الآن أجرة البيت، وأن صاحب البيت لن يسكّنه على سواد عينيه، سيقلّعه وستشحطه الكلاب. أما هي فكان حلواً على قلبها أن تعود إلى حصتها من بيت أهلها الكبير في حارة الباشا. لكن عقل عمتك الصغير نسّاها أن وائل أفندي سوف يشفع للبغل عند جدّك. وبالفعل، ما غابت الشمس حتى أرسل وراء ابن أخته لكي يُعشّي وائل أفندي. ووائل أفندي لا يشْكل عشاءه كيفما كان. وكانت أمك لا تتحمل تقسيم البغل في بيتها لولا وائل أفندي. قبل وائل أفندي كانت تتناول منه آلة الطبخة التي يرسلها أبوك وتصرفه بدون يعطيك العافية، أما بعد وائل أفندي فصار البغل يستقوي على الجميع ويدخل كأنه وائل أفندي بالذات خاصةً بعد أن تعلّق وائل أفندي بأقراص الهبرة المطحونة بالقلوبات التي لم يعترف البغل بوصفتها لأحد. كان يخاف أن تصل وصفة أقراصه إلى أمك، فيعفيه جدك من أكل وائل أفندي. وكان وائل أفندي لا يدخل إلى الحمّام إلا إذا سبقه البغل إلى هناك، ولا يُسلّم قفاه إلى أحد غيره يا عيب الشوم منّك. وكان أحب ما عليه أن يتمشّى معه بعد العشاء لأنه يقضي ثلاثة أرباع السيران بين يديه يحك له رأسه ويمسّد له ظهره وباب خاتمه حتى ينعس وينام. وفي شباط وآذار من كل سنة كان وائل أفندي يقلّ أكله ولا يعجبه العجب ويتنازق من الهوى الغربي. حتى جدك ما كان يتقارشه في هذه الفترة. وحده كان البغل يعرف دواه، لكنْ ما مرة فلته على باعه. كان يخاف عليه من قمل قطاط الشوارع، فكان يستنظف له مراده وعلى مهله من القطاط البيتوتيات بنات الأصل. ووائل أفندي كان معروفاً على معرفة جدك ومحبوباً على محبته، فكانت خيرة بيوت الحارة تبعث قطّاتها المعدّلات المدلّلات لعند البغل يكشف عليها، وينقّي منها المسعدات لزيارة وائل أفندي في شباط وآذار. ويوماً بعد يوم ما عادت عمتك تنسعد بأكل البغل في قبو مؤونتها، صار يحسب حساب نفسه من أقراص الهبرة المطحونة بقلوباته السرية ويتغدى ويتعشى مع وائل أفندي في مطبخ بيت جدك. ومن الليل إلى الليل صار يمدّ راسه، يمسّي عليها، ثم بوجهه إلى قبو المؤونة. أحياناً كانت تصادفه في أرض النهار عند بيت جدك غاطساً حتى أذنيه بوائل أفندي، فلا كان ينتبه إليها، ولا كانت تلتاع على الحكي معه أمام الخلق. وكنتَ إذا أردتَ أن يشرط لك البغل ابتسامته من الأذن إلى الأذن اسألْه عن صحة وائل أفندي وعن مزاج وائل أفندي وعن نهفات وائل أفندي. صار البغل بطوله وعرضه وشاربيه تبع وائل أفندي، ينقل الحكي لجدك وهو بين يديه، يأخذ الخضرة إلى البيت بيد وهو باليد الثانية، يحضّر الشاي لأبيك في المحل ووائل أفندي في حضنه وفوق كتفيه. ما بقي عليه إلا أن ينام معه في قبّوسته تحت الدرج وأن يرقّص جدّك مسبحته مرةً للبغل ومرةً لوائل أفندي. ومع أن جدك كان يرفع من مقدار البغل قدّام الناس ويجبر بخاطره كلما بهدله أبوك، بس جدك نفسه خلاّه قدّام كل أهل السوق وسمّاه "أبو وائل"، ومن يومها لزق به اللقب مثل القرادة. تعال يا أبو وائل، وروح يا أبو وائل. وظل أبو وائل حتى بعد ما مات وائل أفندي. ثم قامت العمة من أمام عبد الهادي النائم وذهبت إلى المطبخ، عملت لنفسها فنجان قهوة وجلست على كرسي بجوار الغسالة. رشفت من قهوتها ونظرت إلى مسكة باب البراد كما تنظر إلى عبد الهادي. بعد موت وائل أفندي مرض البغل يا سيد عبد الهادي. وما صدقت عمتك بهيرة أن أحداً بعافيته وقلّة حسّه يمكن أن يقول آخ في يوم من الأيام. وما مرّ شهر حتى صار مثل العود اليبسان. ولأول مرة في حياتها زعلت عمتك بهيرة عليه. وخافت في يوم من الأيام أن يلحق بوائل أفندي، فما هان عليها أن يموت في قبو المؤونة. نزلت، عكّزته عليها، وطالعته إلى غرفة نومها. ولأول مرة في حياتها سوّت له ركوة زهورات وشرّبته بيدها، ولأول مرة في حياتها نامت إلى جانبه. في الصباح وجدت رجليها في حضنه، فتركتهما له لتعرف ماذا يريد منهما. بعد نصف ساعة فهمت عمتك أنه لا يريد شيئاً من رجليها. ظلّ يكبّس هذه ويمسّد هذه، فسحبتهما وقامت. وفي صباح اليوم الثاني وجدت رجليها في حضنه أيضاً، فتركتهما له لتعرف ماذا يريد منهما زينة الرجال. ثم فهمت بعد نصف ساعة أن إبن أخت أبيها لا يريد شيئاً من رجلي بنت خاله في هذا الصباح أيضاً. وفي صباح اليوم الثالث لمّا وجدت رجليها في حضنه عرفت سلفاً أنه لا يريد شيئاً منهما فسحبتهما رأساً، ثم شالت شحّاطتها وطيّرتها على بوزه وقالت له "يا كلب روح شوف لك شي وائل أفندي ثاني ومسّد له بيضاته". وبعد هذه الصباحيّة رجع البغل إلى قبو المؤونة. ثم نهضت العمة بهيرة من جوار الغسالة، وخرجت من المطبخ إلى البلكون. استندت إلى الدربزين الحديدي، ونظرت إلى شلحتها المنشورة على حبل الغسيل كما تنظر إلى عبد الهادي. الذي كان يليق بعمتك بهيرة يا سيد عبد الهادي رجل واحد هو أبوك. كانت الدنيا لن تخرب لو كان أبوك خالك. لو كان أبوك خالك لكانت عمتك بهيرة أمك. لو كان أبوك خالك ما كان شم صنان أمك العقربة، ولا عرضت عليه رفرافها الأبيض في الليل والنهار. لو كان أبوك خالك لكانت أمك عروس البغل لأنها الفردة الثانية من التاسومة نفسها. أمك لا تفرق عن البغل بنمرة واحدة. إمسكْ الاثنين ولا تشلحهما من رجليك، إمش عليه وعليها مادام النجس للكاحل، ولمّا تصل بيتك لا توسّخ العتبة، كبّ الفردتين في تنكة الزبالة على الباب وادخل حفيان. عمتك يا سيد عبد الهادي لا تتصور الكلام الذي تُتَلّله أمك الغشيمة أمام أبيك، لأن أمك لماّ تفتح فمها لا تحكي يا سيد عبد الهادي. عندما تحكي أمك تشعر كأنها تنكش أنفها الوسخ ثم تمسح أصابعها بياقة قميصك. وأي ياقة قميص يا سيد عبد الهادي! أي ياقة قميص! أنظف وأعطر وأطهر وأبهى ياقة قميص على وجه الأرض، ياقة قميص أبيك الغالي سيد الرجال. أبوك سيد الرجال حتى تموت عمتك ويقبرها بيديه. يا حيف على أبيك، ويا حيف على عمتك بهيرة. أبوك علقان ببقرة، وعمتك علقانة بكديش. لكن عمتك بحياتها ما حطّت على رأس كديشها طربوشاً وقالت هذا زلمتي. طول عمره كان مسّاحة بين رجليها وخاصة بعد ما مات جدك. أصلاً كان أبوك يتحمل خلقته بقدرة ربك. في ثالث يوم العزاء وبعد انفضاض الخلق نده عليه وقال له "راتبك بيصلك لبيتك، بس لا تفرجيني وجهك ألله يرضى عليك" ومن يومها فرّغت عمتك قبو المؤونة وحبسته هناك لا يخرج ولا يدخل مثل حيوان مربوط بالمعلف، وحتى لا ترى وجهه أبداً سوّت له مرحاضاً على قده هناك، ومدّت له حنفية ماء للشرب والغسيل والحمام، وخصصت له صابونة غار كل أسبوعين، وخمس بدلات داخلية كل سنة، وخمس جرابات، وشحاطة بلاستيك، وعشرين شفرة حلاقة، وبشكيرين، وفطوراً وغداء وعشاء وركوة قهوة عند الصبح وإبريق شاي عند المساء. ولا تظن أن سجنه في القبو فَرَق معه بنكلة، بالعكس، إنه يدعو الله أن يقلب التراب في يد عمتك إلى ذهب كلما ناولته غرضاً من زيق الباب. ثم فكرت عمتك أن تغير بيت الأجرة القديم من الميراث الذي نابها من جدّك، لكنها عدلت في البداية عن فكرتها. أرادت أن تشم الهواء من دونه، فانتظرت حتى يعتقها رب العالمين منه ويأخذ أمانته. ثم صار عمرها خمسين سنة وما مات مع أنه أكبر منها بعشرين سنة، ثم دخلت الستين وما مات، ثم حط فيها السكر والضغط العالي ووجع المفاصل، وما مات. فقالت لأ يا بنت، قومي اكسبي سنتين من الهواء النظيف لأن أبو وائل أفندي لا يموت. والآن بعد أن اشترت عمتك هذه الشقة رح والقِ نظرة على بغلها المحبوس في الغرفة الجوانية. افتح الطاقة الصغيرة في الباب وتأكد بنفسك من أنه يبيّن أصغر منك أنت الذي كنت ولداً بين يدي أمك عندما كان بغلاً بشوارب. تفو عليه وعلى حياته ولو دامت مئتي سنة، ابن الحرام سمّم حياتها. أما الآغا أبوك فما نزّل أمك عن راسه طول هذه السنين. كانت حياة البغل كثيرة عليها. بس أبوك، أبوك لا يمل من غزّ سكاكينه لا يمل لا يمل. كل كلمة حلوة يغنّج بها البقرة أمك هي سكينة في قلب عمتك. بس عمتك اليوم غير عمتك البارحة يا سيد عبد الهادي. عمتك اليوم لا تخاف من أحد غير ربك. لمّا مات جدك انتظرت أن يلفلف أبوك حصتها من الميراث حتى تريه نجوم الظهر. لم تطالبه رأساً، صبرت عليه حتى يظن أنها لا تريد من الله غير السترة والصلاة على النبي ورضا أخيها الكبير. صارت تصلي في الصبح والمساء لكي يخطئ أبوك ويفكر بالضحك عليها بكم فرنك، ويدس باقي مصرياتها الحلال في قفا أمك وينام عليها. انتظرتْ انتظرت وما هنّاها أبوك بهذا اليوم، لأنه أبوك. أبوك. جاء وأعطاها حقها على آخر ليرة، وفوّت عليها تمسح شاربيه بالأرض. يارب دخيل إسمك يا شديد يا جبار يا متكبّر يا قهار تحنّنْ على العمة بهيرة بسبب تذلّ به أباك يا سيد عبد الهادي! يا رب ركّعْه عند قدميها! يارب شحّذْه الخبز وخلّه يبعث أمك خدّامة لعندها! يا رب..يا رب..يا رب! ثم سقط فنجان القهوة من يد العمة بهيرة، وتطايرت شظاياه في كل اتجاه في البلكون. ثم ما لبثت أن ألحقت الطبق بالفنجان، وبدت، وهي تنثر البصاق من فمها، كأنّ غليلها لن تشفيه كل الفناجين والكؤوس والصحون والزبادي في المطبخ. وأنت يا بِكْر العقربة بنت العقربة من ذكّرك الآن بعمّتك بهيرة بعد ما نسيتها كل هذه السنين؟ مَنْ شالك وركّبك على جحش الناموس وبعثك إليها؟ ماذا تريد أن تعرف منها؟ لمن تنوي نقل أخبارها؟ من ستشمّت بها؟ من؟ فهّمني! من؟ من؟ ثم توازنت بصعوبة فوق كعبيها العاليين المسرعين إلى الصالون. انقضّت على حرام الصوف ونترته عن عبد الهادي. أمسكته من كتفيه، وجعلت تُلَحْلِحُهُ عبثاً من على الصوفا.

- قوم انقلع من هون! ما شفت الخير من أهلك حتى أشوفه منّك.. قوم انقلع..قوم..قوم!

فتّح عبد الهادي، وفوجئ بقناع عمته الغاضب الملوّن. انتبه الآن فقط إلى حمرتها الصاخبة، وكحلتها السائلة على خديها المطلوسين بطبقة سميكة من الكريم.

- قوم انقلع..قوم..قوم!

ثم تركته، وجعلت تتلفّت من حولها كأنها تبحث عن عصا أو شتيمة قويّة أو شخص يساعدها في سحل ابن أخيها إلى الخارج. لمح عبد الهادي الزر الخمريّ الكبير على مؤخرتها، وتذكّره. كان الزر يترأّس فتحةً خلفية طويلة في ثوبها المليء بورود فضية وسوداء. وحين لم تجد العمة ضالّتها عادت إليه تصيح به وهي تعرّه بلا جدوى من كتفه الراسخ.

- قوم..قوم.. انقلع!

وكان عبد الهادي قد رأى فخذيها من فتحة الزر الكبير ولم يتوقع أنهما متفزّرتان باللحم الرخو إلى هذه الدرجة. ولما يئست العمة من زحزحته انهمرت على صدره العريض بقبضتيها، وقد بدأ صوتها يتقطع ويتفحّم، وثدياها المترهّلان الضخمان يتقافزان بين عينيه ويكادان يندلقان فوق وجهه من ياقة ثوبها المستطيلة الواسعة.

- قوم...قوم!

تجلّس عبد الهادي أخيراً. وكانت قوى العمة قد خارت الآن، فاستندت بمرفقيها إلى كتفيه وانفجرت بالبكاء.

- عمتي! عندك مصاري؟ همس عبد الهادي في أذنها القريبة من فمه والمغمورة بشعرها الخمري المصبوغ.

- مصاري الّلي خلفهن أبوك عندي؟ لم تقطع بكاءها.

- عمتي، مصاري من عندك، من عندك.

ابتعدت العمة عنه فجأة، وذهبت إلى المطبخ. سمع عبد الهادي، بعد قليل، كيف توقفت عن البكاء، وكيف انفتحت الحنفية إلى الآخر، وكيف كفّ الماء بعد ذلك عن التدفق، ثم كيف ساد سكون خرمته العمة، بعد دقائق، بطقطقة كعبيها العاليين في الكوريدور. دخلت إلى الصالون بوجهها الأصلي الذي يعرفه عبد الهادي نظيفاً من لطخ التجميل. كان في يديها صينية بفنجاني قهوة وضعتها على الطاولة، وجلست أمامه مجرّد عمّة قديمة في ثوب مُمَوّض مضحك. سألته، بصوت يكاد يكون ودوداً، عما إذا كان يحتاج إلى الكثير من النقود.

- عشرة آلاف.. أو تسعة.

- ومِن قملك بترجعهن؟ قاطعته وهي تأخذ رشفة قهوة.

أكّد لها أنه سيعيد النقود في أقرب فرصة، ثم نظر إلى ساعته ولم يصدّق أنه نام كلّ هذا الوقت، فنهض مثل متأخر عن موعد. اضطربت العمة كأنها قررت في اللحظة الأخيرة أن تفشي له بسرّ معذِّب قديم، أو أنها تذكّرت أخيراً واجباتها العائلية الودودة التي أهملتها تجاه ابن أخيها حتى الآن. لكن عبد الهادي، باستعجاله الظاهر، لم يُبق لديها من الوقت إلا ما يكفي لأن تأتيه بالمبلغ الذي طلبه، فذهبت مسرعة إلى غرفة مجاورة، وعادت مربَكةً بعشرة آلاف ناولته إياها، فخرج على الفور تاركاً وراءه بابها مفتوحاً على صوت خطواته السريعة في ظلام الدرج. كان الليل قد حلّ في الشارع منذ مدةٍ طويلة. نظر عبد الهادي إلى ساعته مرة أخرى وتأكّد من أنها تجاوزت فعلاً العاشرة والنصف منذ دقائق. استوقف سيارة أجرة، وانطلق إلى شقة الست بهيجة.

* * *

VIII

رنّ المنبه: - اليوم سبت، اليوم سبت، اليوم سبت. كان الأستاذ سميع قد استيقظ قبل ذلك بعدة دقائق، لكنه لم يُسكت المنبه: - اليوم سبت، اليوم سبت، اليوم للأسف هو السبت فعلاً، والأستاذ سميع في إجازة، والأحداث العصيبة التي تنتظره في هذا اليوم لم تبدأ بعد، وهي لن تبدأ في كل الأحوال قبل أن ينهض من فراشه ويخرج من شقة الست بهيجة باتجاه مقهى النوفرة. هل تزوجتْ يا ترى؟ بماذا يمكن أن يملأ رجل مثله ما يقرب من ثلاث ساعات فارغة قبل موعده مع امرأة؟ المرأة التي نبقت له يوم الخميس من سماعة الهاتف، وباغتَتْه بعيد ميلاده. في حياته احتفل الأستاذ سميع بعيد ميلاده مرتين فقط وعلى يد المرأة ذاتها في شبابه الأول. لم يكن يعرف قبلها أن تاريخ ولادة إنسان يمكن أن يكون له مثل هذه الأهمية لدى إنسان آخر. لكنه لم يشعر بأنه فقد شيئاً حيوياً عندما اختفت أهمية ولادته بسرعةِ اختفاء تلك المرأة من حياته. ثم لم يتسنّ له من بعدها امرأة أخرى تحرص على عدّ أيامه بمثل هذه الدقة وهذه الاحتفالية، فنسي عيد ميلاده منذ تلك الأيام. ولكنْ ها هي المرأة نفسها تنبعث من جديد من تحت ركام هذه السنين كلّها لتذكّره بأنه قد أتمّ التاسعة والأربعين دفعة واحدة، وأن عليه من الآن فصاعداً أن يتصرف على هذا الأساس. لقد اعتاد الأستاذ سميع على نفسه في نسختها الأخيرة التي يتلقاها يومياً من مرآة الحلاقة، فلا يذكر أن شيئاً جديراً بالملاحظة قد اختلف عليه فيها من صباح إلى آخر منذ سنين طويلة. لكنه، اليوم بالذات عندما سينهض من فراشه ويقف أمام نفسه وراء المغسلة ويطرّي ذقنه بالماء الفاتر، سوف يتلقى محيّاه في المرآة بطريقة مختلفة تماماً لأن من غير المعقول أن يُكرَه المرء فجأةً على بلوغ التاسعة والأربعين دون أن يلاحظ ما يمكن أن يلاحظه أي شخص يقع في مثل هذا الفخ. لا مفرّ إذاً من غضون غير محسوبة في وجهه الغائم المعهود. لا مفرّ من صلعةٍ أكيدة واسعة متخفية بصورة خرقاء تحت شعرات رمادية معدودة. لا مفرّ من كيسين صغيرين أزرقين منفوخين تحت عينيه. ولابدّ من الفراغ الهائل المجعّد القديم الذي اضطرّ، في يوم الخميس فقط، إلى الاعتراف بوجوده بين ضلوعه. الآن فقط يتفسّر لديه سقوط الفنجان من يد الزميلة المقابلة في الإدارة العامة يوم الخميس بعد أن طبق سماعة التلفون ورجع بكرسيه قليلاً إلى الوراء. لابدّ أن الزميلة المقابلة لم تتحمّل تحوّل وجهه، بمجرّد مخابرة هاتفية قصيرة، من وجه دارجٍ مستوٍ نظيفٍ من أيّ نتوءٍ أو معنى صريح محدّد إلى وجه خاص بتضاريس متفاوتة، محتقنة، ومضطربة لم ترها قطّ على الوجوه الموحّدة من حولها لا في الإدارة العامة لاستنهاض التراث العربي ولا في أيّ مكان آخر. الآن يستوعب، بصورة أوضح وأشدّ إيلاماً، تطيُّرَ الناس منه في الشارع، تبرّمَهم، ازدراءهم، ثم تكالبَهم في اليوم المشؤوم ذاته على باب شقته، وكذا الضغينةَ التي لمسها البارحة في عيون زبائن الكباريه وفي عضلات الرجل ذي اللحية النابتة على قرص الدرج وفي المؤامرة التي حاكتها له يد الفلبينيّة وحتى في شرف عبد الهادي نفسه الذي أصر على المحافظة عليه بلا مبرر حتى آخر السهرة. كل ذلك الاحتقان والفراغ والهرم سوف يتلقّاه اليوم بلا مواربة ولا رتوش من مرآة الحلاقة، فكيف سيذهب بكل هذا الحمل المُخجل المكشوف إلى لقاء ابتسام في العاشرة صباحاً؟ لا فكاك، على ما يبدو، من الذهاب إلى موعده معها مادام لم يرفض دعوتها يوم الخميس، إلاّ إذا عجزت رجلاه عن النهوض به من الفراش. وفي لحظةٍ قاسيةٍ فضّل الأستاذ سميع رجليه سليمتين مهما انحدرتا به إلى مزيد من الوحشة والقبح، لكنه لم يجرؤ على تفقدهما تحت اللحاف- خشي أن تكونا عاجزتين فعلاً عن حمله، فأصغى إليهما بحواسه كلّها ولم يتلق منهما ما ينمّ عن حياة شديدة الوضوح. انتبه، عندئذٍ، إلى أن المنبه مايزال ينعق بصوته المعدني الرتيب:_ اليوم سبت، اليوم سبت، اليوم سبـ... أسكته أخيراً، إنما بخبطةٍ يائسة أطاحت به دونما قصد من على الكومودينو إلى الأرض. طمأنته الخبطة على رجليه إذ استعان بهما بدفعةٍ تلقائيةٍ ليطال المنبه الذي كان أبعد من مهوى يده بقليل، فلم يعد تفقدهما الآن محفوفاً بالاحتمال الأسوأ- انغمس الأستاذ سميع في نعمةٍ لم ينتظرها، مُطلِقاً رجليه بكافة الاتجاهات باسترسالٍ مباغت لذيذ. ثم تحقق من يديه ورأسه وعموده الفقري بالتدفّق الممتع ذاته مستنتجاً بسهولة أنه موجود بجلاء وحيّ بلا ريب رغم كل المخاطر التي تحدق به من كل جانب. لولا تلفون ابتسام لاستطاع الذهاب بأجزائه الحيّة المستعملة هذه إلى مقهى النوفرة كما لو أنه لن يلتقيها هناك. إنّ قلبه بريء فعلاً من أيّ مشاعر حارة تجاهها، بل إن في داخله، إذا كان لابدّ من الاعتراف بالحقيقة، نفوراً غريباً من لقائها. كان عليه أن يرفض دعوتها. لو أنه طبق السماعة فوراً بعد سماعه صوتها الدهنيّ العريض لما اختلف لديه الآن يوم السبت هذا عن أي يوم أربعاء أو أحد أو حتى خميس. لم يكن يظن أن يوم السبت سيكون بمثل هذه الصعوبة التي يشعر بها الآن. إن حياته الخاصة في غنى عن أي تدخّل بحجم امرأة بهذه الحصافة الفائقة وهذه الذاكرة القوية. لقد نجح على مدى سنين طويلة في العاصمة بأن ينفصل انفصالاً يكاد يكون نهائياً عن كل ما يربطه إلى الماضي. ما في ذاكرته عملياً لا يتعدّى صوراً باهتةً متباعدة وباردة لأشخاص يعدّون على أصابع اليد الواحدة وأشياء قليلة وحوادث أقلّ. حتى أهله لم يزرهم منذ سنوات عديدة مع أن الطريق من باب غرفته إلى باب بيتهم لا يُكلّفه أكثر من ساعتين وحيدتين في الميكروباص. آخر مرة زاره فيها أخوه كانت منذ أحد عشر عاماً، وقد فهّمه الأستاذ سميع، بوجه جاف وكلمات معبّرة وقليلة، أن لا يقلق عليه مرة أخرى كلما احتاج المجيء إلى العاصمة. أما ابتسام فلم يتبق منها في ذاكرته عملياً غير حلمتيها الكبيرتين. وكان قد رآهما بالمصادفة من زيق ياقتها العريضة حين التقطت المعلّقات العشر التي سقطت من يدها ذات صباح في مقصف الجامعة المركزي، ثم لم يتسنّ له لمسهما إلا مرةً واحدةً من فوق البلوزة ذات مساء على ظهر كلية الآداب. لكنه لم يعرف أنهما كبيرتان إلاّ بعد أن هجرها بسنوات عندما قارنهما في بحسيتا، منذ اثنتي عشرة سنة، بحلمتي ثاني وآخر امرأة رأى حلمتيها في حياته. وهو لا يعرف فعلاً، بل يستهجن السبب الذي جعله يحتفظ بحلمتي ابتسام الكبيرتين طوال هذه المدة. ولذلك لن يشعر بخسارة كبيرة إذا تمكّن من استئصالهما من رأسه في أقرب فرصة مادامت الخانم صاحبتهما قد سمحت لنفسها بتسميم حياته منذ يوم الخميس. لاحظ الأستاذ سميع الآن أن الست بهيجة بدأت تحوص بين غرفة الجلوس والمطبخ، وعرف أنه لن ينجو اليوم منها على الأغلب مهما تفادى رؤيتها بالحسنى، سوف تنتهي بعد قليل من إعداد وجبة الفطور، وسوف تستبطئه وتنقر عليه باب الغرفة من كلّ بدّ. لكنّه إذا أراد التخلّص فعلاً من ابتسام وحلمتيها دفعةً واحدة فعليه، بغض النظر عن قرقعة الست بهيجة، أن لا يتردّد لحظةً واحدةً في الذهاب إلى الموعد. إن تخلّفه عنه لن يعني لابتسام أقلّ من مكروه منعه من المجيء، ومن ثم سوف تحمل أسطوانة القلق عليه، هي الأخرى، وتقوم بنفسها بزيارته غداً في الإدارة العامة لاستنهاض التراث العربي. وكان عبد الهادي، الشريف الذي يلطّخه دائماً بالعار، هو المتسبّب طبعاً بزيارة بحسيتا قبل اثنتي عشرة سنة. ولم تكن تعوزه، في تلك الأيام أيضاً، لا المهارة ولا الدبلوماسية في تغطيسه حتى أذنيه في الفعل الذميم، فقد أحاطه علماً بهذه الزيارة قبل أسبوع مفسحاً له مجالاً كافياً للرفض ثم التفكير. وقد كان لهذا التحوّط، مع ذلك، وقعٌ حسن في قلب الأستاذ سميع فهو بالنهاية لا يدعوه إلى حضور مسرحية في سينما فريال، ولا إلى محاضرة في دار الكتب الوطنية، بل إلى المحلّ العمومي في بحسيتا. وكان من غير المنطقي طبعاً أن يوافق شخص مثله مباشرةً على عرض من هذا النوع ضارباً عرض الحائط بصفته الرسمية كموظف حكومي في سنوات خدمته الأولى آنذاك، ناهيك عن الاستقامة التي عرف بها بسرعة بين الموظفين والتي ثبت، بعدئذٍ، أنه لا يتنازل عنها إلاّ بصعوبة شديدة. لقد تطلّبت منه موافقته يومين كاملين من التفكير والتمحيص. ومن باب المزيد من الحيطة والحرص اشترى قبل التوجّه إلى بحسيتا بعدة ساعات نظارةً كبيرة سوداء طمست نصف ملامح وجهه، فما عاد معها يحتاج لأن يموّه رأسه أيضاً بالكوفية الحمراء التي جاءه بها عبد الهادي. غير أنه أصرّ في اللحظة الأخيرة على تأجيل ساعة الانطلاق إلى وقتٍ من الليل متأخرٍ لا يغامر فيه أحد من زملائه في العمل بالذهاب إلى مكان مشبوه من هذا الطراز. وما كان ليستطيع طبعاً، لولا هذا الاحتراز الفطري لديه، أن يحقق بعدئذٍ نجاحه الرهيب في حياته الطويلة على الصراط الوظيفي الرفيع العالي الذي مازال يمشي عليه، والذي ما كفّ يوماً عن الاهتزاز تحت قدميه. لقد أصبح من مسلّماته على مرّ السنين أن يخدم نفسه ووطنَه وأمّته وهو يترنّح على حافة الهاوية الدائمة. وقد كانت إساءة الظنّ المسبقة بالآخرين أياً كانوا أخلص رفيق وأمضى سلاح للحفاظ على مكانه المُقَلْقَل المنشود والتوازن عليه في آن. ومادام لن يحتاج هؤلاء الآخرين في يوم من الأيام ولا يتوقّع منهم خيراً أبداً، فإن كلامه، اليوم في مقهى النوفرة، سوف يكون بليغاً مع ابتسام بطريقةٍ تُنَسّيها إلى الأبد أنه يعمل في إدارة عمره الذي بدّده بلا حساب في استنهاض التراث العربي. لن يسمح لها، مهما سايَسَتْهُ، بأن تحرجه في فترة عصيبة وحسّاسة من مصيره الوظيفي. إن حزمه هذه المرة لن يكون خجولاً كذاك الذي جرّبه معها حين تركها في آخر لقاء بينهما في مقهى النوفرة قبل أكثر من عشرين عاماً. كان في تلك الأيام الغابرة شاباً متحمساً وحالماً ولم يكن عنده ما يحرص عليه، فلم تسعفه الكلمات العنيفة المناسبة في تلك اللحظات ليدمّر نهائياً كلَّ آمالها به. كل ما فعله، عندئذٍ، أنه أبلغها قراره بفراقها بعبارات رخوة أقرب ما تكون إلى الشروح المستفيضة منها إلى عبارات رجل يهجر امرأة، ثم لم ينهض من مكانه إلا لأن بقاءه معها أكثر من ذلك سوف يكون مضحكاً بعد مرافعة هجره الطويلة أمامها، فتناول جاكيته من على ظهر الكرسي، علّقه على كتفه ومضى، بينما كانت ابتسام جالسة إلى الطاولة تبكي بيأس مزيّف أمام زبائن المقهى. هل تزوجت يا ترى؟ لن تقبل الست بهيجة على ما يبدو، مع أنها ليست أمه ولا زوجة أبيه ولا أخته الكبيرة لكي تحشر حالها في حياته الخاصة، لن تقبل الآن، كما تدلّ حركتها المحمومة غير المعتادة وراء باب غرفته بالذات، بأقل من ظهوره بعد قليل سليماً معافى بعد صفار البيض وزيت الزيتون في يوم الخميس، وبعد رفضه مشاركتها الفطور والغداء يوم أمس، وبعد ليلة البارحة الطويلة التي قضاها كاملةً مع عبد الهادي خارج المنزل. ولا بدّ من الإشارة هنا إلى أن التحاقه، في تلك الأيام البعيدة، بالمعسكر التثقيفي الذي أقامه الحزب في غابة على شاطئ الفرات بعد هجره ابتسام مباشرةً قد ترك أثراً طيّباً في محو آثار مودّتها الموؤدة حديثاً في قلبه. ثم سحرَهُ وعزّز من قسوته الوليدة تجاهها شعورُه العذب بأنه لم يترك وراءه في العاصمة القديمة ما يدلّها على مكانه الجديد، فالمعسكرّ التثقيفي سرّي وما كان ينبغي له أن يُسرّب خبره إلى أحدٍ أيّاً كان. كان الشرطي على باب بحسيتا بمعطفه الأخضر السميك نائماً على كرسيّه الخيزران، فزبائنه القاصرون الذين يهرّبهم طيلة النهار إلى الداخل نائمون كحاله في بيوت أهاليهم في هذا الوقت المتأخر. ولأنهما لم يكونا متأكّدَين من نومه ما أراد الأستاذ سميع وعبد الهادي أن يدخلا إلاّ بإذنه، فهما في نهاية المطاف شخصان راشدان منذ مدة طويلة جداً ولا يترتّب عليهما رشوته مقابل ذلك. ثم إن شيئاً لا يضمن شرطياً على باب مبغى ولا يحزره. صار الأستاذ سميع يخبط الأرض بقدميه قرب حذاء الشرطي الملوّث بالطين، بينما انخرط عبد الهادي في نوبة من النحنحات العالية فوق رأسه. ولمّا ظلّ الشرطيّ نائماً مثل ميت تبادلا نظرات قلقة ومستفهمة كأنهما قد عثرا على سبب ينتشلهما من محنتهما، فيعود كلٌّ منهما إلى بيته سالماً. ثم اقتنعا، كأنما، بالعودة فعلاً، لكنّ أقدامهما انزلقت تلقائياً في اللحظة الأخيرة، بحذرٍ وخفرٍ ورهبة، في الزقاق الغاوي المضاء الطويل وراء كتفي الشرطي النائم. نقرت الست بهيجة الباب عليه أخيراً. وكانت المفاجأة كبيرة، فقد تبيّن أن الوقت لم يكن متأخراً جداً بالنسبة لكثيرين في بحسيتا من جنود، وطلبة، وسكارى كهول متماسكين بقدرة قادر، ومثقفين خارجين لتوّهم من حاناتهم الرخيصة مقنّعين بوجوههم المذنبة ونظراتهم المستطلعة الشهوانية الخجولة وهم لا يعرفون كيف يخفون عن العيون كتبهم ومحفظاتهم الجلدية الصغيرة المتدلّية من أكتافهم الضيّقة ومن أيديهم الرفيعة الطويلة. وطبعاً لم تصدق ابتسام آنذاك أن لقاءها الأخير مع سميع في مقهى النوفرة سيكون أخيراً بالفعل- تلفنت في اليوم التالي، كما سيعرف بعدئذٍ، إلى المكتبة التي كان يعمل فيها بعد دوامه في الجامعة، فأبلغوها استغرابهم من غيابه. لم تيأس الست بهيجة، عادت الآن ونقرت الباب مرة ثانية. كما عادت ابتسام واتصلت بالمكتبة مرةً أخرى بعد فشلها بالعثور على سميع في مقصف كلية الآداب وفي مقصف الجامعة المركزي، كما سيقال له بعد هربه من المعسكر التثقيفي وعودته إلى العاصمة، ولمّا تلقّت الإجابة نفسها والاستغراب نفسه جنّدت، للعثور عليه، زميلتين لها من أنشط الطالبات المسترجلات حضوراً في أوساط المهمومين حتى آذانهم بالسياسة وأكثرهن تحمّساً للعرق والنضال المسلّح والقصة القصيرة. وكان الأستاذ سميع وعبد الهادي لم يجرؤا حتى الآن على الاقتراب من أبواب الصالونات المفتوحة على جانبي الزقاق المُضاء الطويل- كانت تتناهى إليهما من هناك ضحكات نسوية خليعة، وأحياناً تقع في عيونهما المتلصّصة على استحياء ركبةٌ هنا ونصفُ فخذ هناك على طرف ديوانة بعيدة من بين ظهور الزبائن المحترفين وأرجلهم. وكان الأستاذ سميع بالذات أولَ من لاحظ امرأة شاغرة تماماً من أي زبون واقف أمام بابها في صدر الزقاق. بدت له من بعيد شبه عارية رغم البرد القارس، فلفت إليها عبد الهادي، وتحرّكا نحوها مثل مضطرَّيْن. وكان ليش فاليسا في تلك الأيام يقوّم القيامة في بولونيا، ما سرّب إلى المعسكر التثقيفي حسّاً مريراً بخديعة لم يعترف بها أحد من الرفاق. وكان واضحاً طبعاً منذ المحاضرة الأولى في المعسكر أن ثمة توصيات صارمة من قيادة الحزب بضرورة استبعاد مناقشة الأوضاع الساخنة في بولونيا مهما كلف الأمر، إلا إذا تمّت في إطار متفائل بمستقبل الطبقة العاملة البولونية في صيغة انقلاب عسكري مبدئي لا يبالي بأي ثمنٍ دمويّ يعيد الأمور إلى ما كانت عليه. وقد بدا لجميع الرفاق أن ذلك ممكن فعلاً لولا شاربا الرفيق عضو المكتب السياسي المشرف على المعسكر. اقتنع الآن الأستاذ سميع أن الست بهيجة لن تذهب اليوم إلى مكان مهما ماطلها، ولن تمهله من الوقت أكثر من ذلك مادامت أنهت قرقعتها الغريبة، فنهض من فراشه. ومن منتصف الغرفة أحس بأنفاسها الحارة المتلاحقة من وراء الباب، ففتحه- كانت تهمّ، في تلك اللحظة، بنقره للمرة الثالثة، فشهقت، الآن، ثم ارتجلت خطوة متسرّعة إلى الوراء كادت تسقطها على قفاها، فتابع طريقه إلى الحمّام دون أن يُصبّح عليها بالخير.

- وجهه أصفر مثل البقص. قالت الست بهيجة، كأنما، لنفسها. ولم ينتبه عضو المكتب السياسي طبعاً إلى أن شاربيه كانا نسخة طبق الأصل من شاربي ليش فاليسا. وبما أن أحداً من الرفاق لم يجرؤ على عقد هذه المقارنة المعيبة بصوت مسموع فقد ظل شاربا الرفيق عضو المكتب السياسي يستدعيان في نفوس الرفاق أشباحاً مؤلمة توحي بليش فاليسا وبمظاهرات عمال كراكوف وبنقابة التضامن والبابا يوحنا بولس الثاني ونظّارات الجنرال ياروزلسكي السوداء بلا فائدة، وحتى بإعدام شاوشيسكو الذي حدث بعد انتهاء المعسكر التثقيفي بعدة سنوات. وكان الأستاذ سميع قد فكّر، في الطريق إلى المرأة شبه العارية في صدر الزقاق الطويل، أنه إذا حدث ودخل عليها قبل عبد الهادي فإن عبد الهادي سوف يتركه ويهرب حتماً.

- مرضان؟ سألته الست بهيجة وقد شقّت باب الحمّام، كما لم تفعل قط، وأطلّت عليه بوجهها المرعوب من مرآة الحلاقة. وكان جاره في خيمة المحاضرات يعطس طيلة الوقت، ففكّر بتغيير محلّه عندما دخل أحد الرفاق ذات مساء واستدعاه إلى خيمة القيادة القريبة من شاطئ النهر. شبّ سميع من مكانه مختالاً، وقد أصبح الآن مستعداً لأن يصاب بالزكام إلى آخر المعسكر، وخرج بوجه جدّي مشغول. رأى، من بعيد، الرفيق عضو المكتب السياسي في شورت أبيض وجزمة بلاستيك حتى الركبة يقف على حافة الماء ويصطاد السمك بقصبة منكّسة أكثر من اللزوم فوق وجه الماء. اقترب منه مضطرباً بمشاعر الامتنان إذ شرّفه من بين كل الرفاق في المعسكر بلقاء خاص.

- مرضان؟؟ عادت الست بهيجة تلحّ عليه بسؤالها الحار من مرآة الحلاقة. لكنّ تخوّفه اضمحلّ تماماً عندما اكتشف أن المرأة التي اقتربا منها، هو وعبد الهادي، عجوز ثرماء بلحم قليل وجلد متكرّش يتهدّل من كل قطعة مكشوفة من جسدها. لا شيء فيها يضطرّه فعلاً لأن يغيب معها عن عينيّ عبد الهادي لحظةً واحدة، بخاصة أنها، هي المرأة المسنّة، تَعِد الراغبين بغيرانها كلّها دونما شروط ولا حياء، ثم إن صوتها المخرّش سيكون مخيفاً إذا ما تحدّثت معه على انفراد في غرفتها التي ستكون مظلمة بالتأكيد. وهذه الغباغب المفرّغة المستطيلة والحفاتي المتهدّلة والتجاعيد المتراكمة على نحو غريب أضاءها القمر أيضاً في وجه الرفيق عضو المكتب السياسي، ففوجئ بها سميع حين حاذاه على الشاطئ. لم يكن يعتقد، قبل الآن، أن الإنسان يحتاج فعلاً إلى كل هذه الاستطرادات الدهنية المتدلدلة من وجهه ليكون قيادياً في حزب ثوريّ.

- مطلوب على الهاتف. قال عضو المكتب السياسي بصوت مخرّش دون أن يلتفت إليه.

- ماني مرضان. أجاب الأستاذ سميع. لم تقتنع الست بهيجة. ولم يقتنع سميع أن تكون المكالمة السبب الوحيد لاستدعائه إلى خيمة القيادة إلا إذا كانت من مسؤول حزبي رفيع. اقترب من تلفون ميدانيّ مرميِّ تحت شجرة توت قريبة من مكان وقوف عضو المكتب السياسي، ورفع السمّاعة وهو ينتظر بقلب متلهّف واجف أن يُكَلَّف بمهمّة خطيرة يعجز عنها أعتى الرفاق. إلا أنه أدرك وعبدَ الهادي، حين انعطفا في زقاق آخر إلى اليسار، أنهما لم يأتيا إلى بحسيتا لكي يتجولا في زمهرير كانون الثاني، فلابدّ، في نهاية الأمر، من الدخول في أيٍّ من هذه الأبواب المشرعة على الجانبين ليتدفّآ على الأقل. بيد أنهما، مع ذلك، لم يقررا الدنوّ من أحدها حتى فقدا كل خيار آخر عندما لاحت لهما نهايةُ الزقاق المسدود، ولم يتبق أمامهما غير باب مفتوح واحد، فاقتربا منه بخطى متوجسة متكسّرة ودخلاه. باشر الأستاذ سميع بحلاقة ذقنه كأفضل وسيلة لتناسي غضونه الجديدة المتنامية أمامه والهرب من عيني الست بهيجة الكامنتين له في زاوية المرآة. ثم انعقد لسانه عندما عرف أن ابتسام دون غيرها كانت معه على الطرف الآخر من الخط. لم يفهم، أولاً، كيف حصّلت رقم الهاتف مادام المعسكر التثقيفي سرّياً، وثانياً وهذا الأهم، كيف سيبرّر بعد قليل مكالمتَه ذات الطابع الخاص أمام الرفيق عضو المكتب السياسي. سوف يتهمه بالتأكيد، وهذا حقّه، بتسريب خبر المعسكر، ومن ثم سيكون الآن المسؤول المباشر عن أيّ كبسة محتملة تقوم بها الأجهزة المختصة.

- برد الشاي. قالت الست بهيجة، وهي تترصّد سكناته، وكان واضحاً أنها أرادت استدراجه إلى الكلام لتتأكّد، ربما، من أثر المرض في نبرة صوته أيضاً، وليس فقط في لونه المخطوف وفي أصابعه التي بدأت ترتعش فعلاً منذ أمسك بماكينة الحلاقة. ورغم أزيز سماعة التلفون ووشيشها انهمرت عليه ابتسام بأسئلة حارّة طويلة متلاحقة عن صحته وأحواله، وما إذا كانت غيبته ستطول، وما إذا كان بإمكانها أن تزوره، وعمّا إذا كان مايزال غاضباً منها حتى الآن. ولعلّها انتبهت إلى مفاجأته باتصالها وصمته المطبق، فانطلقت تصحّح، كأنما، ما فلت منها قبل اللقاء الأخير في المقهى، فاعتبرت، وهي تُطرّي صوتها وتُخَضِّله، أن صيامها رمضان الأخير كان من باب الحفاظ على رشاقتها، وأن اقتناعها الأوّلي بالحجاب لا يعني أنها سوف تتحجب غداً أو بعد غد، وأن امتناعها حتى الآن عن خلع ملابسها أمامه يعني شيئاً واحداً فقط هو أنها لا تريده أن يفكّر أنها بنت فلتانة، أما الملل الذي أصابها في أثناء قراءتها "أُم" غوركي فلم يكن حقيقياً بدليل أنها تعيد قراءتها الآن بشغف، وأنها تتفهم أخيراً معارضة لينين لفكرة كلارا زينكين في تنظيم المومسات في صفوف الحزب. وكان عدد المومسات أكثر مما تتسع له الديوانتان الوحيدتان في الصالون الذي انضم فيه الأستاذ سميع وعبد الهادي. كنّ جميعاً قد ودّعن الشباب منذ مُدَدٍ متباينة، لكنهنّ جميعاً ملطّخات بمكياج فاقع سريع، ومكوّمات الواحدة فوق الأخرى وقد تداخلت وانكمشت أطرافُهن المكشوفة المزرقّة من البرد، يدخنّ بنهم وسأم وراء تابوريّات حديدية صدئة متلّلة بأعقاب السجائر وفناجين القهوة. وما إن ظهر الأستاذ سميع وعبد الهادي في العتبة حتى اتجهت إليهما أنظارهنّ جميعاً باهتمام مصطنع كسول بارد. ولمّا طالت الرصانة المُفَكَّكة التي دخلا بها انصرفن عنهما باكتراثهنّ الكليل إلى ما كنّ عليه من ضجر مقيم. لكنّ رجلاً مبتسماً بسن ذهبية طلع فجأة من باب مقابل مفتوح على أرض حوش تقدّم منهما وحال، كأنما، دون خروجهما في اللحظة الأخيرة. وهنا جرح الأستاذ سميع ذقنه.

- أكيد مرضان! صاحت من ورائه الست بهيجة وهي تحملق به بعينين مذعورتين.

- بسبع ليرات ونص أحلى عش. قال صاحب السن الذهبية وهو يفرك كفّاً بكف.

- توقّفي عن كتّ الكلام السخيف في رأسي، روحي اكسبي رضا والديك بصلاتك وصيامك، واقرئي قبل أن تنامي دلائل الخيرات ورياض الصالحين وجامع كرامات الأولياء أحسن لك. كاد سميع أن ينفجر بذلك في سماعة الهاتف لولا عينه التي كانت على عضو المكتب السياسي، فلم يجرؤ على التلفّظ أمامه بما يمكن أن يوحي له بالطابع الخاص للمكالمة. وكانت ابتسام، في هذه الأثناء، تستظهر له، بطلاقة وحماسة، فقرة كاملة نشرتها مؤخراً "أنباء موسكو" من خطاب يوري أندروبوف في الساحة الحمراء. وقد أكّدت له، بتدلّهٍ خاص، على بدنها الذي اقشعرّ من شدة الإعجاب حينما قال إن السلام الحقيقي مع الإمبرياليين لا يصنعه إلا الجيش السوفييتي الذي لا يقهر.

- لااااأ، ماااااني مرضااان. صرخ الأستاذ سميع، فتناثر لعابه ورغوة المعجون فوق الست بهيجة المُتمَتْرسة أمامه في مرآة الحلاقة.

- عش متل زرّ الورد مع فنجان قهوة أو كازوزة بسبع ليرات ونص. أكّد صاحب السن الذهبية وهو يبوس رؤوس أصابعه الخمسة. ولمّا تابع الأستاذ سميع وعبد الهادي وقوفهما الصامت في عتبة الصالون دون أيّ تجاوب هذه المرّة أيضاً شرع القوّاد يترجم لهما عرضه الشهيّ بأصابعه العشرة وملامح وجهه ظانّاً، على الأغلب، أنهما أطرشان. وبينما استغرقت ابتسام في ضحكة دلعة طويلة على مسمعٍ من الرفيق عضو المكتب السياسي ذكّرتْ سميع فجأةً، وبصوت جدّي مفعم بالعتب، بأنها لم تفهم، بالمناسبة، الفكرةَ التي شرحها عن هيغل الذي كان، قبل أسبوعين في مقصف كلية الآداب، يُمَشّي الديالكتيك على رأسه حتى جاء ماركس وقَلَبَه فصار يمشي على قدميه منذ ذلك الوقت.

- كل البلا من ورا راس عبد الهادي. قالت الست بهيجة وقد خنقها ما يشبه بكاء ابتلعته بصعوبة، وسحبت رأسها من فرجة باب الحمام. وإذ سمع الأستاذ سميع طريقة صفقها باب الشقة وراءها أدرك أن مصاعب يومه قد بدأت، وأن عليه أن ينهي حلاقته فوراً ويخرج من الشقة على وجه السرعة قبل أن تعود وتدمّر برنامجه اللاحق المعقّد والضروريّ. ومن عمق الحوش الذي طلع منه القواد ذو السنّ الذهبية قبل قليل ظهرت أخيراً مومس أقرب ما تكون إلى الشباب في شلحة ذات ورود كالحة، وعلى كتفيها شال صوفي عتيق، وبمكياج متشابك لم يؤثّر كثيراً على جمال وجهها اللافت من بعيد. لكنها كانت تتغلب على مشيها المؤلم، كأنما، بتفحيج رجليها وتمايلها الصريح على هذا الجنب وذاك كما لو كانت مختونة منذ لحظات. وقفت في الباب المفتوح، وأنقذت عبد الهادي والأستاذ سميع فوراً من تردّدهما المضني في عتبة الصالون إذ نظرت إليهما بعينين جميلتين ومتعبتين كما لو كانا في انتظارها هي بالذات. أشارت لهما أن يتبعاها، ثم أدارت ظهرها، فتبعاها فوراً مثل منوّمين إنما بابتسامة موحّدة خفيفة قابلة، على الأغلب، لأن تتحول في أي لحظة إلى تعبير ثقيل عن الإحباط. توقفت في صدر الحوش عند درج طويل، وأشارت لهما بنهاية سبّابتها أن يقفا وراء آخر رجل في طابور صاعد إلى غرفة في الأعلى، فامتثلا. ثم تركتهما وصعدت وهي تغنّج ما يصادف يديها من أعضاء زبائنها الذين تتجاوزهم على الدرج وتطلق عليهم شتائم ودودة خافتة من تحت الزنّار. كان على كل درجة يقف رجل يتهرّب من عيون الواقفين الآخرين ويستدري من شدة البرد بالحائط الذي يلاصقه وبقامة الشخص الواقف أمامه، وكلهم صامتون سادرون يدخّنون بنفاد صبرٍ واضح، أو يدفّئون أصابعهم ببخار زفيرهم بلا توقف.

- لن أصدّقكِ الآن حتى لو ابتلعتِ لينين وماركس وغوركي وناظم حكمت ونيرودا. أنا بالنسبة لك أهمّ منهم جميعاً في حقيقة الأمر، وما هذه الشوربة التي تلهوجينها الآن من نُتف مؤلفاتهم إلا من أجلي أنا. إنك بِهُرائك هذا تضعينني معهم في مقارنة ظالمة محسومة لصالحي سلفاً، وهذا ما يؤلمني ويخجلني ويُشعرني بالعار ويُثبت لي، في الوقت نفسه، زيفَ إيمانك القديم وإيمانك الجديد معاً. صرخ سميع في نفسه، ثم طبق سمّاعة التلفون بقوة فهّمت ابتسام، كما ثَبَتَ بعدئذٍ، استحالةَ عودةِ أيّ ماءٍ إلى أيّ مجرى بينهما حتى ولو حفظت عن ظهر قلب كتاب رأس المال. هل تزوّجت يا ترى؟ أنهى الأستاذ سميع حلاقة ذقنه على عجل، وسارع إلى غرفته. ارتدى البذلة التي دشّنها البارحة على وجه السرعة، مشّط شعره، وتعطّر من الحنجور الذي لا يستخدمه في السنتين الأخيرتين إلاّ في المناسبات الوطنية التي لها رنين خاص لدى المدير الحالي لاستنهاض التراث العربي. ثم كاد يصبح جاهزاً للانطلاق لولا الزؤانة التي لمحها في اللحظة الأخيرة على رأس أنفه. التفت إليه الرفيق عضو المكتب السياسي فيما كان مايزال واقفاً عند التلفون الميداني، وأشار له أن يقترب. وكانت المسافة التي تفصله عنه أقصر بكثير من أن يخترع جواباً مقنعاً لسؤاله الذي بدأ يسمعه منذ الآن عن صمته المُلغز طيلة المكالمة. اقترب منه متلكّئاً وهو يهيّئ نفسه للاعتراف بالحقيقة، لعلّه يصدقها. وحين حاذاه من جديد على حافة الماء ولم يبادره بسؤاله ظنّ سميع أن لدى الرفيق عضو المكتب السياسي ما يكلّفه به فعلاً، فخفف ذلك من توتره ورفع من شأن نفسه في عينيه من جديد. غير أنه عاد يتوتر حين وقف إلى جانبه فترة طويلة دون أن ينبس ذاك بأيّ حرف، ما جعله يعتقد أن ما رآه كان وهماً لا أكثر، فالرفيق عضو المكتب السياسي لم يلتفت إليه في الحقيقة ولم يُشر له بالاقتراب. وما كان يغيظه خصوصاً أن الرفيق عضو المكتب السياسي لم يكن يراقب في أثناء ذلك كلّه فلّينةَ خيطه العائمة، بل كان يركّز نظرةً مستديمة رخوة على شيء بعيد يقع في ظلام الضفة الأخرى من النهر. ثم لم يعد الأستاذ سميع يتحمّل البرد الذي أصبح لا يطاق على درج المومس، فسالت دمعة رفيعة من تحت نظارته السوداء. وقد جمدت أصابعه، فجأةً، فوق زؤانة أنفه أمام مرآة الخزانة إذ سمع الست بهيجة تفتح باب الشقة وهي ترحب على عجل بشخص معها. وكان لابدّ من عمل شيءٍ ما، فسعل وانتظر عبثاً أثر سعاله على وجه الرفيق عضو المكتب السياسي.

- ليش زعلان؟ سأله عبد الهادي حين شغرت أمامه درجة جديدة، فشغلها الأستاذ سميع، وهو يتقَفْقَفُ من البرد، بعد حيرة قصيرة.

- ووجهه أصفر وبياض عينيه على حَمَار ويده ترجف كلما حركها. سمع الست بهيجة تقول وهي تفتح باب غرفته، فطلع في وجهه أيضاً طبيب الأطفال الذي يسكن في الطابق الأول وهو يرتدي بيجامة وشحّاطة وبشعر منكوش وعينين مفعّستين من أثر النوم ورقبة أثخن من المعتاد محاطة بسماعة متدلية فوق كرشه العالية. تراجع الأستاذ سميع إلى الوراء مثل لص ممسوك لا محالة.

- يا رفيق! صاح بأعلى صوته.

- صباح الخير. بادره طبيب الأطفال وهو يتثاءب، فنقز الرفيق عضو المكتب السياسي. ثم وجد الأستاذ سميع أن من الأنسب لشخص مثله أن يبدو زعلان من شدة البرد عندما يكون في بحسيتا بعد منتصف الليل، فلم يُجِبْ عبدَ الهادي عن تساؤله. ردّ مبهوتاً على طبيب الأطفال الذي بدأ يتقدم نحوه:

- صباح النور..

- التاريخ أثبت سياسة الحزب. نطق الرفيق عضو المكتب السياسي أخيراً كما لو أنه تدارك شيئاً كاد يسقط من يده.

- تشطّحْ على التخت. أمره طبيب الأطفال، فشعر الأستاذ سميع بقبضتي الست بهيجة تدفعانه بقوة بالاتجاه المطلوب.

- الشرموطة بدها عشر ليرات والعرصى إللي ع الباب قال بسبعه ونص. احتجّ غاضباً على الدرج رجلٌ قصير خارج من باب المومس مثل مطرود.

- توريط الناس بالسجون أمر سهل يا رفيق. تابع الرفيق عضو المكتب السياسي. وفهم الأستاذ سميع على الفور أنه لن يستطيع مقاومة الست بهيجة وطبيب الأطفال معاً، فاعتبرهما جزءاً من تكالب العالم عليه منذ يوم الخميس. إذاً لابد من حنكة الانحناء أمام العاصفة، ومن ثم لابد من الانصياع لهما والاستلقاء على التخت في الحال، فاستلقى عليه بطواعية مريض حقيقي. ثم أدار ظهره لعبد الهادي وصفن بالدرجة التي شغرت أمامه من جديد قبل أن يصعد إليها. لم يستوعب كيف يتحرك الطابور أمامه بهذه السرعة المُقلِقة على باب المومس.

- ولولا الجبهة الوطنية التقدمية لما شفت حدا من الرفاق هون في المعسكر التثقيفي. أكّد الرفيق عضو المكتب السياسي. وكان الأستاذ سميع قادراً في تلك اللحظة على الاعتقاد أن السماعة التي تتدلى فوقه الآن إنما جاء بها طبيب الأطفال لأغراض خبيثة أخرى غير وظيفتها الأصلية، بينما بدأت الست بهيجة بحلحلة ربطة عنقه وفك أزرار قميصه الأبيض بثقة كلب بوليسي يعرف بالضبط ماذا يريد.

- الجبهة الوطنية التقدمية حمت الشباب المتحمّسين من قصف أعمارهم لأنّو، في الحقيقه، نتيجه ما في يا رفيق! قال الرفيق عضو المكتب السياسي ثم عطس، فحال دون سقوطه في الماء أن سميع قد سنده في الوقت المناسب. وكان يحاول بكل قواه أن يهدئ من روع نفسه بعد أن هدّدته الست بهيجة بسبّابتها المدبّبة، وحذّرته من القيام بأي حركة تحت سطح السمّاعة البارد، فجمد مثل خشبة وهو يستبعد أن تكون الست بهيجة قد جاءت بالطبيب لكي يساعدها في ربطه إلى التخت، فيتعذّر ذهابه إلى موعده في النوفرة. لكنه، مع ذلك، شَغَل بآليةٍ وتهيّبٍ كريهين درجةً جديدةً شغرت أمامه بسرعة البرق، وقد أصبح على يقين كامل من أن البرد يحتدّ مع كل درجة لعينة تُقرّبُه من باب المومس.

- خود نَفَس! أمرته الست بهيجة، فاعتقد فجأةً، لسببٍ لم يفهمه، أن عبد الهادي قد تركه فعلاً وهرب، فالتفت مفزوعاً إليه. وجد طبيب الأطفال يسأله عمّا إذا كان يشعر برغبة بالتقيؤ. رأى الأستاذ سميع أن من الأفضل له أن يجيب بنعم، فهزّ رأسه بالإيجاب وهو يرشو الطبيب بابتسامة خائفة مستعطية على شفتيه. ثم مَحَضَ عبد الهادي نظرة عرفان بالجميل عندما ألفاه وراءه تماماً على الدرج. وكانت الست بهيجة قد جاءت بطست صغير، فوضعته في حضنه بعد أن ساعدها طبيب الأطفال في تجليسه على السرير.

- راجعْ، راجعْ، لا تترك شي في بطنك! طالبته الست بهيجة.

- الجبهة الوطنية التقدمية أهوَن من الموت، أهوَن بكثير يا رفيق. قال عضو المكتب السياسي وقد نتره الخيط نترة قوية زادت من ميله فوق القصبة، فاستفرغ الأستاذ سميع مباشرةً في الطست، وقد انشغل فكره بطريقة مضمونة تمنع عبد الهادي من التفكير بالهرب.

- لا تترك شي في بطنك. ألحّت الست بهيجة، فالتفت ثانيةً إلى الأمام، ووجد نفسه قبل قرص الدرج بِرَجُلين أيّ قبل سرير المومس بعدة خطوات. صار يرتعد كلّه، ويتمنّى لو يطول الدرج أمامه حتى الصباح، أو حتى ينفد صبر عبد الهادي ويشدِّه أخيراً من ياقته وراءه على طول الدرج وعبْر أرض الحوش والصالون والزقاق المضاء الطويل من بين الطلبة والجنود والمثقفين والقوادين والمومسات، ثم لا يتركه حتى يتجاوز به الشرطيّ النائم على كرسيّه الخيزران، ويحشره، دون كلمة واحدة، في باب أول سيارة أجرة يصادفانها في الطريق العام. وكانت صنارةُ الرفيق عضو المكتب السياسي قد علقت أخيراً بحلق سمكةٍ، بالظاهر، عنيدةٍ وقويّة، فشعر الأستاذ سميع مبدئياً بأنه قام بكل ما يُرضي الطبيب والست بهيجة حين ملأ لهما الطست الصغير بسوائل بطنه المقرفة، وأصبح يتطلّع إليهما الآن مثل ولد عاقل متلهفاً إلى استحسانهما. بدت الست بهيجة فخورة به فعلاً- كانت تنظر إليه بعطف كبير وتمسح فمه بكومة مناديل ورقية كما لو أنه كنّتها وقد ولدت صبيّاً بعد أربع بنات. ثم تناولت الطست من بين يديه كأنه مملوء بمشيمة، وخرجت من الغرفة بانشغال جدّة مُحِبّة بينما عقد الطبيب حاجبيه بتقزز واضح. وكان الأستاذ سميع مستعداً لملء طست آخر كرمى لهما، المهم أن لا يربطوه إلى التخت. لكنّ عظامه كلّها صارت تصطكّ بعضها ببعض، ولم يعد قادراً على تثبيت قدميه فوق قرص الدرج حين دخل آخر رجل أمامه إلى المومس ووجد نفسه في مواجهة بابها الخشبي المتهالك الأزرق المقشور، فاستعان، لكي لا يسقط، بذراع عبد الهادي الذي لم ينفد، يا إلهي!، صبرُه حتى الآن: - لا تتركني أرجوك! تضرّع إليه بصوت مرتعش هامس. وقد بدا واضحاً الآن أن السمكة التي علقت بالصنّارة ضخمةٌ جداً، وأن الرفيق عضو المكتب السياسي غير قادر على سحبها، فصار يستجيب تلقائياً للخيط المشدود نازلاً وراء قصبته المتوتّرة باتجاه الماء المظلم ببطء ودأب دون أن يتوقف، في غضون ذلك، عن تعداد محاسن الجبهة الوطنية التقدمية بالمقارنة مع الموت. لكنّ الست بهيجة عادت إلى الغرفة بوجهها المشغول نفسه إنما بلا أيّ أثر للسعادة التي خرجت بها كما لو أن الأستاذ سميع لم يستفرغ طستاً كاملاً قبل قليل.

- إفتح فمك! أصدرت له أمراً صارماً، فانبلق باب المومس أمامه وخرج منه رجل أشبه ما يكون بحائط، بينما غمر الماء ثلاثة أرباع جزمة الرفيق عضو المكتب السياسي البلاستيكية العالية.

- إفتح فمك! كررت الست بهيجة أمرها بحزم أكبر. وفيما نزل الحائط متثاقلاً على الدرج ظل الباب وراءه مبلوقاً وشاغراً أمام الأستاذ سميع.

- إفتح فمك! صاحت الست بهيجة من جديد، ففتح الأستاذ سميع فمه، ووصل الماء إلى ركبتي الرفيق عضو المكتب السياسي وصار يتدفّق داخل جزمته.

- تفضّلْ يا أفندي! اندلع الآن صوت المومس من داخل غرفتها ممطوطاً عالياً ولاسعاً. وفي الحال شعر الأستاذ سميع بعبد الهادي يخلّص ذراعه من قبضة أصابعه المتشنّجة، وفهم أن صديقه الوحيد سوف يهرب في هذه اللحظة القاتلة بالضبط، فكلّب به، وجذبه معه بكل قواه. ولمّا عصيا معاً في فتحة الباب انفجرت المومس بضحكة رنّانة وهي تقرفص فوق مصفاة بالوعة في العتبة وقد أضرمت حولها زوبعة بخار كثيف. إلى جانبها كان ينغر ببّور كاز عليه تنكة ماء يغلي، ومن نصف تنكة على الأرض كانت تغرف ماءً حاراً وتشطف تجاعيد مشرّمة سوداء بين فخذيها. استلّ الطبيب خشبةً من جيبه وقرّبها من فمه المفتوح، وأراد الأستاذ سميع أن يكزّ عليها بأسنانه ولم يستطع فقد بدت له أثخن بكثير من أن يطبق عليها فكّيه. ثم لم تعد، الآن، بربرةُ الرفيق عضو المكتب السياسي عن الجبهة الوطنية التقدمية مفهومةً، وكان سميع الرفيق الوحيد الشاهد على تمسّك هذا المسؤول الحزبي الكبير حتى النهاية بذيل قصبته وهي تسحبه وراءها إلى قلب الماء العميق. ثم سرعان ما ألفى نفسه وحيداً أيضاً في عتبة المومس بعد أن أفلح عبد الهادي أخيراً في تخليص ذراعه من قبضته.

- سكّر الباب وراك يا أفندي! بغمت المومس الآن بصوت عذب منهك بينما أنهت شطف تجاعيدها المشرّمة ووقفت على مقربة منه وسط زوبعة البخار المتواصلة حولهما في العتبة. لم يفهم الأستاذ سميع كيف سيوسّع الطبيب والست بهيجة الخشبة كلّها في فمه، ولكنه أدرك، ما دامت الخشبة ليست حبلاً لتربيطه، أن الاستسلام الكلّي لهما، رغم كل ما حدث حتى الآن، مازال هو السبيل الوحيد للذهاب إلى موعده مع ابتسام ولو بفمٍ ممزق. وكان ما لطّخه بالعار أنه لم يبادر إلى إنقاذ الرفيق عضو المكتب السياسي من السمكة الضخمة التي اصطادته بقصبته. كان يستطيع مثلاً أن يخوض في الماء مترين أو ثلاثة أمتار ويشدّه من ظهر فانلته البيضاء إلى الشاطئ. كما كان باستطاعته أن ينتزع القصبة من يديه ويتركها للسمكة تمضي بها إلى حيث تشاء، أو أن يصرخ على الأقل بأعلى صوته فيفزع إليه بقية الرفاق من قلب الغابة، ولكنه لم يفعل، ظلّ جامداً على الشاطئ حتى غيَّب الماءُ المظلم الرفيقَ عضو المكتب السياسي تماماً.

- إفتح فمك للآخر، للآخر! صرخت الست بهيجة من آخر الخشبة. ثم اشتعل نور مفاجئ في بؤبؤي عينيه مباشرة، فلم يعد يرى من غرفته كلها أكثر من حاجبي طبيب الأطفال معقودين على حافة النور المُعمي. لكنه، من وراء البخار الكثيف في العتبة، ميّز عينيها الجميلتين المتعبتين وابتسامتها العذبة الذابلة. ولم يعرف، وهو يوازن بصعوبة جسده المختلج كلّه إلى جانبها، ما الذي يفعله الآن. هل يذهب إلى الرفاق في قلب الغابة ويخبرهم بما حدث؟ أم أن دوره انتهى منذ أن أغلق الباب وراءه، وعلى المومس الآن أن تمارس مهنتها. بقي على ضفة النهر مشتتاً بلا أدنى حركة، فأمسكته المومس من فتحةٍ بين أزرار معطفه المبكّل، وشدّته من العتبة وراءها. ثم آلمته من جديد حقيقةُ أنه كان عملياً ينتظر بصبرٍ نافد أن تسحب السمكة الرفيقَ العجوز إلى قاع النهر بأسرع ما يمكن. وكان مستعداً في لحظة صفاء موجع أن يعترف بذلك لجميع الرفاق، مع أنهم سوف يفهمونه بصورة خاطئة، ولابد سيتهمونه بإغراق الرفيق عضو المكتب السياسي. وهكذا لم يعد ثمة الآن مجال للتنفس، فقد سدّت الخشبة والنور المعمي كلّ منفذ للهواء، بينما كان وعيد الست بهيجة يخترقه مثل نصل طويل حاد، ويد المومس تشدّه باتجاه السرير وهو لا يني يحرن إلى الوراء ويسحب أنفاسه بصعوبة شديدة. ثم زاد من اختناقه، حين توقفت به تحت المصباح مباشرة، أنه صادف حلمتيها على حافة الشلحة الكالحة- كانتا حقيقيّتين، زهريّتين، منتصبتين، ومُتاحتين فوق نهدين أبيضين قابلين للقبض عليهما ومقشعرّين من شدّة الحياة والبرد. وإذ كان الهواء أقل من أن يسعف لسانه بكلمة واحدة يقولها لها وأقل بكثير من أن يُمكّنه من مسك أيّ عضو منها، أدرك الأستاذ سميع أن ما تبقى له من الهواء لن يكفي لغير الهرب.

- إيدك على عشر ليرات! قالت المومس بصوت حلو دلع ضعيف. وأراد أن يعترف لها بأنه يختنق، ولم يستطع. التفت وراءه، وبدا له الباب، رغم البخار، حقيقياً أيضاً وقابلاً لفتحه في أيّ لحظة، فانطلق نحوه مثل يائس. سوف يستبطئه الرفاق الآن، وسوف يستفهمون عنه في مخيم القيادة حيث لن يجدوا أحداً. وعندما سينظرون ناحية النهر سيدلّهم القمر إلى جثة الرفيق عضو المكتب السياسي المنتفخة العائمة فوق وجه الماء. وعندئذٍ سوف يتساءلون، قبل كل شيء، عن مكان الرفيق العميل المدسوس الذي أغرق مسؤولهم الكبير. وكان من غير المعقول أن ينتظرهم هناك على شاطئ الجريمة ليقبضوا عليه، فانطلق يعدو إلى الجهة الأخرى من الغابة وهو لا يشعر بقدميه من تحته مرعوباً وخفيفاً مثل قاتل مبتدئ. وفي النفس الأخير أخرج الأستاذ سميع الخشبة من فمه بكل ما تبقى لديه من عزيمة خائرة، فولولت الست بهيجة دون أن يراها. وكذا صرخ طبيب الأطفال بكلمات غاضبة دون أن يراه. ثم شبّ على رجليه، فوقع على وجهه. انكبّت معه أشياء لم يرها أيضاً، لكنه وصل إلى الموزّع، فتح باب الشقة البعيد، وفرّ مثل عصفور نجا من طلق ناريّ. وعلى هوى طيرانه من باب المومس دفع أمامه عبد الهادي الواقف على قرص الدرج، فانقاد له وتدفّق بين يديه على الدرج الطويل كما لو كان ينتظر، هو الآخر، هذا الفرار المهول. اصطدما معاً بالزبن والمومسات وحروف الأبواب والتابوريات، فحلّقت بين أقدامهم الطائرة المنافضُ والكؤوس والفناجين وقناني البيرة والكازوز، وتناثر وراءهما الرماد وأعقاب السجائر والشظايا، وفوق رأسيهما تلاحقت الولاويل والشحّاطات والشتائم. كان الطريق العام على بعد عشر دقائق جرياً عبر الغابة، فحرص سميع على أن لا يقع في عين أحدٍ من الرفاق المتربّصين به، فجعل يخطم مثل سهمٍ من شجرة إلى أخرى. وحين لاحت له أضواء السيارات والشاحنات من بين الجذوع القليلة المتبقّية عليه نفد الهواء، كأنما، في رئتيه، فتمهّل ليلتقط أنفاسه. لكنه لم يشعر بالأمان إلاّ حين أنهى الغابة بسلام واستقل أول باص صادفه إلى العاصمة. ثم ما لبث أن انقضّ على سيارة أجرة لاقته بعد الشرطي النائم بما يقرب من مئتي متر، لوّح لعبد الهادي من نافذة المقعد الخلفي وهو يلهث ويطلب من السائق أن يأخذه إلى القابون حيث كان يقيم في تلك الأيام. نزل، الآن، قفزاً على درج البناية رغم التاسعة والأربعين التي أتمّها في يوم الخميس. ولكي يتوه عنه الطبيب والست بهيجة اللذان يتعقبانه حتماً اختبأ وراء شجرة غليظة على الرصيف. وبالفعل أطلّت، بعد قليل، الست بهيجة، إنما وحدها، ووقفت في باب البناية تتلفّت مشتتةً مهتاجةً مثل مفجوعةٍ بعزيز. وكان لن يعرف أين يذهب بعينيه الفضّاحتين في سيارة الأجرة لولا نظارته السوداء. لن يكتشف السائق معها أنه خرج منذ قليل من بحسيتا مهما تلصّص عليه من المرآة. وفي ظلام النظارة الأمين ألفى الأستاذ سميع نفسه يستعيد المومس الجميلة من جديد- كان يستطيع أن يمرّ بشفتيه على أهداب عينيها الساحرتين المذبَّلتين، وأن يتحسس أنفها المُكَلْثم الدقيق كلّه برأس أنفه، وأن يتسلل إلى فمها الشهي الملموم برأس لسانه، ثم ينزل به إلى استدارة ذقنها، فعنقها الأبيض الطويل حتى يصل به إلى النزلة بين ثدييها.. وعند ثدييها فقط تلعثم الأستاذ سميع في قلب نظّارته المظلمة، فقد اكتشف، فجأةً ودون مقدّمات في تلك الساعة المتأخرة من الليل وعلى المقعد الخلفي في سيارة تنطلق به إلى القابون، أن حلمتي ابتسام المخروزتين منذ سنوات طويلة في رأسه القديم أضخم حلمتين رآهما في حياته. انقشعت، عندئذٍ، صورة المومس من تحت النظارة وحلّت مكانها صورة غائمة بعيدة لتلك الفتاة النحيلة التي احتفلت بعيد ميلاده مرّتين متتاليتين. وقد بقي خلاصه منها هو الشيء الوحيد الذي يتذكّره الأستاذ سميع الآن من كلّ المعسكر التثقيفي الذي حدث قبل أكثر من عشرين عاماً على شاطئ الفرات. أما غرق الرفيق عضو المكتب السياسي فقد بُرّئ منه عندما أشاروا في صحف اليوم التالي إلى أن المسؤول الحزبي الكبير، في لحظة عثورهم عليه على مقربة من المعسكر التثقيفي السريّ، كان مايزال ممسكاً بقصبته بينما كانت سمكة ضخمة تسحبه مملوءاً بالماء وراءها على سطح النهر. ظلّت الست بهيجة الآن واقفةً في باب البناية بمعطفها البنّي الكالح وشعرها الأشيب المنكوش، تمسح الشارع بعينين مفجوعتين يقظتين ويدين مُكَتّفَتين كامنتين له بالذات وقدمين مستعدتين للجري وراءه دون غيره في أي لحظة. ومثل كلب مدعبل ضخم شمّ فجأة رائحة صاحبه من بعيد ما لبثت أن نزلت إلى الرصيف، واتجهت نحو اليمين باتجاه الشجرة التي يختبئ وراءها الأستاذ سميع. لن يستطيع الآن مدّ رأسه من وراء الجذع الضخم وتقدير المسافة التي تفصله عنها، لكنه عرف أنها ستقبض عليه إذا بقي في مكانه. نظر إلى السماء كما لو أنها الطريق الآمنة الوحيدة التي يمكن أن تفضي به الآن إلى مقهى النوفرة. ثم أنقذه في تلك اللحظة المسدودة الحرجة باصُ نقل داخلي. كان الموقف على بعد أمتار قليلة منه، فقدّر، بينما انطلق راكضاً باتجاهه، أن الباص سوف يغلق أبوابه مباشرةً بعد أن يقفز إليه، فلا يكون ثمة مجال لتعليق قدَمَيْ أي راكبٍ آخر. لاقاه هنا خلق كثيرون متجهّمون ومتداخلون بعضهم ببعض، فانغمر فيهم مباشرةً وبدأ يُمَلّص جثته القليلة من بينهم حتى وصل سالماً إلى منتصف الممر بين المقاعد دون أن يثير حفيظة أحد. وإذ وجد نفسه غاطساً في لحم الناس وبين عظامهم إلى ما فوق رأسه دون أن يلاحظوه بدوا له أقل سوءاً وأكثر أمناً مما كانوا عليه منذ يوم الخميس. تمنى من كل جوارحه لو أنهم لا ينزلون من الباص مادام مغيّباً فيهم وعنهم بمثل هذا الإحكام الشديد. ورغم أنهم تخلخلوا من حوله في الموقف التالي إلا أن بطوناً وظهوراً وأوراكاً وأكتافاً حلّت بلزوجة وبراعة وبطء محل بطون وظهور وأوراك وأكتاف أخرى. وطبعاً لو كان أطول وأغلظ مما هو عليه لما سُعد بمثل هذه النعمة الخانقة. ثم ما لبث الناس أن خسروا صورتهم المحسَّنة بغتةً عندما تلقى منهم الأستاذ سميع دفعةً قويّة لَفَظَتْه من أعماق لحمهم المصبوب في الممر إلى حافّته. وكان أوهن من أن يغطس فيهم من جديد بقواه الخاصة، فلم يعرف بأي شيء يطمر جزءه الذي انكشف على صف مقاعد الجالسين الناظرين أبداً إلى الأمام، وعلى النوافذ المطلة بجلاء مقيت على الشارع. ثم لم يذكر بالضبط ما إذا كان قد جلس هو أولاً فوق الفتى الجالس على المقعد الملاصق فاضطر هذا إلى الوقوف، أم أن الفتى نفسه تنازل له عن المقعد ووقف في مكانه. ما كان معلوماً لديه بدقة هو أنه جلس بحماسةِ أعمى منهك على المقعد كما لو أنه قد تغلّف به عن كل العالمين. وفي غمرة اطمئنان مريب لمح الأستاذ سميع بذلته الجديدة في مرآة الباص المواجهة لصفّ المقاعد الذي يجلس فيه، وكان مستحيلاً افتراضها على شخص آخر، ما جعله يقرّ بأن الشخص الغريب الذي يرتديها إنما هو نفسه. ثم إن ربطة عنقه الفستقية برهان دامغ آخر عليه، مع أن الشخص الغريب الذي يرتديها فوق قميصه الكاروهات أيضاً كان أقرب إلى الستين منه إلى التاسعة والأربعين. إن تجاعيد هذا الرجل أكثر وأعمق من تجاعيده الجديدة التي تمعّن بها عندما حلق ذقنه في الصباح، وشعرَهُ أخفّ وأميل إلى البياض منه إلى الرمادي، ومُقْلَيْ عينيه، فوق ذلك، أكثر زَيَغاناً ورعباً. ثم جفل الأستاذ سميع في مكانه فجأةً حين استطاع بهاتين العينين الغريبتين الزائغتين أن يتعرف على وجه الست بهيجة في المرآة نفسها جالسةً وراءه على بعد ثلاثة مقاعد. وكان يمكن لشخصٍ بسرعةِ رصاصةٍ فقط أن يخترق اللحمَ الآدمي المرصوص في الممر حتى الباب الأمامي. وبما أن الأستاذ سميع، من جهة أخرى، لن يرمي بنفسه من النافذة فإنه لم يجرؤ على قطع الأمل من نجاته من الست بهيجة في هذه اللحظات المشؤومة، فصار ينتظر، بصبرٍ نافد، أن تصاب بسكتةٍ قلبية على وجه السرعة. ولكي لا ينفجر من غيظه، ريثما يتمّ ذلك، حاول أن يتجنّب النظر إليها قدر الإمكان، فانتقل بعينيه إلى ساعة يده. وهنا واجهته مشكلةٌ أخرى انتبه إليها في الوقت المناسب- كانت العقارب تشير بوضوح إلى التاسعة تماماً. ولأن الباص كان يمشي بالاتجاه المعاكس لمقهى النوفرة، والطريقَ من هنا إلى هناك سوف يستغرق لا أقلّ من ساعة واحدة، فإن عليه أن ينزل حالاً ويغيّر اتجاهه وإلاّ فسوف يتأخر على ابتسام. نظر مرة أخرى إلى الست بهيجة وفهم بوضوح أنها لن تتركه مهما كلّف الأمر. وعندما تضحّي الست بهيجة بكل قطاطها في حديقة السبكي وتفرّغ له صباحها بكل هذا الإصرار اللئيم فهذا يعني أن هذا اليوم لن يمضي على خير. لكنّ ذلك لن يعفيه في كل الأحوال من النزول من الباص الآن وبلا إبطاء، فكل دقيقة ينفقها في هذا الاتجاه ستكلّفه دقيقة تأخير أخرى في طريق العودة. ثم إن الست بهيجة، إذا بقي هنا، سوف تصطاده بسهولة في نهاية الخط. سوف تدبّ، آنئذٍ، بخطواتها القصيرة في الممر الفارغ بين المقاعد الفارغة دون أي عناء. وسوف يجمد، هو، في مكانه مثل فريسة مسبوعة حتى تصل إليه. سوف تمسكه من يده وتسحبه وراءها إلى البيت مثل نعجة مريضة. سوف يكون طبيب الأطفال بانتظاره هناك إلى جانب خشبته اللعينة وضوئه المُعمي. وطبعاً لن يظهر عبد الهادي في تلك اللحظة ليخلّصه منهما، ولن يظهر أيضاً بعد ذهاب الطبيب ونوم الست بهيجة عندما سيتكالب أغراب متوحشون على باب الشقة بأحذيتهم وقبضاتهم في الواحدة بعد منتصف الليل. عبد الهادي لا يظهر عندما يتّفق على الأستاذ سميع كل شيء من مسكات الابواب وحنفيات الماء ولمبات النيون إلى مطّاط سرواله الداخلي. لماذا لا يظهر عبد الهادي الآن مثلاً ويزيل من طريقه كل هؤلاء البشر المدكوكين في الممر، ثم يقترب من الست بهيجة، يؤنّبها ويربط يديها ورجليها بحبل غليظ، ثم يقول له بعد ذلك إذهب الآن إلى موعدك بأمان يا أخي سميع، بل ربما ذهب معه وساعده في مكافحة ابتسام أيضاً. عبد الهادي لا يظهر، والأستاذ سميع سوف يتأخر عن موعده حتماً. ثم حدث أن الراكب الذي يشاركه المقعد أراد أن ينزل، ولكي يُمَكِّنه الأستاذ سميع من المرور وقف وحاول بخراقة بادية أن يلزق بصبّة الناس في الممر. وما حصل في تلك اللحظة، على خلاف توقعاته كلّها، أن آخرين من المقاعد الخلفية كانوا ينزلقون إلى الأمام بثبات وبطء سيلاً متماسكاً من عضل متوتر وكروش مضغوطة وأنفاس حارة، فجرفوه أمامهم مثل عود رفيع عائم. وجد الأستاذ سميع نفسه أمام الباب الأمامي فجأة، فنزل وهو لا يصدّق خلاصه من الست بهيجة. وطبعاً لن تمرّ من أمامه الآن سيارة تكسي مادامت ضرورية إلى هذا الحد. خيّل إليه أنه إذا ركض وانضم في أول منعطف إلى اليمين فسوف يفوّت عليها أي أمل في تحصيله. وجد في المنعطف سيارة جيب واقفة، فلطأ بها مبهور الأنفاس. ولكي لا يسقط من طوله على الأرض استند إلى مصباحها الأمامي ثم تكوّم على قدميه. نزل من سيارة الجيب رجل طويل، ولم يكن بمقدور الأستاذ سميع لا أن يعاود الوقوف ولا أن يموّه لهاثه المسموع، فاقترب منه الرجل وساعده على الوقوف. ثم استفسر منه عما إذا كان يحتاج إلى إسعاف لمشفى، فهز الأستاذ سميع رأسه بالإيجاب. سنّده الرجل حتى الباب الخلفي للسيارة، وبينما فتحه له وأجلسه على المقعد لمح الأستاذ سميع الست بهيجة تسرع نحوه من رأس المفرق. طبق الرجل الباب عليه، ولم يلتفت الأستاذ سميع إلى الوراء ليتأكّد عبْر الزجاج الخلفي من وقوعه الوشيك بين يديها. أغمض عينيه، وهو يستبعد بقواه كلّها أن تفتح عليه الباب المجاور وتحشر نفسها إلى جانبه، ثم لم يُفتّح عينيّه حتى أدرك أن السيارة قد تحركت فعلاً من دونها. أسعفته سيارة الجيب، برجاءٍ منه، إلى بوّابة الحميدية. كانت ساعة يده تشير إلى العاشرة إلا خمس عشرة دقيقة. لن يصل إذاً في العاشرة إلى مقهى النوفرة. سوف يتأخر عن موعده عشر دقائق، وربما عشرين أو حتى ثلاثين. فليكن! هتف الأستاذ سميع في نفسه فجأة كما يلفظ بحصةً من رئته. يجب أن تفهم الست ابتسام أنه غير مُلزم بالوصول إلى موعده معها في الوقت المحدّد. فلتنتظرْ! إنه بالنهاية لا يأتمر بأمرها، وليست هي من يُوقّت له مواعيده. ثم لن يسمح لها بأي كلمة زائدة أو تعليق، لأن "صباح الخير" التي سوف يُسقطها من رأس أنفه عليها ستكون باردةً ويابسةً إلى درجةٍ يصعب معها تبيّن أي خير في هذا الصباح. سوف ينظر إلى وجهها كما ينظر إلى شيء لا يستعمله عادةً مثل فرشاة أسنان قديمة مستخدمة رمى بها أحدهم من الطابق الثاني أو الثالث، فاصطدمت ببوز حذائه، بمحض المصادفة، في طريق عودته من استنهاض التراث العربي مثلاً. إن ابتسام بالنسبة إليه الآن لا أكثر من تفاحة معضوضة من جهاتها الأربع، أو منديل قديم مبقّع بالزيت والغبار ومثقوب فوق ذلك. ما حاجته فعلاً إلى أشياء مستنفدة في رمقها الأخير لكي يسعى إليها بقدميه؟ لكنه، في حقيقة الأمر، لا يسعى إلى هذا اللقاء إلاّ لكي لا تُرمى مثل هذه الأشياء المنهكة من الاستعمال في سلّته مرة أخرى. وإذا كانت سلّته فارغة منذ زمن طويل جداً فإن ذلك لا يعطي الحقّ للآخرين بملئها نيابةً عنه. ثم إنها فارغة بمحض إرادته، وإذا كان لابدّ من ملئها أو شغلِ بعضها، بعد كل هذه السنين، فإنه لن يقبل بمجرّد قراضة تنهال عليه من مجرّد سماعة هاتف أو من مجرّد بلوغ المرء التاسعة والأربعين دون علمه. ثم اعتقد الأستاذ سميع أن الناس الذين يمرّ بهم في سوق الحميدية هم أيضاً يمدّون رؤوسهم بأعناقهم الطويلة من وراء بسطاتهم ومن فوق فيتريناتهم ويخترقونه بعيونهم الدبقة إلى فراغه الهائل المجعّد القديم الذي راكمه في نفسه عاماً بعد عام ويوماً بعد يوم، ثم يُغَضّنون وجوهم متعجّبين من خلوّه المطلق فيما تزدحم حيواتهم هم بالعالم كلّه. حسنٌ، إن أيامه، التي لا تخصّ أحداً غيره، قفراء نفراء جرداء تماماً كما تبدو في عيونهم الآن، ولكنها تعجبه جداً ولن يملأها بهم ولا بغيرهم في كل الأحوال فما دخلهم بها ومن حشرهم فيها؟ ثم لم يفهم الأستاذ سميع لماذا كانوا يفسحون له الطريق، في هذه الأثناء، كما لو أنه كسيح برأس حصان وحدبة جمل يكرج على خشبة بأربع بيليات؟ وكان قادراً في تلك اللحظة على أن يشعر فعلاً بتقافز خشبة مخلّعة تحت مؤخرته ورجليه المشلولتين وأن يسمع هدير بيلياتها الأربع على حجر الطريق الاسود بين أحذية المشاة وعجلات العربات، فانطلق يعدو ليكذّب ذلك. انقطع نَفَسُه عند مقام صلاح الدين الأيوبي، فاستند إلى بوابته، ونظر إليه مثل مستغيثٍ به في لحظةٍ طويلة موجعة. غير أن بدنه اقشعرّ بعد قليل حين انفتح باب المقام وظهر منه قطيع كبير من الأجانب. توقّع أن يهجموا عليه بكاميراتهم يصورونه ويتصوّرون معه وهم يضعون ذراعهم، ربما، فوق سنامه الذي سيتخيّلونه بسهولة، فسارع إلى متابعة هرولته المضنية حتى انعطف في الزقاق الذي ينتهي بمقهى النوفرة عرقان لاهثاً زائغ النظرات. لم تفصح له هيئات الزبائن البعيدة على كراسي الخيزران ما إذا كان سيجد مهرباً من الأجانب في المقهى. لكنّ ابتسام أصبحت الآن على بعد خطوات معدودة، ولم يعد أمامه خيار آخر غير المجازفة بالدخول حتى ولو كان الأجانب سيُخْلَقون هناك خصيصاً من أجله. تمنّى فقط لو يكونوا منشغلين، على غرار السلاطين المفضّلين في أذهانهم، باستدراج سعالهم البهيج من خراطيم نراجيلهم الملوّنة الطويلة، فلا يشعرون به ولا يلتفتون إليه. أما هو فلن يلتفت إليهم حتماً، ولا إلى غيرهم، سوف يدير لهم ظهره الكتيم قدر الإمكان محاولاً بكلّ جوارحه أن لا يشفّ عن فراغه الكلّي الذي يسكنه، فلا يسيل لعابهم على توثيقه في عدساتهم اليابانية المشحوذة على رقابهم دائماً وأبداً. ثم تماسك بكلّ قواه، ودخل المقهى. لم يصطدم، كما توقّع، بأحد أو شيء، فلم يشعر بأنه مدين بالاعتذار إلى أي مخلوق، ومن ثمّ لن يتبرّع، من ناحيته، بإلقاء التحية على أحد. ما الداعي فعلاً إلى تذكير الناس بنفسه إذا كانوا يمرّرونه، حقيقةً، من بينهم بسلامٍ مقبول دون أن يقصدوا أو يشعروا بذلك؟ ثم لم يصادف بين أرجل الكراسي والطاولات ما يوحي بسيقان الأجانب وألبستهم العفوية المجعلكة، فتشجّع واعتبر نفسه على الفور شخصاً طبيعياً لا يختلف بشيء عن كل هؤلاء الجالسين بدليل أن أحداً منهم لم يندهش لرؤيته أبداً. بدأ الآن يختلس نظرات خاطفة متمحّصة قدر المستطاع بالوجوه من حوله مكتشفاً على مهله أن ابتسام قد خدعته. في قديم الزمان كانت تأتي قبل عشرين دقيقة من الموعد بينما بلغت الآن العاشرة...إلا خمس دقائق! لقد سخرت منه. ربما قصدت من ذلك أن تنتقم منه الآن على هجره التعسّفيّ لها في تلك الأيام البعيدة. انتقى أخيراً طاولة منزوية وجلس إليها. كان يحجبه هنا عن الكثير من زبائن المقهى ظهرٌ كحليٌّ ضخم يستقر إلى طاولة مجاورة. لكنه، من الجهة الأخرى، ظلّ عرضةً لنظرات الخارجين من باب التواليت ولرجل متناوم فوق دكّة عالية، فالتمّ الأستاذ سميع على نفسه ما أمكنه، ثم حصر عينيه فوق كفّيه المشبوكتين أمامه إلى جانب منفضة فارغة فوق طاولته، وجمد ينتظر. اضطر، بعد قليل، إلى أن يعير انتباهه إلى الظهر الكحليّ الضخم الذي يتخفّى وراءه، فقد نهض الآن من مكانه بصعوبة والتفت إلى جهته، ثم اقترب منه بالذات حتى التصقت بطنه الكحليّة الهائلة بحافة الطاولة. رفع الأستاذ سميع عينيه ببطء وحذر واضحين وأدرك أن الملامح المتهلّلة التي تشرف عليه الآن بصعوبة ليس لها أيّ علاقة بتلك الملامح التي عرفها قبل أكثر من عشرين عاماً. لكنّ ابتسام نزلت، رغم ذلك، مع "صباح الخير" على الكرسي المقابل بالصوت الدهني العريض نفسه الذي سمعه يوم الخميس من سمّاعة الهاتف. وكان أكثر ما نغّص عليه صورتها الماضية ليس فقط أنها الآن أشبه ما تكون بهضبة، بل وأن عينيها الراهنتين كانتا أصغر بصورة لا تصدق من عينيها القديمتين. ثم بدا له أنها حزرت الحاجز الثخين الذي يزيد من صعوبة استيعابها لديه بتلقائية أكبر فنزعت نظارتها السميكة، حلّقت بها قليلاً بإصبعين لحيمين في الهواء، وقبل أن تحطّ بها أمامها زحفت بخنصرها القصير الغليظ على سطح الطاولة وتأكدت من مسافة أمان كافية عن الحافة. أصبح الأستاذ سميع الآن واثقاً من أنها لم تعد تراه. لقد فوّتت عليه بهبوطها المفاجئ "صباحَ خيرِه" الناشف المبيّت على رأس أنفه منذ أول الحميدية، وها هي قد أفقدته، فوق ذلك، معنى أن يتعالى عليها مادامت لا تراه بدون نظارتها السميكة. لكنها كانت تتملّى به، رغم ذلك، بعينين سعيدتين وبحدقتين متراقصتين وغائصتين في وفرة شحوم وجهها المطبّقة. كيف كان في ماضي أيامه يحوش بقبلة واحدة كل هذا الفم الشاسع المبتسم؟ ولكنْ ما الذي يضطرّه الآن إلى قتل وقته بفمها وعينيها وأذنيها وبما كانت عليه من قبل وما ستكون عليه من بعد؟ لماذا لا يبدأ من الآخر، من الهدف الذي اقتلعه من فراشه وجاء به إلى هنا، من تصميمه على استئصالها هي وحلمتيها من حياته إلى الأبد. وإذا كانت لا تسمع بنظّارتها في نهاية الأمر فإن شيئاً لا يدلّ على أنها طرشاء. ومادامت في هذه اللحظة تنتظر منه، هو الرجل، أن يبدأ مجاملتها بكلمة لطيفة بعد كل هذا الغياب، فإن الظرف مثالي لشيء واحد فقط- أن يفرّغ فيها فوراً كل سمومه التي تجمّعت لديه منذ يوم الخميس. "إنكِ لا أكثر من دبّة عمياء تعنّتْ من آخر الدنيا لتقلق راحة موظف حكومي مرشح في أي لحظة لأن يستلم إدارة مهمة في هذا البلد" كاد الأستاذ سميع ينقضّ على ابتسام بهذه البداية المُعَبّرة، لكنه لم يعرف في اللحظة الأخيرة، رغم وضوح غاياته وسلامتها، كيف يمكن لتلك الكلمات أن تخرج من فمه متماسكةً ومتسلسلة ومفهومة مادامت ابتسام تبتسم حتى الآن بفمها الهائل الصامت وعينيها السعيدتين العمياوين. كان واثقاً من أنها لو لبست نظارتها لرأت السمّ الكامن لها في ملامحه كلّها، ولما وجدت مبرراً لابتسامتها الضخمة هذه. إنه، ببساطة، لا يصدّق أن يكون في الدنيا شخص واحد يغتبط بلقائه إلى هذه الدرجة دون أن يكون مغرضاً في حقيقة الأمر. ثم إن المرارات التي أذاقها لابتسام في الماضي لا تفسّر انشراحها هذا غير المحدود، والذي لن يفهمه، بالمناسبة، إلا باعتباره سخرية سوداء أو قناعاً لخطة مرسومة مسبقاً للقضاء على مستقبله الوظيفي. ومن ثم لا ينبغي له أن يقع في شراك هذه الدبّة المبتسمة، وعليه أن يباشر بإهانتها فوراً، فتفهم من أقصر الطرق وأفصحها وأكثرها لؤماً أن لعبتها مكشوفة منذ مخابرتها اللعينة، وما عليها الآن إلا أن تلمّ تلال لحمها المكدّسة فوق قلبه وتنقلع من حياته إلى الأبد. وكان وجهه قد احتقن بالدم من حدّة انفعاله، فهمّ بالقول "يا بنت الكلب مين بعتك لعندي؟" لولا أنه لمح، الآن فقط، كفَّها مستلقيةً أمامه على حدّ الطاولة بالطريقة نفسها التي استلقت بها يد الفلبينية إلى جانبه البارحة في الكباريه: مثل مخلوق أليف ناعم، وإن كان مدعبلاً هذه المرّة. لم يفهم كيف استخلصت هذه العمياء يد الفلبينية من قرارة نفسه وقلّدتها بهذه الدقة وهذه الكفاءة. لابد أن أياً كان في المقهى قادر إذاً على هذا الاستخلاص المشين. لكنّ الأستاذ سميع، في كل الأحوال، لن يُلدغ من يدٍ مرتين، فإلى ماذا تهدف هذه الكرنيبة المنفوخة من يدها المستلقية؟ ثم حاول، عبثاً، ابتلاعَ هواجسه المريرة هذه مع اقتراب الغرسون من الطاولة، فهذا الفتى ما جاء طبعاً إلاّ ليستخلص، هو الآخر، يدَ الفلبينية من نفسه التي تفوح رائحتها النتنة، لابدّ، في كلّ المقهى، تماماً كما سيستخلصها غداً كل الموظفين في الإدارة العامة لاستنهاض التراث العربي. لو كان الإنسان حلزوناً لوفّر على نفسه الكثير من الفضائح. ولو كان الأستاذ سميع مديراً لاستنهاض التراث العربي لكان حلزوناً حقيقياً في قوقعة ضخمة على بابها رجال أشدّاء مفروزون منذ الولادة للقيام بأعمال الحراسة. وبما أنه الآن أعزل حتى من أغصان شجرة يتموّه بها فقد استطاع الغرسون ببساطة أن يغرز عينيه الطويلتين المُدَبَّبتين في وجهه المفتوح على مصراعيه وهو يسأله عما يطلب من المشروبات. لم يعرف طبعاً، من هذه المسافة القريبة، كيف يدافع عن نفسه المكشوفة بتفاصيلها وبكل عيوبها ونتانتها أمام الغرسون ولا كيف يحجبها عنه، فنكّس رأسه باتجاه منفضة السجائر الفارغة، وظلّ صامتاً ومُتاحاً له بلا حدود. إلا أن ابتسام، التي مازالت تبتسم، كانت، كما لاحظ الآن الأستاذ سميع، بالمرصاد للغرسون- سلّطت عليه فجأةً وجهها الكبير مثل باب حديدي مقفول، وانبرت له بقولها الفصيح الحازم:- كاسين شاي لو سمحت. شعر الأستاذ سميع فوراً كيف سحب الغرسون عينيه من وجهه وذهب كالمدحور، ثم لم يستطع، من وقع المفاجأة، إيلاء الشجاعة التي أبدتها ابتسام الآن من أجله ما تستحقّه من التقدير، لكنّ ما أقدمت عليه لطّف كثيراً ومباشرةً من تهديد يدها الأليفة الناعمة المدعبلة المستلقية حتى الآن على حافة الطاولة. ثم لم يهنأ فترةً طويلةً جداً بالصمت المختلف السميك الدافئ الذي خيّم فوقهما، الآن، مثل لحاف، فقد عاد الغرسون إلى الطاولة مرةً أخرى. لكنّ ابتسام، في هذه المرّة أيضاً، منعته، بالجسارة نفسها، من غرز عينيه المبريّتين في وجه الأستاذ سميع- صوّبت عليه واجهتها الحديدية المقفلة من جديد وشكرته شكراً حادّاً، فتكسّرت عيناه فوراً في الصينية التي يحملها، ثم وضع، مثل أيّ شخص منزوع الفتيل، كأسَيْ شاي على الطاولة وانسحب بسرعة. بدا الآن الأستاذ سميع لنفسه مسوّراً بابتسام ومدجّجاً بها، فأصبح، كأنما، في وضعٍ يسمح له فعلاً أن لا يشعر بأي تبعات يمكن أن تترتب على وجوده بين كل هؤلاء الأغراب في المقهى مهما اختلف وجهه عن وجوههم الموحّدة ومهما غصّوا بوجوده وتكالبوا عليه بنظراتهم الجبانة من بعيد. ثم استطاع أن يمدّ يده، بلا وساوس تقريباً، إلى كأس الشاي ويأخذ رشفةً لا مباليةً طويلةً وهو ينظر إلى عينيْ ابتسام العمياوين بإعجاب مغبرّ قديم. لكنه، مع ذلك، راقب يدها بحذر عندما زحفت فجأةً باتجاه كأس شايها فأخطأت مكانها بعدّة سنتيمترات، ما اضطره إلى تقريبها من أصابعها الضريرة. لو كانت ابتسام بلا يدين لوجد الأستاذ سميع ما يقوله لها مما تودّ سماعه من الكلام اللطيف. إلا أنه، رغم يديها، كان أعجز من نكران الأمان الذي لم يتذوقه في نفسه منذ أمدٍ بدا له بعيداً جداً في تلك اللحظة، فأفلت ابتسامة خجولةً عندما بادرت بلا مقدمات وانخرطت في حديث طويل. ما أدهشه هو أنه لم يستطع، مع الأمان المتواصل الذي يغمره به وجودها العظيم الراسخ، أن يحدّد بدقة موضوعَ حديثها رغم إنصاته الظاهريّ المخلص. ما أمكنه تمييزه من كلامها، في صحوات قصيرة متفرّقة من أعماق طمأنينته، كان أقرب ما يكون إلى أنصاف سِيَر وأرباع حوادث من فترات متباعده خيل إليه أن القليل منها يعود إلى أيامهما المشتركة الغابرة. ذكّرته مثلاً بالقط الأسود الذي جلست عليه في السينما عندما دخلا ذات مرة بعد بداية الفيلم. ومع أنه لم يتذكر تلك الحادثة فقد استغرب، كمستمع جيد قدر الإمكان، أن يُحشر ذلك القط بين حَبّ الشباب الذي أكل وجهها عندما كانت في الثالثة عشرة من عمرها وبين البقع السوداء التي تتكاثر على ظهر زوجها منذ سنتين. ثم خيّل إليه، وقد أمسكتْ، ربما، عن الكلام، أنه رأى دمعة كبيرة انداحت على طول خدها الواسع. لكنّه لم يميّز باعثَ دمعتها الطويلة هذه رغم أن ابنتها الكبرى بعد رسوبها في الشهادة الثانوية للمرة الثالثة انقطعت للعبادة حالمةً في الليل والنهار بالشهادة في سبيل الله، ورغم أن الثعلبة لحست شعر ابنتها الصغرى، وأن خرّاجاً عنيداً ظهر على ركبة أحدهم، وأن شخصاً آخر عزيزاً، على الأغلب، قد سقط من أعلى السلّم فتكرسح، بالإضافة إلى ممرضة لئيمة بَخّشتْ الذراعَ كلّها ولم تعثر على الوريد (وريد من؟؟ لم يعرف) ثم إن أخاها الوحيد، أو شخصاً آخر من هذا القبيل، معتقل، فوق ذلك، من عشرين سنة، والأنكى من كل شيء أن تلاميذها اكتشفوا أنها لم تعد ترى المقاعد الأخيرة في الصف رغم نظارتها السميكة، فأصبح مدير المدرسة لا يكفّ عن تذمره من الضحك والصفير والأصوات الغريبة التي يُحْدثونها في أثناء درسها. وهي نفسها، إذا أردتَ الصراحة، أصبحت تقرف من الفعل الماضي ونون التنوين الثقيلة وضرورة الشعر والتقاء الساكنين. وزوجها هو الآخر لا يفعل شيئاً سوى أن يعمل موظفاً في البلدية قبل الظهر، وسائقاً على سيارة أجرة حتى آخر الليل. ثم ما ذنبها إذا كانت تحتلّ مكان راكبين في السرفيس ولا تدفع إلا عن راكب واحد. إلا أن الأستاذ سميع لم ير في كل تلك المآسي الباعث الحقيقي لدمعتها الطويلة التي حدثت منذ قليل على وجهها الحديدي الرحب، بخاصةٍ أن الست بهيجة، في تلك اللحظة بالذات، قد انتشلته من قرار الأمان الذي هو فيه بظهورها المفاجئ على باب المقهى مثل مصير محتوم. استدرى فوراً بجهامة ابتسام واعتبر نفسه، على وجه السرعة، الشخصَ الوحيد الجدير بدمعتها تلك. إن امرأةً بهذا الحجم تذرف عليه دمعةً بهذا المقدار لقادرة على حمايته ليس فقط من مجرّد غرسون قوي بعينين طويلتين مشحوذتين، بل ولن تسمح حتى للست بهيجة، مهما تشبّهت بسعالي الحكايات ومهما سكن عندها، أن تعيده الآن إلى البيت. ماذا يفعل شخص مثله ببيت ملغوم بطبيب أطفال مسلّح بخشبة ورجال غرباء قد ينفجرون بلا رادع ولا ضمير عند بابه في الواحدة بعد منتصف الليل؟ ثم شرق الأستاذ سميع بالهواء وانفجر في نوبة سعال جاف تمكّنت الست بهيجة في أثنائها من الاقتراب منه بين طاولات الزبائن بوجه طليق وخطى وئيدة مطمئنّة ثابتة حتى وقفت إلى جانبه. أخرجت ابتسام من عبّها منديلاً أبيض أشبه ببشكير ناولته للأستاذ سميع، فغمر وجهه كلّه به وهو ينتظر بمرارة وتلهّف أصابعَ الست بهيجة التي ستقبض عليه الآن من نقرته. لكنّه فوجئ، بدلاً من ذلك، بصوت ابتسام تتابع كلامها قائلةً إنها لا تَسْلَم حتى من لسان المشلولة أخت زوجها العجوز. وكانت نبرتها خاليةً تماماً من أي ترددٍ أو تحسّبٍ أو رهبة كما لو أن الست بهيجة لم تصل بعد إلى الطاولة أو أنها لا أحد على الإطلاق أو مجرّد هدف ضعيف وقع تحت سيطرتها المباشرة. تشجّع الأستاذ سميع فأوقف سعاله وأخرج نصف وجهه من المنديل. كانت الست بهيجة قد جلست بجواره إلى طاولته ذاتها وهي تومئ للغرسون أن يأتيها بفنجان قهوة. وكانت ابتسام، في أثناء حديثها السافر، لا تحوّل عينيها العمياوين المتينتين عن الأستاذ سميع، فقدّر أنها لن تتوقّف الآن عن كلامها الجسور لحظةً واحدةً لكي لا تلتقط الست بهيجة أنفاسها وتَبْلسه في الحال. ومن أجل هذه الغاية ظلّت أخت زوجها المشلولة تشلح حفاضها في الليل وتفرّغ مصارينها على الفراش نكايةً بها، فهي تعرف حق المعرفة أن أحداً غيرها لن ينظف بلاءها من تحتها. ثم أنزلت ابتسام كأس شايها فوق الطاولة وجعلت تنقر على سطحها بسلاميّة إصبعها الثخينة الوسطى نقرات متوعّدة متتالية دون أن تتوقّف أخت زوجها، في هذه الأثناء، عن تعذيبها، فلا يعود ثمة مجال الآن للست بهيجة أن تقوم بأدنى حركة، ثم إنها، فوق ذلك، لم تكن مشلولة منذ طفولتها، بل كانت في زمانها آنسة رياضيات، وتزوجت، قبل أن تصاب بالفالج، ثلاثةَ رجال طلقّها إثنان منهم لأنها عقيم والثالث مات، وقد صارت الآن لا تنقطع عن البكاء ونتف شعرها أمام الضيوف والجيران لكي يصدّقوا الظلم الذي يذيقونها في بيت أخيها ولكي تتمكّن ابتسام أخيراً، في هذه اللحظات، من حشرها، بالقوّة، بين الأستاذ سميع والست بهيجة مثل حائط زجاجيّ سميك. وبالفعل صار الأستاذ سميع يشعر بالرعدة تهزّه من شدّة إحساسه بالمرأة المشلولة التي تفصله، بلحمها الفاتر الرخو المضغوط ومصارينِها المُفرّغة وتحاملِها على ابتسام، عن الست بهيجة حتى لقد تجاسر ونظر محتدّاً، من وراء النتانة السميكة الشفّافة، إلى مرفقها البنّي الكالح المسنود بمحاذاة مرفقه إلى حدّ الطاولة، كما استطاع، عندما جاء الغرسون ووضعَ فنجان قهوة أمام الست بهيجة، أن يرفع إليه وجهَه المفتوح على مصراعيه حتى لحظة انصرافه دون أي حسابٍ للعواقب. ثم كأنه لم يعرف ما الذي يمكن أن يفعله أيضاً بالجرأة الفائضة غير المسبوقة التي تهزّه الآن، فشرع يطلق، من شدّة اللامبالاة بالست بهيجة على الأقل، صفيراً مسموعاً متقطّعاً ومبحوحاً. وكانت ابتسام ماتزال تعزّز مناعته، فقد حرصت دائماً قبل تحفيض أخت زوجها على تدليك مؤخرتها ودهنها بالديفلامول لكي لا تدوّد، فهي لا تريد أن يغضب عليها الرب من وراء كسيحة سفيهة. ثم ما لبثت أن أسقطت دمعةً جديدةً مهمةً جداً من حيث التوقيت، فابنتها الكبرى تعتبرها كافرة لأنها لا تصلي ولا تتحجّب. لم يقتنع الأستاذ سميع طبعاً بتلفيق أي علاقة بين دمع الإنسان وبين أن تكفّر هذا الإنسان ابنتُه الكبرى لمجرد أنه لا يصلّي أو لا يتحجّب، ولذلك اعتبر نفسه مرة أخرى أجدر من أي شخص آخر بدمعة ابتسام الثانية. إذاً صار بوسع الست بهيجة مهما تعامت وعاندت، بعد هذه الدمعة الفاصلة، أن تفهم، مرةً وإلى الأبد، أن ابتسام عندما تدهن مؤخرة أخت زوجها بالديفلامول إنما لكي تبرهن لمن يهمه الأمر يا ستّ بهيجة أن الأستاذ سميع لم يعد مقطوعاً من شجرة، وأنها سوف تنتقم مِنْ كلّ مَنْ جاء ليعيده إلى البيت ما دامت ابنتها الكبرى تكفّرها بهذه البساطة وهذه العفوية. ثم لم يعد الأستاذ سميع يطيق الحماسة التي ملأت نفسه وروحه وفمه بالكلام الجارح، فالتفت إلى الست بهيجة أخيراً وبقّه دفعةً واحدة في وجهها:_ بالديفلامول! قال من بين أسنانه، ثم مسح الزبد عن شفتيه المرتعشتين بمنديل ابتسام الأبيض الذي ما يزال في يده، وكرّر مشدّداً على كل مقطع:_ بالدْ...ديفْـ... لاااا... مووووول! فساندته ابتسام بأن ابنتها لو تزوجت بعد أول رسوب في البكالوريا لما كفّرتها الآن بهذه السهولة. استنتج الأستاذ سميع الآن أن الوقت مناسب في هذه اللحظة بالذات لأن ينتهي من الست بهيجة إلى الأبد، فما دامت بنت ابتسام الكبرى لم تتزوج بعد رسوبها الأول في البكالوريا فلماذا ينبغي على الأستاذ سميع أن يترك ابتسام كما تركها منذ أكثر من عشرين سنة في مقهى النوفرة؟ ما الداعي فعلاً لأن يتركها هذه المرة أيضاً؟ لن يتركها، سوف يتمسك بها الآن ويدفعها أمامه مثل مدحلة عمياء يدحل بها الست بهيجة مع فنجان قهوتها والغرسون مع عينيه المُدَبَّبتين وكل الأجانب الذين سيصادفهم في الطريق مع كل كاميراتهم اليابانية. قالت ابتسام إنها لا تعرف من أين تدبّر عريساً لابنتها الكبرى، ففهم الأستاذ سميع أنها تعرض نفسها عليه للزواج إذ لا ينبغي لامرأة محترمة مثلها أن تظلّ معه لفترة طويلة دون غطاء شرعي، فاحمرّ وجهه من الخجل وصرّح بصوته المرتعش بأنه مستعد للزواج منها في الحال. قالت ابتسام إنها لا تريد زوجاً لها بل لابنتها، فاعتبر أنها موافقة، واقترح على الفور أن يذهبا إلى المحكمة الشرعية قبل انتهاء الدوام الرسمي. قالت ابتسام إنها مازالت على ذمّة رجل، فردّ الأستاذ سميع بأنه لا يهتم بالشكليات وإذا كانت تصرّ على أن يخطبها أولاً من أهلها فهو لا يمانع، ثم تساءل عمّا إذا كان أبوها حياً حتى الآن. قالت ابتسام إنها لا تكره زوجها مع أنها لا تحبه ولكنها لن تتركه على كل حال. تعرّق الأستاذ سميع واستغرب خوفها من العيش في قريته البعيدة لأن الفكرة لم تكن أصلاً في وارده. قالت ابتسام وأولادها الأربعة لمن تتركهم؟ فأكد الأستاذ سميع أنهما لن يعيشا في حوش عربي بل في شقة مستقلة سوف يستأجرها الآن. قالت ابتسام حتى لو تركتْهم لا يتركونها. ثم ذكّرته بأكوام الشحم على بطنها وباللحم المتفزّر على وركيها وبأشجار الدوالي في فخذيها والتي لن يتحمّلها إلاّ زوج مضطر وأب حنون. اندهش الأستاذ سميع وطمأنها أن راتبه سوف يكفيهما ويزيد، ثم تمنّى عليها أن لا تستخفّ بعمله في الإدارة العامة لاستنهاض التراث العربي، فإذا كان لا يسطّر هنا غير الكتب الرسمية المملة إلى فروع الإدارة في المحافظات فإن هذا العمل أمّنه من الجوع وحماه من عودته إلى قريته طيلة الأعوام الماضية كلّها. ثم اعترف لها بأنه لو كان واثقاً من تعيينه غداً الأحد مديراً للإدارة العامة لاستنهاض التراث العربي لما وافق الآن على الزواج منها أبداً أبداً. قالت ابتسام وهي تبتسم ابتسامتها الضخمة من جديد إنها لا تريد الزواج منه ولم تتلفن له يوم الخميس لهذه الغاية، فما تريده منه هو الانتباه فقط، لأن أحداً لا ينتبه إليها منذ مدة طويلة. ما تريده هو أن يعدها أحياناً ويأتي إلى الموعد، أن يفاجئها بياسمينتين يقطفهما من فوق أحد الأسيجة في طريقه إليها، أن يتذكّر، كل سنة، أن لديها عيد ميلاد، أن يضحك لنكاتها من كل قلبه، أن لا يتضايق من دموعها، وأن يأخذها أحياناً إلى السينما أو حتى إلى بيته إذا أراد، إنما في أحيان أقل. تلفّت الآن الأستاذ سميع من حوله ثم بخفّة مبيتة مدَّ يده نحو نظّارة ابتسام، خطفها ورمى بها إلى الأرض، ثم هبّ واقفاً وانقضّ عليها يحطّمها بكعبَيْ حذائه. لم تفهم ابتسام ما حدث، فلم تر، على الأغلب، ما فعله الأستاذ سميع بدقة، ولكن ابتسامتها الضخمة جمدت على فمها العريض. تأكد الأستاذ سميع بدقّتين أخيرتين من أن الحطام الذي تحت حذائه لم يعد يُذَكِّر أبداً بنظّارتها. ثم ظلّ واقفاً، مسح جبينه بمنديلها الأبيض وطلب منها أن تقوم بسرعة ليلحقا المحكمة الشرعية. تفقدت ابتسام نظّارتها على سطح الطاولة، وإذ لم تجدها سألت الأستاذ سميع عنها بينما نهضت في هذه الأثناء. "كسّرتُها" همس، وهو يلطأ لاهثاً بظهرها الكحليّ الهائل. جاء الغرسون فقامت الست بهيجة أيضاً، فتحت حقيبتها وناولته ثمن الشاي والقهوة. سألت ابتسام مرة أخرى عن نظّارتها والأستاذ سميع لا يفهم سؤالها عنها بهذا الإلحاح. ذهب الغرسون، فشرع الأستاذ سميع يدفع ابتسام أمامه بطريقةٍ لا تريه وجه الست بهيجة التي ألْفتْ نفسها تمشي في المقدمة في ممر بين طاولات الزبائن. سألت ابتسام عن نظارتها من جديد إنما بصبر نافد هذه المرة. أجاب الأستاذ سميع من وراء ظهرها بأن النظارة تصغّر لها عينيها وهو يفضلها عمياء لكي لا تخرج أبداً من الشقة التي سوف يستأجرها اليوم مباشرة بعد خروجهما من المحكمة. توقفت ابتسام وبدا أنها استوعبت الآن تماماً ما حدث قبل قليل. أرادت أن تستدير نحوه فعرقل حركتها في الممر الضيق طرف طاولة وكرسيّا خيزران أحدهما شاغر، ولكنها اندارت نحوه مع ذلك، فانقلب الكرسي الشاغر واحتجّ عجوزٌ هوى من على الكرسي الثاني بينما انكبّت كؤوس الشاي والقهوة على الطاولة التي برمت مع وركيها العظيمين. استغرب الأستاذ سميع من أن تمسكه ابتسام من ياقة جاكيته، ثم صُعق عندما نفضته نفضةً قويةً في مكانه وهي تطالب بنظّارتها بصوت دهني عريض صارم سمعه كل زبائن المقهى. نهض العجوز المحتج متهدّداً ابتسام بسبّابةٍ وصوتٍ رفيعين بينما ارتفعت الشتائم من أصحاب الطاولة المبرومة. كانت الست بهيجة قد أفلحت بالوصول إلى يد الأستاذ سميع الباردة المرتجفة المسبلة وجعلت تشدّه نحوها بلا جدوى، فقد كان ينخضّ بقوة وثبات بين يدي ابتسام مع كلّ مرة تطالبه بها بنظّارتها. وكان لا يليق، على ما يبدو، بأصحاب الطاولة المبلّلة بالشاي والقهوة أن ينهالوا بالضرب على ابتسام، فوجدوا أنفسهم يخلّصون الأستاذ سميع من بين يديها، ماهيّأ الفرصة للست بهيجة أن تشدّه أخيراً شدةً ملص معها مرعوباً من بين زبائن المقهى المتراكمين حول ابتسام المتسائلة عن نظارتها طيلة الوقت. بدت الست بهيجة وهي تسحب الأستاذ سميع وراءها إلى خارج المقهى كما لو أنها قبضت أخيراً على خروفها الضال. إلا أن الأستاذ سميع رغم استسلامه الصامت لها طول الطريق إلى البيت خيّب لها أملها بعد وصولهما- غاب بضع دقائق في غرفته، ثم خرج حاملاً بيده حقيبة سفره. "إذا جاء عبد الهادي قولي له أنا سافرت" قال، ثم فتح باب الشقة وخرج بحزم الشهداء.

* * *

IX

نزل عبد الهادي من شقة الست بهيجة مسرعاً. بعد ذلك بعشر دقائق وصلت أزهار إلى الكباريه متأخرةً، اليوم أيضاً، عن موعد وصول البنات الأخريات وبالسيّارة التي هدّد ابن المعلّم، ليلةَ البارحة، بعدم إرسالها إليها مرةً أخرى. كان الأستاذ سميع، في هذه الأثناء، مكوّماً بصعوبة إلى جانب حقيبته على مقعد حجري في محطة القطار منذ ساعات طويلة. استقلّ عبد الهادي سيارة أجرة إلى محطة القطار لأن الأستاذ سميع لن يسافر في كل الأحوال، سوف ينتظره ملموماً على بعضه هناك، مهما تأخر، لكي يثنيه عن سفره الوشيك دائماً، والذي لن يتحقق أبداً. وطبعاً لو كان الأستاذ سميع يعرف أن عبد الهادي في مكان آخر غير العاصمة لما قرر السفر أصلاً، لأن أحداً غيره لا يعيده عادةً من المحطة. وهنا لابدّ من معونة الست بهيجة، ففي مثل هذه الحال تبدو في شقّتها كما لو في مقلاة حامية بعد خروج الأستاذ سميع بحقيبته، فلا تطيق البقاء فيها لأكثر من الدقائق التي تنفقها في ارتداء ملابس خروجها. ثم تخفّ إلى عبد الهادي وتخبره بالسفر المزعوم الذي يمارسه الأستاذ سميع مرة إلى مرتين في السنة. لكنها اليوم لم تعثر على عبد الهادي في ساعات طويلة من البحث المضني، فأقنعها إنهاكها الشديد، حين حلّ المساء، بأن الأستاذ سميع، رغم كل شيء، لن يسافر هذه المرة أيضاً. وما دعّم قناعتها هذه أن قطاطها في حديقة السبكي مازالت تتضور جوعاً بسببه منذ الصباح. إلا أنها عادت وشكّكت فوراً بقناعتها المتينة تلك حين رنّ الجرس قبل دقائق من الحادية عشرة ليلاً وفتحت الباب ورأت عبد الهادي أمامها أخيراً. نسيت كل الشقاء الذي تسبّبه هذا الرجل لمستأجرها الوديع في اليومين الماضيين، وأخبرته بسفره بطريقةٍ بدت معها وكأنها قد فقدته إلى الأبد. وكان ما ينغّص على عبد الهادي لهفتَه إلى أزهار في طريقه إلى المحطة هو الزبائن الذين سيحجزونها قبله في الكباريه برتل طويل من قناني الويسكي. لكنّ أزهار جاءت اليوم بمزاجٍ بدا عكراً لكل الغراسين. قبل ذلك في الفندق رفضت أن تفسّر بكلمة واحدة لابن المعلّم الفضيحة التي بهّرها له موظف الاستقبال حول العاشق الذي سقط من شبّاكها بعد ظهر اليوم بقليل. وعندما ألحّ بسؤاله أعلنت له أن تمديد عقدها لم يعد يهمّها بنكلة، وأنه يستطيع تسفيرها إلى تونس منذ الغد. لكنها الآن، وقد جلست إلى الكونتوار في الكباريه، شعرت بأن ابن المعلم قد فسّر لأبيه ما حدث بصورة أظهرتها بلبوس الضحيّة لمهووس بدليل أن كل الفنانات والغراسين عاملوها كما لو أن شيئاً لم يحدث. لكنّها، هي نفسها، لم تكن الآن قادرة على معاملتهم كما لو أن شيئاً لم يحدث، لأن أشياء كثيرة قد حدثت بالفعل. إذا جاء عبد الهادي إلى الكباريه بعد قليل ستعود إلى الفندق على رجليها اليوم أيضاً، وسوف تكون قادرةً على أن تقفل باب غرفتها بيديها، ثم تنهض بنفسها وتفتحه بنفسها في آخر الليل لابن المعلّم عندما ستسمع وهس خطواته الثقيلة المقتربة من غرفتها. سوف تفاجئه، عندئذٍ، بوعيها الكامل الذي لا يطيقه، وسوف تنصحه أن يذهب حالاً ويضاجع أمّه اليوم أيضاً. المهم أن لا يكون عبد الهادي قد يئس منها بعد الذي حصل في الفندق. وصل عبد الهادي إلى المحطة، فنزل من سيارة الأجرة وانطلق راكضاً بين زحام المسافرين والمودّعين والحقائب والحمّالين. لا يغيّر الأستاذ سميع المقعد الذي يجلس عليه عادةً على رصيف المحطة في كل مرّة يقرر فيها السفر، وذلك لكي يلغي احتمال أن لا يعثر عليه عبد الهادي. كان الآن جائعاً ومنهكاً من هواجسه وجلوسه الطويل، فقد دام انتظاره منذ ما يقرب من الساعة الواحدة بعد الظهر إلى الآن وقد تجاوزت الحادية عشرة ليلاً. لم يعد يشعر بجسده المتراكم بعضه فوق بعض كلَّ هذه الساعات، ولو عبث به الآن أحد المسافرين بسبّابته أو برأس عصاه لتداعى من المقعد على الأرض وتراكم بعضه فوق بعض مثل جلد بقرة مسلوخ منذ لحظات. وكان قد قطع تذكرة سفر إلى حمص، لكن ما أفقده قيمة إصراره الدوريّ على السفر هذه المرّة هو أن قطاره قد غادر رصيف المحطة منذ أربع ساعات بينما لم يظهر الآغا عبد الهادي. خطر له في الساعة العاشرة أن يذهب، متحاملاً على جسده المهدود، إلى شبّاك التذاكر ويقطع تذكرة سفر ثانية إلى أي مكان آخر لكي يصبح لوجوده في المحطة معنىً ما في نفسه على الأقل. لكنه خشي أن يصل عبد الهادي في هذا الوقت ولا يجده على مقعده المعهود فيفقد الأمل من العثور عليه ويعود فوراً إلى مشاغله، ما سيضطر الأستاذ سميع إلى التمسّك بانتظاره من جديد على رصيف المسافرين حتى الصباح. غير أن مرارة انتظاره الطويل اضمحلّت تماماً ما إن لمحه الآن مهرولاً نحوه من بعيد، فتملَّكَهُ إحساسُ صداقةٍ دافئٍ عميق كان قادراً معه على ضمّه بين ذراعيه لولا خجله الشديد من تذكرته الباطلة، مع أن عبد الهادي لا يتحقّق عادةً من وجودها. وكان الآن لن يتحمّلها، رغم كل شيء، دليلاً قاطعاً في جيبه على نيّته الكاذبة بالسفر أمام صديقه، فتذكّر فوراً صباحه المشؤوم منذ هروبه من طبيب الاطفال ومطاردة الست بهيجة إلى الأحداث المحزنة التي كابدها في مقهى النوفرة حتى بدا لنفسه أقلّ سوءاً وجديراً بالصداقة والثقة رغم كل شيء ومستعداً، إذا اقتضى الأمر، للسفر الآن أمام عيني عبد الهادي إلى أبعد مكان في العالم ولو بتذكرة باطلة. وقف عبد الهادي أمام الأستاذ سميع لاهثاً، وكان الوقت أضيق من الكلمتين السريعتين اللتين يقنعه بهما عادةً بالعدول عن السفر، فأمسكه فوراً من رمّانتي كتفيه وأنهضه على قدميه. ثم اختطف حقيبته الخفيفة بيدٍ، وشدّه وراءه من كمّ جاكيته باليد الأخرى، وجعل يتقدم بخطوات مفتوحة حثيثة إلى الأمام حتى اقترب من سيارة أجرة كانت في انتظارهما عند باب المحطة. فتح الباب الخلفي ودفع بالأستاذ سميع إلى قلب المقعد، ثم حشر نفسه إلى جانبه. تحركت السيارة بسرعة مبيّتة سلفاً، وبدا أن السائق على علم مسبق بالجهة المطلوبة. انتبه عبد الهادي إلى أنه ما يزال يحضن حقيبة الأستاذ سميع عندما كانت السيارة تعبر الجسر، فطالب السائق بالتوقّف. نزل بسرعة، رمى بالحقيبة إلى ما يسمّونه عادةً بـ"نهر" بردى، وعاد إلى مكانه وهو يَعِد الأستاذ سميع بحقيبة أفضل، فقد كانت تلك قديمة وفارغة ولن... قاطعه الأستاذ سميع، بصوت نزيه وخفيض، بأنّ في الحقيبة بنطلوناً وثلاثة أزواج جديدة من الجوارب وصورة قديمة له عندما كان طفلاً. استفسر عبد الهادي منه عمّا إذا كان متأسفاً فعلاً على صورته القديمة. تمكّث الأستاذ سميع في صمت قصير، ثم اعترف له بالنزاهة نفسها أنه متأسف فقط على الجوارب. وإذ لاحظ، الآن فقط، الضماد الذي يلفّ رأس عبد الهادي كاد الأستاذ سميع يسأله عنه لولا الجرذان التي بدأت، في بالِهِ، تقضم جواربه الجديدة فوق سرير النهر الجاف، فلم يعرف على أيّ شيء يتأسّف بالتحديد. ثم لم تشِ له ملامح عبد الهادي المنشرحة تحت الضماد بما يستدعي القلق عليه، فالتفت فجأة إلى النافذة المجاورة وسرح فيها حتى توقفت السيارة أمام باب الكباريه. كانت أزهار قد ركبت رأسها قبل لحظات وردّت دعوة ملحّة من طاولة أكبر مُصدّر أغنام في المنطقة- الرجل الذي تتحسّر على مجالسته كلّ الفنّانات، فهو الغالي على قلب المعلم ليس فقط بسبب قناني الويسكي التي يفتحها بسخاء، وليس لأنه مجرد دليل لكهول البوادي، من أمثاله، إلى الاصطياف في فندق الاستقلال، بل ولأسباب أخرى لم يدركها أحد حتى الآن. لكنها ما إن لمحت الآن عبد الهادي مقبلاً مع صديقه على الدرج حتى تفتّحتْ مثل وردة. ابتعدت عن الكونتوار بساقين أبيّتين ومؤخرة شمّاء، واقتربت متعطّفةً من الطاولة المجاورة للبست، والتي لم تلبِّها قبل قليل. هبّ في ملاقاتها مُصدّر الغنم بكل عباءته المذهّبة وكرشه المنيفة وشماغه الأحمر وسكسوكته المصبوغة بالأسود الدامس. إن أحداً لا يمكنه الآن أن يقف في طريقها على سلّم المجد، تنهّدت أزهار، وإن أيّ لهلوبة مسارح لابدّ قد مرّت بتجارب مثيلة، وعليها أن تعتاد على عشاق مجانين من شاكلة عبد الهادي. كان عبد الهادي خائفاً من أن لا تعرفه أزهار بالضماد الذي يغطي جبينه كلّه. وبينما تريث والأستاذ سميع عند نهاية الدرج ظهر عليهما من بعيد الرجل ذو الفراشة السوداء على ياقة قميصه الأبيض. تحسّس الأستاذ سميع سحّاب بنطلونه وتأكد من أنه مرفوع إلى الآخر بينما خطر بباله أرخبيل الفلبّين على الفور- جزر مشتتة لا تحصى في عرض البحر تعيث فيها الأعاصير والقراصنة. معاناة في كل مكان، بيوت مُهبّطة فوق رؤوس أصحابها، أعمدة كهرباء محطّمة، سيارات إسعاف مغمورة بالماء، كلاب تعوي تحت الأنقاض، وغرقى أينما تلفّتّ على الطرقات وعلى عربات الخضار وعلى ظهور البغال النافقة، والبحّارة اللصوص، فوق ذلك كلّه، بأعينهم المقلوعة وثيابهم القذرة يسرحون ويمرحون بلا رادع أو وازع. ثم فكّر الأستاذ سميع أن مآسي الفلبّين لا تنقصه، وهو واثق من أن الإنسان لا يحتاج إلى أن يكون فلبينيّاً لكي يغرق أو يُقتل أو يُنهب أو يُهان. لكنه، هذا الإنسان نفسه، لن يُصاب بأيّ عيار ناري أو سهم مسموم أو نظرة حانقة مهما برع في تخيّل أيٍّ منها بخاصة إذا كان في غار معتم على قدّه من غيران الجبال الشاهقة في أيّ بلدٍ كان. كان عبد الهادي في هذه الأثناء ينبش بعينيه الملتهبتين الظلام الأزرق والدخان الكثيف ولغو الزبائن والفنانات بحثاً عن أزهار- لن تعرفه! اقترب الرجل ذو الفراشة منهما مثل قرصان فلبّيني، فلم يتمكّن الأستاذ سميع من النظر في عينيه مباشرةً. شعر بأن هذا الرجل قادر، في حقيقة الأمر، على تنويمه في أي لحظة، ومن ثم على سحبه وراءه إلى حيث يشاء. وهو لن يقوده في النهاية إلى غير الفلبينيّة التي كمنت له بالأمس على طرف الطاولة في البلكون. والفلبينيّة لن تكون بالتأكيد ذلك الغار المعتم الأمين المفصّل على قدّه في رؤوس الجبال الشاهقة لكي يدخلها آمناً مطمئناً من تلقاء نفسه المحتشمة ذاتها. الفلبّينية في حقيقتها، وكما ثبت حتى الآن، فخّ مفصّل على قياس دناءاته الشخصية الخفيّة التي لم يعلم بوجودها في قرارة نفسه إلا بالأمس فقط. وهي، بالقياس إلى يدها العميقة البارحة، محفورة، لابدّ، من الداخل بصورة لن تشعرك، في البداية، إلا بالأمان الذي يقود الفريسة إلى الوقوع في منيّتها المنصوبة- السلسة، الناعمة، الهبرة المدقوقة المعروكة بالزيت، السحيقة، والقابلة لابتلاع عمود كهرباء كامل دون ضجيج أو أثر أو إحساس. إن كل شيء الآن يدفع الأستاذ سميع فعلاً إلى السقوط في هذه الحفرة الزلقة المُحْكمة من أجله والمُبْرَمة بحقّه سلفاً والتي يراها أمامه بوضوح ولا يملك لا القدرة ولا القرار في تجنّبها أو الطيران من فوقها. إن عبد الهادي، وابتسام، والست بهيجة مع كل المتكالبين من الآن فصاعداً على باب شقتها في الواحدة بعد منتصف الليل، وموظفي الإدارة العامة لاستنهاض التراث العربي، وزبائن الكباريه- كلّهم، كلّهم جاؤوا به ووضعوه الآن على حافة الفلبّينية بين يدي هذا الرجل الظالم ذي الفراشة السوداء الذي سيكبّه فيها بعد قليل. لكنّهم، كلّهم، ما إن يتأكّدوا من أن الأستاذ سميع قد أصبح ملقوحاً فعلاً في دركها الأسفل سوف يصابون، بلا استثناء، بالذهول والشماتة والإدانة والشرف الرفيع كما لو أن الأستاذ سميع قد اختار بنفسه هذه النهاية- العار. وطبعاً سيكون أكثرهم نهشاً وتفظيعاً وتبكيتاً فيه ضميرُه بالذات، ذلك الذي كان، قبل لحطات فقط، قوّاداً سرّياً لدناءاته المتخفيّة في قرارة نفسه- ألم يخترع له مآسي الفلبّين وبغالها النافقة وبيوتها المهبّطة وقراصنتها العوران لكي يجعله يشفق على الفلبّينية سلفاً فيبدو سقوطه فيها نوعاً من أعمال البرّ والإحسان؟ غير أن الأستاذ سميع لن يستسلم على طريقة هؤلاء الشرفاء المزيفين بما فيهم ضميره المذبذب، لن يكون مجرّد ساقط في مصير معيب حفروه من أجله، هو المستهدف المستضعف منذ ولادته، المذَلّ، المهان، الأعزل، والنزيه بلا معنى أو فائدة حتى الآن. إن خلاصه من هذا الإصرار الجماعيّ على التنكيل به بلا رحمة، كما تبيّن له فجأةً، لن يكون إلا في ضعفه ذاته، في الذهاب في مهانته إلى الآخر، في أن يسمو الآن فوق كل هؤلاء السفلة والأوغاد ويكون كبشاً لفدائهم وذبيحةً لخطاياهم جميعاً. وهكذا وعلى غير انتظار تململ في قلب الأستاذ سميع طربٌ مباغت مُشرِّف لذيذ وموحش جعله يرفع رأسه أمام الرجل ذي الفراشة السوداء وينظر إليه مباشرةً دون أن يرفّ له جفن واحد، وقد أصبحت ملامحه كلّها تنمّ له بوضوح عن استعداده التام لأن يضحّي بنفسه ويتبعه ولو إلى الجحيم مرة أخرى في مقصورة الليلة البارحة. لقط الرجل ذو الفراشة بأنتينه المهنيّ الخفيّ استعدادَ الأستاذ سميع للمضيّ وراءه، لكنه لمَّ ابتسامته العريضة فجأة، وتبع عبد الهادي. كان عبد الهادي قد اكتشف مكان أزهار، فاندفع باتجاهها- لن تعرفه! لم يتوقع الأستاذ سميع أن يحول عبد الهادي باندفاعه المتسرّع هذا دون تحقيق استعداده التام في أن يكون كبشاً للفداء، ولم يصدّق أن بصيص الطرب المشرِّف الذي تململ في قلبه منذ لحظات مهدّد فعلاً بالانقطاع لأن صديقه المتهوّر لا يرى أبعد من مصلحته الخاصة. جلس عبد الهادي إلى أقرب طاولة ممكنة من أزهار بحيث لا تكلّفها رؤيته إلاّ التفاتة صغيرة إلى الوراء- لن تعرفه! تريّث الأستاذ سميع عند الدرج اللولبيّ الضيق المظلم الذي يأخذ إلى البلكون، فقد أمل بأن الرجل ذا الفراشة لم يتبع عبد الهادي بهذه السرعة إلاّ لكي يقبض عليه من ياقة جاكيته ويسحبه وراءه إلى المقصورة المظلمة في الأعلى. لكن ذا الفراشة سرعان ما خيّب ظنّه حين ابتسم لعبد الهادي، وإن بمشقّة، وأشهر أمامه قلمه الـBic ودفتره الصغير لتسجيل طلباته كأن الأستاذ سميع لا ينكر ذاته في تلك اللحظة عند درج البلكون. لم يسمع عبد الهادي استفسار الرجل ذي الفراشة عن طلباته. وكانت أزهار تتجاهل بلا جدوى عينيه السارحتين الآن على ظهرها المكشوف وعلى طول ذراعيها العاريتين وفوق ورود بروتيلها الكبيرة الحمراء. وكان لا ينبغي لها، مهما شعرت بعبد الهادي، أن تلتفت إليه الآن على الأقل، فظلّت تتمسّك، قدر الإمكان، بالمجد الذي ينتظرها، لابدّ، على المسارح. وهنا خشي الرجل ذو الفراشة من احتمال أن يلاحظ أكبر مُصدّر غنم في المنطقة نهمَ عينيّ عبد الهادي في التهام أزهار، فأخذ خطوةً نحو اليمين حاشراً نفسه بين الطاولتين بصعوبة، ما جعل نظرات عبد الهادي المتّصلة المبتهلة الحارّة ترتطم بقميصه الأبيض وفراشته السوداء وابتسامته العريضة.

- طلباتك؟ كرّر ذو الفراشة.

اقترب الأستاذ سميع من الطاولة - حتى هذا الوغد أبو قلم Bic تنازل عنه في اللحظة الأخيرة. جلس إلى جانب عبد الهادي كما يضمّ رجليه في فلق. لم يعد ثمة أيّ أمل بتحقيق استعداده التام للتضحية حتى ولو نزلت الفليبينية نفسها من البلكون وجاءت وجلست إلى هذه الطاولة. إن من المستحيل فعلاً أن تكون كبش فداء وأنت على بعد خطوة واحدة من البست.

- أريد أزهار. ردّ عبد الهادي أخيراً بشفتيه المتورّمتين، وكان صوته عالياً إلى درجةٍ نقز معها ذو الفراشة، فالتفت إلى الوراء واطمأنّ إلى أن شيئاً لم يختلف في سحنة أكبر تاجر غنم في المنطقة. لكنّ صوت عبد الهادي رنّ في أذن أزهار، فانقبض رحمها على غبطة حارّة مفاجئة كما لم ينقبض أبداً منذ قُبلتها الأولى مع فتاها الأول في زقاق معتم بعيد في تونس. تلاشت الآن مسارح المجد الهلاميّة التي كانت تتخبّط في رأسها، وبدا الآلاتية الذين دخلوا في تلك اللحظة إلى البست، بوقارهم المزيّف الذي يتقنّعون به، نشازاً بالمقارنة مع رحمها العفويّ الحقيقيّ المتّحد المرتعش. حصرت انتباهها في صحن معرّم بالكرز أمامها على الطاولة، وظلّت تداري إحساسها الساحر الذي تجلس عليه حتى توقّعت أن يأتي عبد الهادي إلى طاولتها ويسحبها من يدها دون أن يستأذن الخرتيت الذي يجالسها، فتذهب معه إلى طاولة المعلّم وتبادر، هي بنفسها، إلى فسْخ ما تبقّى من عقدها الذي مشى البارحة على عنق عبد الهادي مثل أم أربع وأربعين. لن يكون في مقدور المعلّم، بعد ذلك، تسفيرها إلى تونس لأن عبد الهادي لن ينقذها اليوم لكي يتركها غداً. سوف يعرف أيضاً كيف سيحميها من الشرطة الذين سيستدعيهم المعلّم في الصباح لتسليمها، وكذلك من قوّادي الأرصفة الذين سينتظرون لجوءها إليهم في الصباح الباكر قبل مجيء الشرطة. سوف ينتزعها عبد الهادي من بين أنيابهم ومخالبهم جميعاً لتكون له وحده غداً. وربما لن يظهر مغبوناً بها أبداً، لن يكون أطهر منها ولا أفضل، لن يحتاج إلى مكانٍ لوجهه يخبّيه فيه عن العالمين، لن يتهمها في يوم من الأيام بألم أضراسه ولا بالمطر الذي قد لا ينقطع ولا حتى بالكلب الذي قد ينبح طول الليل عند النافذة، ثم لن يدميها من الضرب بخشبة الفرم ولا بعصا المكنسة ولا بيد الهاون في كل الأحوال، وفي آخر الليل سوف ينام معها لا كما ينام مع كومة لحم دافئ منفّخ وأزرق تماماً كما كان يفعل أبوها مع أمها. كان أبوها يفعّس أمها بيديه ورجليه حتى إذا همدت تحته سحلها وراءه إلى غرفة مجاورة، أو إلى الحمام، لينام معها. لكنّ أزهار لا تنسى أن أمها كانت تخرج دائماً من بين ذراعيه، بعد ساعة من الزمان، بأجمل ابتسامة يمكن أن تراها على وجه أنثى وهي عرقانة خمرانة ومنهكة من السعادة – كلّ امرأة، كانت تقول، تكره زوجها لكنّ المؤكّد والصحيح والمفروض أنها تحبه مع ذلك. مع ذلك. مع ذلك. ثم لم يعد ممكناً الحفاظ على ذلك الانقباض الهنيء القديم المستعاد متّصلاً بين فخذي أزهار، فقد بدأت تخسره الآن عندما رأت يدَ مُصدّر الغنم مسترخيةً إلى جوار صحن الكرز بأصابعها السوداء الغليظة المُتقرّنة. لم تكن هذه اليد منفّرةً هكذا في كل الليالي الكثيرة التي قضتها في الماضي إلى طاولة صاحبها العامرة، وما كانت لتستطيع أن تتحاشى أصابعها في هذه اللحظات وهي تحاذر لأول مرة ما سيصيبها منها بعد قليل. كان كلّ شيء يدلّ الآن على أن مُصدّر الأغنام يتحيّن لحظته الأشهى- عيناه المحمرّتان الثابتتان، قلّةُ كلامه، تَهَدّلُ شفته العريضة السفلى فوق سكسوكته الدامسة، ومَلْمَلَةُ أصابع يده إلى جوار صحن الكرز. وكان قد أنهى، مع ثمالة الكأس التي كرعها لتوّه، نصفَ زجاجته الخاصة به، فبلغ الحدّ الذي يُحرّر جوارحه من قيودها الرصينة. وكان من أحب عاداته إلى نفسه، عندما ينتشي، أن يحشر أصابعه في فم البنت التي تجالسه، أياً كانت، ليمسك لسانها بين إبهامه وسبّابته ويمرسه ببطء وشغف فترة طويلة، وقد يتحسّس، في هذه الأثناء، أسنانها سنّاً سناً ويتريّث عند سقف حلقها فيتأكّد، كأنما، من خلوّه من حبّة أو ثقب، بينما لا تتوقف هي عن ابتلاع لعابها العكر الفارط. وإذ رفع الآن كفّه عن سطح الطاولة استعدّت لها أزهار، وقد اضمحلّت تماماً غبطتها الدفينة الحارة مع إعلان مكبّر الصوت عن وصلة من الغناء الأصيل تحييها سلطانة الطرب. تناول مصدّر الغنم كرزةً من الصحن المعرّم أمام أزهار، فسطعت أضواء البست وطغى ضجيج الآلاتية على ضجيج الحضور. ثم توقّفت أصابعه بكرزتها في الهواء ريثما ظهرت على البست امرأة خمسينية بدينة مدكوكة بثوب مقصّب طويل وبيدها منديل وعلى عينيها نظارة سوداء. ومع أن أحداً لم يصفّق لها انحنت برأسها بامتنان، فظهر بوضوح غبغبها على شكل ذقن ثانية مطويّة فوق صدرها العريض الممتلئ، ثم تأكّدت من جهوزيّة منديلها بأن دعكته بأصابعها ونفضته نفضةً قصيرة، فرفرف بنجاح.

- أزهار اليوم مشغولة إلى آخر السهرة. قال الرجل ذو الفراشة بصوت حازم محذّراً عبد الهادي بعقدة حاجبيه وأنيابه البارزة من القيام بأي من نواياه التي يقرؤها في عينيه المتوهّجتين تحت ضماده مباشرةً. أراد عبد الهادي أن يُفهّمه أنه الشخص نفسه الذي سهر مع أزهار في الليلة البارحة، لكنه لم يجرؤ على التلفّظ أمامه بشيءٍ قد يبدو له نافلاً بالنظر إلى قلمه الـBic المنتصب في كفّه مثل عضو من أعضائه مخصص لفَقْء العيون. ثم حدث في تلك اللحظة ما شتّت عبدَ الهادي عن أي طلب أو رغبة، وأبطل، في الوقت نفسه، كلَّ مقدرات الرجل ذي الفراشة باعتباره ضابطاً لنبض الكباريه ومستشرفاً مجرّباً للمصائب قبل أن تحدث. كانت سلطانة الطرب قد بدأت قبل لحظات تتلوى متثاقلةً على وقع ضجيج الآلاتية تمهيداً لانطلاقتها، لكنها شهقت فجأة وارتدّت مصعوقةً عن الميكرفون، فيما أوقف الآلاتيّة زعيق آلاتهم في الحال وكفّ الزبائن المخمورون عن إنشاء نصيبهم من الضجة. ساد في الصالة صمت مكهرب حاد، وتبادل قبضايات الكباريه المعتمدون نظرات مستطلعة وقد وقفوا متأهّبين في انتظار إشارة من الرجل ذي الفراشة. الذي حدث هو أن أكبر مُصدّر غنم في المنطقة بلغ ذروة نشوته ما إن دسّ أصابعه في فم أزهار وفقش الكرزة فوق لسانها. ولأن طعم أصابعه كان، دائماً، مزيجاً من دهن قديم مسلوق وتبغ محروق وغبار متأصّل وفاكهة، لم تستطع أزهار، رغم تمرّسها بهذا القرف، أن تطيقه اليوم بالذات، فتهوّعت. وكان يمكن حتى الآن لسلطانة الطرب أن لا تشهق وأن تنطلق بصوتها، ولرجل الفراشة أن يتابع ترصيص عبد الهادي بأنيابه وقلمه الـBic، وللأستاذ سميع أن يشعر بمزيد من الألم من خيبته لولا عجوة الكرزة التي لم تنبلع مع أزهار في تلك اللحظة، فانزلقت هذه المرة باتجاه حنجرتها. وكان عليها أن تزفر الهواء في الحال لتمنع العجوة من السقوط في قصبتها الهوائية، ولهذه الغاية كان لابدّ، أولاً، من أن تتقيأ الأصابع المقززة التي تسد بإحكام فمها المفتوح إلى الآخر. لكن أكبر مُصدّر غنم في المنطقة، بعينيه الغائبتين وحنكه المرتخي ولسانه الغارق في لعابه، كان مصرّاً على متابعة مرْسِ لسانها بهناءة وبطء في تلك اللحظة بالذات. وبالقياس إلى لحظاتٍ مثيلة فهمت أزهار أنه لن يخرج يده الآن من فمها إلاّ بلسانها مشلوعاً من شروشه. وإذ أدركت أخيراً أنها بدأت تختنق، وهي الآن بالذات لا تريد أن تختنق، جأرت بصوت مكتوم وأنشبت أسنانها في أصابع أكبر مُصدّر غنم في المنطقة. وحين لم تنتشله عضّتها الشرسة المستمرّة من نشوته نفد الهواء تماماً في رئتيها، فوجدت نفسها ترفع كأسها المترعة بالويسكي ومكعّبات الثلج وترشقها كلّها بكلّ ما تملك من قوّة على وجهه النشوان وسكسوكته الدامسة. عند ذلك فقط سحب أصابعه الغليظة السوداء، وطارت على أثرها عجوة الكرزة من فمها. صمت الكباريه، وانفجرت أزهار بالبكاء. لم يُصدر الرجل ذو الفراشة أياً من أوامره إلى أيّ من القبضايات المتحفّزين عند طاولتهم، فقد ربّطته المفاجأة وحساباته المبدئية الجاهزة. لو كان الأمر متعلّقاً بزبون آخر لجازف طبعاً بإجراء سريع وحاسم. ثم إن الأمر متعلّق من ناحية أخرى بأزهار، ومن ثم ينبغي الحيطة، فهي المدللة حتى الآن لدى ابن المعلم. وبإحجامه عن القيام بأي إجراء ترك الرجل ذو الفرشة الأمر لأكبر مُصدّر غنم في المنطقة أن يتصرف بالصورة التي يراها مناسبة، فانتظر أن يهرس بكفّه السميكة وجه هذه العاهرة التي زادتها كثيراً هذه الأيام. لن يجرؤ ابن المعلم على التدخل، فهذه الكفّ، لو تمّت، سوف تنزل برداً وسلاماً على قلب المعلم لأنها ستغسل العار عن أهمّ زبون دسم عرفه الكباريه منذ تأسيسه حتى الآن. تعلّقت أنظار الجميع باليد السوداء الضخمة المبللة بلعاب أزهار والرابضة حتى الآن مثل خمس هراوات بالقرب من صحن الكرز على الطاولة. لكنها ظلّت رابضة هناك حتى بدا مصدّر الغنم بعينيه الذابلتين كأنه نائم على كرسيّه، وقد خيل إلى بعضهم أنهم يسمعون شخيراً رتيباً وخافتاً من تحت شاربيه الكثّين. حار الآن الرجل ذو الفراشة السوداء، فبكاء أزهار على حدّته لم يكن كافياً لإنقاذ الموقف من فراغٍ وترقبٍ ثقيلين في الصالة. وكان بوسعه طبعاً أن يشير إلى سلطانة الطرب والآلاتية لمتابعة الوصلة، لكن ذلك سيُفهم من قبل الجميع وكأن أكبر مُصدّر غنم في المنطقة لم يتلقّ إهانةً كبيرة قبل قليل.

- شو عملت للبنت يا حيوان؟ انفجر الأستاذ سميع فجأةً بصوت مرتجّ حاد.

صُعق الرجل ذو الفراشة السوداء، كما الآخرون، إذ لم يتوقّع أن يكون أكبر مُصدّر غنم في المنطقة هو الحيوان الذي خاطبه شخصٌ لا يوحي أبداً بالمواصفات التي تُخوّله بمثل هذا التحدّي الصارخ. كان واضحاً للأستاذ سميع، الآن، وضوحَ الشمس أن عبد الهادي، بعلمه أو بدونه، قد حال مع الرجل ذي الفراشة دون أن يضحي بنفسه في مقصورة البلكون. والآن لم يجد ما يمنعه من الفوز بالتضحية على يد هذا الثور الذي أبكى بنتاً رقيقة كل هذا البكاء. ثم ما الذي يمكن أن يخسره شخص مثله وقد بلغ التاسعة والأربعين من عمره فجأةً؟ لا شيء، لا شيء على الإطلاق! إن الفراغ الهائل المجعّد القارس الذي ربّاه في أيّامه كلّها لم يُفضِ به قط إلاّ إلى حياةٍ ذليلةٍ كلّها كمائن وحفر وأفخاخ تتكاثر من حوله وبين خطواته بلا كلل يوماً بعد يوم وساعة بعد ساعة. إنه لا يعيش، بل يقضي دهره في رعب أسود لا نهاية له من الأشياء والكائنات والظلال والصمت والضجيج والأفكار والظنون. ثم إلى متى، إلى متى يلوذ ويترقّع بعبد الهادي؟

- شو عملت للبنت يا حيوان؟؟ كرر الأستاذ سميع بصوت يائس أعلى كما يصعق حزاماً ناسفاً حول خصره. ثم انتظر بصبر نافد أن يمزقوه في الحال بالخيزرانات أو بالأنياب أو بالرصاص، ما الفرق؟ لا فرق. وهكذا زالت حيرة الرجل ذي الفراشة تماماً، وكاد يمنح القبضايات المشدودين مثل فهود جائعة متربصة إشارةَ الانقضاض على الأستاذ سميع لولا أن أكبر مُصدّر غنم في المنطقة رفع فجأةً رأسه الضخمة واتسعت عيناه. سوف يهشمه بنفسه إذاً. لكنه بدلاً من أن ينهض ويفصفص عظام هذا الصعلوك التفت إليه، هو الرجل الوفيّ ذو الفراشة السوداء، وأنشب عينيه المخيفتين في وجهه، فشلّ حركته من جديد وسمّر خواطره كلّها.

- ولكْ يا حيوان شو عملت مع البنت؟؟ انبحّ صوت الأستاذ سميع. عندما سيمزقونه بعد قليل، فكّر، سوف يتفرّج عليه الجميع خائفين متشفّين ما عدا أزهار. أزهار وحدها سوف تقوم مثل لبوة جريحة وتحاول تخليصه من بين براثنهم. وبما أن عبد الهادي لن يساعدها، ولا يريده أن يساعدها، فإنها سوف تعجز بالتأكيد عن إنقاذه، ومن ثم ستتابع بكاءها هذه المرة على الأستاذ سميع الفارس الذي كان عليها أن تقف باكراً على حقيقة مشاعره نحوها، كان عليها أن لا تنخدع بغيره مهما نزّل قناني الويسكي على طاولتها ومهما ضمّد رأسه وورّم شفتيه. ثم لم يفهم الأستاذ سميع ما الذي يؤخرهم عن البدء بتمزيقه حتى الآن؟ لكنه سارع وأغمض عينيه، لكي لا يهرب، عندما لمح كيف بدأ ينهض أكبر مُصدّر غنم في المنطقة وكيف بدا عملاقاً في عينيه. إن من المعيب فعلاً أن يهرب المرء بخاصة إذا كان كبشاً للفداء. كما لا ينبغي لهذا الكبش أن يطلب النجدة من الآخرين أياً كانوا، فهم، في النهاية كلّهم، كلّهم آخرون لا أكثر. وعلى هؤلاء الآخرين جميعاً أن يكونوا جبناء وأنذالاً متفرجين وفضوليين فقط، وعليه هو أن يواجه وحده مصيره الدموي الذي اختاره الآن بنفسه مرفوع الرأس. ثم رفع الأستاذ سميع رأسه بصعوبة شديدة جداً، وقد تجمّعت ملامح وجهه كلّها حول عينيه المعصورتين، منتظراً مصيره الأليم. وإذ شعر، في تلك اللحظة القاتلة، بأسفٍ على نفسه حقيقيٍّ مباغتٍ ومُعيبٍ أَمِلَ، رغم كل شيء، بنهاية سعيدة لتمزيقه. عليهم، نعم، أن يمزقوه الآن بلا شفقة إرباً إرباً على أن يبقى حيّاً بعد ذلك. وهو، من ناحيته، ليس نادماً على أنه، الآن، كبش نهائيّ للفداء لا رجعة عنه بالنظر إلى استحالة سحب الإهانات الصريحة التي وجهها إلى العملاق قبل قليل. إلا أنه بدأ يرى، في الوقت ذاته، أن من غير العدل فعلاً أن يموت أكباش الفداء بعد أن يضحوا بأنفسهم. ثم اعتقد في ظلام عينيه أنه صار، مع كرسيّه، يميل نحو الأرض على الأرجح. لكنه، بعدما ظلّ فترةً طويلةً يميل دون عواقب محدّدة، فتح عينيه، فوجد أنه مايزال جالساً إلى طاولته بينما كان العملاق، طيلة هذه الفترة المضنية، مايزال ينهض. غير أن أكبر مُصدّر غنم في المنطقة، بعدما وقف أخيراً، خذل التوقّعات كلّها حين أدار ظهره فجأةً للجميع، ومضى بخطى ثقيلة حردة باتجاه المخرج، وقد أمسك بغطاء طاولته وسحبه وراءه مثل ذيل- تساقطت على الأرض قناني الويسكي، الصودا، الببسي، صحون الفواكه، زوارق المازوات، الكؤوس، سطل الثلج، الشوكات، السكاكين، ومنفضة السجائر. كفّت أزهار عن بكائها مذهولةً من الزجاج الذي تحطم من حولها وتناثر في كل اتجاه. وفي الحال أشار الرجل ذو الفراشة إلى سلطانة الطرب والآلاتية، فعصف بالكباريه ضجيجُهم على الفور. لكنْ ما الذي منع العملاق القذر من تمزيق الأستاذ سميع قبل أن يخرج؟ إن حقيقة بقائه سالماً دون تمزيق حتى الآن وضعته أمام احتمال قاس: أن يكون مجرد فراغ محض، ومن ثم لم يره العملاق ولم يسمع إهاناته لكي يمنحه شرف تمزيقه.

- ولك يا حيوان! صرخ الأستاذ سميع بصوت مثقوب من الألم دون أن يحدّد الشخص الذي وجّه إليه هذه الإهانة الجديدة.

كانت أزهار قد وقفت وسط حطام طاولتها، وكذلك فعل عبد الهادي أمام طاولته. وقفت أزهار وهي تُسلّم، لأول مرة منذ عقدها الأول في الكباريه، بأنها لن تكون لهلوبة مسارح بعد الآن، وأن ما انقصف في دخيلتها من أجل عبد الهادي لن تجبره بقناني الويسكي ورضا المعلّم الذي لن يرضى عليها بعد اليوم في كل الأحوال. سوف تهجر الكباريه حتى ولو عادت إلى تونس غداً- قرّرتْ، ثم التفتت إلى عبد الهادي تتملّى به كما لو أنها حرّة من أي أوراق رسمية تلزمها بالبقاء بين هذه الكراسي والطاولات دقيقة واحدة. وكان لا ينبغي لعبد الهادي أن يحزر قرارها هذا مادامت لن تقبل الآن بالظهور مستعطيةً على بابه، لن تقبل حتى لو أصبحت غداً شرموطة شوارع وقوادين وزعران في ليل الشام! وكان عبد الهادي قد وقف لأن قوةً على الأرض لن تمنعه الآن من أن يفشي لأزهار بفكرته الفتّانة الشائكة الهوجاء التي حام حولها بالأمس ولم يعرف كيف يهدّي عليها. وكان الرجل ذو الفراشة قد لقف، في هذه الأثناء، غضَبَ المعلم الأشدّ من وراء طاولته البعيدة، فهمّ بالكشف عن وجهه المخلص الأمين الشرس. لكنّ ابن المعلم، الذي اقترب الآن من البست، لن يسمح له، على الأغلب، بإهانة أزهار رغم شاربي أبيه المحتقنين بالسمّ، فجمد ذو الفراشة في مكانه من جديد. وهنا تحرّك عبد الهادي نحو أزهار. لن تتحرّج أزهار إذاً من أن يحزر عبد الهادي الآن ما انقصف في دخيلتها نهائياً من أجله مادام يبادر نحوها ركيكاً أخرق مزهوّاً وفي عينيه فكرته المحزنة المحزنة المحزنة. ثم كأنها لم تختنق قط بعجوة كرز من أجله بوغتت، هي الواقفةُ اللحظةَ على شفا حياة جديدة تخيّلتها، بأن الهاوية، ربّما، ستنفتح بين ذراعي عبد الهادي بعد لحظات. من يدري! من يدري!؟ كان مقبلاً نحوها مثل زوبعة سوف تدوّم بها نحو السماء، ثم تتركها هناك فجأةً لتسقط على الأرض مثل حجرة أو طير مصاب. من يدري!؟ من يدري!؟ ليته يعطيها الآن فرصة أخرى للتفكير، ليته يتعثر بشظية زجاج في طريقه القصيرة إلى أحضانها المتحرّقة إليه. ليته يثبت لها، قبل أن يصل إليها الآن، بطلانَ هاجسها الغريب المباغت المعذِّب هذا. إن أزهار الحرّة التي ستلد له جرساً على سبيل المثال يجب أن تكون متأكدة من الأغلال التي سيكبّلها بها عبد الهادي إليه دون غيره، فهي لن تكون أُمّاً من غير أغلال تقيّدها إلى رجل متهافت مزهوّ عذب مثله. مثله. مثله. كيف تتحقق في هذه العجالة المريرة الساحرة من سجنها المؤبد بين ذراعيه؟ كيف؟؟ ثم خافت فجأةً عليه من نفسها، وتلقّت، كأنما، من يد أمّ رؤوم دفعةً في ظهرها لملاقاة عبد الهادي، فوجدت نفسها بين ذارعيه. ولكي لا تشعر بالهاوية التي غارت فيها أطبقت بفمها على شفتيه المتورّمتين المالحتين مباشرةً. ترك عبد الهادي وأزهار، بالتباس أحدهما بالآخر، انطباعاً كما لو أنهما من زجاجٍ سائلٍ ملوّن يتكوّن الآن أمام زبائن الكباريه على شكل مزهرية فيها وردة حمراء وحيدة تتفتح، أو أفعى متّحدة تخرج من سلّة ساحر، أو حبيبة لهم جميعاً تنام وراء لوح سميك من البلّور. كأنهم تورطوا، كلّهم، بمعنى جديد لسهرتهم فأصبحوا أفضل مما كانوا عليه وأجمل وأرشق وأشدّ قدرة على المغفرة وأقلّ ميلاً إلى سوء الظن. كأنهم تحرروا من قيود لم يعرفوا فجأةً لماذا احتفظوا بها حتى الآن، فتوافقوا، كأنما، فوراً وبصورة غير معلنة على أن يجمدوا جميعاً على حال ذهولهم الجديدة، لعلهم بذلك يطيلون أمد هذه القبلة اللاهبة التي جمعتهم حولها، هم المقرورين حتى العظام ليلةً بعد ليلةٍ بعد ليلة. حتى الآلاتية والمطربة الخمسينية خفّفوا طواعيةً من وطيس صخبهم. لكنّ شخصاً واحداً فقط، عدا رجل الفراشة وابن المعلّم وأباه، لم يخضع لقبلة أزهار وعبد الهادي: الأستاذ سميع الذي لم يصدّق ما تراه عيناه- فإذا كان العملاق القذر قد خرج دون أن يثلج صدره بتمزيقه إرباً إرباً فإن ذلك لا يبرر لأزهار أن تتجاهل حقيقة أنّ من خاطر بنفسه وأهان العملاق دفاعاً عنها إنما كان هو وليس الآغا عبد الهادي. كيف، والحال هذه، تكافئ بقبلتها من لم يحرك ساكناً من أجلها، وتترك في مهب الريح ذاك الذي كاد يستشهد في سبيلها. ومن شدة غيظه كاد الأستاذ سميع يتقدم من أزهار وعبد الهادي ويفصل ما بينهما مثل فاروق عادل لولا القبضايات المعتمدون الذين بادروا إلى فعل ذلك بإشارة من رجل الفراشة. عاد الجميع إلى سيرتهم الأولى في الكباريه صخّابين سكارى ثقلاء وعدوانيين ما إن بُترت قبلة أزهار وعبد الهادي التي دامت برهةً خاطفةً كاملة. ثم حصل الآن لبس آخر ومرارة أخرى في قلب الأستاذ سميع، فالقبضايات المعتمدون بعد أن أخفوا أزهار من المكان بلمحة بصر، ما لبثوا، بإشارة من ابن المعلّم هذه المرّة، أن انقضّوا على عبد الهادي يعجنونه لطماً وركلاً وتفعيساً. وإذا كان الأستاذ سميع الآن ينظر إلى ذلك بعين التفهّم الكامل فإنه لم يفهم، ولن يفهم، لماذا لا يفعّسونه هو أيضاً باللؤم نفسه والقسوة نفسها. ما الذي ينقصه حتى يستثنونه عامدين متعمّدين من قبضاتهم اللئيمة وكعوب أحذيتهم المسنونة؟ لماذا يمنحون عبد الهادي هذا الشرف لمجرد أن أزهار هجمت عليه وقبّلته بدلاً منه هو؟ لماذا يتناسون حتى الآن أنه صديق عبد الهادي وجليسه إلى الطاولة ذاتها؟ والأهم من كل ذلك أنه هو الذي رفع صوته وأهان عملاقهم الذي انقلع منذ قليل.

- ولكْ يا كلاب! هتف الأستاذ سميع بكل جوارحه، فخرج صوته متهدّجاً ضعيفاً ومخرّقاً وبلا أي نتيجة- لم ينل نظرة شزر واحدة. وإذ أصبح عبد الهادي الآن معكوماً مثل كيس من النفايات على كتفي رجل شقّ طريقه بين الطاولات باتجاه باب الخروج، ظلّ الأستاذ سميع يأمل وينتظر بمرارة أن يتذكّره في اللحظة الأخيرة أحدٌ من القبضايات ويشفق عليه بصفعة واحدة على الأقل، ولكنْ عبثاً. تحقق الآن من أن أحداً لن يلتفت إليه، فانفجر ببكاء مريرٍ شاكٍ مبحوح. اقترب من باب الخروج ناشجاً بطلاقة شديدة كما لو كان وحيداً في غرفة. استلمه على باب الكباريه هواء بارد، فحضن نفسه بذراعيه. لمح بعض المارّة يُنهضون عبد الهادي من على الرصيف، فاسترسل ببكائه شاكياً مفخوتاً ومحتجّاً حتى حلّقت أمام عينيه مباشرةً قطة بيضاء- انطلقت من الرصيف الثاني تقطع الطريق فلم تفلت، رغم سرعتها، من سيارة رعناء ارتطمت بها، فطارت وسقطت بدمها عند حذائه تماماً. توقف عن البكاء فوراً، وبدا مثل أصم أبكم مبلوس. لم يعرف كيف يُقصي عينيه الجاحظتين عن القطة المختلجة بين قدميه، فيما بدأ سائق السيارة يشتم القطة من نافذته بطريقةٍ بدا معها كأنه يشتمه هو على سوء سلوكها. ثم ظلّ الأستاذ سميع مأخوذاً حتى العظم بآلامها الدامية، وقلبه يختلج معها خلجةً خلجةً حتى داس السائق على دوّاسة البنزين بعدما نفقت أخيراً مع شتيمته الأخيرة. وكما لو أُزيح حملٌ ثقيلٌ عن كتفيه أخذ الأستاذ سميع الآن نفساً طويلاً مُشبِعاً جديداً ومختلفاً، على غير انتظار، عن كل أنفاسه القصيرة المتلاحقة طيلة يومه العاصف منذ الصباح. شعر الآن بأن الهواء، كما لم يكن منذ مدّة طويلة، كثيرٌ فعلاً ومنعشٌ حقاً. كأنه نجح لتوّه في اجتياز هوّة كان ملزماً باجتيازها في كل الأحوال، فبدا الآن مثل رجل لم يبك منذ لحظات. خطا بضع خطوات بطيئة حذرة مبتعدة، كأنما، عن حافة الهوّة التي قفزها لتوّه تاركاً وراءه على الحافة البعيدة الأخرى القطةَ البيضاء المدمّاة مع كل حاله المضطرمة التي يعيشها منذ أيام. ثم لم يلتفت ليتأكد من خمودهما النهائي وراءه- كانتا، الآن، القطةُ وحالُه السابقة، خامدتين تماماً في قرارة نفسه، فاعتبر، بيسر وبداهة، أن أياً كان بوسعه أن يكون في مكان القطة لسببٍ من الأسباب. وإذ أصبح على مقربة من عبد الهادي الذي مازال رجلان يحاولان تثبيته على قدميه، اعتبر، بيسر وبداهة أيضاً وهو ينظر إلى ضماده المدمّى ووجهه المكدّم وخور عزيمته، أن أياً كان بوسعه أن يكون في مكان عبد الهادي أيضاً لسببٍ من الأسباب. ثم سارع واستخلص بما لا يقبل الشك بأنه أفضل من القطة البيضاء وعبد الهادي وحاله السابقة دفعةً واحدة. كان ناجياً نجاةً لا لبس فيها ولا مراء. إنه جدير، فعلاً وحقيقةً، بالحسد الكامل كما يليق بموظف حكومي ناجح وطَموح من طرازه. وريثما أفلح عبد الهادي بالوقوف مستنداً إلى الرجلين فكّر الأستاذ سميع أن الإنسان، رغم كل شيء، يبلغ أحياناً التاسعة والأربعين من عمره هكذا دونما مقدمات، وأنه، في أحيان أخرى، لا يتعيّن مديراً لاستنهاض التراث العربي على سبيل المثال مهما تعيّن معارفه، ومن ثم يستطيع أن يُسلّم، وإن بصعوبة، بأن المرافقين الأشداء لا يولدون مع أيّ إنسان في قريته. ثم إن من طبيعة الانسان، على وجه الإطلاق، أن يعتاد على أيّ شيء، وليس ثمة ما يمنع هذا الإنسان من الاعتراف حتى بالرعب والاعتياد عليه بعد ذلك مهما اصطكّت عظامه الآن مثلاً، فما المشكلة؟ لا مشكلة طبعاً طالما أن أحداً من هولاء المارّة المفترِسين لن يحزر ذلك. إن كلّ ما على هذا الإنسان أن يفعله، لكي يتنفّس دون عواقب وخيمة، ينحصر في مغمغة رعبه الأسود عن ملاحظة الآخرين. الرعب الأسود في نهاية الأمر أهون من السيارة الرعناء بدليل الهوّة النهائية الواسعة التي فصلته فصلاً باتّاً عن القطة البيضاء بغمضة عين. نعم إن الأستاذ سميع يتشبّث بحياته رغم كل شيء، وسوف يأمل ويسعى أبداً، بكلّ مراسه بالهوان، في سبيل أن يجد دائماً في الوقت المناسب قططاً بيضاء أو سوداء أو صفراء ترتطم عوضاً عنه بالسيّارات الرعناء. أما رعبه الأسود فسوف يتقاسم معه هذه الحياة لا كعدوّ بل كشريك أبديّ بديهيّ لا فرار منه. ثم أحس الأستاذ سميع بأنه عاقل جداً إلى حدّ لم يفهم معه ما الذي يفعله على الرصيف في هذه الساعة المتأخرة من الليل. وإذ لاحظ عبدَ الهادي مرة أخرى مستنداً إلى الرجلين الغريبين أدرك بوضوح تام أن هذا الرجل سيظل جزءاً متحرّكاً من حياته الرهيبة الناجحة الراكدة، وأن الوقت للأسف أصبح متأخراً جداً للتخلص منه أو التنكّر له على الأقل. لقد فاته أن يفهم منذ تعارفهما الأول في الجامعة أنهما من طينتين متمايزتين، وأن العاصمة القديمة ممكنة جداً من دونه. وبالفعل ماذا يمكن أن يحدث لعاصمة الأستاذ سميع من دون عبد الهادي؟ ستكون أكثر وحشة وأشدّ فراغاً وأعمق ركوداً كما يتمناها تماماً، لكنها، عند الضرورة الحاسمة القصوى، لن تكون أشد أماناً من دونه. لقد أخطأ الأستاذ سميع وأدخل عبد الهادي منذ فترة طويلة في صميم الجدار الذي يحمي وحشته وفراغه وركوده، وإن كان ينغّصها بمزاجه المتهوّر من حين إلى آخر. إن العاصمة تستقوي ببساطة على أضعف خلقها وتطعمهم عند الحاجة لسياراتها على أقل تقدير. وبصفته الآن شخصاً عاقلاً لن يتستّر الأستاذ سميع على حقائقه السوداء. إنه الآن على يقين من أنه لن يفلح من دون عبد الهادي في أن يبرهن للعاصمة بداهةَ أنه ليس من أضعف خلقها. وإذا كان، من أجل إقناعها بهذه البداهة، لم يلجأ في حياته، ولن يلجأ، إلى أولاد قريته الأقوياء فيها، فإنه لا يلجأ إلى عبد الهادي لأنه قويّ بل لأنه حارس وحشته الوحيد. ثم اقشعرّ بدن الأستاذ سميع حباً بالعاصمة القديمة الموحشة الفارغة الراكدة الرهيبة، واقترب من عبد الهادي كما يقترب من ضرورة جارحة. وإذ استلمه من الرجلين الغريبين فلت من بين يديه، فأدركه في اللحظة الأخيرة قبل أن يسقط على الأرض، ثم شدّه بصعوبة إلى حافة الرصيف حيث أشار لسيارة تاكسي. حشره بصعوبة بالغة في المقعد الخلفي، ثم جلس إلى جانبه وهو يوجّه السيارة باتجاه حارة الباشا. كانت أذنا عبد الهادي وعيناه تطاوعه، فيسمع ويرى بوضوحٍ، لكنه حاول جاهداً أن يحرّك لسانه في فمه ليطلب من الأستاذ سميع أن يقلّه إلى الفندق، ولم يستطع. كان لسانه يملأ فمه مثل صوّانة كبيرة تسدّ عليه أنفاسه، فلا هو قادر على بلعه ولا على بقّه. جرّب بيده أن يعبّر عما أراد قوله فارتفعت كفّه بعناء واضح وتململت أصابعه بمعنى غامض أمام عيني الأستاذ سميع، ثم ما لبثت أن انهارت خائبةً على ركبته. أدرك عبد الهادي أن أعضاءه كلها لن تعينه في قول رغبته الملحّة في الذهاب إلى الفندق حصراً وليس إلى العنوان الذي لقّنه الأستاذ سميع إلى السائق. ثم كاد يستسلم تماماً لإرهاقه الشديد لولا أن السائق أوقف سيارته أمام فندق أمية عند إشارة المرور. استجمع عبد الهادي كلّ أعضائه من جديد ليطلب إلى الأستاذ سميع أن ينزله هنا، ويحجز له غرفة في هذا الفندق بالذات، لكنّ ما خرج معه كان لا أكثر من لفتةٍ ناقصة بضماده المدمّى نحو باب الفندق وبرطمةٍ متعثّرة بشفتيه المنتفختين النازفتين. ورغم أن السيارة تابعت سيرها بعد قليل إلا أن عبد الهادي ظل يهجس بفندق أمية لأن دقيقةً واحدةً فقط كانت ستفصل مدخله عن أول الرصيف المنحدر باتجاه التجهيز غداً. وهكذا لن يتأخر، كما فعل اليوم، عن موعده في الثامنة وعشر دقائق إذا نام هنا. سوف يكون لديه الوقت الكافي لأن يستلم أول الرصيف عندما ستظهر هي من المنعطف، فيتمتع برصيف كامل من مشاهدتها. سوف يمحو بعينيه الفورسيزينز والمتحف الحربي والتكية السليمانية وجامعة دمشق، ثم سينفرد بها عارية من إكسسوارات الشارع ويفصح عن بذاءة حواسه في إقبالها الفاجر على جسدها حتى تتوضح معالم وجهها المعبود. وعندما سيصبح بمحاذاتها سوف يكمن لها بكلّ كيانه وراء أنفه وأذنيه ليفسّر وجيب قلبها ويستنطق رائحة هواجسها. وما إن سيبلغ نهاية الرصيف ستنعطف به قدماه بالطلاقة المعهودة الثابتة نحو اليمين، ثم نحو اليمين أيضاً في أول دخلة تأخذه إلى ساحة النجمة. هناك سوف يستدري بخريطة العاصمة على ظهر موقف الباص ريثما ينبق مثل شمس لا تدحض كلب الشيان لو من باب بنايةٍ في آخر شارع العائدي. وبينما سيفرّغ الكلب الدفعة الأولى من مثانته على سور دار السلام سوف تظهر صاحبته الجميلة. سوف يستمد عبد الهادي من ظهورها المتلكّئ الساحر القوة ليظهر هو الآخر لملاقاة الكلب الضخم. سوف يثبت غداً أيضاً لخصمه الشرس هذا أنه لن يتخلى عن لقاء صاحبته مهما أغضبه ذلك، وسوف يمرّ بها مرفوع الرأس على مرأى منه ومن حارس المخفر. بعد ذلك سوف يسارع إلى الشارع الموازي خفيفاً، نشوان، واثقاً، ويعود أدراجه إلى ساحة النجمة، ومن هناك إلى شارع رشدي الشمعة، ثم إلى الجسر، ومنه إلى البرامكة. وعند كشك الجرائد سوف ينتظر نزول الفتاة ذات الشعر الأحمر من ميكروباص قطنا.

- شرّفْ! قاطعه الأستاذ سميع بلهجةٍ حازمة، وكان قد حاسب السائق ونزل من السيارة تاركاً بابها وراءه مفتوحاً لعبد الهادي. لكنّ عبد الهادي لم يستجب- سوف يستقلّ غداً سرفيس باب توما مع الفتاة ذات الشعر الأحمر ويجلس في المقعد المواجه وينتظر على أحر من الجمر كبسات الفرام القوية عندما سترفع وجهها عن ركبتيها فيتأكّد من عينيها العسليتين ونمشها العزيز. سوف يكتشف غداً أيضاً أنها مازالت تخلص الحب لفتاها، ما سيجعله يحفر بالهمّة السوداء نفسها نفقه الخاص نفسه تحت حبهما الطاهر حتى يخفس بهما. وعندما ستنزل في موقف السادات لن ينزل وراءها، سوف ينزل في نهاية الخط ويتوجه إلى الكافتيريا في القيمرية. استنفر الأستاذ سميع السائقَ على عبد الهادي، فنزل هذا وساعده في إخراجه رغماً عنه من السيارة، ثم سنده إليه عند أول زاروب مسقوف ضيق حالك العتمة وعاد إلى سيارته ليتراجع بها نحو أنوار الشارع العام. سيكون لدى عبد الهادي في القيمرية الوقت الكافي لشرب فنجان قهوته الثاني في الكافيتيريا قبل أن يتوجّه إلى القصّاع. وفي تمام الساعة العاشرة والنصف سيكون واقفاً على الرصيف المقابل للمشفى الفرنسي. سيلاقي المرأة شديدة البدانة ويتناول منها محفظتها القماشية المختنقة بكتل أشيائها الثقيلة الغامضة، ثم سيمشي أمامها حتى يصل إلى باب شرقي متمهل الخطى سعيداً بأنها لم تستبدله حتى الآن برجل آخر. سوف ينتظرها تحت القنطرة الحجريّة العالية حتى تلحق به، وريثما ستجلس فوق محفظتها سوف ينسحب من أمامها دون أن يبادلها كلمة واحدة. سوف ينزل، عندئذٍ، من الرصيف، وكما لم يفعلّ قط في مثل هذا الوقت سوف يشير، اعتباراً من الغد، إلى أول سيارة تكسي يصادفها ليطير في نهاية صباحه إلى فندق الاستقلال. حشر الأستاذ سميع نفسه تحت إبط عبد الهادي ولفّ ذراعه حول خصره، ثم عرف أنه لن يكون قادراً وحده على انتشاله من الأرض إذا تعثرا بشيء أطاح بهما، فجعل يتقدّم به إلى الأمام ببطء وحذر شديدين في الزاروب المظلم المسقوف حتى انعطف به في الزقاق القصير المضاء الذي ينتهي ببيت أهله. وقبل كل شيء سيكون على عبد الهادي غداً، عندما سيصل إلى الرصيف المقابل لفندق الاستقلال، أن يحدّد بالضبط متى تنهض أزهار من نومها عادةً، لأنه على هذا الأساس سيعيّر، من الآن فصاعداً، لحظةَ وصوله يومياً إلى هنا في الوقت الذي تفتح فيه نافذتها، وهي ستفتحها حتماً لأن المرأة، أيّ امرأة، تفتح نافذة غرفتها للهواء النظيف ما إن تنهض من فراشها. وهكذا سيكون عبد الهادي أول شخص تراه على الرصيف المقابل كل يوم. انفجرت الآن زغاريد قوية مقتربة من صدر الزقاق المضاء القصير. ثم تدفق من عمق الباب الكبير أناس متأنّقون بأبهى حللهم من نساء محمّرات مغندرات، بعضهنّ بمناديل ملقاة على شعورهنّ بصورة لا تزيد من تخريب قصّاتها البائتة على الأغلب منذ الأمس، ورجالٍ مطقومين ببذلات فاخرة وذقون حليقة وشوارب مشذّبة وابتسامات مصقولة. وإذ انتبهوا، فرادى في البداية، إلى ضماد عبد الهادي المدمّى وجفونه المتورمة الزرقاء وشفتيه النازفتين تحيّرت وجوههم وتخافتت زغاريدهم وابتساماتهم شيئاً فشيئاً حتى كادت تتلاشى تماماً لولا بديعة- ظهرت ببذلتها وكلّتها البيضاوين في مقدمة الحشد المغندر الحائر، وأطلقت، كما لا ينبغي لعروس أن تفعل، زغرودة عالية طويلة، فتشظّت وراءها الزغاريد في سكون الليل من جديد. وبينما عاد المحتشدون ينقضّون على عبد الهادي بفرحهم المستعمَل الجاهز كان عليه أن يجد حلاً منذ الآن لموظف الاستقبال فلا يراه من نافذة الصالة الكبيرة عندما سيقف غداً أمام نافذة أزهار. ثم اعتقد، عندما استلمته بديعة من الأستاذ سميع بحذر ورفق ودراية، أن الرهان على نوم موظف الاستقبال وراء حاجزه الخشبي في لحظة وصوله إلى هناك مغامرةٌ كبيرة. لكن بديعة عبرت به أخيراً بابَ بيت أهله الكبير بخطى متّئدة ظافرة وعارفة بغاياتها القديمة الواضحة، فعرف عبد الهادي أنه لن يجد حلاً لموظف الاستقبال مع البهجة التي تبتلعه الآن، وقرر في اللحظة الأخيرة قبل أن يختنق أنه، في كل الأحوال، لن ينهي صباحاته الدورية إلاّ في بستان كليب على الرصيف المقابل لنافذة أزهار.

(دمشق)

* * *

المؤلف من مواليد الرقة عام 1956

صدر له:

- "سولاويسي"، رواية، 1994، دار الحوار.

- "يوم آخر"، رواية، 1995، دار الحوار.

- "وسواس الهواء"، رواية، 1997، وزارة الثقافة.

- "غيمة بيضاء في شّباك الجدة"، رواية، 1998، وزرة الثقافة.

- "سلمون إرلندي"، رواية، 2004، دار الينابيع.

- "أين تقع صفد يا يوسف"، رواية، 2008، وزارة الثقافة.

- "بالتساوي"، رواية، 2014، دار الآداب.

- "البدل"، رواية، 2016، مركز المحروسة.

- "إثنان"، مسرحية، 1996، وزارة الثفافة.

كما صدر له في الترجمة عن اللغة الروسية:

- "حكاية الزمن الضائع"، قصص ليفغيني شفارتس، 2004، وزارة الثقافة.

- "مختارات من القصة الروسية"، لأندرييف وبونين وإرنبورغ ونابوكوف، 2005، وزارة الثقافة.

- "قصص مختارة" في مجلّدين لأنطون تشيخوف، 2007، وزارة الثقافة.