تشدد الكاتبة العراقية على وجود خلل في منظومة التعليم والأنساق الثقافية التي تأبى الإستجابة لروح العصر، حتى أن الممارسة المعمارية تبدو تبعا لذلك نوعاً من الشعائر النخبوية الهرمية. وتخلص لضرورة جعل الممارسة المعمارية والاهتمام بها جزءا من الثقافة العامة.

العمارة وروح الإنسان

لطفية الدليمي

 

لا أظنني سأنسى يوماً تلك المقالة الرائعة المعنونة "أسرجة الفن المعماري الحديث الثلاثة" التي ترجمها المهندس المعماري محمود حمندي، عن كتاب بعنوان "العمارة وروح الإنسان" للبروفسور الأميركي توماس هنت Thomas Huntالذي عمل لفترة طويلة أستاذاً للعمارة بجامعة ميشيغان، فتنتني اللغة الرائقة فائقة العذوبة والجمال التي كتب بها المترجم مقالته في مجلة "آفاق عربية"، ومنذئذٍ رحتُ أتابّع آثار ذلك المترجم المبهر وسواه من المترجمين في حقل العمارة واسع الأرجاء إلى جانب تعزيز قراءاتي في ميدان تأريخ العمارة ونظرياتها ومقارباتها الثقافية.

قرأتُ يوما كتابين عظيمي التأثير في حقل الدراسات المعمارية و الثقافية بعامة : الأوّل بعنوان "المكان والزمان والعمارة" Space, Time & Architecture للمؤلف الذائع الصيت سيغفريد غيديون، والثاني هو "حركات حديثة في العمارة" Modern Movements in Architectur للمنظّر والمؤرّخ الثقافي والمعماري تشارلس جينكس، وقد أثارت قراءاتي هذه جملة من التساؤلات المتواترة، وفي مقدمتها: لِمَ تُعدّ الممارسة المعمارية لدينا بعيدة الصلة عن الممارسات الثقافية العامة؟

يبدو لي أنّ الخلل يكمن في منظومة التعليم التي تكرّس نمطاً من الهرمية الطبقية التعليمية الموهومة التي تعمل بدورها على تكريس أنماط من الأنساق الثقافية التي تأبى الإستجابة لروح العصر ومتغيراته الثورية، وبموجب هذه الرؤية الهرمية تبدو الممارسة المعمارية نوعاً من الطقوسيات الكهنوتية المقفلة في إطار أقلية من المحظوظين الذين مسّتهم بركات آلهة العمارة التي ستجعل منهم كائنات متفرّدة تتسيّد الأعالي الوظيفية المهيمنة في المجتمع، وربّما ساهم في إشاعة هذا التصوّر كون أوائل المعماريين متحدّرين من عوائل ثرية ذات نفوذ مالي و/ أو سياسي فاعل؛ ولمّا كان شكل الثراء في بلداننا غير المبتكِرة ولا المطوّرة للتقنيات الحديثة يتمظهر في الملكيات العقارية -أرضاً ومنشآت مشيّدة- فيكون من الطبيعي نشوء ميل تلقائي لتلك العوائل في جعل إبنائها ينكبّون على دراسة كلّ ماله علاقة بالتطوير العقاري لتعظيم الفائدة المجتناة من الملكيات العقارية وتحقيق أقصى العوائد منها؛ في حين أنّ العمارة الغربية تطوّرت في مسارات موازية للتطوّر الحاصل في الرؤية الثقافية التي تسعى للإرتقاء بالوضع البشري، وتؤكد هذا الرأي حقيقة أنّ أعاظم المعماريين - الأوربيين بخاصة - إنّما كانوا من المثقفين الطلائعيين الذين شغلتهم هموم الإنسان ومكابداته قبل أي شيء آخر.

سيرى مَنْ قرأ للناقد الثقافي والمعماري تشارلس جينكس أنّ كتاباته أقرب إلى كتابات النقّاد الثقافيين المعروفين (أمثال تيري إيغلتون وبل أشكروفت)؛ بل حتى أنّ مفرداته واشتغالاته المعرفية إنّما هي المفردات والإشتغالات ذاتها الشائعة في أدبيات الحداثة ومابعد الحداثة ومابعد الإنسانية، إلخ وليست إشتغالات نخبوية تسعى لخدمة جماعة منغلقة على ذاتها وبعيدة عن الهمّ الإنساني ومتطلّبات الإرتقاء بالأوضاع البشرية.

لابدّ هنا من الإشارة إلى الجهود العظيمة التي بدأنا نشهد ثمارها وقدرتها على نقل الممارسة المعمارية إلى فضاء الإشتغال الثقافي العام والإشتباك المحمود بين الهموم النخبوية والهموم الجمعية، والإشارة للكتب المميزة التالية: "دور المعمار في حضارة الإنسان" للرائد المعماري رفعة الجادرجي، و"مائة عام من عمارة الحداثة" للدكتور الأستاذ خالد السلطاني، وثلاثية المعمار الاستاذ معاذ الآلوسي التي صدر منها جزءان "نوستوس" و"توبوس".