في مقالتها تسلط الكاتبة الضوء على مسرح العبث، وترى أنه جاء ردا على المسرح التقليدي في سياق تاريخي محدد. ثم تتعقب كيفية صك المصطلح، ومفهوم العبث الفكري والفني في المسرح. وتأتي على ذكر أهم المسرحيين والمنظرين له.

مسرح العبث.. الصراع داخل العقل البشري

جـيروم كـروب

ترجمة: سناء عرموش

 

مسرح العبث، هو المصطلح الذي ابتدعه الناقد المسرحي مارتن إسلين، وجعله عنواناً لكتابه عام 1962، يشير المصطلح إلى نوع معين من المسرح الذي أصبح له شعبية كبيرة في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، لقد عبّر الفيلسوف الفرنسي ألبير كامو عن فلسفة العبث في مقال له بعنوان «أسطورة سيزيف»، لتوصيف الحياة الإنسانية والفراغ الذي يعيش فيه وشرطه الوجودي المحكوم باللاجدوى. يقول كامو اضطرت الإنسانية الاعتراف بأن تفسيراً مرضياً يصيب الحياة خارج نطاق العقل، وفي هذا المعنى يجب على العالم أن ينظر إليها على أن هذه الحياة هراء.‏

اعتبر إسلين مصطلح «مسرح العبث» مجرد أداة تهدف إلى لفت الانتباه إلى سمات أساسية معينة في أعمال مجموعة من الكتاب المسرحيين يراودهم الإحساس بالقلق والتوتر والحيرة إزاء ما يجري في العالم. ورأى أن الكتاب المسرحيين الذين اشتهروا بهذا التوجه هم: يوجين يونسكو، صموئيل بيكيت، جان جينيه، آرثر اداموف، وهارولد بنتر، على الرغم من أن هؤلاء الكتاب لم يرتاحوا لتسمية العبث، فكانوا يفضلون استخدام مصطلحات مثل مسرح التغيير أو المسرح الجديد. وارتبط آخرون بهذا النوع المسرحي فيما بعد هم: توم ستوبارد، آرثر كوبيت، فريدريش دورينمات، فرناندو آربال، ألبي إدوارد، سيمبسون، بوريس فيان، بيتر فايس، فاتسلاف هافل، وجان تارديو.‏

رغم أن جذور مسرح العبث تعود إلى التجارب الطليعية من عشرينيات القرن الماضي إلى ثلاثينياته كما يرى البعض، إلا أن تاريخه يعود إلى أبعد من ذلك بكثير، فقد ظهرت لأول مرة عناصر غير معقولة في الدراما الكوميدية القديمة وخاصة في مسرحيات أريستوفانيس، وفي الفترة الكلاسيكية المتأخرة أدخلت السخرية الأقرب إلى الغروتيسك من قبل لوسيان، وبترونيوس أبوليوس إلى بعض النصوص المسرحية، وهو تقليد كرنفالي للأدب إذ يصور العالم رأساً على عقب.‏

تلعب الأخلاق في العصور الوسطى خطوة تمهيدية لمسرح العبث، والتي تصور تعامل كل رجل من هذا النوع مع المشاكل بشكل وجودي واستعاري، وانتقل هذا التقليد إلى دراما الباروك والدراما الإليزابيثية مرات، مع مسرحيين مثل جون ويبستر، سيريل، جاكوب بيدرمان وكالديرون دي لاباركا. وخلال القرن التاسع عشر، لوحظت عناصر عبثية في مسرحيات معينة لإبسن، وأكثر وضوحاً مع مسرحيات سترندبرغ، يستدعي ألفريد جارى في ثلاثية أوبو عناصر وشخصيات عبثية فاعلة أسطورية من عالم التوراة، صورة أوبو صورة كاريكاتورية مرعبة أقرب لطبيعة الحيوانات منها للإنسان وقسوته، اكتشف السورياليون تجارب جارى بشكل موسع في العشرينيات والثلاثينيات، واستقى الكثيرون نظرياتهم الفنية من تعاليم فرويد والتأكيد على دور العقل الباطن الذي اعترف بأهميته الكبيرة وقوته الإيجابية في الشفاء، والاستغناء عن الفن بوصفه مجرد تقليد سطحي للواقع مطالباً بواقعية، وقد ساهم الفيلم الصامت وكوميديا الألفاظ في أفلام لوريل وهاردي في تطوير مسرح العبث، ولكن الأمر سيستغرق حدثاً كارثياً لجذب العالم إلى ولادة حركة فنية جديدة.‏

كانت الحرب العالمية الثانية حافزاً لتأسيس مسرح العبث في الحياة، وكان الطابع العالمي لهذا الصراع والصدمة الناتجة من العيش تحت تهديد الحرب المدمرة والإبادة النووية، فوضعت حياة الإنسان في مواجهة الحرب وسيطرة الآلة في المجتمع الصناعي، وفي حاجة لأن يكون التفكير مجرداً من أجل التفكير في سخف الحياة، إذ أصبحت تجربة العبث جزءاً يومياً من وجود شخص، خلال هذه الفترة، رفض أنتونين آرتو 1896-1946 الواقعية في المسرح، داعياً العودة إلى الأسطورة والسحر والتعرض لأعمق الصراعات داخل العقل البشري، وطالب المسرح الذي من شأنه أن يطرح الأمثلة الجماعية ويخلق الأساطير الحديثة، وأصرّ على الاحتفاظ به لأشكال الفن التقليدي ولم تعد المعايير مقنعة كونها فقدت صلاحيتها، على الرغم من أن أرتو لم يعش ليرى ماذا جرى من بعده.‏

ومسرح العبث هو بالضبط المسرح الجديد الذي تمرد عليه أرتو ضد المسرح التقليدي علناً وراح يحلم به، كان يونسكو يطلق عليه «المسرح المضاد»، واعتبره سريالياً وغير منطقي، فالحوار في كثير من الأحيان غير مترابط وليس من المستغرب أن يكون رد فعل الجمهور الأولي لهذا النوع المسرحي هو الرفض.‏

المسرحية الأكثر شهرة والأكثر إثارة للجدل، هي مسرحية بيكيت «في انتظار غودو»، تجد شخصيات المسرحية صعوبة في التواصل مع بعضها البعض حول أبسط الأمور، وحول تمضية الوقت في انتظار غودو الذي لم يأت، اللغة المستخدمة في كثير من الأحيان تثير للسخرية، ويبدو أن العرض في نهاية الفصل الأول يبدأ من جديد مع تغيير طفيف، وأحياناً يشار إلى المسرحية بأن لا شيء يحدث على مستوى الفعل المسرحي، إنها مجرد هراء وعبث، فالشخصيات تتنكر بالأزياء وهي تبكي والعيون مفتوحة، إنها خدعة أو مزحة على الجمهور أن يتقبلها، إن هذا هو وصف دقيق لحالة الإنسان في التغيير، والتغيير مجرد وهم. في عام 1955، توقّع الممثل الشهير روبرت مورلي بأن النجاح «في انتظار غودو» يعني «نهاية المسرح الذي نعرفه»، لم يوافق جيله لهذا التوقع، لكن الجيل الشاب تقبل هذا النوع ومارسه، إذ كانوا على استعداد لتقديم شيء جديد من شأنه تجاوز القوالب النمطية التقليدية السائدة والتي تعكس فهمهم المتزايد من وجودها.‏

بينما يحاول المسرح التقليدي خلق تمثيل التصوير الفوتوغرافي في الحياة كما نراها، فمسرح العبث يهدف إلى إنشاء الطقوس الأسطورية، والرؤى الاستعارية التي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بعالم أحلام اليقظة، والنقطة المحورية لهذه الأحلام غالباً ما تكون حيرة الرجل وارتباكه الذي ينبع من حقيقة أنه لا توجد إجابات لأسئلة وجودية أساسية في الحياة مثل: لماذا نحن موجودون في هذه الحياة؟ لماذا علينا أن نموت؟ لماذا يوجد ظلم ومعاناة في الحياة؟ في حين أن تعريف يونسكو للعبث هو أن كل شخص قطع جذوره الدينية والميتافيزيقية، وأصبحت أفعاله لا معنى لها وغير مجدية، هو عبثي بامتياز.‏

ويسعى العبث لإعادة تأسيس علاقة الإنسان مع الكون، يكتب يان كوليك لا يمكن النظر إلى مسرح العبث على أنه محاولة لاستعادة الأساطير والطقوس العصرية من خلال جعل المرء على بينة من الحقائق لحالته، وفقدان الكونية البدائية، مسرح العبث تأمل في تحقيق ذلك من خلال صدمة رجل من الوجود والذي أصبح مبتذلاً وميكانيكياً، ويرى أن هناك تجربة صوفية في مواجهة الوضع البشري.‏

إن أحد أهم جوانب الدراما العبثية هو عدم الثقة في اللغة كوسيلة للاتصال، واللغة وسيلة التبادلات النمطية، يفسر الدكتور يان كلمات للتعبير عن فشل جوهر التجربة الإنسانية، وعدم التمكن من اختراق يتجاوز سطحه، وتالياً يشكل العبث أولاً وقبل كل شيء هجمة على اللغة، وتبين أنه لا يمكن الاعتماد عليها كأداة لغاية غير كافية للاتصال، لكن دراما العبث تستخدم الكليشهات والشعارات والمصطلحات التقنية التي تسخر من أنماط التعبير الجامدة، وهذا النوع يحاول جعل الناس على معرفة من إمكانية تجاوز الاتفاقيات والتواصل مع الخطاب اليومي.‏

مسرح العبث يفسد المنطق، وهو غير متوقع ومستحيل وغير منطقي، ووفقاً لفرويد هناك شعور بالحرية عندما نتمكن من الاستمتاع ونحن قادرون على التخلي عن قيود المنطق، وكما يشير الدكتور يان إنه فكر عقلاني مثل اللغة، ويتعامل مع الجوانب السطحية للأمور لكن بمنطق عقلاني.‏

كيف أصبح هذا المسرح الجديد، وأنتج بعض الأعمال الدرامية الأكثر إثارة في القرن العشرين؟ ربما يشير البعض بأن مسرح العبث، كان نتاج حقبة تاريخية معينة، وبسبب ما مضى وقت ولم يعد له مكانة بين الأنواع المسرحية. وفي نسخة منقحة من كتاب مارتن إسلن المذكور يكتب: كل حركة فنية أو تيار جديد، يتحول إلى موضة سائدة إن لم يستثمر بشكل عملي، وسيختفي دون أن يترك أثراً، ولو كان لديه محتوى حقيقي، لساهم في توسيع الإدراك البشري، وإذا ما خلقت أوضاعاً جديدة للتعبير عن الإنسان، وفتحت مجالات جديدة للتجربة، ومع ذلك، كان لابد أن يكون من استيعاب هذا التيار تطويره تطويراً رئيسياً، وهذا ما حدث مع مسرح العبث في معرفة الأزياء والزمن والمكان، وكان هذا إسهاماً حقيقياً في المفردات الدرامية المستمرة للتعبير، ويجري استيعابه في التيار الرئيسي للتقليد الذي كان سائداً، ولم يكن غائباً، والكتاب المسرحيون في عصر ما بعد العبث يتصرفون بمفردات فريدة أغنت تقنيات مثيرة للجدل، ويمكن استخدام هذه التقنيات بحرية بشكل منفصل في إطار توليفي مع التقنيات الموروثة من الماضي.‏

وفي مقال في جريدة نيويورك تايمز بعنوان «ما هو مسرح العبث وما هي العبثية؟»، يتفق إدوارد ألبي مع إسلين في التحليل والكتابة أنه مثلما كان التغيير استجابة لمرة واحدة، كان الانطباعيون يرسمون أشكالهم بألوان مختلفة على القماش في العقول، إن مجرد القول بأن كتاب مسرح العبث لدينا تغيروا إلى الأبد كان مجرد رد صارخ على المسرح التقليدي.