إذ تنعي (الكلمة) المفكر المصري الكبير سمير أمين الذي رحل عن عالمنا الشهر الماضي، وكانت قد نشرت على مد مسيرتها عددا من دراساته، تجد أن أفضل وسيلة لتأبينه هي نشر بعض مقالاته الأخيرة، كي تظل بيننا رؤاه وأفكاره المهمة والمغيّرة التي تستهدف إصلاح هذا العالم الرديء.

ست مقالات أخيرة

سمير أمين

(1) «خريف الرأسماليّة»:

منذ ثلاثة عقود، يتميّز النظام القائم بالتمركز المفرط للسلطة في جميع أبعادها، المحليّة والعالميّة، الاقتصاديّة، السياسيّة والعسكريّة، الاجتماعيّة والثقافيّة. حولت بضعة آلاف من الشركات العملاقة وبعض المئات من المؤسسات الماليّة، المرتبطة بتحالفات احتكاريّة، أنظمة الإنتاج الوطنيّة والمعولمة إلى مجرد مقاولين عاملين لحسابها. بذلك، صارت الأوليغارشيات الماليّة تستأثر بجزء متنامٍ من إنتاج العمل والشركة الذي بات ريعاً لصالحها الخاصّ.

بعد تدجينها للأحزاب السياسيّة التقليديّة الكبرى من «اليمين» و«اليسار»، والنقابات ومنظمات ما يسمى المجتمع المدنيّ، صارت الأوليغارشيات تحظى بسلطة سياسيّة مطلقة، وصار كهنة الإعلام الخاضع لها يختلقون التضليل الإعلامي الضروري لجعل الرأي العام غير مسيّس. دمرت الأوليغارشيات التعدديّة الحزبيّة، وشيّدت في مكانها ما يشبه نظام الحزب الواحد، وهو حزب رأس المال الاحتكاريّ، وفقدت الديمقراطيّة التمثيليّة شرعيّتها بإفراغها من معناها.

يستجيب نظام الرأسماليّة المتأخرة هذا، المغلق بشكل كامل، لمعايير «الشموليّة» التي تبقى حتى الآن «ناعمة»، لكنّها مستعدة دائماً إلى العودة للعنف الشديد ما إن بادر ضحاياها –أغلبيّة العمال والشعوب- إلى الثورة. لذلك يجب تقييم التحوّلات المتعددة، المرتبطة بما يسمى مسار «التحديث»، على ضوء التطوّر الكبير الذي تناولناه في الأسطر السابقة. توجد أيضاً تحديات بيئيّة كبرى (خاصّة مسألة التغيّر المناخيّ) لا تحمل الرأسماليّة أيّ إجابة عنها (ولا يعد اتفاق باريس إلّا ذر رماد في أعين الجماهير الساذجة)، وتقدمات علميّة وتجديدات تكنولوجيّة (معلوماتيّة من بين أشياء أخرى) صارت خاضعة على نحو مشدّد لمتطلبات الريع الماليّ الذي يجب أن توفّره للاحتكارات. تبدو سلطة أوليغارشيات الإمبرياليّة المعاصرة أبديّة، في دول الثالوث وكذلك على النطاق العالميّ (نهاية التاريخ). مع ذلك، فإن هذا النظام لن يدوم لعدد من الأسباب:
1. يُصوّر النظام الرأسماليّ المعاصر بأنّه «منفتح» على النقد والإصلاح، وأنّه خلاّق ومرن. وقد بدأت بعض الأصوات بادعاء وضع نهاية لمفاسد نظامه الماليّ المنفلت وسياسة التقشّف الدائم المصاحبة له، وبالتالي »إنقاذ الرأسماليّة»، لكن تبقى تلك الدعوات بلا صدى: السياسات الجارية تخدم مصالح أوليغارشيات دول الثالوث –الوحيدة المهمّة- وهي تضمن النموّ الدائم لثرواتها، رغم الركود الاقتصاديّ الذي يعاني منه الثالوث نفسه.
2. يشكّل النظام الفرعيّ الأوروبي جزءاً لا يتجزأ من العولمة الإمبرياليّة، وهو مصمّم بنفس رجعيّ، معاد للاشتراكيّة، مؤيد للإمبرياليّة، وخاضع للإدارة العسكريّة الأميركيّة. تمارس ألمانيا هيمنة داخل ذلك النظام الفرعيّ، خاصّة ضمن إطار منطقة اليورو وأوروبا الغربيّة الملحقة بالولايات المتحدة، على غرار أميركا اللاتينية. تخدم «أوروبا الألمانيّة» المصالح القوميّة للأوليغارشيات الجرمانيّة، التي يُعبّر عنها بغطرسة شاهدناها خلال الأزمة اليونانيّة. أوروبا هذه لن تدوم وقد بدأ انهيارها بالفعل.
3. يتناقض ركود النموّ في دول الثالوث مع تسارعه في مناطق من الجنوب استطاعت الإفادة من العولمة. لقد استنتجنا سريعاً أنّ الرأسماليّة ما زالت حيّة، لكنّ مركز جاذبيتها بصدد الانتقال من دول الغرب الأطلسيّ إلى الجنوب الكبير، خاصّة الآسيويّ. وفي الواقع، يجب الالتفات إلى اتخاذ العوائق أمام هذه الحركة التاريخيّة التصحيحيّة طابعاً أكثر عنفاً – من ذلك استخدام أداة الاعتداءات العسكريّة، إذ لا يمكن أن تسمح القوى الإمبرياليّة لبلد طرفيّ مهما كان كبيراً أو صغيراً- أن يتحرّر من هيمنتها.

4. يعزز التدمير البيئيّ، المرتبط ضرورة بالتوسّع الرأسماليّ، أسباب عدم إمكان ديمومة هذا النظام.
هذا زمن «خريف الرأسماليّة»، دون أن يكون معزّزاً بظهور «ربيع الشعوب» وبأفق اشتراكيّ. لا يجب أن نقع في وهم إمكان إجراء إصلاحات تقدميّة رئيسيّة في صلب الرأسماليّة، إذ لا يوجد بديل عدا ذلك الذي يُمكّن من تجديد اليسار الجذريّ الأمميّ القادر على تحقيق –وليس فقط تصوّر- إنجازات اشتراكيّة. يجب الخروج من الرأسماليّة المتأزمة هيكليّاً وليس السعي إلى الخروج من هذه الأزمة الرأسماليّة.

توجد فرضيّة أولى تنفي وجود عامل قادر على التأثير في ارتباط شعوب الثالوث بخياره الإمبرياليّ، خاصّة في أوروبا. ما يزال ضحايا النظام قابعين في عجزهم عن تصوّر الخروج عن سبيل «المشروع الأوروبيّ»، ويمثّل تفكيك ذلك المشروع شرطاً مسبقاً لإعادة بنائه لاحقاً بنظرة مختلفة. وتشهد تجارب سيريزا، بوديموس، لافرونس أنسوميز، وتردد حزب اليسار الألمانيّ على حجم التحديّ وتعقّده. ولا يقود إلقاء تهمة «القوميّة» عوض نقد أوروبا إلى أيّ مكان، المشروع الأوروبي بصدد الذوبان شيئاً فشيئاً في مشروع القوميّة البرجوازيّة الألماني. لا يوجد بديل، في أوروبا وخارجها، غير وضع برامج قوميّة شعبيّة وديمقراطيّة (ليست برجوازيّة، بل معادية للبرجوازيّة)، تبدأ في الانفكاك عن العولمة الإمبرياليّة. يجب تفكيك المركزة المفرطة للثروة والسلطة المرتبطة بالنظام القائم.

الخيار الأكثر احتمالاً ضمن هذه الفرضيّة هو «إعادة خلق» على غرار ما حصل في القرن العشرين: إحراز إنجازات في بعض أطراف النظام فقط. لكن يجب أن نعلم أن تلك الإنجازات ستكون هشّة مثل ما كانت في الماضي، وأن نعلم للسبب ذاته أنّ الحروب الدائمة التي خاضتها المراكز ضدّها تعود في جزء كبير منها إلى محدوديّتها وانحرافاتها. على العكس من ذلك، تفتح فرضيّة تقدّم أفق أمميّة العمال والشعوب السبل أمام تطوّرات أخرى، ضروريّة وممكنة.
ترتبط أولى تلك السبل بـ«انهيار الحضارة»، حيث تقتضي أنّ لا يتحكّم أحد في التطوّرات، بل تسلك طريقها فقط بدافع «الضرورة». في حقبتنا هذه، يجب الأخذ في الاعتبار القدرة التدميريّة التي تملكها القوى (التدمير البيئيّ والعسكريّ)، ما يجعل، كما حذّر ماركس في زمنه، التهديد بتدمير المعارك لجميع المعسكرات المتنازعة حقيقيّاً. على عكس ذلك، تتطلب السبيل الثانية تدخلاً واضحاً ومنظماً لجبهة العمال والشعوب الأمميّة. يجب أن يكون تأسيس أمميّة جديدة للعمال والشعوب الهدف الرئيسيّ لخيرة المناضلين المقتنعين بالطابع الكريه وانعدام مستقبل النظام الرأسماليّ الإمبرياليّ القائم. المسؤوليّة ثقيلة وتتطلب المهمّة أعواماً لتعطي نتائج ملموسة. من جانبي، أتقدّم بالمقترحات التالية:
1. استهداف خلق منظّمة (الأمميّة الجديدة) وليس مجرّد «حركة»، ويقتضي ذلك أن نذهب أبعد من تصوّر وضع منتدى نقاشات. ويقتضي ذلك أيضاً مراعاة أوجه القصور المرتبطة بفكرة ما يسمى «حركات» أفقيّة، التي ما زالت سائدة، والمعادية للمنظمات المسماة عموديّة بحجّة أنّها مضادة للديمقراطيّة بطبعها. تولد المنظمة من النشاط الذي يفرز بنفسه دوائر «مسيّرة». قد تطمح الأخيرة إلى الهيمنة، أو حتى التلاعب بالحركات؛ لكن يمكن أن نحتمي من ذلك الخطر عبر وضع قوانين مناسبة. وهذا مطروح للنقاش.

2. يجب دراسة التجارب التاريخيّة للأمميات العماليّة بجديّة، حتى وإن كنا نعتقد أنّها شيء من الماضي، ليس من أجل «اختيار» نموذج من بينها، بل لخلق الشكل الأكثر مناسبة للشروط المعاصرة.

3. يجب توجيه الدعوة لعدد محترم من الأحزاب والمنظمات المناضلة، ويجب تأسيس هيئة إشراف أوليّة بسرعة لبدء تنفيذ المشروع.

(2) الفاشية في الجنوب المعاصر
اعتمد اندماج أمريكا اللاتينية فى الرأسمالية المعولمة في القرن التاسع عشر على استغلال الفلاحين، الذين تراجعت مكانتهم إلى مستوى عمال السخرة، وتعرضوا لممارسات وحشية من كبار ملاك الأراضي. ونجم عن تعزيز هذا التكامل في القرن العشرين ظاهرة «تحديث الفقر». كما أدت الهجرة السريعة من الريف إلى أشكال جديدة من الفقر في الأحياء الحضرية الفقيرة المعاصرة، جاءت لتحل محل الأشكال القديمة من الفقر الريفي. وفى نفس الوقت، تم تحديث أشكال السيطرة السياسية على الجماهير عبر إقامة الديكتاتوريات، وإلغاء الديمقراطية الانتخابية، وحظر الأحزاب والنقابات، ومنح المؤسسات الأمنية »الحديثة» جميع حقوق الاعتقال والتعذيب، من خلال أساليبهم الاستخباراتية. وخدمت دكتاتوريات أمريكا اللاتينية في القرن العشرين الكتلة الرجعية المحلية (كبار ملاك الأراضي، البرجوازية الكومبرادورية، والطبقات المتوسطة أحيانا التي استفادت من هذا النوع من التنمية الرثة)، ولكنها خدمت، قبل كل شيء، رأس المال الأجنبى المسيطر، وتحديدا رأس المال الأمريكى، الذى، لهذا السبب، قام بدعم هذه الدكتاتوريات، إلى أن أطيح بها خلال تفجر الحركات الشعبية، مؤخرا.

وبداية من الثمانينيات، حلت التنمية الرثة كإحدى سمات انتشار الرأسمالية الاحتكارية، محل النظم الوطنية الشعبوية في عصر باندونج (1955ــ1980) في آسيا وأفريقيا. واتخذت هذه التنمية الرثة أيضا أشكالا أقرب إلى كل من تحديث الفقر وتحديث العنف القمعي. وتقدم تجاوزات نظم ما بعد الناصرية والبعثية في العالم العربى أمثلة جيدة على ذلك. ولا ينبغي لنا أن نجمع في سلّة واحدة بين الأنظمة الشعبوية القومية في عصر باندونج، والأنظمة التي خلفتها وقفزت إلى قطار النيوليبرالية المعولمة، بدعوى أنها جميعا نظم «غير ديمقراطية». فعلى الرغم من الممارسات السياسية الاستبدادية، استفادت نظم عصر عدم الانحياز، من الشرعية الشعبية التي تحققت لها بسبب كل من إنجازاتها الفعلية، التي أفادت غالبية العمال، وكذلك مواقفها المعادية للامبريالية. وسرعان ما فقدت الديكتاتوريات، التي خلفتها، هذه الشرعية عندما قبلت الخضوع للنموذج النيوليبرالى المعولم وما صاحبها من تنمية رثة. وأتاحت السلطة الشعبية والوطنية، وإن لم تكن ديمقراطية، الفرصة لعنف الشرطة كذلك، في خدمة المشروع النيوليبرالى، ومكافحة المشروع الشعبي، والمشروع الوطني.

وقد أثارت الانتفاضات الشعبية الأخيرة، ابتداء من عام 2011، المطاعن والشكوك في الديكتاتوريات. ولن يتمكن أي بديل من تحقيق الاستقرار إلا إذا نجح في الجمع بين الأهداف الثلاثة التي اندلعت من أجلها الثورات: استمرار تطبيق الديمقراطية في المجتمع والسياسة، واتخاذ خطوات اجتماعية تقدمية، وتأكيد السيادة الوطنية. ونحن لا نزال بعيدين عن ذلك. ولهذا السبب، هناك بدائل متعددة ممكنة منظورة على المدى القصير. فهل يمكن أن تكون هناك إمكانية لعودة نموذج وطني شعبوي كما كان الحال في عهد باندونج، ربما مع لمحة ديمقراطية؟ أو تبلور أكثر وضوحا للجبهة الديمقراطية، والشعبية، والوطنية؟ أو الانغماس في الوهم المتخلف، الذى يتخذ فى هذا السياق، شكل «أسلمة» السياسة والمجتمع؟

وفى إطار الصراع المشوش إلى حد كبير حول الاستجابات الثلاث الممكنة لهذا التحدي، كان اختيار القوى الغربية، الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون، هو تقديم الدعم التفضيلي إلى جماعة الإخوان المسلمين و/أو غيرها من منظمات الإسلام السياسي. ولا شك أن السبب في ذلك بسيط وواضح وهو أن هذه القوى السياسية الرجعية تقبل ممارسة السلطة في إطار النيوليبرالية المعولمة (وبالتالي التخلي عن أي احتمال لتحقيق العدالة الاجتماعية والاستقلال الوطني). وهذا هو الهدف الوحيد الذى تسعى إليه قوى الإمبريالية.

وبالتالي ينتمى برنامج الإسلام السياسي إلى نوع الفاشية الموجود في المجتمعات التابعة. وهو يشترك مع جميع أشكال الفاشية في اثنتين من الخصائص الأساسية:

عدم تحدى جوانب أساسية من النظام الرأسمالي (وفى هذا السياق لا يرقى إلى تحدى نموذج التنمية الرثة المرتبط بانتشار الرأسمالية النيوليبرالية المعولمة). واختيار أشكال الدولة البوليسية المناهضة للديمقراطية، في الإدارة السياسية (مثل حظر الأحزاب والتنظيمات، وفرض الأسلمة القسرية على القيم الأخلاقية).

وهنا يتقبل خيار معاداة الديمقراطية الذى تتخذه القوى الإمبريالية (بينما تطرح كذبا الخطاب المؤيد للديمقراطية، وسط طوفان الدعاية التي نتعرض لها) «التجاوزات» المحتملة من الأنظمة الإسلامية. وهذه التجاوزات محفورة في «جينات» وسائط تفكير هذه النظم، مثلها مثل غيرها من أنواع الفاشية، وذلك للأسباب نفسها: الطاعة العمياء للقادة، والالتزام المتعصب بدين الدولة، وتشكيل قوات قمع تستخدم لإخضاع المواطنين.

ففي الواقع، وهذا يمكن ملاحظته بالفعل، لا يحقق برنامج «الإسلاميين» تقدما إلا فى سياق حرب أهلية (بين، السنة والشيعة، على سبيل المثال) ولا ينجم عن ذلك غير الفوضى الدائمة. من ثم، فهذا النوع من السلطة الاسلامية، ضمانة لأن تظل المجتمعات المعنية عاجزة تماما عن إثبات نفسها على الساحة العالمية. فمن الواضح أن الولايات المتحدة تخلت عن سعيها للحصول على شيء أفضل «حكومة محلية مستقرة وخاضعة لها» لصالح «ثاني أفضل الخيارات».

وتجرى هناك تطورات وخيارات مماثلة، خارج العالم العربي المسلم، كما هو الحال في الهند على سبيل المثال مع الحكومة الجديدة المنتمية لحزب بهاراتيا جاناتا.

والخلاصة، أن الفاشية عادت إلى الغرب والشرق، والجنوب؛ ومن الطبيعي أن ترتبط هذه العودة بانتشار الأزمة النظامية للرأسمالية الاحتكارية. ويستلزم لجوء المراكز المهيمنة على هذا النظام المعرض للضغط، لخدمات الحركة الفاشية سواء كان اللجوء فعليا أو محتملا قدرا أعظم من اليقظة، من جانبنا. ومن المتوقع أن تتفاقم هذه الأزمة، وبالتالي، يصبح التهديد باللجوء إلى الحلول الفاشية خطرا حقيقيا. كما أن تأييد هيلارى كلينتون لدعوات الحرب الأمريكية لا يبشر بالخير بالنسبة للمستقبل القريب.

(3) عودة الفاشية فى ظل أزمة الرأسمالية والإمبريالية المعاصرة
ليس من قبيل المصادفة أن يربط عنوان هذه المقال بين عودة الفاشية في المشهد السياسي وأزمة الرأسمالية المعاصرة؛ حيث تمثل الفاشية استجابة سياسية معينة للتحديات التي قد تواجه إدارة المجتمع الرأسمالي في ظروف محددة. وقد كانت الحركات السياسية التي يمكن أن تسمى بحق فاشية في مقدمة المشهد السياسي في عدد من البلدان الأوروبية، وتولت السلطة، خاصة خلال الثلاثينيات حتى 1945. واشتركت جميع هذه الأنظمة الفاشية في خاصتين:
كانت جميعها في تلك الظروف راغبة في إدارة الحكومة والمجتمع على نحو لا يسمح بالتشكيك في المبادئ الأساسية للرأسمالية، خاصة الملكية الرأسمالية الخاصة على وجه التحديد، بما في ذلك الرأسمالية الاحتكارية الحديثة.

دائما ما يستند هذا الاختيار الفاشي لإدارة مجتمع رأسمالي في أزمة، على رفض «الديمقراطية» في إطار قيم تعارض الخضوع لمتطلبات الانضباط الجماعي وسلطة القائد الأعلى. ثم يصاحب هذا التحول عن القيم دائما عودة الفكر المتخلف القادر على إسباغ الشرعية على تدابير الإخضاع التي يتم تطبيقها. ويشكل إعلان الضرورة المفترضة للعودة إلى الماضي والخضوع لدين الدولة أو لبعض الخصائص المفترضة لـ«الأمة» المنتمية إلى «العنصر» أو «العرق»، غطاء للخطابات الأيديولوجية التي طرحتها القوى الفاشية.

أولا: فاشية القوى الرأسمالية «المتقدمة» الكبرى التي تطمح إلى الهيمنة:

وتعتبر النازية نموذجا لهذا النوع من الفاشية. حيث أصبحت ألمانيا قوة صناعية كبرى بداية من سبعينيات القرن التاسع عشر، وصارت منافسا للقوتين المهيمنتين في تلك الفترة (بريطانيا وفرنسا) وللدولة التي تطمح للهيمنة (الولايات المتحدة). وبعد هزيمتها عام 1918، كان عليها أن تواجه تداعيات فشلها في تحقيق تطلعات الهيمنة. فصاغ هتلر خطته بوضوح: فرض الهيمنة الألمانية على أنحاء أوروبا بما في ذلك روسيا بمعنى هيمنة رأسمالية الاحتكارات التي دعمت صعود النازية. وكان يميل إلى قبول تسوية مع خصومه الرئيسيين: بحيث يسيطر هو على أوروبا وروسيا، ويتم منح الصين لليابان، وبقية دول آسيا وأفريقيا لبريطانيا العظمى، والأمريكتين إلى الولايات المتحدة. وتمثل خطؤه في الاعتقاد أن مثل هذه التسوية كانت ممكنة: حيث لم تقبل ذلك بريطانيا العظمى والولايات المتحدة، في حين أيدته اليابان من ناحية أخرى. حيث تنتمى الفاشية اليابانية إلى نفس الفئة التي تنتمى إليها الفاشية الألمانية.

ثانيا: فاشية القوى الرأسمالية من الدرجة الثانية:

ويعتبر موسولينى في إيطاليا، المثال الرئيسي عليها. فقد كانت الموسولينية هي استجابة اليمين الإيطالي (الأرستقراطية القديمة، البرجوازية الجديدة، والطبقات الوسطى) لأزمة العشرينيات وللخطر الشيوعي المتنامي. على أنه لم يكن للرأسمالية الإيطالية ولا أداتها السياسية فاشية موسولينى الطموح إلى الهيمنة على أوروبا، ناهيك عن العالم. فقد أدرك موسولينى أن استقرار نظامه يعتمد على تحالفه كتابع إما مع بريطانيا العظمى (سيدة البحر المتوسط) أو ألمانيا النازية. واستمر تردده بين التحالفين الممكنين حتى عشية الحرب العالمية الثانية. وتنتمى فاشية كل من سالازار وفرانكو إلى نفس هذا النوع.

ثالثا: فاشية القوى المهزومة:

على غرار حكومة فيشى في فرنسا، حيث اختارت الطبقة العليا «هتلر بدلا من الجبهة الشعبية». وقد اضطر هذا النوع من الفاشية، المرتبط بالهزيمة والخضوع إلى «أوروبا الألمانية»، إلى التراجع إلى الوراء بعد هزيمة النازيين.

رؤية اليمين الغربي المؤيدة للفاشية في الماضي والحاضر

كان اليمين في أوروبا بين الحربين العالميتين مؤيدا دائما للفاشية. حتى إن تشرشل نفسه، لم يخف أبدا تعاطفه مع موسولينى. ولم يكتشف رؤساء الولايات المتحدة، والحزبان الديمقراطي والجمهوري، إلا في وقت متأخر فقط، الخطر الذى تمثله ألمانيا هتلر وقبل كل شيء، إمبراطورية اليابان الفاشية. وقد اعترف ترومان؛ بالسخرية الأمريكية المعهودة بما يعترف به الآخرون سرا: ترك الحرب لتنهك أبطالها ألمانيا، روسيا السوفياتية، والدول الأوروبية المهزومة- والتدخل في وقت متأخر للغاية من أجل جنى الفوائد. ولا يعتبر هذا، على الإطلاق، تعبيرا عن موقف مبدئي ضد الفاشية. ولم يظهر أي تردد في إعادة الاعتبار لسالازار وفرانكو في عام 1945.

ولم تثر معاداة هتلر للسامية الازدراء إلا بعد ذلك بكثير، عندما وصلت إلى أعلى مراحل الجنون القاتل. وكان التركيز على كراهية «البلشفية اليهودية» التي أثارتها خطب هتلر شائعا بين كثير من السياسيين. ولم تظهر ضرورة إدانة معاداة السامية من حيث المبدأ، إلا بعد هزيمة النازية. وصارت المهمة أسهل لأن من نصبوا أنفسهم ورثة «ضحايا المحرقة» أصبحوا الصهاينة في إسرائيل، حلفاء الإمبريالية الغربية ضد الفلسطينيين والعرب الذين لم يكن لهم علاقة بأهوال معاداة أوروبا للسامية!

وفى ألمانيا الغربية، تركت الحكومة المحلية ورعاتها (الولايات المتحدة، وبشكل ثانوي بريطانيا العظمى وفرنسا) جميع من ارتكبوا جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، باسم «المصالحة». ويعتبر تأييد الأحزاب الاشتراكية في أوروبا الغربية، لحملات مناهضة الشيوعية، مسئولا عن عودة الفاشية، بعد ذلك. وفى بداية التسعينيات، سرعان ما أعيد الاعتبار للفاشية في أوروبا الشرقية في أوائل 1990. فقد كانت جميع الحركات الفاشية في البلدان المعنية، من الحلفاء المخلصين، أو المتعاونين بدرجات متفاوتة مع الهتلرية. فمع اقتراب الهزيمة، انتقل عدد كبير من قادتها النشطاء إلى الغرب وكان من الممكن، بالتالي، «أن يستسلموا» للقوات المسلحة الأمريكية. وقد وجدت جميعها ملاذا في الولايات المتحدة وكندا. وحظيت بتدليل السلطات بسبب معاداتها الشرسة للشيوعية! وهناك دراسات جيدة توفر كل ما يلزم من أدلة لا تقبل الجدل على التواطؤ بين أهداف السياسة الأمريكية (ووراءها أوروبا) وأهداف الفاشيات المحلية في أوروبا الشرقية (على وجه التحديد، أوكرانيا). وعلى سبيل المثال، كتب البروفيسور دميترو دونتسوف، جميع أعماله في كندا حتى وفاته (عام 1975)، ولم تكن أعماله تهاجم الشيوعية بعنف فقط، حيث كانت «اليهودية البلشفية» مصطلحه المعتاد، ولكنها أيضا كانت في جوهرها معادية للديمقراطية. وأيدت حكومات ما يسمى الدول الديمقراطية في الغرب (بل إنها مولت ونظمت) «الثورة البرتقالية»، أي الثورة المضادة الفاشية في أوكرانيا. وفى وقت سابق، في يوغوسلافيا، وكانت قد مهدت أيضا الطريق للمجازر الكرواتية.

وهناك طريقة ذكية بسيطة تستخدمها وسائل الإعلام «المعتدلة» لإخفاء دعمها لهؤلاء الفاشيين: فهي تستخدم مصطلح «القومية» بديلا عن الفاشية. فهل يمكن أن يكون هؤلاء الراسخون في الفاشية «قوميين» حقا، لمجرد أنهم يقولون ذلك؟ لا يستحق القوميون اليوم هذه التسمية إلا إذا كانوا يشككون في موقف القوى المهيمنة فعليا على العالم المعاصر، أي الاحتكارات في الولايات المتحدة وأوروبا. ولكن من يسمون بـ «القوميين» هم أصدقاء لواشنطن وبروكسل وحلف شمال الأطلسي. وتصل «قوميتهم» إلى الكراهية الشوفينية لجيرانهم الأبرياء غير المسئولين إطلاقا عن مصائبهم، حيث إن «المهاجرين» هم اليمين المتطرف الجديد في أوروبا.

ولا شك أن الخطر الفاشي يبدو اليوم كما لو أنه لا يشكل خطرا على النظام «الديمقراطي» في الولايات المتحدة وأوروبا. حيث لا يجعل التواطؤ بين اليمين البرلماني الكلاسيكي والليبراليين الاجتماعيين من الضروري على رأس المال المهيمن، اللجوء إلى خدمات اليمين المتطرف الذى يظهر في أعقاب الحركات الفاشية التاريخية. ولكن ما الذى ينبغي أن نستنتجه من النجاحات الانتخابية التى حققها اليمين المتطرف خلال العقد الماضي؟ من الواضح أن الأوروبيين أيضا ضحايا انتشار الرأسمالية الاحتكارية. هكذا، يمكننا أن نرى لماذا، يختارون العزوف عن الانتخابات أو يلجؤون إلى التصويت لصالح اليمين المتطرف عندما يشهدون التواطؤ بين اليمين وما يسمى اليسار الاشتراكى؟ وفى هذا السياق، يمكن أن تكون مسئولية اليسار الراديكالي، ضخمة: وإذا امتلك هذا اليسار الجرأة على اقتراح تقدم حقيقي يتجاوز الرأسمالية الحالية، فسوف يكتسب المصداقية التي يفتقر إليها.

وهناك ملاحظة أخيرة حول الحركات الفاشية، حيث يبدو أنها غير قادرة على معرفة متى وكيف تتوقف عن جعل مطالبها عبادة القائد والطاعة العمياء، والاقتناع البالغ بالأفكار الأسطورية الزائفة العرقية أو الدينيةـ التي تنشر التعصب، وتجند الميليشيات لأعمال العنف بما يجعل من الفاشية قوة يصعب السيطرة عليها. ولا مفر من الأخطاء، التي تتجاوز حتى الانحرافات غير المنطقية من وجهة نظر المصالح الاجتماعية التي يخدمها الفاشيون.

(4) الإسلام السياسي في خدمة الإمبريالية
جميع التيارات التي تدعي الانتماء إلى الإسلام السياسي تعلن "خصوصية الإسلام"، وفي رأيهم الإسلام لا يعرف أي فصل بين السياسة والدين، وهو أمر يفترض أنه مختلف عن المسيحية، ولا يفيد في شيء أن يذكرهم المرء، كما فعلتُ، أن ملاحظاتهم تعيد كلمة فكلمة تقريباً ما قاله الرجعيون الأوروبيون في بداية القرن التاسع عشر (مثل بونالد Bonald وميتر Maistre) لإدانة الفصل الذي أحدثه التنويرEnlightenment  والثورة الفرنسية في تاريخ الغرب المسيحي. على أساس ذلك الموقف يختار كل تيار من الإسلام السياسي أن يقود معركته على أرضية الثقافة، غير أن "الثقافة" قلصت في الواقع الحالي إلى قول اصطلاحي بالانتماء إلى دين محدد.

وفي الحقيقة أن مناضلي الإسلام السياسي لا يهتمون بمناقشة الدوغما (العقائد) التي تؤلف الدين. التأكيد الشعائري على العضوية في الجماعة هي كل ما يشغلهم. ومثل هذه الرؤية للواقع في العالم المعاصر ليس مؤلماً فقط بسبب الفراغ الواسع الذي ينطوي عليه للفكر، وإنما أيضاً لأنه يبرر استراتيجية الإمبريالية في إحلال ما يسمى بصراع الحضارات بديلاً للصراع بين المراكز الإمبريالية والأطراف المُهيمن عليها. إن التشديد الوحيد على الحضارة (الثقافة) يسمح للإسلام السياسي بأن يحذف من كل مجالات الحياة المواجهات الاجتماعية الواقعية بين الطبقات الشعبية والنظام الرأسمالي العالمي الذي يضطهدهم ويستغلهم. مناضلو الإسلام السياسي لا وجود حقيقياً لهم في المجالات التي تجري فيها صراعات اجتماعية واقعية، وقادتهم يكررون باستمرار أن مثل تلك الصراعات لا أهمية لها. الإسلاميون موجودون فقط في مجالات المدارس المفتوحة والمستوصفات الصحية، ولكن ليست هذه سوى أعمال إحسان، وسوى وسيلة للتخريب. إنها ليست وسيلة لدعم كفاح الطبقات الشعبية ضد النظام المسؤول عن فقرهم.

على أرض المسائل الاجتماعية الحقيقية يقف الإسلام السياسي في خندق الرأسمالية والإمبريالية المهيمنة، إنه يدافع عن مبدأ الطبيعة المقدسة للملكية، ويجيز عدم المساواة وكل متطلبات إعادة الإنتاج الرأسمالي، ودعم الإخوان المسلمين في البرلمان المصري للقوانين الرجعية الحديثة التي تعزز حقوق ملكية المالكين على حساب حقوق المزارعين المستأجرين (ويؤلفون أغلبية الفلاحين الصغار) ليس سوى مثال بين فئات أخرى. لا يوجد مثال ولو قانوناً رجعياً واحداً، مقراً في أي بلد إسلامي عارضته الحركات الإسلامية. زيادة على ذلك، مثل تلك القوانين تقر وتنشر بموافقة قادة النظام الإمبريالي. الإسلام السياسي ليس ضد الإمبريالية، حتى ولو ظن مناضلوه عكس ذلك ! إنه حليف ثمين للإمبريالية، وهذه تعرف ذلك، ومن السهل أن يفهم المرء والحالة هذه، أن الإسلام السياسي بقي دوماً في صف الطبقة الحاكمة السعودية والباكستانية، عدا عن ذلك كانت تلك الطبقات منذ البداية الأولى من بين أنشط المشجعين له.

البرجوازية الكومبرادورية المحلية، والأغنياء الجدد، المستفيدين من العولمة الإمبريالية الحالية يدعمون الإسلام السياسي بسخاء، وهذا تخلى عن المنظور المعادي للإمبريالية، واستبدله بالموقف "المعادي للغرب" (تقريباً "المعادي للمسيحية")، الذي لا يفعل بداهة سوى أن يقود المجتمعات ذات العلاقة إلى مأزق، ولا يؤلف بالتالي عائقاً لنشر السيطرة الإمبريالية على النظام العالمي. الإسلام السياسي ليس فقط رجعياً في بعض المسائل (ولا سيما فيما يتعلق بوضع المرأة)، وربما هو مسؤول عن التعصب المتطرف الموجه ضد المواطنين غير المسلمين (مثل الأقباط في مصر)، إنه رجعي بأساسه، ومن الواضح بالتالي أنه لا يستطيع المساهمة في التقدم في تحرير الشعب.
تطرح مع ذلك ثلاث مبررات لتشجيع الحركات الاجتماعية جملة للدخول في حوار مع حركات الإسلام السياسي، الأول هو أن الإسلام السياسي يعبئ جماهير شعبية عديدة، لا يمكن تجاهلها أو احتقارها. ثمة صور عديدة تعزز حتماً هذا الطرح، لكن يجب على المرء أن يحافظ على صفاء ذهنه، وأن يقوّم بشكل صحيح التعبئة المعنية. "النجاحات" الانتخابية، التي نظمت توضع في حجمها حالما تخضع لمزيد من التحليل الدقيق. أذكر هنا مثلاً، النسبة الكبيرة من الامتناع عن التصويت ـ أكثر من 75% ! ـ في الانتخابات المصرية. إن قوة الشارع الإسلامي هي إلى حد كبير مجرد الصورة المعكوسة لضعف اليسار المنظم، الغائب عن المجالات التي تحصل فيها الصراعات الاجتماعية الجارية.
حتى ولو قبل المرء أن الإسلام السياسي يعبئ حالياً أعداداً كبيرة، أذلك يبرر الاستنتاج أن اليسار يجب أن يحاول ضم المنظمات الإسلامية السياسية في تحالف من أجل العمل الاجتماعي أو السياسي، إذا كان الإسلام السياسي يعبئ بنجاح أعدادا كبيرة من الناس، فهذا مجرد واقع، وأي استراتيجية سياسية فعالة يجب أن تدخل ذلك الواقع في اعتباراتها وفي مقترحاتها وفي خياراتها. أما محاولة التحالف، فليس وسيلة للتعامل مع ذلك التحدي. ويجدر التدليل على أن منظمات الإسلام السياسي ـ الإخوان المسلمين بوجه خاص ـ لا يسعون إلى مثل ذلك التحالف، بل إنها ترفضه. إذا حصل أن اعتقدت بعض المنظمات اليسارية السيئة الحظ بالصدفة، أن المنظمات الإسلامية السياسية قبلتهم، فإن أول قرار تتخذه هذه بعد النجاح في الوصول إلى السلطة، يكون تصفية الحليف العبء بعنف مفرط، كما كان الأمر في إيران مع المجاهدين وفدائيي خلق.

والمبرر الثاني الذي يطرحه أنصار "الحوار" هو أن الإسلام السياسي حتى ولو كان رجعياً في الأمور الاجتماعية، فهو "معاد للإمبريالية". لقد سمعت القول، إن المقياس لذلك الذي اقترحه (وهو الدعم غير المحدود للمعارك، التي تخاض من أجل التقدم الاجتماعي) هو (أي المقياس) "اقتصادي"، ويهمل الأبعاد السياسية للتحدي الذي يواجه شعوب الجنوب. أنا لا أعتقد أن هذا الانتقاد صحيح، إذا ما أخذ في الاعتبار ما قد قلته عن الديمقراطية وعن أبعاد الردود المرغوبة للتعامل مع ذلك التحدي.
وأقبل أيضاً أن القوى الفاعلة ليست بالضرورة ثابتة في طريقتها في التعامل مع الأبعاد السياسية والاجتماعية في ردها على التحدي الذي يواجه شعوب الجنوب، وبذلك من الممكن أن يتصور المرء إسلاماً سياسياً معادياً للإمبريالية، رغم أنه رجعي على الصعيد الاجتماعي. يقفز إلى الذهن فوراً هنا إيران وحماس في فلسطين، وحزب الله في لبنان، وبعض حركات المقاومة في العراق. سوف أناقش هذه الحالات الخاصة فيما بعد. وما أخالفه هو أن الإسلام السياسي ككل هو ببساطة تامة ليس معادياً للإمبريالية، وإنما يقف إجمالاً خلف القوى المهيمنة على الصعيد العالمي.
المبرر الثالث يلفت نظر اليسار إلى ضرورة محاربة كره الإسلام، وأي يسار جدير بهذا الاسم لا يستطيع أن يتجاهل مسألة الضواحي، أي معاملة الطبقات الشعبية التي من أصل مهاجر، في عواصم الرأسمالية المتطورة المعاصرة، وتحليل ذلك التحدي والردود التي صدرت عن مختلف الجماعات (الأحزاب المهتمة ذاتها، اليسار الانتخابي الأوروبي، اليسار الراديكالي) ليس من اهتمام هذا المقال. سأكتفي بشرح وجهة نظري المبدئية: الرد التقدمي لا يمكن أن يكون مبنياً على مأسسة الطائفية
communitarianism، التي هي جوهرياً وبالضرورة مرتبطة باللامساواة، وفي النهاية تنبع من الثقافة العنصرية نتيجة إيديولوجية للثقافة السياسية الرجعية للولايات المتحدة، بدأت الطائفية (المنتصرة الآن في بريطانيا العظمى) في تسميم الحياة السياسية في القارة الأوروبية. كره الإسلام Islamophobia الذي تصعده بشكل كامل قطاعات كبيرة من النخبة السياسية وأجهزة الإعلام، هو جزء من استراتيجية لإدارة التمايز الاجتماعي لصالح رأس المال، لأن ما يفترض أنه احترام للتمايز في الواقع ليس سوى وسيلة لتعميق الانقسامات داخل الطبقات الشعبية.
• مأسسة الطائفية
communitarianism نظرية سياسية مبنية على "الهويات الثقافية الجماعية" كأساس لفهم الواقع الاجتماعي الديناميكي ـ الناشر.
• مسألة ما يسمى مشكلة الجوارات (الضواحي) هي خاصة، وخلطها مع مسألة الإمبريالية (أي الإدارة الإمبريالية للعلاقات بين المراكز الإمبريالية المهيمنة والأطراف المهيمن عليها)، كما يجري أحياناً، لا يساهم في شيء في التقدم في كل من المجالين المختلفين كلياً، ذلك الخلط هو جزء من الأدوات الرجعية، ويعزز كره الإسلام، الذي بدوره يجعل من الممكن إجازة كلا الأمرين: الهجوم ضد الطبقات الشعبية في المراكز الإمبريالية، والهجوم ضد شعوب الأطراف ذات العلاقة، وهذا الخلط وكره الإسلام بدورهما يقدمان خدمة ثمينة للإسلام السياسي الرجعي، بإعطائه مصداقية لخطابه المعادي للغرب. وأقول: إن المعركتين الإيديولوجيتين الرجعيتين، اللتين يصعدهما على الترتيب اليمين العنصري في الغرب والإسلام السياسي اللذين يدعمان بعضهما البعض، في الوقت الذي يدعمان فيه الممارسات الطائفية.
الحداثة والديمقراطية والعلمانية والإسلام
الصورة التي تقدمها المناطق العربية والإسلامية عن نفسها اليوم، هي تلك التي الدين (الإسلام)، هو في الواجهة لجميع المجالات في الحياة الاجتماعية والسياسية، لدرجة يبدو فيها أن من المستغرب تصور أن يكون الأمر مختلفاً. أغلبية المراقبين الأجانب (قادة سياسيين وإعلاميين) يستنتجون أن الحداثة، بل وربما الديمقراطية، يجب أن تتكيف مع الحضور القوي للإسلام، ومع الاستبعاد الواقعي للعلمانية. إما أن تكون هذه المصالحة ممكنة ويكون من الضروري دعمها أو لا تكون، ويكون التعامل مع هذه المنطقة من العالم كما هي. أنا لا أشترك مطلقاً بذلك، بما يسمى بالرؤية الواقعية. المستقبل ـ في الأفق البعيد للاشتراكية المعولمة ـ هو لشعوب هذه المنطقة مثله للشعوب الأخرى، الديمقراطية والعلمانية. المستقبل هو ممكن في هذه المناطق مثله في مناطق أخرى، ولكن لا شيء مضموناً وأكيداً في أي مكان.

الحداثة هي شرخ في تاريخ العالم، دخلت أوروبا خلال القرن السادس عشر. الحداثة تطرح أن الكائنات الإنسانية هي المسؤولة عن تاريخها، فردياً وجماعياً، وتقطع صلتها والحالة هذه مع الإيديولوجيات، التي كانت سائدة قبل الحداثة. الحداثة إذن تجعل الديمقراطية ممكنة، وتقتضي في نفس الوقت العلمانية، بمعنى فصل الديني عن السياسي. إن الربط المعقد بين الحداثة والديمقراطية والعلمانية، الذي صيغ في عصر التنوير، ونفذته الثورة الفرنسية، كانت تقدماته وتراجعاته هي التي صاغت منذئذ العالم المعاصر، غير أن الحداثة بذاتها ليست فقط ثورة ثقافية. لقد اشتقت معناها فقط من خلال العلاقة الوثيقة، التي كانت لها بميلاد الرأسمالية وبنموها فيما بعد، وهذه العلاقة رسمت الحدود التاريخية للحداثة "القائمة واقعياً". الصيغ الواقعية للحداثة والديمقراطية والعلمانية وجدت اليوم وجوبها ثم هي معتبرة منتجات للتاريخ الواقعي لنمو الرأسمالية. لقد أخذت شكلها من خلال الشروط الخاصة، التي يتم فيها التعبير عن سيطرة رأس المال ـ التوافقات التي تحدد مضامين الكتل المهيمنة (التي أسميها المجرى التاريخي للثقافات السياسية).
هذا التقديم المكثف لفهمي للمنهج المادي التاريخي وارد فقط لتحديد مكان مختلف الطرق في تركيب الحداثة الرأسمالية، والديمقراطية والعلمانية في إطارها النظري.
التنوير والثورة الفرنسية طرحاً نموذجياً للعلمانية الراديكالية. ملحد أو لا أدروي
Agnostic ، جبريDeist  أو مؤمن (مسيحي في هذه الحالة)، الإنسان حرّ في الاختيار، والدولة لا تعرف شيئاً عن ذلك.
في القارة الأوروبية ـ وفي فرنسا ابتداء من عودة الملكية ـ التراجعات والتسويات التي جمعت سلطة البرجوازية مع سلطة الطبقات المسيطرة في الأنظمة ما قبل الحديثة، كانت الأساس للصيغ المخففة من العلمانية، التي فهمت على أنها تسامح، مع عدم نفي الدور الاجتماعي للكنائس من النظام السياسي. أما بالنسبة للولايات المتحدة، فقد نتج عن مسارها التاريخي الخاص تشكيل ثقافة سياسية رجعية بأساسها، العلمانية الحقيقية فيها غير معروفة عملياً. الدين معترف به هنا كفاعل اجتماعي والعلمانية مختلطة مع تعددية الديانات الرسمية (أي دين ـ حتى المذهب ـ هو رسمي).
ثمة رباط واضح بين درجة العلمانية الراديكالية القائمة ودرجة دعم تشكيل المجتمع وفقاً للموضوع المركزي للحداثة. اليسار، سواء كان
راديكالياً أو حتى معتدلاً، الذي يؤمن بجدوى السياسة في توجيه التطور الاجتماعي في اتجاهات مختارة، يدافع بقوة عن مفاهيم العلمانية، واليمين المحافظ يطرح أن يتاح للأمور التطور على مسارها الخاص، سواء كانت المسألة تتعلق بالاقتصاد أو بالسياسة، أو بالمجتمع. وفيما يتعلق بالاقتصاد الاختيار لصالح "السوق" هو بداهة لصالح الرأسمال. وفي السياسة الديمقراطية الضعيفة الشدة أصبحت القاعدة، التوريث حل محل التبديل، والمجتمع في هذا الإطار، السياسة فيه لا تحتاج العلمانية ـ "الطوائف" تعوض عن الثغرات في الدولة. السوق والديمقراطية التمثيلية يصنعان تاريخاً ويجب أن يتاح لها القيام بذلك. ففي اللحظة الحالية من تراجع اليسار، هذه الصيغة من الفكر الاجتماعي سائدة على نطاق واسع، في صياغات تعزف السلم الموسيقي من لدى تورين حتى لدى نيغري، بل الثقافة السياسية الرجعية للولايات المتحدة تذهب بعيداً في شل مسؤولية الفعل السياسي. التأكيد المتكرر بأن الله يهدي الأمة "الأمريكية، والانتماء الواسع لهذا "الإيمان"، يقلص حتى مفهوم العلمانية إلى اللاشيء، والقول إن الله يصنع التاريخ هو في الواقع إتاحة للسوق كي تصنعه.
ومن وجهة النظر هذه، أين هم شعوب منطقة الشرق الأوسط ؟ إن صورة الملتحين الذين يركعون، ومجموعات النساء المحجبات، تعطي نتائج متسرعة لشدة الانتماء الديني لدى الأفراد. "الثقافيون" الغربيون الأصدقاء، الذين ينادون بالتنوع في الأديان، نادراً ما يكتشفون العمليات التي تقوم بها السلطات، كي تقدم الصورة التي تلائمها. هنالك حتماً من هم "مجنونون بالله". هل هم نسبياً أكثر عدداً من الكاثوليك الإسبان الذين يقومون بمسيرات في الفصح؟ أو من الحشود الواسعة التي تصغي إلى الإذاعات الإنجيلية في الولايات المتحدة؟ على أية حال؛ المنطقة لم تعطِ دوماً هذه الصورة عن ذاتها، بصرف النظر عن الفروق بين بلد وبلد، فإن منطقة كبرى يمكن تحديدها بدءاً من مراكش وحتى أفغانستان، متضمنة جميع الشعوب العربية (باستثناء شعوب شبه الجزيرة العربية)، الأتراك والإيرانيون والأفغان، وشعوب جمهوريات آسيا الوسطى السوفييتية السابقة، إمكانات نمو العلمانية فيها هي أبعد من أن تكون مهملة.

الوضع مختلف بين الشعوب المجاورة الأخرى، عرب شبه الجزيرة وباكستان.
في هذه المنطقة الأكبر وسمت التقاليد السياسية بقوة التيارات الراديكالية للحداثة: أفكار التنوير، الثورة الفرنسية، الثورة الروسية وشيوعية الأممية الثالثة، كل ذلك كان ماثلاً في أذهان كل فرد، وكان أهم بكثير من برلمانية وستمنستر، مثلاً إن هذه التيارات المهيمنة أوحت بأغلب نماذج التحول السياسي الذي قامت به الطبقات الحاكمة، التحول الذي يمكن وصفه في بعض جوانبه بصيغ للاستبداد المتنور.
كان ذلك حتماً هو الحالة في مصر محمد علي أو الخديوي إسماعيل. الكمالية في تركيا والتحديث في إيران كانا متشابهان. الشعبوية القومية في المراحل الأحدث من التاريخ تنتمي إلى نفس الأسرة من المشروعات السياسية الحداثية. أشكال النموذج عديدة (جبهة التحرير الوطني الجزائرية، البورقيبية التونسية، الناصرية المصرية، البعثية في سوريا والعراق)، ولكن كانت قيادة الحركة متشابهة. ظاهرياً التجارب المتطرفة ـ ما يسمى بالأنظمة الشيوعية في أفغانستان واليمن الجنوبي ـ كانا واقعياً غير مختلفين كثيراً. كل هذه الأنظمة أنجزت الكثير، ولهذا السبب كان لها دعم شعبي واسع، ولهذا؛ مع أنها ليست ديمقراطية حقيقية، فقد فتحت الطريق لتطور ممكن في هذا الاتجاه. في بعض الظروف، مثل تلك التي كانت في مصر من 1920 حتى 1950، جرت محاولة لتجربة ديمقراطية انتخابية، مدعومة من قيادة معتدلة معادية للإمبريالية (حزب الوفد)، ويعارضها السلطة الإمبريالية المسيطرة (بريطانيا العظمى) والحلفاء المحليون (الملكية). العلمانية التي طبقت بأشكالها المعتدلة، للعلم، لم تكن مرفوضة من الجمهور، بالعكس كان رجال الدين هم الذين كانوا معتبرين ظلاميين لدى الرأي العام، وأغلبهم كانوا كذلك.
التجارب الحداثية، من الاستبداد التنويري إلى الشعبوية القومية الراديكالية، لم تكن نتيجة الصدفة. الحركات القومية التي كانت مسيطرة في الطبقات الوسطى خلقتها، وبهذه الطريقة عبرت تلك الطبقات عن إرادتها في أن تُرى شريكاً ناضجا في العولمة، وهذه المشاريع التي يمكن وصفها بالبورجوازية الوطنية كانت حداثية، وتحمل العلمانية وتنطوي على كونها حاملاً للتطورات الديمقراطية، ولكن لأن تلك المشاريع كانت بالضبط تتعارض مع مصالح الإمبريالية المهيمنة، قامت هذه بمحاربتها من دون هوادة، وبشكل كامل، وجندت القوى الظلامية المنحدرة من أجل ذلك الهدف.
تاريخ القرن الماضي على يد البريطانيين والملكية لسد الطريق على الوفد الديمقراطي والعلماني، والعودة الجماعية من المنفى السعودي بعد وفاة عبد الناصر، المرتبة من قبل المخابرات المركزية الأمريكية C.I.A. والسادات، هي أيضاً معروفة جيداً. ونحن كلنا نعرف تاريخ طالبان التي شكلتها المخابرات المركزية في باكستان، لكي تحارب "الشيوعيين" الذين فتحوا المدارس لكل إنسان، للصبيان والبنات. ومعروف أيضاً جيداً أن الإسرائيليين دعموا حماس في البداية لإضعاف التيارات الديمقراطية والعلمانية في المقاومة الفلسطينية.

إن الإسلام السياسي كان يمكن أن يجد صعوبة أكبر بكثير في اجتياز حدود العربية السعودية وباكستان، لولا دعم الولايات المتحدة المستمر، القوي الحازم. المجتمع العربي السعودي لم يكن قد خرج من التقاليد عندما اكتشف البترول تحت ترابه، والتحالف بين الإمبريالية والطبقة الحاكمة التقليدية، الذي تم فوراً، أبرم بين الشريكين وأعطى حقاً جديداً بالحياة للإسلام السياسي الوهابي، ومن جهتهم نجح البريطانيون في شق الوحدة الهندية بإقناع القادة المسلمين بإقامة دولتهم الخاصة، فوقع هؤلاء في فخ الإسلام السياسي في ولادته الأولى، ويجب التنويه أن النظرية التي منحت الشرعية لذلك ـ المنسوبة إلى المودودي ـ كانت قد صيغت بالكامل على يد المستشرقين الإنكليز في خدمة جلالته.
• أصل القوة الحالية للإسلام السياسي في إيران لا يبدو بنفس الصلة التاريخية، مع التآمر الإمبريالي لأسباب تناقش في القسم التالي ـ
وبذلك من السهل أن يفهم المرء المبادرة التي قامت بها الولايات المتحدة لشق الجبهة المتحدة من الدول الإفريقية والآسيوية، التي أقيمت في باندونغ عام 1955، بإنشاء المؤتمر الإسلامي الذي دعت إليه مباشرة منذ العام 1957 العربية السعودية وباكستان، والإسلام السياسي دخل إلى المنطقة بهذه الطريقة.
وأقل ما يمكن استنتاجه من الملاحظات التي قدمناها، هو أن الإسلام السياسي ليس نتيجة عفوية لتعلق الشعوب ذات العلاقة بالقناعات الدينية الأصلية. إن الإسلام السياسي هو من فعل الإمبريالية الكامل مدعوماً بالطبع من قوى الرجعية الظلامية ومن الطبقات الكومبرادورية التابعة لها، وكون هذا الواقع للأمور هو أيضاً من مسؤولية القوى اليسارية، التي لا ترى ولا تعرف كيف تتعامل مع هذا التحدي، فيبقى لا جدال فيه.
المسائل المتعلقة ببلدان خط الجبهة (أفغانستان، العراق، فلسطين، إيران)
مشروع الولايات المتحدة، المدعوم لدرجات مختلفة من حلفائها الأتباع في أوروبا واليابان، هو أن تقيم سيطرة عسكرية فوق كامل الكوكب، وبهذا الهدف في الذهن اختير الشرق الأوسط منطقة لـ"الضربة" الأولى لأربعة أسباب:

1. إنه يضم أغزر الموارد البترولية في العالم وسيطرة الولايات المتحدة العسكرية المباشرة عليه تمنح واشنطن موقعاً متميزاً، يجعل حلفائها ـ أوروبا واليابان ـ وربما المنافسين (الصين) في وضع غير مريح بسبب الارتباط بحاجاتها من الطاقة.

2. ويقع على تقاطع الطرق في العالم القديم ويجعل من الأسهل نصب تهديد عسكري دائم للصين وللهند ولروسيا.

3. المنطقة تعاني فترة ضعف وتشوش، تسمح للمعتدي أن يكون واثقاً من النصر السهل، على الأقل في المرحلة الأولى.

4. وجود إسرائيل في المنطقة، الحليف غير المشروط لواشنطن. هذا العدوان وضع البلدان والأمم الواقعة على خط الجبهة (أفغانستان، العراق، فلسطين، إيران) في وضع خاص بأن تكون مدمرة (الثلاثة الأولى) أو مهددة (إيران).
أفغانستان
أفغانستان شهدت أفضل فترة في تاريخها الحديث خلال ما يسمى بالجمهورية الشيوعية، كان ذلك نظام استبداد حداثي وتنويري، فتح النظام التربوي للأطفال من الجنسين. كان معادياً للظلامية، ولهذا السبب كان له دعم حاسم في المجتمع. الإصلاح الزراعي الذي قام به كان بأغلبه مجموعة من الإجراءات الهادفة لتقليص سلطات القادة القبليين وطغيانهم، ودعم الأغلبية الفلاحية ـ على الأقل ضمناً ـ كان من شأنه أن يضمن النجاح المحتمل لهذه البداية الجيدة للتغيير، والدعاية التي نشرها الإعلام الغربي وكذلك الإسلام السياسي، والتي تصور هذه التجربة الشيوعية على أنها إلحادية وشمولية، رفضها الشعب الأفغاني. الواقع، النظام لم يكن ضعيف الشعبية، وكان يشبه نظام أتاتورك في أيامه.
وواقع أن قادة هذه التجربة في كلا التكتلين الرئيسيين (خلق وبارشام)، كانوا يصفون أنفسهم بالشيوعيين ليس مستغرباً. إن نموذج التقدم الذي أنجزته شعوب آسيا الوسطى المجاورة (رغم كل ما قيل في الموضوع، ورغم الممارسة الأوتوقراطية للنظام) بالمقارنة مع الكوارث الاجتماعية الجارية عبر الإدارة الإمبريالية البريطانية في بلدان مجاورة أخرى (ومنها الهند وباكستان)، والتي كان لها هنا وفي بلدان عديدة أخرى في المنطقة تأثير في تشجيع الوطنيين على تقويم مدى العائق، الذي تشكله الإمبريالية لأي محاولة للتحديث، والدعوة من جانب أحد التكتلين للسوفييت، كي يتدخلوا ليتخلصوا من الآخرين كان لها حتماً تأثير سلبي، وأحبطت الإمكانات من أجل مشروع حداثي قومي شعبوي.
الولايات المتحدة وحلفاؤها في الثلاثي كانوا عموماً خصوماً ألداء للحداثيين الأفغان، شيوعيين أم لا، هم الذين جندوا القوى الظلامية من الإسلام السياسي، نموذج باكستان (طالبان)، وأمراء الحرب (قادة القبائل الذين أخمدهم ما يسمى بالنظام الشيوعي)، والذين دربوهم وسلحوهم. حتى بعد الانسحاب السوفييتي برهنت حكومة نجيب الله عن قدرة على المقاومة، ربما كانت ستنتصر لولا الهجوم الباكستاني الذي أتى ليدعم طالبان، ثم هجوم قوى أمراء الحرب المعاد تشكيلها التي زادت الفوضى.
لقد سحقت أفغانستان بتدخل الولايات المتحدة وحلفائها والعملاء الإسلاميين بوجه خاص. أفغانستان لا يمكن إعادة بنائها في ظل سلطتهم المتسترة خلف مهرج لا جذور له في البلاد، أسقط بالمظلة من تكساس ترانسناشنال، التي كان موظفاً فيها. "الديمقراطية المفترضة" التي باسمها واشنطن والناتو والأمم المتحدة دعوا إلى النجدة، المطروحة لتبرير استمرار وجودهم (احتلالهم في الواقع) كانت كذبة منذ البداية، وأصبحت تهريجاً كبيراً.
ثمة حل وحيد للمشكلة الأفغانية، جميع القوى الأجنبية يجب أن تغادر البلاد، وكل القوى يجب أن تجبر على وقف وإنهاء تسليح عملائها، ولمن يعبرون بحسن نية عن خوفهم عن أن الشعب الأفغاني سوف يعاني دكتاتورية طالبان (أو أمراء الحرب)، أرد بأن الوجود الأجنبي كان حتى الآن وسيبقى دعماً لتلك الدكتاتورية! كان الشعب الأفغاني يتحرك في اتجاه مغاير ـ ربما أفضل ما يمكن ـ في وقت كان فيه الغرب مجبرا على أن يكون أقل اهتماماً بشؤونه. لقد فضل الغرب المتمدن دوماً الاستبداد الظلامي، الأقل خطراً بكثير على مصالحه، على استبداد "الشيوعيين" التنويري.
العراق
دبلوماسية الولايات المتحدة المسلحة، كان لديها دوماً هدف تدمير حرفي للعراق قبل الذرائع، التي أعطيت بزمن كبير لفعل ذلك في مناسبتين: غزو الكويت في 1990، ثم بعد 11 أيلول 2001 ـ المستغل لهذا الغرض لدى بوش مع نفاق وأكاذيب من نموذج غربلز ("إذا قلت كذبة كبيرة بشكل كافٍ وبقيت تكررها، ينتهي الشعب عملياً بأن يصدقها"). السبب لهذا الهدف هو بسيط ولا علاقة له بالخطاب، الذي يدعو إلى تحرير الشعب العراقي من دكتاتورية صدام حسين الدموية (والوصف حقيقي بشكل كافٍ). إن العراق يمتلك جزءاً كبيراً من أفضل الموارد البترولية في الكوكب.
وما هو أكثر من ذلك، نجح العراق في تدريب كادرات علمية وتقنية، كانت قادرة عبر كتلتها الحدية، أن تدعم مشروعاً قومياً غنياً ومتماسكاً، وهذا الخطر كان يجب إزالته بحرب وقائية، أعطت الولايات المتحدة لنفسها الحق بشنها متى وأنى تقرر، دون أي احترام للقانون الدولي.
وغير هذه الملاحظة الواضحة يجب فحص عدة مسائل جدية: 1 ـ كيف يمكن أن يبدو مخطط واشنطن ـ حتى لفترة تاريخية قصيرة ـ فاقع النجاح وسهلاً ؟ 2 ـ أي وضع جديد نشأ ويواجه الأمة العراقية اليوم ؟
3 ـ أي ردود يواجه بها مختلف السكان العراقيين التحدي ؟ 4 ـ أي حلول يمكن أن تطرحها القوى الديمقراطية والتقدمية العراقية والعربية والدولية ؟
إن فشل صدام حسين كان متوقعاً، والشعب الذي واجهه عدو ميزته الرئيسية تكمن في قدرته على فعل الإبادة دون عقاب بالقصف الجوي (واستخدام الأسلحة النووية يأتي)، لديه رد فعال ممكن وحيد: القيام بالمقاومة على أرضه المغزوة. نظام صدام كان مندفعاً في حذف كل وسيلة دفاع في يد شعبه عبر التدمير الكامل لأي تنظيم ولأي حزب سياسي (بدءاً من الحزب الشيوعي) صنع تاريخ العراق الحديث، ومن الجملة البعث نفسه، الذي كان أحد الفاعلين الأساسيين في ذلك التاريخ. ليس مستغرباً ضمن هذه الشروط أن يسمح الشعب العراقي بغزو بلده دون معركة، بل بعض التصرفات (مثل المشاركة في الانتخابات التي نظمها الغازي، أو انفجار القتال بين الأخوة، بين الأكراد والعرب الشيعة) تبدو إشارات على الرضى المحتمل بالهزيمة (الذي اعتمدت عليه واشنطن في حساباتها)، ولكن ما هو جدير بالتنويه هو أن المقاومة على الأرض تزداد قوة كل يوم (رغم كل الضعف الجدي، الذي ظهر لدى مختلف قوى المقاومة، التي جعلت من المستحيل إقامة نظام أذناب قادر على الحفاظ على مظاهر نظام؛ بشكل قد برهن على فشل مشروع واشنطن.
غير أن وضعاً جديداً نشأ مع الاحتلال العسكري الأجنبي. الأمة العراقية هي حقيقية في خطر. واشنطن غير قادرة على الاستمرار في السيطرة على البلاد (بشكل تنهب فيه المواد البترولية، مما يؤلف الهدف الأول)، من خلال حكومة وطنية شكلية. الطريقة الوحيدة لتتابع مشروعها هي إذن تمزيق البلد. تقسيم البلد إلى ثلاث دول على الأقل (كردية وعربية سنية وعربية شيعية) كان ربما منذ البداية هدف واشنطن، بالتحالف مع إسرائيل (الأرشيف سوف يكشف حقيقة ذلك في المستقبل).
الآن "الحرب الأهلية" هي الورقة التي تلعبها واشنطن لإعطاء الشرعية لاحتلالها. من الواضح أن الاحتلال الدائم كان ـ ويبقى ـ الهدف: فهو الوسيلة الوحيدة التي تستطيع بها واشنطن ضمان السيطرة على الموارد البترولية. حتما لايمكن إعطاء أي مصداقية لتصريحات واشنطن عن النيه في "سنرحل عن البلاد حالما يعاد الأمن". يجب أن يتذكر المرء أن البريطانيين لم يقولوا يوماً عن احتلالهم مصر منذ 1882، سوى أنه مؤقت (واستمر حتى 1956) وأثناء ذلك الولايات المتحدة حتما تدمر ،يوماً بعد يوم، البلاد، مدارسها، مصانعها، إمكاناتها العلمية، مستخدمة كل الوسائل ومنها الجرمية.
الرد الذي يصدر عن الشعب العراقي على التحدي ـ كما يبدو على الأقل ـ ليس على مستوى مواجهة جدية الوضع ... هذا أقل ما يمكن أن يقال. ما هي أسباب ذلك ؟ الإعلام الغربي المسيطر يكرر لدرجة القرف أن العراق هو بلد مصطنع، وأن السيطرة الاضطهادية لنظام صدام حسين "السني" على الشيعة والأكراد هو السبب في الحرب الأهلية التي لا مفر منها (والتي يمكن ردعها، ربما فقط باستمرار الاحتلال الأجنبي). المقاومة محصورة إذن بعدد قليل من الإسلاميين العنيدين الموالين لصدام في المثلث السني. لا شك أن من الصعب أن يخرز المرء مغالطات عديدة بهذا المقدار مع بعضها في خيط.
عقب الحرب العالمية الأولى لقي البريطانيون صعوبة كبرى في هزم الشعب العراقي، وبالانسجام الكامل مع تقاليدهم الإمبراطورية استورد البريطانيون ملكية وأنشأوا طبقة من الملاكين الكبار لدعم سلطتهم، وإلى جانب ذلك أعطوا وضعاً مميزاً للسنة، ولكن رغم جهودهم الكلية فشل البريطانيون. الحزب الشيوعي وحزب البعث كانا القوتين السياسيتين المنظمتين الرئيسيتين اللتين هزمتا سلطة الملكية "السنية"، التي كان يكرهها الجميع، السنة والشيعة والأكراد. والتنافس العنيف بين تلكما القوتين، الذي ملأ الفترة بين 1958 و 1963 انتهى بانتصار حزب البعث، الذي رحبت به الدول الغربية كنجدة. المشروع الشيوعي كان يحمل في طياته إمكانية التطور الديمقراطي؛ ولم يكن الأمر كذلك لدى البعث. الأخير كان قومياً وعربياً
pan-arabe في المبدأ، وكان معجباً بالنموذج البروسي في بناء الوحدة الألمانية، ويجند أعضاءه من البورجوازية الصغيرة العلمانية الحداثية، المعادية لتعبيرات الدين الظلامية. وفي السلطة تطور البعث بشكل متوقع إلى دكتاتورية كانت فقط نصف معادية للإمبريالية، بمعنى أنها تعتمد على الأوضاع الدولية والظروف، والصفقة يمكن أن تقبل لدى الشريكين (السلطة البعثية في العراق والأمبريالية الولايات المتحدة المسيطرة في المنطقة).
الصفقة شجعت جنون العظمة لدى القائد، الذي تصور أن واشنطن سوف تقبل بأن تجعله الحليف الرئيسي في المنطقة، ودعم واشنطن لبغداد (البرهان على ذلك تزويده بالأسلحة الكيميائية) في الحرب الجرمية ضد إيران منذ 1980 إلى 1989، بدا وكأنه دليل على صدق تلك الحسابات. صدام لم يتصور يوماً خداع واشنطن، وأن تحديث العراق غير مقبول لدى الإمبريالية، وأن القرار بتدمير البلد قد اتخذ، ووقع صدام في الفخ المفتوح عندما أعطى له الضوء الأخضر لضم الكويت (التي كانت واقعياً أيام العثمانيين جزءاً من الولاية التي تؤلف العراق، وفصلها الإمبرياليون البريطانيون لجعلها إحدى مستعمراتها البترولية). العراق خضع بعدئذ لعشر سنوات حصار هادفة إلى استنزاف البلاد حتى آخر نقطة لتسهيل غزو القوات المسلحة الأمريكية الزاهر للفراغ الناتج.
الأنظمة البعثية المتتالية، ومن الجملة الأخيرة في مرحلة انحداره تحت قيادة صدام، يمكن أن تتهم بكل شيء، ما عدا كونها حركت الفتنة بين السنة والشيعة. مَنْ إذن المسؤول عن الاصطدامات الدموية بين الطائفتين ؟ يوماً ما سوف نعرف حتماً، كيف أن المخابرات المركزية الأمريكية (والموساد دون شك) نظمت العديد من تلك المجازر، لكن من دون ذلك، صحيح أن الفراغ السياسي الذي خلفه نظام صدام، والمثال الذي قدمه عن الأساليب الانتهازية اللا مبدئية قد شجعت الطامحين بعده من كل نوع إلى السلطة، كي يتبعوا نفس الطريق، المحمي غالباً من المحتل، بل ربما أحياناً كانوا من السذاجة ليعتقدوا أن باستطاعتهم أن يكونوا في خدمة سلطة الاحتلال. الطامحون المذكورون. إن قادة دينيين (شيعة أو سنة) يفترض أنهم "وجهاء" قبليون، أو رجال أعمال فاسدون إلى درجة كبيرة، صدرتهم الولايات المتحدة، وليس لهم أي صلة بالبلاد. حتى أولئك القادة الدينيون، الذين يحترمهم المؤمنون لم يكن لهم نفوذ سياسي مقبول لدى الشعب العراقي، لولا الفراغ الذي خلفه صدام لم يكن أحد يعرف أسماءهم. هل ستكون لدى القوى السياسية الأخرى القومية وذات الشعبية الحقيقية، بل وربما ديمقراطية، وسيلة لإعادة بناء ذاتها، وهي تواجه العالم السياسي الجديد الذي خلقته إمبريالية العولمة الليبرالية ؟
كان ثمة وقت كان فيه الحزب الشيوعي العراقي البؤرة من أجل تنظيم أفضل ما يمكن أن ينتجه الشعب العراقي. كان الحزب الشيوعي موجوداً في كل زاوية من البلاد، ويسيطر على عالم المثقفين، غالباً من أصول شيعية (أنوه بالمناسبة أن الشيعة أنتجوا بالدرجة الأولى ثوريين أو رجال دين، ونادراً ما أنتجوا بيروقراطيين أو كومبرادور !).
الحزب الشيوعي كان ذا شعبية حقيقية ومعادياً للإمبريالية، ميالاً قليلاً إلى الديماغوجية، وينطوي على الديمقراطية. وبعد مجزرة الآلاف من خيرة مناضليه، وانهيار الاتحاد السوفييتي (الذي لم يكن الحزب الشيوعي العراقي مستعداً له)، وتصرف أولئك المثقفين الذين كانوا يقبلون بأن يرجعوا من المنفى في معسكر التابعين للقوات المسلحة الأمريكية، هل مقدر الآن على الحزب الشيوعي العراقي أن يغيب بشكل دائم عن التاريخ ؟ مع الأسف هذا ممكن جداً، ولكن ليس حتمياً، وأبعد من أن يكون كذلك.
المسألة الكردية حقيقية في العراق، كما في إيران وتركيا، ولكن في هذا الموضوع أيضاً يجب أن يتذكر المرء أن الدول الغربية مارست دوماً بنفاق كبير معيارين، إن قمع المطاليب الكردية لم يصل أبداً في العراق وإيران مستوى العنف المعنوي والعسكري والبوليسي، الذي قامت به أنقرة, لا إيران ولا العراق لم يذهبا بعيداً لدرجة إنكار وجود الأكراد، ومع ذلك يجب أن تسامح تركيا على كل شيء كعضو في حلف الأطلسي، منظمة للأمم الديمقراطية، كما يقول لنا الإعلام. وبين الديمقراطيين البارزين الذين أعلنهم الغرب برتغال سالازار، إحدى الأعضاء المؤسسين للأطلسي، والذين ليسوا أقل حماسة للديمقراطية هم الكولونيلات اليونانيين والجنرالات الأتراك.
في كل مرة؛ الجبهات الشعبية العراقية، التي تشكلت حول الحزب الشيوعي والبعث، في الفترات الجيدة من تاريخها المضطرب، إذا ما مارست السلطة السياسية، فإنها كانت تجد حيزاً من الاتفاق مع الأحزاب الكردية الرئيسية، وهذه كانت دوماً حليفة لها.
تطرف صدام المعادي للشيعة وللأكراد كان حتماً حقيقياً: مثلاً قصف جيش صدام لمنطقة البصرة بعد الفشل في الكويت في عام 1990، واستخدام الغاز ضد الأكراد. ذلك التطرف أتى رداً على مناورات دبلوماسية واشنطن العسكرية، التي جندت أجراء المشعوذين الشيعة والأكراد. لكن عدا ذلك يبقى ليس أقل تطرفاً جرمياً وحماقة، ما دام نجاح واشنطن في نداءاتها كان محدوداً جداً، ولكن هل يمكن انتظار أي شيء آخر من دكتاتوريين مثل صدام.
قوة المقاومة للاحتلال الأجنبي، غير المنتظرة في ظل تلك الظروف تبدو خارقة، ليس الأمر كذلك ما دام الواقع الأساسي هو أن الشعب العراقي إجمالاً (عرباً وأكراداً وسنة وشيعة) يكرهون المحتلين، ويعرفون جرائمهم اليومية (الاغتيالات، القصف، المجازر، التعذيب). بمعرفة ذلك، فإن جبهة موحدة للمقاومة القومية (سمها ما شئت) بل يمكن تخيلها تعلن عن نفسها كجبهة، رافعة الأسماء وقوائم المنظمات والأحزاب، التي تتألف منها، وبرنامجها المشترك. لكن ليس ذلك هو الحال حتى الآن، ويعود إلى جميع الأسباب الموصوفة أعلاه، ومن الجملة تدمير النسيج الاجتماعي والسياسي الناتج عن دكتاتورية صدام والاحتلال، وبصرف النظر عن الأسباب، هذا الضعف يؤلف عائقاً، ويجعل من الأسهل تقسيم السكان، وتشجيع الانتهازيين، حتى لو جعلوا عملاء، وتشويش أهداف التحرير.
من ينجح في تجاوز ذلك العائق؟ الشيوعيون المفروض أن يكونوا أهلاً لذلك. الآن المناضلون الموجودون على الأرض يفصلون أنفسهم عن قادة الحزب الشيوعي (المعروفين وحدهم في الإعلام المسيطر) الذين، مشوشين ومرتبكين، يحاولون أن يعطوا شكل الشرعية لتحالفهم مع الحكومة العميلة، بل يزعمون أنهم يضيفون بهذا التحالف فعالية للمقاومة المسلحة، ولكن في ظل الظروف القائمة يمكن أن تقوم قوى سياسية أخرى بمبادرات حاسمة في منحى تأليف تلك الجبهة. تبقى الحالة التي فيها مقاومة الشعب العراقي، رغم ضعفها قد أحبطت (سياسياً، إن لم يكن عسكرياً) مشروع واشنطن. وهذا بالضبط ما يزعج الأطلسيين، الحلفاء المخلصين للولايات المتحدة في الإتحاد الأوربي. إنهم يخافون اليوم فشل الولايات المتحدة، لأن هذا سوف يزيد قدرة شعوب الجنوب على إجبار رأسمال الثلاثي الإمبريالي، الدولي المعولم، على احترام أمم وشعوب آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية.
المقاومة العراقية قدمت اقتراحات تجعل من الممكن التخلص من المأزق، وتساعد الولايات المتحدة على الانسحاب من الفخ. إنها تقترح: 1 ـ تشكيل سلطة إدارية دولية تؤلف بمساعدة مجلس الأمن. 2 ـ الإنهاء المباشر لأعمال المقاومة ولتدخلات قوى الاحتلال العسكرية والبوليسية. 3 ـ رحيل كل السلطات العسكرية والمدنية خلال ستة أشهر. وتفاصيل هذه المقترحات نشرت في المجلة العربية المحترمة، المستقبل العربي (كانون الثاني 2006) التي تصدر في بيروت. والصمت المطبق الذي عارض به الإعلام الأوروبي بث تلك الرسالة هو دليل على تضامن الشركاء الإمبرياليين. القوى الأوروبية التقدمية والديمقراطية عليها واجب هو أن تفصل نفسها عن سياسة الثلاثي الإمبريالي هذه، وأن تدعم اقتراحات المقاومة العراقية، وترك الشعب العراقي يواجه خصمه وحده هو خيار غير مقبول، فهو يعزز الفكرة أن لا شيء يمكن توقعه من الغرب وشعوبه، ويشجع بالتالي التطرف غير المقبول، بل الإجرامي، في نشاطات بعض حركات المقاومة.
بمقدار ما ترحل قوات الاحتلال الأجنبية بسرعة عن البلاد، وبمقدار ما يكون دعم القوى الديمقراطية في العالم وفي أوروبا قوياً للشعب العراقي، تزداد الإمكانات بمستقبل أفضل لهذا الشعب الشهيد، وبمقدار ما يدوم الاحتلال تكون عقابيل نهايته الحتمية مظلمة.
فلسطين
الشعب الفلسطيني كان منذ إعلان بلفور خلال الحرب العالمية الأولى ضحية مشروع استعماري من سكان أجانب، احتفظوا له بمصير "الهنود الحمر"، سواء اعترفوا به أو ادعوا تجاهله، وهذا المشروع كان له دوماً دعم غير مشروط من قبل السلطة الإمبريالية في المنطقة (أمس بريطانيا العظمى واليوم الولايات المتحدة)، لأن الدولة الأجنبية في المنطقة، التي أنشأها المشروع، لا يمكن إلا أن تكون بدورها حليفاً غير مشروط في التدخلات المطلوبة لإجبار الشرق الأوسط العربي على الخضوع لهيمنة الرأسمالية الإمبريالية.
وهذا أمر بديهي لدى جميع شعوب أفريقيا وآسيا، وبالتالي هي بشكل عفوي في القارتين ملتقية على تأكيد حقوق الشعب الفلسطيني والدفاع عنها. أما في أوروبا فـ "المسألة الفلسطينية" تسبب الانقسام، الذي سببه الالتباس الذي تتركه الإيديولوجية الصهيونية ذات الصدى الإيجابي عموماً.
اليوم أكثر من أي وقت مضى ألغيت حقوق الشعب الفلسطيني في ظرف قيام الولايات المتحدة بتنفيذ "مشروع الشرق الأوسط الكبير". ونفس الشيء حينما قبلت منظمة التحرير الفلسطينية خطتي أوسلو ومدريد وخريطة الطريق التي وضعتها واشنطن. إسرائيل هي التي تراجعت علناً عن اتفاقها، بل نفذت أيضا خطة توسعية أكثر طموحا. منظمة التحرير الفلسطينية فجرت نفسها بذلك، فالرأي العام يستطيع بحق لومها لأنها اعتقدت بسذاجة بصدق أعدائها. الدعم الذي قدمته سلطات الاحتلال في البداية على الأقل لأعدائها الإسلاميين، وانتشار الممارسات الفاسدة في الإدارة الفلسطينية (التي صمت عنها صندوق المانحين ـ البنك الدولي، أوروبا والمنظمات غير الحكومية ـ إن لم يكونوا شركاء)، كان من شأن ذلك أن يؤدي إلى انتصار حماس انتخابياً (كان ذلك متوقعاً) وهذا أصبح ذريعة إضافية، طرحت مباشرة لتبرير الانحياز غير المشروط للسياسات الإسرائيلية، ولا يهم أياً كانت.
المشروع الصهيوني الاستعماري كان دوماً خطراً، غير فلسطين، على الشعوب المجاورة. طموحاتها لضم سيناء المصرية، والضم الفعلي للجولان السورية هي دليل على ذلك. وفي مشروع الشرق الأوسط الكبير، ثمة مكان خاص محجوز لإسرائيل، أولا لاحتكارها للتجهيز العسكري النووي، ولدورها كـ "شريك لا غنى عنه" (بالذريعة الكاذبة إن إسرائيل تملك خبرة تكنولوجية، ليست في استطاعة الشعب العربي، أي عنصرية هذه ضرورية !).
لا نية هنا لتقديم تحليلات للتداخلات المعقدة بين معارك المقاومة ضد التوسع الاستعماري الصهيوني والصراعات السياسية والخيارات في لبنان وسوريا. الأنظمة البعثية في سوريا قاومت بطريقتها مطاليب السلطات الإمبريالية وإسرائيل، وكون هذه المقاومة استخدمت لتبرير الطموحات الأكثر قابلية للجدل (السيطرة على لبنان) هو حتماً لا جدال فيه. عدا ذلك، اختارت سوريا بعناية الحلفاء الأقل خطراً في لبنان. المعروف جيداً أن الحزب الشيوعي اللبناني نظم مقاومة للاعتداءات الإسرائيلية على جنوب لبنان (ومن الجملة حرف المياه). السلطات السورية واللبنانية والإيرانية تعاونت بشكل وثيق في تدمير تلك القاعدة الخطرة واستبدالها بحزب الله، واغتيال رفيق الحريري (وهي قضية ما تزال غير محلولة) أعطت بداهة القوى الإمبريالية (الولايات المتحدة ومن خلفها فرنسا) الفرصة للتدخل مع هدفين في الذهن: 1 ـ إجبار دمشق على الانحياز بشكل دائم مع الدول العربية العميلة (مصر والعربية السعودية) ـ أو إذا ما فشل ذلك، إزالة بقايا سلطة البعث المتآكلة. 2 ـ تدمير ما يبقى من قدرة على مقاومة الاعتداءات الإسرائيلية (بالمطالبة بنزع سلاح حزب الله)، ويرد الخطاب حول الديمقراطية ضمن هذا الإطار، إذا كان مفيداً.
اليوم بقبول تنفيذ المشروع الإسرائيلي السائر قدماً، يتم التصديق على إلغاء الحق الأول للشعوب، حق الوجود، هذا يؤلف جريمة عظمى ضد الإنسانية، واتهام الذين يرفضون هذه الجريمة بـ "معاداة السامية" هو مجرد وسيلة للابتزاز الرهيب.
إيــران
لا نية لنا هنا في مناقشة التحليلات التي تطرحها الثورة الإسلامية، هل كانت كما طُرح بين مؤيدي الإسلام السياسي، أو أيضاً لدى المراقبين الأجانب، إعلانا ونقطة انطلاق لتغيير من شأنه أن يشمل كامل المنطقة، وربما كامل العالم الإسلامي، الذي أعيدت تسميته للمناسبة بالأمة (التي لم تكن موجودة يوماً)، أم أنها حدث منفرد بخاصة لأنه كان تركيباً وحيداً من التفسيرات للشيعة الإسلامية، وتعبيراً عن القومية الإيرانية.
من المنظور الذي يهمنا هنا، أود فقط أن أضع ملاحظتين: الأولى هي أن نظام الإسلام السياسي في إيران ليس بطبيعته غير متلائم مع انضمام البلد إلى نظام العولمة الرأسمالي، لأن النظام قائم على المبادئ الليبرالية في إدارة الاقتصاد، والثانية هي أن الأمة الإيرانية كأمة هي "أمة قوية"، أمة مكوناتها الأساسية، إذا لم تكن كل مكوناتها، في الطبقات الشعبية كما في الطبقات الحاكمة، لا تقبل انضمام بلدها إلى نظام العولمة في وضع متدن، ويوجد حتماً تناقض بين البعدين للواقع الإيراني. البعد الثاني هو المهم في توجهات سياسة طهران الخارجية، التي تحمل الدليل على الإرادة في مقاومة الإملاءات الخارجية.
إنها القومية الإيرانية ـ القوية، والتي في رأيي كانت تاريخياً إجمالاً إيجابية ـ التي تفسر نجاح تحديث الإمكانات العلمية والصناعية والتكنولوجيا والعسكرية، الذي حققه نظام الشاه، والنظام الخميني الذي خلفه. إيران هي إحدى دول الجنوب القليلة (مع الصين والهند وكوريا والبرازيل، وربما دول قليلة أخرى، ولكن ليست عديدة!)، التي لديها مشروع بورجوازي قومي، سواء كان ممكناً تحقيق ذلك المشروع على المدى البعيد أم لا (ورأيي هو لا)، فالأمر ليس نقطة اهتماماتنا. اليوم هذا المشروع موجود وقائم.
وبالضبط لأن إيران تؤلف كتلة حرجة قادرة على القيام بمحاولة لتأكيد ذاتها كشريك محترم، فإن الولايات المتحدة قررت تدمير البلد بحرب وقائية جديدة، وكما هو معروف جيداً، الصراع يجري حول الإمكانات النووية، التي تطورها إيران. لماذا لا يكون لهذا البلد الحق مثل بلدان أخرى في متابعة تلك الإمكانات، حتى أو من الجملة، تصبح دولة نووية عسكرية؟ بأي حق تستطيع الدول الإمبريالية وصيغتها الإسرائيلية أن تتبجح بضمان الاحتكار لنفسها للأسلحة ذات التدمير الشامل، هل يستطيع أحد أن يعطي أي مصداقية للخطاب الذي يقول بأن الأمم "الديمقراطية" لن تستخدم أبداً مثل تلك الأسلحة مثل "دول الشر"، بينما يعرف الجميع أن الأمم الديمقراطية المعنية مسؤولة عن أكبر أعمال الإبادة في أيامنا المعاصرة، ومنها الإبادة التي مورست ضد اليهود، وأن الولايات المتحدة قد استخدمت السلاح النووي، وما تزال اليوم ترفض الحظر العام والمطلق على استخدامه.
خـاتمـــــة
اليوم الصراعات السياسية في المنطقة تجد ثلاث مجموعات قوى تواجه بعضها البعض، تلك التي تعلن ماضيها القومي (ولكنها في الحقيقة ليست أكثر من ورثة فاسدين وخربين لبيروقراطيات الفترة القومية ـ الشعبوية، وتلك التي تعلن الإسلام السياسي، وأولئك الذين يحاولون أن ينظموا مطاليب "ديمقراطية" متفقة مع الليبرالية الاقتصادية، وتثبيت السلطة بأي من هذه القوى ليس مقبولاً ليسار يركز انتباهه على مصالح الطبقات الشعبية. الواقع أن مصالح الطبقات الكومبرادورية المتفرعة عن النظام الإمبريالي الحالي تعبر عنها الاتجاهات الثلاث. الدبلوماسية الأمريكية تبقي الحدائد الثلاثة في النار، لأنها تركز على استخدام الصراعات فيما بينها، من أجل كامل الاستفادة، وبالنسبة لليسار الذي يحاول أن يتورط في تلك الصراعات فقط من خلال التحالفات مع واحد أو آخر من الاتجاهات (مفضلو الأنظمة القائمة لتجنب الأسوأ، أي الإسلام السياسي، أو ساعياً للتحالف مع الأخير للتخلص من الأنظمة)، فإنه محكوم بالفشل. اليسار يجب أن يؤكد نفسه بخوض المعارك في المناطق التي يجد فيها مكانه الطبيعي، الدفاع عن المصالح الاجتماعية والاقتصادية للطبقات الشعبية، وعن الديمقراطية، ولتأكيد السيادة الوطنية، وكل ذلك مترابط مع بعضه بشكل لا ينفصم.
• التحالفات التكتيكية المنبثقة عن أوضاع ملموسة هي مسألة أخرى، مثلاً العمل المشترك للحزب الشيوعي اللبناني مع حزب الله في مقاومة الغزو الإسرائيلي للبنان في صيف 2006 ـ الناشر.
منطقة الشرق الأوسط الكبير اليوم هي مركزية في الصراع بين القائد الإمبريالي وشعوب العالم كله، وإحباط بناء مشروع واشنطن هو شرط لتوفير إمكانية النجاح للتقدم في أي منطقة في العالم، والفشل في ذلك يعني أن كل التقدم يبقى هشاً إلى حد كبير، هذا لا يعني أن أهمية المعارك التي تشن في مناطق أخرى من العالم، في أوروبا أو أمريكا اللاتينية، أو أي مكان آخر يجب التقليل منها. إنه يعني فقط أنها يجب أن تكون جزءاً من الأفق الشامل الذي يساهم في هزم واشنطن في المنطقة التي اختارتها من أجل ضربتها الأولى في هذا القرن.

(5) الإسلام السياسي، الوجه الآخر للرأسمالية المتوحشة:
ملحق (6) من كتاب -ما بعد الرأسمالية المتهالكة
يقع في خطأ كبير من يعتقد أن ظهور حركات سياسية مرتبطة بالإسلام، تعبئ جماهير واسعة، هي ظاهرة مرتبطة بشعوب متخلفة ثقافياً وسياسياً على المسرح العالمي، وهي شعوب لا تستطيع أن تفهم سوى اللغة الظلامية التي تكاد ترتد لعصورها القديمة وحدها. وهو الخطأ الذي تنشره، على نطاق واسع، أدوات الإتصال المسيطرة، التبسيطية، والخطاب شبه العلمي للمركزية الأوربية. وهو خطاب مبني على أن الغرب وحده هو القادر على إختراع الحداثة، بينما تنغلق الشعوب الإسلامية في إطار تقاليد "جامدة" لا تسمح لها بفهم وتقدير حجم التغييرات الضرورية.
ولكن الإسلام والشعوب الإسلامية لها تاريخها، مثل بقية الشعوب، والذي يمتلئ بالتفسيرات المختلفة للعلاقات بين العقل والإيمان، وبالتحولات والتغيرات المتبادلة للمجتمع وديانته. ولكن حقيقة هذا التاريخ تتعرض للإنكار لا على يد الخطاب الأوربي المركزي وحسب، بل أيضاً على يد حركات الإسلام السياسي المعاصرة. فكلا الطرفين يشتركان في الواقع، في الفكرة الثقافية القائلة بأن المسارات المختلفة للشعوب لها "خصوصيتها" المتميزة غير القابلة للتقييم والقياس والعابرة للتاريخ. ففي مقابل المركزية الأوربية، لا يقدم الإسلام السياسي المعاصر سوى مركزية أوربية معكوسة. وظهور الحركات التي تنتسب للإسلام هو في واقع الأمر التعبير عن التمرد العنيف ضد النتائج السلبية للرأسمالية القائمة فعلاً، وضد الحداثة غير المكتملة والمشوهة والمضللة التي تصاحبها. إنه تمرد مشروع تماماً ضد نظام لا يقدم للشعوب المعنية أية مصلحة على الإطلاق.
2 - إن الخطاب الإسلامي الذي يقدم كبديل للحداثة الرأسمالية -والتي تُضم إليها تجارب الحداثة الإشتراكية التاريخية أيضاً-، ذو طابع سياسي وليس ديني. أما وصفه بالأصولية كما يحدث غالباً، فلا ينطبق عليه بأي شكل، وهو، على أية حال، لا يستخدمه إلا على لسان بعض المثقفين الإسلاميين المعاصرين الذين يوجهون خطابهم الى الغرب بأكثر مما يوجهونه الى قومهم. والإسلام المقترح هنا معادٍ لجميع أشكال لاهوت التحرير، فالإسلام السياسي يدعو الى الخضوع لا التحرر. والمحاولة الوحيدة لقراءة الإسلام في إتجاه التحرر كانت تلك الخاصة بالمفكر الإسلامي السوداني، محمود طه. ولم تحاول أية حركة إسلامية، "لاراديكالية ولا "معتدلة"، أن تتبنى أفكار محمود طه الذي أعدمه نظام نميري في السودان بتهمة الردة. كذلك لم يدافع عنه أي من المثقفين الذين ينادون بالنهضة الإسلامية" أو الذين يعبرون عن الرغبة في التحاور مع هذه الحركات. والمبشرون "بالنهضة الإسلامية" لا يهتمون بإمور اللاهوت، وكل ما يبدون إهتمامهم به من الإسلام هو الشكل الإجتماعي والتقليدي للدين، الذي لا يخرج عن الممارسات الدقيقة والشكلية للشعائر. والإسلام كما يتحدثون عنه يعبر عن "جماعة ينتمي إليها الإنسان بالإرث كما لو كانت جماعة"، عرقية" وليس إعتقاداً شخصياً يختاره المرء أو لا يختاره، يؤمن به أو لا يؤمن. فالأمر لا يتجاوز تأكيد "هوية "جماعية"، ولهذا السبب ينطبق تعبير الإسلام السياسي على هذه الحركات تماماً.
3 - لقد جرى اختراع الإسلام السياسي الحديث في الهند على يد المستشرقين لخدمة السلطة البريطانية، ثم تبناه وبشر به المودودي الباكستاني بكامله. وكان الهدف هو "إثبات أن المسلم المؤمن بالإسلام لا يستطيع العيش في دولة غير إسلامية - وبذلك كانوا يمهدون لتقسيم البلاد- لأن الإسلام لا يعترف بالفصل بين الدين والدولة حسب زعمهم. وهكذا تبنى أبو العلاء المودودي فكرة الحاكمية لله (ولاية الفقيه؟!"، رافضاً فكرة المواطن الذي يسن التشريعات لنفسه، وأن الدولة عليها أن تطبق القانون الساري للأبد "الشريعة". والإسلام السياسي يرفض فكرة الحداثة المحرّرة، ويرفض مبدأ الديمقراطية ذاته -أي حق المجتمع في بناء مستقبله عن طريق حريته في سن التشريعات. أما مبدأ الشورى الذي يدعي الإسلام السياسي أنه الشكل الإسلامي للديمقراطية، فهو ليس كذلك، لأنه مقيد بتحريم الإبداع، حيث لا يقبل إلا بتفسير التقاليد "الاجتهاد"، فالشورى لا تتجاوز أياً من أشكال الاستشارة التي وجدت في مجتمعات ما قبل الحداثة، أي ما قبل الديمقراطية.

ولا شك أن هذا التفسير قد حقق في بعض الحالات تغييراً حقيقياً عندما كانت هناك ضرورات جديدة، ولكنه حسب تعريفه ذاته -رفض الانفصال عن الماضي- يضع الصراع الحديث من أجل التغيير الاجتماعي والديمقراطية في مأزق. ولذلك فالتشابه المزعوم بين الأحزاب الإسلامية -راديكالية كانت أم معتدلة حيث إنها جميعاً تلتزم بمعاداة الحداثة بحجة خصوصية الإسلام- والأحزاب الديمقراطية المسيحية في أوربا ليس صحيحاً بالمرة، رغماً عن أن وسائل الاتصال والديبلوماسية الأمريكية تشير إليه كثيراً لإضفاء الشرعية على تأييدها المرتقب للأنظمة " الإسلامية" في المستقبل. فالديمقراطية المسيحية قائمة في نطاق الحداثة، وهي تقبل الفكرة الأساسية للديمقراطية الخلاقة، وكذا جوهر فكرة العلمانية.
أما الإسلام السياسي فيرفض فكرة الحداثة، وهو يعلن ذلك حتى وإن كان لا يستطيع فهم مغزاها. وعلى ذلك فالإسلام المقترح لا يمكن وصفه بالحداثة، والحجج التي يقدمها المنادون " بالحوار" لإثبات ذلك مبتذلة لأقصى درجة، وتبدأ من إستخدام دعاة الإسلام لأشرطة الكاسيت لترويج الدعوة، وحتى لقيام الدعاة بتجنيد الأتباع من بين الفئات "المتعلمة" كالمهندسين والأطباء مثلاً! وعلى أية حال، فخطاب هذه الحركات لا يعرف إلا الإسلام الوهابي الذي يرفض كل ما أنتجه التفاعل بين الإسلام التاريخي وبين الفلسفة الإغريقية في زمانه، كما يكتفي بتكرار الكتابات التي لا طعم لها لإبن تيمية، الذي هو أكثر الفقهاء رجعية في العصر الوسيط. وعلى الرغم من إدعاء بعض الدعاة بأن هذه التفسيرات هي "عودة الى الإسلام في عهد الرسول"، فإنها في الحقيقة عودة الى الأفكار السائدة منذ 600 عام، أي الى الأفكار السائدة في مجتمع تجمد تطوره لعدة قرون.
4 - والإسلام السياسي المعاصر ليس نتيجة لرد الفعل لإساءات العلمانية كما يدعي البعض كثيراً مع الأسف. ذلك أن أياً من المجتمعات الإسلامية العصرية - بإستثناء الإتحاد السوفياتي السابق- لم يكن في وقت من الأوقات علمانياً بشكل حقيقي، ودع عنك التعرض لهجمات سلطة "ملحدة" عدوانية بأي شكل من الأشكال. فقد اكتفت الدول شبه الحديثة في تركيا الكمالية، ومصر الناصرية، وسوريا والعراق البعثيين، بتدجين رجال الدين "كما حدث كثيراً من قبل"، وذلك بأن تفرض عليهم خطاباً هدفه الوحيد إضفاء الشرعية على اختياراتها السياسية. أما نشر فكرة العلمانية فلم توجد إلا لدى بعض الأوساط المثقفة المعارضة، ولم يكن لها تأثير يذكر على الدولة، بل إن الدولة قد تراجعت في بعض الأحيان في هذا المجال، خدمة لمشروعها الوطني، كما حدث من تطور مزعج حتى في عهد جمال عبدالناصر نفسه بالنسبة لموقف الوفد بعد ثورة عام 1919. ولعل التفسير الواضح لهذا التراجع هو أن الأنظمةالمعنية، إذ رفضت الديمقراطية، فضلت عليها تجانس "المجتمع"، الأمر الذي تظهر خطورته حتى بالنسبة لتراجع الديمقراطية في الغرب المعاصر ذاته. ويهدف الإسلام السياسي الى إقامة أنظمة دينية رجعية صريحة، مرتبطة بسلطات من طرا "المماليك"، أي سلطة تلك الطبقة العسكرية الحاكمة قبل قرنين من الزمان. ومن يراقب عن كثب الأنظمة المتدهورة التالية لمرحلة الفورة الوطنية، والتي تضع نفسها فوق أي قانون "بإدعاء أنها لا تعترف إلا بالشريعة". وتستولي على كل مكاسب الحياة الاقتصادية، وتقبل، باسم "الواقعية"، أن تندمج في وضع متدنٍ، في العولمة الرأسمالية لعالم اليوم، لا يمكن إلا أن يربط بينها وبين تلك الأنظمة المملوكية. وينطبق نفس التقييم على نظيرتها من الأنظمة المدّعى بإسلاميتها والتي ظهرت مؤخراً.
5 - ولا يوجد اختلاف جوهري بين التيارات المسماة "بالراديكالية" للإسلام السياسي، وبين تلك التي تفضل تسمية نفسها "بالمعتدلة" فمشروع كل من النوعين متطابق. وحتى إيران لا تشذ عن القاعدة العامة، بالرغم من الارتباك الذي حدث عند تقييم نجاحها، الذي تحقق بسبب الالتقاء بين تقدم الحركة الإسلامية، والصراع الناشب ضد دكتاتورية الشاه المتخلفة اجتماعياً والمرتبطة سياسياً بالأمريكان. ففي المرحلة الأولى، عوضت المواقف المعادية للاستعمار للسلطة الدينية من غلواء تصرفاتها الجامحة، وهذا الموقف المعادي للاستعمار هو الذي منح هذه السلطة شرعيتها، كما كانت له أصداء قوية من التأييد خارج إيران. ولكن النظام لم يلبث أن ظهر عجزه عن قبول التحدي المتمثل في اقتراح تنمية اقتصادية واجتماعية مجدّدة. فدكتاتورية العمائم "رجال الدين" التي حلت محل دكتاتورية الكابات (العسكريين والتكنوقراط)، كما يقال في إيران، قد أنتجت تدهوراً خطيراً في الأجهزة الإقتصادية للبلاد. وإيران التي كانت تهدف أن تصبح مثل "كوريا"، قد انتهى بها الأمر أن تنضم الى "العالم الرابع". وتجاهل الجناح المتشدد في الحكم للمشاكل الاجتماعية التي تواجه الطبقات الشعبية، هو الذي أدى الى نجاح من يسمون أنفسهم بالمعتدلين، لأنهم أصحاب مشروع يمكن أن يخفف ولا شك، من تشدد الديكتاتورية الدينية، ولكن دون التخلي عن مبدأها الاساسي، وهو ولاية الفقيه الوارد في الدستور. يجد نظام الإسلام السياسي في إيران نفسه في مأزق، ويجب أن يصل الصراع السياسي والاجتماعي الذي يقوم به الشعب الإيراني اليوم بشكل صريح، الى رفض مبدأ ولاية الفقيه الذي يضع جماعة رجال الدين فوق كل مؤسسات المجتمع السياسية المدنية، وهذا هو شرط نجاح هذا الصراع. إن الإسلام السياسي هو مجرد تحوير للوضع التابع للرأسمالية الكومبرادورية، ولعل شكله "المعتدل" يمثل الخطر الأكبر بالنسبة للشعوب المعنية. ويعمل التأييد الواضح لدبلوماسية ثالوث الدول الكبرى بقيادة الولايات المتحدة لهذا "الحل" للمشكلة، في فرض النظام الليبرالي للعولمة الذي يعمل لمصلحة رأس المال المسيطر.
6 - لا يتعارض خطاب رأس المال الليبرالي للعولمة مع خطاب الإسلام السياسي، بل هما في الواقع يكمل أحدهما الآخر تماماً. فالإيديولوجية "الجماعية" على الطريقة الأمريكية، التي يجري الترويج لها حالياً، تعمل على إخفاء الوعي والصراع الاجتماعي لتحل محلهما "توافقات" جماعية مزعومة تتجاهل هذا الصراع. واستراتيجية سيطرة رأس المال تستخدم هذه الإيديولوجية لأنها تنقل الصراع من مجال التناقضات الاجتماعية الحقيقية الى العالم الخيالي، الذي يوصف بأنه ثقافي مطلق عابر للتاريخ. والإسلام السياسي هو بالدقة ظاهرة "ماعية".
ودبلوماسية القوى السبع العظمى، وخاصة الدبلوماسية الأمريكية، تعرف جيداً ماذا تفعل عندما تؤيد الإسلام السياسي. فقد فعلت ذلك في أفغانستان، وأطلقت على الإسلاميين هناك إسم "المحاربين من أجل الحرية"! ضد الديكتاتورية الشيوعية الفظيعة، مع أن النظام الذي كان قائماً هناك، كان مجرد محاولة لإقامة نظام إستبدادي مستنير حداثي وطني شعبي، كانت لديه الجرأة لفتح أبواب المدارس للبنات. وهي مستمرة في هذا التأييد من مصر الى العراق، لأنها تعلم أن الإسلام السياسي سيحقق -لها- إضعاف مقاومة الشعوب المعنية، وبالتالي تحويلها الى الكومبرادورية.
ونظام الحكم الأمريكي، بما عرف عنه من استغلال لأخطاء الآخرين، يعرف كيف يستخلص فائدة أخرى من الإسلام السياسي. فهو يستغل "تخبطات" الأنظمة التي تستلهمه -مثل نظام طالبان- "وهي في حقيقة الأمر ليست تخبطات وإنما هي جزء لا يتجزأ من مشروعها"، كلما فكرت الإمبريالية في التدخل، بفظاظة إن لزم الأمر. والحركات الإسلامية الوحيدة التي تهاجمها بلا تردد القوى السبع الكبار، هي تلك التي تنخرط - بسبب الظروف الموضوعية المحلية - في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، مثل حماس وحزب الله، وهذا ليس من قبيل الصدفة.

خطاب الدين السياسى:
أثارت مقالتي عن الإسلام السياسي المنشورة في مجلة "منثلي ريفيو" الأمريكية والتي ذكرتها في التقديم تعليقات مفكرين اختلفوا مع أطروحاتي القائلة بأن الإسلام السياسي يخدم موضوعيًا أهداف إستراتيجية واشنطن. ولم تفاجئني هذه التعليقات التي أتت بما كنت أنتظره.
1. كان الهدف من المقالة طرح إستراتيجية تسعي إلى إنجاز هدفين هما: دحر خطة واشنطن التي تسعي إلى تكريس السيطرة العسكرية الأمريكية على صعيد الكوكب من جانب، ودحر الإسلام السياسي من الجانب الآخر. وأزعم أن الهدفين لا يقبلان الفصل بينهما. أضيف أن أحزاب الإسلام السياسي "المعتدلة" و"المتطرفة" لا تختلف– في رأيى- من حيث جوهر الهدف الذي تسعي إلى إنجازه، بل فقط في وسائل تحقيقه، وبالتالي فإن الطرفين يتكاملان أكثر من كونهما يتناقضان.
علي أن عرض الأسباب التي دفعتني إلى هذا الموقف يفتح باب النقاش حول مسائل نظرية هامة وأعمق تخص مفاهيم "الحداثة" و"التمركز الأوربي" و"التكوين التاريخي للثقافات السياسية" لمختلف الشعوب وما يترتب عليه من اختلاف في تحديد طابع التحدي.

2. لقد اقترحت فك ألغاز مفهوم "الحداثة" انطلاقًا من تحليل يشدد على مشاركة تبلور الحداثة من جانب، وبزوغ الرأسمالية في الآفاق من الجانب الآخر، حيث إن الظاهرتين لا تنفصلان عن بعض.

ليس هذا المنهج هو منهج خطاب المركزية الأوروبية. بل على العكس تمامًا، أوضحت أن التشديد على هذه العلاقة التاريخية الجوهرية يلغي صلاحية مقولات التمركز الأوربي. وبالتالي أزعم أنني قدمت نقدًا جذريًا لهذا الخطاب، نقدًا يتجاوز سرد ظواهر تجلياته (علي نمط ما قدمه ادورد سعيد). وتوصلت إلى أن الحداثة "القائمة بالفعل"، بسبب علاقتها المباشرة مع تبلور الرأسمالية التاريخية- وأقصد هنا النمط التاريخي للرأسمالية التي لا يمكن فصلها عن نمط للتوسع على صعيد عالمي له طابع استعماري، "استقطابي" من الأصل- أن هذه الحداثة غير مكتملة، بل غير متناسقة في تأثير فعلها على مجتمعات المراكز والتخوم في المنظومة العالمية؛ فهي حداثة "مشوهة" وأن التحدي الحقيقى- في رأيى- هو كيف يمكن تطوير الحداثة لتتجاوز حدودها الراهنة، وذلك في مقابل الدعوة إلى "التخلص" من الحداثة.

3. أما القول بأن تدهور أوضاع المجتمعات الإسلامية وتفاقم الفقر في صفوف شعوبها هو السبب الذي يقف وراء انتشار دعوة الإسلام السياسي فهو قول صحيح، ولكنه لا يعدو أن يكون بديهية. إن صميم أطروحتي فيما يخص توسع الرأسمالية على صعيد عالمي يقوم على توضيح الآليات التي أنتجت بالضرورة "الاستقطاب"، بمعني تصاعد اللامساواة بين المراكز والتخوم، وذلك منذ الأصل. ثم قلت إن هذا التوسع ذو طابع استعماري (وهو مصطلح مرادف للاستقطاب) يتجلى في نهاية المطاف في تخريب حضاري بالنسبة لشعوب بأكملها، بل يؤدي أحيانًا إلى إبادتها. فالمنتظر في هذه الظروف هو بالفعل انبثاق ردود فعل من الشعوب الضحايا. ويمثل الإسلام السياسي نمطًا من رد الفعل المنتظر، بيد أنه لا يمثل النمط الوحيد المحتمل.

فإذا كانت أطروحتي حول الاستقطاب الذي يصحب بالضرورة توسع الرأسمالية التاريخية صالحة، فإن الاستنتاج المنطقي الذي لا مفر من التوصل إليه يتلخص في القول بأن مواجهة التحدي تقتضي الخروج من منطق الرأسمالية، وبالتالي فإن السؤال الصحيح ليس هو معرفة ما إذا كان الإسلام السياسي رد فعل على تدهور أوضاع المجتمعات الإسلامية أم لا (فله طابع رد الفعل دون شك)، إنما السؤال هو ما إذا كان مشروع الإسلام السياسي قادرًا على إنجاز الهدف (الخروج من الرأسمالية) أم لا. وإذا كانت الإجابة سلبية لأصبح هذا المشروع بديلًا قائما على أوهام.

4. لم أجمع في سلة واحدة الإسلام السياسي المعاصر وإسلام المجتمعات في عصور تاريخها السابقة على الغزو الاستعماري. على العكس من ذلك لفت النظر إلى الاختلاف الجوهري بين الظاهرتين. وقد بذلت بعض المجهود للنظر في مقام الديانات في البناء الاجتماعي "القديم" (أي السابق على الرأسمالية وعولمتها ونوع "الحداثة" التي صحبتها) ودورها في إعادة تكوين المجتمع بأبعاده السياسية والاجتماعية والاقتصادية. وتم التركيز في مقولاتي بهذا الصدد على المقارنة بين نمط "أوربا المسيحية الإقطاعية" من جانب ونمط العالم العربي الإسلامي (قبل الغزو الاستعمارى) من الجانب الآخر، ثم إلقاء بعض الملاحظات حول مقام الديانات والعقائد الميتافيزيقية بشكل عام في عصر الهلنستية (انطلاقًا من الإسكندر ثم الإمبراطورية الرومانية) وفي تاريخ الصين.

وكنت توصلت إلى استنتاج أعطيه أهمية حاسمة، ألا وهو أن مجالات التماثل في دور الأيديولوجية الدينية في هذه المناطق والعصور أهم من أوجه التباين الناتج عن "خصوصيات" كل منها. كأن الخاص هنا لم يعد كونه تجليًا للعام، وضربت الأمثلة التي أراها مقنعة بصلاحية استنتاجي، وأهمها الاهتمام المماثل هنا وهناك في تطوير فكر يتيح التوافق بين "العقل" (بمعني منطق أرسطو) و"الإيمان".

وقد اقترحت تفسيرًا لهذا التماثل الدال. وهو أن الأيديولوجيا تقوم في جميع هذه المجتمعات التعددية بدور محوري في إضفاء شرعية على نظام حكم له طابع "خراجي" (ويشمل هذا مجموعة من الأنماط الإقطاعية الأوربية وأشكالا أخري "شرقية" إسلامية وصينية وغيرها)، كما اقترحت أن المستوي السياسي (السلطة) هو المسيطر على المستوي الاقتصادي في هذه النظم (في مقابل انقلاب العلاقة وهيمنة "قوانين الاقتصاد" التي تصبح "مستقلة" في النمط الرأسمالى)، وأن النمط المطلوب الفعال للأيديولوجيا المناسبة للقيام بهذا الدور (أي سيطرة المستوي السياسي على المستوي الاقتصادى) هو النمط النمط "الميتافيزيقي المطلق" (في مقابل مقام العلوم الحديثة التي تكتفي بالبحث عن حقائق جزئية ونسبية)، وأن العقائد الدينية (هنا المسيحية والإسلام) مثلت الشكل الذي اتخذه الخطاب الميتافيزيقي المطلوب. علمًا بأن هناك مذاهب ميتافيزيقية أخري غير دينية الطابع قد قامت بدور محوري مماثل في عصر الهلنستية وفي عصر سيادة الكونفوشيوسية في الصين. كما توصلت إلى استنتاج آخر لا يقل أهمية، وهو أن ظهور الرأسمالية (ومعها الحداثة) قد أنتج انقلابًا في العلاقة بين المستويين السياسي والاقتصادي، وبالتالي أضفي على المستوي الأيديولوجي مقامًا ومحتوي آخر تمامًا. حيث إن مقام الديانة وفهم محتواها قد تجددا، فألغيت المفاهيم القديمة، أو على الأقل- إذا استمر الاعتماد عليها ظاهريًا- فقدت فعاليتها في إدارة المجتمع "الحديث"، في المراكز وفي التخوم. أما العلوم- بمعني البحث عن حقائق جزئية ونسبية- فقد أصبحت أهم من البحث عن الحقيقة المطلقة الشاملة.

5. وبالتالي فإن الإسلام السياسي هو ظاهرة حديثة وليس استمرار لظاهرة قديمة. هذا هو ما قلته بالتشديد عليه. قلت أكثر من هذا. قلت إن جميع المذاهب والحركات النشطة في الساحة في العالم المعاصر، والفاعلة في المجالات المختلفة الأيديولوجية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية، هي "حديثة" لأنها- بكل بساطة- لا يمكن فصلها عن واقع الرأسمالية، فالليبرالية الديموقراطية البرجوازية (المحافظة والإصلاحية)، والمشروعات الاشتراكية (الاشتراكية الديموقراطية والشيوعية التاريخية)، والفاشيات، والأيديولوجيات القومية وتحت القومية، وأيديولوجيا العنصرية للاستعمار، وخطب المقاومة للشعوب المضطهدة، وحركات الانعاش الديني في أشكالها المتباينة من السلفيات والأصوليات، وكذلك المذاهب التي تدعو إلى إعادة قراءة العقائد للتكيف مع مقتضيات المستقبل مثل لاهوت التحرير، بل والطوائف والبدع العديدة الظاهرة في الساحة كل يوم، فجميع هذه الحركات حديثة الطابع وليست "بواقي من الماضي".

6. إن الاعتراف بأن الحركات المذكورة هي حديثة الطابع مقولة مرضية بحد ذاتها. فالمشكلة هي تحديد معناها ومقامها، وبالتالي توضيح أوجه التباين بينها، والتمييز بين الحركات والمذاهب التي تدفع نحو الأمام في سبيل تجاوز الرأسمالية وتطوير الحداثة، وبين تلك الحركات التي لا تهتم بالإشكاليات المذكورة فتنقل النقاش إلى أرضيات "الخصوصية".

أعتبر نفسي ماركسيًا بمعني أنني أنظر إلى الأدوات التي تقترحها المادية التاريخية على أنها أفضل الوسائل في المتناول للتحليل العلمي في مجال علوم الاجتماع. أقول إنها الأدوات التي تتيح أكثر من غيرها إدراك طابع التحدي الذي تواجهه الشعوب والطبقات ضحايا الرأسمالية ونمط حداثتها. علمًا بأن التوظيف الخلاق لهذه الأدوات ليس تمرينًا بسيطًا يسيرًا، بل يحتاج إلى التطوير المتواصل. هناك مذاهب أخري لا تقل أهمية، وهي السائدة في الساحة طالما سادت الرأسمالية. بعضها بدافع صراحة عن جوهر النظام باسم تفوق الليبرالية الديموقراطية البرجوازية (وهابرماس يمثل هذا الفكر)، وبعض المذاهب الأخري الفاعلة في الساحة هي رجعية صراحة (والفاشيات تمثل النمط المتطرف منها). ولكن أزعم أيضًا أن هناك مدارس فكرية تظل تتحرك في إطار سيادة الرأسمالية- طالما تعطي أهمية مركزية لاحترام مبادىء "الملكية الخاصة"- وذلك بالرغم من اتخاذها شكل الخطاب "الديني" (أو شبه الدينى) أو القومي (أو شبه القومى).

وأعتبر أن الإسلام السياسي المعاصر (وكذلك الهندوسية السياسية والبوذية السياسية والمسيحية الأصولية الأمريكية وغيرها) ينتمي إلى هذه المجموعة التي تقدم إجابات لا تعتمد على تحديد علمي لطابع التحدي، وبالتالي تروي أوهامًا خطيرة حول قدرتها على تغيير العالم. وإذا كان بعض هذه الحركات قد نجح في تعبئة مناضلين من أصول شعبية وفقيرة دليلًا على نوعية طابعها السياسي، فالنجاح هنا لا يعدو كونه وجهًا واحدًا للعملة، والوجه الآخر هو فشل اليسار (الاشتراكي خاصة) في مواجهة المد اليميني الذي تلا انهيار الأنماط التي سادت في أعقاب الحرب العالمية الثانية وتشمل السوفيتية والشعبويات الوطنية لعصر باندونج.

يجب أن نعمم أن الساحة السياسية ليست ساحة تحتلها بالضرورة قوة تقدمية من جانب ورجعية من الجانب الآخر. فقد يحدث أن تحتل مقدم المسرح قوي ينقصها الوعي فيقع المجتمع في مأزق لا مخرج منه. وهو أمر لا ينفرد الإسلام السياسي به، فقد كتبت أن العديد من الحركات التي تشكل "المنتديات الاجتماعية"- ولو نادت ببعض المبادىء التقدمية وقدمت بعض التحاليل المفيدة- إلا أنها لم تطور بعد- وإلي اليوم- تنظيرًا على قدر التحدي.

لقد بادرت مبكرًا بنقد مشروعات باندونج وبيان حدودها وتناقضاتها، فنشرت عام 1963 كتابًا عن مصر الناصرية أبديت فيه مخاوفي من أن تنتهي التجربة "بالعودة إلى حظيرة الكومبرادورية" (ألفاظي في الكتاب) الأمر الذي تحقق فيما بعد باسم "الانفتاح، وأن تملأ موجة "إسلامية" الفراغ الأيديولوجي الذي خلقه الفكر القومي البحت، وهو أيضًا ما حصل. نعم، أفتخر بصلاحية هذه التنبؤات التي توصلت إليها باكرًا.

7. لا أزال أرفض جميع أنواع القراءات "الثقافوية" للتاريخ والسياسة. وأقصد من وراء هذا المصطلح تلك المقولات القائمة على تصديق "ثوابت" يُزعم أن الشعوب و"الجماعات" تتسم بها، فتفرض انفراد كل مسيرة من المسيرات التاريخية المتباينة ظاهريًا. وذك سواء أكان لهذه الثوابت مصدر ديني أوغيره (ثقافى)، نافيًا بذلك فعل قوي تفرض نفسها على صعيد تاريخ الإنسانية بأجمعها، واقترحت التركيز في التحليل على ما أسميته "الثقافة السياسية التاريخية" بديلًا للخطاب الفارغ من "الخصوصيات" و"الثقافة" (دون صفة تنعت بها). ذكرت أن الأيديولوجيا القومية معرضة لخطر الوقوع في الفخ، بمدحها للقومية بأسلوب تنقصه روح النقد، وفي أحوال عديدة إعادة كتابة التاريخ حتي يناسب توجهات الأيديولوجيا.

لقد اتهمت المقاربات والمقولات أوروبية التمركز- بالتحديد- بالثقافوية، وهو عنصر لا مفر منه لإضفاء مصداقية لأطروحاتها حول "الخصوصية الأوربية" و"الاستثناء الأوربي" و"المعجزة الأوربية" و"انفراد أوربا باختراع الحداثة". ولكني اتهمت أيضًا "التمركز الأوروبي المعكوس" (وهو المصطلح القوي الذي استخدمه جلال العظم) الذي تتسم به الثقافويات الشرقية، الإسلامية، العربية وغيرها في آسيا وأفريقيا. ولأنني أعطيت الأولوية لمفهوم العام، فقد قدمت مبكرًا في كتاب مشترك مع أندري جندر فرانك صدر عام 1978 أطروحة تزعم أن الحداثة ومعها الرأسمالية كانتا في المخاض في مناطق أخري خارج أوروبا.

وفي كتابات تالية استكشافية تجرأت بقول إن الصين قد بادرت في اختراع الحداثة والرأسمالية قبل أوروبا بثلاثة أو خمسة قرون. وأشرت هنا إلى التطور نحو تعميم علاقات التبادل التجاري على نطاق لا سابق له في تاريخ أوروبا قبل القرن التاسع عشر، واختراع نمط البيروقراطية الحديثة، وإلغاء "الدين السياسي" واستبداله بمبدأ العلمانية، واتخاذ خطوات في التقدم التكنولوجي ضمنت تفوق الصين إلى أيام الثورة الصناعية، كما ذكرت ما هو معلوم عن علامات بزوغ نمط التحديث والرأسمالية المحتمل في الحضارة العربية الإسلامية في مرحلة ازدهارها.

8. بيد أنني دعوت أيضًا إلى إعادة قراءة النهضة العربية للقرن التاسع عشر وهي حركة أخذ اليسار العربي بشكل عام- البرجوازي الديموقراطي والشيوعي فيما بعد- ينظر إليها "بكسل"، على أنها فتحت السبيل للخروج من الانحطاط، فالدخول في التحديث بما فيه تبلور القومية العربية بصفتها ظاهرة حديثة. فوضعت إصبعي على التباس فهم النهضة العربية "لأختها" –النهضة الأوروبية- وغياب إدراكها معني ومدي "نقد الدين" في الأخيرة ودعوتها للعلمانية. وقد أدي هذا الالتباس إلى إجهاض مشروع النهضة وفتح السبيل لسلسلة ردات تالية قادت في نهاية المطاف إلى الإسلام السياسي المعاصر. هذا ولابد من أن نعي أن انتصار "الرأسمالية التاريخية"- بمعني ذلك النمط الذي تكاملت عناصر تكوينه في أوروبا- ومعه انتصار الحداثة الموازية لها (ولو أنها حداثة مشوهة) قد وضع نقطة النهاية لاحتمال اختراع أنماط أخري للرأسمالية والحداثة نابعة من أصول ثقافية أخري. فأنتج هذا التطور تحديًا جديدًا لا مفر من مواجهته كما هو.

9. إن ظاهرة "الإسلاموفوبيا" حقيقة في المجتمعات الغربية المعاصرة، وبالتالي فإن حساسيات ضحايا التوسع الاستعماري في مواجهتها أمر طبيعي ومفهوم. بيد أن هذه الفوبيا ليست الوحيدة التي أخذت في التصاعد خلال العقود الأخيرة. فهناك أيضًا "صينوفوبيا" تجلت في الحملات الوقحة للدفاع عن الثيوقراطية البوذية القائمة على نظام الرق والتي يقودها الدلاي لاما في التبت.

لم تفاجئني هذه الظواهر. إذ إنني توصلت في تحليلي للتحدي المعاصر للرأسمالية "المتهالكة"- كما أسميتها- إلى توضيح الأسباب التي دفعت الاستعمار الجماعي للثالوث (للولايات المتحدة، أوروبا، اليابان) لتبني مشروع يسعي إلى تكريس نظام عالمي قائم على مبدأ "الأبارتهيد" على صعيد عالمي (ألفاظي في تحديد المشروع)، أي بكلمة أخري مشروع حرب متواصلة ضد جميع شعوب الجنوب، لا ضد المسلمين فقط.

10. لا يصح الجمع السريع بين ظاهرة إسلام الضواحي الشعبية في أوروبا وأمريكا وظاهرة الإسلام السياسي في المجتمعات الإسلامية. فظاهرة "إسلام الضواحي" لا تعدو كونها انتفاضة مهاجرين فقراء، شأنها شأن احتجاجات اجتماعية أخري. فهي رد فعل على ممارسات تمييز لها طابع اجتماعي طبقي قبل أن يكون ثقافيا. علمًا بأن المشروعات السياسية التي تسعي إلى إعادة ترتيب المجتمع على أساس تنظيم "جماعات ثقافية"- باسم "احترام الفروق"، وهو مبدأ مقبول في حد ذاته- هي في نهاية المطاف سياسات تكرس التمييز، لا تلغيه. فليس صدفة أن الحكومات الرجعية في الولايات المتحدة وبريطانيا على الأخص هي التي تنادي بهذا النوع من "الحل" للمشكلة.

وسوف يخطئ اليسار- في رأيى- إذا ساند هذا المشروع الرجعي وبحث عن تحالف على أرضيته مع الجماعوية الفاعلة في صفوف المهاجرين؛ حيث يؤدي هذا إلى مساندة مشروع السلطة، ولو دون وعي. أزعم أن مسئولية اليسار تقع في مجال آخر، وهو المشاركة في تنظيم نضال المهاجرين من أجل ضمان تنفيذ حقوقهم في العمل والسكن والتعليم والصحة، بالإضافة إلى المساواة في التعامل معهم.

11. إن تناول موضوع الإسلام السياسي عبر خطاب عام يغفل تنوع الظروف الملموسة المحيطة والمتغيرة من قطر إلى آخر، يحمل بالتأكيد مخاطر خطيرة، فينبغي تفادي هذا الجمع.

لذلك فقد اقترحت التمييز بين الإسلام السياسي في السعودية وباكستان من جانب وفي البلاد الأخرى- على الأقل- من جانب آخر. فالوهابية في الجزيرة العربية تعد ظاهرة خاصة، وتجليًا لنمط غليظ للعقيدة هو نتاج لمجتمع ظلت تحكمه أشكال عتيقة من الممارسات المجتمعية تجاوزتها المجتمعات الإسلامية الأخري منذ زمن بعيد، سابق على الإسلام نفسه. ثم أصبح هذا المذهب أيديولوجية لدولة هي نفسها أصبحت حليفًا مرؤوسًا للولايات المتحدة. على أن الثروة النفطية قد خلقت ظروفًا مناسبة لانتشار المذهب الوهابي في صفوف الإسلام السياسي السني المعاصر، ترتبت عليه ردات تدميرية واضحة، في سلوك رجعي لأقصي حد، خاصة بالنسبة إلى النساء، واختزال العقيدة في شكلية طقوسية، وعنصرية طائفية متعصبة في مواجهة الشيعة.

ويحمل "الإسلام السياسي" في باكستان "عيب الولادة". فالهند وطن موحد حضاريًا بالرغم من تنوع الانتماءات الدينية، وقد انتشر الإسلام فيه بمرافقة الغزوات الإيرانية والتركية والمغولية. بيد أن الطبقة التي استولت على الحكم باسم الإسلام في مناطق شاسعة من القارة ظلت صغيرة من حيث العدد، بينما الشعب- بما فيه هؤلاء الذين أسلموا- ظل هنديًا، لغويًا وثقافيًا وحضاريًا. ونمت حركة التحرر الهندي بالتشديد على وحدة الوطن مع احترام التعدد الديني، في إطار مشروع دولة حديثة علمانية إلى حد ما. هذا بينما اجتهدت السلطات البريطانية لتفريق الحركة (وهذه السياسة بديهية عند الاستعمار بالطبع). هكذا اخترع الإنجليز- بمعونة المستشرقين في خدمتهم- مذهب الإسلام السياسي الذي تبناه أبو العلاء المودودي، والذي أقيمت على أساسه دولة باكستان. وينطبق ذلك على أصحاب السلطة كما ينطبق على هؤلاء الذين أقاموا فيما بعد أحزابًا "إسلامية" معتدلة (في صفوف الفئات الوسطى) و"متطرفة" (عبأت مناضلين في الأوساط الأكثر فقرًا").

هذا بينما يحتل الإسلام السياسي في المجتمعات الأخري مقامًا مختلفًا. فالدولة هنا أقيمت على أساس الاعتراف بتعدد أوجه الذاتية وتصديق مبدأ الوطنية (أو القومية) العربية وغيرها (إيرانية، أندونسية). وانطلاقًا من هذا الموقف خطت مجتمعات هذه الدول خطوات- ولو محدودة- نحو علمنة النظم. فليس الإسلام السياسي هنا هو ظاهرة "ما بعد كولونيالية" كما يزعم مذهب "ما بعد الحداثة" (الموضة الأمريكية)، بل هو ظاهرة "ما بعد باندونج" بمعني أنها ازدهرت على أنقاض مشروع باندونج. تختلف إذن الأوضاع فيما يخص مقام الإسلام في تعريف الذاتية. ففي السعودية وباكستان تم تجاهل بل والتنكر للذاتية الوطنية، لصالح التصديق على انفراد الذاتية الإسلامية، على خلاف الوضع في البلدان الإسلامية الأخري.

ومما ترتب على إنكار الوطنية: فتح الباب أمام التصديق على ذاتيات "تحت وطنية"، إقليمية في باكستان وقبائلية في الجزيرة، تفعل فعلها المدمر الذي يغلق باب التطور، وتم- إلى الآن- التغلب على هذه الأمور المدمرة بفضل الثروة النفطية في الجزيرة والدكتاتورية العسكرية في باكستان. فأغلق باب التطور الديموقراطي الذي يعتمد أصلًا ضرورة تغليب الذاتية الوطنية. لم يكن الإسلام في حد ذاته محور المقاومة ضد الكولونيالية، كما يحلو أن يقال في أيامنا (وهذا هو إلى حد كبير اختراع حديث وتزييف للتاريخ الحقيقى). ويقوم مثل الجزائر دليلًا قاطعًا في هذا المضمار. فلم تقاوم السلطات الفرنسية "الإسلام"، بل على العكس من ذلك اعتمدت على رجال الدين السلفيين وأعطت لهم سلطة تنفيذ الشرعية على أهل البلد. حتي أن الجمهورية الجزائرية الجديدة هي التي بادرت في تطوير- خجل- نحو علمنة القانون، وليس الفرنسيون. فالمفارقة إذن هي أن الحركات الإسلامية تطالب بالعودة إلى ممارسات النظام الكولونيالى!

علي أن الخطوات التي خطتها نظم باندونج في هذا المجال ظلت محدودة للأسباب التي ذكرتها، أي غياب التقدم الديموقراطي الصحيح. ووجدت العديد من هذه النظم في تصديق الجانب الديني للذاتية (سوا كان الإسلام أو الهندوسية أو البوذية أو غيرها) خيارًا مفيدًا في مواجهة "الخطر الشيوعي"، خاصة عندما بدأت شرعية شعبوية تلك النظم تتآكل. هكذا فتحت الناصرية الأبواب لإنعاش ما أصبح فيما بعد الإسلام السياسي كما ذكرت في كتابي الباكر عن "مصر الناصرية".

واليوم تمثل القوي الثلاث البارزة التي تحتل مقدم المسرح (النظام، الإسلام السياسي، الليبرالية "الديمقراطية" حليفة الولايات المتحدة) أجنحة لطبقة واحدة، هي الكومبرادورية.

12. يقال إن الإسلام السياسي يحارب الولايات المتحدة وبالتالي لا يجوز استبعاد اعتبار هذه الحقيقة الواضحة عند تقييم دوره. وهذا هو بالفعل ما تقوله الولايات المتحدة والتي لا تستطيع أن تقول غيره، لأن هذا الحرب هو المبرر الوحيد الذي يعطي "شرعية" لمشروع السيطرة العسكرية على الكوكب باسم "محاربة الإرهاب"، خاصة وسط الرأي العام في الغرب فينبغي أن ننظر إلى هذه "الحروب" عن كثب. إن حركة الطالبان هي التي تطلق النار على جيوش الاحتلال في أفغانستان. بيد أنهم مستعدون لأن يتحولوا إلى حلفاء واشنطن شرط أن تنسحب القوات الأجنبية. وهنا وقعت واشنطن في فخ حقيقي، فالانسحاب مستحيل إذ يلغي تمامًا مصداقية الحجة القائمة على محاربة الإرهاب. فلا شك أن بن لادن لا بد أن يظل موجودًا، وتصريحاته مفيدة، تأتي دائمًا في الوقت المناسب.

أما في العراق فالواقع- للأسف الشديد- هو أن "الإسلاميين" لا يحاربون فقط قوات الاحتلال وخدامها. هل يمكن إغفال نجاح الخطة الأمريكية في إثارة الحرب الأهلية بين السنة والشيعة؟ ولئن فشلت الخطة الأمريكية السياسية، بمعني أن السلطة المرؤوسة الحليفة لم تكسب بعد درجة من المصداقية تستطيع بها أن "تحكم" في غياب قوات الاحتلال، إلا أن المقاومة العراقية من جانبها تظل عاجزة عن دحر القوات الأمريكية. فالمقارنة مع فيتنام في غير محلها إذ إن الفيتناميين طردوا العدو عسكريًا ، وذلك دون الاعتماد على دعوة دينية الطابع. فهل أيديولوجيا الإسلام السياسي بريئة من هذا الفشل؟

نعم. ألحق حزب الله في لبنان هزيمة بجيوش إسرائيل، بيد أن الشيوعيين أثبتوا أيضًا قدرة مماثلة عندما كانوا يمثلون القوي الرئيسية في جنوب لبنان، ثم تحالفت إيران وسوريا لإحلال حزب الله محلهم. وقد تم ذلك في جو حياد إيجابي من قبل الدول الكبري التي خشيت هي الأخرى "الشيوعية" أكثر من "الإسلامية". وفي الوقت نفسه أدخل حزب الله لبنان في مأزق سياسي إذ إن مشروعه غير مقبول خارج الشيعة، بالإضافة إلى أن مساندة جماهير الشيعة هي نفسها أمر مشكوك في حقيقة، بالرغم من أن الولايات المتحدة وآيات الله تحلوا أن تكرره.

وهل أثبتت حماس في فلسطين قدرة في مواجهة العدو الإسرائيلي تفوق فعالية قوي بديلة احتمالية؟ هل يمكن إغفال أن إسرائيل والولايات المتحدة وأوروبا شاركت في إفشال هذه البدائل؟ لم يعلن الإسلام السياسي الحرب ضد الولايات المتحدة. هي الولايات المتحدة التي اتخذت المبادرة بإعلان الحرب ضد جميع شعوب الجنوب في إطار مشروعها العالمي. وقد اختارت واشنطن منطقة "الشرق الأوسط" للقيام "بالضربة الأولي". ولم يكن اختيار واشنطن هذا لأن الشعوب الذي تسكنها مسلمة. بل لأسباب أخري، بالأساس: الثروة النفطية وموقعها الجغرافي الذي يتيح استيطان قواعد عسكرية دائمة فيه قادرة على تهديد الصين وروسيا والهند (إذا احتاج الأمر). وقد لاحظ ذلك جميع المختصين بالجيوستراتيجا مثل حسنين هيكل. وذكرته أنا منذ أوائل التسعينيات. وقد أثبتت التطورات التالية- أي تغلغل النفوذ الأمريكي في آسيا الوسطي والقوقاز- صلاحية تحليلنا للهدف الاستراتيجي الأمريكي الصحيح.

ولو غابت التناقضات التي ترتبت على بسط المشروع العسكري الأمريكي لكان التعايش بين واشنطن ونظم "إسلامية" تحكم بلدان المنطقة أمرًا يسيرًا وطبيعيًا، على نمط التحالف العضوي مع السعودية وباكستان. فالإسلام السياسي هو للاستهلاك المحلي فقط، لا يمثل خطرًا على سيادة الاستعمار سياسيًا واقتصاديًا. وبالعودة إلى "الاسلاموفوبيا" التي تستغل بالفعل التطورات المذكورة، فلا صعوبة في إدراك الأسباب التي دفعت جماهير شباب الغرب لتنتظم في مظاهرات وراء صور هوشي منه وجيفارا وإعلام فلسطين، لا وراء آيات الله وبن لادن. وهو ما أتمني أن تفهمه شعوبنا أيضًا.

13. نعم. أدافع عن العلمانية وفصل مجال السياسة والدولة عن الدين فصلًا نهائيًا. العلمانية هي شرط إقامة ديموقراطية خلاقة دون حدود، متحررة من واجب تدعيم مبادراتها بإعادة تفسير الماضى- الديني وغيره- من أجل إضفاء شرعية للتغيير المطروح. علمًا بأن الحدود التي يفرضها هذا المنهج تقف دائمًا عقبة في سبيل تجذير الحركة. لذلك شاهدنا أن جميع الثورات الكبرى التي فتحت الأبواب لخطوات حاسمة في إنجاز الديموقراطية والتقدم الاجتماعي (ولو أن تطورات لاحقة قد فرضت ردات في بعض الأحيان) قد لجأت إلى أنماط جذرية من العلمانية.

وبشكل عام ظلت إنجازات العلمانية بطيئة فتجلت في خطوات إلى الأمام، ولحظات تردد وردات، رافقت أمواج المد والجزر في مسيرة "التحديث" البرجوازي، وانبثاق مبادرات شعبية تجاوزت حدود الأولي وفتحت آفاقًا نحو الاشتراكية، كما رافقت الردّات التي أصابت هذه المبادرات. وقد تعددت أشكال العلمانية البرجوازية التي نشأت في أوروبا لإنهاء الحروب الطائفية بين الكاثوليك والبروتستانت، فأنجزت خطوات أولي خجلة لم تتجاوز حدود مفهوم "التسامح" المتبادل. ولقد تكوّن المجتمع الذي أصبح فيما بعد الولايات المتحدة على أساس هجرة طوائف عانت من اضطهاد السلطات القائمة في أوروبا (انجلترا خاصة) فاستوطنت في أمريكا معتمدة مبدأ التسامح، وإلي يومنا لم يتجاوز مفهوم العلمانية هناك حدود التسامح.

أما العلمانية الجذرية فهي ظاهرة أخري ظهرت في عصر الثورات الكبري انطلاقًا من اللحظة اليعقوبية للثورة الفرنسية. وفي المقابل لم تخط العلمانية في معظم بلدان أوروبا (بريطانيا وألمانيا وإيطاليا وأسبانيا وغيرها) بخطوات جذرية مماثلة بسبب تنازلات البرجوازيات في مواجهتها للنظم الأرسطوقراطية القديمة التي اعتمدت بدورها على نفوذ وسلطة الكنائس. فتقدمت وتراجعت حركة العلمانية بحسب حركة الكتل الاجتماعية السائدة والحاكمة في تحديد شروط إعادة تكوين المجتمع الرأسمالي. هكذا نشاهد في أوروبا في المرحلة الراهنة ردة في مجال العلمانية توازي رجعة الديموقراطية إلى الوراء، نتيجة تحكم الأوليجاركية الاحتكارية المنفردة في السلطة. ويقدم نص دستور الاتحاد الأوروبى- وما يحيطه من خطاب حول "الأصول المسيحية" (بل اليهو- مسيحية عند البعض) للحضارة الأوروبية- دليلًا على هذه الردة.

وقد تخلفت مسيرة العلمانية في تخوم المنظومة العالمية لأسباب بنيوية تتعلق بتخلف البرجوازية ثم ضعف الكتل التي قادت حركات التحرير الوطني. لذلك نشاهد هنا خطوات خجلة فقط تميل إلى العلمانية ولا أكثر. وتمثل تركيا الكمالية نمطًا من هذا النوع من التقدم المحدود المدي. بيد أن تسجيل غياب مبادرات جريئة نحو العلمانية ليس عذرًا للتخلي عن النضال من أجل دفع الحركة إلى الأمام (كما أن تسجيل غياب الديموقراطية ليس عذرًا لقبول الأمر الواقع!)، بالأولي اعتبار أن العلمانية "غير مطلوبة"، أو على الأقل أن عليها أن تتكيف مع خصوصيات الحضارة المحلية باسم "احترام الفرق". لا فرق في هذا الصدد بين مجتمعات المراكز والتخوم. فالمطلوب من الجميع هو التقدم نحو إقامة وتكريس ديموقراطية خلاقة، وهي تفترض بدورها تقدم العلمانية الصحيحة التي تفتح آفاق الاشتراكية عبر مراحل انتقال طويلة ومتتالية.

فلا تخص العلمانية- بل العلمانية الجذرية- الشعوب "المسيحية" فقط كما يزعم الإسلام السياسي والسلفية المعاصرة. وإنما يهم إنجازها الجميع، فالمجتمعات الإسلامية لن تتقدم دون فصل الدين عن الدولة والسياسة، والهند لن تتقدم دن إلغاء الطابع المقدس لنظام الطوائف الاجتماعية (نظام "الكاست") في علاقته بالعقيدة الهندوسية، والشعوب البوذية لن تتقدم دون إلغاء النظام الثيوقراطي للدلاي لاما. وبدون إقامة ديموقراطية خلاقة لن تنجز هذه المجتمعات تقدمًا اجتماعيًا ملحوظًا ولا خطوات حاسمة في سبيل التحرير من تسلط الاستعمار في شؤونها. إن عصرنا هو عصر ردة على جميع المستويات، في البلاد الإسلامية والأخري، في الجنوب والشمال. فأصبحت مواجهة هذه الردة مواجهة صريحة تفرض نفسها على الجميع، دون استثناء.

14. لا يقتصر موضوع موقع العقيدة الدينية ومقامها في التاريخ- بل في تصورات المستقبل- على إشكالية العلمانية. ولست من هؤلاء الذين يعتقدون أن التأملات حول ما "فوق الطبيعة" سوف تتلاشي وتنتهي "من نفسها"* فكتبت أن الإنسان "حيوان ميتافيزيقي"، يحتاج إلى هذه التأملات ليتغلب على كرب الحياة، وأن أفضل النظم الاجتماعية (بما فيها الاشتراكية "المتكاملة" للغد البعيد) لن يلغي هذه الحاجة. وأشارك هنا تلك الجملة التي كتبها ماركس والتي أثارت الكثير من التعليقات الملتبسة في شرح معناها- أقصد المقارنة التي طرحها ماركس بين الدين والأفيون. فالأفيون دواء لا غني عنه لتخفيف شدة الألم. بيد أن تناول هذا الدواء يحمل في طيه خطرًا جسيمًا وهو التنويم والتخلي عن البحث في أسباب الألم وبالتالي إنماء قدرة مقاومة المرض**.

اجتهدت في كتابات أخري في قراءة تاريخ الديانات (ولا سيما المسيحية والإسلام) بالتركيز على التحولات في تفسيرها التي أتاحت لها أن تتكيف مع تحولات المجتمع، وبالأخص تلك التحولات التي أتاحت للمسيحية أن تتكيف مع التطور من الإقطاعية إلى الرأسمالية. كما تابعت المجهود الذي يبذله البعض من علماء اللاهوت في طرح مفاهيم جديدة للعقيدة تتمشي مع مقتضيات النضال من أجل الاشتراكية. أقصد هنا بالطبع لاهوت التحرير. ورحبت بهذه الحركة الفكرية التي تمثل أحد روافد الالتقاء مع التنوع الذي أدعو إليه. أقول إن العالم الإسلامي هو الآخر في حاجة إلى تحريك فكره الديني لكي يحقق هو الآخر تكييف الإسلام لمقتضيات المستقبل. وإن النضال في هذه الساحة- وإن لم تكن الساحة التي أتحرك أنا بالأساس على أرضيتها- لا يقل أهمية عن أي نضال آخر.

علي أنني قد توصلت إلى أن العالم الإسلامي لم يدخل بعد- للأسف- في مرحلة التحول المطلوب فقلت إن نهضة القرن التاسع عشر لم تعِ بمدي التحدي الحقيقي، والآن يرفض الإسلام السياسي فتح باب هذا النقاش، مكتفيًا بجملة فارغة "الإسلام هو الحل".

كان الأخ السوداني محمود طه قد فتح باب الاجتهاد وفقه التحرير، وقد حكم عليه نظام النميري، الإسلامي رسميًا بالإعدام. ولم تحتج شخصية واحدة تزعم الانتماء إلى تيار من تيارات الفكر "الإسلامي" المعتدل أو الجذري والثوري على هذه الجريمة الفاحشة.

ليس الإسلام السياسي حركة "إنعاش ديني". كلا هو حركة سياسية توظف الخطاب الديني، بل توظف خطابًا سلفيًا دون تحفظ. فاختزلت العقيدة معه إلى ممارسات طقوسية. لقد كرس الإسلام السياسي العودة إلى مفاهيم عصر الانحطاط، لا غير.

فليس من الصدفة أن الإسلام السياسي قد فتح باب العودة للتمييز الطائفي، وفتح باب التعصب وتصاعد الكراهية بين السنة والشيعة.

أتمني أن يدرك القارىء تمامًا موقع نقاشي، دون التباس. فقد وجهت نقدي "لتسييس الدين" بمعني تعبئة الإيمان في خدمة مشروع سياسي، أيًا كان، كما يفعل "الإسلام السياسي". فالتشديد على نعت "السياسي" في محله تمامًا. أما تناول إشكالية "الفكر الديني" فهو موضوع آخر وقد أبديت بهذا الصدد ملاحظات تخص التفسيرات المتباينة التي تتابعت واصطدمت في التاريخ. وكان مجهودي يسعي إلى كشف الأسباب التي تفسر هذه الأطروحات على أرضية سمات ومشاكل المجتمع المعني. لم يكن هدفي كشف ما هو "الدين الصحيح" (الإسلام الصحيح، أو المسيحية الصحيحة، أو حتي الماركسية الصحيحة!). فلم يكن لاهتمامي طابع ميتافزيقي، بل تاريخي علمي بحت. علي أن للمؤمن الحق المطلق- الذي لا أنكره- في البحث عما يراه الإيمان الصحيح في إطار العقيدة الدينية التي ينتمي إليها، فللمؤمن هنا الحق في أن يختار السلفية، كما له الحق في أن يختار مذهبًا آخر يدعو إلى تطوير تفسير العقيدة، "فتح باب الاجتهاد" إذا رأي ذلك ضروريًا لانعاش الفكر الديني نفسه. أما الخلط بين المنهجين، أي الخلط بين تناول مشاكل الفكر الديني وتناول مشاكل الفكر السياسى- ولو زعم هذا الأخير أنه "فكر ديني"- فهو أسلوب أيديولوجي رخيص.

15. ما العمل إذن؟ ما هي مقتضيات إعادة بناء الشروط التي تتيح ازدهار الفكر وتطوير العمل كي يتحقق التحرر والتقدم؟ لقد رفضت في هذا المجال أطروحة "الليبرالية السياسية الديموقراطية المزعومة"، ورفضت بالتالي قولها أن التطور المطلوب يمر في المجتمعات الإسلامية بالتنازل في مواجة مطالب "الإسلام". فليس الاعتراف أن "العقيدة الدينية" تحتل مقامًا هامًا في هذه المجتمعات أكثر من بديهية. هل يجب أن نستنتج من هذه البديهية أن "التفاهم" مع الإسلام السياسي أمر ضروري، لا مفر منه؟ كلا إذ يفترض هذا الموقف احتكار الإسلام السياسي تمثيل المقام المذكور للعقيدة. على العكس من ذلك أقول إن دحر أوهام الإسلام السياسي هو الشرط لانعاش العقيدة نفسها، إلى جانب إنجاز التقدم في جميع مجالات الحياة الاجتماعية. تلك مسئولية اليسار التقدمي، وهي مسئولية حاسمة. وللنضال في الساحة الأيديولوجية أهمية لا أود التقليل من أهميتها.

علي أن محور النضال الأساسي هو الصراع الطبقي على أرضية التحديات الملموسة التي تواجهها الطبقات الشعبية التي تعاني من الاستغلال والاضطهاد. فالمعارك الحاسمة التي سوف تحكم اتجاه التطور نحو الأفضل أو الأسوأ هي المعارك من أجل ضمان حقوق الكادحين، حول العمل والأجور، التنظيم النقابي الحر، حق الأحزاب والتظاهر، حق الفلاحين في الأرض التي يزرعونها، حق حصولهم على وسائل استغلالها، حقوق المواطنين في التعليم والصحة والإسكان.

ليس الخوض في هذه المعارك بديلًا للنضال من أجل الديموقراطية وللنضال ضد الاستعمار وأعوانه (وخاصة إسرائيل). بل على العكس من ذلك سوف تظل المطالب الديموقراطية والعمل ضد الاستعمار والصهيونية شعارات فارغة، وفي نهاية المطاف خطابا لن تقتنع الجماهير به دون الخوض في المعارك الطبقية. فالجبهة الاجتماعية الوحيدة التي تستطيع أن تقود إلى إنجاز الأهداف الديموقراطية والتقدم الاجتماعي والتحرر من سيادة الاستعمار هي تلك الجبهة الشعبية القائمة على مبدأ الالتقاء مع التنوع بين مختلف فئاتها.

(6) حول إلغاء دعم المحروقات
يتوقف مغزى الإجراءات التي اتخذتها الحكومة حديثا (ومنها بالأساس إلغاء دعم المحروقات الذى أركز عليه تعليقي) ــ وما يترتب عليه فى مجال إنماء الإنتاج وظروف معيشة الجماهير ـ على إطار السياسة الاقتصادية العامة التي تتم فيها هذه الإجراءات فيمكن أن تكون الإجراءات أداة في خدمة مواصلة تحكم الليبرالية الفجة الموروثة من النظم السابقة (وهو ما يسعى إليه البنك الدولي) كما يمكنها أن تصبح خطوة في سبيل إصلاح حقيقي يسعى إلى دفع فاعلية المنظومة الإنتاجية مع مراعاة العدالة الاجتماعية وتدعيم الاستقلال الوطني. بيد أن هذا الخيار الأخير يقتضى إجراءات مكملة سأتناول تحديدها.

١ــ قام السادات بتفكيك المشروع الناصري الوطني التنموي. وفى هذا الإطار تم بيع ممتلكات الدولة لصالح «رجال أعمال» قريبين من السلطة (كبار الضباط والموظفين، تجار أغنياء منحازين للإخوان بعد عودتهم من المنفى الخليجي). والصفقات تمت بأسعار تافهة لا علاقة لها بالقيمة الحقيقية للأصول المعنية. هكذا تكونت طبقة جديدة من الأغنياء الذين تشكلت ثرواتهم دون إضافة تذكر لقدرة الاقتصاد الإنتاجية. ثم تم تدعيم المواقع الاحتكارية لرأسمالية المحاسيب هذه من خلال دعم موازنة الدولة بأشكال مختلفة، ومنها دعم المحروقات، علما بأن حرية الأسواق طبقا لمبدأ الليبرالية أتاحت لشركات رأسمالية المحاسيب أن ترفع أسعارها حتى تكون قريبة من أسعار البديل المستورد. وبالتالي صار الدعم مصدر لتضخيم أرباحها وتدعيم موقعها الاحتكاري. ويلاحظ أن منطق هذا الدعم لا علاقة له بما كانت عليه وظيفة الدعم في الإطار الناصري والذى استفاد منه القطاع العام فى مقابل قبوله أسعار منخفضة لصالح المستهلك.

٢ــ لكى يصبح إلغاء دعم المحروقات خطوة في سبيل إنعاش الإنتاج وإنجاز العدالة الاجتماعية وتدعيم الاستقلال الوطنى لابد أن يصاحب هذا الإجراء بإجراءات مكملة تسعى إلى التخلي عن تحكم رأسمالية المحاسيب ومنها:

أولا: إعادة النظر في صفقات بيع موجودات الدولة وتحويل ملكيتها إلى كيان عام جديد يحدد رأسماله بقيمة الموجودات المعنية الصحيحة، وأن تكون حصة المشترى السابق تعادل ما دفعه فيكون الباقي ملكا للدولة.

ثانيا: إصلاح سياسة الائتمان والتخلص من المغالاة في تقديم قروض سهلة للاحتكارات وإعادة توجيه القروض للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة النشطة.

ثالثا: إصلاح النظام الضريبي وإدخال ضريبة تصاعدية على الأرباح حتى تمتص فائض أرباح القطاع الاحتكاري وذلك لأن مبدأ حرية الأسواق (ولا أتصور التخلى عنه فى الأجل المنظور) يسمح للاحتكارات تعويض الخسارة التي يسببها إلغاء الدعم المذكور من خلال رفع الأسعار. علما أيضا بأن الضريبة على معاملات البورصة لا تمس جوهر الموضوع.

رابعا: اتخاذ مجموعة من الإجراءات تسعى إلى تحسين وضع الطبقات الشعبية العاملة فإلغاء دعم المحروقات ــ ولو أنه يخص بالأساس الاحتكارات ــ إلا أنه سيسبب أيضا (في ظل حرية الأسواق) رفع الأسعار المترتب على ارتفاع تكاليف النقل وغيره، أي تدهور ظروف المعيشة بالنسبة للجماهير الشعبية. فلابد من رفع الحد الأدنى للأجور إلى المستوى المطلوب حتى يعوض بالفعل النفقات الإضافية المتوقعة. بل يجب إدخال مبدأ السلم المتحرك حتى يضبط الحد الأدنى للأجور فى المستقبل لما قد يحدث من ارتفاع فى الأسعار.

سيجد القارئ مزيدا من التفسير فى مغزى وإمكانية تنفيذ هذا البرنامج فى كتابى ( ثورة مصر بعد ٣٠ يونيو. الفصل الأول)

 

سيرة مختصرة:

ولد د. سمير أمين في القاهرة يوم 4/9/1931 ورحل عن دنيانا في باريس 12 أغسطس 2018
الدراسات الجامعية
دبلوم العلوم السياسية، باريس 1952
دبلوم إحصائيات وعلوم رياضية، باريس 1956
دكتوراه في العلوم الاقتصادية، باريس 1957
أستاذية في العلوم الاقتصادية، باريس 1966
المراكز والوظائف التي شغلها
رئيس قسم البحوث في المؤسسة الاقتصادية الحكومية، القاهرة 1957-1960
مستشار لوزارة التخطيط في باماكو/مالي، 1960-1963
أستاذ في معهد الأمم المتحدة للتخطيط الاقتصادي بداكار/السنغال،IDEP وأستاذ في جامعات بويتيرز، داكار وباريس 1963-1970
مدير لمعهد الأمم المتحدة للتخطيط الاقتصادي بداكارIDEP ، 1970-1980
منذ 1980 رئيس منتدى العالم الثالث والمنتدى العالمي للبدائل.
أهم مؤلفات الدكتور سمير أمين باللغة العربية:
دراسة في التيارات النقدية والمالية في مصر عام 1957- معهد البحوث والدراسات العربية -الجامعة العربية-القاهرة 1959
التراكم على الصعيد العالمي - ترجمة/دار ابن خلدون - بيروت 1973
التبادل غير المتكافئ وقانون القيمة - ترجمة عادل عبد المهدي - دار الحقيقة-بيروت 1974
التطور اللامتكافىء - ترجمة برهان غليون - دار الطليعة-بيروت 1974
الأمة العربية "القومية وصراع الطبقات" - ترجمة كميل قيصر داغر- دار ابن رشد - بيروت 1978 مدبولى 1988.
الطبقة والأمة في التاريخ وفى المرحلة الامبريالية - ترجمة هنريت عبودي - دار الطليعة - بيروت 1980
قانون القيمة والمادية التاريخية - ترجمة صلاح داغر - دار الحداثة - بيروت 1981
المغرب العربي المعاصر- ترجمة كميل قيصر داغر - دار الحداثة -بيروت 1981
الاقتصاد العربي المعاصر - ترجمة ناديا الحاج- دار الرواد- بيروت 1982- دار الحقائق 1984
أزمة الامبريالية أزمة بنيوية - دار الحداثة -بيروت 1982
علاقة التاريخ الرأسمالي بالفكر الإيديولوجي العربي، دار الحداثة، بيروت/لبنان، الطبعة الأولى 1983
الماوية والتحريفية - دار الحداثة- بيروت 1984
أزمة المجتمع العربي - دار المستقبل العربي- القاهرة 1985
ما بعد الرأسمالية- مركز دراسات الوحدة العربية- بيروت 1988
البحر المتوسط في العالم المعاصر- بالاشتراك مع فيصل ياشير- مركز دراسات الوحدة العربية ­- بيروت 1988
نحو نظرية للثقافة- معهد الإنماء العربي - بيروت 1989؛ سلسلة صاد ، الجزائر 1992
بعض قضايا للمستقبل- الفارابي، بيروت 1990؛ مدبولي القاهرة، 1991
من نقد الدولة السوفيتية إلى نقد الدولة الوطنية؛ مركز البحوث العربية، القاهرة 1993
سيرة ذاتية فكرية- دار الآداب، بيروت 1993
حوار الدولة والدين (بالاشتراك مع برهان غليون) المركز الثقافي العربي، 1996
في مواجهة أزمة عصرنا، دار سينا، القاهرة 1996
نقد روح العصر، الفارابي، بيروت 1998
مناخ العصر، رؤية نقدية، دار سينا، القاهرة 1999
الاقتصاد السياسي للتنمية في القرنين العشرين والواحد والعشرين، ترجمة فهمية شرف الدين - دار الفارابي، بيروت/لبنان، الطبعة الأولى 2002
مذكراتي - الجزء الأول، ترجمة سعد طويل، دار الساقي، بيروت/لبنان 2006
مذكراتي - الجزء الثاني، ترجمة سعد طويل، دار الساقي، بيروت/لبنان 2008
إشكالية القرن، تأملات حول اشتراكية القرن 21، مركز البحوث العربية والإفريقية، القاهرة 2008
Samir Amin - Wikipedia
Samir Amin - Biblioislam.net
Samir Amin - a dissenting economist, presentation at Third World Forum
http://www.forumtiersmonde.net/arabic/introduction/twf_wfa.htm
http://www.forumtiersmonde.net/arabic/introduction/ftm_presentation_ar.htm