ترجم متّى بن يونس "طراغوديا" بالمديح و"قوموديا" بالهجاء حين ترجم "فن الشعر" الأرسطي، وذلك لخلو الثقافة العربية من فن المسرح. في نصه يشير الكاتب إلى أن النقد الذي طال هذه الترجمة يتصف في خلفيته بالدونية، حيث يموضع الثقافة الغربية كمعيار جمالي وحضاري.

عن التراجيديا والكوميديا ومتّى بن يونس

عبد الفتاح كيليطو

كان التوحيدي يكره متّى بن يونس، حتى قال عنه إنه "كان يملي ورقة بدرهم مقتدري (نسبة إلى الخليفة العباسي المقتدر بالله) وهو سكران لا يعقل، ويتهكّم، وعنده أنه في ربح، وهو من الأخسرين أعمالاً، الأسفلين أحوالا"(1). ينبغي التعامل مع هذا الكلام بشيء من الحذر، فالتوحيدي أكبر هجّاء عرفه الأدب العربي، بل يُمكن اعتباره أسلط لساناً من الحطيئة. إلا أننا عندما نقرأ ترجمة متّى لـ"فن الشعر"، لا نملك إلا أن نميل إلى ما يقوله أبو حيان عنه. إنها ترجمة ركيكة منفرة، وكلامها يكاد يكون شبيهاً بهذيان المخمورين والموسوسين.

لا يغفر أحد اليوم لمتّى بن يونس إقدامه على ترجمة "طراغوديا" بالمديح و"قوموديا" بالهجاء. ومع ذلك يمكننا أن نتساءل عما إذا كانت ترجمة أخرى متاحة له آنئذ؟(2) ثم لا ننسَ أنه ترجم عن السريانية وليس عن اليونانية(3)، فلا نستبعد أن يكون سوء فهم كتاب أرسطو قد بدأ مع المترجم السرياني(4).

في كتابه ساعات حاسمة في تاريخ الإنسانية، يروي الكاتب النمساوي ستيفان زيفايغ أحداثا تاريخية قد تبدو تافهة في حد ذاتها، ولكنها هامّة جداً وخطيرة لما تمخض عنها من نتائج. فمثلا قبيل معركة واترلو، كان نابليون ينتظر النجدة من أحد ضباطه، لكن هذا الأخير ضلّ الطريق ولم يصل إلى ساحة المعركة إلاّ بعد قضي الأمر وحلّت الهزيمة بالإمبراطور. هكذا تغيّر وجه أوروبا بسبب شيء سخيف، ضابط ضلّ طريقه. وربما يمكن أن نضيف إلى الساعات الحاسمة التي رواها ستيفان زفايغ، تلك التي شرع فيها متّى بن يونس في نقل فن الشعر لأرسطو إلى العربية.

ولعلّ من الطريف أن نذكّر بما كتبه عبد الرحمن بدوي في هذا الشأن: "يخيل إلينا أنه لو قدر لهذا الكتاب، كتاب فن الشعر لأرسطو، أن يُفهم على حقيقته وأن يستثمر ما فيه من موضوعات وآراء ومبادئ، لعني الأدب العربي بإدخال الفنون الشعرية العليا فيه، وهي المأساة والملهاة، منذ عهد ازدهاره في القرن الثالث الهجري، ولتغيّر وجه الأدب العربي كله"(5).

يفتقر الأدب العربي إذن إلى الفنون الشعرية العليا، ومن هذا المنظور فإنه يتصف لا محالة بالدونية والنقص. والظاهر أن هذا ما كان ليحدث لو تُرجم فن الشعر ترجمة أمينة وجيّدة؛ فلو لم يخفق متّى بن يونس في ترجمته، لتغير وجه الأدب العربي كله… كان من الواجب أن يتغيّر، إلا أنه، ويا لسوء الحظ، ظل على حاله، لسبب تافه، لعِلّة كان بالإمكان تلافيها.

هكذا، وبجرة قلم مرير لا يعرف السخرية، يتمّ التشطيب على عشرة قرون من الأدب العربي. ولا يكتفي بدوي بذلك بل يضيف: "و من يدري! لعل وجه الحضارة العربية كله أن يتغيّر طابعه الأدبي كما تغيّرت أوروبا في عصر النهضة"(6). وجه الأدب العربي، وجه الحضارة العربية: كاد هذا الوجه أن يمسخ ويمحى؛ كاد العرب أن يفقدوا هويتهم وعروبتهم، وأن يصيروا أوروبيين. بل إنهم كادوا أن يتحوّلوا إلى أوروبيين قبل الأوان، أي قبل الأوروبيين! فإذا كان هؤلاء قد حقّقوا نهضتهم ابتداءً من القرن الخامس عشر، فإن أولئك كان بإمكانهم القيام بالنهضة نفسها ابتداءً من القرن التاسع، أي ستة قرون قبل الأوروبيين.

وإذا استرسلنا بعيدا على هذا النحو وذهبنا بالفكرة إلى أقصى حد، لاستخلصنا ما يلي: لو فهم العرب جيداً فن الشعر، لما كانت هناك ضرورة للنهضة الأوروبية؛ فما الداعي لأن يقوم الأوروبيون بنهضة يكون قد سبق للعرب أن أنجزوها واضطلعوا بها؟ كل ما في الأمر أنهم سيستيقظون ذات يوم فيجدون العرب قد حقّقوا النهضة منذ قرون، فلا يسعهم، والحالة هذه، إلا تقليدهم والتتلمذ عليهم. هكذا فإن ترجمة متّى الشنيعة عادت بالويل لا على العرب وحدهم –إذ حرمتهم من أن يكونوا أوروبيين- وإنما أيضاً على الأوربيين لأنها أخّرت نهضتهم لعدة قرون. كل هذا حصل بسبب كلمتين اثنتين كان مصير العالم أجمع متوقفاً على فهمها!

ولكن لم لا نقول إن العرب مدينون بالكثير لمتّى بن يونس؟ فربما قد يكون أنقذهم، بفضل رداءة ترجمته، من الخطر العظيم الذي كان يتهدّدهم. فلولاه لابتعدوا عما ألفوه وتعوّدوا عليه من فنون وأنماط أدبية، ولأقبلوا على دراسة الأدب اليوناني من أجل تقليده والنسج على منواله. بفضل متّى بن يونس وخيانة ترجمته إذن، تمكّن العرب من أن يظلوا يعتقدون أن شعرهم هو الشعر ولغتهم هي اللغة. لقد أنقذهم هذا الترجمان عن غير عمد، من دون أن ينوي ذلك أو يخطط له، ومن دون علم بما يفعل.

من دون علم؟ هل حقاً كان يجهل ما يقصده أرسطو بالطراغوديا والقوموديا؟ ومن يدري! لعله كان على علم تام بدلالتهما، ولعله تعمّد ترجمتهما بالمديح والهجاء… لحاجة في نفسه(7).

هذا أمر لا يمكن التأكّد منه على أية حال، لكن ما لا شك فيه هو أن متّى لم يكن ليعلم أنه مع مرور القرون سيتغيّر شيء ما في العالم، وسيغدو العرب في حاجة إلى نقل الآداب غير أدبهم، والتكلّم بلغات أخرى إلى جانب لغتهم.

(من كتاب لن تتكلم لغتي)

* * *

الهوامش

(1) الإمتاع والمؤانسة، ج 1، ص 107.

(2) يمكن في هذا السياق اعتبار حالة رفاعة رافع الطهطاوي عندما حاول تحديد المسرح: (ولا أعرف اسما عربيا يليق بمعنى "السبكتاكل" أو "التياتر"، غير أن لفظ "سبكتاكل" معناه منظر أو منتزه أو نجو ذلك، ولفظ "تياتر" معناه الأصلي كذلك، ثم سمي بها اللعب ومحله، ويقرب أن يكون نظيرها أهل اللعب المسمى خيالياً، بل الخيالي نوع منها)(تخليص الإبريز، ص 207).

(3) وهو ما عيّره به أبو سعيد السيرافي في المناظرة الشهيرة التي جرت بينها: "أنت إذا لست تدعونا إلى علم المنطق، إنما تدعو إلى تعلّم اللغة اليونانية وأنت لا تعرف لغة يونان، فكيف صرت تدعونا إلى لغة لا تفي بها؟ […] على أنك تنقل من السريانية، فما تقول في معان متحولة بالنقل من لغة يونان إلى لغة أخرى سريانية، ثم من هذه إلى أخرى عربية؟"(أبو حيان التوحيدي، الإمتاع والمؤانسة، ج 1، ص 111)

(4) عن الترجمة السريانية التي لم تصلنا منها إلا أسطر قليلة، أنظر فولفهارت هاينريش، الشعر العربي والشعرية اليونانية (بالألمانية)، ص 112–118.

(5) عبد الرحمن بدوي، "تصدير عام" لكتاب أرسطوطاليس، فن الشعر، ص 56.

(6) نفسه.

(7) قد يصلح هذا الافتراض موضوعا لرواية.