تصور القاصة الفلسطينة الشابة في نصوصها القصيرة الثلاثة لحظات مختلفة تشترك بأنها ذروة الفعل في الحدث، حيث الموت برصاص الأحتلال، أو بحدث قدري بشاحنة، أو شوقاً لزوجٍ أسير وهذا العنف والموت هي السمة الجوهرية لواقع الفلسطينيين الواقعين تحت الاحتلال منذ قيام دولة أسرائيل، والمقاطع السردية مروية بلغة سلسلة صافية صورت بحساسية ودقة ما وصفته.

ثلاث قصص

آيه كامل رباح

 

نهاية الطريق
تستبدل ضمادة بأخرى، لا شيء يوقف النزيف، ترى خيوط الدم تتلوى كالأفعى من ذراعها، تملأ الملاءات وتتجمع كبحيرة على الأرض، الألم ليس حادا ولكنه كممر يفضي إلى غيبوبة، ترى حواجز عالمها يتداعي، تحاول النهوض، تسير حتى باب الغرفة، تتذكر وجه أختها القتيلة، تصرخ، تركض حتى باب المنزل، تتذكر كيف وجهوا البنادق إلى أبيها هنا، تواصل تقدمها بينما تنزف، تصل إلى نهاية الشارع وتتذكر وداع أمها وقد امتلأ جسدها بالشظايا. ضوء القمر يتسلل من جرحها الآن، في الغيوم الواطئة فوقها استعادت وجوه أطفال حارتها تحت الأنقاض، أخيرا وحيدة تصل حدود المدينة، حيث شاهدت وجهها ضاحكا يتسلق الضياء.

 

اللقاء
التقيا مصادفة، كانت قد تغيرت كثيرا، صارت أكثر شبابا وقد امحت عن وجهها التجاعيد، لم تعد شجرة ذكريات كما كان يناديها، هو أيضا لاح لها من دون عكازه ونظاراته المتكسرة، لم يتعجبا كيف عرفا بعضهما منذ الوهلة الأولى، ابتسما وسط تدافع المارة، لم تمطر السماء لكنه لو كان فصل الشتاء لفعلتها، تناول يدها، عرفت تلك العيون التي انطفأت مرة ببرود خائف، وهو عرف تلك اليد التي سحقتها شاحنة وهي مشدودة إلى النجوم، تدافعت الدموع في تلك الأعين وسطع الحب فجأة كأن ذلك الترحال استغرق رفة عين، لم ير أحد الطفلين المتعانقين على رصيف تغمره دماء عجوزين ماتا للتو.

 

عبر الهاتف
كانت تنتظر أن تسمع صوته عبر الهاتف هذا المرة لتخبره أنها ستتمكن من زيارته في السجن أخيرا، تقافزت إلى سمعها صوت ضحكته المجروحة بحزن عميق، كان وقتها محدودا، فأخذت تواصل سرد تفوق ابنتهما في الثانوية وحصول ابنهما البكر على وظيفة بأجر جيد، طمأنته على صحة والدته المقعدة، كانت تأتيها ضحكته إثر كل خبر، حدثته عن العصافير التي تكاثرت وملأت العلية في غيابه، وعدته بأنهما سيحررانها معًا عندما يخرج، لم يضحك، نادت عليه عبر خط الهاتف الرفيع عدة مرات، قال أخيرا: لن أخرج أبدا، لا عليكِ، أطلقيها. أغلق السماعة كي لا تسمع صراخ قلبه وقبل أن يسمع هو صدى شهقة روحها الأخيرة.

كلمة
ليس بمقدور القلم أن يخط سوى كلمة واحدة على يدها، جميع الأطفال مطالبون بذلك، لأنهم كانوا صغارا بلا أسماء بعد، كان الجنود يسيرون بينهم يحثونهم على الإسراع باختيار كلمة تمثلهم قبل أن يقرروا ماذا سيفعلون بهم، نظرت إلى السماء، الجميع سيختارها قالت، نظرت إلى الشجرة، إلى ذبابة تحلق قرب وجهها، إلى سيارة يقودها شخص حزين وإلى فستانها، صورة أمها، تفحصت مجددا الذكريات، المراجيح، البحر، القمر، الشمس، الوردة، السرير، الليل. بدأ الجنود بانتزاع الأقلام، الأطفال شرعوا بالبكاء، ثم أمروهم برفع أكفهم في الشمس، كيف صنعت الأيدي عالما متكاملا هكذا ذاهبا ربما إلى الموت بينما طبعت على يدها الصغيرة بخوف عجول: حياة .!