يموضع الباحث شذراته الفلسفية انطلاقا من مجاوزة الميتافيزيقيا ونظام الخطاب. ويرى أن مهمة الفكر المعاصر تكمن في المقاومة ورصد "البلاهة". ويؤكد على أن الكتابة: فعالية أنطولوجية، والفلسفة فنا للعيش. ويشدد على ضرورة النقد وأهمية الهامش في كتابة التاريخ. كما يرصد موقع المثقف.

على هامش الفلسفة: شذرات في جرح الميتافيزيقا

عُثمان لْكْعَشْمِي

 

رهان الفكر المعاصر:
إن رهان الفكر الفلسفي المعاصر هو مجاوزة الميتافيزيقا. تلك المجاوزة التي لا تتحقق إلا من خلال "الانفلات من قبضة هيجل" كما أكد ذلك ميشيل فوكو، في درسه الافتتحاحي بكوليج دو فرانس (نظام الخطاب). على اعتبار أن الميتافيزيقا اكتملت وكتبت مع هيجل. هل تمكن الفكر الفلسفي المعاصر بأن يكون معاصرا؟ بمعنى آخر، هل تمكن هذا الفكر فعلا من التحرر من تلك القبضة؟

الفلسفة: حركة لامتناهية بين الميثوس واللوغوس:
للأسطورة أشكال متعددة بتعدد العصور واللحظات التاريخية. فأسطورة اليونان القديمة ليست هي أسطورة القرون الوسطى، وهذه ليست تلك الخاصة بالتنوير والحداثة، والأخيرة ليست هي أسطورة المعاصرة. وما صاحب ذلك من تبدل في بنية المفهوم ذاته وفي مهمة الفلسفة ذاتها، من حيث كونها: مجاوزة للأسطورة. كانت الميثوس اليونانية تقع خارج اللوغوس-العقل أما ميثوس المعاصرة فهي ترتكن داخل اللوغوس نفسه. إذ أصبح لللوغوس ميثوسه كما للميثوس لوغوسها. بهذا صارت مهمة الفلسفة هي مجاوزة ذاتها، مجاوزة أسطورة عقلها، ذلك العقل/ الفكر الذي تحول إلى بلاهة لللافكر.

المفكر فيه لامفكرا فيه:
إن اللا مفكر فيه لا يقع خارج ما يعتقد على أنه مفكر فيه. إنه يقبع في جوانيته، إنْ لم يكن هو نفسه. ليس علينا إلا أن نخلق ونصنع فيه فجوات ونبث فيه فراغات، لكي ينكشف لنا كل ما هو مفكر فيه لا مفكرا فيه أساسا. حيث نجعل من أعماقه أسطحا ومن خلفياته واجهات. هنا بالضبط تكمن مهمة الفلسفة، ضدا في كل أشكال اللا تفكير (أو البلاهة) في ما يقدم نفسه على أنه التفكير ذاته. يتعلق الأمر إذا بالمقاومة؛ مقاومة كل أشكال البلاهة أنّى وجدت، في الفكر كما في كل كيانات الحياة اليومية وتفاصيلها. بما في ذلك: أسْطرة الفلسفة. عن أي أسطرة نتحدث؟ أن نجعل للفلسفة "يوم عالمي".

مهمة الفكر المعاصر: الرصد والمقاومة:
- الفكر المعاصر؟

- رصد البلاهة ومقاومتها؛

- رصد التيولوجيا والميتافيزيقا واللافكر؛

- مقاومة السياسة بالسياسي؛

- مقاومة شبكية وريزومية.

ولدت غدا: وجدت في المابعد

إن عبارة "ولدت غدا" لعبد الكبير الخطيبي، تقذف بنا مباشرة إلى مسألة الوجود والموجود في المعاصرة. إنها تعبر عن معاصرة الموجود بوجوده: تفجير الماضي في المستقبل. فهي تقذف بنا إلى القول: بأن شعلة الحياة (والموت كذلك) هي أساسا "ماقبلبعدية". إن الحياة قبلية في بعديتها وبعدية في قبليتها. هكذا تصبح المعاصرة: ماقبلبعدية.هذا ما يذهب بنا بشكل صريح إلى جوانية فكر الاختلاف.

ردود أفعال.. ليس إلا:
ماذا أقول أمام عالم أعواد الثقاب؟ إنني لا أرى سوى ردود أفعال: أعواد ثقاب، لا تصدر شرارات إلا بحكّها. هذا إن كانت ما تصدره يتحمل وصفه بشرارات، إنها مجرد استجابات تم إثارتها. لهذا، لا يجب مواجهة أفعال بردود أفعال، وإنما وجب مقاومتها بإحداث أفعال مغايرة، من خلال إحراق ما يحكّ أعواد الثقاب تلك وتحويلها هي نفسها إلى رماد شراراتها. الكفيل بتوليد شعلة الحياة في كينونتنا.

شدة المرح أو الضحك الذهبي في تصنيف الفلاسفة:
لا يمكن تصنيف الفلاسفة والمفكرين وفقا لإيمانهم أو إلحادهم. لأن الإيمان أو عدمه ليس معيارا للتصنيف، خاصة عندما تكون الفلسفة هي المعنية في هذا التصنيف. ليست الفلسفة ومعها الفكر بدين أو لاهوت، إنها لـ"علم مرح". ولأنها كذلك، فإن التصنيف الممكن إقامته ها هنا هو ذلك الذي يأخذ من "شدة المرح" معيارا له. لهذا الميل إلى تصنيفهم حسب شدة مرحهم. لذلك كتب نيتشه: "أميل إلى تصنيف الفلاسفة حسب جودة ضحكهم، واضعا في أعلى مرتبة أولئك الذين يقدرون على الضحك الذهبي". فمن يا ترى، من الفلاسفة والمفكرين، يملك أجود ضحك أو هو قادر على الضحك الذهبي والحالة هذه؟ إنه صاحب العبارة أعلاه، نفسه. عن نيتشه أنا أتحدث: لا يمكن للمرء إلا أن يضعه في أعلى مرتبة. هل هناك ضحك أكثر ذهبية من ضحك نيتشه؟

في الصمت

ماذا أقول عندما لا أقول شيء؟

إن الصمت قول لم ينصت له بعد.

في كثير من الأحيان، أمام ما يكرسه اليومي من بلاهة وما يفعله من تطبيع لللا فكر في مختلف جوانب الحياة اليومية وتفاصيلها، في ظلها وهمساتها، لا يسعنا في نهاية المقام إلا أن نغمض أعيننا ونغلق آذاننا ونلجم أفواهنا، علنا نحول بينها -البلاهة- وبين أن تجيء إلينا: مقاومة لها. لكي نثبت أننا ضرورة ولسنا مجرد جواز. هكذا نكون، بصمتنا تكلمنا، بمقاومتنا فعالية، عوض أن نغدو مجرد أعواد ثقاب استنفدت شراراتها بفعل ما خلّفته آثار حكّها.

التراث شيء..والتقليد شيء آخر:
إن التراث لا يعني بالضرورة التقليد. فما يحول التراث إلى تقليد هو الاستكانة للأموات عوض التمرد عليهم، قتلهم عوض بث حياة الحال فيهم. على العكس من ذلك، إن ما يمكنه أن يحررنا من ذلك التراث، أنّى كان عربيا و/أو غربيا، برفع التقلدة عنه، هو هجره (لا استيطانه) أو بالأحرى جعله أجنبيا عن ذاته.

الكتابة: فعالية أنطولوجية:
ليست الكتابة علاج نفسي أو تعبير عن مكبوت، فحسب، وإنما هي فعالية أنطولوجية. إن الكتابة، في حركتها، بوصفها عملا مزدوجا للعقل والجسد، لا يمكن أن تكون إلا عملا فنيا وصناعة فنية، بماهي إبداع للذات؛ إبداع للعالم.

الفلسفة فنا للعيش:
ليست الفلسفة تأملا خالصا للوجود مترفّعا عنه، من حيث هو موجود، فحسب، بل هي تنفس الوجود ومعه الموجود ذاته، إن لم نقل أن الوجود لا يكون بما هو موجود إلا بتنفسه للفلسفة. هي ليست مؤلفات ونصوص، اتجاهات ونظريات، فرق ونحل، مفاهيم ونظريات، موضوعات ومناهج فقط، إنها أسلوب حياة ونمط عيش. إن الفلسفة فنا للعيش؛ إبداع للذات: هكذا تكلم سقراط، حيث حرص على أن يحيا الفيلوصوفيا في آجورا، كما في منزله، ليجعل الحاضرة: la cité تتنفس الفلسفة.

الهامش أفقا للتحرر:
إن الرهان (والأفق)، في نظري، المنوط بالعالم الثالث للتحرر من الهيمنة والاستقلال النسبي هو توليد الهامش، من حيث هو إبداع للذات في تعددها. بالمعنى الذي يكون فيه الهامش هو الموقع الذي تخلخل فيه مركزية الغرب، والانفصال عن الذات بتقويضها وتفجيرها كتعدد. إنه نوع من الانفصال من أجل الاتصال بالاختلاف. يجب ممارسة ذلك في كل الميادين والقطاعات. هو نفس الهامش الذي تقع فيه اللا فلسفة أو استراتيجة مفكري الاختلاف عموما. يجب على الهامش أن ينتصر لهامشيته تلك. بل ينبغي عليه أن يركز ويكثف من إبداعه لتلك الهامشية، ويجعل منها منطقة خلخلة وتحلل وتقويض لكل ما من شأنه أن يثبت مركزية المركز.

تاريخ السرقة: هل هناك تاريخ ممكن للسرقة؟
إذا كان هناك تاريخ للحمق كما هو الأمر عند فوكو، وتاريخ للكذب كما هو عند دريدا؛ تاريخ للهامش (كلا مفكر فيه). فإننا على نفس النحو يمكننا الحديث عن تاريخ للسرقة وليس عن سرقة التاريخ فحسب. نعم، للسرقة تاريخها. هل للسرقة،فعلا تاريخ؟ كيف يمكن تحديد هذا التاريخ أو بالأحرى كتابته؟ هل هناك إمكانية لإقامة جينيالوجيا للسرقة؟

المرأة.. استعارة للحقيقة الميتافيزيقية:
من أكثر التأويلات تشويها لفكر نيتشه، هي تلك التي تتعلق بموقفه من المرأة (والنساء). لا يجب النظر، في نظري، إلى مواقف نيتشه من النساء من منظور المرأة في ذاتها، بل فيما تؤديه من وظيفة دلالية كاستعارة للحقيقة أو ما قُدم على أنه حقيقة. فما فُهم على أنه تعنيف للمرأة ليس إلا تعنيفا للحقيقة من حيث هي حقيقة أوهامنا.

النقد: حركة مقاومة لانهائية:
لم يعد اليوم مقبولا الحديث عن النقد بمعناه المعهود، أي كرفض، نفي، معارضة... لم يعد كافيا القول بـ"اللا"، خاصة أمام تسارع التاريخ الذي تتنفسه المعاصرة، سواء تعلق الأمر بالنقد الإيديولوجي، الفلسفي، الأدبي والإبستيمولوجي حتى. لهذا يجب إعادة النظر في مفهوم النقد السائد، خاصة في ما يقوم عليه من أسس ميتافيزيقية، إن لم نقل سلطوية (الحكم المعرفي-الإيديولوجي). لا يتعلق الأمر ها هنا بممارسة ما يسمى في الأدب بنقد النقد، بل يتعلق الأمر بتفكيك النقد (تفكيك مزدوج) أو على الأقل تطعيم النقد بالتفكيك، والتعامل معه كمفكر فيه لا مفكرا فيه-هو ذاته.

ما هو النقد الممكن اليوم؟
إن النقد اليوم، من حيث هو (حركة) مقاومة لا يمكن أن يكون إلا بوصفه: كشفا عن "اللا" في كل قول يتجلى كـ"نعم" ورصد لـ"النعم" في كل قول يقدم نفسه كـ"لا". هكذا يمكن للنقد بهذا المعنى أن يعلنها مقاومة بين النعم واللا، لا نفتأ تهدئ من روع حركتها اللانهائية.

مجتمع الواجهة:
إن تطور الوسائط الإعلامية الجديدة وما ينعت بالعالم الافتراضي، ساهم ويساهم في انقلاب مستويات التشكيلة الاجتماعية، إلى درجة أصبحت فيها البنية الفوقية بنية تحتية. حيث صار الرمزي واقعا للواقعي الذي أصبح رمزيا لما كان ينعت بأنه رمزي. لقد أصبحنا أمام ما يمكن تسميته بمجتمعات أخرى تماما: مجتمعات الواجهة. حيث تغدو الواجهة مركز الحياة المعاصرة. إنها بمثابة ما ينعته ج.دوبورGuy Debord بالفرجة spectacle: "مجتمع الفرجة". إن الأمر لا يتعلق بتسارع التاريخ فحسب، بل يتعلق الأمر بتصيير العالم واجهة. إلى درجة أصبحت فيها المجتمعات وسائط لتلك الوسائط: صار الإنسان وسيطا لإنتاج الوسائط المعنية، ومن ثم تحويل الواقع الإنساني إلى فرجة. إذ لا يكاد أي فعل اجتماعي في الوجود إلا وتسارع نقله "افتراضيا" لكي تنفخ فيه وسائل التواصل الاجتماعي أو بالأحرى صناعة الواقع فرجة: أنطلوجياه؛ أنطولوجيا واجهته.

المثقف الرحال: بين المثقف-مع والمثقف-ضد:
ما موقع المثقف اليوم؟ ما موقعه في علاقة الدولة بالمجتمع والمنظومة بالفاعلين؟ هل للمثقف أن يكون مع أم ضد؟ أم عليه، أن يعلنها حركة مزدوجة بينية، من حيث هو رحال؟

إن الموقع الطبيعي للمثقف هو أن لا يكون له موقع طبيعي. موقع المثقف؟ في الهامش؛ هامش كل موقع يقدم أو يقدم نفسه كموقع، يمينيا كان أو يساريا، دولتيا أو مجتمعيا، مركزيا أو هامشيا. بهذا يكون المثقف مهاجرا في عمرانه ومغتربا في عقر داره، ومتحركا في سكونه. فلا يكون للمثقف موقعا مخصوصا إلا باعتباره رحالا: إن المثقف اليوم لا يمكن أن يكون إلا رحالا.