بدلا من رواية العدد نقدم هذا الكتاب المهم الذي يمزج السردي بالوثائقي، يوميات الثورة المصرية التي سجلها الروائي المصري المرموق تغمر القارئ في التفاصيل والتواريخ والروائح والأنفاس، لهاث، اختناق، كرٌ وفرٌ، في صراع بين قوى مدججة بالسلاح والغازات وبين شعب انتفض رافضاً الذل والهوان.

هوامش ومشاهدات من يوميات ميدان التحرير

الثورة الآن (كتاب العدد)

المترو لا يتوقف في ميدان التحرير حيث تنهض مصر تحت الشمس

سعد القرش

 

إلى شهداء ثورة 25 يناير 2011.

ثورة الشعب أكبر من قول كعب الأحبار لعمر بن الخطاب:

إن الله عندما خلق الدنيا جعل لكل شيء شيئا، فقال الشقاء أنا لاحق بالبادية، وقالت الصحة وأنا معك. وقالت الشجاعة أنا لاحقة بالشام، فقالت الفتنة وأنا معك. وقال الخصب وأنا لاحق بمصر، فقال الذل وأنا معك.

وأكبر من وصف ابن بطوطة لأحوال مصر قبل نحو 700 عام:

يستبد العسكر، والشعب يئن تحت وطأة الحكم، ولا يهتم الأقوياء بذلك، والعجلة تدور.

وإلى عبد الوهاب المسيري، جمال حمدان، محمود أمين العالم، عبد العظيم أنيس، محمد عفيفي مطر، أحمد مستجير، أحمد نبيل الهلالي، محيي الدين اللباد، محمد السيد سعيد، فاروق عبد القادر، محمد عودة، وغيرهم ممن انتظروا طويلا هذه الولادة الجديدة لمصر.

إلى الرئيس المخلوع حسني مبارك الذي بدأ مقاتلا وانتهى قاتلا. لولا عنادك، وانتهاجك سياسة الملل، لفقدت الثورة كثيرا من روعتها.

سعد

 

طرف من كتاب لم يتم

في أغسطس 2010، سطرت أولى صفحات كتاب (كلام للرئيس.. قبل الوداع)، وداعه أو وداعي. قلت لأصدقائي إني سأتوجه به مباشرة إلى حسني مبارك، رجحت أن الرجل المسن (82 عاما آنذاك) لن يبقى إلا عاما واحدا (سبتمبر 2011)، وأن علي الانتهاء من الكتاب بسرعة، وأن يطبع بحروف كبيرة، حتى لا يؤجل قراءته، أو ترهق عيناه فيتوقف عن القراءة، وأن ينشر في مطلع 2011، وهو في قمة السلطة؛ فلا يليق بي انتقاد غائب أو مريض أو ضعيف. كان في ذهني كتاب (البحث عن السادات) ليوسف إدريس. وددت أن أصارحه بشكوكي في انقلاب ابنه جمال عليه، باستخدام أدوات وأقلام أسهمت في تثبيت عرشه. كانت صحيفة (الكرامة) قد نشرت يوم 9 / 8 / 2010 ما يلي:

«بعد الاجتماع السري بين جمال مبارك والمثقفين

أدباء وكتاب: الوريث يلعب بالنار»

بعد انكشاف الأمر، كاد السيد يسين يقول: «خذوني». هاج كمن ضبط متلبسا بجريمة، وكتب في صحيفة (الأهرام المسائي) يوم 14 /8 / 2010 كلاما إنشائيا انفعاليا عنوانه (أساطير المثقفين)، قائلا إن الاجتماع نظمته لجنة الثقافة، إحدى لجان لجنة السياسات بالحزب الوطني الحاكم. وكانت لجنة السياسات أقوى من الحزب، ومن الحكومة، ويكتسب المحظوظ بعضويتها حصانة تحميه من لعنة شياطين الإنس والجن، وتجعله فوق القانون، حيث القانون هو الشخص، والشخص فرد يحكم مصر من الباطن، بعلم أبيه أو من دون علم أبيه، وغابت سلطة الدولة، وحضرت سلطة بلطجية لهم قانونهم الخاص، ليعود التاريخ بمصر إلى نهاية القرن التاسع عشر، حيث الفتوات أذرع تستعين بهم الحكومة، حين تعجز أجهزة الدولة. قال السيد يسين إن جمال مبارك «رأس اجتماعا يناقش فيه مستقبل الثقافة في مصر»، بحضور أعضاء لجنة الثقافة بلجنة السياسات بالحزب الحاكم، ومثقفين منهم جابر عصفور، وفوزي فهمي، وعماد أبو غازي، ومحمد الصاوي، ويوسف القعيد، والناشر إبراهيم المعلم. فيما بعد، حين سقط نظام مبارك، سيكتب جابر عصفور تحت عنوان (ما فعله الحزب الوطني بمصر) مقالات في (الأهرام)، عما سماه «كوارث» الحزب الوطني، الذي كان مبارك رئيسه، وأنه فعل بمصر ما لم يفعله بها حزب آخر في تاريخ الأحزاب المصرية، من «إفساد الحياة السياسية باحتكار السلطة، وما لازم ذلك واقترن به من تزوير إرادة الأمة والتلاعب الفاضح بانتخابات مجلسي الشعب والشورى وآخر كوارث هذا التلاعب التزوير المشين الذي حدث في كارثة الانتخابات الأخيرة لمجلسي الشعب والشورى... وتشجيع التحالف الشائن بين السلطة ورأس المال، وتبنيه والدفاع عنه للأسف وهو الأمر الذي تسبب في نهب المال العام... ومع ذلك كانت حكومة الحزب الوطني وأمانة سياساته تتباهى بمعدلات تنمية لم ينل منها المحرومون شيئا». (21 / 2 / 2011)، وسيكون لي مع عصفور وقفات، وأسأل الله الصبر على تحمل كلامه الذي سأتجرعه مضطرا.

ثم استفزني من رأيتهم شهود الزور، حين قابلوا الرئيس، يوم 30 / 9 / 2010: فوزي فهمي، وصلاح عيسى، ويوسف القعيد، ومحمد سلماوي، وعائشة أبو النور، والسيد يسين، وأنيس منصور، وخيري شلبي، وسامية الساعاتي، وأحمد عبد المعطي حجازي، وجابر عصفور (حسب ترتيب وقوفهم في الصورة التذكارية بعد مقابلة مبارك). وقد أفردت لهم صحيفة الأهرام صفحة عنوانها (لقاء مبارك مع المثقفين.. بأقلام كتاب الأهرام)، مزينة بصورهم الملونة.

في الصفحة التي تتوسطها صورة كبرى للزعيم كتب السيد يسين مقالا عنوانه (لقاء ثقافي فريد). فيما بعد، وقبل تفجر ثورة 25 يناير 2011 بأسبوع واحد، قال لي أحد حضور اللقاء، على هامش مؤتمر في الأقصر، إن السيد يسين كاد يموت، ولكن الله سلم، إذ ظل محصورا بحكم الشيخوخة، وما يصاحبها من أمراض كالبول السكري، وأراد دخول الحمام، ولم يجد جابر عصفور وسيلة هو الآخر، في حين ظل مبارك يتذاكى، ويروي نكات قديمة، لكنها من فمه كانت طازجة، تستحق الضحك. تكلم كثيرا، وهم منصتون. ثم انفجروا مقالات عبروا فيها عن امتنانهم للرئيس الذي صافحهم، وتغنوا بصحة الزعيم، وشبابه الدائم، ورؤاه المستقبلية لخير البلاد والعباد. كتب يوسف القعيد: «لقد كان المهم بالنسبة لي صحة الرئيس وحضور ذهنه وتوقده وبساطته ورغبته في الاستمرار معنا أطول فترة ممكنة». وكتب خيري شلبي تحت عنوان (مصر في بعث جديد) أنهم كانوا «مجموعة من الأصدقاء في ضيافة أخيهم الأكبر. هذا الشعور أخذ يتأكد ويتعمق من لحظة إلى لحظة في ظني هذه الأريحية التي أغدقها علينا الرئيس بكرم لم أشهد له من قبل نظيرا لدرجة أن الجلسة استمرت أربع ساعات لم نشعر بمرورها على الإطلاق. أول شعور مبهج تناقلته نظراتنا كان مبعثه الاطمئنان على صحة الرئيس. كانت الشائعات ـ قاتلها الله ـ قد ألقت في روعنا أن الرئيس في وعكة صحية... إن أكبر وأهم محصول خرجنا به من لقاء الرئيس هو الرئيس نفسه. لقد خيل إلي شخصيا أنه كان على سفر ثم عاد إلينا قويا فتيا ليقود أحلام مصر وطموحاتها في بعث جديد». أما وعبر أحمد عبد المعطي حجازي عن سعادته «حين وجدت الرئيس في كامل لياقته، موفور الصحة، حاضر البديهة، متوقد الذاكرة.. أسعدني كذلك أن أرى الرئيس متفقا معنا في إلى حد كبير حول المبادئ الفكرية والأخلاقية التي يجب أن يكون عليها وجودنا كشعب». ( الأهرام 2 / 10 / 2010).

وسوف يعود إلى حجازي حد أدنى من الوعي يساعده على اكتشاف حقيقة كانت واضحة لغيره، من غير ضيوف مبارك، ألا وهي «طغيان مبارك والذين سبقوه قد أنهك المصريين وأذلهم وبدد ثرواتهم واستنفد قدرتهم على الاحتمال ودفعهم أخيرا إلى الثورة». (الأهرام 30 / 3 / 2011).

أما خيري شلبي فلا أظنه كان معنيا ومهموما بالبحث والتحري، لكي يعيد النظر، ويكتشف بسرعة أن مبارك، الذي راهن على أنه سيقود أحلام مصر وطموحاتها في بعث جديد، هو نفسه «الرئيس المخلوع» الذي نفى المصريين «وسحقهم.. حيث تخلت حكوماته عن جميع مسؤولياتها تجاههم، وأصبحت الدولة المصرية ترعى طبقة الأغنياء وحكوماتها حارسة لرأس المال الطفيلي، المنهوب، فحكومة الحزب الوطني منذ إنشائه، إلى اليوم الذي تم حله، كانت هي الفساد بعينه، وكانت تمثل تحالفا للصوص والسفاحين والقتلة والقراصنة»، ولم ينس المزايدة، والتحلى بحد أقصى من الشجاعة بعد انتهاء المباراة، إذ قال «إنني أشدد على استمرار محاكمة مبارك. ولو أنه حكم عليه بالإعدام في حالة إدانته سيكون شيئا عظيما». ("الأخبار" 26 / 4 / 2011). ولن يكف خيري شلبي عن الشجاعة منتهية الصلاحية، وهو ينتقد «مبارك وأهله غير الكرام»، ويجيب عن سؤال (أخبار الأدب): هل توقعت كل هذا الكم من الفساد؟ قائلا: «أنا كنت أراه، وما خفي أكثر مما تم كشفه». (15 / 5 / 2011).

لم يشهد جمال الغيطاني هذا اللقاء. وكان قد كتب يوميات الأخبار، في الشهر التالي لإجراء مبارك جراحة في ألمانيا لاستئصال الحوصلة المرارية (مارس 2010)، تحت عنوان (قائد القوات) مشيدا بالسيرة المباركية، منذ أصغى إلى اسم اللواء طيار محمد حسني مبارك بعد عام 1967، وعرف أن من صفاته «الإرادة الحديدية، الجلد، سعة الأفق، الذكاء، والسمعة الطيبة والعلاقات الحسنة مع الآخرين». ثم قال «حدثني» زكريا عزمي رئيس ديوان رئيس الجمهورية أنه يعرض على الرئيس صحفا تتعرض عناوينها «لشخص الرئيس وسياساته في سابقة تعد الأولى في الحياة السياسية المصرية منذ تأسيس الدولة الحديثة زمن محمد علي باشا، يقول الدكتور زكريا عزمي إنه لم يكن يبدي غضبا بل كان يبدي قدرا كبيرا من التسامح والصبر معلقا إنها الديمقراطية»، وفي السطور الأخيرة من يومياته الطويلة قال الغيطاني: «لقد جنبت خصاله القيادية مصر الكثير من المخاطر في ظروف عالمية ومحلية مضطربة، ورغم كل المصاعب أشعر أن قلب مصر يتجدد، يموج بالحركة ويضخ الأمل، وعندما رأيت الصور الخاصة باستئناف الرئيس لنشاطه شرعت في تدوين هذه الشهادة التي تخص أبعادا عامة وخاصة تتصل بالرئيس وملامحه الإنسانية، وسعة صدره، وأيضا ما أكنه تجاهه من امتنان ومودة». ("الأخبار" 28 / 4 / 2010).

يوميات الغيطاني، إذن، دافعها إنساني تجاه رجل مسن يعاني مرضا، ولا أحسبه في تلك المدة الزمنية القصيرة كان مشغولا بإعادة النظر في مبارك، حتى يقول في ندوة مساء الخميس 7 / 4 / 2011 إن نظام مبارك «أسوء نظام مر على مصر ... حتى من الاحتلال الأجنبي، فالنظام السابق جرف البلاد، ونهبها بكل طاقته، حتى إن المساحات المخصصة لهموم المصريين في خطابات مبارك تقلصت .. حتى اختفت تماما وحل محلها سخرية واحتقار وتجاهل». (موقع "اليوم السابع" 8 / 4 / 2011). وسيعجب صبري حافظ، ويعلق بشيء من القسوة على تبدل المواقف قائلا إن «تاريخ جمال الغيطاني في خدمة نظام الرئيس المخلوع لا يقل نصاعة عن تاريخ مصطفى الفقي، كل في مجاله ... هذا هو جمال الغيطاني الذي كان أحد خدام الاستبداد». ("الشروق" 22 / 4 / 2011)، وفي المقال القاسي نفسه، قال صبري حافظ إن الغيطاني «كان مع قرينه يوسف القعيد، أول المبادرين إلى مد أيديهم لأخذ ما يمكن من القصعة!»، وعلامة التعجب له.

بعض الذين شاركوا في لقاء مبارك، من حملة ذيل فستان الهانم، في أي جمعية أو مجلس تترأسه، ومن ذلك منصبها في مكتبة الإسكندرية، وكان إسماعيل سراج الدين مخلصا في ابتكار أوهام، على مقاس هوى امرأة نصف متعلمة، منها: معهد دراسات السلام، وحوار الثقافات، ومنتدى الحوار العربي. والرجل بحكم منصبه وصلاحياته ماهر، يجيد حشد جموع من عواجيز الفرح، للدردشة ومضغ كلام سبق أن مضغوه، أو مضعه غيرهم، في السنوات الماضية، حتى أصبحت المكتبة قلعة لا علاقة لها بأهل الإسكندرية ولا مثقفيها ولا جامعتها، على الجانب الآخر من الشارع نفسه.

لم يكن هؤلاء مضطرين للخوض في المستنقع، ولا يشفع لهم أمام الشعب أن يقولوا إنهم أطاعوا سادتتهم وكبراءهم فأضلوهم السبيل، بئس السبيل.

كنت أود أن يتسع المجال هنا لأثبت شهادة صلاح عيسى، وأضع لها عنوان (11 مثقفا بقلم صلاح عيسى)، وكثير منهم يصلحون نموذجا لما سماه المثقف الحرفي، وهو يعتبر الثقافة حرفة، ومن حق المثقف أن يقدم حرفته لصاحب السلطان، حتى انتقل «من صلابة الاعتراض إلى مذلة التبرير»، ويقول أيضا: «عرفنا مثقفين أقوياء فيهم صلابة حقيقية وشجاعة داخلية، تتوزع على مدى العمر، وتنمو مع التجربة، وتؤثر إيجابيا في بناء الآخرين، وأخرى فيها صلابة هشة تتجمع في موقف، أو تتركز في بضع سنوات، ثم تنكسر مع العمر فتنثني ولا تعتدل!... جلينا من المثقفين العرب ـ مصريين وغير مصريين ـ سيدخل التاريخ من باب السيكولوجيا، لا من باب الأدب أو الفن أو الفكر». (صلاح عيسى: مثقفون وعسكر).

كنت قد سجلت فيما سجلت، في الكتاب/ الشهادة، أن الذين يدفعون بجمال مبارك إلى الصدارة، هم الذين كانوا من رجال مبارك، ورجال السادات، ورجال عبد الناصر. كانوا يرون الاتصال بإسرائيل في زمن عبد الناصر خيانة وطنية ودينية، ثم قالوا في عصر السادات إن الأعداء «جنحوا للسلم»، وتحت يدي برقية بثتها وكالة أنباء الشرق الأوسط الرسمية المصرية عام 2001، عنوانها (الرئيس مبارك يهنئ إسرائيل بعيدها) ويقول نصها: «أوفد الرئيس محمد حسني مبارك السيد عمرو حسين جابر الأمين برئاسة الجمهورية إلى سفارة إسرائيل بالقاهرة للتهنئة بالعيد القومي»، الذي يعني بالطبع النكبة الفلسطينية، وقدم مبارك عام 2003 التهنئة لشارون بالفوز في الانتخابات، ولم يجد مؤلف كتاب (تشريح العقل الإسرائيلي) السيد يسين في ذلك ما يدعوه للدهشة، مثل دهشته حين تم «ضبط» أتباع جمال مبارك، وقد سيقوا للاستماع إلى تصوره عن مستقبل السياسة في مصر. هؤلاء الذين ناداهم جمال فاستجابوا هم الغطاء الثقافي لمجموعة مظليين صغار مغامرين، استعان بهم في اختطاف البلد نحو عشر سنوات. راجعت سيرة عبد الوهاب المسيري، كان مسؤولا عن وحدة الفكر الصهيوني في مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية، وسافر إلى الولايات المتحدة، ثم عاد عام 1979 في ظل سيادة أجواء التطبيع، وقال له السيد يسين مدير المركز آنذاك إن عودته تعني الانتحار، «فكان ردي عليه أن الحياة حسب الشروط المهينة التي قد يضعها الآخرون ليست أمرا عظيما .. وقد يكون الانتحار هو أحسن اختيار. والانتحار في هذه الحالة ليس انتحارا وإنما استشهاد في سبيل رسالة ... كنت أجد صعوبة شديدة في دخول مبنى الأهرام». (رحلتي الفكرية.. في البذور والجذور والثمار).

لم يشعر علي الدين هلال أو السيد يسين أو مفيد شهاب بالنخوة والغيرة على «الحرم الجامعي» الذي انتهك، على رؤوس الأشهاد، إذ جرؤ شهاب رئيس جامعة القاهرة، ووزير عدة وزارات في حكومات متوالية، على منح جمعية (جيل المستقبل)، وهي جمعية أهلية غير حكومية يرأسها جمال مبارك، مبنى في «حرم» جامعة القاهرة، كان مخصصا لمعهد التربية.

مبارك وعبد الملك

كنت قد استعددت لكتاب (كلام للرئيس .. قبل الوداع). جمعت أوراقا وقصاصات وكتبا، وسجلت ملاحظات، وشرعت في كتابة هذه «الشهادة»، على أن تكون نوعا من المصارحة والمكاشفة، أو الجرد الشامل لثلاثين عاما من التخريب المنظم للدولة، ودفع جيوش السوس للنخر في أصولها وثوابتها، لدرجة تصل إلى الخيانة العظمى. كنت أريد أن أضع مرآة أمام الرئيس، أذكره بشعارات رفعها في بداية حكمه. سجلت أيضا طرفا من سيرة عبد الملك بن مروان، وبعضا من مصائر أبطال ألف ليلة وليلة، وصدام حسين، وكيف تنتهي النظم التي يحكمها رئيسان .. مسن يعاني الشيخوخة، ويتواطأ على الفساد ليدوم ملكه، ورئيس فعلي طموح دموي الطباع.

يروي السيوطي أن عبد الملك بن مروان «كان عابدا زاهدا ناسكا في المدينة قبل الخلافة... وقال نافع: لقد رأيت المدينة وما بها شاب أشد تشميرا ولا أفقه ولا أنسك، ولا أقرأ لكتاب الله من عبد الملك بن مروان». وقال عبد الملك لجندي من جيش أرسله يزيد بن معاوية لقتال عبد الله بن الزبير، حين قابله في المسجد النبوي: «أتدري إلى من تسير؟ إلى أول مولود في الإسلام، وإلى ابن حواري رسول الله، وإلى ابن ذات النطاقين (أسماء بن أبي بكر الصديق)، وإلى من حنكه رسول الله. ثكلتك أمك، أما لو أن أهل الأرض أطبقوا على قتله لأكبهم الله جميعا في النار». وكان عبد الملك يقرأ القرآن، حين بلغه أنه بويع، فأطبق المصحف، وقال: «هذا آخر عهدنا بك»، وفي العام الثاني لولايته، ألقى خطبته قائلا: «أما بعد، فلست بالخليفة المستضعف (عثمان)، ولا بالخليفة المداهن (معاوية)، ولا بالخليفة المأفون (يزيد)، ألا إني لا أداوي أدواء هذه الأمة إلا بالسيف حتى تستقيم لي قناتكم... والله لا يأمرني أحد بتقوى الله بعد مقامي هذا إلا ضربت عنقه». ولم يبال بقوله القديم بحق عبد الله بن الزبير، وجهز له جيشا يقوده الحجاج بن يوسف، وحاصره بمكة شهرا، ثم ظفر به، وقتله وصلبه.

أردت أن أذكر الرئيس ببداياته المبشرة، وكيف انقلبت الشعارات كوارث؛ فبعد تنصيبه رئيسا قال: «لن أرحم أحدا يمد يده إلى المال العام، حتى لو كان أقرب الأقرباء، إنني لا أحب المناصب ولا أقبل الشللية، وأكره الظلم ولا أقبل أن يظلم أحد، وأكره استغلال علاقات النسب». (صحيفة مايو 18 / 10 / 1981)، كما صرح لمجلة (أكتوبر) قائلا: «لن أقبل الوساطة وسأعاقب لصوص المال العام». (26 / 10 / 1981)، وفي الشهر نفسه قال لمجلة (المصور): «مصر ليست ضيعة لحاكمها». (30 / 10 / 1981)، وفي خطبة له في فبراير شباط 1982 قال: «الكفن ما لوش جيوب، سنعلى من شأن الأيادي الطاهرة».

لكن طول بقاء مبارك فوق الكرسي أدى إلى تكاثر الطحالب، وتكالب ذوي المصالح، وتقنين الفساد حتى أصبح فسادا عاريا لا يتوارى ولا يخجل، بل يفرض نفسه في وقاحة وقدر غير مسبوق من الفجور والشراسة. وحين سمح بالكلام عن النهب المنهجي لثروات مصر، عمد مبارك إلى تنفيذ نظرية معاوية، فلا يحول بين الناس وبين ألسنتهم، ما داموا لا يحولون بينه وبين الكرسي. وذهبت سدى إضاءات عاصم الدسوقي حول الجوع الكافر للملاك الجدد لأراضي مصر وثرواتها. ولم يجد أحمد السيد النجار من يسمعه، وهو يستعرض وثائق وأرقاما عن حقائق الفساد والبطالة والغلاء والركود والديون، في كتابيه (الانهيار الاقتصادي في عصر مبارك)، و(الاقتصاد المصري.. من تجربة يوليو إلى نموذج المستقبل)، وفي الكتاب الأخير فصل مهم عنوانه (الدور الأمريكي وجماعات المصالح وانفجار الفساد) تناول جناية مبارك فيما توهم أنه إصلاح اقتصادي، أي خصخصة الاقتصاد، وفضائح بيع الشركات الرابحة، بأسعار تقل عن 5 % من ثمن الأرض المقامة عليها، ودور مكاتب الخبرة الأمريكية في تلك الصفقات القذرة. وعانى مصباح قطب وهو يلعن زمن عاطف عبيد في كتاب «عن دور ورطانة أساتذة إدارة الأعمال ومراكز التدريب والاستشارات» وفي مقدمتهم عاطف عبيد الذي كوفئ عقب صدور كتاب (عصر الماركتنج) بتصعيده لمنصب رئيس وزراء مصر!

في مثل هذا السياق، لم يكن جمال حمدان مبالغا، ولا متشائما تماما، حين سجل في مذكراته الخاصة التي نشرها شقيقه عبد الحميد عام 2010 أن مصر مرشحة، في ظل خيارها ليس بين السيء والأسوأ، بل بين الأسوأ والأكثر سوءا، «لتتحول في النهاية من مكان سكن على مستوى وطن إلى مقبرة بحجم الدولة... الرأسمالية الهوجاء مقتل مصر الطبيعية».

ثلاثون عاما غيرت الرجل، تغير قبل إتمام ثلاثة عقود في الحكم، تغير منذ نحو خمسة عشر عاما، صار الشعب فيها إما شاهدا على الخراب، مغيبا بإرادته أو بالإكراه، وإما شهيد الدمار. وتعددت وسائل الشهادة، حيث تراق الأعمار بلا كرامة، في زمن أراده مبارك صلدا أملس، لا يصلح لإنبات عشب، ولا تثبت عليه قدم، غامت شمس مصر، ولانت عظام جيل كامل أدرك أنه غير مهيأ للثورة، ولا قمر في الأفق، ولا أمل في حرية أو عدالة، إذ «وزع خراج مصر أربعة وعشرين قيراطا، أربعة عشر للسلطان، وستة للأغنياء، وأربعة للجند. وحين سئل عن نصيب المصريين، بعد أن وزعت القراريط، أجاب: لهم بحمد الله القيراط الخامس والعشرون، هو في جنة الخلد».

احذر الانتقام يا صديقي

كتبت بضع صفحات، ثم توقفت. كان شقيقي أحمد يعاني وطأة المرض، ولا يتاح لي خلو البال للكتابة. أخبرت أسامة عفيفي، وعاطف سليمان، والبهاء حسين، وعبد الرازق عيد، ومصطفى عبادة، بقصة الكتاب/الشهادة. البعض قال إن مبارك سيزول عرشه، ولا يستحق أن أخصص له كتابا، هو كل ما سيبقى منه. وحذرني آخر، واستحلفني بالله ألا أفعل؛ فالرجل أسد عجوز، لن يتورع عن الانتقام، وابنه شرس، لا يتسامح ولا يقبل لنا شهادة أبدا. وقالت لي سوسن بشير، بعد أن صمتت صمتا جميلا: اكتب ودعني أقرأ بعد الانتهاء. كانت تتابع معي تطورات مرض أخي، حتى إنها نبهتني، وأنا في الإسكندرية، يوم 21 / 9 / 2010، أن أقرأ إعلانا في صفحة 15 في (الأهرام)، عن وصول خبير في سرطان العمود الفقري، إلى مستشفى بالقاهرة. ومن الإسكندرية اتصلت بالمستشفى، وحجزت موعدا، ثم أرسلوا لي رسالة على التليفون يوم 30 سبتمبر بتغيير الموعد: «نحيط علم سيادتكم بأنه تغير موعدكم مع د/ اندرياس فيدنر خبير جراحة العمود الفقري، السبت 2 / 10 / 2010، ليصبح موعدكم الساعة 10 صباحا مع الانتظار».

كنت قد سجلت في الصفحات التي كتبتها أنني لم يسبق لي التصويت على اختيار مبارك رئيسا للبلاد، لا هو يعنيه ذلك، ولا أنا أبالي بمدى تأثير صوتي على نسبة يخطط لها سلفا. لكنه ظل رئيسا دستوريا، وهناك خط دقيق يفصل بين الدستوري والشرعي، فهو رئيسي، رئيس كل المصريين دستوريا، ولهذا خاطبته ذات مرة، في رسالة بصيغة السؤال: (ماذا أقول لابنتي يا سيادة الرئيس؟)، ونشرت الرسالة في صحيفتي (الدستور) المصرية (28 / 3 / 2007)، و(القدس العربي) اللندنية (4 / 4 / 2007)، وظننت الرئيس لا يقرأ الصحف؛ فحروفها صغيرة (بنط 10 أو 11 أبيض)، وصفحاتها ترهق عضلات الذراعين، في قراءتها شيء من العناء لمن يقتربون من الثمانين، فما بالنا وهو قد تجاوز الثانية والثمانين من عمره المديد؟ بعدها لم أفكر في كتابة رسالة أخرى، لأن البريد الرئاسي، مثل الطعام الرئاسي، لا بد أن يعرض على متذوقين، في إدارة شؤون الرئاسة. ثم اضطررت أن أوجه إليه بضعة أسطر، عبر صحيفتي (صوت الأمة) المصرية (9 / 3 / 2009) و(لقدس العربي) (24 / 3 / 2009)، في مقال عنوانه (أربع نصائح قبل أن تركب سيارة الترحيلات)، تتعلق بحوار قصير دار بين الخليفة العباسي المستعصم وهولاكو حين احتل بغداد (عام 1257 ميلادية، 655 هجرية). وأكاد أجزم أنه لم يقرأ الرسالتين، وأن بعض الأيدي الشريرة لا تضع الصحف على مكتبه، وشغلته عن قراءة المقالين بأمر أقل أهمية، (انظر ملاحق الكتاب). ثم اهتديت إلى وسيلة أخرى، هي هذا الكتاب الذي يقدر شيخوخة الرئيس، وحين يقلب صفحاته، لن يحتاج إلى طقوس بروتوكولية في توصيله إليه، بل يمكن لصديق أن يقدمه إليه، أو لمسؤول يريد أن يدلل له على مدى ما بلغته صناعة الكتاب من جودة أن يستشهد به، ولن تخال عليه الحيلة، وسيعلم أن المقصود أكبر من حكاية الجودة، وأن وراء الأكمة ما وراءها.

وإذا سألني: لماذا هذا الكتاب (كلام للرئيس.. قبل الوداع) الآن؟ سأجيب: ولم لا يكون الآن؟ الآن الآن وليس غدا. اليوم توشك الدائرة على الاكتمال، دائرة الحياة، ودائرة التجربة، فما لم يتم إنجازه في ثلاثين عاما، حين كان في العمر متسع، وفي الصحة الجسدية والعقلية بقية، يصعب إتمامه في الرمق الأخير. وقد طالت سنوات الاحتضار، أكثر من عشر سنوات، وأنا أشعر بضجر المجهول في تململه، وأسمع أنين جنين لا تريد الأقدار له أن يخرج، أرى الدعامات تتهاوى، وتعجز الجدران عن حمل عبء ثقيل، والسقف يرفض أن يخر علينا من فوقنا، لكنه يظل لعنة، تهدد بالسقوط ولا تسقط، فيقتلنا الخوف ألف مرة.

كتبت له أنني شهدت آخر أمجاد التعليم والزراعة، قبل تخريبهما في العشرين سنة الأخيرة. عملت في سن السادسة في جمع دودة القطن بمبلغ ستة قروش في اليوم، من السابعة صباحا حتى السادسة مساء. كان الفلاح يقرض ويقترض وهو آمن، لأن لديه محصول قطن، ويزوج أبناءه وبناته من عائد هذا المحصول. يكفي أن يطلب أحدهم دينا وهو يردد مقولة سحرية من كلمتين: «على قطن». كانت الدورة الزراعية دستورا ملزما، يحتاج اختراقه أو التحايل عليه إلى كثير من الجرأة والمغامرة، قبل أن يكتشف الناس أنهم سرقوا، وأصبحوا مدينين لبنك التسليف بأعمارهم وأرضهم، ثم صحوا على الخراب الكبير.. لا قطن ولا أرز ولا زراعة، وما بقي منها يروى بماء الصرف الصحي، وتخرج السموم من المجاري إلى الزرع إلى أجساد افترستها العلل، وعجزت عن المقاومة، فلا تموت ولا تحيا، ويتردد الفقراء على مستشفى لغسيل الكلى أو علاج الكبد، ولا يأتيهم موت يريحهم من حياة عزت عليهم.

أما حال التعليم الآن فقد لخصه شكري عياد قبل سنوات بأنه «تعليم بلا مدارس، ومدارس بلا تعليم»، وما تعرض له التعليم فضيحة أو جريمة كاملة الأركان، في حين «كان وضع أوراق امتحان البكالوريوس وتقييم كراسات الإجابة عملا مشتركا بين الكلية المصرية والكلية المناظرة لها في جامعة لندن، تحقيقا للتساوي بين الجامعتين... هذه فكرة الاعتراف الدولي الجامعية المصرية». (محمد عبد الفتاح القصاص: خطى في القرن العشرين وما بعده). فكيف تحولت الجامعات المصرية إلى مدارس؟ أما المعلم «الذي كاد أن يكون رسولا» فأصبح متسولا، يطرق الأبواب من أجل الدروس الخاصة التي يقدرها خبراء بنحو 13 مليار جنيه سنويا؟

كنت قد كتبت أيضا للرئيس في صفحات الكتاب الذي لم يتم: قدرت أن ابنك جمال لم يقرأ الرسالة، ليس تأدبا لأنها موجهة إلى أبيه، والابن البار لا يتلصص على رسائل أبيه، حتى المنشور منها في الصحف، وإنما لأنه غير معني بما هو عربي، هو معني بما يكتبه عنه الخواجات، معني بالصورة، والصورة ليست حلوة، فشلت أكثر من عشر سنوات في أن يصير مهضوما، كيف يهضمه الناس وفي نفوسهم غصة، المثقفون وبقايا الطبقة المتوسطة يرون وجوده في الصورة إهانة لفكرة الدولة الحديثة التي تعب في تأسيسها رفاعة الطهطاوي، وللدستور الذي كان حلما في ظل الاحتلال، ثم أصبح مطية إرضاء لنزوة ابن لا يقرأ، ولا يريد أن يقتنع بأنه غير مرغوب فيه، والفقراء وأبناء السبيل يرفضون أن يكونوا من المؤلفة قلوبهم، لو كان التأليف عن طريق شاب لم تطأ قدماه الأسفلت، ولم ير الفقراء إلا في أفلام الأبيض والأسود. لا أعترض على حقه في أن ينصب رئيسا، ولكن بعد حين، حين يكون ما يحصل عليه من حقوق هو نصيب أبناء جيله.

كتبت للرئيس: قلت مرة إنه يساعدك في بعض المهام، فماذا لو أخطأ وهو غير ذي صفة؟ هذا إهانة للعقل، وإهانة لمن حملوك الأمانة، فأبيت أن تحملها، وإعادة الدولة إلى فكرة العزبة والقرية، حيث لا فرق كبيرا بين الخاص والعام. أنت منا، تعب أبواك، ولم تخطط لانتزاع حق ليس لك، كنت قنوعا بالمال والبنين، ثم زادك الله بسطة في الرزق، مليون كيلومتر مربع من الأرض والسماوات والمياه الإقليمية، ولكن ابنك ليس منا. وإذا كنت تحبه، فكيف لا تخاف عليه؟ لماذا لا تحسم الأمر، وتنهاه عن هذه الثمرة؟ التوريث ثمرة معطوبة، سرى فيها سم لا يجدي معه علاج ولا إصلاح، بل نسف الأسس الفاسدة، أو قل وأنت فلاح منا: مصر الآن ثمرة مشمومة، خاض فيها كثيرون، وأصبحت منظورة، وليست لعبة يتلهى بها، سوف تحرق أصباعه، ولا يتمكن من الإحاطة بها علما، فيلقيها غير عابئ على من تقع، وأي تدمير سيترتب على سلوك غير محسوب، وسوف تسأل عن هذا أمام التاريخ. بمناسبة التاريخ لا يحتاج عبد الناصر إلى كثير من الدفاع عن سجله، ولم يدع أحد الناصريين إلى «إعادة الاعتبار إلى عبد الناصر»، ولكن بيننا من يدعون إلى «إعادة الاعتبار للسادات»، والشعب لا يصدق، فماذا سيقول الناس عنك؟ قل إن عبد الناصر كان دكتاتورا، ولكن ضميرك سينبهك إلى أنه في المجمل نموذج للوطني المتطرف، وليس أكثر من الرومانسي تطرفا، كأنه خارج من أسطورة قديمة، سجلها الإمام محمد عبده حين أرسل إلى مجلة الجامعة العثمانية، في مايو 1899، مقالا عنوانه (إنما ينهض بالشرق مستبد عادل) يتسائل فيه: «هل يعدم الشرق كله مستبدا من أهله عادلا في قومه يتمكن به العدل أن يصنع في خمس عشرة سنة ما لا يصنع العقل وحده في خمسة عشر قرنا». بتقشف الزاهدين، بنى عبد الناصر دولة تفرط أنت فيها، وتبيعها قطعة قطعة، كأن الرجل الذي قصف عمره في الثانية والخمسين تعب في إقامة هذا المؤسسات لتقدم من بعده هدية، غير مشروطة، إلى متعطشين للمال، في دولة تكاد تتحول إلى شركة استثمارية تتعرض للنزيف الدائم. مضى عبد الناصر، وجاء السادات، كأنه قادم من مجاعة، يعاني سعارا للملذات، ومن المفارقات أن رجالا أرستقراطيين، أو قل لا ينتمون إلى الفقراء، مثل إسماعيل صبري عبد الله ومحمود أمين العالم، اعتقلهما عبد الناصر، ثم استوزر السادات أولهما، ولكنهما ظلا يقسمان بعبد الناصر، ويتهمان السادات بأقسى ما يمكن أن يتهم به حاكم.

توقفت عن الكتابة، وكان أخي يتألم، كنا نتألم أكثر منه، كان جرحنا أكثر عمقا، وهو في غيبوبة، ونحن والأطباء عاجزون عن فعل شيء.

وفي صباح يوم الاثنين 29 / 11 / 2010، بعد يوم واحد من انتخابات مجلس الشعب، أيقظني هاتف، أيقنت أنها النهاية. كنت قد استعددت للسفر إلى القرية، وبسرعة كتبت في صفحتي على الفيسبوك:

«أخي أحمد توفي. كانت المعاناة طويلة، والمرض شاقا، والغيبوبة تشير بأصابع الاتهام بإدانة منظومة أو شخص، ليكن هذا بلاغا للرأي العام، ضد سياسات الرئيس الدستوري ـ الدستوري لا الشرعي ـ حسني مبارك، وضد ابنه جمال الحاكم الفعلي للبلاد، وضد شهود الزور والكهنة: فتحي سرور ومفيد شهاب وعلي الدين هلال وغير المأسوف على إبعاده أسامة الباز.. والسيد يسين وجابر عصفور».

المستبد.. صناعة شعب

زادني موت أخي إصرارا على إتمام الكتاب، وكان هناك مد كاسح، بعد أن صدق الرئيس وابنه واللصوص المتسحلون بالثروة والسلطة والحصانة البرلمانية تمثيلية الانتخابات، وأحسست أن النهاية وشيكة. راجعت كتاب زهير الجزائري (المستبد.. صناعة قائد صناعة شعب)، وتابعت كيف تمكن صدام حسين، في وقت مبكر، من تشكيل مؤسسات موازية لمؤسسات الدولة، ولكنها أكثر قوة، فهي بعيدة عن الواجهة، وكيف اعتمد «في صعوده الكاسح هذا على قيادته لأجهزة الأمن في دولة اعتبرت الأمن هاجسها الأول»، وتمكن من تهميش المؤسسات الرسمية، حيث أصبح مكتب العلاقات يقابل الأمن والمخابرات، ومكتب الثقافة والإعلام يقابل وزارة الثقافة والإعلام، ولجنة شؤون النفط مقابل وزارة النفط، والمكتب العسكري يقابل وزارة الدفاع، وتركز عمله على تصفية تدريجية وسريعة لكل العناصر التي يشك في ولائها. ثم جاء عدي ليكرر سيرة والده صدام، فبدأ بتأسيس نادي الرشيد الرياضي عام 1985، وفي العام التالي خطا نحو المراكز القيادية من خلال اللجنة الأولمبية، حيث رشح نفسه، لرئاسة اللجنة مقابل وزير الشباب فيصل الشاهر، ونال 21 صوتا، هي كل أصوات اللجنة، ولم يفز الوزير بأي صوت، حتى صوته هو. ثم بدأ إذعان «القادة الحزبيين والحكوميين لسلطة الابن البديلة عن سلطة الحزب والدولة، وسيكستمل هذا الإذعان رسميا بكتاب من مجلس قيادة الثورة ينص إلزام القيادات الرسمية والحزبية بمخاطبة عدي صدام حسين بلقب أستاذ، وهو اللقب نفسه الذي كان يطلق على مؤسس الحزب ميشيل عفلق».

وكان مثقفو جمال مبارك يطلقون عليه لقب «أستاذ» أيضا.

لكن الأستاذ جمال كان لقب له لقب كودي هو «الجنتل». قبل نحو عشر سنوات، شارك عبد الرازق عيد في دورة لإعداد القادة، وفي اليوم الأخير أبلغوهم أن الرئيس سيحضر حفل الختام، وكان لعبد الرازق صديق سيناقش رسالته في تلك الليلة، وناضل كثيرا ليتمكن من الخروج من «المعسكر»، ولم يكن الخروج سهلا، لأن الدخول بعد انتهاء مناقشة الرسالة شبه مستحيل، ولكنه كتب تعهدا بأنه لن يهرب، وسيأتي مباشرة عقب المناقشة، وقد أعد المكان لاستقبال الرئيس، ثم فوجئ في اللحظة الأخيرة أن التشريفة الرئاسية لن تكون للرئيس مبارك، بل للرئيس الفعلي. كانوا يسمونه «الجنتل». وكنت أطلق عليه «الواد» أو «الولد»، كان هذا بالطبع بيني وبين أصدقاء، أو زملاء بعضهم مسؤول عن متابعة مؤتمراته وحركاته وأحلامه وأوهامه، لصحيفة الأهرام المسائي التي أعمل فيها منذ عام 1991، وكنت أقسم لهم بالله أن «الولد لن يحكم.. لن يسمح بهذا الجيش، ولا الشعب الذي يمكن أن يثور ثورة يحرق فيها الوطن ومؤسسات الدولة»، قلت هذا الكلام لهيثم الزبيدي، حين قابلته في ليلة صيف 2010.

كان هيثم قادما من لندن، وغادر مطار القاهرة، بضع ساعات، قبل أن يواصل رحلته، قابلته في شارع الجلاء في صحبة عاطف سليمان، بعد منتصف الليل، ولم يكن لدي يقين في شيء. في (الجريون) أبدى هيثم أسفه، في حضور محمد الحمامصي، على ما بلغه حال مصر اقتصاديا وتعليميا من تردٍ لا مثيل له. كان حزينا يتمنى لمصر مكانة تليق بتاريخها ودورها، وأخبرته أن هذا شأن أي بلد يحكمه رئيسان، أحدهما دستوري، عاجز بحكم السن، يحتاج إلى فريق من الأطباء بصفة دائمة، والآخر شاب أهوج غير دستوري، يتخيل مصر مجرد شركة، ويطمح إلى الحصول على توكيل بالحكم من سادته في واشنطن، ولا أحد في مصر يعلم من سيكون الرئيس غدا، إلا إذا رحمنا الله، وأراحنا شر قلق استمر عشر سنوات، أريقت فيها أطنان الأحبار، واستهلكت أطنان الأوراق، وألوف الساعات من الكلام في الفضائيات والندوات والنقاشات العامة والمغلقة. ثم قلت له وأنا أتحامل على نفسي في الخروج من الجريون، وأتمايل قليلا مع نسمات الصيف في شارع قصر النيل: «الولد! غير مسموح له بحكم مصر، مستحيل أن يرضى الجيش بهذا، الجيش المصري جيش قتالي محترف، وطني وليس جيش الحزب كما هو الحال في دولة البعث». وبعد (جمعة الغضب) 28 / 1 / 2011، ذكرني هيثم الزبيدي بقولي: «الولد! غير مسموح له بحكم مصر». وقال في رسالة قصيرة: «كان تحليلك الصيف الماضي بمحله»، وحين قابلته، في أبوظبي بعد نجاح الثورة، اعترفت بأن كلامي كان أقرب إلى أمنية، ولم أكن أملك عليه دليلا، إلا الحس التاريخي، ورهاني على أن مصر أكبر من أن تختزل في شخص، وأكبر من أن تصبح شركة استثمارية.

سجلت في الكتاب/ الشهادة بعضا من ألف ليلة. تروي الليلة الخامسة والأربعون (حكاية الملك عمر بن النعمان وابنيه شركان وضوء المكان) وميلاد نزهة الزمان شقيقة ضوء المكان، وفي الليلة الثالثة والخمسين يسافر ضوء المكان وأخته نزهة الزمان من بغداد، إلى الحج، وبعد قضاء المناسك، يقترح عليها زيارة بيت المقدس، وهناك يفترقان، ويحزن ضوء المكان على اختفاء أخته، ويغيب عن الوعي، ويحمله جمال ويلقيه في مزبلة مستوقد حمام، ويفاجأ به وقاد الحمام، ويشفق عليه ويحمله إلى بيته. ثم يتوج ضوء المكان ملكا، وينشغل بمعاركه، ويغيب عن الوطن ثم يعود في الليلة السابعة والثلاثين بعد المئة، ويطلب «الوقاد» الذي غلظ وسمن من الأكل والراحة، ويسأله الأخير: «من الذي عملك سلطانا»، ويخبرونه بالأمر، ويقولون له: «إذا قال لك (الملك ضوء المكان) تمن علي، فلا تتمن إلا شيئا عظيما، لأنك عنده عزيز»، ولكن سقف طموح الوقاد كان مخيبا لآمال الملك والحاشية: «فقال له: أتمنى على الله ثم عليك أن تكتب لي مرسوما بعرافة جميع الوقادين الذين بمدينة القدس. فضحك السلطان وجميع من حضر، وقال له: تمن غير هذا. فقال: يا سيدي أنا ما قلت لك إني أخاف أن أتمنى شيئا لا تسمح لي به، أو لا تقدر عليه. فلكزه الوزير ثانيا وثالثا... فقال: أتمنى عليك أن تجعلني رئيس الزبالين في مدينة القدس، أو في مدينة دمشق. فانقلب الحاضرون على ظهورهم من الضحك عليه، وضربه الوزير، فالتفت الوقاد إلى الوزير، وقال له: إيش تكون حتى تضربني وما لي ذنب، فإنك أنت الذي قلت لي: تمن شيئا عظيما»، ولكن المصادفة التاريخية تجعل الوقاد، محدود الخيال والطموح، «الملك المجاهد المسمى الزبلكان».

قارنت ذلك باعتراف مبارك لعماد الدين أديب، عام 2005 في مقابلة للتلفزيون الحكومي أخرجها شريف عرفة، أنه كان حتى عام 1975 يحلم أن يكون سفيرا في لندن، «علشان بلد إكسلانسات»، لم يكن يتوقع منصبا آخر. وفي كتاب (كلمة للتاريخ) الذي طبعته دار المعارف في العام نفسه، وضم تلك الأحاديث، يقول مبارك: «لم يكن لي طموح سياسي»، ولم يخبرنا مؤلفو ألف ليلة وليلة عن مصير دمشق على يد الملك الزبلكان. قال محمود صبرة إن مبارك لم يكن يحب القرءاة، ولم يطلب أي كتاب ليقرأه طوال 18 عاما هي فترة عمله في مكتب رئيس الجمهورية. ("الوفد" 24 / 2 / 2011).

كادت مصر تفيق من صدمة الزبلكان بمنصب يفوق خياله، على كارثة أكثر خطورة، كادت تنتقل من «الخمول الزبلكاني»، إلى «حماقة الجنتل»، الذي ظل يحكم البلاد أكثر من عشر سنوات، إذ بدأ برنامج «صنع الوريث» في نهاية التسعينيات، فمن كل تقرير يقدم للرئيس تقدم نسخة أخرى إلى «الجنتل»، وبعد خروج الأوراق من مكتب الرئيس تعرض على «الجنتل». هذا بالضبط ما فعله فوزي فهمي مع مندوب مبيعات اسمه أنس الفقي، كان واحدا من أولئك الشبان الذين يضايقونك وأنت تدخل معرض القاهرة للكتاب، ويقدمون إليك عروضا، حتى تضطر للقبول، تخلصا من اللزوجة والابتسامة الممنوحة لأي عميل، فتشتري موسوعة أو كتابا بالتقسيط، ثم يمر عليك أنس الفقي في المنزل لتحصيل القسط الشهري، ولكنه «عرف السكة»، وصدرت التعليمات أن اصنعوا له تاريخا، قبل أن يصير وزيرا، لا يهم الوزارة، بل الأهم أن يكون وزيرا والسلام. وظلت سيرته الذاتية في الموقع الإلكتروني لوزارة الإعلام تسجل أنه كان ناشرا، ثم تولى رئاسة الهيئة العامة لقصور الثقافة. جاء إلى هيئة قصور الثقافة عقب فترة انتقالية، أديرت فيها الهيئة بواسطة فوزي فهمي، أكبر كهنة الثقافة، وأقام الننوس نحو ثلاثة أشهر، في بيت كاهن دربه على الإدارة، ومعه ماكيت بمكاتب الهيئة وأبرز مسؤوليها، وملفات عن كل منهم، وطباعه الشخصية، وردود أفعاله، وعلاقاته بزملائه. نسخة الفقي من التقارير والمراسلات «البوسطة» أهلته للتعامل مع قيادات محترفة في هيئة عتيقة، تعلم كيف يكون التعامل الرشيد على يد الكاهن، وحين دخل الفقي الهيئة كاد يخبر كلا منهم بما أنفقت يمينه حيث لا تعلم شماله، وأسقط في أيديهم، وكادوا يظنونه أحد أولياء الله الصالحين، ثم صعد إلى وزارة الشباب، ومنها إلى الإعلام.

لكن الله أنزل غضبه على «الجنتل». تدعو كل أم مصرية لأي من أبائها: «ربنا يحبب فيك خلقه»، فينزل الله محبة الابن في قلوب من يرونه، ولكن غضب الله كان يطل من ملامح وجه جمال مبارك، حتى فشلت كل محاولات تقديمه إلى الناس. لم أسامح أسامة الباز الذي أسهم في صنع «الجنتل»، كما قام من قبل بالتوعية السياسية لأبيه حسني القادم فجأة إلى عالم السياسة نائبا للسادات، ثم انتهى به الأمر مبعدا غريبا كصالح في ثمود، ولم تسعدني «زيارته» ميدان التحرير يوم الاثنين 7 / 2 / 2011. قال لي أستاذ في كلية الإعلام بجامعة القاهرة (الكلية التي تخرجت فيها وأغار عليها)، إنه أصيب بالذهول، حين سمع جمال ينادي الباز في ندوة بالكلية قائلا: «يا أسامة». كانت الجامعة ضيعة جمال، وساحة خلفية يطل منها على الطلبة كلما أراد أن يستعرض مهاراته المحدودة، وخصصت الجامعة إحدى بناياتها لجمعية (جيل المستقبل) برئاسة جمال. لم يعترض الباز على أن يناديه الولد باسمه الأول مجردا، وسبق أن أصبت بالدهشة نفسها، يوم 18 / 1 / 2004، حين افتتح متحف جمال عبد الناصر في القرية الفرعونية المقامة على جزيرة في نهر النيل. نادته منى عبد الناصر: «يا أسامة»، ولكن دهشتي انتهت سريعا؛ فالباز زميل حاتم صادق زوج هدى عبد الناصر، هو أحد أفراد العائلة تقريبا، ولكن جمال ليس من حقه أن يناديه باسمه مجردا، من المؤكد أنه ناداه كثيرا: «يا عمو»، أو «يا أونكل». كان أحمد حسنين رائد ولي عهد مصر فاروق، الغلام كان يضيق بصرامة عزيز المصري، واستراح إلى سعة صدر الثعلب أحمد حسنين. ثم أصبح فاروقا ملكا، وحسنين رئيسا للديوان الملكي، وكان يناديه: «يا حسنين»، وكبر جمال مبارك، ولم يعد أونكل أسامة الباز رائدا ولا معلما، بل أصبح مجرد «أسامة».

راجعت مذكرات إسماعيل فهمي وزير الخارجية الذي استقال اعتراضا على زيارة السادات لإسرائيل، وكان الباز مديرا لمكتبه، سجل فهمي أن الباز قال، حين علم أن السادات ينوي زيارة القدس: «هذا جنون، لا شك أن الرجل (السادات) غير متزن. لا بد من منعه حتى لو استعملنا القوة». (التفاوض من أجل السلام في الشرق الأوسط). قصصت على عبد الوهاب المسيري كيف نادى ابن الرئيس صاحبه الباز، باسمه مجردا، أمام الناس، ومنهم من كظم غيظه، وأسف على ما انتهى إليه رجل يمشي في الأسواق، ويرونه بينهم في مترو الأنفاق. رجوته أن ينصح صاحبه القديم ألا يهين نفسه، ثم سألته: ما الذي يبقى من صاحبك الباز بعد أن يموت، أو يغادر وظيفته بسنتين؟ فضحك المسيري بأسى، وقال: أنت متفائل يا عزيزي، قل ماذا يتبقى منه بعد شهرين؟

لم يعتذر أسامة الباز للشعب المصري، أو يعترف بالإخفاق في عمله مستشارا سياسيا لمبارك منذ 1975 حين عين نائبا لرئيس الجمهورية. كان عليه أن يعتذر مبكرا للرئيس عن عدم القدرة على مواصلة مهمته غير الناجحة، ولم يفسر لنا، إلى الآن، لماذا جاءت الثمرة شديدة المرارة. فماذا لو عمل شخص غيره مستشارا لمبارك؟! وكيف يرضى أن يكون مربيا سياسيا للأب وابنه الذي انتهى به الأمر أن عامله باستعلاء؟

كان الولد وأمه يعاملان الوزراء «من فوق»، هم مماليك السلطان، وهو وريث السلطان، وهي زوجة سلطان وأم سلطان، حتى مكرم محمد أحمد نقيب الصحفيين، الذي كتب خطابات مبارك بضع سنوات، وكان مبارك الأب يناديه أمام الناس باحترام «أستاذ مكرم»، عامله الولد «من فوق»، وناداه باسمه مجردا، «يا مكرم»، أمام الصحفيين في ندوة بدار الهلال، وصرخ جرجي زيدان من الغيرة على الدار التي أسسها في القاهرة، وكيف آلت إلى رجل يتشاجر مع الهواء الطائر، لكنه في اختبار الولد لرد فعله، لم يبد أي غيرة على تاريخه.

هل أتاك حديث هؤلاء؟

في خريف عام 2009، سئل جمال مبارك في مؤتمر صحفي، عن حوار يقترحه معارضون وجماعات الفيسبوك وكفاية، فاصطنع ضحكة باهتة، للإيهام بخفة ظله، وقال ساخرا: «ردوا أنتم بقى عليهم!»، ثم مال ميلة مائعة تسيء إلى الرجال، وقال لحسين عبد الغني مدير مكتب قناة الجزيرة في مصر: «رد يا حسين!»، ولم يكن لزاما أن يكركر حسين من قلبه، إلا بقدر من المجاملة للرئيس الفعلي لمصر، رأينا حسين يقهقه ساخرا، هو ومحمد عبد اللاه، وكان الأخير قد لقن المعارضين درسا في البروتوكول والأدب الرئاسي، قائلا في (المصري اليوم) تحت عنوان (حان وقت الكلام المسؤول)، إن انتقاد جمال مبارك إشعال للنار، وعاب على أحد منتقدي جمال أنه وصفه بالفرعون الصغير: «يقول الكاتب عن الأمين العام المساعد للحزب الوطني الديمقراطي جمال مبارك إنه «الفرعون الصغير» وهذا وصف معيب... فلماذا يعامل جمال مبارك معاملة استصغار تكررت للأسف في صحف المعارضين؟ هذا من دواعي عدم الموضوعية، ومن أسباب تكدير الحياة السياسية.... ما قولكم في سياسي «عف اللسان» عمره اثنان وأربعون عاما؟». (12 / 10 / 2006).

حتى من دون اعتذار كاتب هذا المقال، كان يمكن اعتبار كلامه حادث سير مهني، ووعدا بحلم مشروع أو غير مشروع، ولكن الإصرار على انتهاج خدمة توصيل رسائل سياسية إلى من بيده مقادير الصحافة والسياسة والاقتصاد لا يدع لحسن الظن سبيلا، إذ كتب عبد اللاه في (المصري اليوم) أيضا تحت عنوان (حلال وحرام) معترضا على محمد حسنين هيكل وغيره، ممن يرون التوريث من المحرمات السياسية، واستشهد بما قاله «الرئيس حسني مبارك والسيد جمال مبارك أكثر من مرة عن استبعاد توريث الحكم في مصر». (1 / 12 / 2008). وتحت عنوان (خسارة) كتب كلاما يتراوح بين التصريح والتلميح، ثم توكل على الله وحسم أمره وأفصح وأوضح وصرح «أن توريث الحكم الذي يملأ المجادلون سماء مصر بكلامهم عنه، ليس هو التحدي الأكبر الذي يواجه بلادنا. وفي رأيي أن الرجل موضوع هذا الكلام، وهو السيد جمال مبارك، يجب النظر إليه باعتباره من نواتج التفاعلات السياسية في بلادنا بامتداد أكثر من نصف قرن... وأتصور أن جمال مبارك رجل لا ينام من إحساسه بعبء ما يتعين عليه أن ينجزه... يجب أن نتناقش حول جمال مبارك على هذا النحو، أي في نطاق أنه سياسي لا وريث حكم». (21 / 12 / 2008).

قبل محمد عبد اللاه، ومعه وبعده، كانت كتيبة من المشتاقين تعمل بدقة، وتضبط إيقاع الكلام، ومنهم من تنطبق عليه مقولة «خيركم في الجاهلية خيركم في الإسلام»، وأبرزهم أنور الهواري، إذ كتب في صحيفة (الوفد) تحت عنوان (فرعونان في وقت واحد!) عن ازدواجية في قمة الحكم، لا سابقة لها في التاريخ المصري: «وهذه الازدواجية التي تجمع مبارك الأب مع مبارك الابن، ومبارك الأول مع مبارك الثاني والرئيس الأب مع الرئيس الابن والرئيس المنتخب مع الرئيس العرفي والرئيس القديم مع الرئيس الجديد، تثير الكثير من القضايا النظرية والعملية التي تحتاج إلى دراسة وتأمل... ودائما كان يكفي أن يكون لدينا فرعون واحد، حتى نذوق المرارة على يديه، وبصراحة شديدة فإن هذا هو الإنجاز الذي لم يقصر فيه الرئيس مبارك فقد تفوق وأجاد ويكفيك الآن إن تحرك لسانك في فمك لتذوق المرارة المعتقة، المرارة في أفواه الجميع ساكنة، حتى فقد الناس لذة الحياة وبهجتها بصورة لم تعرف الانقطاع طوال 25 عاما، فهي فترة تخلو تماما من أي أمجاد أو انتصارات أو مفاخر أو أفراح قومية وجماعية، افتح الآن ذاكرتك وابحث فيها عن مفخرة وطنية واحدة شهدناها في ال 25 عاما الماضية ويقينا لن تجد إلا تفاصيل عادية جدا وتافهة جدا لن يأتيك من ورائها إلا الضجر السقيم والملل العقيم، ومعنى ذلك أن المرارة تسكن الفم، وهذا هو السبب فيما نشهده من موجات الاكتئاب القومي الشامل التي تغمر المصريين جميعا حتى استوت عندهم ظلمة الليل مع ضوء النهار، وانتقلت المرارة إلى أعين الناس وبصائرهم فلا يرون بصيص أمل نحو المستقبل، وبينما نحن كذلك جاءنا الفرعون الثاني ليأخذ مقعده إلى جانب الفرعون الأول، فازداد الشعب إحساسا بالألم المزدوج وبالمرارة المضاعفة... ومن اليوم لن نسكت على الفرعون الأول ولا على الفرعون الثاني... المهمة صعبة جدا، فرعونان في وقت واحد، على شعب واحد!». (29 / 9 / 2006).

ولكن أنور الهواري ترك (الوفد)، ثم عاد رئيسا لتحرير مجلة (الأهرام الاقتصادي) وكاتب عمود في صحيفة (الأهرام المسائي). وبدعوى أنه أفاق، وعاد إلى حظيرة الدولة، واستغفر ربه ثم خر راكعا وأناب، ظل يعلن حروبا، حقيقية أو مفتعلة، على من يفكر في مستقبل مصر، أو ينتقد سياسة مؤسسة الحكم، وفي القلب منها مبارك وابنه، أصبحت مصر الدولة التاريخية هي مبارك وحده لا شريك له. في مقال عنوانه (جمال مبارك) كتب الهواري كلاما إنشائيا يليق بطالب ثانوي يتدرب على الجملة حتى تستقيم: «عنده قلب، عنده عقل، عنده أعصاب. هذه هي خصائص القيادة عند جمال مبارك. عاطفة وطنية، تلهب حماسه، للاندفاع نحو أعقد القضايا وأصعب المشكلات، عاطفة حب تربطه ببلده، بجذوره، بزمنه، بأهله، بناسه، بأحلامهم، بطموحاتهم، بمطالبهم، برغباتهم في التغيير، بأشواقهم نحو الأفضل. عقل واسع، مطلع، لديه هندسة غريزية، يدرس بها القضايا، يضع الحدود بين العموميات والتفاصيل، بين الأهداف والوسائل، يفرز الأولويات ويعيد ترتيبها، طاقة عقلية تستوعب التفاصيل، صافية لا يلحقها تشويش ولا تعكير، لا تخلط عليه القضايا، لا ترتبك أمامه جذور المسائل، لديه قدرة فائقة على تتبع الأزمات من نشأتها، إلى تطورها وتفاعلها، ولديه قدرة مماثلة على إدارتها سعيا نحو حلها، تزدحم القضايا في الواقع، وفي الملفات، وفي الساحات العامة، ولكنها لا تزدحم في عقله... لديه القدرة على إثبات أن العقل الإنساني هو السيد هو الفاعل هو المتحكم هو صاحب القرار. أعصاب قوية منشأها وأصلها قوة التسامح. قوة الثقة في الذات. قوة النظر للرأي الآخر باحترام... قوة الاستقامة الأخلاقية والأمانة في تحمل المسؤوليات العامة... هذه هي خصائص القيادة عند جمال مبارك، كما تتجلى للمراقب المحايد. وقد استمعت إليه، يعرض وجهات نظره، ويستمع إلى وجهات نظر الآخرين، في دأب، وجلد، ومثابرة ـ يحسد عليها ـ على مدى خمس ساعات متواصلة». (الأهرام المسائي 30 / 4 / 2010).

وحين اقترح محمد حسنين هيكل، في أكتوبر 2010، إنشاء «مجلس أمناء الدولة والدستور» برئاسة مبارك وعضوية شخصيات بارزة ذات كفاءة، اتهمه أنور الهواري، في (الأهرام المسائي)، بنشر خطة الانقلاب على الشرعية، وأنه «المخرف السياسي الأكبر يضع نفسه تحت طائلة القانون... أيها الإله الزائف.. أنت تدعو للرثاء والإشفاق.. أنت تحتاج إلى بطانية زيادة تتغطى بها في ليل الخريف». (21 / 10 / 2010). وفي اليوم التالي وصفه بأنه «مجنون... قدوته السياسية الحاقد حسن نصر الله... مجنون برقاش.. يدعو القوات المسلحة إلى رعاية الانقلاب الذي يخطط له وهو يتعاطى سيجارا من بانجو مخلوط بالحشيش. مجنون برقاش يسير على خطى الشيطان.. يهذي على الملأ ويدعو الشعب للعصيان.. يتجرأ على مقام القوات المسلحة الطاهرة ويناديها أن تشارك في مؤامرته الفاجرة... مجنون برقاش، مرحبا بك في السراية الصفراء». (الأهرام المسائي 22 / 10 / 2010).

وبعد أن أصدر مبارك قرار تعيين أحمد شفيق رئيسا للوزراء، خلال ثورة 25 يناير، كتب أنور الهواري مقالا عنوانه (رئيس الوزراء)، بدأه بهذه السطور: «أحمد شفيق.. فريق في العمل.. مدرسة في الإدارة.. مذهب في القيادة.. رؤية طائرة في عنان السماء.. ترى الواقع وتطل عليه من كل الزوايا..». ("الأهرام المسائي" 30 / 1 / 2011). وبعد نجاح الثورة، سيوجه فوهة مدفعه، من (الأهرام المسائي) أيضا، إلى مصر الثائرة قائلا: «ميدان التحرير هو روح جديدة تنتقل معنا من الخارج إلى أعماق نفوسنا، من الشارع إلى بيوتنا من قمة هرم السلطة إلى أدناها». (8 / 3 / 2011)، وسيكتب بجرأة يوم 13 / 3 / 2011: «يكفي ثورة الخامس والعشرين من يناير شرفا أنها دفنت تاريخا كان قد مات وأوضاعا جعلت من الوطن مقبرة للحلم والأمل ويكفيها شرفا أنها أسست لتاريخ جديد، عادت فيه مصر من ميدان التحرير كأنها ولدت من جديد». ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!

معركة الجزائر

قضى على مستقبل مبارك الصغير منافقوه، وحسمت الجزائر المعركة لصالح الشعب المصري. الممثل عادل إمام سخر من الشباب والمظاهرات، وقال في بداية ثورة 25 يناير، وقال إنهم «شوية عيال مضحوك عليهم»، ثم قرأ بذكاء اتجاه الريح، وأدرك أن نهاية النظام وشيكة، فركب الموجة، واتصل بكثير من القنوات الفضائية معلنا دعمه للثوار. هو نفسه الذي قال من قبل: «يا ريت جمال يرشح نفسه ويصبح رئيسا لمصر. نحتاج إلى شخص قوي». وكان مرسي عطا رئيس تحرير (الأهرام المسائي) حريصا على متابعة أخبار جمال وعلاء مبارك، وتتبع أخبار صعود فريقهما (الصقور) لكرة القدم في دورات رياضية رمضانية، يحسم فيها الفوز قبل أن تبدأ، على طريقة عدي صدام حسين. أحتفظ بصور فوتوغرافية، نشرت في (الأهرام المسائي)، وكتب مرسي عطا لله تعليقها بخط يده، أولاها بتاريخ 13 / 12 / 1998، وفيها يقف جمال بين حرس شداد، وكتب مرسي على ظهر الصورة: «عندما بدأت ضربات الجزاء الترجيحية تعلقت كل العيون بأقدام اللاعبين ووقف جمال مبارك يتابع الضربات بقلق واهتمام بالغ»، وفي صورة أخرى التقطت يوم 13 / 1 / 1999، يقول: «علاء مبارك كابتن فريق الصقور في صراع على الكرة مع محمد رمضان نجم الأهلي».

قبل سنوات زارنا في الأهرام المسائي أسامة الغزالي حرب. كان قد رشح نفسه نقيبا للصحفيين، وحين فتح باب النقاش، قلت له، وزملائي شهود أحياء يرزقون، إنني سأتكلم في أمرين، أولهما يخص المهنة، وثانيهما استنكاري لتقدمك للترشح، وأنت عضو في لجنة السياسات تحت رئاسة جمال مبارك، ونخشى أن تتحول النقابة إلى أحد مقار الحزب الحاكم. قال إنه استقال من لجنة السياسات، ورددت عليه أنني لا أضمن ألا يكون خلاف قد حدث، حول مصلحة أو أشواق إلى منصب، الوريث يحكم مصر بالفعل، ولا أستوعب أن يجلس كاتب يحترم نفسه في موضع التلميذ أو الموظف، أمام رئيس للجنة لا أحد يعرف طبيعة دورها، ومعظم أعضائها من صغار السن، قليلي الخبرة. وقال الرجل إنه استقال، ولم أشأ أن أحرجه أكثر.

كانت لجنة السياسات برئاسة جمال مبارك تدير البلاد، وتحكم مجلس الوزراء الشرعي. هذا معلوم من السياسة العامة بالضرورة، مهما تكن مراواغات سياسيين خائفين أو طامعين مثل مصطفى الفقي القائل إن أمانة هذه اللجنة «تسهم إلى درجة كبيرة جدا (في وضع الإطار العام للدولة) وتسهم بالأفكار والدراسات شديدة التميز». ("المصري اليوم" 27 / 3 / 2011). لم يتردد الفقي في الإشادة بدور اللجنة، وتجنب الإشارة إلى أن نسختها الكارثية في العراق تولاها صدام حسين حين كان نائبا للرئيس طامحا للرئاسة، ثم ابنه عدي الصاعد بقوة، تحت جناح أبيه. وبعد يومين اثنين، وفي الصحيفة نفسها، مد الفقي نفسه يدا إلى الوريث قائلا: «عندما أحضر اجتماع أمانة السياسات أرى حولي معظم العقول المفكرة من المثقفين والعلماء وأساتذة الجامعات في مصر». بالورقة والقلم حسبها الفقي، ثم فكر وقدر، ثم نظر وفتح جناحيه، إلى الوريث وإلى أبيه معا، وقال في برنامج تلفزيوني نشر ملخصه في ("المصري اليوم 31 / 3 / 2008): «الرئيس مبارك وأسرته يعلمون أنني عشت بينهم وولائي لهم».

كانت لجنة السياسات فتنة كاسحة، بوعود وإغراءات، لم ينج منها إلا مجانين، استغنوا بمواهبهم عن عطايا السلطان، وأداروا له ظهورهم بحذر وهاماتهم مرفوعة.

لم ينضم مثقف إلى هذه اللجنة أو يتطوع للعمل في دوائرها مجبرا، وظل كثيرون يحومون حولها لعل أحدا يراهم، أو يثمن مواهبهم التي يضعونها تحت الطلب. كان لنا صديق لم يختبر، بارز في تخصصه، ونال منصبا مهما، وقلت له إنني أستخسره في مناصب تعطل جهوده واجتهاداته العلمية، وصمت صمت المشتاقين. كان موعودا بأن يكون الرجل الأول في مؤسسته، وتأخروا عليه، وتبرم وقال لصديق: إذا كان الانضمام للجنة السياسات شرطا فأنا مستعد الآن. استعجل المسكين، وغادر إلى الخليج مغاضبا، ليصير عبدا مملوكا لا يقدر على شيء. أعماه الجوع التاريخي عن حقيقة أن المنصب لا يضيف شيئا لصاحبه، إلا مزيدا من توقيع أوراق، ونسي درس أحمد أمين، واستعلاءه على المنصب قائلا: «أنا أقل من أستاذ وأكبر من عميد».

ظننت الحماس لإنتاج فيلم (عمارة يعقوبيان) طلعة سينمائية أولى للإجهاز على الحرس القديم في الحزب الوطني. الرواية تؤكد فساد هذا الجيل، ولم يكن الفيلم بريئا، حتى إن سمير فريد رآه بداية سينما الإصلاح «لا يمكن تجاهل أنه في نفس الوقت الذي كان يصور فيه فيلم (عمارة يعقوبيان) كان (المنتج) عماد أديب يشترك في الحملة الانتخابية للرئيس مبارك عام 2005 بإجراء حديثه التلفزيوني المطول معه، وأن مروان حامد مخرج الفيلم الرسمي للانتخابات، وأن (كاتب السيناريو) وحيد حامد أعلن في مقالاته السياسية وأحاديثه للصحافة والتلفزيون أنه يؤيد ترشيح جمال مبارك لرئاسة الجمهورية طالما هناك انتخابات ... وأن عادل إمام أعلن بدوره أنه يؤيد ترشيح جمال مبارك لرئاسة الجمهورية طالما هناك انتخابات. فهذه المجموعة من الفنانين تعمل في السينما السائدة. وفي إطار النظام السياسي، وحتى موقفها من الجماعات الإسلامية الإرهابية يرتبط بموقف النظام منها». في المقال نفسه قال سمير فريد: «فالفيلم الذي كتبه وحيد حامد وأنتجه عماد أديب وأخرجه مروان حامد يعبر عن سينما الإصلاح السياسي الذي تقوده لجنة السياسات في الحزب الحاكم برئاسة جمال مبارك، والتي تواجه شبكة مركبة وراسخة من أعداء الإصلاح التي قررت وراثة مصر أيا كان رأس الدولة. وربما هي التي تثير قضية وراثة جمال مبارك حتى تعوق الإصلاح، وحتى تخفي قرارها متجاهلة تأكيد الرئيس مبارك على أن مصر ليست مثل سوريا، ومتجاهلة تأكيد جمال مبارك استحالة توريث الحكم في مصر». ("الجمهورية 12 / 6 / 2006).

أصابت فتنة لجنة السياسات كثيرا من الذين يفترض أنهم مثقفون.

ولكن الجزائر، من دون قصد، أغلقت الثغرة الأخيرة التي كاد يتسلل منها جمال مبارك، إلى الكرسي، ثم اتضح أن الثغرة ظلت موجودة ومتوارية، حتى بعد (جمعة الغضب)، ولم تنته تماما إلا بعد فشل «موقعة الجمل» يوم الأربعاء الدامي 2 / 2 / 2011، كما سنرى. ذهب جمال إلى السودان، على رأس بعثة منتخب كرة القدم، ولكن المبارة الفاصلة يوم 18 / 11 / 2009، انتهت بفوز الجزائر، وتأهلها لنهائيات كأس العام 2010 بجنوب افريقيا. كان الترتيب أن يمر سيناريو التوريث من بوابة الجزائر عبر السودان، وأن يحمل الوريث فوق رقاب العباد، في مطار القاهرة، وتخرس الألسنة، وترفع الأقلام، وتجف الصحف، ولكن الجزائر أحبطت خطة اللصوص، فاخترعوا خطة بديلة هي اتهام الجمهور الجزائري بالبلطجة. كان واضحا أن لاعبي الجزائر أبرياء من تهمة الإساءة إلينا، لم يكن مطلوبا منهم أن يخونوا بلادهم، ويفتحوا شباك مرماهم، من أجل عيون مبارك الصغير. تجاهل الجهلاء هذا الأمر، وسارعوا إلى لعن السودان لعنا كبيرا، إذ فشل في حماية لاعبي مصر ومشجعيها بعد المباراة. ونشط السفهاء من المذيعين، في القنوات الرسمية والخاصة المملوكة لرجال أعمال تحوم حولهم الشبهات، وأذاعت لقطات قديمة، على أنها اعتداءات على المصريين في السودان. في برنامج بالتلفزيون المصري تساءل أحمق كان رئيسا لتحرير مجلة حكومية:

«هو فين الرئيس السوداني؟ صحوه من النوم، هي السودان فيها مطار!».

وقال إبراهيم حجازي في خطاب يذكرنا بالجاهلية الأولى: «محتاجين كمصر.. اللي يبص لي أجيب (أفقأ) عينه، واللي يقل أدبه، أديله على قفاه».

وقال مندوب المبيعات الزبلكاني الذي أصبح وزيرا للإعلام إن مصر مستعدة لإرسال طائرات عسكرية لإجلاء المصريين. وبعد ساعات، تغيرت اللهجة، إذ احتج السودان على تصريح سفيه ينتهك سيادته بالكلام، وبطائرات عسكرية. أكد السودان أنه لم يقصر في حماية الجمهور المصري، ولم يكن له يد في تغيير نتيجة المباراة، وتم استدعاء السفير المصري الذي أبلغ رسميا باستياء السودان من أداء الإعلام المصري، فتغيرت اللهجة، وأصبح السودان، على ألسنة المذيعين أنفسهم، رائعا وجميلا ومدهشا، وانصبت اللعنات على الجزائر، حتى إن علاء مبارك أبكى لاعب كرة تافها، وهو يتشنهف على ضحايا الاعتداءات، وقال ابن مبارك الكبير بثقة: وداعا للعروبة. وبغير إحسان، تبعه يوسف زيدان، في (المصري اليوم)، مزايدا وساخرا من «مسميات ما أنزل الله بها من سلطان: الأخوة العرب الأشقاء»، وهذا مقال دال وكاف ليجعلني أفرغ يدي من «اجتهادات» يوسف، وأتخلص من كتبه الغزيرة، بعد أن استعرض بخفة، غير لائقة بباحث، البؤس الذي قال إنه يغوص في نفوس «صحراويين لم تعرف بلادهم يوما نسمات التحضر»، في «ذلك البلد المسمى الجزائر.. ورئيسهم الحالي المسمى بوتفليقة»، ثم وجد جذورا لهذا العنف الرياضي «أتذكر.. كان معنا فى كلية الآداب طلاب جزائريون بالدراسات العليا، وكانوا والحق يقال مثالا للغباء والعنف الداخلي، والتعصب المطلق (أي التعصب لأي سبب) ومع أن المنح الدراسية المقدمة لهم، ويا للعجب، كانت مجانية، أي أن مصر (المحروسة) تقوم بسدادها عنهم، إلا أنهم كانوا لا يكفون عن التذمر، لأنهم كانوا حانقين على بلدهم! لأنها أرسلتهم إلى مصر وليس إلى فرنسا، كآخرين من زملائهم». (25 / 11 / 2009).

في المهرجان الثقافي الدولي للأدب وكتاب الشباب بالجزائر (يونيو 2011)، شكرت أصدقاء جزائريين، وقلت إن كرة القدم لم تكن سببا في الإلهاء، مرة واحدة على الأقل في تاريخها، واستشهدت بفريق الجزائر الذي أسهم في تقديم موعد الثورة المصرية، وتأجيل قضية التوريث، فقال لي أحدهم: «ولكن فوز فريقنا أجل الثورة في الجزائر!».

كان شهود الزور والكهنة يرون الصمت فضيلة، حين يكون الكلام واجبا. يوم الأربعاء 19 / 5 / 2010، تفادى مبارك سؤالا مفاجئا، في مؤتمر صحفي في روما، عمن سيخلفه. قال: «من يعلم؟ الله وحده يعلم من سيكون خليفتي»، وحين كرر الصحفي سؤاله، أشار مبارك إلى السماء: «أفضل من يفضله الله»، ولم يعلق السيد يسين ولا جابر عصفور ولا أنور الهواري عن انتماء هذه الإجابة المراوغة إلى العصور الوسطى. فيما بعد، سيجرؤ السيد يسين على أن يقول في ("الأهرام المسائي" 14 / 5 / 2011)، وهو يلملم جلبابه بسرعة لكي لا يعوقه عن اللحاق بالقطار، إن ثورة 25 يناير: «قامت لتقضي نهائيا على نظرية التحول الديمقراطي وتثبت أنه لم يكن هناك حل إلا بالثورة الشاملة!». علامة التعجب ليست لي، وإنما كتبها يسين الذي سيقول، في إحدى حلقات مسلسل تنبؤاته بالثورة بعد 120 يوما: «يمكن القول بيقين إن ثورة 25 يناير كانت لها إرهاصات في الفكر العالمي منذ بداية التسعينيات». ("الأهرام" 26 / 5 / 2011).

الثورة هي الثورة، والثوار هم الثوار، والميدان هو الميدان، ومبارك هو مبارك، فكيف تتأتى الجرأة المفاجئة للسيد يسين الذي لم يكلف نفسه بزيارة الميدان ليشاهد، حتى لا يختزل الثورة إلى «هبة شبابية» صاحبتها ظواهر مؤسفة، على حد قوله، «تتعلق بردود فعل بالغة الحدة والعنف من قبل المتظاهرين إزاء محاولات الشرطة المستميتة في فض المظاهرات التي خرجت عن مسارها السلمي... والأمل أن يعطي الشباب المقترحات التي قدمها الرئيس استجابة لمطالبهم فرصة كافية للتنفيذ ولن يتم ذلك إلا إذا ابتعد الشباب عن المزايدات السياسية للمعارضة التي لم يكن لها أي دور في الانتفاضة». ("الأهرام المسائي" 5 / 2 / 2011). ولكنه سيعلن إيمانه بالثورة، كمن يؤمن بالله يوم القيامة، ويكتب مبتهجا: «ها هي ثورة 25 يناير أشرقت شمسها وبسطت ضياءها على الكون». ("الأهرام 30 / 6 / 2011)، ولا يمكن الثقة بجملته الأخيرة، ولا فهمها إلا في ضوء نظرته إلى نفسه كمفكر كوني، يقول للثورة: «كوني» فتكون!

ولكن المداحين والهتيفة، الذين أصابهم الله بضعف البصيرة، أفقدتهم الثورة ضعف الذاكرة. لم يخجل رئيس تحرير الأهرام أسامة سرايا، حين نشر في الصفحة الأولى، صورة بالحجم الطبيعي تقريبا لمبارك، في عيد ميلاده 4 / 5 / 2008، واخترع له صفات كثيرة، تحت عنوان يليق بتحتمس الثالث، أو رمسيس الثاني، أو محمد علي، أو جمال عبد الناصر: «يوم أن ولدت مصر.. من جديد»، وفي وسط متن اللغو كتب عنوانا آخر: «صراحته ترياق أفقنا به من وهم طويل‏..‏ وواقعيته صمام أمان لحلول الأزمات». صحفي آخر اسمه ممتاز القط، كان محررا يغطي أخبار مجلس الوزراء، وفوجئ بتنصيبه رئيسا لتحرير (أخبار اليوم)، صدمة لم يفق منها، وظل يسبح بحمد مبارك، ويزور المدرسة الابتدائية التي تعلم فيها مبارك صبيا، وله مقال شهير عن مناقب الرئيس، وكيف أنه «صاحب عيا»، وليس من العدل انتقاده بعد أن حرمه الله نعمة «طشة الملوخية»، وهذا أدعى لأي مصري ألا يفكر في أن يكون رئيسا، فكيف تكون للرئاسة معنى أو لذة مع الحرمان من الملوخية؟ ولكن القط كتب: «التاريخ إن كان قد فتح أروع صفحاته لبطولات شباب ثورة 25 يناير.. فإنه سيسجل أيضا بمداد من الخزي والعار ما يقوم به البعض اليوم من ركوب الموجة». (أخبار اليوم 19 / 2 / 2011). وقال علي هاشم رئيس مجلس إدارة دار التحرير في صحيفة (الجهورية): «أتوقع أن تقوم أكثر من جهة أو فرد بإعداد كتاب وثائقي لكل من كتب ينافق النظام السابق ثم سرعان ما انقلب عليه». (17 / 2 / 2011)، ولم يكن قد مر وقت طويل ينسي هاشم أنه كتب في (الجمهورية)، عقب تزوير الانتخابات لصالح الحزب الحاكم: «وضع الحزب الوطني خارطة طريق للسنوات المقبلة، ورسمت كلمة الرئيس مبارك زعيم الحزب ملامح البرنامج الجديد للحزب وصاغت بعناية خطط المستقبل، ووراء هذا الجهد الفكري المتميز نجوم ظهرت بصماتهم بوضوح، منهم السياسي القدير صفوت الشريف أمين عام الحزب وجمال مبارك قائد ثورة الإصلاح ثم البرلماني والقانوني الشهير د. مفيد شهاب والسياسي والمعارض الحكومي النشط د. زكريا عزمي والمهندس أحمد عز ود. علي الدين هلال وغيرهم. ليت أحزاب المعارضة التي ملأت الدنيا صياحا وضجيجا وعلقت فشلها على شماعة الحزب الوطني وحكومته. ليتها تفيق وتلتفت إلى المنهج المنظم للوطني». (20 / 12 / 2010).

أما أنيس منصور، الذي اتهم الثوار بما يشبه الخيانة، وقال إنهم «رأوا اليورو لأول مرة.. ويأتيهم الطعام ساخنا تحت الخيام»، وأدان الثورة قبل أن يتأكد له نجاحها (كما سيرد في يوميات الميدان)، فتمكن من القفز، وزاحم آخرين وأوسع لنفسه مقعدا في العربة الأخيرة، ليصف مشاهداته وتأملاته، ويقول إن «الملايين الشابة قد اتفقت على رأي على نظرية وهي إنقاذ مصر من الفاسدين من أبناء مصر ووصفتها الدول الأوروبية والأمريكية بأنها ثورة ناعمة ناجحة من أول لحظة ولا قطرة دم. فهي ثورة بيضاء لم نعرف لها نظيرا في التاريخ!». ("الأهرام" 26 / 2 / 2011). وبعد أن رأى أنيس المسافات تبعده عن مبارك، ولا أمل له في العودة إلى الكرسي واتته الشجاعة، واجترأ على سؤال رجل ميت إكلينيكيا وتاريخيا: «فلماذا المليارات التي تملأ الجيوب، يا ليتك ورثت هذه المليارات وإنما كانت من قوت الشعب يا ريس!». ("الشرق الأوسط" 29 / 3 / 2011). ثم أكد أن ثورة 25 يناير «لا قبلها ولا بعدها»، وعثر في جرابه على سهام وحراب أخرى، فواصل الطعن والضرب في الميت، وسأله: «تطلع حرامي؟ مبارك لم يكن زعيما، وورث ثروة مصر بدون أي مجهود، مثله مثل واحد بجوار سائق تاكسي، وفجأة ضرب هذا السائق بالنار، فأخذ مكانه. لقد تسلم مصر جاهزة، فلم يقل شيئا ولم يفعل شيئا، فقط رفع العلم على طابا، وأشهد أن حكاية الضربة الجوية لم يكن له فيها دور، فقد كانت طلعة جوية عادية. مفيش حاجة اسمها الضربة الجوية». ("أخبار اليوم" 30 / 4 / 2011).

ولم تكن الساحة خالية للكهنة وشهود الزور والطامحين والخائفين والمتلونين. هناك شرفاء بحق، ظلوا يكتبون، ولكن مبارك لا يقرأ، وابنه ضيق الصدر، محدود الخيال والأفق. قال سعيد النجار لجمال في نادي الدبلوماسيين: «إنكم، أنت وأبوك لا تدركون قيمة البلد الذي تحكمونه، لا تعون أصلا معنى (الدولة)»، فمن مصلحتهم الإبقاء عليها ليجدوا ما يحكمون وما ينهبون، بدلا من تفكك الدولة. وكتب حازم الببلاوي تحت عنوان (أريد أن أنتخب جمال مبارك) قائلا إن التكوين النفسي والبيئة التي عاش فيها جمال مبارك يجعلان من شخصيته تهديدا وخطرا على «المبدأ الجمهوري»، وسأل مهندسي التوريث: «هل نتنازل عن المبدأ الجمهوري من أجل هذا الشاب؟... فهو متوسط أو فوق المتوسط من ناحية التعليم»، وتساءل أيضا: «ماذا يفعل الشاب جمال مبارك لكي يكسب عيشه؟.. لماذا لا نعرف شيئا عن نشاط السيد جمال مبارك المهني، الذي يتكسب منه؟». ("المصري اليوم" 7 / 9 / 2010).

في مؤتمر أدب الرحالة (العرب بين البحر والصحراء) في ديسمبر 2010 بالدوحة، صدر كتابي (سبع سماوات.. رحلات في العراق وهولندا والجزائر والهند والمغرب ومصر)، ولولا قيام ثورة 25 يناير لحزنت كثيرا على عدم وصول أي نسخة منه إلى مصر، ولكن الثورات تغفر السيئات. الفصل الأخير من الكتاب هو رحلة في مصر، وقد نشر يوم الخميس 27 / 12 / 2010 ، عشية جمعة الغضب، في موقع (ميدل إيست أونلاين)، تحت عنوان (مصر.. على الحافة قبل هاوية) وقلت في سطوره الأخيرة:

«زائر مصر هذه الأيام (مطلع عام 2008) لن يغادرها إلا محملا بكثير من هموم أهلها، التي تصير همومه أيضا. مستقبل البلاد غائم، كأنه معروض خلف زجاج سميك غير شفاف، يصعب اختراقه إلا بثورة شعبية وشيكة، لا يعلم المصريون كيف تنتهي إذا أشعلها عود ثقاب. حديث وراثة الحكم هاجس يقتحم الخيال، ولا أحد يتوقع كيف يكون الغد.

على الرغم من اعتماد الحكم على الحاكم الفرد، وغياب دور المؤسسات في كثير من المهام، فإن البعض يراهن على أن مصر الدولة الوحيدة التي يمكن أن يحكمها أي إنسان، فلسفتهم في ذلك أن الجهاز الإداري العتيق، سوف يعمل من تلقاء نفسه: يذهب الموظفون إلى أشغالهم، أيا كان «صاحب مصر» الجالس فوق العرش. البعض يقول: «نرضى بأي شخص إلا ابن الرئيس، كيف نعود إلى الوراء، إلى ما قبل صيحة عرابي: لقد خلقنا الله أحرارا... لا نورث...».

يظل السؤال مؤرقا: ماذا لو ورث الابن أباه؟».

وتركت الإجابة مفتوحة. كانت الإجابة أو الإجابات هي ثالث أي اثنين أو أكثر من المثقفين القلقين على مستقبل «الدولة»، في حين كاد عامة الشعب يرضون، أو هكذا تصورت، بالأمر الواقع. وفي عزاء محيي الدين اللباد، مساء الثلاثاء 7 / 9 / 2010 بمسجد عمر مكرم، كان التوريث ثالثنا، المثقف/الموظف الذي صار وزيرا للثقافة بعد الثورة وأنا. رد على اعتراضي مستنكرا: «وما له جمال مبارك؟ على الأقل أفضل من الإخوان»، وقلت: مرحبا بالإخوان إذا جاءت بهم الانتخابات، ومرحبا به أيضا، بشرط أن يفصل بينه وبين أبيه حاكم آخر، لو ورثنا فسوف أهاجر، أو أحمل السلاح، الولد لا يعرف الاسفلت، ويرانا بعين مستشرق. قال: «أنت تبالغ، هو رئيس مدني». كان المثقف الذي صار وزيرا للثقافة بعد الثورة مثل كثيرين من دوائر الثقافة الرسمية يتعاملون مع أمر واقع، كأنه قدر، أو هو القدر. وقطع نقاشنا وصول حسين جبيل معزيا، ثم جاء آخرون، وخرجت من المسجد مع حسين، وظل المثقف الذي صار وزيرا للثقافة بعد الثورة، ولم يكتمل النقاش، ولم أكن بحاجة لاستكماله، كانت الاختيارات واضحة.

مبارك والقذافي.. وجهان قبيحان

لا يختلف جمال مبارك عن سيف الإسلام القذافي، ولا مبارك عن معمر، إلا في الدرجة. في عام 1997 نظم معرض القاهرة الدولي للكتاب ندوة لمناقشة المجموعة القصصية (الأرض الأرض.. القرية القرية.. وانتحار رائد الفضاء) للقذافي، وقد صدرت بمقدمة لسمير سرحان. كان المؤلف العبقري يتابع على الطرف الآخر، في تعال، اجتهادات النقاد المساكين، وهم يحاولون النفاذ إلى جوهر المعاني الإنسانية الثورية، وأذكر منهم نبيل راغب مؤلف كتاب (أنور السادات رائدا للتأصيل الفكري)، ومدحت الجيار (سأتحدث عنه في يوميات الثورة)، وظننت تلك الندوة نزوة نقاد مصريين قصار القامة، أو فرض كفاية على الكتاب العرب، ثم اكتشفت أنها أحد طقوس الولاء، حتى لمن هم بعيدون عن سطوة البطش القذافي، ففي مدينة سرت الليبية، أهدى الاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب برئاسة محمد سلماوي، في أكتوبر 2009، درع الاتحاد للقذافي، بصفته أديبا عظيما. ونظم المؤتمر مائدة مستديرة عنوانها (النص الأدبي لدى المبدع معمر القذافي)، شارك فيها المصريون مدحت الجيار، وشوقي بدر يوسف، وفؤاد قنديل تحدث أيضا، حتى إن أحمد الخميسي كتب في (أخبار الأدب): هل يصدق العقيد ما يقوله أولئك النقاد: «وأتساءل حين أقرأ أخبار ذلك النقد الأدبي: ترى ما الذي قد يغنيه العندليب في حضرة السيف؟!». (1 / 11 / 2009). وبعد انطلاق الثورة الليبية يوم 17 / 2 / 2011، فتحت (الحياة) بعض صفحات ملف الملوثة أيديهم بدماء الليبيين، ممن مدحوا القذافي، أو شاركوا في ندوات عنه (كاتبا ومبدعا)، وزينوا له سوء عمله فرآه حسنا، ومنهم المصريون: سيد محمد السيد قطب، وميرال الطحاوي، وسمير الجمل. فماذا يختلف القذافي عن صدام؟

جابر عصفور الذي يحلو له التباهي برفض زيارة العراق تحت حكم دكتاتور، لم يتردد في قبول جائزة تحمل اسم دكتاتور آخر. كان الكاتب الإسباني خوان جويتيسولو قد رفض (جائزة القذافي العالمية للآداب)، في دورتها الأولى والأخيرة، وأعلن في أغسطس 2009 أنه لن يستطيع قبول الجائزة، وقال لعضو لجنة التحكيم صلاح فضل في رسالة: «أرجوك بشدة أن تتفهم الأسباب التي تدفعني لعدم قبول هذه الجائزة... انتقدت بلا توقف الدكتاتورية والعائلات الملكية الجمهورية التي تحكم بينما تجعل شعوبها في فقر وجهل». فيما بعد قال جويتيسولو: «لا يمكن أن أحمل جائزة تحمل اسم دكتاتور، وأنا أكتب عن الحريات والديمقراطية في كل مكان». (مجلة "الدوحة" / يونيو 2011).

اعترض جويتيسولو على تجميل وجه طاغية، لا يستحق أن يمنحه كاتب محترم شرف قبوله جائزة تحمل اسمه. فسارع عراب الجوائز صلاح فضل، إلى حمل جائزة القذافي، صرها في منديل أو عقال خليجي، ووضعها في زاوية من بقجة كبيرة تضم جوائز وأمانات جوائز ولجان، وعرضها على عصفور، فلم يشفق منها، وتسلمها يوم 24 / 4 / 2010، حملها وتباهى. وبعد أيام من عودته المباركة، كتب في الأهرام (3 / 5 / 2010)، فخورا بالجائزة، وبالرحلة إلى ليبيا التي ردت إليه «ما ضاع من صورة وطني»، مستدفئا ومستترا بصحبة ضمت السيد يسين، وأحمد إبراهيم الفقيه، إضافة إلى «أستاذنا الدكتور يحيى الجمل وخيري شلبي وأخي جمال الغيطاني وسعيد الكفراوي ومحمد الخولي ويسري خميس ومحمد سلماوي رئيس اتحاد الكتاب العرب مدعوين للاحتفال».

جابر عصفور، كما وصفه نصر أبو زيد في رسالة لسعيد الكفراوي أحتفظ بأصلها، طحنه «قادوس السلطة»، وانتشى نشوة «الاندماج والذوبان الكامل عشقا في السلطة وولها بها».

وسيكون لعصفور نصيب في يوميات الثورة، فالشيطان الأخرس هو الذي يعرف مقولة سفيان الثوري: «النظر إلى وجه الظالم خطيئة»، ثم يرضى بأن يستخدمه الظالمون، وهو غير مكره.

الهرم

11 / 8 / 2011

الطريق إلى الثورة.. اعتذار لكل مصري

يوم 17 /12 / 2010، أضرم الشاب محمد البوعزيزي النار في نفسه. كانت شرطية تونسية يقال لها فادية حمدي قد استأسدت عليه، وقيل إنها صفعته في الشارع، وصادرت عربة خضار لا يملك غيرها، وعليها الميرزان وبعض الموز والفلفل. صفعة لم تكن الأولى للبوليس، ولكنها ربما كانت الأخيرة لأحرار حمل الشاب من غير قصد لواءهم، وأعلنوا أنهم سيعيشون بكرامة، أو ينتحرون. لم يتابع أحد هذيان الشاب، أو لجوءه إلى بناية رسمية، قبل أن يفعلها. مشاهد مسروقة لو أتيح لأحد أن يسجلها لكان له ملء الأرض ذهبا. هل سب البوعزيزي البلاد ومن عليها؟ أم أنه خص بالسباب ذلك الشخص وحده؟ ألم يكن في الشرفات المطلة، أو السيارات المتهادية، أحد يعبث بتليفونه مصادفة، والتقط ذلك المشهد؟ طار الشاب بجناحيه، وصرخ، وما لبث الأذان بالثورة أن ردده ملايين التواقين إلى الحرية. قفز الشاب في غير ماء، وجعلت له الأرض بحرا تتصادى أمواجه شرقا وغربا، فتتصدع عروش الطغاة.

ظل الشاب بالمستشفى سجين جسده وسريره، لكن روحه حلقت، وطافت سماء البلاد، من أقصاها لأقصاها، على مدى 28 يوما، مصحوبة بشعلة نار اكتسبت قدسية من روح طاردت دكتاتورية زين العابدين بن علي، وكان القدر على موعد مع نور أحال تونس إلى نار موقدة أبت إلا أن تطهر البلاد من احتلال محلي. لم يجد بن علي، يوم 14 /1 / 2011، إلا الفرار، حاملا عاره معه، وطافت طائرته في سماء ضاقت عليه بما رحبت، وأدار له أصدقاء الأمس ظهورهم، ما من أحد يريد أن يقاسمه الخطيئة، حتى هبطت طائرته في جدة، في حين ارتفعت صورة الشهيد واسمه في الشوارع والساحات.

يحلو للبعض القول إن نجاح الثورة التونسية، شجع مصر على الثورة يوم 25 يناير. النجاح التونسي كان إلهاما، هذا صحيح، ولكنه تبسيط يهدر حقيقة أن الاحتجاجات، والمظاهرات، والانتفاضات، والثورات الصغيرة، بدأت عام 2004، وتعززت بالإعلان عن الحركة المصرية من أجل التغيير (كفاية)، يوم 12 / 12 / 2004. وقد رفعت (كفاية) سقف المطالب السياسية، دفعة واحدة ومن دون مواربة أو مجازات، واحتمت بالفضائيات والشارع، بعيدا عن أحزاب تدعمها الحكومة، ويعمل رؤساؤها مندوبين للنظام، أو ممثلين لأجهزته السرية. (كفاية) كلمة دالة اخترعها جورج إسحق الذي شغل منصب المنسق العام لها، واتخذت شعارا له بلاغة الإيجاز: (لا للتمديد، لا للتوريث)، فماذا كنا نريد أكثر؟

من فرط الإلحاح، كدنا نصدق نصدق مقولة كعب الأحبار لعمر بن الخطاب:

إن الله عندما خلق الدنيا جعل لكل شيء شيئا، فقال الشقاء أنا لاحق بالبادية، وقالت الصحة وأنا معك. وقالت الشجاعة أنا لاحقة بالشام، فقالت الفتنة وأنا معك. وقال الخصب وأنا لاحق بمصر، فقال الذل وأنا معك.

وفي وصفه لأحوال مصر قبل نحو 700 عام، قال الرحالة المغربي الأشهر شمس الدين محمد بن عبد الله الطنجي المعروف بابن بطوطة:

يستبد العسكر، والشعب يئن تحت وطأة الحكم، ولا يهتم الأقوياء بذلك، والعجلة تدور.

وقد ظلت العجلة تدور، بإيقاعها نفسه حتى أيام مبارك الأخيرة، فهل كانت القبضة البوليسية أقوى من خيالنا؟

لم نكن أقل جسارة، كان ما ينقصنا هو الخيال، فانتظرنا نضج الشرط التاريخي، وقد نضج في يناير 2011، واكتشفنا أننا لم نكن نعي تماما أننا بهذه القوة، وهذا يدعوني إلى تقديم اعتذار لكل مصري، نيابة عن كل من تساءل: لماذا لا نثور؟ ومتى نثور؟

في بداية يناير 2011، جمعتنا جلسة تكررت كثيرا، في كافتريا المجلس الأعلى للثقافة في دار الأوبرا، كان المطر يبلل ثيابنا ورؤوسنا، وشوقي جلال يتحدث عن المجتمع المدني، وسنوات طويلة من التوعية، للوصول بالناس إلى مستوى يدفعهم للإصرار على المطالبة بحقوقهم، وعبد العزيز جمال الدين قد أصدر عددا جديدا من مجلته (المصري الليبرالي)، ويراهن على الدولة المدنية، وتأخر علينا في ذلك اللقاء أحمد محمود، واستأذن عبد الرازق عيد لأن ابنته (شهد)، لا تحتمل المطر، ورفعت السيد علي أبدى قلقه، فعدد قوات الشرطة نحو 1.3 مليون جندي، وامتيازات كبار ضباط الشرطة من دون حدود، ولن يضحوا بها في سبيل حرية شعب لم يسع إلى انتزاعها. لم يبق إذن، بعد انتقاد مبارك والعائلة، إلا العصيان المدني، أو تدخل الجيش لإزاحته، ونبدأ مسلسل الانقلابات. وقلت إننا إذا استبعدنا نحو عشرة ملايين مصري في الخارج، و25 مليونا من الرضع والأطفال، ومثلهم من المرضى، فسيكون لدينا جندي لكل ثلاثة من المواطنين!

تذكرت يناير 2005. أحصيت في معرض القاهرة للكتاب 21 سيارة مصفحة للشرطة، يهبط منها مئات الجنود، ليحاصروا متظاهرين مسجونين داخل أسوار أرض المعارض، ولا يملكون إلا حناجر تنادي: «يسقط يسقط حسني مبارك»، و«يا جمال قل لأبوك: شعب مصر بيكرهوك»، هتافات لا تبلغ شارع صلاح سالم، ولا تصل إلى بوابة المعرض، لكننا نخاطب أنفسنا، والنظام المرعوب لا يسمح بأي مخاطرة، ويعمد لإطفاء الشرارة قبل اشتعالها. ودخل فتحي إمبابي خيمة المقهى الثقافي ليستريح، فقالت لي صديقة شقراء، إنها سمعت موظفا في هيئة الكتاب، يشارك في تنظيم أنشطة المعرض، ويشغل منصبا في إحدى مجلات الهيئة، يعد اثنين من ضباط الأمن، يرتديان ملابس مدنية، بتسليم فتحي إمبابي إليهما. هي سمعت ولم تلتفت، وهم تأملوها وظنوها أجنبية، وأرجأوا القبض عليه في حضورها. أبلغت فتحي بالخديعة، وأعددنا خطة سريعة، أن يخرج بصحبتي وصحبتها، ولن يقتربوا منه في وجود «أوروبية شقراء»، وفي الطريق إلى شارع صلاح سالم ظلوا يراقبوننا، حتى تجاوزنا البوابة، واستقل فتحي حافلة صغيرة (ميني باص)، ثم عدنا إلى المعرض.

في الأيام التالية، فبراير 2005، كان سلم نقابة الصحفيين يشهد مظاهرات دائمة. العشرات من المتظاهرين في الأعلى، وفي الأسفل مئات من جنود الشرطة، وعشرات من الضباط، وبعض القناصة ومصوري وزارة الداخلية في شرفات وأسطح البنايات المواجهة للنقابة. لدي ورقة سجلت فيها بعض هتافات تلك الأيام، بعضها ظل صالحا لثورة 25 يناير 2011، والبعض تجازوته المرحلة:

«لن يحكمنا ابن سوزان».

«حسني مبارك يا مفلسنا .. انت بتعمل ايه بفلوسنا».

«باسم 7 مليون عاطل .. ترشيحك يا مبارك باطل»، وكان موعد ترشحه لانتخابات 2005 يقترب.

«فاضل على حسني زقة .. والسكة مش طويلة .. وهنخلص منه في ليلة .. لو كلنا قلنا لأه»، وتتعالى الصيحة: لأه لأه.

في يناير 2003، تلقيت دعوة لكتابة الصفحة الأخيرة في صحيفة ("العربي" الناصري) الأسبوعية، كانت المنطقة تقف على أطراف الأصابع، والأعصاب مستنفرة، مع توقع حرب أمريكية على العراق، ولم يكن سهلا تجاهل الهم العراقي في مقالي (البلد بلد ستين عتريس)، وعتريس هو الطاغية بطل الفيلم المصري (شيء من الخوف)، سخرت في المقال من شعار (فكر جديد) الذي تبناه آنذاك جمال مبارك لتسويق نفسه، وقلت إننا نتجه إلى «قاع القاع، فلا يمكن وقف الكرة المتدحرجة في منتصف المنحدر، لسرعتها وقوة الدفع الذاتي، ويبقى الأمل في قوة الانفجار الناتج عن الارتطام بالصخرة الأخيرة بعد الهبوط، وذلك عبر زمن يستهلك فيه الفساد المستتر والفاجر معا، كما يستهلك حكام اليوم وورثة العروش من الأبناء الأقل خبرة بالسياسة والمؤامرات، بما يمكن الشعوب من استعادة الثقة التي هي بداية فعل الإزاحة، بعد التأكد من أن عتريس شاخ، وأن البدلاء لا يصلحون للقيام بالدور». (12 / 1 / 2003).

وتحت يدي الآن مقال آخر، وضعت له عنوان (حين تصبح المقبرة باتساع الوطن)، وأضافوا إليه في الصحيفة عنوانا ثانيا (سعد القرش يحدثكم عن زمن بلا خيال)، علقت فيه على العدد الأول من نشرة معرض القاهرة الدولي للكتاب، وفيه موضوع «لا علاقة له بالمعرض»، لكنه «احتل» ثلاث صفحات كاملة «بثلاث صور مختلفة لجمال مبارك أمين السياسات بالحزب الوطني من إعداد إلهام عيسى، والعناوين من الكلام الكبير عن: مشاركة فعالة لأمانة شباب وخطة متكاملة للنهوض بالعمل الشبابي في مصر وإنجازات شباب الحزب الوطني... ولا أتصور أن يوافق الدكتور سمير سرحان (رئيس هيئة الكتاب) على إدراج هذه الموضوع الحزبي في نشرة عن معرض للكتاب، اللهم إلا إذا وافق الدكتور فوزي فهمي رئيس المهرجان الدولي للمسرح التجريبي على إدراجه في نشرة (التجريبي) أو أن يأمر شريف الشوباشي بنشره في نشرة مهرجان القاهرة السينمائي الدولي». (9 / 2 / 2003).

وتلقيت اتصالا من أسامة عفيفي. أشار وحذر ولم يصرح فأثار قلقي. اقترح أن نلتقي، هناك كلام لا يصح التصريح به في التليفون. قابلته بعد منتصف الليل، على قهوة في شارع الهرم، وحذرني بوضوح:

انتقد مبارك كما تشاء، إياك أن تقترب من الولد، مجنون في انتقامه، والبلد محكوم بالميليشيات.

حاولت أن أتسلح بالشجاعة، والحق أنني خفت. ثم اختفى رضا هلال نائب رئيس تحرير الأهرام، في أغسطس 2003، في ظروف غامضة، وقيل إنه سخر من جمال مبارك، في صالة التحرير بالأهرام، فتمت تصفيته.

في تلك الأيام من عام 2003، كنا نشعر بالمهانة، ونتابع اقتراب حاملات الطائرات والقوات الأمريكية من حدود العراق، ولكن حليف الشيطان جابر عصفور بدأ مسيرته في الكتابة لصحيفة (الأهرام) يوم 3 / 3 / 2003، بمقال عنوانه (أجيال وراء أجيال)، معلومات أرشيفية عن أجيال المبدعين، لا نتساهل مع طالب بكالوريوس لو كتب مثل هذا «الكلام». تجاهل العصفور أن يحلق في السماء، حتى لا يرى حريقا يوشك أن يبيد العراق، لم يفكر في أطفال بلد شقيق ولا نسائه، نساء العراق، بحكم منصبه في المجلس القومي للمرأة الذي ترأسه سوزان مبارك.

كان سمير عبد الباقي على الضفة الأخرى، إذ نشر يوم 26 / 12 / 2004 في (العربي الناصري)، قصيدة (فوانيس الأراجوز التعيس في ليل التمديد والتوريث)، التي سرعان ما انتشرت في الفضاء الإلكتروني، وفيها يخاطب مبارك ساخرا:

انت النموذج واحنا كلنا أشباه

لو شئت انت نبي ملهم

انت نص إله

قل ما بدا لك، واعمل ما بدا لابنك...

الكل دبحاه هزيمته بيبكي على ليلاه

*

اتنين وعشرين سنة تحبي وما بلغتش

يا اللي انت مصمصتها للعضم ما رحمتش

......

نص البلد عسكر على نصها

ودا اللي من بدري قطم وسطها

لو كان بعتهم يزرعوا الصحرا

ما كانش فلاحها شحت قمحها

ولا خرس بين الأمم حسها..

وفي ربيع عام 2006، قابلني سمير عبد الباقي، في ميدان طلعت حرب، وسألني: وصلك العدد الجديد من (شمروخ الأراجوز)؟

كان العدد الثالث والأربعون (ربيع الآخر/بشنس/مايو) قد صودر بسبب قصيدة عن مبارك، و(شمروخ الأراجوز) ليست مجلة، هي 12 صفحة بما في ذلك الغلاف الذي ليس غلافا، ولكنه جزء من متن المجلة التي ليست مجلة، وتنتمي طباعتها إلى مجلات الماستر في السبعينيات، ونحن نحب (شمروخ الأراجوز)، ونعتبره الابن الشقي في العائلة، طفلا ذكيا خفيف الظل، تربى بيننا في القهاوي والبارات وعلى الأرصفة، ويميل حين يتعب، إلى حجر أي منا وينام. شمروخ (شكشكة شعرية غير دورية بالفصحى العامية)، شعارها (لا يحق لنا ما لا يحق لأهلنا)، وهي (نشرة شعرية مصرية على قد الحال. لا جريدة ولا جرنال ولا حتى مجلة. ومستقلة عن أي حزب وملة. عايشة بنفسكم مش بس بفلوسكم. والغاوي ينقط بطاقيته. وأهلا وسهلا بالأصدقاء زجالين وفنانين وشعراء)، وسعر العدد ربع جنيه ومضاعفاته، لمن استطاع إلى ذلك سبيلا، وكثير من المثقفين لا يشترون كتبا، وسمير عبد الباقي يعلم ذلك، ولهذا يوزعها مجانا، ويلجأ في العادة إلى إرسال مئات من النسخ إلى الأصدقاء، وهذا العدد لم يصل، بسبب قصيدة لعبد الباقي في الصفحة الأولى التي هي الغلاف الذي ليس غلافا. وعنوان القصيدة (دعاء المغلوبين)، ويقول مطلعها:

يعيش مبارك ألف عام

محمي من الموت الزؤام

ومن العَتَهْ ومن الفصام

ومن الكساح ومن الزكام

ومن الجرب ومن العجز ومن الجذام

عاش مستقيم

ومستديم ومستدام

في ظل ورعاية المدام

لحين يرجع للوطن وجهه لأمام

يغسل له جسده من العفونة والسخام

يوصله لمجده القديم، يفك عن بطنه الحزام

يعيش مبارك ألف عام

*

اشمعنى بورقيبة، وكيم إيل سونج

والمخفي فرانكو، والا أبو الهم السخام

اشمعنى هو؟! بتنكروا فضله على حفظ النظام

م البهدلة والحاقدين والمدمنين سقط الكلام

من ربع قرنين أو يزيد شغال تمام

آمون مبارك خطوته، ومراعي زنقة أزمته

يحميه من السم الخفي في لقمته

يرقيه من الكدب اللي بتدسه الغباوة في كلمته

ينْجيه من الغدر اللي في عيون اللي عايزين يورثوه

ومن اللي عايزين بالحيا

في قلة حياء يكفنوه

وينهي عبد الباقي قصيدته الطوية بالدهشة والسخرية من:

سحر وعبقرية القرايب والحبايب والمدام

السهرانين يرتبوا الصدفة

لأولاده وأحفاده

إلى يوم القيام

يعيش مبارك ألف عام..

في صحة الرئيس

يوم 7 / 12 / 2003، استدعاني مرسي عطا الله رئيس تحرير (الأهرام المسائي) التي أعمل بها منذ عام 1991، وكنت قد نشرت في اليوم نفسه في (العربي الناصري) مقالا عنوانه (عن وهم المونديال وأشياء أخرى)، عن وقوع الرئيس مبارك مغشيا عليه في البرلمان، وهو ما سمته وسائل الإعلام الرسمية وعكة صحية طارئة ألمت به. كنت أبحث عن معنى الدولة، عن كيان له مؤسسات راسخة تدار بغض النظر عن الحالة الصحية لرئيس الجمهورية، وتساءلت: ماذا نفعل لو حدثت هذه الوعكة عام 2010، أثناء إقامة أربع مباريات في كأس العالم التي نسعى لاستضافتها؟ (راجع ملاحق الكتاب). استدعاني عطا الله، وفي مواجهة الطغاة، حيث لا تكافؤ في القوة، يجب اللجوء إلى سلاح الاستعباط، وسألني عما كتبت؟ قلت:

لا شيء، منذ سنوات وأنا شبه ممنوع من الكتابة في (المسائي)، وأنت نقلتني قبل أعوام إلى قسم الحوادث، ونفذت التعليمات.

ضرب المكتب بيده:

أتكلم عما كتبته اليوم في العربي الناصري، هل هذا معقول؟ عن الرئيس شخصيا؟

وهل مسست الرئيس بشيء؟ هل يمكن أن يفهم ما كتبته خطأ؟

كنت أتسلح بالاستعباط، وأصطنع الدهشة، فهدأ وتمالك نفسه:

تريد أن تجنني؟ المقال فهم هكذا بالفعل.

وعدته بألا أعود للكتابة عن أي وعكة صحية أخرى للرئيس الذي لا يتوعك.

في المرة الثانية (2005) لم يستدعني مرسي عطا الله. أرسل لي «تابعه قفة»، سألني عن كتاب لعبد الحليم قنديل، رئيس تحرير (العربي)، ينتقد فيه مبارك. كان قنديل شرسا في مقالات تنتقد مشروع التوريث بوضوح، لا يهادن ولا يعبأ بالتوازنات، وتساءل في (العربي): «من هو العبقري المسؤول عن تعليق أول ملصق مبايعة لجمال مبارك رئيسا لمصر؟!». (8 / 6 / 2003)، «ما هو الوضع الدستوري لأدوار حرم الرئيس مبارك؟!». (25 / 7 / 2004). ثم تعرض لأغرب تحرش سياسي واعتداء إرهابي نوعي في تاريخ مصر، فجر يوم 2 / 11 / 2004، خطفه شياطين مجهولون، نسي الملائكة أن يقيدوهم بالسلاسل في شهر رمضان، واقتادوه إلى صحراء جبل المقطم المشرف على القاهرة، وضربوه وسرقوا تليفونه المحمول، وخلعوا ثيابه واختفوا. ليتهم نزعوا نظارته وتركوه، هذا لو يعلمون عقاب كاف، لكنهم أخذوا النظارة أو كسروها، والرجل مشى عاريا على غير هدى، لا يعرف أين هو، ولا يرى في الظلام شيئا، ثم إنه لا يستغني عن نظارته الطبية، حتى إذا بلغ طريقا، رآه جندي فانزعج، وطمأنه قنديل، ومنحه الجندي ثيابه التي عاد بها إلى البيت.

أنور الهواري الذي جند مقالاته الإنشائية الزاعقة، الأقرب لخطبة جمعة يقدم بها عضو مراهق في (الجماعة الإسلامية) أوراق اعتماده للأمير، في (الأهرام المسائي) للدفاع عن عبقرية حسني مبارك وجمال مبارك وصفوت الشريف وأحمد شفيق، هو نفسه الذي كتب في (المصري اليوم)، قبل الاستتابة، معلقا على خطف قنديل: «الآن يمكن القول: إن مصر سبقت كل بلاد الدنيا في إنتاج البلطجة المتخصصة. إنها البلطجة المتخصصة ضد رؤساء التحرير... إنها المعركة الأبدية بين الوضوح والخفاء، بين الشرف والخسة، بين أشرف ما في الإنسان من فضائل وأحط ما في الوحوش من رذائل. على البلطجة المصرية الحديثة أن تعلم أن الرسالة قد وصلت، ومن واجبنا أن نرد على الرسالة بمثلها أو أحسن منها». (6 / 11 / 2004). وتساءل جلال أمين: «هل هذه صورة نظام ينتحر؟.. النظام لم يكن ينتحر بل كان فقط يشرع في قتل أمة بأسرها». (العربي 7 / 11 / 2004).

كان مبارك يخونه ذكاء معاوية، فيحول بين الناس وبين ألسنتهم. طارد عبد الحليم قنديل من صحيفة لصحيفة، في مصر والعالم العربي. ولم يحتمل مبارك أن يقول له المواطن المصري علي مختار القطان «اتق الله يا ريس»، وكان الظالم والمظلوم بين يدي الله عام 1992، في بيت الله الحرام، يؤديان شعائر العمرة، والمصادفة جاءت بالرئيس أمام الرجل، إذ لاحظ حرسا شدادا، وإجراءات غير مألوفة، فتأكد له أن شخصية سيادية في الحرم، ودفعه الفضول لرؤية هذا السيد، وفوجئ بمبارك. ظل الرجل وراء الشمس، على الرغم من حصوله على أكثر من 50 قرار إفراج من القضاء، ولكن وزارة الداخلية رفضت، بحجة خطورة الرجل على الأمن العام، وأن جهة سيادية تريده معتقلا.

في هذه المرة لم يستدعني مرسي. أرسل لي «تابعه قفة»، وسألني عن كتاب لعبد الحليم قنديل، كان يقصد كتاب (ضد الرئيس.. أخطر حملة مقالات ضد حكم العائلة)، وقدرت أن سادة مرسي، الذين ساعدوه ليرتقي من رئاسة تحرير صحيفة، إلى رئاسة مجلس إدارة نادي الزمالك، إلى رئاسة مجلس إدارة مؤسسة الأهرام، أمروه بالرد على قنديل المناهض لمشروع التوريث. قال لي التابع المسكين:

الريس يسأل عن الكتاب.

في الوسط الصحفي يطلق لقب «الريس» على رئيس التحرير، أو رئيس القسم، أو الأكبر سنا أو مكانة. ورأيت أن أستخدم سلاح الاستعباط، وسألته:

ـ الريس مبارك؟

ـ لأ.. الأستاذ مرسي.

أخبرته أن الكتاب موجود في دار ميريت، بجوار سينما قصر النيل، ويستطيع أن يشتريه بثلاثين جنيها. كان «الريس» يريده مجانا!

في السنوات ما قبل الأخيرة، كان اللافت أن يوجه مظلومون وأصحاب حقوق، نداءات واستغاثات في صورة إعلانات مدفوعة في الصحف، إلى الرئيس الدستوري مبارك، لتنفيذ حكم قضائي، وفي السنوات الأخيرة، كانت النداءات والاستغاثات تتجه إلى الرئيس الفعلي جمال مبارك، وفي كلتا الحالتين يتأكد أن العدالة لم تعد تكفي، هناك يد أقوى، لديها القدرة على وقف تنفيذ أحكام لم تعد عنوان الحقيقة. وكان على الرئيس المنتظر أن يتزوج، استكمالا للإطار الرئاسي الشكلي.

وانتشرت قصيدة (عريس الدولة) لأحمد فؤاد نجم، حين كتبها بمناسبة عقد قران جمال على خديجة الجمال في ابريل 2007، تمهيد للزفاف يوم 4 / 5 / 2007، في عيد الميلاد رقم 79 للأب البركة:

مبروك يا عريسنا

يا ابو شنة ورنة

يا واخدنا وراثة

اطلب وتمنى

واخرج من جنة

وادخل على جنة

مش فارقة معانا

ولا هارية بدنا

ولا تاعبة قلوبنا

ولا فاقعة بيضانا

يا عريس الدولة

افرح وتهنى

ما احنش كارهينك

لكن هارشينك

ح تكمل دينك

وتطلع دينا.

في عام 2004، صدر لحسنين كشك كتاب (إفقار الفلاحين.. الآليات وسبل المواجهة)، وفيه رصد للتكيف مع الفقر، ووسائل الإفقار باستخدام القهر البوليسي والقضائي والديني (الرسمي والإخواني معا)، حتى بلغ عدد من هم تحت خط الفقر 13.67 مليون فرد في تقديرات عامي 1995 و1996. وكان طبيعيا أن يشهد عام 2005 احتجاجات سلمية غير محدودة، لأسباب اقتصادية وسياسية: انتفاضة القضاة. مظاهرات صامتة في وقت واحد أمام المحاكم في 14 مدينة. حشد من نساء متشحات بملابس الحداد السود يتظاهرن على سلم نقابة الصحفيين بالقاهرة. مظاهرات للفلاحين اعتدي فيها على حمدين صباحي.

وفي عام 1997 اعتقل عز الدين نجيب، بتهمة طبع منشورات تحرض الفلاحين على معارضة قانون العلاقة بين المالك والمستأجر للأراضي الزراعية، تجربة اعتقال قصيرة أخرى، 22 يوما زادته صلابة ولوحات وكتاب (موسم السجن والأزهار.. المثقف والسلطة 97). ثم قابلته في ميدان التحرير، بصحبة ابنته، بعد أيام من بدء ثورة 25 يناير، وكان صخب إذاعات الميدان عاليا، ونسيت أن أقول له إن شيئا لا يذهب أبدا مع الريح، بل ينتظر اللحظة المناسبة للخروج. يسجل ريتشارد ترومكا رئيس اتحاد العمال الأمريكي (تجمع الصناعات الأمريكية) في مقدمة كتاب (النضال من أجل حقوق العمال في مصر) أن «مصر لعبت دورا مهما في تاريخ العمال، إذ كان الاعتصام الذي قام به بناة الأهرام لمدة ثلاثة أيام.. من أجل التظلم من الأجور هو أول إضراب موثق عرفه العالم»، ويقول الكتاب الذي أعده مركز التضامن العمالي الدولي إن أكثر من 1.7 مليون عامل شاركوا في أكثر من 1900 إضراب واحتجاج بين عامي 2004 و2008، «تأتي موجة الاحتجاجات الراهنة من أكبر حركة اجتماعية شهدتها مصر منذ أكثر من نصف قرن تقريبا».

هذا الطوفان من الاحتجاجات، في الشركات والمصانع، والهيئات الحكومية، وأمام مجلس الوزراء والبرلمان، كان وقودا لثورة مستحقة، وكان نجاح ثورة تونس في خلع بن علي يوم 14 / 1 / 2011، بعد 28 يوما، شرارة أوقدت روح الثقة فينا، قلنا إن آخرين «عملوها ونفعت»، ونحن أقدر على إنجاح ثورة مصرية، بخسائر أقل، وفي وقت أقصر.

يبقى من كل إنسان صورة. جيفارا بالبيريه، أم كلثوم بمنديلها، والمنسق العام للحركة المصرية من أجل التغيير (كفاية) عبد الوهاب المسيري حين دفعه جنود الشرطة، يوم 14 مارس 2007، وكاد يقع ويصاب، لولا أن أحاط بها المتظاهرون، وبعد خمسة أيام من التحرش غير السياسي بالمسيري، كان مقررا أن يتحدث الرجل في ندوة عنوانها (النكتة السياسية)، في ساقية الصاوي، ولكنه فوجئ بإلغاء الندوة. رأى نظام مبارك الهش في ندوة جادة عن موضوع فكاهي تهديدا، وكان يتقي التفكير، ويجنب الجمهور فوائده، ويلغي أسبابه بالقوة، وهذا أقسى أنواع البطش الصامت.

ثم قاد المسيري في يناير 2008 مظاهرة أخرى، فحملوه مع كثيرين في سيارة مصفحة، ثم تركوهم في الصحراء. لم أكن حاضرا، وسألته فضحك قائلا إن هذه طريقة، مصرية خالصة، في تفريق المظاهرات. وكان قد دعاني ذات ليلة رمضانية، في خريف 2006، وكنت أعرف بيته وأتردد عليه، وفي هذه المرة قابلني عمار علي حسن في أول الشارع، كان مدعوا لأول مرة. ظننته سيشارك في موسوعة (اليهود والصهيونية وإسرائيل)، وكان المسيري أخبرني بالشروع فيها، بالتعاون مع باحثين مصريين وفلسطينيين، وقد استهلكت السهرة في نقاش عن سحابة التوريث التي لا تغادر سماء مصر، ومستقبل البلاد في ظل سيناريوهات نرى ترتيبات خاصة بأحدها، على الرغم من إنكار سدنة النظام أو تجاهلهم.

ولكن النظام الإسفنجي المصري تمكن من امتصاص هذا الغضب، وخيل له أنه استوعبه، وحين أقدم البعض على الانتحار، على طريقة محمد البوعزيزي، سخر المسؤولون، وجندوا الدين في خدمة الفساد السياسي، وقالوا «نحن لسنا تونس». كان البوعزيزي صادقا، هو يقدم جسده قربانا لميلاد لم يشهده، كان يائسا، ولم يظن أن جسده النحيل سيكون ثقبا يستنزف روح النظام البوليسي، ويقضي عليه. أما الذين قلدوه من المصريين، خلال أيام سبقت قيام ثورة 25 يناير، فكانوا يراهنون على أمل أن يروا حصاد القربان، ولم يتأخر الرهان كثيرا.

مات فاروق عبد القادر 2009، وهو يحلم. لم يفقد الأمل في الغد، على الرغم من تواري الأمل في كتاباته، وبخاصة كتابه (غروب شمس الحلم)، كثيرا ما كان يقول في جلسته الأسبوعية على قهوة سوق الحميدية: «أنا متفائل تاريخي». كنا نحن الأحدث سنا نتعجل النتائج، ونريد ثمرة سريعة. سألت حسن نافعة، وكنا في مطار القاهرة في مارس 2009، هل يرى أملا، فما أكثر الكتب والمقالات والمظاهرات والاحتجاجات، ولا شيء يتغير، والنظام الحاكم فاجر وفاقد الإحساس، فقال: «يجب ألا نشعر باليأس، على من ييأس أن يلزم بيته». ولم أكن أعرف مصدر ثقة عبد الحليم قنديل، وهو يردد: «نظام مبارك يجب أن يحاكم لا أن يحكم».

وكان محمد طعيمة يتراوح أملا ويأسا، وسيظل كتابه (جمهوركية آل مبارك)، بالمقدمة الثابتة التي كتبها صنع الله إبراهيم لطبعاته المتوالية، سجلا تاريخيا لصعود جمال مبارك. (الجمهوركية) نحت لغوي مبتكر، يجمع الجمهورية والملكية معا، ويؤكد اختلاط المفاهيم والمصطلحات، وتحول الجمهورية إلى حكم ملكي يتوارثه الأبناء. في عام 2009، أهداني الطبعة الثالثة، وقد حملت عنوانا فرعيا هو (صعود سيناريو التوريث)، وأورد فيه قول باحثة أمريكية إن مبارك يواصل «إعداد جمال رغم استياء جنرلاته»، ولكنه في الطبعة الخامسة (نهاية 2010) حذف العنوان الفرعي، وتفاءلت. كان سؤالي الأول، وربما الوحيد، حين زارني حاملا الطبعة الجديدة:

مشروع توريث الولد انتهى؟

فأجاب بالإيجاب:

الجيش مصر على الرفض!

قلت لنفسي: «الجيش؟ متى يخلصنا منه، فيريح ونستريح».

لم يكن هناك رهان قريب على الشعب، وهذا يوجب الاعتذار.

كنا متفائلين، أما اليائسون فهم أعمدة النظام وإن انتموا إلى المعارضة. كان رئيس لحزب الأمة أحمد الصباحي في نحو التسعين، وترشح لانتخابات الرئاسة عام 2005، وقبض المنحة المخصصة للمرشح رئيسا. لم يخف الصباحي، المرشح للرئاسة، أنه سيختار الرئيس مبارك. وفي نهاية 2010، قال رفعت السعيد رئيس حزب التجمع الوطني التقدمي الوحدوي، في مقابلة مع مصطفى عبادة في مجلة (الأهرام العربي) كلاما يدعو لليأس، يكفي أن نقرأ العنوان «تداول السلطة وهم».

قبل قيامة الثورة بأسبوع، بدأت تجارب إطلاق الشرارة، ولمس السلك العاري، ففي يوم 17 يناير، بعد شهر من محاولة محمد البوعزيزي، حاول رجل حرق نفسه أمام مجلس الشعب، وفي اليوم التالي تجاوزت المحاولة حدود الرمز إلى الفعل، إذ توفي رجل في الإسكندرية مصابا بحروقه، بعد أن أشعل النار في نفسه، اعتراضا على بطالته، وفي اليوم نفسه حاول محام إشعال النار في نفسه أمام مجلس الوزراء بالقاهرة، وفي الأيام التالية تكررت المحاولات التي سخر منها رجال مبارك.

كان المشهد قبيل 25 / 1 / 2011 يشي بحدوث عمل غامض، تحول عاصف يغير وجه البلاد، أي شيء إلا ثورة بمثل هذه الروعة. قال لي مصطفى عبادة إن خطة جمال، في الشهور الأولى من عام 2011، بالتعاون مع رجاله في وسائل الإعلام، هي التركيز على إخفاق سياسات حسني مبارك، طوال السنوات العشر الماضية، وسيكون هذا السيناريو تمهيدا للمناداة بجمال، وجها قادرا على إصلاح ما أفسده أبوه. في الأيام الفاصلة، بين نجاح الثورة التونسية 14 يناير وانطلاق الثورة المصرية 25 يناير، قال لي مصطفى: سنثور بعد السعوديين بمئتي عام!

في تلك الأيام أيضا قال محمد حسنين هيكل لقناة الجزيرة إن التونسيين نجحوا في ثورتهم، لأنهم رفعوا شعار «إذا الشعب يوما أراد الحياة / فلا بد أن يستجيب القدر»، أما نحن في مصر فمازلنا نردد: «شدي حيلك يا بلد».

فيسبوك

في هذا الكتاب، سأعتمد على موقع التواصل الاجتماعي (فيسبوك)، سأنقل ما كتبته موثقا ومؤرخا في صفحتي، فلا يصح ادعاء البطولة بأثر رجعي، وكثيرا ما حاول أدعياء أن ينسفوا تاريخهم. وبعد خلع مبارك، لم أكتب عنه كلمة، في حين سارع إلى سبابه كثير ممن لعقوا ما سقط من مائدته، مثل مريض يفحش بميت. سأعيد تسجيل عبارات سجلتها بالعامية المصرية، تمثلني وقت كتابتها، في أيام الثورة، وتحمل أشواقي ومخاوفي.

إلى الفيسبوك يعود الفضل في هذا الكتاب. منذ انطلاق الثورة، حتى نجاحها، لم أكتب شيئا، وكدت أنسى كثيرا من التفاصيل، أو أربطها بسياقها التاريخي (اليومي)، ولكن العودة إلى تعليقات وإشارات سجلتها آنذاك ساعدتني كثيرا في عملية التذكر، واستدعاء أشياء ما ظننت أني سأتذكرها، فلتحيا التكنولوجيا، وإرادة الإنسان التي هي من إرادة خالقه.

السبت 15 يناير: كتبت في صفحتي، تعليقا على كلمة بن علي:

«فهمتكم: كلمة يقولها الغزاة، حين يعجزون عن مواجهة الثورة. قالها ديجول عام 1962، حين سلم بوجود دولة اسمها الجزائر. وقالها المخلوع ابن علي حين أيقن بوجود شعب تونسي».

السبت 22 يناير. كتبت في صفحتي:

«من دون مقدمات ولا ترتيب، قطعت اليوم شارع محمد علي، وصولا إلى جامع السلطان حسن، ثم جامع الرفاعي. وقفت أمام قبر الشاه، ثم قبور فاروق وأبيه الملك فؤاد وجدته. تذكرت مبارك.. سبحان من له الدوام». وكنت قد خرجت من محطة مترو العتبة، وبدلا من الذهاب إلى العمل، ذهبت لتأمل فلسفة التاريخ ومكره، وقرأت الفاتحة لهم، هم موتى ونحن ضعاف أمام العظام والرميم.

الثلاثاء 25 يناير. كتبت في صفحتي:

«في دولة هي الأقدم، ونظام إداري عمره 4600 سنة، يصبح النظام السياسي إسفنجيا، يمتص المظاهرات والاحتجاجات، بدليل أحداث 1977 و1986. لدي اقتراح أن يجمع العقلاء 10 ملايين توقيع مثلا مثلا، يتعهدون فيها للرئيس بخروج آمن، خروج من السلطة لا من البلد، خروج لا تتبعه ملاحقة قضائية ولا نكت.. في فترة حياته على الأقل. حل سهل لعله يخرجنا من هذا المأزق».

أعترف أنني لم أكن حسن الظن، على نحو كاف، بقدرات الشعب المصري، المارد الذي ثار، لذا وجب الاعتذار!

 

25 يناير.. ثورة تبدأ على مهل

حين يتعلق الأمر بالموقف من الخروج على الحزب الحاكم ورئيسه مبارك، يكون اختلاف حزب التجمع (اليساري) والإخوان (المسلمين) رحمة، لكن الخصمين، التجمع والإخوان، يتفقان. يرى رفعت السعيد رئيس الحزب ضرورة الحصول على تصريح من وزارة الداخلية للتظاهر والاحتجاج في الشارع، وهو يعي أن الوزارة لا تمنح تصريحات للاحتجاج، ويرضى بالدنية في وطنيته، ويسمح لنفسه بقبول تعيينه عضوا بمجلس الشورى، هدية كريمة من رئيس كريم. المنطقي أن يدخل البرلمان تحمله أصوات الناخبين، لا مكسور العين بمنحة، والمنطقي أيضا أن ينزل الشارع، ويقود المتظاهرين، ويكون مستعدا لدفع الثمن من حريته. وقد وعت (كفاية) هذا الدرس، وهي تحتمي بالشارع، وتراهن عليه. اعترض السعيد على اختيار يوم 25 يناير، يوم عيد الشرطة، موعدا للتظاهر، وبعد نجاح الثورة سيقول: «معظم الشعارات التي رفعت فيها هي شعارات حزب التجمع لأن التجمع بشعاراته جزء من الحياة السياسية في مصر فتسربت هذه الشعارات إلى وجدان الجميع». ("الأهرام" 13 / 5 / 2011)، وهذا الكلام أنقله على مسؤوليته.

أما الإخوان فأعلنوا يوم 11 / 1 / 2011 أنهم لن يشاركوا في «مظاهرة 25 يناير»، احتراما «للمناسبة الوطنية التي ينبغي علينا أن نحتفل بها معا»، وسوف يعلنون بعد نجاح الثورة أنهم آباؤها أو أحد آبائها، وسوف يقول عبد المنعم أبو الفتوح: «يوم 25 يناير الجماعة أعلنت أنها لن تشارك، وأعلن قرارها عصام العريان بدعوى أن هذا اليوم احتفال للشرطة، ولكنهم قالوا (إنهم) سيتركون الحرية لمن أراد أن يشارك». ("الشروق 20 / 7 / 2011).

لأول مرة يتفق الإخوان وأحزاب التجمع والناصري والوفد على عدم التظاهر، بحجة أن 25 يناير عيد الشرطة، وبررت بعض الأحزاب عدم المشاركة بأنها لم تحدد مكان المظاهرة ولا موعدها. بدا لي المتخاذلون إخوة في الرضاع لأشقاء يدعون الثورة، رضع هؤلاء منطق البعث السوري، حين تضرب الطائرات الإسرائيلية مواقع عسكرية سورية، أو تحلق فوق القصر الرئاسي، ثم يخرج متحدث رسمي، بدرجة وزير خارجية مثلا، معلنا أن بلاده تلتزم ضبط النفس، ولن تخوض حربا لا تحدد توقيتها، متجاهلا نزيف القصف، وإهانة كبرياء بلد كشفت عورته. فيما بعد، سوف يباهي الإخوان بالثورة، ويختار المجلس العسكري الذي أدار البلاد بعد خلع مبارك ممثلا لهم هو صبحي صالح، في لجنة التعديلات الدستورية، وكان المحامي الوحيد بين قضاة وفقهاء القانون الدستوري. سوف يستأسد صبحي صالح وينفي الوطنية عن غير جماعته، حين يعلن أن جماعة الإخوان لا تعترف بمفاهيم المصري الليبرالي والعلماني واليساري، ففي مؤتمر للجماعة في حي العباسية بالقاهرة، يوم 20 / 5 / 2011، يدعو شباب الإخوان للزواج من الأخوات فقط، ويشدد على أن «زواج الأخ من بنت غير إخوانية، ولو كانت محترمة ومتدينة ومن بيت طيب، يعطل النصر»، ولم ينس تعزيز كلامه بالآية القرآنية «أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير». وأحكم النص بالقول إن الأدنى هو غير الأخوات. فإذا لم تكن هذه هي العنصرية واستبعاد المختلف في الفكر، من أتباع الدين نفسه، فماذا تكون؟ وإلى أي درجة تختلف هذه المبادئ عن أفكار النقاء العرقي في ألمانيا النازية؟

لا ينسى الرأي العام للمرشد السابق للإخوان محمد مهدي عاكف أنه صرح، في مقابلة نشرت في صحيفة روزاليوسف عام 2006، بأنه لا يمانع أن يحكم مصر غير مصري مادام مسلما، ولما سأله محاوره: ومصر؟ أجاب المرشد: «طظ في مصر، وأبو مصر، واللي في مصر».

على الضفة الأخرى، حيث يقف المتحدثون باسم الله، نشط واعظ سلفي اسمه محمد حسان، متخذا من قناة العربية يوم 30 / 1 / 2011 منبرا للنهي عن الاشتراك في المظاهرات، ووافقه الرأي أبو إسحق الحويني، ولا أدري هل هذا اسمه الفعلي أم الحركي، قائلا في حديث تلفزيوني إن «المظاهرات من الأمراض السلبية»، وشدد في نبرة وعيد، وهو يستعير وجه نبي يخطب في كفار حق عليهم عذاب جهنم، قائلا إن المظاهرات «تهريج»، وإن للمسيرات أثرا سلبيا. وسوف يظهر هذا الحويني بعد خلع مبارك، متحدثا عن الجهاد كوسيلة لإنعاش الاقتصاد الإسلامي، عن طريق جلب أسرى وسبايا، وبيعهم في سوق الرقيق كلما وقع المسلم في ضائقة اقتصادية، ولكنه نسي أمرا مهما، وهو مكان سوق الرقيق في ظل التجريم الدولي لهذا النوع من التجارة!

وهاجم خالد الجندي صاحب ومدير فضائية اسمها (أزهري) ثورة 25 يناير، واتهم الثوار بالعبث بمصر، وسألهم وهو هائج، يذود عن مبارك بكفيه وذراعيه: «ماذا تريدون من هذا الوطن؟»، ثم قدم بيديه حركة استعراضية، قلد فيها ممثلي الدراما التلفزيونية وهم يعظون كفار قريش، وقال لمن ظنهم صغارا، بصوت يجمع الحكمة والسخرية معا: «أنتم تعبثون بهذا البلد». وسأله مذيع ذو اندهاشة بلهاء اسمه محمود سعد عن معارضي حسني مبارك، فصحح الجندي له ولنا المصطلح بسرعة: «الزعيم محمد حسني مبارك»، ثم كررها قائلا: «زعيمي الوحيد هو حسني مبارك»، ثم طاف الجندي بقناة أخرى، وجلس أمام المذيعين رولا خرسا زوجة عبد اللطيف المناوي مسؤول قطاع الأخبار بالتلفزيون المصري وعمرو أديب زوج لميس الحديدي مسؤولة الدعاية لمبارك في الانتخابات الرئاسية 2005، شقيق عماد الدين أديب ذي الحظوة من آل سعود وآل مبارك، وأنصت المذيعان والشيخ خالد الجندي، مساء الأربعاء الدامي «موقعة الجمل»، لاتصال من محام اسمه مرتضى منصور شدد على أن «مصر تباع في ميدان التحرير»، وقال الجندي إن ما قاله مرتضى منصور كلام جميل، وكلام معقول وصحيح، وإن الذين في ميدان التحرير ليسوا جميعا مصريين، وقد «أمسكوا أمام منزلي شابا ينتمي إلى إحدى الدول العربية، كان معه مواد مخدرة». وسوف يبتليه الله بثقب في الذاكرة، ليعود بعد خلع مبارك متحدثا عن عظمة الثورة!

أما الوعاظ الرسميون الذي نالوا الحظوة السلطانية، ويصدر بتعيينهم قرار جمهوري، فلم يقصروا في أداء واجبهم تجاه ولي النعم. قال المفتي على جمعة في قناة (دريم) الفضائية إن المظاهرات «فتنة.. لا يرضى عنها الرب». وتطوع أحمد الطيب، شيخ الأزهر، عضو الحزب الوطني الحاكم، بفتوى تحرم التظاهر ضد مبارك، قائلا إن طاعة ولي الأمر واجبة، والحجة «الشرعية» جاهزة، وهي الخوف على المصلحة العليا للبلاد، ولكنه سيكون كريما، في الشهر التالي، مع الثوار في ليبيا، إذ منحهم فتوى توجب الخروج على القذافي «الغاصب المعتدي الذي فقد شرعيته». وتجلت الوحدة الوطنية في اتفاق شيخ الأزهر والكنيسة على النهي عن المشاركة في المظاهرات، ولم تستجب السماء للتوسلات.

مساء الاثنين 24 يناير، كان لرئيس لجنة العلاقات الخارجية والشؤون العربية بمجلس الشوري مصطفى الفقي رأي آخر.

الفقي أكاديمي عمل موظفا في رئاسة الجمهورية ثماني سنوات، ثم خرج منها أو أخرج، وفي ذلك تتضارب الروايات وليس هذا موضوعنا، وقد تأرجح بين تأييد نظام كان أحد تروسه الفاعلة وما يقول إنه «استقلال فكري» يصعب الإمساك بتوجهه، إلى فكر عبد الناصر مرة، وجنوح السادات مرات، وتعرض لانتقادات حادة، بتهمة قيام النظام بتزوير الانتخابات عام 2005 لصالحه، وشهدت بذلك المستشارة نهى الزيني، وهذه قضية لا شأن لنا بها الآن، فما يعنينا هو أن الفقي ترأس مساء 24 / 1 / 2011 وفدا برلمانيا التقى أعضاء من مجلس العلاقات الخارجية الأمريكية، وردا على سؤال الأمريكيين عن تكرار سيناريو الثورة التونسية قال الفقي: «إن مصر وتونس مختلفتان. ونرحب بما يحدث في تونس، ولا يمكن أن نقول إن بن علي مثل مبارك». ("الشروق" 26 / 1 / 2011).

يوم الثلاثاء 25 يناير، لم يقرأ الثوار صحيفة (الأهرام)، رأوها فاقدة الأهلية الوطنية والمهنية، حين خصصت الجزء الأبرز من صفحتها الأولى لوزير الداخلية حبيب العادلي. هذا الرجل الذئب حمل مفتاح الثورة، وسلمه إلى نشطاء الفيسبوك، فصنعوا من هذا المفتاح للشعب ملايين النسخ، ودخلوا القصر الجمهوري، وخلعوا الرئيس. كانت المفتاح يحمل صورة خالد سعيد، شاب سكندري نحيل مبتسم لثورة لن يدركها، ولكن جسده فجر ثغرة مهمة في جدار فولاذي، وقد اتهم بابتلاع لفافة من البانجو، وقالت الشرطة إنها أدت إلى وفاته، ولم يسأل الملفقون: وما الداعي للتمثيل برأس الشاب؟ صورته التشريحية مشوهة، طالتها يد باطشة، فتكت بالذقن والفكين، وفرطت الأسنان، وما هكذا يفعل البانجو بالناس! ليتهم استفتوا أي حشاش، وما أكثرهم بين سفاحي وزارة الداخلية، وكتبت صحيفة (الجمهورية) أنه «شهيد البانجو». هنا أعلن نشطاء الفيسبوك صيحتهم العابرة للمسافات: (كلنا خالد سعيد). خصصوا له صفحات، زودوها بصوره مبتسما، ثم ممثلا به، وعاندوا بوسائل العصر سلطة متخلفة تنتمي إلى الماضي، وفي موقع يوتيوب الإلكتروني شريط فيديو كان خالد سعيد قد تمكن من تصويره، في الإسكندرية، لأفراد من الشرطة يعيدون تدوير المخدرات. وجرت العادة أن يستأثر بعض الضباط بجزء من المخدرات المضبوطة، وخصوصا الحشيش، للاستخدام الشخصي، وإذا اتسعت الذمم تجد المضبوطات طريقها إلى الشارع، عن طريق تجار مخدرات، أو مروجين صغار، موثوق بهم. أراد الحمقى أن ينتقموا لفضيحتهم، فارتكبوا جريمة أدت إلى إطاحة نظام حكم البلاد بالحديد والنار 30 عاما. حدث ذلك يوم 6 / 6 / 2010، حيث قبض اثنان من مجرمي الشرطة على الفتى، وعذبوه حتى الموت، ونكاية في أهل خالد سعيد، وفي الغاضبين أخلت النيابة سبيل المتهمين بالقتل. قال أحد الشهود إن الفتي استعطف الشرطي وهو يضرب رأسه: سأموت. ولم يتردد القاتل في الاعترف بأنه جاء ليقتله. أصبح خالد سعيد أيقونة، بملامح تحتفظ ببقايا طفولة، وابتسامة تقترب من الهشاشة والتفاؤل، ثم بصورته ممثلا به، مشوها على مقاس تشوه نفسي يعانيه وحوش الشرطة.

فشلت (الأهرام) مهنيا منذ اليوم الأول، وسيهتف الثوار بعد تحرير ميدان التحرير من قبضة الشرطة بسقوط مسؤوليها. خصصت الصحيفة مساحة كبرى لمقابلة مع حبيب العادلي «وزير التعذيب» أجراها رئيس التحرير ومحرر استمرأ الحديث للفضائيات بلسان جهاز أمن الدولة سيء السمعة، حتى إن الصحفيين وصفوه بمندوب البوليس في الأهرام. نشرت الصحيفة صورة كبيرة متحدية للوزير مبتسما، وتجاهلت حق القارئ في معرفة حدث ضخم، أعلن منظموه إصرارهم على تنفيذه، في موعد حددوه. هل كان مبارك يتنبأ، في الخطاب/الشهادة بمناسبة عيد الشرطة، بالحدث الذي سيسدل ستار النهاية؟ حين قال: «لقد أثبتت مصر أنها أقوى من المحن، وأثبت المصريون أنهم شعب متماسك وعنيد».

سهرت في (الأهرام المسائي)، مسؤولا عن الطبعة، حتى فجر الثلاثاء 25 يناير. قدرت أن الثورة لن تبدأ في الصباح، الخبرة التونسية تقول إن من الحكمة أن تبدأ الثورة بعد الظهر، فالشرطة تستيقظ مبكرا، وبعد ساعات ستكون منهكة، فيستطيع الثوار أن يبدأوا بكامل حيويتهم، ويواصلوا مساء حتى فجر اليوم التالي. كان عدد (الأهرام المسائي) يضم ملفا من سبع صفحات، نقلا عن مجلة (الشرطة)، تحت عنوان (عيد الشرطة عيد كل المصريين) عن أبطال وشهداء يناير 1952 في الإسماعيلية. وفي الملف حوار سنوي لمبارك مع مجلة (الشرطة)، يكتبه في الغالب محترف مجهول وينسب إلى الرئيس، وفيه قال: «إن أعيادنا الوطنية ليست مجرد أيام في التاريخ... فقيمتها الحقيقية في أنها علامات وطنية في تاريخ مصر، تضيء الطريق لأجيالنا الجديدة، وتطرح أمام شبابنا نماذج لقيم الفداء وروح التضحية والبذل التي واكبت مسيرة مصر وشعبها»، ولم ينس أن يؤكد على احترام «إرادة الشعب التونسي وخياراته»، بعد خلع زين العابدين، أول الرؤساء العرب الهاربين. تصفحت مجلة (الشرطة) وفوجئت بمقالات لصلاح عيسى وجمال الغيطاني وفريدة الشوباشي وغيرهم، ولم أبال بآخرين يسترزقون، فمنهم عجائز الصحافة، ومديرو التحرير في الصحف. وسألت نفسي: هل يكتبون مجانا؟

غادرت الأهرام قرب الفجر. قبل صعود جسر أكتوبر، دعوت للركوب ثلاثة أشخاص يرتدون ملابس مدنية. أكبرهم سنا في نحو الأربعين، أكثر أناقة، وكان يقف وحده، وفي يده حقيبة صغيرة، والآخران يتحدثان معا. جلس بجانبي صاحب الحقيبة الصغيرة، وعرفت من حوار اللذين في الخلف أنهما شرطيان، وقلت وأنا أتحرك إنني لا أحب البوليس، وسيارتي لا تتسع لرجال الشرطة، وضحكنا. قالا إنهما مجندان في شرطة المرور، وهبط أولما فوق الجسر، واستمر الثاني معي، حتى نزل بالقرب من مكان عمله في شارع الهرم. ظل الجالس بجواري صامتا، ثم تحدث بحرص، وقال إنه ضابط مستدعى من «أمن الدولة» في حي مدينة نصر، لمساعدة زملائه، عند جامعة القاهرة. أوصيته أن يكون رحيما بالطلبة، وآلمتني عيناي، من ذكرى قنابل مسيلة للدموع، خبرتها عام 1991 لأول مرة في جامعة القاهرة، بعد إنهاء دراستي وخدمتي العسكرية، في مظاهرات منددة بالقصف الأمريكي للعراق. كنا قد وصلنا إلى الجامعة، وكان علي أن أنحرف إلى اليمين أقل من 100 متر، ثم أميل إلى اليسار عائدا إلى ميدان الجيزة، فشارع الهرم، واقترح الضابط أن أسير عكس الاتجاه، وألا أخاف من ضباط الشرطة، فهو منهم وهم منه، وقلت له: القانون قانون، هذا لا يكلفنا سوى دقائق. لا أدرى كم من الأبرياء استشهدوا برصاص مسدس هذا الضابط، ولعله هو نفسه قتل برصاص زميل له.

كانت مصفحات الشرطة تنتشر فوق الجسور وفي الميادين وتقاطعات الشوارع، وحول جامعة القاهرة، حالة استنفار، إنها الحرب إذن، وهذه البطون من المصفحات جاهزة لابتلاع آلاف ممن ينبغي ألا يسأل عنهم ذووهم.

حين صحوت قصدت محطة الإسعاف، حيث نقابتا الصحفيين والمحامين ونادي القضاة (مثلث الرعب)، كان الجنود يغلقون شارع رمسيس أمام قاصدي ميدان التحرير، ويقطعون شارع 26 يوليو عن شارع رمسيس، ويتصدون للمسالمين بعصي وحواجز لا تمنع عبور الهتافات بسقوط مبارك، وابنه جمال، ووزير الداخلية، ومجلس الشعب المزور، وناهبي أموال الشعب. كان مثلث الرعب، حتى المساء، مصدر إزعاج للشرطة، على الرغم من مغادرة جموع المتظاهرين متوجهين إلى ميدان التحرير.

كان ميدان التحرير، منذ الصباح، هدف آلاف من المتظاهرين. هو ملتقى طرق وآمال ومصالح حكومية ومؤسسات للحكم، قلب تستمد منه الشوارع المؤدية إليه قوتها، ولا يأمن الثوار على أنفسهم إلا في دفئه. وكل مدينة صنعت (ميدان التحرير) الخاص بها، وخصوصا السويس والإسماعيلية والإسكندرية والمحلة الكبرى والعريش والمنصورة.

وعلى الرغم من الحشد الضعيف، فقد استبق بعض المتظاهرين الغيب، وكتبوا بالعربية والإنجليزية «ارحل»، وهي كلمة ستكتب فيما بعد بسبع لغات منها العبرية، لعل مبارك «يفهم ويمشي»، ونشط ظرفاء الفيسبوك، فكتب أحدهم لو أن المصريين فازوا على النظام، فسوف يقابلون تونس في المباراة النهائية.

وفي المساء، قال وزير صفر المونديال علي الدين هلال، معلم جمال مبارك ومثقفه ومسوقه إن عدد المتظاهرين في طول البلاد وعرضها 30 ألفا، وهذا برأيه رقم هزيل في دولة مواطنوها 80 مليونا.

هل سمعت وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون تصريح رائد جمال مبارك؟ ربما تكون قد استرشدت به إذ قالت إن الحكومة المصرية مستقرة، ولا يعني الإدارة الأمريكية إلا استقرار الأنظمة التابعة، أيا كان الثمن، ويؤمن آباء السياسة الأمريكية أن الأنظمة الضعيفة، الأنظمة اللاأنظمة، مزعجة ولكنها لا تشكل تهديدا للمصالح الأمريكية. وهم يتبنون نظرية (الأزمات ذات التوتر المنخفض)، في دولة مثل مصر/مبارك، لا يختفي التوتر لدرجة تدفع النظم للتفكير في البحث عن الاستقلال السياسي، ولا يزيد على حد يصعب التنبؤ بنتائجه، ولم يكن لأي جهاز استخباراتي أن يتنبأ بصحوة الشعب المصري، في توقيت واحد، ويجتمع على هدف واحد هو إطاحة النظام، رافضا أي أفكار أو مساومات تهدف إلى إطالة عمره أو إصلاحه.

مساء اليوم نفسه، لم تتردد وزارة الداخلية في تحميل جماعة الإخوان المسلمين مسؤولية تهييج المتجمهرين، وأطلقت على الإخوان الاسم الحركي التقليدي «المحظورة»، وحذرت أن يخرجوا على ما وصفته بالشرعية.

عجزت الشرطة عن السيطرة على متظاهرين ذوي خبرة في التجمع السريع، ثم الانتشار في شوارع جانبية، تمهيدا للالتقاء في أماكن أخرى، تجمع وتفرق ثم التقاء، بصورة تربك الجنود غير القادرين على التفكير أو الاجتهاد. هي خبرة رأيتها لأول مرة في مظاهرة نوعية، يوم 31 / 12 / 2008، تنديدا بالعدوان الإسرائيلي على غزة، وشرحتها في مقالي (أربع نصائح قبل أن تركب سيارة الترحيلات).

ونشرت (الأهرام المسائي) يوم 26 يناير تحت عنوان (مظاهرات في حماية الشرطة) أن الإخوان حاولوا ركوب مظاهرات الشباب السلمية، وتصادموا مع الشرطة التي تعاملت بتحضر. ونشرت مقالا عنوانه (وسقط الفاشلون في يوم الغضب المزعوم)، كتبه مجهول خجل أن يصرح باسمه، وترك صفته ومهنته وهي (مدير تحرير موقع الحزب الوطني)، وتساءل: «أين جموع الشعب الغاضبة والساخطة التي تحدث عنها دعاة الفوضى والتخريب والتدمير؟» وكتب المدير المجهول كلاما إنشائيا مدرسيا مثل: «تمخض الجبل فولد فأرا»، وكررها ثلاثا للتأكيد، وذكرنا بأن التنظيم الإخواني غير قانوني، ومازال الخطر الحقيقي على استقرار البلاد. وقدمت الصحيفة بلاغا أمنيا، غير مهني، لم يصل إلى وزير الداخلية الذي منحته الثورة لقب «السفاح»، ثم خلعته وقدمته للمحاكمة. كان حظ الوزير المخلوع لا يقل سوءا عن حظ الصحيفة التي قدمت وشاية متأخرة، وبلاغا ضل طريقه إلى وزارة الداخلية، وتلخص في صورتين في صفحتها الأولى، حرصت على وضع دوائر حمراء حول وجوه ستة من قادة «تنظيم الإخوان غير الشرعي» بين المتظاهرين.

أما فشل صحيفة الأهرام فكان سقطة مهنية وسياسية، إذ جاء عنوان الصفحة الأولى:

احتجاجات واضطرابات واسعة في لبنان

تكليف ميقاتي بتشكيل الحكومة.. والحريري يتمسك السلم الأهلي

وفي الأسفل موضوع عنوانه: (الآلاف يشاركون في مظاهرات سلمية بالقاهرة والمحافظات)، وبجواره خبر عنوانه (شيكولاتة وورد في عيد الشرطة)، خبر غريب لا تدعمه صورة واحدة توثق خرافة «تبادل المواطنين الشيكولاتة والورد مع رجال الشرطة بالمحافظات»، ولم تقل الأهرام أو الأهرام المسائي إن المتظاهرين هتفوا بسقوط نظام مبارك، وإن النظام فرق المتظاهرين المسالمين بالقوة في منتصف الليل، وهو ما لا يتفق مع تضليل متعمد اسمه تبادل الورد بين الضحية والجلاد.

ولم يكتف أسامة سرايا رئيس تحرير الأهرام بذلك، وإنما قال في برنامج تلفزيوني إن المظاهرات «محاولة دنيئة من جماعة الإخوان المحظورة لزعزعة استقرار مصر»، ولكن جورج إسحق قال للبرنامج إن الشرطة الوطنية الي قاومت الاحتلال البريطاني في قناة السويس 1952 لا علاقة لها بالشرطة التي تحارب الآن «شعبا بأكمله لحماية النظام».

وسجلت عناوين الصفحة الأولى لصحيفة (الجمهورية)، في اليوم التالي 26 يناير، فضيحة مهنية وأخلاقية وإنسانية:

«50 متظاهرا بالمنصورة و100 بدمياط و200 بالإسكندرية.. وبورسعيد والمنوفية والفيوم هادئة

المتظاهرون عطلوا المرور وأثاروا الشغب في ميدان التحرير

عناصر المحظورة وسط 10 آلاف من المتجمهرين.. ألقوا الحجارة وأتلفوا المنشآت».

انتهت العناوين التي يجب أن يحاسب، بتهمة الجهل، من كتبها أو راجعها أو أقرها، فكيف أحصى المحرر 50 متظاهرا هنا، أو 100 متظاهر هناك؟ وهل ظل هذا العدد كتلة ثابتة لا يزيد بانضمام متحمس أو مجامل أو عابر مظاهرة؟ ولا ينقص بهروب خائف أو جائع أو مصاب؟ وكيف يمكن فرز عشرات من المتظاهرين، وسط ميادين تزدحم بآلاف المواطنين، في معظم ساعات النهار؟

في المساء، كتبت في صفحتي على الفيسبوك:

«في دولة هي الأقدم، ونظام إداري عمره 4600 سنة، يصبح النظام السياسي إسفنجيا، يمتص المظاهرات والاحتجاجات، بدليل أحداث 1977 و1986. لدي اقتراح أن يجمع العقلاء 10 ملايين توقيع مثلا مثلا، يتعهدون فيها للرئيس بخروج آمن، خروج من السلطة لا من البلد، خروج لا تتبعه ملاحقة قضائية ولا نكت.. في فترة حياته على الأقل. حل سهل لعله يخرجنا من هذا المأزق».

حتى مساء اليوم، لم يتأكد لي نجاح الثورة. ظننت الشرارة ستخبو، وكانت مدينة السويس قد استعدت لرفع الشعلة، طوال يومي الأربعاء والخميس، ولم تفرط في «الأمانة» التي لا يحملها إلا أولو العزم من الثوار، إلى أن تسلمها أبطال ميدان الحرير في جمعة الغضب.

لم تتحدث الصحف التي أدمنت الكذب عن الشرطة التي لا تتحلى بفضيلة الصبر، فلم تحتمل أعصاب البوليس غضب المتظاهرين المسالمين إلا ساعات، وفي الدقائق الأولى من فجر الأربعاء 26 يناير، بدأت مطاردة المعتصمين بالسيارات المصفحة في ميدان التحرير، بعد تفريقهم باستخدام القنابل المسيلة للدموع، وخراطيم المياه في ليل القاهرة شديد البرودة، لكن تلك المياه لم تكن قادرة على إطفاء جذوة ثورة خمدت 48 ساعة، استعدادا لشعلة نسفت أوهام قوة النظام في (جمعة الغضب).

في هذا اليوم، 25 يناير، استنكر 30 سينمائيا نتائج مسابقة نظمتها وزارة الثقافة، لدعم الأفلام، وأصدروا بيانا عن مهزلة، وإجراءات باطلة، ارتكبتها لجنة رفضت 76 سيناريو، وفي هذا إهانة للسينما، وطالبوا بإعادة التحكيم، عن طريق لجنة علنية موثوق بكفاءة أعضائها.

الأربعاء 26 يناير

مررت بنقابة المحامين. رأيت قوات الشرطة قد بنت سدودا بشرية من أجساد الجنود المسلحين بأدوات البطش السريع، وحاصرت المئات في الداخل، ومنعت المئات أن يدخلوا، وحاولت تفريقهم من شارع رمسيس، ومنعت تجمهرهم في شارعي 26 يوليو وعبد الخالق ثروت حيث توجد نقابة الصحفيين على بعد خطوات. احتميت بنقابتي، شهد سلم نقابة الصحفيين، منذ سنوات، أولى المظاهرات والاحتجاجات، وكان قبلة العاجزين عن رفع أصواتهم في شركة أو مؤسسة، ومن يريدون منصة يطلقون منها شكاواهم، وهم يشعرون بأمان نسبي، إذ صار وجود المئات من جنود الشرطة والعشرات من الضباط أمرا مألوفا أمام النقابة، وأحيانا يتحركون قليلا، نحو نقابة المحامين، أو نادي القضاة. ويطلق على الكيانات الثلاثة المتجاورة (نقابتا الصحفيين والمحامين ونادي القضاة) مثلث الرعب.

كان أغلب المحتجين، على سلم النقابة وفي داخل المبنى، من الصحفيين. احتجزتهم الشرطة، وحددت إقامتهم، لم يستطيعوا الخروج، واكتفوا بالهتاف بسقوط حسني مبارك، وتساءلوا عن أموال الشعب المنهوبة. لم أكن قد وصلت حين سحل مقرر لجنة الحريات بالنقابة محمد عبد القدوس، وتسجل صورة فوتوغرافية وجود خمسة مواطنين وسط نحو 15 شرطيا، وفي عمق الصورة عناصر من ذوي الملابس المدنية، عددهم خمسة سمان غلاظ شداد يسحلون عبد القدوس، اثنان يجرانه من قدميه، واثنان يرفعانه من ذراعه اليسرى، والخامس يجره أفقيا من ذراعه اليمنى، وهو من اليقين يكاد يقول، مثل بلال بن رباح: «أحد أحد»، وعلى بعد خطوتين يتنمر شرطي، متأهبا بالعصا، تحسبا لهرب الضحية، وعلى الرصيف وراء الجنود ضابط، بنظارة سوداء كالعادة، يتحدث في تليفونه المحمول، لعله يطمئن قادته في جهاز أمن الدولة أن عملية السحل تمت بنجاح. في المساء عرضت الصورة على زملاء بقسم الحوادث، قالوا إن أحد الجلادين هو الرائد أيمن صلاح رئيس المباحث في قسم شرطة الأزبكية. أما يحيى قلاش فكانت تحت عينيه كدمات، وانتحيت به جانبا بعيدا عن الهتاف المتصاعد، فقال إن ضابط شرطة منعه أن يدخل النقابة، كان معه ابنه طالب الجامعة، واستعرض الضابط وهو جالس هناك على الرصيف، ومنعه أن يدخل إلا بعد أن يتقدم يحيى إليه، ويطلعه على بطاقته الصحفية، ورفض يحيى السكرتير العام السابق للنقابة تلك الإهانة، وقال الضابط إن هذه تعليمات نقيب الصحفيين مكرم محمد أحمد. أوضح له يحيى أن مكرم نقيب الصحفيين وليس نقيب شرطة، وتجادلا ولم يحتمل الفتى أن يتعالى الضابط على أبيه، فكانت لكمات الجنود أسبق إلى الأب والابن.

قلت ليحيى: ما رأيك أن نتقدم ببلاغات منفصلة، أنت ضد الضباط الذين ضربوك، أنت وابنك اليوم، ومحمد عبد القدوس ضد الضابط أيمن صلاح، وأنا ضد اللواء صلاح الشهاوي، مدير فرق الأمن، الذي ضربني هو وضباطه وجنوده يوم 31 / 12 / 2008، (انظر مقال: أربع نصائح... انظر الملاحق)، وكنت قد أدنت في ذلك المقال ثلاث جهات أنتمي إليها: اتحاد الكتاب، ونقابة الصحفيين، ومؤسسة الأهرام، وبعد فوزه بجائزة نقابة الصحفيين أعدت نشره، يوم 23 / 10 / 2010، في موقع ميدل إيست أونلاين، وأهديته إلى عبد الحليم قنديل، الوحيد الذي وافق على نشره ورقيا. ولكن يحيى قلاش، متسلحا بخبرته النقابية، رأى أن من المهم إدراج قضايا ضرب وتحرش وهتك عرض، تعرضت لها صحفيات، في الشارع، هنا أمام النقابة، في مايو 2005، على أيدي ضباط وجنود وبلطجية، وادعى صحفيون يعملون لحساب وزارة الداخلية أنهن مزقن ملابسهن، وتجاهلوا استعانة الشرطة بنزيلات سجون لضرب المتظاهرات، وصورة نشرتها صحيفة (الوفد) لبلطجية تم تجنيدهم للتحرش بمتظاهري (كفاية)، ورفع البلطجية أصابعهم الوسطى للشرفاء، ولم يصدر بيان اعتذار، إذ فرح النظام بمظاهرة مضادة مفتعلة، ردد فيها بلطجية للإيجار هتافات متهافتة، منها: «يا مبارك دوس دوس.. إحنا معاك من غير فلوس».

كانت الهتافات تهبط من سلم النقابة إلى الجنود والضباط في الأسفل: «حسني مبارك.. باطل»، «أمن الدولة.. باطل»، «وزير التعذيب.. باطل»، «يا مبارك يا مبارك.. السعودية في انتظارك».

وفي الشارع، وسط الجنود، قريبا من ضباط صغار واقفين، وعلى بعد أمتار من ضباط كبار يجلسون في الظل فوق الرصيف المقابل، وقفت امرأة تبدو من فضلات السجون، تسب المتظاهرين، وتوجه إليهم بأصابعها إشارات فاحشة، ولأن أصوات الثائرين هي العليا، فقد لجأت المرأة للهتاف قائلة:

ـ «يا ولاد المومس.. مصر مش تونس».

من لقنها هذا الشعار؟ لعلها لا تعرف أين تقع تونس. لا أعلم هل جاءت قبل العسكر، أم لحقت بهم، أم دخلت شارع عبد الخالق ثروت وقد تأبطت شرا، وليس أشر في مصر من ضباط الشرطة. لا أتخيلها قرأت اليوم تصريحات الأكاديمي الذي عمل موظفا في رئاسة الجمهورية ثماني سنوات مصطفى الفقي، رئيس لجنة العلاقات الخارجية والشؤون العربية بمجلس الشوري. تطابق خطاب المرأة التي تطلق مدفعية من الشتائم الإباحية وخطاب الفقي، وإن حرص الأخير على أناقة الدبلوماسي، وثقة البرلماني المشكوك في صحة برلمانيته بشهادة المستشارة نهى الزيني. يكفيه دبلوماسية وبرلمانية قوله، مساء 24 / 1 / 2011، لوفد برلماني من مجلس العلاقات الخارجية الأمريكية: «إن مصر وتونس مختلفتان. ونرحب بما يحدث في تونس، ولا يمكن أن نقول إن بن علي مثل مبارك». كان الفقي أعف لسانا من امرأة تنادينا: «يا ولاد المومس.. مصر مش تونس».

ولكن وائل قنديل كتب اليوم محييا «الغاضبين»، الذين لم يكونوا قد حملوا لقب الثوار: «رباط حذاء أصغر متظاهر خرج أمس يهتف لمصر التي يريدها ويحبها أشرف من كل متقعر متكبر يختبئ خلف غابات مفرداته العقيمة وتنظيراته السقيمة.. وأنبل من كل رجل أعمال جبان تعامل مع الوطن باعتباره أحد المحاجر فكسره قطعا واستحوذ على ثرواته... رأيت مصر الحقيقية تمشي على قدميها وتصرخ طلبا للخلاص... يا من ظلمناكم واعتبرناكم يوما غائبين ومغيبين ومهاجرين بالروح عن الوطن.. أعتذر لكم جميعا وأحييكم وأبوس الأرض تحت أقدامكم». (الشروق 26 / 1 / 2011).

كانت المواجهات قد هدأت قليلا في القاهرة، واشتعلت في كثير من المدن المصرية، وفي مقدمتها السويس، حتى إن هذه المدينة التي تصدت للحصار الإسرائيلي عام 1973، كانت الجذوة التي ظلت متقدة، تمنح الثورة نارا ونورا، وتقدم شهداء جددا في اليوم الثاني للثورة، وأصبحت تقارن بمدينة سيدي بوزيد التونسية التي حافظت على شعلة الثورة.

وقررت وزارة الداخلية منع تجمع أكثر من أربعة أفراد في الشارع.

واتصل ملك البحرين حمد بن عيسى بمبارك، واطمأن على «استقرار مصر».

وأطلقت صحيفة الأهرام على الثورة اسم «أحداث العنف والشغب». وظلت الثورة يتيمة، تبحث عن منصف يقول إنها «ثورة»، عن رمز لن تحتاج إليه بمجرد بلوغها (جمعة الغضب).

غادرت نقابة الصحفيين، وابتعدت عن المرأة التي تحميها الشرطة، وتصف الثوار بأنها أولاد المومس. وجدت في انتظاري رسالة بالبريد الإلكتروني تقول فيها آمال فلاح من باريس، وفرحتها تقفز من شاشة الكمبيوتر:

«عملتوها!!

جميل أن يحمل لنا العام الجديد رياح التغيير! أشد على يدك لعلي أنجح في نقل كل طاقتي ومحبتي».

وفي أول رد فعل من نقابة مصرية، عقد مجلس إدارة اتحاد كتاب مصر جلسة طارئة مساء اليوم (الأربعاء)، وقف أعضاء المجلس في بداية الاجتماع دقيقة حدادا على أرواح الشهداء، ووجهوا التحية للجماهير التي خرجت تعبر عن مطالبها المشروعة، وأصدر الاتحاد هذا البيان:

يعلن اتحاد كتاب مصر تضامنه الكامل مع انتفاضة 25 يناير 2011 المجيدة، ويؤكد مشاركته الكاملة لها في مطالبها المشروعة، كما يدين الأسلوب القمعي في التعامل معها، ويشارك الجماهير المصرية مطالبها بتغيير الدستور على نحو يكفل التداول السلمي للسلطة، وإلغاء قانون الطوارئ، كما يطالب بالإفراج الفوري عن المعتقلين السياسيين كافة، والقضاء على منظومة الفساد السياسي والاقتصادي والثقافي، ومحاكمة المفسدين، فضلا عن بقية المطالب المشروعة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وقرر مجلس اتحاد كتاب مصر أن يظل في حالة انعقاد دائم حتى إشعار آخر.

فيما بعد قال لي محمد عبد الحافظ ناصف إن عددا من أعضاء المجلس لم يحضروا، ربما خشية الحرج، لعلهم خافوا أن يتبنى أعضاء ثوريون بيانا يليق بالثورة، وإن قاسم مسعد عليوة غاب مضطرا، وهو الذي طلب أن تعقد الجلسة، وإن يسري العزب رأى أن يوقع الحاضرون على البيان، وفعلوا جميعا، ثم وقف حامد أبو أحمد، وقال متحمسا: «الحكاية بدأت ولن تنتهي إلا بالانتهاء من مبارك وأولاده»، وكان أبو أحمد قد انتهى، يوم 23 / 12 / 2010، من كتابة سيرته الذاتية، وأصدرها في كتاب (الشهاب)، وأهداني نسخة منه قبل أسبوع من ثورة 25 يناير، وتناولت الكتاب الخارج ساخنا من المطبعة، ولم أجد به رقم إيداع ولا اسم مطبعة، وسألته عن الناشر، فقال: «أنا، اقرأ وسترى أن أحدا لم يكن ليجرؤ على تحمل تبعات نشره». رأيت المرارة تفيض من سطور الكتاب/السيرة/الشهادة، مرثية لمصير دولة تعاني موتا سريريا طال أكثر مما ينبغي، لا تموت ولا تحيا، والدكتاتورية أصل الداء. ويقول مثلا في صفحة 210:

«مشكلة حسني مبارك أنه شخصية ليس لها مثيل في كل دكتاتوريات العالم: فهو يحكم بالحديد والنار ويتظاهر بالليونة والطيبة والتسامح حتى لقد كتب عنه بعض من التقوا به بأنه إنسان في غاية التواضع. وهو يستخدم القبضة الأمنية في كل شيء ويدعي بأنه رجل ديمقراطي يتقبل الإهانات والشتائم من قبل المعارضين ولا يمنعهم من الكتابة أو يقصف أقلامهم... عينه على هدف واحد هو استمراره في السلطة وتوريثها لابنه».

سجل اتحاد كتاب مصر ببيانه المبكر موقفا مشرفا، ولكن محمد سلماوي رئيس الاتحاد سيخذلني، حين أطلب إليه (يوم الثلاثاء 8 / 2 / 2011) أن يشاركنا توقيع بيان أعددناه، لتغيير اسم (جائزة مبارك). رفض واعتذر؛ فلم يكن قد تبين له تماما الخيط الأبيض من الخيط الأسود، من فجر الثورة.

الخميس 27 يناير

دخلت دار الأوبرا قاصدا المركز القومي للترجمة. يوم الثلاثاء 18 يناير، تلقيت اتصالا ممن سألتني: «الأستاذ سعد القرش؟»، حين يناديني أحد باسمي كاملا، أقول إنه لا يعرفني، وهي قالت إنها «من مكتب الدكتور جابر عصفور» مدير المركز القومي للترجمة، وإن كاتبا ألمانيا ترك لي عندها كتبا. كنت في الأقصر، ووعدت بالمرور الأسبوع القادم، ومضى أسبوع الكسل، ثم قررت الذهاب اليوم 27 يناير. قلت للموظف إنني أريد مكتب الدكتور، وأخبرني أنه غير موجود، ربما عرفني، إذ أراني دعوة جابر عصفور لحضور افتتاح معرض القاهرة الدولي للكتاب، يوم السبت 29 يناير، دعوة رسمية تحمل خاتم أمن رئاسة الجمهورية. قلت له إن لي كتبا عند السكرتارية، وقلت لنفسي: «غدا يوم القيامة، فكيف يفتتح المعرض والنظام يخشى مظاهرة يشارك فيها عشرة أشخاص؟».

تركت السيارة في الأوبرا، وأخذت كتبا كان انتشال التميمي طلبها، واقترح أن أتركها في دار ميريت، وسيتولى محمد هاشم إرسالها إليه في هولندا. حملت كتابا لهاشم النحاس و(موسوعة نجيب محفوظ والسينما.. 1947-2000) التي حررها وأشرف عليها مدكور ثابت، حين كان رئيسا لأكاديمية الفنون. كانت القاهرة هادئة، وميدان التحرير يمارس سكونا مراوغا، والكتب ثقيلة، ولا وقت لدي للمناهدة مع الشرطة في التحرير الملغوم بصفوف من الجنود والمصفحات. عبرت ميدان الشهيد عبد المنعم رياض إلى دار ميريت، وكان محمد هاشم وحده، مبحوحا يجاهد لكي يتكلم. سلمته الكتب، وغادرت سريعا، على أن نلتقي غدا في (جمعة الغضب).

لا أذهب للعمل يومي الخميس والجمعة، ولكن المصادفة وضعت أمامي (الأهرام المسائي 27 / 1 / 2011)، وفي صدر صفحتها الأولى صورة لصفوت الشريف الأمين العام للحزب الوطني الحاكم، رئيس مجلس الشورى، رئيس المجلس الأعلى للصحافة، ولي نعم معظم رؤساء تحرير النظام، وهو رائد متقاعد في قضية لا تشرف أحدا، ثم دفعته المصادفة والزمان الأعوج إلى أن يكون وزيرا للإعلام، ثم أصبح من أولي البأس في البلاد، ولم يكن مبالغا في صورته في (الأهرام المسائي) وهو يشير بإصبع الاتهام، إلى شخص، أو تيار، أو حكومة، وقال بثقة: «إن لم تنجح الحكومة في تنفيذ البرامج الخاصة بمطالب المواطنين ستحاسب»، وفي اليوم نفسه كتب أنور الهواري، الذي سبق أن أشاد بعبقرية صفوت الشريف، تحت عنوان (الثلاثون عاما الأخيرة) هي عهد حكم مبارك، معددا مآثر ثلاثينية مبارك التي «أنجزت تطورا هائلا في بناء مؤسسات الدولة بحيث تتحول يوميا نحو احتراف العمل في إطار ديمقراطي يحترم الدستور والقانون.. الثلاثون عاما الأخيرة ـ للأسف الشديد ـ سمحت بمستوطنات إعلامية وحزبية وحقوقية ودكاكين فوضوية، تعمل منذ عشر سنوات للتحريض والإثارة ودفع الواقع نحو الأزمة».

كان الغضب قد انتقل شمالا من الإسكندرية إلى مطروح في الغرب، وقطع الثوار الطريق إلى ليبيا، واشتدت ريح الشرق عاصفة بأوهام مزمنة، واستمر الزحف من شمال سيناء والإسماعيلية والسويس «سيدي بوزيد المصرية»، ففي حين نجحت جيوش الشرطة في تطويق الميادين الكبرى بالقاهرة، وسد المنافذ إليها قبل (جمعة الغضب)، كانت المواجهات بين الثوار والشرطة في قناة السويس تعطينا أملا، وتزيد قلقنا. توجد حالة قلق في الجهات العليا، ومعها لا مبالاة، ثلاثة أيام والحريق مشتعل، والثوب بال لا يحتمل حريقا، ولا بيان لرئيس الوزراء. قالت صحف الجمعة التي تصدر مساء الخميس إن رئيس الوزراء سيلقي الأحد (30 يناير) بيانا أمام مجلس الشعب، وحرصت صحف الجمعة أيضا على نشر خبر افتتاح مبارك معرض القاهرة للكتاب غدا السبت (29 يناير). كان موعدهم السبت، وهو يوم لم يأت قط.

اليوم، عشية (جمعة الغضب)، أرسلت مقالي القديم (ماذا أقول لابنتي يا سيادة الرئيس) إلى موقع (ميدل إيست أونلاين)، وسوف ينشرونه غدا الجمعة، وفيه أخاطب الرئيس:

«أعلم أنك تعبت، فإذا حسبنا فترات حكمك بالقرون لا بالأعوام، فإن أكثر من ربع قرن من حكم هذا الشعب مرهق للأعصاب، وربما تكون قد اشتقت لحياة طبيعية، تشاهد فيها عروض أفلام منتصف الليل، لأن بعدها استرخاء بلا صداع.

أتعبناك يا سيدي فاسترح، واعمل فينا معروفا. رد إساءتنا بإحسان. ازرع في نفوسنا أملا أخيرا، ولو مرة واحدة في العمر ـ عمرك لا أعمارنا ـ بالتخلي عنا. إذا كنا بلاء فنحن نعفيك، وإذا كنا نعمة فيكفيك ربع قرن وسنة، وليس في العمر ـ عمرك لا أعمارنا ـ ربع قرن آخر».

وقبل أن أغادر المكتب تلقيت هذه الرسالة من أمل الجبوري:

«قلقة جدا مما يجري، أعرف أنك متحمس للتغيير الذي يكون على يد المصريين الشرفاء النبلاء أمثالك، ولكن الخوف من صعود المتطرفين الذين هم أفيون الخراب، ويصبح لا سمح الله بلدنا المصري حاله حال. الفقراء من يصنعون الثورات، ولكن للأسف هناك من يسرقها في الحال. طبعا كنت أتمنى أن أرى أبناء بلدي ببطولة وشجاعة التونسيين والمصريين، ولكننا معذورون؛ فسنوات الرعب التي عشناها في ظل حكم صدام والبعث كانت أكبر من أن توصف، وكان العالم غائبا تماما عما يحدث في بلدنا. هل تتصور.. كان هناك توجيه لدى السلطات الأمنية في حال قيام أية مظاهرة معادية للنظام، أي نظام صدام، أن يتصدى رجال الأمن ومديرهم على أن لا ينجو أي أحد من المتظاهرين، وإذا صادف وأن نجا منهم أحد فيعدم كافة الطاقم المكلف بهذه المهمة . نعم هكذا كنا نعيش . طبعا أنا حزينة أن التغيير جاء من قبل قوات غازية لبلدي، وكنت تمنيت وانتظرت اليوم الذي تركل الشعوب بنفسها زعماءها.

مشتاقة لمصر

تحيا مصر».

وسألني عبد الرازق عيد في التليفون: في أي ميدان سنلتقي غدا؟ مصطفى محمود، الجيزة، التحرير. قلت له: على من يستيقظ مبكرا أن يتصل بالآخر، ونلتقي في أي مكان، ثم نتوجه إلى ميدان التحرير.

حتى مساء الخميس، كان سقف الأحلام محدودا، ترسمه خيبات أمل وإخفاقات سابقة، وتجارب لم تكتمل. ولا أدري من أين جاء عماد الدين حسين بتلك الثقة، في عموده اليومي في (الشروق)، وقد كتبه يوم الخميس 27 يناير، لينشر في اليوم التالي، عن عاقبة فهم متأخر يجبر أصحابه على الانضمام إلى «نادي المخلوعين العرب»، ولزين العابدين بن علي فضل السبق إليه، ثم حث المسؤولين على أن يتحركوا قبل فوات الأوان: «تذكروا أن تأخر فهم بن علي كلفه الكثير».

كان ذلك عشية (جمعة الغضب) التي ستغير القوانين والمعادلات، وتقلب موازين القوى، ليصير الشعب مصدر السلطات والشرعية، هو السيد والمعلم، يفرض إرادته، ويملي رأيه.

جمعة الغضب.. إنها الثورة، هذا يوم الفصل

لم يتصل بي عبد الرازق عيد. الرجل منظم، يصحو مبكرا بحكم عمله أستاذا بجامعة القاهرة، ومشاركا متطوعا في أنشطة متعددة، وليس بوهيميا مثلي ينام في آخر الليل، أو لا ينام، ثم يصل الغد باليوم. كثيرا ما قلت لأصدقائي إنني لا أصلح للقيام بثورة، أو تولي منصب مهم، نومي متأخرا وعدم انضباطي سيدفع غيري للحضور مبكرا، وانتزاع الكرسي.

على غير العادة، كان شارع فيصل خاليا من الناس والسيارات. رميت نفسي في أول سيارة أجرة (ميكروباص). اتصلت بعبد الرازق عدة مرات، ولم أتلق إجابة، ثم أغلقت التليفون وفتحته، لعل في الجهاز مشكلة. لاحظ جاري في السيارة حيرتي، فأخبرني أن شبكات التليفون المحمول الثلاث خارج الخدمة منذ الصباح. هنا انتبهت إلى أن الحرب بدأت. وقد انقطعت خدمة الاتصالات الهاتفية (المحمولة/الجوالة)، كما انقطعت خدمات الإنترنت خمسة أيام، ثم تقدمت الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان ببلاغ للنائب العام المصري، للمطالبة بفتح تحقيق مع وزير الاتصالات، وغيره من المسؤولين، وشركات المحمول والإنترنت، عن «المسؤولية الجنائية المتعلقة بمشاركتهم في الإضرار بالمتظاهرين وقتلهم عن طريق قيامهم بقطع خدمات الإنترنت والاتصالات عن المواطنين بشكل تعسفي»، وعدم تمكن المصابين من الاتصال بالإسعاف، وضربت المثل بالشهيد أحمد عبد الرحيم السيد أحمد (18 عاما)، وقد أصابه طلق ناري في صدره، ولم يتمكن أصدقاؤه من الاتصال بالإسعاف لإنقاذه. وسوف تقضي المحكمة الإدارية العليا يوم 28 / 5 / 2011 بتغريم مبارك ورئيس الوزراء أحمد نظيف ووزير الداخلية حبيب العادلي 540 مليون جنيه (91 مليون دولار)، بواقع 200 و40 و300 مليون على التوالي، حيث ألحقوا الضرر باقتصاد البلاد.

انقطعت عني أخبار عبد الرازق في الأيام التالية. أشفقت علينا، وقدرت أن مثل هذا السلوك يجرمه القانون الدولي، فلا يتضمن العقد بين المشتركين وهذه الشركات بندا عن قطع الخدمة وقت الثورات، أو أيام التظاهر. مصدر الشفقة على مصائرنا أن المواجهة بين طرف باطش، وآخر مسالم ذكي، تحسم للعقل، وهذه ثورة سلاحها التكنولوجيا، معلوم وقتها قبل أن تبدأ، ودعي المواطنون إليها يوم عيد الشرطة 25 يناير، عبر موقع التواصل الاجتماعي على الإنترنت (فيسبوك)، ولا يملك المتظاهرون في الشارع وسيلة للتواصل والتشاور إلا التليفون المحمول، سلاح الإشارة في المعركة، ومن دونه يصير الجسد مشلولا، والجهاز العصبي معطلا، لا قدره له على تلقي أمر، أو التفاعل مع الآخرين.

ولكن هذه الثورة النوعية لا تعتمد على أوامر علوية، لا قائد هنا ولا زعيم ولا رمز، اجتمعت قلوب الثوار، لأول مرة في التاريخ، على فكرة، على شعار «التغيير»، نحن في مرحلة يستحيل معها الإصلاح، نسف القديم هو الحل، ولا وقت للانتظار. وبقي قلق لا بد أنه ساور غيري، ممن رتبوا للاتصال بآخرين، في مدن أخرى، أو ميادين أو مسالك أخرى إلى ميدان التحرير، فلتكن (جمعة الغضب) يوما ربما لا يأتي ما بعده.

بلغنا ميدان الجلاء، حيث طه حسين تمثالا يقف في شموخ، ناظرا إلى الجزيرة، إلى الأوبرا ثم ميدان التحرير، ومصفحات الشرطة تتناثر في الشوارع والميادين، وتأهبت الشرطة للبطش، وأغلق جسر الجلاء، وعلى القادم أن يتجه يمينا عائدا إلى ميدان الجيزة، أو يسارا ليصعد جسر أكتوبر. ضاعت علي فرصة التوجه إلى ميدان التحرير عبر جسر قصر النيل، ولم أر المعركة التي انتهت باقتحام الميدان مع حلول الظلام، مع نجاحنا في اقتحامه من ناحية ميدان طلعت حرب في «وسط البلد».

حاول السائق أن يهبط من الجسر إلى ميدان عبد المنعم رياض، فنهره ضباط كبار سمان، وأمروه بالابتعاد عن المكان، لم يقدموا إليه اقتراحا، كانوا مرتبكين، وأشاروا إليه أن يتقدم باتجاه ميدان رمسيس، وكنت قد انسللت من السيارة، وهبطت السلم، فوجدت نفسي عند عبد المنعم رياض، والشهيد الذي لا يعرف حربا إلا مع عدونا الإسرائيلي، يحار من حرب في المدينة، والقنابل المسيلة للدموع تؤذيه، ويعلو دخانها تمثاله، ولا وقت لدي لأقنع قساة القلوب بأن ذكرى استشهاد صاحب هذا التمثال، على جبهة القتال مع العدو، صارت «يوم الشهيد».

تلفت ورائي، ولم أتهتف. كانت جموع تهرب من دخان القنابل، بعيدا تحت الجسر، في شوارع ضيقة تتجه إلى مبنى التلفزيون، لم يصلني هتافهم، وأردت أن أحلف بمصر، أن أهتف لها، من دون أن أنادي بسقوط أحد، ولكني خفت، من السهل تصفيتي، كيف هبطت بمظلة عند التمثال حيث لا يستطيع أحد من الجموع أن يتقدم؟ لن يفكروا أنني نزلت من فوق الجسر، والساحة خالية إلا من دخان قنابلهم. خفت واستدعيت جرحي يوم 31 / 12 / 2008، ويمكن أن يتكرر المشهد، وسأحتمل الضرب، وأحاول حماية رأسي ومحاشمي، ولكني سأوضع في سيارة الترحيلات حتى المساء، وربما يستمر ذلك أياما، قبل أن يكتشف أمري، أو يستجوبني أحد، وسأحرم شرف المشاركة. قدرت أنني وحدي لن أستطيع أن أطفو، سوف أغوص وأختفي، وعلي أن أبحث عن جموع أحتمي بها وأحميها، نزيد عددا وحجما فنكتسب قدرة على الطفو والمواجهة. عبرت الميدان، تاركا حشود الجنود والضباط، يتقدمهم مدنيون لا يرتدون ملابس الشرطة، بلطجية من خريجي السجون، أو أجراء باليومية لمهمة عاجلة، تم تسليحهم بسلاسل وخراطيم وعصي، زودوا بكل أدوات البطش، باستثناء البنادق والمسدسات التي يقتصر استخدامها على القتلة الرسميين.

قطعت شارع شامبليون. ظننت الحشود هناك عند (مثلث الرعب)، حول نقابتي الصحفيين والمحامين ونادي القضاة. أعلم أن الشرطة التي مهمتها تطبيق القانون، أصاب كثيرا من أفرادها جنون العظمة أو الجهل، حتى إنهم يخلطون بين الرئيس والدولة، وقد فعلها ضابط غبي، حين سحق قاضيا بحذائه عام 2006.

كان شارع عبد الخالق ثروت مغلقا، وعلى البعد شارع رمسيس أيضا، وفوق سطح نقابة الصحفيين يهتف بضعة أشخاص بحياة مصر، وسقوط الرئيس، ولا يستطيعون الهبوط، ولا يسمح لأحد بالاقتراب من مدخل النقابة، شعرت باليتم والوحشة، أين الناس الذين يحولون دون الغرق؟ هذه فرصتنا الوحيدة للطفو لو مددنا الأيدي، وصنعنا جسورا للعبور إلى الأمل، ولو نسف جسر ستقام جسور. دخلت شارع طلعت حرب، وصرت في القلب. محمد آدم أول من رأيت، ثم أحمد اللباد، ومصطفى اللباد، وأحمد السيد النجار، وكارم يحيى، وعبد العال الباقوري، هنا يكون للهتاف بسقوط حسني مبارك معنى وصدى.

واجهتنا دفعة من سحب قنابل الغاز. نتحرك في مسافة لا تزيد على 500 متر في شارع طلعت، لا نحن قادرون على الوصول إلى ميدان طلعت حرب، ولا مواجهة الرصاص القادم من مصفحة للشرطة، في الجهة الأخرى، من شارع عبد الخالق ثروت، من أمام نقابة الصحفيين، وتهرب بسرعة تشق شارع طلعت حرب إلى الميدان، وتدور من شارع رمسيس لتعود إلينا. عميت أبصارنا من حرقة الدخان المسيل للدموع، فلم أتبين رقم السيارة، وظننت نسخا كثيرة من هذه المصفحة تقطع علينا هتافنا: «يا حرية فينك فينك.. حسني مبارك بينا وبينك»، و«يسقط يسقط حسني مبارك»، ويمدنا كبار السن من شرفات البيوت بمياه، ولكن المياه تزيد ألم العيون، فأدركنا أهل الخبرة بشرائح البصل، والخل الذي تبتل به المناديل الورقية، فيخفف أثر الدخان المسيل للدموع، وحذرونا أن نغسل عيوننا بالمياه، يكفي بعض المياه الغازية، وكان الأهالي كرماء، يسقطون علينا البصل والخل والمياه الغازية، وبعضهم يلقي حبات التفاح، ونحن لا نكتفي بهذا، بل نستفزهم:

ـ «يا أهالينا انضموا لينا».

وحين تدهمنا مصفحات الشرطة، وتمطر علينا وابلا من القنابل، نصرخ في استغاثة العاتب على أمه، يشهدها على ما يفعلها بعض أبنائها بالبعض الآخر:

ـ «مصر يا أم.. ولادك أهم».

حين تأتي السيارات فجأة، نختفي من الشارع، إلى شوارع جانبية، أو ندخل (مول طلعت حرب)، السوق التجاري متعدد الطوابق، كان بابه الزجاجي مفتوحا، ولا أثر لحرس، والواجهات الزجاجية للمحال في الداخل مغلقة، نتكدس حتى يختفي أثر الدخان، ونخرج لنهتف، ثم نتزاحم مرة أخرى. لم تمتد يد إلى أي شيء في السوق، كانت محال الملابس والذهب في متناول من يريد السرقة أو التخريب، ولكن الثوار أكبر وأعف، ولا أظن شيئا قد سرق من «وسط البلد» في ذلك اليوم ولا بعده.

لم يبال بنا قاذف القنابل، ونحن نهتف:

ـ «سلمية سلمية».

تركت ثورة تونس في ذاكرتي صورة، قل أيقونة، فيها يرقد محمد البوعزيزي في سلام، راضيا عن نفسه، ينتظر أن تتحرر روحه، وقد ضاق بغطاء أبيض يلف جسده، ما عدا فتحة ضيقة تسمح له بالتنفس، ولكنه غائب عما حوله، متوحدا بذاته في جلال، غير معني بغطاء آخر يكسوه من القدمين إلى الصدر، غطاء ملون، نظيف لا يجرح كاميرا ترصد لحظة امتنان من دكتاتور متأنق، يزوره لإبراء الذمة وامتصاص سحب الغضب، هو الرئيس في متاهة أيامه الأخيرة. وقف القاتل وسط فريق طبي في المستشفى، وامتدت ذراع تحمل ميكروفونا للتفزيون الرسمي، لتسجيل ما قد يتكرم بقوله، وقد استعد تماما، ببدلة داكنة، وأسى مصطنع، ووجه خال من أي ندم، وشعر مصبوغ، ومصفف بعناية، وعقد كفيه أمامه، اليسرى فوق اليمنى.

وبقي من (جمعة الغضب) مشهد يخصني. ضابط برتبة نقيب، تلمع ثلاث نجوم فوق كلتا كتفيه، ويخرج من فتحة في سقف مصفحة يقودها جندي لا نراه، ويصوب بندقيته إلى أهداف من لحم ودم، لا تملك إلا الهتاف:

ـ «مصر يا أم.. ولادك أهم».

أشفق على جندي مغلوب على أمره، حظه من التعليم والوعي قليل، ضحكوا عليه وأوهموه أننا أعداء الله والوطن، جاهزون للانقضاض على الشرعية، فما بال هذا الضابط، النقيب الذي روعنا بعد ظهر جمعة الغضب، في هذه المساحة المحدودة من شارع يحلو لنا السير والتسكع فيه؟ كلما مرقت المصفحة، آتية من شارع عبد الخالق ثروت، لا تكاد تلمس الاسفلت، طائرة نحو ميدان طلعت حرب، أرى عينيه تبرزان بموازاة فوهة البندقية، تصنع العينان والفوهة تليسكوبا يساعده على تحديد الهدف جيدا. حتى بعد احتلالنا ميدان طلعت حرب ثم ميدان التحرير، أتخيل فوهة بندقية هذا النقيب مصوبة نحوي، وأفكر في مصيره، هل قتله جنوده انتقاما لتضليلهم؟ وماذا قال له ضميره، أو أهله وجيرانه، طوال أيام اضطر فيها ضباط شرطة للاختباء خوفا أو خجلا، وأيديهم ملوثة بدماء الشهداء، وضمائرهم مثقلة بأرواح لن تغادر الأرض إلا بعد الثأر من قاتليها، حتى لو طاردتهم في الأحلام.

هذا النقيب المثقل بحمل ست نجوم على كتفيه، وأوامر عليا بإطلاق رصاصه نحو الصدور، لم يكن يسمع صيحاتنا، ولا يعينه إلا المروق بسرعة البرق، خوفا من ملاحقتنا للسيارة بحجارة شحيحة في شارع نظيف، وإن تمكن ثائر شاب من خلع مقبض الباب الخلفي للسيارة المسرعة، وهو يحاول فتحه، وظل هذا المقبض المنزوع في المكتب، مع مقبض آخر وجدته في ميدان طلعت حرب، بعد تحريره في المساء. حرت في طريقة إعادته إلى سيارته، حتى لو كانت ضمن المئات من سيارات أحرقتها نيران الغضب، ولكن مئة يوم مرت على الثورة، والشرطة غائبة، والحياة تسير. اتصلت يوم الخميس 12 / 5 / 2011 بأحمد اللباد، الذي ضاع مني وضعت منه في دخان ودموع (جمعة الغضب)، وسألني عن المقبض الذي انتزعه الشاب، من الباب الخلفي للسيارة. السؤال جاد، مصحوب بلهفة القلق علي؛ إذ لم نلتق منذ فرقت بيننا قنابل الغاز، ثم ذبنا في ميدان التحرير. عجبت لذاكرته، وسؤاله الذي أربكني، عن حدث عشته وأسهمت فيه، وأصدقه لدرجة الخرافة، كأنه حدث أمس فقط، أو لم يحدث قط، أو حدث بالفعل ومضى عليه دهر. هو أراد الاحتفاظ بالمقبض، وفي اليوم التالي، (جمعة الوحدة الوطنية)، فتح لفافة، وتسلمه هدية، في ميدان التحرير، وأشهدت عليه ابنته ليلى.

نجحت خطة الحكومة في تقطيع أوصال الثورة، وعزل الثوار فلا يعرف الذين يحاولون اقتحام ميدان طلعت حرب ماذا فعل زملاؤهم في شارع قصر العيني، ولا يعرف هؤلاء وهؤلاء كيف انتهت المواجهات بين الشرطة وبين الذين يريدون عبور جسر قصر النيل. للشرطة شبكة اتصالات لاسلكية أخرى، وسيارات تستبيح الشوارع والميادين وأجساد الشهداء، وجنود يذهبون بالرسائل ويعودون، وليس للثوار إلا إرهاق هذا الديناصور حتى يتعب وينهك ويفقد أعصابه وزهوه بقوته، ليتمكنوا من الاتصال الشخصي بالآخرين، وعبور حاجز الخوف، والرهان على أن الغلبة لن تكون إلا لمن له الكلمة العليا واليد العليا. اليد العليا هي القادرة على تحريك كتلة خرسانية ثابتة في الأرض بموازاة رصيف مول طلعت حرب، ولكنها تحركت في أيدينا. وضعناها بعرض الشارع، والشارع عريض يحتاج إلى كتلة أخرى مثلها، ولا يوجد إلا عوارض حديدية وكتل خرسانية صغيرة، وقفنا أمام هذا الحاجز، وقبل أن يصل الضابط النقيب الغبي بنجومه الثلاث اللامعة على كلتا كتفيه، خارجا برأس الأفعى الجبان من سقف المصفحة، قبل الوصول مباشرة افترقنا، فرارا إلى شارع يفضي إلى سينما أوديون، فوجئ بالسد الحرساني، فوقف الجبان مذعورا، وارتدت المصفحة تسير الهوينى بمؤخرتها، كمن يجري تجريسه راكبا حمارا بالمقلوب. كانت الحجارة تنهال على مصفحة النقيب، في مشهد يذكر بالانتفاضة في فلسطين، والضابط يواصل إطلاق النار، وعيناه بارزتان بموازاة فوهة البندقية. وسوف يسجل تقرير لجنة تقصي الحقائق المشتركة بين مجلس حقوق الإنسان والمنظمة العربية لحقوق الإنسان، في أحداث ثورة 25 يناير، أن إطلاق الرصاص الحي في جمعة غضب «بتعليمات من الرئيس السابق مبارك رئيس المجلس الأعلى للشرطة ووزير الداخلية السابق حبيب العادلي، بعد أن ردد المتظاهرون شعارات الدعوة لإسقاط النظام ورحيل مبارك».

حررنا جزءا من الشارع، ولن يستطيع النقيب المحروس بست نجوم موزعة بالتساوي على كتفيه أن يقترب. رقص قلبي طربا وأملا، وأنا أغني بلسان صلاح جاهين مستعيرا صوت ماجدة الرومي:

ـ «الشارع لنا، الشارع لنا.. احنا لوحدنا».

ارتدوا نحو (مثلث الرعب)، ونحن نهتف، ثم نتحرك فرادى لنستطلع الشوارع المحيطة، ونطمئن إلى أن الكتلة االبشرية تزداد عددا، وقدرة على الطفو ومقاومة الغرق.

فيسبوك فيسبوك.. أحمدك يا رب

ذهبت إلى مكتب رويترز. قرأت في العيون لهفة وقلقا، وقلت إن ميدان عبد المنعم رياض ساحة قتال، كر وفر، ومرواغة بين طرفين لا تكافؤ بينهما، ووسط البلد يشهد حرب شوارع لم يحسم فيها النصر لطرف، باستثناء الجزء المحرر من شارع طلعت حرب.

فوجئت بالإنترنت تعمل عن طريق الساتلايت. طرت فرحا، وكان علي أن أطمئن الأصدقاء من المصريين والعرب والأجانب، خارج مصر، وقلت: مرحبا بالفيسبوك الذي سيكتب نهاية لمن ينتمون إلى عصر سابق. كتبت رسائل سريعة، بين كل منها والأخرى وقت قصير، أتبادل فيه رسائل بالبريد الإلكتروني مع أصدقاء في الخارج. وتشهد صفحتي على الفيسبوك أنني حرصت، منذ الساعة الأولى، على تسمية الأشياء بأسمائها، فما أنا فيه «ثورة»، وهؤلاء الأبطال ليسوا متمردين ولا مثيري شغب، ولكنهم «ثوار»:

ـ «أكتب من وسط القاهرة. استراحة قصيرة من قنابل الغاز. ميدان عبد المنعم رياض ساحة حرب، ووسط البلد يكاد يحرره الثوار، من شرفات المنازل تسقط العجائز وغير القادرين زجاجات مياه وبعض الفاكهة والبصل المضاد للغاز في شارع طلعت حرب الذي تحرر تماما، وتراجع الضباط إلى نقابة الصحفيين. باق زقة واحدة ويسقط الصنم، والشباب يراهنون على الأمل».

ـ «القاهرة اليوم مختلفة. منظر يفرح القلب، لن يتكرر إلا حين يظهر حسني مبارك آخر».

ـ «مصر اليوم أجمل من أي قصيدة، المتظاهرون حرروا شارع طلعت حرب في وسط القاهرة. أترككم الآن».

ولكن سلمى ابنتي اتصلت بي، من التليفون الأرضي، وأبقتني قليلا في المكتب. ثم كتبت:

ـ «سلمى كلمتني حالا وفكرتني بالمقال، وقالت: خلاص حسني مبارك ماشي ماشي، وتشتري لي موبايل».

ـ «الأمل على بعد خطوة».

ومن العراق أو الدانمارك علق سلام إبراهيم قائلا:

«لو يصير مبارك مرة وحده شريف ويترك الكرسي ويسافر».

وأرسل لي كريم كطافة، من منفى أوروبي ما، يقول:

«وأنا أتابع ما يجري في مصرنا تذكرتك، وتذكرت الكتاب المصريين الذين لم يملوا من الطرق على معدن الشعب المصري لقناعتهم أنه معدن أصيل.. ها هو شعبك ينتفض أيها الأستاذ.. أبارك للمصريين ثورتهم ويدي على قلبي من ردة فعل النظام.. مازال يملك أدوات وسلطة القوة.. لكن ما رأيته أقنعني بشيء وحيد وهو الذي كنت أبحث عنه، أنهم طلقوا الخوف.. لم يعد بعبع النظام يرعب الشباب.. أجمل ما في ثورة مصر أنها بلا قيادة.. هذا يدل أن الأزمة كانت ليست أزمة نظام فقط بل نظام ومعارضة.. كما ترى أحزاب المعارضة تريد اللحاق بالشعب دونما جدوى.. حتى الإخوان المسلمين بدوا تجمعات معزولة ضائعة في لجة طوفان الشعب.. مبروك أخي.. وكلي أمل أن تنجح مصر هذه المرة. وإلى لقاء في مصر جديدة.. أتمنى لك السلامة مثلما أتمناها لكل مصري مشارك في المظاهرات».

ومن العجلة، رددت عليه بكلمتين:

ـ «اطمئن علينا».

عدت إلى شارع 26 يوليو، كان مبذورا بقطع الحجارة، وحريقان أشعلتهما رصاصات الشرطة، أولهما أعلى محل تجاري في بداية شارع طلعت حرب على ناصية ممر يفضي إلى شارع شريف، وهي منطقة غير محررة، تقع في قبضة الشرطة، والحريق الثاني بالطابق الثالث في بناية سكنية، في شارع 26 يوليو، حيث وقفت سيارة مطافئ خالية من المياه، ورجال المطافئ حيارى، وكأن مرفق المطافئ لا يعرف أن في البلد ثورة منذ أربعة أيام. ساعدناهم في توصيل خرطوم من مصدر للمياه في الشارع، والحريق يزداد اشتعالا، ولا قدرة للمتظاهرين على إطفائه. أما الحريق الأول، فكان محدودا في البداية، ويهدد بكارثة لو استمر، وبدأ سكان في البناية المقابلة يلقون المياه على النيران، وحذرهم ضابط ومواطنون، لأن الحريق بجوار أجهزة تكييف، ومن السهل حدوث تماس كهربائي يزيد الخطر، وجاءوا بسيارة شرطة، وأمدهم موظف في محل الأمريكين بطفاية حريق، ولكن الجندي فوق السيارة لم يتمكن من الإطفاء، وقدرت أن هؤلاء مدربون على القتل وإشعال الحرائق. سحبوا سيارتهم المخصصة لقتل الشباب، وذهبوا بعيدا، ونسوا سلما يؤدي إلى ألسنة النيران، وجاء شاب كان متظاهرا قبل قليل، وفي وجود مكثف للشرطة التزم الصمت، وصعد السلم وأطفأ الحريق بقدميه، وأزاح كومة من الكارتون المشتعل، والناس مشفقون عليه، ويحذرونه:

ـ «حاسب يا كابتن تتكهرب».

لم يخجلوا من ترك نيران أشعلوها، ثم بدأت مطاردتهم لنا، على الجانب غير المحرر من شارع 26 يوليو. في الشوارع الجانبية يسهل الاختباء، ولكنهم أرسلوا وراءنا قنابل الدخان، حتى بلغنا سينما كايرو. هذا مكان أحبه، وحرمتني انشغالات لا تنتهي أن أمشي فيه منذ زمن، هنا يتسكع العشاق، ويأكلون الحواوشي، ثم يدخلون السينما، أو يجلسون على مقاعد خشبية في شارع الألفي، المخصص للمشاة، ويمنع مرور السيارات. بعض المقاعد منتزعة، استخدمها الثوار مصدات وعوائق تمنع سيارات الشرطة أن تستبيح المدينة. كانت واجهة السينما تحمل ملصق فيلم (365 يوم سعادة)، ابتسمت للمفارقة، وتساءلت عن سوء طالع هذا الفيلم: أي سعادة والناس مهددون اليوم بالقتل؟ ولمحت في طرف الملصق صورة شاب رأيته في مسلسلات تلفزيونية وبعض الأفلام، منها فيلم (الثلاثة يحبونها)، وتذكرت موظفا بوزارة الداخلية، ربما يكون منصبه مدير الشؤون المالية، اسمه نبيل خلف، شاعر عامية يكتب كلاما موزونا يقول إنه شعر، عن الأطباق الطائرة، وتلوث الهواء، وثقب الأوزون، والاحتباس الحراري، وتآكل الشواطئ، ومعاناة الأقزام، والتسلح النووي، وصراع القوى الكبرى، وحوار الحضارات. كان قد دعاني لمسرحية (كوكب ميكي)، من تأليفه وأشعاره وإنتاجه، وتمثيل ابنه شادي خلف وابنته رنا نبيل، وذهبت بصحبة ابنتي سلمى، وكانت دون السادسة. سألني بعد انتهاء العرض عن رأيي، وابتسمت، فلا أريد إحراجه وأقول إن المسرحية ينقصها شيء ما، أو أشياء، لعلها الروح، تنقصها مسرحية. وسأل سلمى: «ايه رأيك؟»، فقالت: «حلوة يا عمو»، وهو صدق نفسه، وفرح بكلام ابنتي وقال: «يكفيني رأيها»، وأعطاني أعماله الكاملة، وهي ذنب لو تعلمون عظيم، تخففت من وطأته يوم انتقلت إلى شقة جديدة، وتركت المجلدات الثلاثة فخمة الطباعة، يتيمة في مكتبة مثبتة أرففها في الحائط. ظننتني نجوت من لعنة الأعمال الكاملة، ثم فوجئت بالعمال قد أحضروها ظنا منهم أنني نسيتها!

تجاوزت السينما إلى شارع الألفي. كان أكثر هدوءا، وأصحاب محال الحلوى يقفون متحفزين، يغلقون الأبواب إلا قليلا، وينظرو عن اليمين وعن الشمال، ولا يمنعون أن يستأذنهم أحد في إجراء مكالمة من التليفون الأرضي بالداخل. لم يكن بوسعهم أن يفعلوا أكثر من ذلك، مشاركة بالصمت، ومساعدة المتظاهرين على طمأنة ذويهم. في العودة إلى شارع 26 يوليو، تأملت صورة الشاب في طرف ملصق فيلم (365 يوم سعادة)، هو نفسه، ثم نشرت صحيفة الأهرام، يوم 24 / 2 / 2011، تقريرا عن غسل أموال حبيب العادلي، وفساد وزارة الداخلية تناولت فيه مشاركة «نبيل خلف للبناني محمد ياسين في شركة لبنانية لإنتاج الأفلام والأغاني (التي يؤلفها نبيل خلف) وبعد إنتاج الأعمال الفنية بأموال حبيب العادلي ونبيل خلف كانت الدولارات تحول إلى لبنان عن طريق صاحب الشركة اللبناني، حيث يحتفظ بجزء من هذه الأموال في بيروت ويحول الباقي إلى حساب خاص باسم العادلي في سويسرا». وتحت عنوان (هل يغسل العادلي أمواله في السينما؟) قالت صحيفة (الوفد) إن خلف مؤلف الأغاني يلعب دور الوسيط بين وزير الداخلية والمنتجين، في إنتاج «أفلام تنبعث منها رائحة رائحة مساحيق الغسيل، لزوم غسيل الأموال». (10 / 3 / 2011)، ثم تابعت (الوفد) القضية تحت عنواني:

سر علاقة الإنتاج الفني بوزارة حبيب العادلي

موظف بالداخلية يؤلف أغاني بـ 45 مليون جنيه وابنه يؤسس شركة في لبنان

وعلى مسؤولية الصحيفة، فإن شادي نبيل سليمان سليمان خلف امتلك 30 بالمئة من أسهم شركة للإنتاج الفني في لبنان، في 20 / 8 / 2008، ثم أصبح في 10 / 2 / 2009، يمتلك 50 بالمئة من أسهم الشركة. (7 / 4 / 2011).

تركت ملصق الفيلم، وقد خلت المنطقة من رائحة الشواء المحببة، وكانت البشرى تأتي من الإسكندرية.

في الثورات يكون للخبر أو الشائعة دور بارز في رفع الروح المعنوية للمقاتل، والإحباط والقتل المعنوي لمن لا قضية له، أو يكتشف أنه غرر به. كنا محاصرين في مسافة محدودة، بين ميدان عرابي ونهاية شارع التوفيقية وشارع 26 يوليو، وفوق الرصيف تناثرت قطع الزجاج، ومن التعب حاولت الاستناد إلى واجهة محل للملابس، فمنعتني يد رجل كبير السن، كان يحرس المحل بمعاونة شابين من المتظاهرين، وقال إن رصاص الشرطة دمر واجهة المحل، ولا أحد حاول أن يسرق، وهم يتطوعون للحراسة، حتى يأتي صاحبه. لم نسمع طلقات رصاص أخرى، لعل الرصاصات التي دمرت الواجهة الزجاجية للمحل كانت آخر ما لديهم، نفدت الذخيرة، وبقيت المواجهة بالأجساد والعصي. في هذه اللحظة، صاح ثائر، وهو يشق الزحام، قادما من ميدان عرابي، وجاء بالبشرى:

ـ الشرطة في إسكندرية انضمت للمتظاهرين.

لم يكن يعنينا أن نتحرى. رددنا الكلام فرحين، وسمعه الضباط والجنود، فتراجعوا عن إلقاء القنابل والهجوم بالعصي. لموا أنفسهم، ولزموا أماكنهم في الساحة المحيطة بدار القضاء العالي، وفي الوقت نفسه، ظلوا يمنعوننا أن نخرج، كان لديهم بقايا قوة تواصل فرض الحصار، لكي لا نتجه إلى نقابتي المحامين والصحفيين، وحوصرنا مرة أخرى في ميدان عرابي ومنطقة التوفيقية، لا يفضل بيننا وبين الجنود إلا دروع لا يستخدمونها، ومال بعضنا إلى جنود وقبلوهم، وسألت أحدهم كم بقي له في خدمته؟ قال: 25 يوما. وظننت المواجهة ستطول فقلت له: وتقف في هذه الجهة؟ وأشرت إلينا، وهو قال بتلقائية: «أروح بلدي في الصعيد».

وقف ضباط صغار السن صامتين أحيانا، ومتوسلين ألا يتحرش أحدنا بالجنود، وكانت عيونهم زائغة، اختفى قادتهم، ولا قدرة لهم على التصرف، والشمس تغيب، والليل يبتلعهم، هم والجنود، والثوار الذين بدأ كثير منهم بعد الظهر في كامل لياقتهم، طبقا للخبرة التونسية، ولديهم استعداد للمواصلة حتى الصباح، وكان الجنود منهكين، والضباط الصغار يواصلون التوسل، وحين يضيق أحدنا، ويشتد غضبه، يذكره زملاؤه بالصيحة ذات السحر «سلمية سلمية»، وهو شعار يستجيب له دائما الثوار المتحمسون فيكبح غضبهم، ولا يجدي كثيرا مع وحشية الشرطة، ولا يعترفون به، وإن كانوا هم المستفيدين به، حين صاح أحدنا:

ـ الجيش نزل، الجيش نزل، والشرطة انسحبت.

أزاغت المفاجأة أعين الضباط الصغار، تخلى عنهم رؤساهم، وحميناهم بدائرة بشرية تحول دون انتقام الغاضبين، وتتعالى صيحة «سلمية سلمية»، وكانت سيارتان تحترقان، إحداهما مصفحة عند دار القضاء العالي، والأخرى بالقرب من نادي القضاة في شارع شامبليون.

تحررت شوارع وسط المدينة من قبضة الشرطة. مضينا نحو ميدان طلعت حرب، غير خائفين ولا ضائقين ببقايا آثار الغاز المسيل للدموع. الساعة السابعة إلا عشر دقائق، كان الميدان مزدحما بمن لجأوا إليه من الشوارع المحيطة. يصنع رصيف مكتبة مدبولي هلالا في دائرة الميدان، في أوقات سابقة، قبل صعود ثورة 25 يناير، كنا نحلم بالتظاهر بأمان في هذه المساحة الصغيرة، من دون أن تناوشنا الشرطة، والميدان كله الآن لنا، خال من أي أثر للشرطة، فيما عدا «كاب» ضابط، أو درع جندي، ولا فوضى ولا تخريب.

أقبلت سيدة جميلة بصحبة فتاتين وشاب. جمعوا في كيس من البلاستيك أي مخلفات من أوراق أو قطع حجارة، ثم عادت ومعها برتقالات تعطيها لمتظاهرين جفت حلوقهم من الهتاف والعطش والجوع، وأعطتني واحدة، ولم أكن أشعر بجوع ولا عطش، ومددتها إلى سحر الموجي فقالت إنها لا تشعر بالحاجة إلى تناول أي شيء. وتحت تمثال طلعت حرب تربع شاب، قال إنه طالب في كلية الحقوق بجامعة القاهرة، وسألني عما إذا كان امتحان الغد سيعقد، هو لم يستعد، ثم إنه لن يغادر الميدان، لا يريد ولا يستطيع، لإصابته بإعياء شديد، وقلق على نصر لم يكتمل، وتذكرت الضابط الذي أوصلته إلى الجامعة بسيارتي فجر الثلاثاء 25 يناير، وقلت إنهم أغبياء ولكن ليس لدرجة أن يفتحوا الجامعة غدا السبت. لم أر هذا الطالب بعد ذلك، ولعلي رأيته كل يوم في الميدان ولم يعرف أحدنا الآخر، وربما اقتسمنا رغيفا أو كوب ماء. كنت أريد أن أقول له مزحة تلقيتها بالإيميل «في اجازة نص السنة خلعنا مبارك، و3 حكومات، وغيرنا النظام، والجيش نزل، والأمن ضربنا بالرصاص، وهاجمنا البلطجية، وحرقنا سيارات الأمن وأقسام الشرطة، وتصورنا مع الدبابات. طيب هنعمل ايه في الاجازة الكبيرة؟؟».

اختفى الشاب، وجاء محمد عبلة تسبقه ابتسامة النصر، واقترح أن يلتقط لي صورة في الميدان، ولست خبيرا بالتصوير، وهو أشار إلى وسط الميدان، وقال: «صورة مع هذا الرجل العظيم»، يقصد طلعت حرب، التقط لي صورة في الساعة السابعة تماما، وهي الصورة الوحيدة التي التقطت لي طوال أيام الثورة، إذ لم أفكر في مثل هذا الأمر، ولا دعوت أولادي للميدان، إلا بعد ساعات من خلع مبارك. لم يطبع محمد عبلة صورتي الوحيدة طوال أيام الثورة، ولا أرسلها إلي بالبريد الإلكتروني، ثم قابلته في ميدان التحرير عصر الثلاثاء 12 / 4 / 2011، ساعة فتح الميدان بعد إغلاقه أربعة أيام. كان يحتفظ بصفاء ابتسامته القديمة، وقال:

«لا تقلق، صورتك عندي».

منعني الحصار في وسط البلد، أن أشهد معارك أخرى، دارت على الحدود الأخرى لميدان التحرير، وبخاصة فوق جسر قصر النيل. حتى حلول الظلام. استمرت الحرب بين ميداني طلعت حرب والتحرير، لا نحن قادرون على اقتحام ميدان التحرير، ولا الشرطة تجرؤ على التقدم إلى طلعت حرب، وتكتفي بإرسال زخات من قنابل الغاز إلينا، وتفاءلنا بأخبار عن اقتراب القوات المسلحة، وأيقنا أنها النهاية، نهاية نظام يحميه بلطجية رسميون ينتسبون إلى «جهاز»، أما الجيش فهو جيش الوطن، لا جيش النظام ولا الحزب.

استبسلت الشرطة في معركتها الأخيرة، والدفاع عن الحصن الأخير، ميدان التحرير، ومنع أي مغامر يحاول اقتحامه، ونحن نراهن على الوقت، وننتظر قوات الجيش لتحمينا من الشرطة، وتسمح لنا بتحرير الميدان الأكبر في العاصمة، هنا مفترق الطرق، وتقاطع سبل الحياة. تطل على الميدان فنادق كبرى، والمتحف المصري، والجامعة الأمريكية، وجامعة الدول العربية، ووزارة الخارجية القديمة، ومجلسا الشعب والشورى، ومجلس الوزراء، ومجمع التحرير رمز البيروقراطية المصرية.

من يحتل ميدان التحرير يقبض على عنق البلد، ويتحكم في إيقاع الحياة. لا يملك النظام الحاكم إلا السيطرة على هذا الإيقاع، وإذا فقده، ستكون بداية النهاية. ظننت الشرطة استنفدت مخزونها من القنابل المسيلة للدموع، واكتفت بالهزيمة والانسحاب المريب، ثم فوجئت مساء الأحد 15 / 5 / 2011 بأن لديها رصيدا آخر. قبيل منتصف الليل قيل إن متظاهرين حاولوا اقتحام السفارة الإسرائيلية، وقلت لمصطفى عبادة إن لدي رغبة في الذهاب، وكانت أم كلثوم تغني (ليلة حب)، وفي أول جسر الجامعة من ناحية حي المنيل نصحنا شباب تطوعوا في لجان شعبية بالرجوع: «ضرب النار شغال»، لجان شعبية تشكلت تلقائيا من شباب في مطلع العشرينيات، لحماية المواطنين وتنظيم المرور في غياب الشرطة، وانحرفت بالسيارة يسارا إلى جسر عباس، ثم عبرنا النيل، ووقفنا في شارع الجيزة، ومشينا باتجاه جسر الجامعة من ناحية تمثال نهضة مصر، وكان علم إسرائيل يرفرف فوق بناية تطل على النيل. لم يحتمل مصطفى رائحة الغاز، وخفت أن يغشى عليه، رجوته أن يعود إلى السيارة، وانتظرت نهاية معركة لا أشارك فيها، وأفسدوا علي فرحتي بنبيل العربي الذي اختير قبل ساعات أمينا عاما للجامعة العربية. كنا قد أصبحنا في الساعة الأولى من يوم الاثنين 16 مايو، فجر يجمع ملامح (جمعة الغضب) حيث التراشق الحجارة والقنابل و(موقعة الجمل) حيث يوجد الجيش في المشهد ولا يوجد، وتمثال محمود مختار يختنق معنا بقنابل الغاز المسيل للدموع، ولا تملك الفلاحة أن تمد يدها إلينا بمنديل لنبلله بالخل المتوفر في أيدي الشباب. التقطت قنبلة وهي ساخنة، تنفث دخانها الأخير، وقد كتب أنها صنعت في الولايات المتحدة الأمريكية، وتاريخ الإنتاج أغسطس 2010، وتاريخ انتهاء الصلاحية أغسطس 2015، أما المصنع لمن يريد أن يراسله فهو موجود في 338 طريق كينسمان، جيمس تاون.

عدت من شارع قصر النيل. كنت قد تعبت، ورأيت أن أتناول بعض النسكافيه، وأتواصل مع العالم الذي انقطعت عنا أخباره، أخبارنا، وكان صفان من جنود الشرطة المنهكين يفترشون رصيف شارع قصر النيل. قدمت لأحدهم برتقالة السيدة الجميلة، وكان جائعا ممصوصا مصفر الوجه، وتردد فشجعه زميل له على الرصيف الآخر أن يأخذ البرتقالة، وكان أحد عناصر الشرطة قادما يحمل طبق حلوى من محل في الشارع، لا أدري هل أخذوها عنوة على رغم أنف صاحب المحل، أو هدية منه رحمة بجنود جياع. سألته هل هي للشرطة أم للشعب فيها نصيب، وهو ابتسم، فاجأه الاجتراء على السؤال، أو روح المصالحة والتسامح بعد يوم دام. اعتبرت الابتسامة موافقة، ومددت يدي، والتقطت بإصبعي واحدة.

كان جابر عصفور يتحدث إلى التلفزيون الرسمي، اتصلوا به أم بادر إلى الاتصال، لا يعنيني، سمعت صوته فاقتربت من التلفزيون، هذه نبرة صوته حين يميل لإخراج بعض الحروف من أنفه، ويتخذ هيئة الحكيم، وهو الآن ينتقد الحكومة ويشدد على فشل سياساتها، وكيف أدت إلى هذا الاحتقان، هو مثلنا يعلم أن رئيس الحكومة أحمد نظيف رجل طيب، قال حين فوجئ بالمنصب، قبل ست سنوات، إنه لا علاقة له بالسياسة، ومواهبه تقنية لا تؤهله إلا لإدارة مركز اتصالات (سنترال)، أما قضايا السياسة فيعلم عصفور أنها بيد مبارك الكبير الذي كان في حضرته يوم 30 / 9 / 2010، وفي يد مبارك الصغير الذي استجاب لاستدعائه مع آخرين، قبل دعوة الأب، وفي يد الأم سوزان التي يعمل معها في المجلس القومي للمرأة.

رأى عصفور النار تشتعل في أجسادنا، واكتفى بإسدال ستار، وتجاهل الدخان. انتقد أداء الحكومة، ولم يجرؤ على قول كلمة حق يؤيد بها الثوار. لم يتحدث عن عدالة مطالبهم، ولم ينتقد وحشية جهاز الشرطة، والخيانة المتمثلة في سحب عناصرها، وترك البلد للبلطجية. قال كلاما عاما، على رأي طه حسين «كلام كالكلام»، أقرب إلى البلطجة الناعمة. وعلى الفور، كتبت في صفحتي على الفيسبوك:

«جابر عصفور يمتلك جرأة بأثر رجعي، ويتحدث في التلفزيون المصري بشجاعة إمساك العصا من المنتصف، بما يليق بخادم سيدتين.. جيهان السادات وسوزان مبارك».

لم ينتقد عصفور الدولة البوليسية، أو قمع المتظاهرين المسالمين بوحشية، ولا قال إن هؤلاء ثوار نبلاء. هو يعلم أن النظام بيده مقاليد كل شيء، فلم يقترب من الرئيس ولا من ابنه، ومن الحزب الحاكم، وكنت مستفزا من الشجاعة في غير موضعها، حتى الحكومة لم أعهده منتقدا لها، لكنها الآن حلقة ضعيفة يسهل التضحية بها من أجل إطالة عمر الحاكم والنظام، طرف ضعيف يمكن أن تصوب إليه السهام، ولن يشكو الميت. عصفور اعتاد أن يصوب طلقاته إلى أي طرف بعد انتهاء المعركة، وخروجه من الحلبة. بعد خلع مبارك، وحين تأكدت له نهاية الحزب الحاكم، أطلق سهامه على الموتى، ومثل بالجثث، معلنا التنبؤ بالثورة بعد نجاحها، بسبب (ما فعله الحزب الوطني بمصر) من «إفساد الحياة السياسية باحتكار السلطة». وهممت أن أتصل به، وأقول له: «اتق الله ولو بثورة، لتقل خيرا أو لتصمت»، ولكن الإعلان عن خطاب للرئيس شغلني عن عصفور، ثم إنني أعرف غرام عصفور بالسلطة، وما يقرب إليها من قول أو عمل، وكلامي لن يجد في نفسه هوى.

قبيل خطاب مبارك جاءتني بشارة فيسبوكية عنوانها (مشهد يهوس من تونس)، أرسلها أشرف الصباغ، من مكان ما غير خاضع لسلطة مبارك، ولم يقطع فيه نظام مبارك الاتصالات، لعل كان في موسكو، ولكن الرسالة النبوءة طمأنتني، وأسفت لأن الاتصالات غير متاحة في مصر، لكي يشاهد الثوار مقطع فيديو لا يزيد على 36 ثانية، وفيه يحتفل تونسيون بنجاح ثورتهم، رافعين العلم المصري إلى جوار العلم التونسي!

أدرك التونسيون بوعيهم أن في مصر ثورة تسعى، في حين لا يريد مسؤول مصري، بعد أربعة أيام أوغل فيها نظام مبارك في الدم، أن ينتبه إلى أن هناك شعبا يستحق شيئا أكبر من اللا مبالاة، كأن الجريمة تمس شعبا آخر، وقدرت أن مبارك الرجل العجوز أصيب بغيبوبة، وحين أفاق أخفوا عنه خبرا يشغل كل الفضائيات العربية والأجنبية، وقلت إنهم أخفوا عنه الريموت كونترول، وثبتوا الشاشة على قناة مصرية يديرها وزيره مندوب المبيعات.

جاء خطاب مبارك نكتة باردة، مهينة تستخف بتضحيات الثوار. رفعت الثورة حرارة البلاد إلى درجة الغليان، ولكن الخطاب الرتيب، الذي سمعنا مثله طوال 30 عاما، كان في درجة الصفر، ثم إنه خلا من «فهمتكم»، الكلمة التي لم نكن ننتظر غيرها. أشفقت على الرجل الذي تكلم كثيرا ولم يقل شيئا، بدا مجبرا وقد جيء به من تابوت، محنطا يلقي كلمات تثقل عمره المثقل بلمسات المكياج.

أمسى التلفزيون الرسمي نافذة تتسول كلاما فارغا يجيده أو لا يجيده عجزة ومريدون من إعلاميين ومثقفين وعابري كورنيش النيل، وتحدث جابر عصفور، وقد تهيأ للتوزير، قائلا إنه مطمئن على الوطن في ظل الرئيس، ولكن الحكومة أخطأت «وخطاب السيد الرئيس فيه إيجابيات ينبغي أن يرد عليها الشباب بإيجابيات».

انتظرت أن يقول مبارك: «فهمتكم» وينتهي الأمر فنستريح، نحن الشعب، والجيش جيشنا، أما البوليس الذي يخصه فانسحب. لم يقل إنه فهمنا، بل اتبع سياسة النفس الطويل، والملل البيروقراطي الذي سيواجهه الثوار، في ميدان التحرير، بلافتات مستعارة من صلاح جاهين بصوت سعاد حسني: «أكلمه بحرارة.. يرد بالقطارة».

لولا عناد مبارك، وانتهاجه سياسة الملل، لفقدت الثورة كثيرا من روعتها. جاء خطاب مبارك مساء جمعة الغضب مؤكدا فرق التوقيت، فاصل الذكاء والزمن، بينه وبين الثوار، في البداية مال إلى مهادنة «المتظاهرين»، ثم قال «إن خيطا رفيعا يفصل بين الحرية والفوضى»، ثم أخيرا «طلبت من الحكومة التقدم باستقالتها». لم يفهمنا الرئيس، أو فهم ثم أراد استغفالنا. لم نخرج من أجل تغيير حكومة ليس لها صلاحيات، ولن يكون لغيرها. وفي اليوم التالي، كالعادة، تصف (الأهرام المسائي) الحكومية الخطاب بالتاريخي، وتخصص صفحة عنوانها (ترحيب شعبي واسع بخطاب مبارك)، وصفحتين تحت عنوان (يوم الغضب يسلم البلد إلى اللصوص)، وجاء في الصفحة الأولى عنوان «ما حدث في المظاهرات يتجاوز النهب والفوضى والحرائق لمخطط أبعد منذ ذلك لزعزعة الاستقرار والانقضاض على الشرعية».

تجاهل مبارك أي ذكر للشهداء. لم يقدم اعتذارا، ولا أعلن مسؤوليته عن الجريمة، أو تشكيل لجنة تحقيق. وسوف يسجل تقرير للمنظمة العربية لحقوق الإنسان ومجلس حقوق الإنسان مسؤولية مبارك وحبيب العادلي عن قتل الثوار إذ صدرت أوامر عليا «بإطلاق الرصاص الحي على المتظاهرين»، ومسؤولية برلمانيين كبار عن تجنيد وتمويل بلطجية، إضافة إلى «وجود تنظيم سري شبه عسكري للقيام بأعمال البلطجة»، وقد استشهد المئات وجرح الآلاف، وتم تخريب العشرات من مراكز ونقاط الشرطة والسجون، وفرار آلاف السجناء.

عدت إلى ميدان التحرير، كانت الشوارع مزدحمة بالناس، سواء الذين شاركوا في المظاهرات منذ الصباح، والذين أسعدهم النصر بتحرير المدينة، وأرادوا مشاركة الثوار فرحتهم. مررت بدار ميريت، كان أحمد زغلول الشيطي بعيدا في مواجهة الداخل، وعلى الجانبين شباب منهكون، بين نائم ونصف مستيقظ. لمحت بينهم شخصا يبتسم ويناديني، في وجهه ملامح المخبرين السريين وضباط البوليس، لا يضحك للعيش السخن، وأتجنب الكلام معه في (الأهرام المسائي)، ولو بإلقاء تحية المساء، فنحن مسائيون. لا أحب الذين يعملون مع أجهزة الأمن، ويحصون على الآخرين أنفاسهم، ولا تدري أين تتجه ولاءاتهم، وهل يكتبون للناس؟ أم عن الناس؟ لم أبادله الابتسام، ولا رددت حفاوة يشتري بها صمتي عن طبيعة مهامه إلا بإيماءة فاترة.

لم تكن الثورة قد غسلتني بعد، وصالحتني على صنوف البشر.

خرجت وفي يدي الشيطي. سألته كيف يسمح محمد هاشم لمثل هؤلاء بالدخول والبقاء، وربما المبيت، للتلصص على الشرفاء؟ «بلغه أن يحذر هذا الشخص البغيض، وأن يسأل عنه محمد شعير»، وقال إن هاشم في الميدان، وكانت النيران تجوب غرف مبنى الحزب الوطني، وتصعد السلم أو تتسلل لأعلى من النوافذ، وتقتات الوثائق، وأشعل غاضبون النيران في سيارة صغيرة للشرطة، عند سور المتحف المصري، ثم في مصفحة للشرطة. قلت لإسلام عبد المعطي: ما الداعي لهذا؟ هذه السيارات ملك للشعب، سنشتري بدلا منها بأموالنا. قال إن الدلالة مهمة، إبداء القوة، والقدرة على المواجهة، وأموالنا منهوبة بإحراق هذه السيارات أو من دون إحراقها، وهذا ثمن يجب أن تدفعه الثورة.

أشار إسلام إلى مصفحة للجيش، ناقلة جنود برمائية أعرفها وركبتها كثيرا وأنا مجند في سيناء عام 1990، وقال إن فيها معتقلين من جنود الجيش. المصفحة تجاوزت سور المتحف والشارع الجانبي المفضي إلى بوابته، وتوغلت في الميدان بعمق بضعة أمتار. لم يطمئن الثوار، وقال أحدهم إن هذه المدرعة من الحرس الجمهوري، وخشوا أن تكون فيها أسلحة وذخائر للشرطة، وسألوهم عن وجهتهم، فقال الجنود إنهم يؤمنون المتحف، ولكنهم تجاوزوه. وبسرعة استولى الثوار على المدرعة، وصارت سجنا للجنود. رأيت ضابطا شابا، زاده الليل نحولا، مثل ثوار يقفون بجواره فوق المدرعة، قال إنه «ملازم أول جيش»، وناشد الثوار أن يحرروا المحبوسين «في الدبابة»، لأنهم جنود في الجيش، لا الشرطة، هم إخوتكم، وجاءوا لتأمينكم. صفقنا له، وأفرج عن الجنود، وكانت النيران قد أتت على السيارتين. وعلت صيحة «الجيش والشعب إيد واحدة»، ثم أصبحت شعارا يلطف النفوس، كلما حاول أحد المتحمسين أو المندسين الوقيعة بين الجيش والثوار.

تضاعفت ثقة الثوار، إذ كسروا قرار حظر التجول، وتجولوا في الشوارع، وتدفق غيرهم على الميدان، واقترحت الذهاب إلى مبنى التلفزيون على النيل، مرورا بمبنى الحزب الوطني المشتعل، ولم يشجعني إسلام عبد المعطي ولا أشرف راضي، ومشيت خطوات باتجاه بوابة المتحف، وغابا عني في تلك الليلة، ولا توجد تغطية لشبكات التليفون المحمول. كنت قلقا، أريد الاطمئنان على أن أحدا لم يقترب من المتحف، ورأيت حديقته خالية تماما، لم يتسلل لص أو يحاول القفز من فوق السور، وتطوع العشرات من الشباب للوقوف في صفين أمام بوابة المتحف المواجهة لميدان عبد المنعم رياض، وهي بوابة لم أرها مفتوحة من قبل، وتطوع آخرون وأغلقوا الشارع المؤدي للبوابة الكبرى المطلة على ميدان التحرير، أغلقوا الشارع بأجسادهم وبحاجز حديدي، وأبرزت بطاقتي اتحاد الكتاب ونقابة الصحفيين، لكي يسمحوا لي ببلوغ البوابة، وهم أحسوا بالحرج، لو سمحوا لي فلن يغلق باب الطلب للوصول إلى البوابة، للاطمئنان أيضا. وفي الساعة الثانية من فجر السبت وصل طلائع الدبابات وسيارات الجيش تحمل الجنود، ودخلت سيارة حديقة المتحف، وعسكر الجنود، وسدت الدبابات أي باب إلى السرقة أو التخريب.

في صباح اليوم التالي (السبت 29 يناير)، بثت القنوات الفضائية مشاهد تدمير وسرقة قطع منها مقتنيات من جناح توت عنخ آمون، ولكن «الأمين العام» للمجلس الأعلى للآثار زاهي حواس نفى عملية السرقة أو الاقتحام الذي تعاد على العالم مشاهده التلفزيونية، وصرخت فيمن حولي نافيا أن يكون لص أو مهرب آثار قد اقتحم المتحف مساء جمعة الغضب، الشباب كانوا شجعانا، وبنوا سدودا منيعة، إلى أن وصل الجيش في الثانية فجرا، وقلت لأصدقائي إن السرقة تمت صباح السبت، على أيدي لصوص محترفين من الداخل، يعرفون جيدا قيمة القطع الصغيرة وأماكن عرضها. وسوف تتضارب تصريحات حواس الذي أصبح وزير دولة لشؤون (شجون) الآثار، ففي يوم 13 / 2 / 2011 يقول إن «بعض المخربين تمكنوا من دخول المتحف يوم 28 يناير»، وفقدت ثماني قطع، ثم يقول حواس نفسه يوم 3 / 3 / 2011، في يومه الأخير بالوزارة في حكومة أحمد شفيق، إن التقرير المبدئي يسجل اختفاء ثماني قطع، استعيد منها أربع. وأعلن المتحف المصري في تقرير رسمي يوم 15 / 3 / 2011، عن سرقة 54 قطعة في (جمعة الغضب)، معظمها تماثيل صغيرة.

ولما أعيد تعيين حواس وزير دولة لشؤون الآثار يوم 30 / 3 / 2011، انتقد كثيرون هذه العودة، ورآها البعض التفافا على مبادئ الثورة، حتى إن خبير صيانة الآثار هاني حنا عزيز عضو جبهة دعم الثورة قال إن حواس «آخر شخص يصلح في مرحلة ما بعد الثورة لتولي هذا المنصب»، واتهمه بالإهمال في القيام بمهام وظيفته، وتضليل الشعب، «حيث يكفي التصرف الفاسد الذي قام به ، عندما أعلن سيادته يوم 29 يناير 2011، والمخالفة للحقيقة أن المتحف المصري في القاهرة لم يتعرض للسرقة»، وأضاع فرصة البحث السريع عن القطع المفقودة. ("العربي" 3 / 4 / 2011).

غادرت الميدان. لا أطول ولا أشق من (جمعة الغضب) إلا يوم خلع مبارك (11 فبراير). تركت ورائي البهجة في ميدان التحرير وشوارع وسط البلد التي لم تمسها يد عابث، لأقطع الطريق سيرا على قدمي، من جسر قصر النيل إلى جسر الجلاء إلى شارع التحرير إلى جامعة القاهرة، أمامي وخلفي عائدون من ميدان التحرير، تنقص أعدادهم كلما طالت المسافة. يثقل أجسادهم تعب، وتحمل أرواحهم نشوة الظفر. من وقت لآخر أسمع قدوم سيارات من الخلف، ولا قدرة لي على الالتفات. كان أصحابها يدعون المشاة للركوب معهم. روح جديدة ولدت في ساعات؛ فلا تكاد تقف على جانب الطريق، ومن دون أن تشير إلى صاحب سيارة، إلا وهو يتمهل ويعتذر لأن معه ما يكفي من المتظاهرين. مرت ساعة من السير، وبلغت جامعة القاهرة، واسترحت قليلا، فإذا بسيارة فيها ثلاثة من الشباب، وقفوا وركبت، ثم سألتهم:

ـ «فيصل؟».

ـ «ينفع الهرم؟».

ـ «طبعا ينفع».

صعدوا الجسر وهبطوا شارع فيصل. تحدثوا عن تخريب شركات ومحال تجارية في حي المهندسين الذي يفصله شارع السودان عن أحياء فقيرة في منطقتي أرض اللواء وبولاق الدكرور. رأيت محال شارع فيصل على حالها، كما تركتها في الصباح، بما فيها محل للخمور، وقالوا إن التخريب طال بعض المحال التجارية والملاهي في شارع الهرم.

مال الشاب يسارا إلى شارع الهرم. كانت واجهات الملاهي محطمة، ورأيت امرأة وصبيا يقفان على الرصيف، بجوار ثلاثة كراسي، وهي تميل برقبتها إلى بعيد تنتظر توك توك، وكانت سيارة أجرة تحمل مائدة مقلوبة، يتمهل سائقها حسب طلب الراكب، وقد ربطها ولم يطمئن إلى ثباتها، وتأرجح أرجلها الأربع في الهواء، وأخرج يده من النافذة وأمسك بطرفها، ثم توقفت السيارة قبل الوصول إلى شارع العريش.

على ناصية شارع العريش تشكلت أول لجنة شعبية. كان خلق كثيرون يقفون على جانبي الشارع، مسلحين بسكاكين وعصي، وأغلقوا الطريق، وتركوا حارة تسمح بمرور سيارة واحدة، وعلى الرصيف بعض المنهوبات المستردة، إذ يفتشون السيارة، بحثا عن أي مسروقات، ويتفحصون بطاقة السائق ورخصة السيارة، ويسألونه عن هوية من معه. وقلت في نفسي: «بدأت الثورة المضادة مبكرا، ونظم المخربون أنفسهم تلقائيا حين نجحت ثورتنا السلمية». وسوف يعترض مصطفى عبادة على هذا مصطلح «الثورة المضادة»، ويطالبني بالبحث عن مصطلح آخر؛ فالثورة فعل إيجابي نبيل، يخطط له وينفذه ويموت في سبيله الشرفاء، أما الذين يعمدون إلى إفساد الثورة وتشويهها بعمليات تخريب، منظمة أو عشوائية، فليسوا ثوارا. قلت ليكن المصطلح هو «القوى المضادة للثورة».

فتحت الباب، ونزعت ثيابي المشبعة بعرق وغبار وبقايا بارود وغاز مسيل للدموع، ونقعت نفسي في ماء دافئ، وأخذتني غفوة، وأفقت وأنا أتساءل: هل نجحنا حقا؟ وحين فتحت التلفزيون جاءني صراخ عبد الله كمال الهستيري:

ـ هذه ليست جمعة الغضب، هي جمعة الفوضى والتخريب.

أغلقت التلفزيون، وتركت عبد الله كمال وحيدا في ظلام الصندوق، وأسلمت نفسي إلى النوم.

السبت 29 يناير.. الشرعية للشارع

«صباحية الثورة»، هكذا سميتها، و«الصباحية» في مصر مصطلح يعني الصباح التالي لليلة العرس، وأمس الجمعة كان عرس ثورتنا المصرية، وفي حالات الفرح المفاجئ نحتاج إلى من يؤكد لنا صحة ما صرنا إليه، وما أنجزناه، ولم يكن أمامي حين استيقظت إلا التلفزيون المصري. وقبل أن تظهر الصورة، انفجر صوت التلفزيون هادرا يعلن عن مخطط أجنبي لضرب أمن مصر، ووجود قلة تندس بين الجماهير لتنفيذ سيناريو يبدأ بإثارة الفوضى، تمهيدا لتخريب البلاد، واستشهد على ذلك بهروب مجرمين من السجون، وأسلحة متاحة تباع علنا، وعصابات إجرامية محترفة تروع الآمنين. ونصح كل مصري، في ظل غياب الأمن، أن يلزم بيته، ويدافع عن أسرته، ولم يحدد من المسؤول عن الاختفاء المريب للشرطة.

واصلت القوى المضادة للثورة ترتيباتها، بعد سحب الشرطة مساء أمس، وإطلاق المجرمين من السجون في وقت واحد. وأشاع التلفزيون الرعب، بالكلام عن اتفاق، غير مكتوب بالطبع، بين المواطنين والمجرمين على الانتقام من رجال الشرطة الذين يخافون الخروج. قدرت أن الشرطي الفاسد وحده سيخاف، سيخاف الخوف، ويخيل إليه أن كل ضحاياه يسعون للنيل منه، أما الشرفاء فسوف يتأكد حتى لمن لا يعرفهم أنهم شرفاء، ويساعدونهم في أداء مهامهم.

في ظل استمرار فرض العزلة، بقطع الاتصالات لا سبيل للتأكد من فعل الثورة إلا من الشارع، وشارع فيصل لا أثر فيه لثورة، أو لقوى مضادة لها، لا أحد يهتف بسقوط مبارك، ولا أحد يرفع لافتة تؤيد بقاءه، ولا محل قد مسه التخريب «التلفزيوني». في ميدان الدقي رأيت بوادر الثورة، وثمرة جمعة الغضب. امتد أسطول السيارات مع السير البطيء، وغادرت السيارة عند سينما التحرير، وقد خلا ميدان الجلاء من مدرعات الشرطة وجيوشها التي آذت أمس الجمعة طه حسين المطل تمثاله على النيل، وفي الميدان وقف ضابطان كبيران، عميد ولواء شرطة، بالزي الرسمي ينظمان المرور، يساعدهما شباب متطوعون، والناس تحيي شجاعتهما وإحساسهما بالمسؤولية، وثقتهما بأنهما شرفاء، إذ بادرا إلى الشارع منذ الصباح، على مسؤوليتهما الشخصية، ومن دون تعليمات من جهاز الشرطة الذي اختفى منذ المساء.

كانت القوى المضادة للثورة قد فشلت في إخمادها أمس مستعينة بالبلطجية، واليوم تحاول من مخبئها أن تفسد علينا فرحتنا بإطلاق جيوش المخربين من المجرمين الجنائيين الذي سهل لهم الخروج من السجون، في الوقت نفسه، وبطريقة تكاد تتشابه، ولكن موتور الثورة التي تفجرت يوم 25 يناير تحرك، لقد دار وانتهى الأمر. وكتب حسن نافعة في صحيفة (المصري اليوم) تحت عنوان (..وانطلق قطار الثورة) مطالبا النقابات بدعم الثورة «فهذه ثورة فجرها الشعب المصري كله ولم يفجرها حزب أو حركة أو شخص بعينه، وبالتالي تقع مسؤولية حمايتها على عاتق الجميع» (29 / 1 / 2011)، وفي اليوم نفسه نشرت صحيفة (الدستور) كاريكاتيرا لمحمد حاكم، ينادي فيه سائق سيارة «واحد جدة.. واحد جدة!»، في إشارة إلى هروب زين العابدين بن علي إلى جدة، واستعداده لتوصيل شخص آخر إلى هذا المنفى، وكنا جميعا ننتظر شخصا واحدا ليس إلا حسني مبارك.

في ميدان الجلاء حاول بعض الشباب اقتحام قسم شرطة الدقي، كانوا من أقارب وأصدقاء فتى في الحادية والعشرين، استشهد أمس في جمعة الغضب برصاص الشرطة. نهاهم المتجهون إلى ميدان التحرير عن تخريب قسم الشرطة فانتهوا، وأسرعوا للحاق بالجنازة التي عبرت جسر الجلاء، ولم يحاول أحد الغاضين إيذاء لواء الشرطة أو العميد بكلمة، وكان حملة الجثمان يسرعون في اتجاه المدافن، مارين بالجزيرة وميدان التحرير، وقعدت عجوز لعلها جدة الشهيد على الرصيف المقابل لدار الأوبرا، ونادت البعض: «تعبت يا ولاد، ركبوني عربية»، ورفعها شابان من تحت إبطيها، وداعباها: «هانت يا حاجة خلاص»، وهي نهضت وواصلت المشي: «طيب، شوفوا لي توك توك»، ولم يكن الشارع يتسع إلا للمشاة في الطريق إلى ميدان أصبح مصدرا للشرعية أو لنزعها، وكتب ثائر بخط عريض، في المدخل الغربي للميدان من ناحية جسر قصر النيل (هنا حدود جمهورية ميدان التحرير).

حمل أقارب الشهيد لافتات كتبت على عجل تطالب بمحاكمة مبارك، وإحداها تحمل اسم الشهيد (مصطفى سمير الصاوي)، وأضحت الجنازة مظاهرة تنمو كلما اقتربت من الميدان، والمنضمون إليها يرددون: «ارحل ارحل يا مبارك.. تل أبيب في انتظارك». بعد أيام زين الميدان بصور الشهداء وملابسهم المخضبة بدمائهم، وكنا في الصخب لا نسمع رنين التليفونات، فنتبادل الرسائل القصيرة بالتواعد على اللقاء عند هذه اللافتة أو تلك. بعد فشلي في مقابلة عاطف سليمان أياما في الميدان، أرسل يوم 8 فبراير قائلا: «أشوفك عند لافتة الشهيد مصطفى سمير الصاوي».

منذ صباح السبت لم تعد الثورة تخص الشباب. جذبت مواطنين من أعمار وشرائح اجتماعية ومختلفة، الشعب في الميدان، والشرعية للشارع. وارتفعت اللافتات المطالبة برحيل مبارك أو محاكمته، هو وكبار المتورطين من أركان حكمه، وأكثرها بلاغة لافتة لا تحمل إلا كلمة «ارحل»، تغطي عدة طوابق من بناية يقف في شرفاتها مصورون ومراسلون أجانب ومصريون، وعلت الهتافات «الشعب يريد إسقاط النظام»، شعار عبقري نحته تونسي مجهول، أو هو الصيغة الأخيرة لشعارات أبدعها شعب تونس، في ثورته العظيمة، ولكن الشعار جاءنا عابرا الأجواء الليبية، قبل أن يعود إلى أحفاد عمر المختار في ثورة 17 فبراير.

تأكد لي أن نظام مبارك انتهى. اندلعت شرارة الثورة يوم الثلاثاء 25 يناير، ولكن الثورة الحقيقية بدأت أمس في جمعة الغضب، وتوجت اليوم السبت بنجاحها في إنهاء حالة الخوف، ونزع الهيبة عن النظام. الهيبة لا العدل أساس الملك، في النظم الدكتاتورية. لنقل ما نشاء عن دكتاتورية صدام أو الأسد أو ستالين، لكنهم كانوا يتمتعون بهيبة، حتى في نفوس أعدائهم ومعارضيهم، وقد سقطت هيبة مبارك، ولم يعد الشعب يأبه له، أو يعترف بشرعيته، وهي شرعية دستورية صورية لا شرعية حقيقية. استطاع الشعب أن يقترب من القشرة الصلبة المحيطة بالنظام، ففوجئ بها هشة، تسقط من تلقاء نفسها، وخلفها ينكمش الجبناء، في عريهم، من الرعب.

اليوم، «صباحية الثورة» عين مبارك مدير جهاز المخابرات العامة اللواء عمر سليمان نائبا له، وعين تلميذه وزير الطيران المدني الفريق أحمد شفيق رئيسا للوزراء. الخطوة الأولى تأخرت ثلاثين عاما، ظل فيها الرئيس يرفض في استكبار واستنكار فكرة تعيين نائب، وقيل إن زوجته سوزان تدخلت في اللحظة الأخيرة، منذ بضع سنوات، ومزقت قرار تعيين نائب، قبيل توجه مبارك لرحلة علاج، ليظل المسرح خاليا وجاهزا لتنصيب جمال. في البداية، منذ أكثر من ربع قرن من أعمار عشرات الملايين من المصريين، كان مبارك يتعمد إهانة الشعب، قائلا إنه لا يجد الشخص المناسب، وفي السنوات الأخيرة لم يكن أحد ليجرؤ على إثارة هذه المسألة معه، أو مصارحته بأن عدم وجود شخص يناسب هذا المنصب إدانة للرئيس الذي جمد الحياة السياسية، وأصابها بالتصحر. وجاء عمر سليمان، بعد انتهاء العمر الافتراضي للرئيس ونظامه، فلم يختبر النائب، بل حرق مع مرحلة لا يبقى منها إلا صورته وهو يقرأ بيان تخلي مبارك عن الحكم، وكأن القدر احتفظ لمنصب نائب الرئيس بمهمة قراءة بيان من 35 كلمة، بما فيها البسملة، في أقل من دقيقة، ليسدل الستار، وترفع الأقلام.

شعب ميدان التحرير لا ينتظر خطوات بطيئة في طريق الإصلاح، ولا يثق بالاستجابات المحدودة تحت تهديد الثورة، بل يريد أن يسمع كلمة واحدة «فهمتكم»، وينتظر سماع خبر هروب مبارك، ولكن تلكؤ مبارك في التنحي سيدفعنا، في الأيام التالية، للإصرار على المطالبة بمحاكمته، وعدم تركته للإفلات بجرائمه، قبل أن يحاسب سياسيا وجنائيا. ظلت عقارب الساعة في قصر مبارك تتحرك برتابة، لا تتقدم ولا تتأخر طوال 30 عاما، ولكن كل يوم من أيام الثورة كان قفزة واثقة طولها ألف يوم مما يعدون، تزيد فيه حماسة الشعب، وثقته بذاته، وقدرته على التحكم في مصيره، ودعوته إلى نسف النسق القديم، استعدادا لبداية جديدة لا يصلح معها إصلاحات على بناء شيد على شفا جرف هار. الشعب هو السيد الذي ينبغي على حكامه أن ينتبهوا، ويتعلموا الأدب ماداموا في حضرته، وكان مبارك يحتفظ بالتوقيت القديم، وكلما قدم «تنازلا»، ابتسمنا في سخرية، لأنه تأخر كثيرا، وما يصلح ليوم، يصير في يوم تال مسخرة.

كانت القضية هي الفجوة بيننا وبينه، مجرد فرق توقيت.

وكانت النيران منذ مساء أمس تشتعل في مبنى الحزب الوطني، واستقرت أحوال الميدان، والاتصالات مقطوعة. رأيت أن أطمئن الأصدقاء برسالة قصيرة لا يتسع الوقت لغيرها، وفتحت بريدي الإلكتروني، لأجد رسالة تقول فيها نسرين طرابلسي من الكويت:

«يحيا شعب مصر العظيم».

كتبت في صفحتي على الفيسبوك:

«عام 1952 التف الشعب حول الجيش في ثورته، واليوم ننتظر أن يرد الجيش الجميل إلى الشعب في ثورته».

وكتبت أيضا:

«من فاته أن يرى ميدان التحرير اليوم.. فاته الكثير».

ومن الجزائر أرسلت إلي نوارة لحرش تطمئن:

«أرجو أن تكونوا بخير. والأكيد أن الساعات القادمة ستشهد ميلادا جديدا. ميلاد الخير والحرية».

لم يكن في مصر المعزولة عن دنيا الإنترنت من يرى أو يتجاوب.

في اللحظة التي خلوت فيها إلى الجهاز ضبطني فرانشيسكو ليجو، قلما يراسلني هذا الوغد الإيطالي، ولكن مصر تمثل له شيئا مهما. هو أول من هنأني بالثورة، وكان فرحا مثل كثيرين، عربا وأجانب، يرون الثورة تخصهم أيضا، فرحوا بالحرية لبلد جرى تقزيمه بهدوء ممنهج، وشعب يستحق الحياة. أبدى فرانشيسكو خوفه أن يقبض على دفة المستقبل تيار إسلامي متشدد، ولم يكتف باستبعادي هذا الأمر، وسألني: عن صيحات في ميدان التحرير، ذات طابع إسلامي أو سلفي، منها «الله أكبر». قلت إنه شعار سهل، يردده المسلمون والمسيحيون، وفي حرب 1973 كانت أغنية «الله أكبر باسم الله»، لعبد الحليم حافظ صيحة واحدة للجيش والشعب، لم تكن تخص المسلمين وحدهم.

فرق التوقيت لم يقتصر على مبارك وحده. شمل كثيرين من ميليشيا صناعتها فنون التضليل، كان سهلا أن تعرف التوجه العام للرئيس أو ابنه جمال، بقراءة مقال لأحد أفراد الميليشيا في صحيفة حكومية، ليغنيك عن إضاعة الوقت في قراءة مقالات أو استطلاعات مفبركة «تخدم» على الموضوع نفسه، كان الكلام يملى عليهم، بصيغة أقرب إلى الفضيحة المهنية، فيما يخص حملات الهجوم على البرادعي أو هيكل أو الإخوان.

وبدأ أنيس منصور مقاله اليوم في الأهرام قائلا: «يا شباب مصر رسالتكم وصلت»، وحام حول الموضوع، ثم لف ودار، ثم قال ولم يقل، إلى أن أنهى مقاله بما بدأ به: «يا شباب مصر رسالتكم وصلت والدولة تقرأ وتبحث ولا بد أن تجد حلا». (29 / 1 / 2011)، وفي هذا تضليل مركب؛ فهو أولا يجمع بين شخص الرئيس وكيان الدولة، الرئيس زائل، يتقاضى راتبا مقابل عمل، والدولة باقية، ولها مقومات لا يجوز الاقتراب منها أو التطاول عليها، والأنيس ثانيا يعاني أيضا مرضا اسمه فرق التوقيت أيضا، لأن الثائرين في مصر أسقطوا النظام بالفعل، وإن ظل استخراج شهادة الوفاة أو الرحيل مسألة وقت.

الكلام نفسه ردده طارق حسن، بالحرف تقريبا، في التلفزيون المصري مساء. امتدح الشباب في ميدان التحرير، ثم أسدى لهم نصيحة، أن يعودوا إلى بيوتهم، تمهيدا لإخلاء الميدان، «حتى يتمكن الجيش من القبض على العناصر الدخيلة والمخربين. ساعدوا الجيش، أرجوكم يا شباب، رسالتكم وصلت، وستعمل الحكومة على إيجاد الحلول»، وهذا يؤكد أن نتيجة الحائط في مكاتبهم، والساعات في أيديهم، لم تتجاوز يوم 24 يناير، أو جمعة الغضب، التي لا وصاية بعدها على شباب تمكنوا من القبض على حلم التغيير، وصنعوه بأيديهم ودمائهم.

طويت أنيس منصور في (الأهرام)، وكان طارق حسن يواصل نصائح لا يستمع إليها أحد، وعدت إلى ميدان التحرير، وقد أخذ زينته. ثم مررت بالأهرام المسائي، ورأيت النيران تشتعل في مجمع الجلاء للمحاكم، ولا أحد من مسؤولي المطافئ يسارع إلى الإطفاء. حين اشتعلت النيران في مجلس الشورى، في أغسطس 2008، استدعيت على عجل مروحيات، تغرف من نهر النيل وتطفئ النار، فلمصلحة من تترك ملفات قضايا وأحكام وقودا للنيران؟ ولماذا لا يبالي أحد في الحكومة أو الجيش أو الحزب الحاكم بمقر الحزب الوطني المطل مباشرة على النيل؟ المؤكد أنهم يريدون التضحية بوثائق رسمية تدينهم، وفرحوا بالحريق أو قاموا به، وراقبوا الأمر أكثر من 36 ساعة، حتى أتت النيران على المبنى الذي يضم لوحات من كلاسيكيات الفن التشكيلي المصري. احترق المبنى، ونجت لوحة إعلانية، من بقايا الحملة الانتخابية، تدعو لاختيار الحزب الوطني، إذا كنت حريصا على «مستقبل أولادك»، كانت على بعد أمتار، مثبتة على قوائم منذ خريف 2010، في مفارقة كأنها تقول: «من أجل مستقبل أولادك» كان يجب التخلص من هذا الحزب، ثم إن مبنى الحزب نشاز، بناية قبيحة تؤذي العين، لا تناسق بينها وبين الطراز المعماري للمتحف المصري القريب، وفيما بعد سيطالب المتحف بهذه الأرض، إذ تم اقتطاعتها من حرمه، لتشييد هذا المبنى. وسوف تصدر المحكمة الإدارية العليا يوم 16 / 4 / 2011 حكما نهائيا بحل الحزب الوطني، وإعادة ممتلكاته وأمواله إلى الدولة.

في المساء انطلقت رصاص من فوق جسر أكتوبر المار أمام مؤسسة الأهرام، وأصابت إحدى الطلقات عاملا بالأهرام، تصادف وقوفه أمام البوابة. كانت أصوات الطلقات تأتي من بعيد، والرعب المنهجي المدبر يدعو أي مواطن أن يلزم بيته، ليحمي أسرته، بهدف تفريغ الثورة من وقودها البشري، ففي زمن الفتنة والخوف يرتفع شعار «وليسعك بيتك». بدوت أمام بعض زملائي متهما، كأنني مسؤول عن هذا الرعب والفوضى، وفشلت محاولاتي إقناع كثيرين أن يطوفوا الآن منطقة وسط البلد، وهي المركز التجاري الأهم في العاصمة، ليتأكد لهم ما شهدته أمس في اشتعال جمعة الغضب، وعدم المساس بأي سيارة أو محل أو بار أو شركة أو بنك. وقلت إن العقل يدعونا للنظر في طبيعة المؤسسات المحترقة، وهي مراكز للشرطة وسجون لا يستطيع اقتحامها إلا أحد «من أهلها»، وإن هناك سؤالا بسيطا وساذجا ولكن طرحه ضروري: من المستفيد؟ الثورة لم تقم للانتقام من مواطنين تدافع عنهم.

قلت إنني خارج، ذاهب إلى الميدان، وهم أعلنوا المبيت، خوفا من رصاصة طائشة، ونصحني محمد لطفي (نديم) بالبقاء، ولي عبرة في عامل بريء قتلته الرصاصة. وقلت له وأنا أضحك:

ـ «ليه أخاف؟ عندي بيت وسيارة وزوجة وعيال لديهم مال مع معاش يكفيهم».

وهو قال إنه لا يملك سيارة، وليس لديه زوجة ولا أولاد.

فقلت له ساخرا:

ـ «علام تخاف؟ انزل معي يا أخي، ومت أحسن لك في الميدان».

دخلت دار ميريت. استرد محمد هاشم صوته، كان وراء مكتبه، في ركن قصي من صالة في دار النشر، ودار ميريت هي هذه الصالة. خطوت نحوه بحذر، لئلا أمس أحدا من زحام المتعبين الذين يفترشون الأرض، ولم ينتظر أن أسأله: «هات اسقني»، ورآني غير متفائل، وقلت إنني توقعت أن يقول الرجل أمس «فهمتكم»، ويختصر علينا وعلى نفسه المشقة. قال هاشم: «المشوار طويل»، واكتشفت أنني جائع، وسقط من يدي الكأس، فقدم لي آخر، وكان بجانبي إياد إبراهيم الذي أراه لأول مرة، ثم جاء أبوه إبراهيم عبد المجيد، وسألني وأنا أنهض: إلى أين؟ قلت: فيصل. قال: ربنا معك، المشوار طويل وغير مأمون. وقلت: طويل ومأمون، مشيته أمس وحدي، ولم أتعرض لأذى. ودعتهم وكانت منى برنس قادمة، وأضحكتنا بما روته عن ضابط شرطة قدم لجنوده درسا في غسيل المخ ورفع الروح المعنوية، بتوعيتهم بطرق مواجهة المتظاهرين وقمعهم، واستعرض زيادة أعداد المتظاهرين مقارنة بالجنود الذين لن يخذلهم الله، وقرأ عليهم «كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله، والله مع الصبرين»، وقال الضابط الورع: صدق الله العظيم. واستخف جنوده فأطاعوه!

دخلت ميدان التحرير من شارع قصر النيل، ومضيت باتجاه جسر قصر النيل. لم أشعر بالبرد، وناداني في العتمة صوت من الحديقة الوسطى. كان مصطفى الكيلاني والممثل أحمد عيد، قالا إنهما سيبيتان. كنت متعبا وجائعا ومنتشيا، وقلت إنني سأذهب للنوم، وأعود في الصباح، وكان الصباح قريبا.

لم نكن في ميدان التحرير نعلم شيئا عن الصراع في قمة السلطة، وقد بلغ ذروته مساء اليوم بمحاولة اغتيال عمر سليمان.

أخبرني زميلي علي الشناوي أن أمرا غريبا ومريبا جرى أمامه، على الجانب الآخر من شارع الخليفة المأمون. مساء اليوم، رأى من شرفة بيته بضع سيارات تجاوزت مسجد جمال عبد الناصر، وحين بلغت (مستشفى كوبري القبة العسكري)، حيث توجد قوات للشرطة العسكرية، بدأ إطلاق نار كثيف، من سيارات وبنايات، لا أحد يعرف من أين تنطلق بالضبط رصاصات مسدسات أو أسلحة آلية، ولا أين تستقر. لم يستطع أحد أن يقترب من مسرح المعركة، وشاهد علي شخصا يقفز عابرا سور المستشفى. كانت بوابات تفتح أو تقتحم، وصراخ يعلو، وأوامر تلقى ربما من قوات الجيش: «طفوا النور، طفوا النور»، وكان ضرب النار يهدأ بضع دقائق، ثم يبدأ من بناية أو من سيارة في الظلام، واستمر المشهد نحو 40 دقيقة، وهو أطول مشهد تابعه علي ويعتره أكثر إثارة من الأفلام الأمريكية.

ثم أذاعت شبكة فوكس نيوز الأمريكية مساء الجمعة 4 فبراير خبرا عن محاولة اغتيال سليمان عقب أداء اليمين، وسارع «مصدر أمني» في مصر إلى نفي الخبر. وسوف يعترف وزير الخارجية أحمد أبو الغيط يوم 23 / 2 / 2011، بأن سليمان نجا من محاولة الاغتيال، وأنه «شاهد السيارة التي كان يستقلها السيد عمر سليمان والتي تعرضت لهجوم بالرصاص، في منطقة منشية البكري من اتجاه روكسي، على يد مجموعة كانت تستقل سيارة إسعاف مسروقة في محاولة لاغتياله»، مضيفا أن أحد حرس سليمان قد قتل، وأصيب السائق وحارس آخر بجروح.

وسوف تنشر صحيفة روزاليوسف تقريرا عن حلف يضم سوزان زوجة مبارك وعلاء وجمال مبارك وزكريا عزمي وجمال عبد العزيز وصفوت الشريف وحبيب العادلي وأنس الفقي. وحين كان سليمان يؤدي اليمين دار اجتماع سري في القصر الجمهوري، حتى إن الشكوك ساورت قائد حرس سليمان، ونصحه بألا يستقل سيارته، بعد أن بلغته معلومات عن اغتيال سليمان في طريق العودة، عن طريق مجموعة من منفذي العمليات الخاصة ممن يتلقون تدريبات في أوروبا «ويفكرون بعقلية المافيا». وبدأ التحرك باستيلاء فريق الاغتيال على سيارة إسعاف من وسط القاهرة وقتل سائقها، وبدوا في هيئة مسعفين، وتربصت مجموعتان من القتلة بموكب سليمان، وكان فريق ثالث يراقبهما، بهدف «تصفية مجموعة العملية عقب التنفيذ، أيا كان الأمر بالنجاح أو بالفشل»، لمحو أي دليل. واقتربت سيارة الإسعاف من سيارة عمر سليمان، وخرج من الباب الخلفي للإسعاف شابان يحمل كل منهما رشاشا، وأمطرا بالرصاص سيارة سليمان، ولكنه كان في سيارة أخرى استجابة لقائد حرسه الذي نصحه مرة أخرى بالهبوط في أرضية السيارة غير المصفحة، وظنوا أنهم قتلوا سليمان، وكانت المفاجأة: «فالمجموعة الموكل إليها تنظيف ما حدث تخرج فجأة لتقتل كل المنفذين، ولا ينجو منهم أحد». (28 / 7 / 2011).

كانت عملية انتحارية تقترب من الاغتيال السياسي، وفشلت لأن أمر تنفيذها أوكل إلى هواة على مقاس خيال مجموعة جمال مبارك من فريق الكشافة الذي يحكم مصر منذ نحو عشر سنوات. أجواء لا تختلف كثيرا عن أفلام المافيا، ولا يعترف مدبروها ولا منفذوها بحظر الاغتيال، ولا حظر التجول.

كشف حظر التجول وجها جديدا لمصر الثورة. منذ سنوات، يوجد ما يشبه التواطؤ على وقت المواطن، وعلاقته بالناس والأشياء. يصعب العثور على مصري يكفيه دخله من عمل واحد، وفي سبيل تأمين حد أدنى من العيش الكريم يضطر إلى العمل في المساء أيضا، وبين العمل الصباحي والعمل المسائي تهدر ساعات على الاسفلت، في انتظار وسيلة مواصلات آدمية مستحيلة، ثم يلجأ هذا المواطن المسلوب عمره إلى بيت ليس بيتا، وإنما منزل ينام فيه ما تبقى من الليل، تمهيدا للهاث في ساقية الحياة في اليوم التالي، فمتى يتاح له الوقت، خلو البال، للكلام مع جيرانه، أو معرفتهم؟ كان لا بد من ثورة. رأيتهم يتسامرون على نواصي الشوارع الجانبية، يتناوبون الحراسة والكلام العزيز من طوال حمل نير المعيشة فوق الرقاب. كانت الثورة هدية لشعب انتظرها، ليعيد بناء علاقات اجتماعية مهتزة، ويوثق صيغة التحية، بأفضل من مجرد إيماءة بالرأس، أو إلقاء السلام المحايد، أو قول «صباح الخير».

في الطريق، فكرت أن أتسلى بالاتصال بأصدقاء لم أرهم في الثورة. رد مسعد صالح وكان فرحا ومتوجسا، قال إنه تزوج الخميس الماضي 27 يناير، عشية جمعة الغضب. ضحكت ولم أعلق، فأقسم لي أنه فعلها، وقلت له: «اخترت يوم الهول يوم زواج»، ورأيت كلمة «الهول» غير مناسبة، وهو قال إنه يعيش الهول، كلما جاء الليل، منذ مساء الجمعة، ومازال يسمع صوت طلقات الرصاص في الخلاء حوله، حيث يقيم وحده تقريبا، في بناية غير مأهولة في مدينة أكتوبر. حذرته الخروج ليلا، أو فتح الباب لغريب، واتصلت برفعت السيد علي، ولم يرد.

أدركني الفجر على باب البيت، وقررت ألا أرد على التليفون، لا شيء يدعو أحدا للاتصال في الفجر، ومن المستبعد أن يكون أحد يريد أن يسعدني بإبلاغي خبر تنحي مبارك أو هروبه. لا يميل الفارون واللصوص إلى الهروب في الفجر، لا تسترهم بشائر الضياء، ويميلون إلى تنفيذ خططهم في أول الليل. خرجت مسرعا من الحمام، وقال رفعت إنه في أبوظبي، وسيصل اليوم إلى مطار الإسكندرية، وسألني عن حكاية قطاع الطرق واللصوص، في الطريق الصحراوي بين الإسكندرية والقاهرة، بعد نجاح التلفزيون المصري في بث الفزع العابر للحدود. ومن التعب سألته، وأنا مازلت أعيش بإحساس يوم السبت: ستصل اليوم أم غدا؟ ضحك قال إنه في مطار أبوظبي الآن، وقد أشرقت شمس الأحد 30 يناير.

طمأنته، وقلت له: لا خوف، الطريق يحمي نفسه في النهار. وفي المساء سيحكي لي كيف قطع أهالي نزلاء سجن وادي النطرون طريق القاهرة / الإسكندرية، وانتظروا المسجونين في سيارة نقل، واعترضتها قوة من الشرطة العسكرية، وتمكنت من القبض على بعضهم، وهرب آخرون في الصحراء. وقلت له: أشوفك بكرة، تصبح على خير. وهو ضحك مرة أخرى: يبدو أنك مرهق، الشمس طلعت هنا، بكرة وصل، حاول أن تنام، سلام.

وقلت له: سلام.

الأحد 30 يناير

بعد ليلة من حظر التجول، استعاد الشارع حيويته، كل شيء على طبيعته، وسيارات الأجرة تتجه من شارع فيصل إلى ميدان التحرير، إلى «المظاهرات»، والركاب الذين في طريقهم إلى ساحة التظاهر لا يقولون إنهم ينتمون إلى «ناس التحرير»، تحسبا لتهور منتمين إلى الحزب الحاكم، أو أنصارهم الذين سيكون اسمهم الصريح بعد ثلاثة أيام «البلطجية»، أعداء الثورة، قتلة الثوار، في «موقعة الجمل».

في مداخل الميدان انتشر أفراد شرطة أهلية من المتطوعين، يتحرون هوية الداخلين، يسمحون لكل الفئات إلا أفراد الشرطة، هؤلاء الذين كانوا يرون أنفسهم أسياد البلد حرموا هذا الشرف، ولم يكن أحدهم ليجرؤ على الاقتراب من حدود جمهورية الميدان، أفراد الشرطة المدنية غير محترفين، ليس لديهم قوائم ترقب، ولا أماكن احتجاز، وإنما إيمان بأن الميدان لا يطأ أرضه إلا الشرفاء، وانتبهوا أيضا إلى منع الذين يحملون بطاقات شخصية صدرت عام 2011، وسألت أحدهم عن السبب، وقال إن الشرطة يحترفون التزوير، وليس بعيدا أن يكونوا قد أصدروا لكثير من عناصرهم، بعد جمعة الغضب، بطاقات بأسماء وهمية ومهن أخرى، حتى يتمكنوا من اختراق «ناس الميدان». وبعد رؤية البطاقة الشخصية يبدأ التفتيش الذاتي، تحسبا لتهريب أسلحة أو آلات حادة، ويتكرر التفتيش عدة مرات، حفاظا على الطابع السلمي للثورة.

الطابع السلمي أنبل ما في الثورة.

كان شعار «سلمية سلمية» سلاح الثوار في الأيام الأربعة الأولى، أيام الضعف، منذ الثلاثاء 25 يناير حتى مساء جمعة الغضب، يواجهون به آلة بطش قاتلة بيد الشرطة، معلنين أنهم لا يريدون سوءا بالشعب أو الشرطة أو المنشآت، ولم يشفع لهم حسن النية واستقامة السلوك، فسالت دماء، وسقط جرحى، واشتعل الغضب في اليوم الرابع حرائق التهمت سيارات ومراكز للشرطة.

منذ «صباحية الثورة»، السبت 29 يناير، اكتسب الشعار دلالة جديدة، يرفعه ثائرون لكبح غضب ثائرين آخرين يواجهون دخيلا من الشرطة بملابس مدنية، أو من أنصار القوى المضادة للثورة. يكفي أن يسمع الغاضب صيحة «سلمية سلمية»، لينفث غيظه في الهواء، ويلزم الصبر الجميل.

لكن خيال البلطجية محدودا، وظلت خبرتهم الثورية عند نقطة الصفر التي اتسم بها خطاب مبارك الأول، مساء (جمعة الغضب). لم ينالوا شرف المشاركة في الثورة، ولا تعلموا دروس ميدان التحرير. لا يعرفون دلالة شعار «سلمية سلمية»، هي كلمة سر بين طرفين يدركان تغير الدلالة من موقف الضعف إلى القوة، وإن ظل الهدف ثابتا يرفض الخشونة. وحين سمعت البلطجية يطلقونها، فجر الأربعاء في شارع فيصل، بعد ساعات من الخطاب العاطفي لمبارك، ضربت كفا بأخرى. كانوا يحملون الأسلحة في طريقهم إلى ميدان التحرير، لتحريره بالخيل والجمال، يعزلهم الجهل عن دنيا قفزت في الزمن أربعة عشر قرنا، انتقلت خلالها المعركة من الرمال إلى الإنترنت.

أمس السبت أكسب الثائرين ثقة، فاستمسكوا بها، وارتفع سقف المطالب، وأصروا على إسقاط النظام، وتعلموا من تونس أن يهتفوا بالفصحى: «الشعب يريد إسقاط النظام»، ولم تكن الفصحى جديدة تماما، فمنذ أكثر من خمس سنوات والفصحى حاضرة في شعار موزون: «يسقط يسقط حسني مبارك». لم يفهم مبارك أنه معني بالشعار، كانوا يخفون عنه الريموت كونترول، فلم يشاهد أخبار الثورة، ولا سمع بميدان التحرير ولا رأى الثوار، إلى أن ذهب اليوم (الأحد) إلى غرفة العمليات، بصحبة نائبه عمر سليمان، وكأنه سيعلن الحرب على شعب عزله عن العالم منذ جمعة الغضب، فبادله الشعب في الميدان التحدي، وسحب شرعيته. وقدرت أن مبارك من دون الريموت كونترول أصبح مثلنا، معزولا لا يتمكن أيضا من متابعة أخبار الثورة، بعد إيقاف عمل مكتب قناة الجزيرة. وقالت صحيفة (الأهرام المسائي)، التي أعمل بها، في اليوم التالي (31 / 1 / 2011): «المصريون يرحبون بالقرار ويقولون: جاء متأخرا»، وشككت في جنسيتي المصرية، مادام «المصريون» قد أجمعوا على صواب هذا القرار، ولم يسألني أحد عن رأيي، فلست مصريا، ولا يملك عاقل أن يخالف الإجماع.

كانت الشعارات في الميدان، بعد الإجماع على ضرورة إسقاط النظام، تصوغ مبادئ الثورة:

«تغيير. حرية. عدالة اجتماعية»، وأحيانا تتغير إلى «كرامة. حرية. عدالة اجتماعية».

والحرية والعدالة لا يحققهما نظام بال يستحيل إصلاحه، أو رتق ثقوبه، ثم إنه فاقد الشرعية، ولكن ماكينة الإعلام بدأت مسلسلا مملا، وهي تصدع رؤوسنا بكلام عن تسليم مبارك رئيس وزرائه الجديد شفيق خطاب التكليف للحكومة الجديدة، ووصفت نشرات الأخبار والصحف خطاب التكليف بأنه «أقوى خطاب تكليف في تاريخ الوزارات المصرية»، إذ احتشد بكلام إنشائي عن التصدي للفساد، والإصلاحات الدستورية والتشريعية، وضبط معدل التضخم وحركة الأسواق. وقد عشت كثيرا بما يكفي للقول إنني عاصرت أوهاما أكثر عمقا من مصطلح أو شعار «خطاب التكليف»، ففي السبعينيات انتشر شعار «العلم والإيمان»، وفي منتصف الثمانينيات اخترعوا لمبارك «الصحوة الكبرى» شعارا لتلك المرحلة. سودت مقالات تافهة، وعقدت ندوات لشرحه، وتحديد أهدافه، وافتعلوا له برامج وهمية، وابتذلت شروح على متن لا وجود له. واندفع الممثل محمود ياسين، متجاوزا الحوار المكتوب لممثل، والحركة المرسومة له على خشبة مسرح، وكتب قصيدة إنشائية ما زلت أذكر الشطر الثاني لأحد أبياتها: «هي صحوة كبرى»، ثم اخترع مثقفو جمال مبارك، من مهندسي تنصيبه في السنوات الأخيرة، شعار «فكر جديد»، هو لو يعلمون إدانة واضحة للفكر التقليدي الذي لا يسأل عنه إلا أبوه.

لم آخذ حكاية «خطاب التكليف» بجدية، ولا اهتم به أحد في الميدان، كان الثوار يستعدون لمعركة طويلة النفس، بعد أن اكتسبوا قوة وثقة خلال خمسة أيام. أحسب الثورة الحقيقية بدأت يوم (جمعة الغضب)، وما سبقها منذ الثلاثاء 25 يناير، كان تدريبا على الاحتمال، وتمهيدا للطريق إلى ميدان التحرير.

منذ السبت «صباحية الثورة»، تغير برنامجي اليومي، عقب الاستيقاظ أتوجه للميدان، وفي نحو الخامسة يكون التليفون قد نفد شحنه بسبب كثرة الاتصالات، فأستريح قليلا وأشحنه، وأتابع بعضا من التفاعلات السياسية، كلما أمكن عبر الفضائيات، وأتواصل مع الأصدقاء عبر البريد الإلكتروني والفيسبوك، ثم أعود بعد ساعتين إلى الميدان إلى ما بعد منتصف الليل، أو حتى مطلع الفجر، حسب الحالة الميدانية.

كانت خدمة الإنترنت مقطوعة، وأصدقاء عرب وأجانب محبون لبلادنا ومصريون في الخارج قلقين، ولا أجد لخوفهم سببا، وقدرت أن يكون ذلك ناتجا عن طول الاستسلام للفضائيات من أجل البحث عن يقين، فلا يزيدهم ذلك إلا هلعا، حتى إن آمال فلاح كتبت من فرنسا، تسألني في رسالة إلكترونية:

«ماذا يحدث عندكم؟ الجزيرة تجاوزت الإخبار إلى التحريض».

وأرسلت إلي عالية شعيب من الكويت هذه الرسالة:

«الأحداث مخيفة، أتابع الأخبار ولا أصدق».

ومن الكويت أيضا كتبت إلي رضوى فرغلي:

«قلبي معاكم. هل الجزيرة موجودة عنكم؟ عاوزين أرقام ناس في اللجان الشعبية... أو لو عندك تليفونات للجنة الإغاثة والمساندة النفسية».

لم تجد آمال فلاح هذه المرة كلاما، فأرسلت إلي رسالة خالية من أي كلام، ولكنها تحمل تسجيلا صوتيا، على موقع يوتيوب، لأغنية الشيخ إمام «مصر يا امه يا بهية».

وسألني كثيرون عن صدق العرض المستمر للتلفزيون المصري عن انتشار بلطجية وقطاع طرق، فطمأنتهم وكتبت في صفحتى على الفيسبوك:

«للأصدقاء العرب والمصريين الذين لا يستطيعون التواصل مع ذويهم، لأن المتآمرين من بقايا النظام البائد قطعوا الاتصالات: المتطوعون أحبطوا مؤامرات الشرطة في زعزعة الأمن، ويتولون تأمين الشوارع والمنشآت. سرت فجر اليوم (الأحد 30 يناير) 13 كيلومترا على قدمي، من ميدان رمسيس، مرورا بميدان التحرير والدقي والجيزة وشارع فيصل، لم يقابلني بطلجي أو لص، كانت لجان التأمين تحرس الشارع. اطمئنوا.. النصر قادم».

وجاءت التعليقات من خارج مصر المعزولة عن العالم. الفضاء الإلكتروني سهل مهمة التواصل، وجعل المصري يمد يده لأخيه في الداخل عبر القارات، فمن الكويت علق عبد المنعم الباز، على الفور، قائلا:

«نكتشف الآن متأخرين جدا أننا كنا دائما بهذه القوة، وأنه كان دائما بهذا الضعف، لكننا لم نتفق أبدا على ساعة الصفر».

ومن هولندا، علق ثائر السهلاني:

«الصديق سعد/ تحية.. قلبي مع الشعب المصري وعشقي وتقديري لروح الحرية التي لا تقهر عند المصرين. أجمل ما أحببت من شعارات في انتفاضة الشعب المصري هي يافطة حملها أحد الإخوة المصريين تقول (عاوز أشتغل يا كبير). زيحو هذا الكبير أيها المصريون أنتم الأكبر».

واقترح عبد المنعم الباز التبرع للجرحى وأهالي الشهداء، فورا وبشكل أهلي، بعيدا عن البيروقراطية، ومن دون انتظار فتح حساب بنكي.

وسيكون اقتراحه موضع نقاش، على مائدة حوار، تتوزع قوائمها بين القاهرة وبرلين وبورسعيد والكويت ودمشق!

طال الطريق تلك الليلة، وأنا وحدي، يسبقني أو يتبعني قليلون من «ناس التحرير»، والسيارات القليلة ليس فيها مكان، تلتقط من الشارع ثوارا عائدين مجهدين، تقرب لهم المسافة إلى بيوتهم، وأصحابها في الغالب ثائرون أو متعاطفون، يقفون تلقائيا حين يكون فيها مكان، ويعرضون خدمة توصيل الثائر مجانا، إلى أقرب مكان، وحين يسأله أعضاء اللجان الشعبية عن هويته، يخلي مسؤوليته عنه قائلا: «راكب من الشارع». بلغت شارع فيصل، وأمامي نحو أربعة كيلومترات أخرى، والجو بارد ولا أشعر بالبرد، وإذا استرحت بالجلوس مع أعضاء أي لجنة شعبية، فسوف يقدمون لي الشاي، ولكن التعب سيحل بي، ولا أستطيع مواصلة المشي. استعرت من خدمتي العسكرية قبل أكثر من 20 عاما تعبير «السير في المحل»، وبدلا من أن أسير في المحل، أبطأت خطواتي، أتقدم خطوة وأنظر خلفي، لعلي أحظى بسيارة يكون فيها مكان لراكب، وأصحاب السيارات يناهدون مع لجان شعبية تشكلت في الشارع العام، أمام نواصي الشوارع الجانبية، يجلس الكبار منهم يحتسون الشاي، حول موقد نار وتلفزيون، ويلعب الصغار الكرة في نهر شارع خال تقريبا، ويتولى الشباب مهام الحراسة والتفتيش. أحيانا لا يفصل بين اللجنة والأخرى إلا عشرات الخطوات، ويرى «المفتشون» كيف قامت اللجنة السابقة، على بعد خطوات منهم، بتفتيش السيارة والتأكد من هوية سائقها، ولكنهم يصرون على إعادة التحري والتفتيش، بأدب أحيانا أو بتعنت أقرب إلى الاستفزاز، متقمصين دور رجل الشرطة. وكنت قد أصبحت ضيفا على رجل شرطة.

أعلن دائما شعار «ما أخذ بسيف الحياء فهو حرام»، ومن السهل الوقوف عند أي لجنة شعبية تطلب إلى صاحب سيارة، ولو في هيئة استئذان يتفق الطرفان على أنه أمر، ليأخذني معه، ولن يعارض أحد، ولكنه سيضيق بالأمر. وقفت بعيدا عن اللجان، وطلب صاحب سيارة الاطلاع على بطاقتي، هو الوحيد الذي فعل ذلك طوال أيام الثورة، كان إلى جواره في المقعد الأمامي، ابنه في نحو الثالثة عشرة. اكتشفت أنه ضابط شرطة، تقول ملامحه إنه مقدم أو عقيد، وأشفقت عليه وهو يكابد مع اللجان الشعبية مكابدة ليس له بها عهد، والآخرون لا يضيقون بما اعتادوه. قال لي إن هؤلاء «العيال» مدمنون، وجدوا لأنفسهم أهمية في غياب الشرطة، وكلما هممت بسؤاله عن قرار انسحاب الشرطة مساء جمعة الغضب، واجهتنا لجنة أخرى، وأمره أحدهم بقسوة أو أدب:

ـ «بطاقتك ورخصة العربية».

مد الضابط يده بالبطاقة:

ـ «حاضر يا قمر».

سأله المحقق الشاب:

ـ «ظابط شرطة؟».

رد متحليا بالصبر:

ـ «أيوة يا قمر».

ـ «افتح الشنطة».

قال الضابط بصوت خفيض إنه فتح حقيبة السيارة للجنة السابقة، على ناصية الشارع السابق، على بعد نحو 20 مترا من هنا.

ـ «قلت لك: افتح الشنطة».

ـ «عيني يا قمر».

بشكل آلي غير احترافي، نظر الشاب إلى الحقيبة وأغلقها، ثم طلب إضاءة صالون السيارة، فرآني في المقعد الخلفي، وسألني:

ـ «راكب من الشارع؟».

ـ «نعم».

ـ «معكم سلاح؟».

ـ «لأ».

ـ «ولا حتى مطواة؟».

ـ «فتشنا يا قمر».

ضحكت، واستغرب الشاب ثم ابتسم، ومضينا.

قال لي الضابط، وهو يشير إلى شباب اللجان الشعبية، وقد كسروا كبرياءه أمام ابنه: «أصحاب سوابق، مكانهم السجن، لكنهم أحبطوا مؤامرة تخريب البلد بعد تحييد جهاز الشرطة، يوم الجمعة».

كنا قد وصلنا إلى شارع العريش، وعلي أن أغادر، وهو تأخر في الرجوع إلى بيته، فلم أقل له إن اللجان الشعبية أحبطت بالفعل «مؤامرة»، لكنها مؤامرة وزارة الداخلية، لنشر الذعر والفوضى، حتى يصرخ الشعب طالبا الأمن، مضحيا بحلمه بالحرية والتوق إلى التغيير.

عدت إلى البيت بعد الثانية فجرا. لامتني ابنتي (ملك) على تأخري، وعدم وقوفي مع لجنة الحراسة في شارعنا الذي لا يضم إلا أربع بنايات، وطبلت أن أنزل الآن، وهي معي، وقلت لها إنهم صعدوا باستثناء اثنين يسهران بحكم العادة. وكان مهدي مصطفى يواصل حديثا بالتليفون إلى الفضائية المصرية. لا أدري هل تناول في أول المكالمة مزايا «خطاب التكليف»، أم لجأ مباشرة إلى الهجوم على محمد البرادعي، إذ سمعته يصف البرادعي بأنه رجل أمريكا وإيران. وتصورت الرجل داهية إذ يتمكن من العمالة لأعدى عدوين منذ عام 1979، وقلت سبحان مقلب القلوب القادر على أن يوحد بالبرادعي أمريكا وإيران.

غسلت وجهي من غبار يوم كامل، وكان مدحت الجيار قد بدأ حديثا بالتليفزيون أيضا عن فضائل «خطاب التكليف» ومزاياه. كلام رتيب منزوع الصدق، يدعي الرصانة، وحين انتهى اتصلت به فورا، وقل له كلمتين: «عيب يا مدحت»، وضحك لكي أفهم أنه ليس سيء النية، وأنا أعرف أنه ليس سيء النية ولا الطوية، وقلت له إنه يخدع الناس، إذ ينخدع بكلام رجل تجاوز الثمانين يتحدث عن المستقبل، ولا معنى لأي كلام، بعد فشل سياسياته طوال 30 عاما، وسألته: لو أن طالبا عندك رسب أربع سنوات متوالية، وتأكد لك أنه بليد وفاشل، فهل تصدقه إذا أقسم لك سيذاكر ليلة الامتحان لينجح؟

وأقسمت أنني لن أسلم عليه حين أقابله، ثم قابلته في مسيرة أعضاء اتحاد الكتاب، إلى ميدان التحرير، ظهر الخميس 10 فبراير. بادر إلى مد يده، ولم أصافحه، وغضبت من قسوتي. حزنت وعجبت من نفسي. لم تكن الثورة، حتى ذلك اليوم، قد طهرتني تماما!

الاثنين31 يناير

لا جديد اليوم في الطريق إلى ميدان التحرير. سبعة أيام ولا أثر لمتظاهر واحد في الشارع من أجل مبارك، ولا فكر أحد في كتابة لافتة على محل أو سيارة تطالب ببقائه، أو تؤيد سياساته، فأين اختفى الملايين ممن يقال إنهم أعضاء في الحزب الوطني؟ الحزب الحاكم الذي يرأسه مبارك، ويديره ابنه جمال، وينفق على بعض أنشطته رجال أعمال من فائض ما ينهبونه من أموال الشعب واقتصاده المستباح. سألت نفسي: هل ينتظر المحب إشارة أو دعوة للتعبير عن حبه، وانتمائه لشخص أو فكرة؟ أما «مواطنو الميدان» فيعرفون أهداف ثورتهم جيدا، وهي مكتوبة على لافتة كبيرة، معلقة على بناية بجوار إذاعة الميدان، وتوجد منها نسخة على سور حديقة الميدان، وتبدأ بإسقاط النظام، ومحاسبة رموزه، ثم تأتي تفاصيل أخرى حول كيفية بناء الدولة، بعد تطهير جرح عمقه ثلاثون عاما، تهافت فيها الذباب على عسل البلاد، ومات ذباب وجاء جيل ثان وثالث، وفسد العسل، وتناوبت ثعالب على عناقيد لا تفني.

نلتقي في الميدان، فنشعر بأمان الوصول إلى البيت، الميدان بيتنا وصوتنا. نبدأ بالاطمئان على سلامة الوصول مساء أمس إلى المنازل، وتشيع حكاية نهب نيويورك، ذات ليلة حين قطع التيار الكهربائي، في حين يسود البلاد أمن، لليوم الثالث على التوالي، على الرغم من غياب الشرطة، أو بسبب هذا الغياب.

في الميدان لا سلطان لأحد على أحد. أنت سيد نفسك، ارفع ما شئت من لافتات، وأطلق ما شئت من صيحات وشعارات، وانضم إلى هذه المسيرة أو ذاك التجمع، أو التزم الصمت، مستمعا إلى أي من إذاعات الميدان، المساحة الوحيدة المحررة في القاهرة، وحذار أن تؤذي أحدا بكلمة أو تصرف جارح، كأن تمد عينيك أو يديك إلى ما ليس لك، أو أن تلقي منديلا ورقيا، أو بقايا طعام، أو علبة عصير فارغة. لن ينهرك أحد، أو يأمرك برفعها، بل ستجد هذا السلوك، المعتاد في شوارع مصر، نشازا هنا ولا يليق بك ولا بالمكان الذي أصبح نظيفا، سوف يحرجك شاب أو فتاة من المتطوعين بجمع القمامة، وهم يميلون ويضعون هذه المخلفات في أكياس بلاستيكية، ليظل الميدان رمزا لكل ما هو جميل من مبادئ يرفعها الثوار، ويذكرون بها المنضمون الجدد إليهم، من جماهير تنتمي إلى فئات عمرية وخلفيات اجتماعية وثقافية ومهنية متباينة، ولكن الهدف النبيل وحد كلمتهم، وجذب كثيرين لا يعنيهم إسقاط النظام، وإنما تعرضوا لمظالم صغيرة، ويسعون إلى استرداد حقوقهم، ورأوا في الميدان منصة للعدالة المفقودة في دولة لم تعد دولة، وتوالت زيارتهم له، كما يزورون أضرحة أهل البيت، وأولياء الله.

كانت مخلفات الميدان توضع على حدود جمهوريته، حيث تقف سيارة للشرطة محترقة، أصبحت مقلبا للقمامة، ووضعت عليها لافتة «مقر الحزب الوطني».

أعاد الميدان في يومه الثالث إلى المصريين قدرتهم على المرح، والابتسامة العذبة بدلا من التجهم، والأمل بتغيير قريب يقطع تواصل الرتابة والممل. أينما حللت في الميدان تجد النكتة الطازجة، وهي روح طليقة تنهي إعادة تدوير نكات قديمة، في ظل خيال قديم لا أمل معه في رؤية رئيس جديد للبلاد من خارج العائلة الحاكمة أو المالكة، لا فرق.

استعار الغاضبون عبارات معروفة، وجعلوها جزءا من لافتاتهم، منها التحذير الشهير المكتوب على علب السجائر، وقد أصبح:

«مبارك ضار جدا بالصحة ويسبب الوفاة».

ومن عنوان مسلسل تلفزيوني:

«لن أعيش في جلباب مبارك».

ومن أغنية لسعاد حسني كتبها صلاح جاهين:

«الرجل الغامض بسلامته.. مكسوف م الطيارة».

ومن اسم الفيلم السينمائي الكوميدي (طير انت):

«مبارك.. طير انت».

ومن اسم فيلم «اضحك.. الصورة تطلع حلوة»:

«اضحك.. الثورة طلعت حلوة».

ومن اسم المسرحية الكوميدية (انتهى الدرس يا غبي):

«انتهى الدرس يا مبارك».

وتحت صورة لمبارك:

«لو كان عفريت كان انصرف».

«انصرف.. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم».

«تنبيه.. ممنوع حرق حسني في مصر.. أحسن يطلع عفريته».

ومن الرسائل الصوتية المسجلة في شركات التليفونات المحمولة:

«نأسف يا مبارك.. رصيدك انتهى».

«عفوا يا ريس.. لقد نفد رصيدكم».

«عفوا لقد انتهت فترة رئاستك. برجاء التوجه إلى جدة».

وجملة حوارية شهيرة في مسرحية هزلية، مع كاريكاتير لمبارك:

«ما تقدرش».

أيضا:

«مبارك يريد تغيير الشعب».

«نبأ عاجل: مبارك يحاول إحراق نفسه أمام مجلس العشب طالبا تغيير الشعب».

وكانت جدة التي فر إليها زين الهاربين مقصدنا:

«آخر طلعة جوية إلى جدة».

وكتب مواطنون، نيابة عن أبناء محافظة المنوفية التي ينتمي إليها مبارك:

«المنوفية تعتذر للشعب المصري».

وحمل رجل كبير السن لافتة بخط غير جميل:

« أبوس رجل أمك ارحل».

وحمل آخر لافتة:

«حتى لو طلقت سوزان.. مش هنرحل من الميدان».

وكتب أحدهم لافتة تتناص مع بيت أبي القاسم الشابي:

«إذا الشعب يوما أراد الحياة / فلا بد أن يستقيل القذر».

وعادت إلى الشعب قدرته على انتزاع الضحكة من المرارة، في لافتات منها:

«ارحل. مراتي هتولد. ومش عايز ابني يشوف طلعة حضرتك».

ويتسع الاسفلت للافتات تشكيلية صنعت من الحجارة، وحرص الثائرون على عدم المساس بها، رمزا لثورة انطلقت من الفضاء الإلكتروني إلى فضاء مصر:

«Welcom to facebook»

واستعار مدونون بيت ابن عروس:

لا بد من يوم معلوم تترد فيه المظالم

أبيض على كل مظلوم أسود على كل ظالم

ولكنهم جعلوه:

لا بد من يوم معلوم تترد فيه المظالم

أبيض على كل مظلوم Facebook على كل ظالم

ويكتب عماد فؤاد في صفحته على الفيسبوك:

عاجل من السعودية

نعتذر عن تلقي طلبات الحج للأعوام القادمة

وعلى من أراد أن يحج أن يتوجه إلى ميدان التحرير

ثم ارتفعت لافتات أخرى تصور مبارك على هيئة أدولف هتلر، أو تضع نجمة داود فوق جبينه. أما اللوحة الأكثر شهرة وإيجازا فهي:

«ارحل».

وفي الأيام التالية، تكتب هذه الكلمة، في لافتات وقمصان يرتديها ثوار، بنحو 20 لغة منها الهيروغليفية والهندية والعبرية «جايز يفهم».

اتصل بي أيمن بكر من الكويت. طلب مباشرة الاطمئنان «على الميدان»، وسألته: عما إذا كان ينوي شراءه، على طريقة إسماعيل ياسين حين اشترى ميدان العتبة في فيلم (العتبة الخضراء). كنت متفائلا بما أرى وأعيش، وهو هناك يتمزق بين فائض الضمير المهني والإنساني للقنوات الفضائية، وأتبع محتدا: «لا وقت للهزار، الناس هنا في قلق، عايز أرجع مصر ولو ليلة واحدة أنام في الميدان وأرجع الصبح، أخاف أن يقل عدد الناس في الميدان، أو تهبط عزيمتهم». قلت له: حين تستدعي الحالة وجودك، أو حضور آخرين، فسوف أبلغك. الثورة تحتاج إليكم بعيدا عن الوطن، وسوف ننسق في الأيام القادمة، من أجل بحث بعض أوراق الضغط، وسوف ترى.

ذهب أيمن مع بعض أصدقائه إلى القنصلية المصرية، أبدوا رغبتهم في المشاركة الرمزية، في التبرع بالدم لجرحى الثورة، على أن يتولى القنصل إرسال الدم إلى القاهرة، أو لا يفعل وله أن يخترع أعذارا، وكانت الفضائيات تناشد المواطنين التبرع بدمائهم للمصابين، لكن القنصل قال لهم إن «الدولة المصرية لا تحتاج للدم.. مصر لا تحتاج الآن شيئا من أحد». ولم يكن مصادفة أن ننادي، في الميدان بعد خلع مبارك، بإقالة وزير خارجيته أحمد أبو الغيط.

لم نكن في الميدان معنيين بحكومة يشكلها الفريق أحمد شفيق تلميذ مبارك، منذ تولى مهام منصبه يوم السبت (29 يناير)، الثورة قطيعة مع مرحلة برئيسها ورموزها، وليست حركة إصلاحية، والكلام عن حوار مع قوى سياسية أو تغيير حكومة ليس إلا مناورات لإطالة عمر النظام، ولا تمنحه حياة جديدة، مسألة وقت. عدت إلى المكتب في ساعة القيلولة، لأشحن التليفون المحمول، وأتناول بعض النسكافيه، وفوجئت بمن يهنئني ساخرا بتولي جابر عصفور وزارة الثقافة، وظننتها دعابة، فأي إنسان يتمتع بحد أدني من الذكاء السياسي، دعك من الوطنية، لن يرتكب مثل هذه الحماقة، لا بد أن يرفض استوزارا يبدأ بحلف اليمين، أمام رئيس فقد الشرعية قبل الهيبة، ثم إن الطريق إلى الوزارة مفروش بدماء الشهداء ولعنات الجرحى. وقدرت أن العصفور لم يحاول أن يأتي إلى الميدان ليرى ويسمع، أو أن يطير محلقا كسائح، قبل أن يسقط من شاهق.

لم أحاول التأكد؛ جابر عصفور أكثر ذكاء، وأكبر من السقوط في مثل هذه الخطيئة، وهو يعرف خطايا نظام يستحيل إصلاحه. وهل يمكن أن يصلح نظام نفسه وقد قامت القيامة؟

لم أحاول الاتصال بأحد، وفتحت البريد، وقرأت رسالة كريم قطافة:

«عزيزي سعد.. الحمد لله على سلامتك.. لا تنس أنك شاهد الآن على أعظم حدث تاريخي في تاريخنا المعاصر.. أرجو أن يتكلل هذا الحدث بالنصر، ولا تذهب تضحيات الشهداء هدرا بين بطانات النظام الذي يلفظ أنفاسه والمعارضات المتهالكة.. ما زلت متخوفا من الصبغة الإخوانية التي يراد لها أن تصبغ الحدث.. لكن يبقى أملي كبير بالشباب المشحون بروح مصر ونسغ التاريخ العظيم لهذا الشعب.. أحييكم ولا تبخل بالأخبار.. سماعها منك مباشرة سيكون له طعم الصدق وحرارة الحدث.. منذ أسبوع وعيوننا لا تفارق شاشات التلفزيون.. أشد على أياديكم».

أذيع خبر استوزار عصفور، وكتبت في صفحتي على الفيسبوك:

«مساء الجمعة (28 يناير) كتبت هنا بالنص ما يلي: جابر عصفور يمتلك جرأة بأثر رجعي، ويتحدث في التلفزيون المصري بشجاعة إمساك العصا من المنتصف، بما يليق بخادم سيدتين.. جيهان السادات وسوزان مبارك.

وها هو يصبح وزيرا للإرشاد، في حكومة الخراب، مع غيره من المماليك».

انتظرت أمام التلفزيون لأشاهد الكوميديا. رأيت أول مشهد يمثله عصفور في فيلم (الوزارة). وقف الذين سبقوه إلى حلف اليمين عند نقطة محددة سلفا، على بعد خطوات من الرئيس، ولكن جابر أسرع، حتى كاد يلقي بنفسه في حضن مبارك. الموظف الملتزم تجاوز عنق الميكروفون الممدودة لالتقاط النطق باليمين، عند مكان محدد ينبغي ألا يتجاوزه الوزير. وضحك أسامة عفيفي، وقال إنه لا يصدق نفسه، ويريد فقط أن يحصل على لقب (وزير سابق). وقلت إن الثورة لن تسعفه ليستخرج جواز سفر دبلوماسيا، وعلى الفور كتبت في صفحتي على الفيسبوك:

«أقل من أسبوع. العزاء ثلاثة أيام فقط. ما رأيته في تمثيلية حلف اليمين سرادق عزاء. هذا ما رأيته في عيني مبارك وعيون المماليك».

اتفقت التعليقات على انتقاد جابر، حتى إنني لم أجد شيئا يشفع له.

دخلت الأهرام المسائي قرب منتصف الليل. سألني رئيس التحرير طارق حسن عن أخبار ميدان التحرير، وقلت: «لا بديل عن إسقاط النظام، الرجل فاقد الشرعية، ومنذ جمعة الغضب فقد الهيبة»، واقترحت عليه أن يكلم أحدا ممن يثق بهم مبارك، أو يستشيرهم في مثل هذه الظروف، ليقول له الصدق، وينصحه لمصلحته الشخصية، ومصلحة البلد، ألا يتأخر عن اتخاذ قرار لن نرضى بأقل منه، ما نقبله اليوم لن يرضينا غدا، فكل يوم يرتفع سقف المطالب، وليس منها تغيير وزارة. لو أعلن اليوم أو غدا حل البرلمان، أو التنحي ونقل سلطاته إلى نائبه، فسوف يكون بطلا، ولكن هذا لن يكون مطلبنا لو تأخرت قراراته كالعادة، سنطلب محاكمته.

صمت طارق حسن، لا أعرفه قبل أن يعين رئيسا للتحرير في مارس 2009، وظل أياما في موقعه، وليس بيننا كلام، إلى أن جاء محمد عبلة ليزورني، وقابله مصادفة، وظنه جاء ليبارك على غير موعد، وقال له محمد عبلة إنه أتى لزيارة سعد القرش، فسأله: «من سعد القرش؟». لا أعرف موقع طارق في الحزب الوطني، أو لجنة السياسات التي تحكم البلاد من الباطن بمعرفة الشعب والحكومة الرسمية، والتعامل بيننا، راق ورسمي، نتكلم في تطوير الصحيفة، واقتراحات حول ملفات وقضايا للنشر، وقضايا بخصوص قسم التحقيقات الذي أتولى رئاسته أو الإشراف عليه، ولكننا نتجنب أي كلام في السياسة، أو ما يتعلق بمبارك الكبير أو الصغير، أو التوريث، أو حسن نصر الله أو حماس. وقلت له مرة لكي أطمئنه أنني لا أطمع في شيء، مستعيرا مقولة لأحمد أمين:

«أقصى طموح لصحفي أن يصبح رئيسا للتحرير، ثم رئيسا لمجلس الإدارة، وأنا أصغر من صحفي وأكبر من رئيس مجلس إدارة».

أنصت طارق إلي باهتمام، ثم قال إن مبارك عنيد، وقراراته تتأخر أكثر من اللازم.

في الميدان ننتظر خبرا واحدا، ولا نتواصل جميعا مع التفاعلات السياسية، إلا من خلال شاشة كبيرة عند إذاعة الميدان القريبة من الجامعة الأمريكية، مخصصة تقريبا لقناة الجزيرة، وقنوات الجزيرة يتم التشويش عليها، ويطوف البعض في الميدان حاملين لافتات تنبه ناس الميدان إلى التردد الجديد للجزيرة، ويمكن للجالسين أمام الشاشة، قراءة شريط الأخبار، وهم يستمعون إلى ما يمكن اعتباره برلمانا شعبيا، يتولى إعداد فقراته شبان في غرفة خلف ستارة، بجوار صيدلية لعلاج الجرحى في أول مستشفى بالميدان.

في زحام الميدان، لم أعلم أن عمر سليمان نائب الرئيس أعلن أن الرئيس كلفه ببدء حوار مع القوى السياسية، وفوجئت بالتعليمات الجديدة. إنها الإفاقة من غيبوبة مزمنة، والاستعلاء الذي يدعي احتكار الوطنية، ويمنع آخرين أن يتصفوا بها، أو تلحق بهم، باسم أوهام لم يصدقها إلا سدنة النظام وحدهم، وكنا نضحك كثيرا مصطلح (المحظورة) اسما حكوميا للإخوان، وهم حقيقة في شارع لا أثر فيه للحزب الحاكم، ونسأل: مادامت محظورة فلماذا تخيفكم إلى هذا الحد؟ وإذا كان المصطلح معروفا فلماذا لا يعترف بهم وبه، بدلا من سياسة الاستعماء. كانت التعليمات الجديدة تتضمن الاتصال برموز القوى السياسية من دون استثناء، من الإخوان وحركة 6 ابريل، وكفاية، والأحزاب الرسمية وغير المعترف بها، واستطلاع آرائهم بخصوص حوار وطني، هنا والآن.

في مقدمة ملحمة الحرافيش، يقول نجيب محفوظ على لسان الراوي: «ولكن آفة حارتنا النسيان»، وهي آفة مدعي الوطنية ممن لا يعرفون أنهم مجرد أداة في يد السلطة، تحركهم إلى حيث تشاء وقتما تشاء. على سبيل المثال نشرت (الأهرام المسائي) يوم الخميس (27 يناير)، في الصفحة الأولى تحت عنوان (الإخوان يبدأون سيناريو الفوضى)، تقريرا عن «تحركات تنظيم الإخوان غير الشرعي»، وإن «من يسمى بمرشد الجماعة محمد بديع» أعلن هذه التحركات في بيان، ولكن الصحيفة نفسها بعد أربعة أيام، لم تحترم ذكاء القارئ ولا ذاكرته، من دون حتى الاعتذار له، حين تخلت عن وصف الإخوان بالجماعة المحظورة، أو بالمحظورة من دون كلمة الجماعة، واستجدت قادة الإخوان أن يقولوا شيئا عن الحوار مع الحكومة، ونشرت تصريحات ممثل الإخوان، وتصريحات غيرهم من قادة الأحزاب والتيارات السياسية الأخرى، وقد رحب كثيرون بالحوار، والجلوس إلى الحكومة، وإن وضعوا شروطا لتجميل الشكل العام.

أما عبد الحليم قنديل فظل على موقفه. ونشرت (الأهرام المسائي) الحكومية في اليوم التالي (1 فبراير)، في الصفحة الأولى، على لسان قنديل رفض (كفاية) الانضمام إلى مثل هذا الحوار، بل اتهم من يشاركون في هذا الحوار بخيانة الثوار والتخلي عن أهداف الثورة. قلت لزملائي، وأنا أعجب لمكر التاريخ وسخريته، إن الثورة حين قامت عام 1952 ذهب جمال عبد الناصر إلى السجن، وأخرج فتحي رضوان وجعله وزيرا، وإن ثورة 2011 جاءت بعبد الحليم قنديل إلى الصفحة الأولى في صحيفة يومية حكومية، ليعلن رفضه التحاور مع نظام غير شرعي، ويتهم المشاركين في الحوار بخيانة دماء الشهداء، وإجهاض الثورة. ثم اتصلت بقنديل بعد يومين، وحكيت له القصة، وذكرته بليلة خطفه والتعدي عليه، وضحكنا.

الثلاثاء 1 فبراير

أيام الجمعة والأحد والثلاثاء هي مليونيات الثورة في ميدان التحرير، في الأيام الأخرى لا أكون مطمئنا، وأتجنب الرد على مكالمات أصدقاء في مدن مصرية أو عربية أو أجنبية، هم يريدون الاطمئنان، ويستمدون الثقة والعافية النفسية من منسوب الأمل في ميدان التحرير، كلما ارتفعت راية الميدان، رأوا الأمل قريبا، ولمسوه بأيديهم، واستهانوا بأي شيء. يسألني محمد أبو السعود وأحمد عزت سليم من المحلة الكبرى: «فيه أمل قريب؟ المظاهرات مولعة في المحلة، ولكن الوضع في التحرير هو أملنا».

مدينة السويس حملت راية الثورة في الأيام الثلاثة الأولى، وحافظت عليها، وسلمتها إلى ميدان التحرير في جمعة الغضب، ولم تنتكس ساعة واحد، وتناسلت رايات في أركان الميدان والشوارع المحيطة به. أمر في شارع قصر النيل، على اثنين من البوابين ومعهما شاب لعله موظف أمن، كل يوم أول الليل بعد ساعتي القيلولة، والشاب الذي قدر أنني آتي قرب المغرب من الميدان وأعود إليه بعد ساعتين، يسألني يوميا عن مبارك: «ماشي الليلة يا أستاذ؟». في أيام المليونيات أقول له بثقة: «غالبا الليلة، أملنا كبير»، وفي أيام السبت والاثنين والأربعاء والخميس أقول: «هانت، نصبر عليه ليلة».

منذ الصباح ولا عمل لقنوات التلفزيون المصرية إلا خلق رأي عام ضد المتظاهرين، والتشكيك في دوافعهم، ووجود عناصر بينهم تعمل على تخريب البلد، وإثارة الفزع لدرجة لا تدفع متهورين آخرين، ولو من باب الفضول، إلى الانضمام إلى «مواطني الميدان»، ودعوة كل مواطن إلى حماية بيته وعرضه بنفسه، في ظل استمرار الفراغ الأمني. مارس الإعلام تضليلا أقرب إلى خيانة الشرف الإعلامي والشرف الوطني، باختلاق أصوات لمواطنين يتكلمون من داخل الاستوديو أو من خارجه، بعد الاتفاق معهم. يصرخون ويستغيثون، حتى أصبح التلفزيون المصري بقنواته المتعددة صوتا واحدا اسمه (قناة أم أنس الندابة)، لا عمل لها إلا البكاء والعويل. ومن شأن الندابة أن تأتي بمساعدين، والأقربون أولى بالمعروف، وها هو صبي يبكي حزنا على مصر، بعد أن خدعه المتظاهرون في التحرير، حين ذهب للتضامن معهم، فتبين له أنهم غير مصريين، يتحدثون الإنجليزية، ليس لأنهم خريجو مدارس اللغات، وإنما لأنهم أجانب عملاء. وتصرخ امرأة في مكالمة استمرت أكثر من خمس دقائق، وتعلن على الهواء أنها تغتصب الآن، وتنسى الحوار المتفق عليه، إذ تتطرق إلى التحسر على مصر المغبونة في أبنائها المغرر بهم. ليس هناك عاقلة تفكر، أثناء تعرضها للاغتصاب، فيما هو أبعد من حدود جسدها الذي يشغلها الدفاع عنه، ولكن هذه ربما كانت محترفة اغتصاب، تتناول الشأن العام، ثم تعود للعواء والاستغاثة، لكي ينقذها أحد الشرفاء، على الهواء، من الذين لم ينتهوا من اغتصابها!

وفي حين كان التلفزيون المصري يعمل بمنطق الموظف، ويقدم أغنيات لا يستمع إليها أحد، كانت قناة الجزيرة المتهمة بالعداء للنظام، والانحياز إلى الشعب، تذيع قصيدة «مصر تتحدث عن نفسها»، وخصوصا البيت الذي تقول فيه أم كلثوم: «أنا إن قدر الإله مماتي / لا ترى الشرق يرفع الرأس بعدي».

فعلتها اليوم سها النقاش، استقالت وأرضت ضميرها المهني. كانت قد قرأت، يوم الأربعاء 26 يناير، خمس نشرات إخبارية في قناة النيل للأخبار. قرأت نشرات هي الكذب نفسه، كذب يتحايل على حقيقة أن الشارع يغلي، ويريد التلفزيون الرسمي أن يميل ميلا عظيما، ليوهم الدنيا أن كل شيء هادئ. قالت إنها وزملاء آخرين شاركوا في التضليل كانوا يشاهدون، في الاستراحة، كيف اشتعلت المظاهرات في عموم البلاد، وقررت ألا تقرأ كذبا، واستقالت: «قررت ألا أعود مرة أخرى. غادرت لأن التغطية افتقدت للحد الأدنى للأخلاقيات المهنية».

أمس علقت لافتة عنوانها «هؤلاء من أركان النظام الذي يحكم مصر»، اللافتة تضم صورا ملونة تغني عن كتابة أسماء أصحابها. منح مصصم اللافتة كل صورة لقبا من كلمة واحدة، فإلى جوار صورة صفوت الشريف رئيس مجلس الشورى كلمة «القواد»، وإلى جوار صورة حبيب العادلي وزير الداخلية كلمة «السفاح»، وإلى جوار صورة رجل المال أحمد عز وهو أمين التنظيم في الحزب الوطني كلمة «اللص»، وإلى جوار صورة فتحي سرور رئيس مجلس الشعب كلمة «المزور».

ظل مبارك في محبسه بالقصر. لم يكن يعنينا أين يقيم، إنه سقط بالفعل، وفي استباق للزمن صنعت له اليوم دمية في الميدان، وأقيمت محاكمة شعبية، له ولرجاله البارزين، كان مبارك في المحاكمة دمية، مع دمى أخرى لرجاله الذين علقت صورهم الملونة مصحوبة بألقابهم الجديدة، أصبحوا ألقابا من دون أسماء، ووجهت إليهم اتهامات بالقتل الجماعي لمتظاهرين مسالمين، وسرقة المال العام، وتعالت الهتافات: «الشعب يريد إعدام الرئيس»، و«الشعب يريد إعدام السفاح»، وكان الدمية مشنوقة تميل مع الريح.

منذ اليوم الأول، سارعت إلى تسمية الثورة «ثورة».

كان أصدقاؤنا العرب أيضا لا يرضون بأقل من «ثورة». إطلاق اسم آخر تزوير فادح وفاضح. وجدت في انتظاري رسالة إلكترونية تركتها لي وجدان الصائغ من أمريكا:

«قلقة جدا. طمني عنك. قلبي معكم».

نحن في الميدان، وفي القاهرة، وفي أرجاء مصر، نراهن على الوقت، ونثق بنجاح الثورة، بقدرتنا على الصمود، وننتظر احتضارا بدأ بالفعل، وبقي الإعلان عنه. وأزعجني قلق أصدقاء عرب ومصريين في الخارج، بالتوازي مع بدء سفر جاليات أجنبية، وسألت أصدقائي عما إذا كنا نبالغ في الثقة، أم أنهم يرون ما لا نرى. تأخرت ردي على وجدان، وهي أرسلت من جديد:

«لم أستطع أن أنام منذ جمعة الغضب. أتابع ما يحصل ومعي الأمل بأن يستجيب الدكتاتور لمطالب الناس. قلبي معكم والفرح قاااادم».

وكتبت في صفحتى على الفيسبوك:

«لأصدقائي خارج مصر: البلد بخير، اختفت الميليشيات التي أمرها وزير الداخلية بالتخريب المنظم خلال الاثنتي عشرة ساعة التالية لنجاح الثورة في الاستيلاء على ميدان التحرير. قوات الشرطة سحبت وهذا خيانة للوطن. سيأتي وقت الحساب. الآن (الشارع لنا)، والشبان يؤمنون الميادين والشوارع والمنشآت، وينظمون المرور، في ظل الغياب التام لأي شرطي في مصر. رجعت مصرنا تاني، في انتظاركم».

أوقفني جندي بجوار دبابات في ميدان مصطفى كامل. خلفي شارع محمد فريد وتمثاله وميدانه، وأمامي تمثال رومانسي لمصطفى كامل الزعيم الشاب الحالم، في تقاطع شارعي محمد فريد وقصر النيل. سألني الجندي وهو يشير إلى ساعته: إلى أين؟ فهمت أنه يقصد حظر التجول، وقلت له إنني ذاهب إلى ميدان التحرير. كان السلك الشائك يغلق الشوارع والأرصفة، ودبابتان تسدان نهر الشارع، باستثناء فتحة صغيرة لعابر واحد، «ثغرة» وسط حقل ألغام. أشرت إلى شارع قصر النيل، وقلت إنني أسلكه كل ليلة، في ظل حظر التجول. قال: «ممنوع يا أستاذ». لم أعرف هل ممنوع الذهاب إلى ميدان التحرير، أم أن الممنوع هو الذهاب إليه عبر شارع قصر النيل، واقترح أن أستأذن الضابط. ابتسمت له، وتذكرت نقيب الشرطة ذا النجوم الست الموزعة بالعدل على كلتا كتفيه، ورأسه الأفعى يخرج متسللا من سقف السيارة، في جمعة الغضب، ليحصد الأرواح. والضابط اطلع على بطاقتي اتحاد الكتاب ونقابة الصحفيين، وأبلغني بخطورة السير في شارع قصر النيل، وقلت له إنه أقصر الطرق إلى ميدان التحرير، ولا خطر منه، هو طريقي كل ليلة، واستأذنته أن يدعني أمر على مسؤوليتي. وأبلغت الجندي موافقة الضابط، وسألني الشاب الجالس بصحبة اثنين من البوابين: «ماشي الليلة يا أستاذ؟». وقلت: «أملنا كبير».

بدأ المساء كالعادة باقتراب موجات الثائرين من إذاعات الميدان. الإذاعة القريبة من الجامعة الأمريكية يتناوب الكلام فيها برلمانيون ومسؤولون سابقون، وموظفون يستعرضون بالوثائق ملفات فساد لمسؤولين سابقين وحاليين. الإذاعة الثانية القريبة من مسجد عمر مكرم شبابية بامتياز، وتستوعب الكبار أيضا، إذ يتحدث فيها شعراء ومواطنون يستعرضون شكاواهم، بين وصلات من الغناء والعزف لشباب يقدمون شعارات الثورة بألحان مبتكرة، يكاد أحدهم يلحن الكلام العادي «الشعب يريد إسقاط النظام»، أو «ارحل.. ارحل يعني إمشي.. ياللي ما بتفهمشي». الإذاعة الثالثة بين شارعي البستان وطلعت حرب، قريبة من المتحف المصري، ويغلب عليها الطابع الناصري في الكلمات والشعارات والأغنيات. وتتناوب الإذاعات الثلاث بث أعمال من تراث الغناء الوطني.

لم يتردد الشيخ سيد درويش في قبول دعوة الثوار. كان قد استعد قبل أن يتلقى الدعوة، واستأذن الريحاني وغادر شارع عماد الدين، وحمل عوده وأقام في الميدان. في الطريق دندن بأغنية «قم يا مصري»، وقابل الشيخ إمام، حياه وسأله عن جديده، فغنى «مصر يا امه يا بهية»، وغارت شادية واستقبلتهما بأغنية «يا حبيبتي يا مصر»، ثم أنصتوا لأغنية «باسمك يا بلدي.. جيشك وشعبك» لنبيلة قنديل، وسألهم الشيخ سيد عن الملحن، فانفعل يوسف شاهين، ورمى السيجارة، ولم ينتبه إلى وقوعها بين قدمي محسنة توفيق، وقال: «أنا»، ثم استدرك: «أنا صاحب الفكرة، وقلتها لعلي إسماعيل»، وسأله: «شفت فيلم (العصفور) يا شيخ سيد؟». وظل عبد الحليم حافظ يطلق أغنية الميدان «صورة»، ونتجاوب معها، ونحن نعلن في فخر أننا أهل الميدان «واللي هيبعد م الميدان عمره ما هيبان في الصورة»، ولكن أم كلثوم كانت الأشجى والأعمق بأغنية «حق بلادك»، وهي تقف في الحديقة الوسطى للميدان، تحرضنا وتأمرنا بالتوطؤ مع رياض السنباطي: «قوم بإيمان وبروح وضمير / دوس على كل الصعب وسير / حق بلادك وحده عليك / عايز منك سعي كتير / دوس على كل الصعب وسير... كلنا جند في كل ميدان / هنا وهناك وفي أي مكان / الزراع ويا الصناع / أهل العلم مع الفنان... انوي. سمي. صلي. كبر / توصل فوق المعجزة وأكتر». وانشغل الشيخ سيد عن بقية الأغنية، وسأل عن المرأة ذات الكبرياء، وهي تجفف فضة العرق، في برد يناير، بمنديل أبيض، وحين عرف أنها البنت التي تنبأ لها بهذا المجد، دمعت عيناه، وقال بتأثر:

ـ «كلهم غنوا لميدان التحرير؟ وبديع خيري كسلان! ».

فقال له: «أتحداهم يا شيخ، ابدأ أنت والميدان يردد». وغنى «أحسن جيوش في الأمم جيوشنا».

ثم نهضت أم كلثوم. تحدت نفسها، وعلا صوتها الحي بأغنية أخرى، اعتبرناها أيقونة وشعارا: «أنا الشعب أنا الشعب لا أعرف المستحيلا.. ولا أرتضي بالخلود بديلا».

كان السلطات قد منعت اليوم متظاهرين من عدة محافظات أن يدخلوا القاهرة، إلا أن ميدان التحرير ازدحم بأكثر من مليون ثائر دوت صيحاتهم، وهم يعلنون مطلبهم الوحيد «الشعب يريد إسقاط النظام»، ولا يستعدون للتنازل عنه، ولا التفاوض حوله.

ولكن هذا المنع اعتمد على جغرافيا قديمة، ولا وعي يتعامى عن إمكانية الاتصال بالعالم في ثوان، لم تمنعنا العزلة في جمعة الغضب أن نتصل بالعالم، بالتحايل على الخيال القديم. ومن عواصم عربية وأجنبية بدأ مثقفون مصريين يوجهون سهامهم إلى النظام، وفرحت بأول بيان يصلني، وقبل نشره أعدت إرساله إلى مصريين آخرين لم يعلموا به، ولكنهم انضموا إلى الثورة. كان البيان يطالب بإسقاط نظام مبارك، بكل رموزه وقياداته، وتشكيل حكومة انتقالية من قوى تثق فيها الجماهير، وصياغة دستور جديد يضمن إقامة دولة مدنية، وإقرار حقوق المواطنة، وحل مجلسي الشعب والشورى، وإجراء انتخابات حرة، ومحاكمة رجال الشرطة الذين سيثبت تورطهم في أعمال القمع والتعذيب وإشاعة الفوضى ونهب الممتلكات وترويع الأهالي، وعلى رأسهم حبيب العادلي. ولم ينسوا إدانة «الموقف المخزي للدكتور جابر عصفور لقبوله تولي حقيبة وزارة الثقافة، في نظام لفظه الشعب بكل أطيافه».

لم نكن وحدنا في الميدان. كانت أصوات المغتربين تصلنا، تنبعث من حناجرنا. تصورت مبارك قد سمع في قصر الرئاسة نداءات الثائرين، ولم يفهم جيدا، لأنه مشغول بمتابعة إحدى قنوات التلفزيون المصري، وهي كافية لبث الرعب في نفوس العجزة وكبار السن. ثم تعالت الصيحات، وهو سمعها وبلغته أصداؤها ولم يفهم، أو لا يريد أن يفهم أنه المقصود بشعار أمسى أكثر وضوحا وتحديدا «النظام هو حسني.. وحسني هو النظام». توقعت أن تكلل جهود مليونية اليوم بإعلان التنحي، ليحتفظ الرجل بلقب «الرئيس السابق»، ويعيش بيننا كريما، مسجلا سابقة وجود رئيس سابق ترك الكرسي، استجابة لرغبة مواطنين يقدرون دوره في حرب أكتوبر وما قبلها. ولكنه احتفظ بعناد لا يريد التخلي عنه، وجاء خطابه في وقت متأخر قبيل منتصف الليل يسجل جانبا من هذا العناد أو التعامي.

لم نكن وحدنا في الميدان. كان الجيش يحمينا، ونرى الدبابات والمدرعات والضباط والجنود فنشعر بالطمأنينة، وتتلقى تليفوناتنا باكورة بيانات للجيش، في صيغة رسائل نصية قصيرة، تؤكد «أن حرية التعبير بالطرق السلمية مكفولة للجميع»، وتدعونا للتصدي لأعمال التخريب، والحفاظ «على مقدرات وممتلكات شعبكم العظيم».

الساعة 8.26 مساء تلقيت على تليفوني ما اعتبرته جزءا من البيان الأول للجيش: «يا شباب مصر. احذروا الشائعات وأنصتوا إلى صوت العقل. مصر فوق الجميع فحافظوا عليها». لم يكن أهل الميدان يطلقون شائعات، ولا يملكون فضائيات تجعلهم في موقف قوة، وفهمت أن الرسالة موجهة لمشعلي حرائق الكلام من مروجي الشائعات على الفضائيات الرسمية وفضائيات رجال المال المرتبطين بعلاقات مشبوهة مع مبارك وابنيه ونظامه. رأيت الرسالة تطمئننا، وتدعونا إلى التمسك بمواقفنا، والثبات في مواقعنا، وأن نحذر الشائعات، ونحن بالطبع نحذرها.

كنا بالميدان، ننتظر نهاية محددة، في حين كان أحمد شفيق يواصل المرور بالفضائيات الحكومية والخاصة، ويستضاف بغزارة في برامجها، والليلة رفض الاعتراف بأن يحدث «ثورة»، وقال ردا على سؤال لمذيع في قناة (الحياة) إن هناك 100 ألف في ميدان التحرير، أو 200 ألف يحتجون، ولكن هذا «مش ثورة».

صحيفة (الأهرام) المتهمة بالانحياز لمبارك ضد إرادة الشعب، زايدت بحساب، وتوقعت شيئا ما، قبل إذاعة خطاب مبارك، وخرجت طبعتها الأولى (2 / 2 / 2011) تحمل عنوانا استباقيا «مظاهرة مليونية تطالب بالتغيير»، عنوان يشي ويلمح ولا يصرح بأن المظاهرة المليونية تطالب بإسقاط مبارك. ولكنها في الطبعة الثالثة، بعد خطاب مبارك، غيرت العنوان فأصبح «مبارك يعلن إجراءات الانتقال السلمي. لن أترشح لفترة رئاسية جديدة».

واتصل بي زميلي في الأهرام المسائي علي محمود، يسألني عن أخبار الميدان، وقلت إن مليون ثائر في الميدان ينتظرون كلمة واحدة، «فهمتكم»، لنغادر ونستريح من ملل خطبه التالية. وقال إن الأهرام نشرت في الطبعة الأولى تمهيدا لهذا التنحي، ولكنها أطلقت عليه كلمة «التغيير».

ولكن العناد والاستكبار ذهبا بمبارك، في خطابه، إلى توجيه الاتهام إلى مناطق أخرى تسعى لتشتيت الانتباه منها «إشاعة الفوضى، واللجوء إلى العنف والمواجهة، للقفز على الشرعية الدستورية والانقضاض عليها».

من علينا الرئيس بما قدمه للوطن «حربا وسلاما»، ودعا البرلمان لمناقشة مادتين في الدستور. واسغفلنا وراهن على ضعف ذاكرتنا، هو يقول في تهدج: «لم أكن يوما طالب سلطة أو جاه... وأقول بكل الصدق، وبصرف النظر عن الظرف الراهن إنني لم أكن أنتوي الترشح لفترة رئاسية جديدة، فقد قضيت ما يكفي من العمر في خدمة مصر وشعبها». وختم الكلمة المكتوبة بذكاء: «إن حسني مبارك الذي يتحدث إليكم اليوم يعتز بما قضاه من سنين طويلة في خدمة مصر وشعبها. إن هذا الوطن العزيز هو وطني... وعلى أرضه أموت».

في الميدان، لم نتابع الهستيريا الفضائية بعد خطاب مبارك، ولكن نوارة نجم قالت لقناة الجزيرة، الوحيدة التي نتمكن من مشاهدتها في الميدان، إن الخطاب فخ جديد لمبارك، يريد مهلة لتصفية حساباته مع الشعب، وإننا كنا نطلب رحيله، وبعد كلامه الذي استهان بتضحيات الشعب، فلا أقل من المطالبة بمحاكمته.

في هذه الليلة، أعلن محافظ الجيزة اللواء المهندس سيد عبد العزيز، في التلفزيون الرسمي أن مظاهرة ستخرج، غدا الأربعاء، بالجمال والخيول من منطقة نزلة السمان القريبة من الأهرام، تأييدا للرئيس. ضع هذا التصريح/التحريض إلى جوار حديث عماد الدين أديب إلى (المصري اليوم) عن «ضبط مجموعات غير مصرية في المظاهرات تحمل أجهزة اتصالات ثبت أنها مرسلة من الخارج». (2 / 2 / 2011)، لتكون النتيجة حربا أهلية في ميدان التحرير.

هل كان ورود اسم الرئيس في نهاية خطابه، حين قال «إن حسني مبارك الذي يتحدث إليكم اليوم»، هو كلمة السر لانطلاق القوى المعادية للثورة؟ في طريق العودة فكرت في الخبيث الذي كتب هذا الخطاب الخبيث، وتساءلت عن تأخر مبارك، ثمانية أيام، لكي يتكرم بتقديم ما يراه تنازلا يضطر لارتكابه من أجلنا، كالحديث عن انتقال سلس للسلطة، ولماذا لم يعلن من قبل أنه لا ينوي الترشح. في مايو 2010، تفادى سؤالا مفاجئا، في مؤتمر صحفي في روما، عمن سيخلفه. قال: «من يعلم؟ الله وحده يعلم من سيكون خليفتي»، ولكنه آنذاك لم يعد بعدم الترشح، وهو اليوم في موضع الضعيف، ويكاد يستجدي الناس أن يتركوه، وها هم يتحركون تلقائيا، يقودهم معادون للثورة، بعد أن بيتوا بليل مؤامرة، لحماية الأسد الجريح.

في صفحتى على الفيسبوك، علقت على الخطاب الذي يصر على استحمارنا، بثلاث كلمات:

«جابه لنفسه. مسكين».

رددنا على الخطاب المائع مباشرة «لازم لازم حسني يغور.. قاعدين هنا 9 شهور»، وقدرنا أنه لن يكون أكثر شجاعة من زين العابدين بن علي، وقلنا إنهما سواء، وعلى هذا فمن حق مبارك أن يدلي بخطاب ثالث يقول فيه «فهمتكم»، ثم يهرب.

وظلت هتافات «هو يمشي.. مش هنمشي» تأتيني من الخلف، وأنا أترك الميدان، باحة تسع مليون ثائر يحرصون على نظافته، قبل أن يتحول في الغد إلى ميدان قتال، وتقتلع أرصفته، وتتفتت حجارة صغيرة لا يجد المسالمون غيرها للدفاع عن أنفسهم، يقاومون بها أناسا من بني وطنهم ارتضوا أن يكونوا بنادق للإيجار.

غادرت الميدان وتجاوزت جسر قصر النيل. ودعت النهر، وحلمت بسيارة عابرة. ثم بلغت جامعة القاهرة، وتوقفت الميكروباص، ولم أسال السائق: إلى أين؟ وهو قال: الطالبية، منتصف شارع فيصل، هذا يريح قدمي بعض الشيء، ويعفيني من سير نحو أربعة كيلومترات، وربما أجد سيارة أخرى لبقية المسافة. كان رجل تجاوز الستين يتكلم عن الرئيس وخطابه الأبوي، ظننته يكلم الجالس بجواره، وتبين لي أنه يتكلم بلهجة الناصح الضائق بالمتظاهرين:

ـ «وقفوا حال البلد، ناكل عيالنا؟ الرجل قال إنه ماشي، سيبوه يكمل مدته، ويتوكل على الله».

لم يرد عليه أحد، وهو أتبع:

ـ «تطلع بنت في التلفزيون، عاملة نفسها زعيمة، تزعق وتقول لك: أنا ناشطة، وهي لا مؤاخذة غبية، ناشطة في ايه يا بنت الكلب؟».

سألته:

ـ «مبارك صعبان عليه البلد؟ ما يتوكل على الله ويتركها».

ـ «خلاص يا جماعة، كلها كم شهر ويتوكل».

قلت له:

ـ «ومن يضمن له أنه يعيش يومين، لو مات بكرة الدنيا تمشي من غيره».

صرخ وهو يغادر السيارة:

ـ «حرام عليكم يا ظلمة، ارحموا الرجل العجوز».

ـ «يرحل ويستريح منا، يلبس بيجامة ويتفرج على الجزيرة».

ضاق بي الرجل:

ـ «الجزيرة؟ لا عاشت ولا كانت. ولعت البلد، وقعدنا قدامها ليل نهار، لا شغل ولا نوم».

كان السائق قد عاني تعنت أعضاء اللجان الشعبية، في شارع فيصل. يهبط للتفتيش الذاتي، وبعد عشرين مترا يأمره أعضاء لجنة أخرى بالهبوط ويفتشونه، ويحومون حول السيارة، ويتأملون الركاب، وفي النهاية قال السائق: «خلاص يا جماعة، الرحلة انتهت. البهدلة، والله العظيم، ما ترضي ربنا أبدا»، وآثر أن يدخل شارع العشرين.

مشيت في صحبة شاب قال إنه غير متعلم، وانضم إلى أهالي التحرير اليوم، وقطع كلامنا هدير بالقرب من متحف طه حسين، لعشرات من الشباب، يسبقون سيارة تمشي ببطء ويتبعها بعضهم، وعلى يمينها وشمالها آخرون، ومكبر صوت يذيع أغنيات لا أتبينها وسط هتافهم: «سلمية سلمية». جعلني هذا النداء الأثير لا أبالي بهم، وقلت إنهم منا، يتجهون للميدان للمبيت فيه، حتى لا يخلو في الفجر، وهم يعلنون الشعار السحري «سلمية سلمية»، لكي لا يضايقهم أعضاء في اللجان الشعبية. ولكن الشاب نبهني إلى أن بأيديهم أسلحة بيضاء، سكاكين وخناجر، وسألني:

«مظاهرة سلمية، وفي أيديهم أسلحة؟».

كان بعض أصحاب المحال يكتبون لافتات تقول «نعم للاستقرار والأمان»، وقلت لنفسي: ومن يرفض الاستقرار.

عدت إلى البيت مجهدا. استرحت لأن (ملك) نامت، ولن تطالبني النزول لنوبة حراسة. وقالت زوجتي:

ـ سمعت الخطاب؟

ـ سمعته.

ـ وقررتم ايه؟

سألتني كأن لي سلطانا أو وصاية على أحد، وقد ثار مواطنو دولة ميدان الميدان رفضا لمثل هذه الوصاية، وليس لهم كبير إلا ضميرهم الوطني، ويسعون إلى التغيير، ولا يؤمنون أو يثقون بجدوى ترقيع نظام يستعضي على الإصلاح. يريدون إزاحته، وكسحه بعيدا عن الطريق إلى المستقبل، وهم قادرون على ذلك.

هممت بالشرح، ورأيتها تستعجل الإجابة بكلمة، فقلت:

ـ يمشي.

رأيتها تشفق على الرجل. قالت إننا نظلمه، وهو لا يستحق هذا، وقد وعد بعدم الترشح، فماذا نريد أكثر؟ بكت ودخلت الغرفة، قبل أن أوضح لها أن تركه الآن يفلت بجرائمه أكثر خطرا مما لو لم تقم الثورة، سيعيطه «نصف الثورة» حصانة ومناعة تقاوم أي إصلاح، وسوف يسترد الأسد العجوز قوته، بوسائل مشروعة أو غير مشروعة، مهما يكن الثمن، ويمنع أي محاولة لقيام ثورة أخرى، أو نصف ثورة، ولن ينشغل إلا بترتيب أوراقه بهدوء الثعالب ومكرها.

أردت أن أقول لها إننا لا نثق بوعوده. هو يكذب كما يتكلم، وعدنا في عصر براءته الأولى بألا يحكم أكثر من فترتين، ثم استمرأ الفساد، ورفض تعيين نائب. وقال في افتتاح الدورة البرلمانية في نوفمبر 2006: «سأواصل معكم مسيرة العبور إلي المستقبل، متحملا المسؤولية وأمانتها، مادام في الصدر قلب ينبض ونفس يتردد». والآن ينسى هذا الكلام، ويدعي أنه لم يكن ينوي الترشح، فأي حسني مبارك من هؤلاء الثلاثة نصدق؟

هممت بالقيام، وإغلاق التلفزيون، فأمامي وقت قصير للنوم، وتلقيت الساعة 4.53 فجرا من الجيش، على تليفوني المحمول رسالة نصية قصيرة تقول: «إلى كل مواطن شريف. حافظوا على هذا البلد فالوطن باق إلى الأبد». أدركت أن هناك من يحرسني فنمت في أمان.

كان أولادي قد استعدوا لمغادرة القاهرة صباح الأربعاء، ونحن الآن في الفجر. وسوف أكتشف بعد ساعات أن الذي صاغ خطاب مبارك اللئيم نجح في أن يزرع الفتنة في البيوت، وقسم المواطنين فريقين، ولأول مرة يجد ناس التحرير أنفسهم في موقف الدفاع عن ثورة تواجه الآن رئيسا يبدو مستضعفا مستجيبا لمطالب لم يحلم بها المصريون على مدى 30 عاما.

كان على الثورة أن تستفيد من خطايا النظام وغبائه، وكان غبيا بامتياز. لم تمر إلا ساعات على نجاح الخطاب الأبوي المسترحم، حتى قتلت دواب البلطجة صاحبها، وفضحته على الهواء مباشرة أمام أنظار العالم، في غزو ميدان التحرير بقطيع من الجمال والجياد.

كان على الثورة أيضا أن تثبت جدارتها بشرف التحدي السلمي لسلطة بوليسية، وأن تجتاز اختبارا صعبا، أن تعبر النار من دون أن تتألم أو تنصهر، بل يزيدها ذلك صلابة.

ونجح اختبار الاحتجاجات في «موقعة الجمل»، بعد ساعات، وأصبحت الثورة ثورة.

الأربعاء الدامي .. الثورة تختبر

استعدت زوجتي وأولادي للمغادرة. تخلى التلفزيون، هذا الصباح، عن إذاعة الشريط المسجل أو المتفق عليه مع شخص يقول إنه تعرض لسطو، أو امرأة تدعي أنها تغتصب على الهواء مباشرة، وانشغل عن ذلك اللغو بعرض مشاهد حية، من أماكن مختلفة في القاهرة ومدن أخرى، وأسعد الذين قيل إنهم مناصرون لمبارك بمواجهة الكاميرا، وقالوا كلاما إنشائيا عن مزايا استقرار ينجزه الرئيس، وفوضى كادت تسقط فيها البلاد. ولم يسألهم المذيعون لماذا انتظروا أوامر قادة الحزب الحاكم لكي ينزلوا إلى الشارع في وقت واحد، للدفاع عما يؤمون به من أفكار.

بسرعة تصفحت (المصري اليوم). لم أستبعد تخطيطا شيطانيا لمعركة تحتاج، بالتوازي مع الحديث العاطفي لمبارك مساء أمس، إلى تعاون قوى معادية للثورة، جيش من المستفيدين من نظام مبارك، منهم عماد الدين أديب الذي سجل لمبارك عام 2005 سلسلة حوارات تلفزيونية أخرجها شريف عرفة، وهو من الدوائر القريبة من السلطة، ولم أشاهد عماد الدين في ميدان التحرير، وليس له عملاء سريون ليتشجع على أن يقول أمس الثلاثاء، تحديدا للمصري اليوم، في مقابلة نشرت يوم «موقعة الجمل»، بلهجة مسؤول في جهاز أمن الدولة: «تم ضبط مجموعات غير مصرية في المظاهرات تحمل أجهزة اتصالات ثبت أنها مرسلة من الخارج، ومنهم مجموعات عربية وأجنبية... وبعض المنظمات التي تتلقى أموالا من الخارج موجودة في هذه الحركة». (2 / 2 / 2011). وفي اليوم نفسه، نشرت (الأهرام المسائي)، التي تطرح في الأسواق مع شروق الشمس، صورة تشغل نصف مساحة الصفحة الأولى لمبارك يقبل العلم المصري، يعلوها عنوان يضع الدولة في كفة والرئيس في الكفة الأخرى، لا حياة لأحدهما من دون الآخر: «تحيا مصر.. عاش مبارك»، وفي الصفحة الأخيرة صور فوتوغرافية قديمة لمبارك، تمنحه بعض الشرعية، وتطيل عمره الرئاسي المديد، مع لوحة يفترض أنها من غرفة عمليات القوات المسلحة، في حرب أكتوبر 1973، يقف فيها الرئيس السادات، وعن يساره أحمد إسماعيل، وعن يمينه محمد عبد الغني الجمسي، ثم حسني مبارك يشير بيده إلى خريطة أمام الرئيس ويشرح له شيئا. وقد زورت هذه اللوحة، انتقاما من سعد الدين الشاذلي، لصالح مبارك. وكان الثلاثة الذين يفترض وجودهم مع رئيس الدولة هم: وزير الدفاع أحمد إسماعيل، يليه رئيس الأركان سعد الدين الشاذلي، ثم رئيس هيئة العمليات عبد الغني الجمسي. ولا يفترض أن يوجد مبارك قائد القوات الجوية، وحده من دون بقية قادة الأسلحة الأخرى. هي إذن الغيرة نفسها التي جعلت مبارك يضيق بالفيلم الروائي (حائط البطولات) إنتاج وإخراج محمد راضي، حتى إنه قال بعد أن شاهده: «لم أكن أعلم أن الفريق علي فهمي هو بطل حرب أكتوبر». وكان هذا التعليق كافيا لعدم عرض الفيلم الذي يتناول بطولات قوات الدفاع الجوي، ورئيسه علي فهمي، وليس مبارك الذي حمل طوال 30 عاما لقب صاحب الضربة الجوية الأولى.

قدت السيارة في صمت، من البيت إلى منطقة الإسعاف القريبة من دار القضاء العالي. كانت الشوارع قد أنبتت سيارات ودراجات نارية تنفث نفيرها في الهواء، ويعيش أصحابها عرسا مصطنعا، ويرد بعضهم بمنبه الصوت على الآخرين، والحركة سلحفائية، وسيارتي الوحيدة الخالية من لافتة مناصرة لمبارك. متى زرعت الشوارع وواجهات المنازل والمحال بهذه اللافتات القماشية أو المكتوبة على الجدران مباشرة؟ ومن وزع لافتات ورقية ألصقت بمقدمة السيارات ومؤخراتها: «بنحبك يا حسني»، و«ميدان التحرير مش صوت كل مصر. نعم لمبارك. نعم نعم»، و«نعم لمبارك. لا للتخريب. لا للخونة»، و«بحبك يا مصر. نعم للاستقرار»، و«نعم لمبارك. نعم للأمن والأمان»، و«لا لانتفاضة التحرير». ونشرت الأهرام المسائي في اليوم نفسه لافتة كتب فيها: «نعم. مبارك أعظم رئيس وسياسي مصري. طلبة كلية الإعلام جامعة القاهرة. معاك يا ريس متسبهاش وتمشي».

في صمت هبطت من السيارة، وعادت بها زوجتي متجهة من شارع 26 يوليو إلى كورنيش النيل. تأخرت على ميدان التحرير، ولكن الشارع الأقرب إلى ديكور شارع قاهري منعني أن أسرع إلى «أهلي» هناك، وفاجأت شابا في يده ورقة تحمل صورة لمبارك وتحتها «نعم للاستقرار». كان يقف أمام شركة الكهرباء، قبالة مستشفى الجلاء للولادة، وسألته عمن يوزع هذه الورقة؟ وكم أعطوه من المال؟ كنت مشحونا وقد استفزتني فجاجة المسرحية، وسؤالي جانبته الحكمة، وكان الشاب مسالما وبريئا، ولو أنه بلطجي أو مستفيد من حمل اللافتة الصغيرة لضربني، أو استدعى بلطجيا يطعنني، فأموت ميتة رخيصة، بعد النجاة من رصاص النقيب المطل من سقف المصفحة، في شارع طلعت حرب يوم جمعة الغضب. نفى الشاب أن يكون أحد قد أعطاه شيئا. صدقته وتشجعت على التمادي، وشرحت له كيف أن هذا الرجل ليس أهلا لينال شرف أن تحمل صورته، وقد وصلت البلاد في عهده إلى أوضاع متردية. والشاب قال إنه لم يعاصر رئيسا غير مبارك، وقلت إن هذه وحدها خطيئة. هز رأسه، ثم طوى الورقة، وعبرت الشارع إلى نقابة المحامين.

كان مؤيدون لمبارك يحاولون اقتحام نقابة المحامين، ويرفعون لافتات «نعم لمبارك»، ويرددون «يا برادعي يا جبان.. يا عميل الأمريكان»، ردا على تصريح الرئيس الأمريكي باراك أوباما مساء أمس (الثلاثاء) إن انتقال السلطة في مصر «ينبغي أن يكون ملموسا، وينبغي أن يكون سلميا، وينبغي أن يبدأ الآن».

على بعد خطوات من مدخل نقابة المحامين، وقفت على ناصية شارع عبد الخالق ثروت، وتذكرت اللواء وضباطه وجنوده الذين ضربوني، يوم 31 / 12 / 2008، في هذا المكان ولاحقوني منه إلى الرصيف وكسروا نظارتي وأخذوا التليفون. قلت إن الشارع من دونهم أكثر هدوءا وأمانا، ها هي نقابة الصحفيين لا يحرسها جندي واحد، ولا تتعرض لسوء، فلماذا كان النظام يرتعب من اجتماع بضعة مواطنين على السلم هاتفين بالحرية؟ ظللت أنظر ورائي، خشية أن يلاحقني أحدهم بتهمة الاحتجاج الصامت على مظاهرة مؤيدة لمبارك، أمام نقابة المحامين، أو بتهمة الاتجاه نحو ميدان التحرير.

دخلت ميدان لتحرير من ناحية ميدان عبد المنعم رياض. تحت قصف الحجارة، لم يفتشني أحد. كانت «موقعة الجمل» دائرة، ثم تراجع الخيالة والفرسان، وهم بلطجية الشرطة وضباطها وجنودها، أمام استبسال ثائرين لم يختبروا في ثورتهم منذ جمعة الغضب، وظل البعض يحوم حول مدخل الميدان، مستعرضا ومحتميا بالجمال والبغال والجياد، ومزودا بالعصي والأسلحة البيضاء وكسر الحجارة، ليحمي رماة يواصلون رشق أهل الميدان بالحجارة المدببة. في دفاع الثائرين عن الميدان لم يهتموا بتفتيش الداخلين، وشعرت بالقلق من تسلل دخلاء، وطمأنني محمد الروبي قائلا إن مفعول الفلوس سينتهي بعد ساعة. يقصد الأموال التي تقاضاها البلطجية، لكي يقوموا بمهمة قذرة، أودت بأرواح وخلفت جرحى لا يعنيهم إلا أن يقولوا: وطننا حر.

كنا قد بلغنا عمق الميدان، وقال الروبي: «حسني اتجنن، بعدما باعته أمريكا» مساء أمس، وأشار إلى أحد مداخل مترو الأنفاق، وقد اعتقل فيه جمل وبضعة جياد تم أسرها. في الأسر لم يشتبك الجمل مع خيول أسيرة لا تصهل، في حين اقتيد الأسرى من البلطجية، وبعضهم من الشرطة السرية، إلى الجيش، وكان يتسلمهم ويحتجزهم بعض الوقت، ثم يكافئهم بإطلاق سراحهم.

لم يحاول جنود الجيش فوق المدرعات أن يتدخلوا، وكتب الثوار على الدبابات شعارات جديدة تندد بمبارك، وتتهمه بخيانة الوطن، وتطالب بإسقاطه.

رددت الجموع:

«صاحب الضربة الجوية.. هو كبير البلطجية».

وارتفع لافتات في الميدان منها:

«وظائف خالية: مطلوب للعمل فورا لدى الحكومة المصرية بلطجية خبرة لا تقل عن خمس سنوات».

«مبارك ابن شداد يحرر ميدان التحرير بالجمال»، وتحت اللافتة أربعة جمال يقودها أربعة رجال.

ثم أتى ثائر بحصان تم أسره، والناس تحيط به، وكتب على فخذه «بلطجية مبارك»، وأخرجت تليفوني، وصورت مقطع فيديو لهذا الحدث، ولم نهنأ بالهدوء كثيرا، إذ تحولت الشوارع المحيطة بالميدان إلى ساحات تراشق بالحجارة، واشتباك بالأيدي مع من يتم اصطياده من البلطجية، ولا تخضع النتائج لتوقعات؛ فإذا كان الثائر قد أوذي، أو أصيب ثم عاد للاشتباك فلا يتسع صدره لرحمة بلطجي أسير، ويوسعه ضربا، في الطريق إلى الشرطة العسكرية التي تتسلمه ثم تفرج عنه، وأحيانا تفلح صيحتنا «سلمية سلمية» في التذكير بطابع الثورة، وتكون الغلبة لنبل الهدف لا الرغبة في الثأر والانتقام.

كانت المظاهرة المؤيدة لمبارك قد انطلقت من ميدان مصطفى محمود بحي المهندسين، تحت ستار الدعوة إلى الحفاظ على أمن مصر واستقرارها، ثم توجهت إلى مبنى التلفزيون بالقرب من خط التماس مع ميدان التحرير، وجرى الاقتحام الدامي. شاهدت فيما بعد شريطا مصورا على موقع يوتيوب يقف فيه مرتضى منصور، محذرا أتباعا ومريدين خطورة «المأجورين مثل البرادعي»، ويقول إن البرادعي «عنده عقدة نفسية من مصر... هذا الرجل النحس»، ثم يصف الثوار في ميدان التحرير بأنهم «شوية عيال مش مؤدبين... عيال سفلة»، ويبلغ التحريض ذروته في المشهد الأخير من المسرحية، هو يصرخ: «ميدان التحرير للشرفاء مش للمرتزقة». في تلك اللحظة كانوا جاهزين للزحف المقدس، لتحرير «ميدان التحرير من الخونة» بنص صراخ مرتضى.

وكنت واهما حين ظننت انتهاء مشروع التوريث في جمعة الغضب. مساء أمس (الثلاثاء)، قال مبارك الذي لا أصدقه إنه لن يترشح، ولكنه لم يعلن أن ابنه لن يترشح، وجاءت غزوة الأربعاء «موقعة الجمل»، بمشاركة أعضاء في الحكومة والبرلمان ورجال الأعمال الفاسدين في التخطيط والتنفيذ، لتؤكد استقتال جمال مبارك في الأمر، واستعداده أن يموت الثوار والبلطجية دونه؛ ففي الصفوف الخلفية لكتيبة المقاتلين من أجل التوريث، فوق الجمال والجياد، كان حملة لافتات منها «الشعب يريد بقاء الرئيس»، و«قائد الحرب والسلام»، ورفع بعض هؤلاء المترقبين صور مبارك وابنه الصغير جمال، أي أنه بمحو السطر الأخير في صفحة ثورة 25 يناير، يبدأ السطر الأول، بوضوح لا يحتمل المواربة، في تنصيب جمال الذي تمكن رجاله من إنهاء هذا الصداع، وحماية البلاد من شرور لم تفلح خطبتان لأبيه العتيد في القضاء عليها.

ولكن عنوان (الأهرام المسائي) في اليوم التالي (الخميس) سيكون: «3 قتلى و700 مصاب ضحايا أحداث التحرير»، وكأن الأحداث جرت بين محتجين مسالمين في الميدان وكائنات فضائية شريرة، أو شياطين انشقت عنهم الأرض، وليس بلطجية استأجرهم نظام مبارك لإجهاض أروع ثورة شعبية سيشهد لها العالم. وفي العدد نفسه صفحة كاملة عنوانها «فنانو مصر يرفضون الفوضى والتخريب ويؤكدون مساندتهم لمبارك»، وفيها تخلى ممثلون عن مهنة التشخيص، منهم فاتن حمامة وليلى علوي وأحمد عز ومنى زكي وأشرف زكي (وهما ليسا شقيقين ولا إخوة في الرضاعة وإنما في إجهاض الثورات)، لينصحوا الشباب أن يغادروا الميدان. وفي الصفحة نفسها هامش لمن اتهمتهم الصحيفة بأنهم مثقفون، منهم يوسف القعيد الذي قيل على لسانه إن على الشباب أن يضعوا «مصلحة مصر نصب أعينهم.. أهم حتى من رحيل الرئيس مبارك.. لا شيء يسبق أن يشعر الناس مرة أخرى بالأمن والأمان. وعلينا ألا نترك مصر في قبضة المخربين والقتلة». وقال مدحت الجيار: «كم من دول كثيرة أطاحت برئيسها فعاشت في فوضى». وقال خيري شلبي: «ما حدث من تدمير وتخريب يحتاج على الأقل لخمسين عاما من الإصلاحات.. ما حدث كارثة كبيرة... لا يهمني من جاء ومن ذهب.. كل ما أتمناه أن يعود الأمن لمصر أولا». ("الأهرام المسائي" 3 / 2 / 2011). ولم يتحدث أحد عن جريمة ارتكبها النظام وأعوانه في حق مواطنين أبرياء.

وسوف تسجل لجنة التحقيق وتقصي الحقائق بشأن الأحداث التي واكبت الثورة مسؤولية قيادات في الحزب الوطني وبرلمانيين ومحافظين عن استئجار بلطجية، لمواجهة المتظاهرين في ميدان التحرير، كما أسهمت في المذبحة مؤسسة صحفية حكومية، إذ نقلت سياراتها كسر الرخام، وقطع الحجارة المدببة، لرشق الثوار المسالمين. وينقل صلاح منتصر عن مصطفى النجار، أن الأخطر والأسوأ في يوم موقعة الجمل «دور القناصة الذين اعتلوا المباني والذين استشهد بسببهم عدد كبير من الشباب... دخول الجمال والجياد إلى الساحة كان لإلهاء الذين فيها عما يقوم به القناصة. وقد نفى وزير الداخلية (محمود وجدي) وجود أية قوات تابعة له في ذلك اليوم، واتهم حركة حماس بأنها التي وجهتهم، بل ذهب إلى قوله إن أحد هؤلاء القناصة كان يرفع إلى جواره علم حماس! وثار عمرو سلامة المخرج الشاب (في اجتماع رئيس الوزراء أحمد شفيق) وقال إنها أول مرة يسمع فيها عن قناص متخف يعلن عن نفسه وجنسيته بعلم يرفعه إلى جواره، وإن هذا الكلام معناه أن جهة أجنبية اخترقت البلد وأطلقت النار على شبابها وهي مسؤولية أكبر على الأمن!». (الأهرام 8 / 4 / 2011). وسوف يعترف فتحي سرور رئيس مجلس الشعب المنحل، يوم الأربعاء 20 /4 / 2011، بعد حبسه على ذمة التحقيقات في «موقعة الجمل»، بما حدث يومي 2 و3 فبراير، قائلا إن اجتماعا موسعا عقد في اليوم التالي، برئاسة مبارك وحضور نائبه عمر سليمان، ووزير الداخلية محمود وجدي، وصفوت الشريف رئيس مجلس الشورى المنحل، وإنهم «تناولوا ما حدث في ميدان التحرير بكل سخرية، سواء قتل المتظاهرين أو الشروع في القتل، والحادث كله تناوله أركان النظام بتهكم». ("الأخبار" 21 / 4 / 2011).

في ذلك اللقاء الذي أشار إليه فتحي سرور، لم يقل أحدهم لمبارك، من باب «السياسة النصيحة»: أنت حيث يكون أحبابك وأنصارك، إما أن يحبك مواطن صالح فيدوم عرشك، أو يحبك بلطجي فينهار العرش. بئس نظاما يحميه البلطجية، أو يحبونه إلى هذه الدرجة.

وسوف تنسب صحيفة (الأخبار) إلى عمر سليمان أن مبارك تورط في قتل الثوار. اعترف سليمان بأنه كان يتلقى التقارير كل ساعة من حبيب العادلي وزير الداخلية، وينقلها «إلى مبارك فورا. وكانت التقارير تتضمن كل عمليات إطلاق النار الحي والمطاطي على المتظاهرين... لم يعترض الرئيس السابق مطلقا على الرصاص الحي.. كان لديه علم بكل رصاص أطلقت على المتظاهرين، وبأعداد كل من سقط... حتى الشهداء الأطفال... ولم يأمر مبارك على الإطلاق برفض هذه الممارسات العنيفة». (26 / 5 / 2011). في حين تنشر صحيفة (المصري اليوم) أن سليمان قال في التحقيقات أمام النيابة إنه فوجئ «بحصول الاشتباكات في ميدان التحرير بين المتظاهرين وبين عناصر أخرى لا أعرف هويتهم»، وعن تعامل الشرطة بالأسلحة النارية مع المتظاهرين قال: «لا يمكن لرجل الشرطة إطلاق أعيرة نارية أثناء العمليات لفض المظاهرات إلا وأوامر من أعلى سلطة في الجهاز وهي وزير الداخلية»، ولكنه قال أيضا: «معلوماتي أن رئيس الجمهورية ووزير الداخلية لم يصدرا أمرا بإطلاق النار صوب المتظاهرين». (15 / 7 / 2011).

في جمعة الغضب، لم أخش على الثورة، كانت عفية، تنهض لتواجه الرصاص بالغضب، ثم استوت في الأيام التالية، ورسم الميدان حدودها، ثم جاء بلطجية موقعة الجمل ليخطفوا المولود، ويتركوا لنا مولودا آخر، لا ينتمي إلينا، ليجعلوا الثورة تمردا، والثوار خارجين على الشرعية، ولكن مواطني الميدان يعلمون أن المهزوم لن يرحمه أحد، وأن المنتصر يفرض قانونه، ويثقون أن المحاكم في انتظارهم إذا فرطوا في أرضهم، وتراخوا في الدفاع عن حدودها. وكانت جمهورية الميدان ملكا للعرب والمصريين في الخارج.

ظل نوري الجراح يهاتفني طوال الوقت من لندن، كان يتحدث بلهفة الخائف على ثورته هو، ويقول بحماسة وصوته يرتجف خوفا وانفعالا:

«لا تسمحوا للثورة أن تفقد أرضها، أنتم الآن أمل الأمة العربية، رفعتم رؤوسنا في الخارج، أدرك العالم أننا جديرون بالحياة، ونحن الآن نتباهى بكم، ستغيرون التاريخ، العالم كله يترقب ويحبس أنفاسه، ميدان التحرير هو الفخر المصري والعربي، من هذا المكان، من ميدان الشهداء أو الحرية، ستنطلق ثورات عربية أخرى، فلا تفرطوا في الثورة، اكتب وادع الآخرين للكتابة، عليكم مهمة توثيق هذا الحدث التاريخي».

واتصلت بي صديقة سورية، هنأتني بالثورة، وتمنت لي السلامة، وقالت: «قلوبنا معكم»، ولم أكن أعلق إلا بتوجيه الشكر، وكلام له صفة العمومية، لعلمي أن المكالمة مراقبة أو مسجلة من جانب أجهزة الأمن السورية. وبعد انتهاء المكالمة بثوان، اتصلت مرة أخرى لتقول: «قلوبنا معكم، نحن معكم شعبا وحكومة ورئيسا». وأنا أقول: نعم نعم، شكرا لكم. وأضحك منهيا المكالمة، فتفاجئني أمل الجبوري باتصال غاضب وعاتب:

«حرب أهلية في القاهرة؟ ثورتكم بيضاء، فكيف تكررون سيناريو العراق؟ نحن لا نفارق الفضائيات، ولا شيء يطمئننا. أعصابنا لا تحتمل، ونكاد نجن».

نفيت لها أن يكون هؤلاء المعتدون مصريين. هم بلطجية مأجورون، حادث سير ثوري. لا ينهار نظام دكتاتوري فاسد في يوم وليلة، تظل نيران الحقد مشتعلة في زوايا لا يراها أحد، ثم تفاجئنا من حيث ندري أو لا ندري.

تلقيت اتصالا من رقم دولي مجهول. لم أشغل نفسي من أي دولة تأتي المكالمة، لكنها دولة لم يتصل بي منها أحد من قبل. كنت مشغولا ومهموما، وأستعجل العودة إلى الميدان، ولا أجد وقتا للرد، وقدرت أن من يتصل لأمر يراه مهما سيحاول مرة أخرى.

غادرت الميدان لأشحن التليفون وأستريح. كانت ساعة قيلولة دامية، والمولود تتمزق أوصاله في المداخل الكثيرة لميدان التحرير. سرت حذرا في شارع قصر النيل إلى ميدان طلعت حرب، وقد احتله البلطجية، وسرقوا شعاراتنا، واستبدلوا بها شعارات يختبرون بها ما في قلوب العابرين. كان تمثال طلعت حرب يحمل شعارات «يسقط مبارك»، «لا لمبارك»، وهم تركوا مبارك وأزالوا الكلمة الأولى وكتبوا فوقها «يعيش»، «نعم»، ظلت كلمات الاعتراض واضحة لمن عاصر كتابتها، أو اقترب منها قبل هجوم البغال.

لم أجد وقتا ولا كلاما للرد على رسالة إلكترونية تقول فيها وجدان الصائغ:

«لا أستطيع أن أنام. لا أستطيع أن أفكر وأنا أراقب بشاعة هذه الدكتاتورية التي تتسلى بعذاباتنا. ما يحصل مهزلة مؤلمة ندفع ثمنها أرواحنا وأعمارنا».

لم أكتب شيئا في صفحتي على الفيسبوك. يوم عصيب لا يتاح فيه لأحد هدوء البال، أو صفاء الرؤية، ليكتب تعليقا ولو من كلمتين، وأرسل لي عبد المنعم الباز مشجعا:

«اصمدوا يا رجالة واعرفوا أن العالم كله وليس مصر سيتغير عندما ننتصر على الظلم بإذن الله».

واستعدت ما سجلته يوم 29 / 11 / 2010، حين توفي أخي أحمد، وكتبت:

«يوم وفاة أخي أحمد، كتبت: كانت المعاناة طويلة، والمرض شاقا، والغيبوبة تشير بأصابع الاتهام بإدانة منظومة أو شخص، ليكن هذا بلاغا للرأي العام، ضد سياسات الرئيس الدستوري ـ الدستوري لا الشرعي ـ حسني مبارك، وضد ابنه جمال الحاكم الفعلي للبلاد، وضد شهود الزور والكهنة: فتحي سرور ومفيد شهاب وعلي الدين هلال وغير المأسوف على إبعاده أسامة الباز.. والسيد يسين وجابر عصفور».

وأضفت إلي كلامي القديم، في صفحتي على الفيسبوك، هذين السطرين:

«والآن: عليكم ألا تصافحوا عصفور قبل أن يغسل يده بحامض الكبريتيك المركز، ليطهرها من آثار الجريمة، بعد أن صافح مبارك الملوثة يده بدماء إخواننا».

وقبل العودة السريعة إلى الميدان، قرأت تعليق البهاء حسين في صفحته:

«بعد ما حدث اليوم، هل يعيد المثقفون جائزة مبارك إليه، وساما يعلقه على صدره!!»

فاتصلت ببهاء طاهر فورا. لم أفكر في السيد يسين الحاصل على جائزة مبارك، كان يسين مازال طفلا يتعلق بأذيال مبارك، ويراهن على قوته، ويقول إن الثورة «هبة شبابية» صاحبتها ظواهر مؤسفة، «تتعلق بردود فعل بالغة الحدة والعنف من قبل المتظاهرين إزاء محاولات الشرطة المستميتة في فض المظاهرات التي خرجت عن مسارها السلمي... والأمل أن يعطي الشباب المقترحات التي قدمها الرئيس استجابة لمطالبهم فرصة كافية للتنفيذ ولن يتم ذلك إلا إذا ابتعد الشباب عن المزايدات السياسية للمعارضة التي لم يكن لها أي دور في الانتفاضة». ("الأهرام المسائي" 5 / 2 / 2011). ولكان بهاء طاهر لم يخيب ظني، حين اقترحت عليه أن أكتب باسمه بيانا يرفض جائزة مبارك. ضحك وسألني: ومن أين أعيد قيمتها المادية؟ قلت إن الرفض الرمزي أقوى، ونحن بحاجة لإحراج نظام مبارك وزلزلته، واتفقنا على صيغة أنه قبلها باعتبارها جائزة مصرية «والآن، وقد أهدر نظام مبارك دماء المصريين الطاهرة، فإنني أرد هذه الجائزة بكل راحة ضمير». ثم اتصل بي بهاء بعد يومين، وأنا أوشك أن أدخل ميدان التحرير، وقال لي إنه كان ضيف برنامج تلفزيوني قبل قليل، وأثنى علي. شكرته، ثم أتبع: «لم أذكرك بالاسم، ولكني قلت إن كاتبا شابا هو صاحب اقتراح رفض الجائزة».

وأصدرت جماعة منحت نفسها اسم (لجنة الحكماء) بيانين، أولهما قال إنه يتبنى «المطالب المشروعة» للشعب، وفي مقدمتها «أن يكلف السيد رئيس الجمهورية نائبه بتولي مهام إدارة الفترة الانتقالية التي بدأت أمس (الثلاثاء بعد الخطاب الثاني لمبارك) وتنتهي بانتهاء الفترة الرئاسية الحالية»، وربما كان هذا الاقتراح مقبولا قبل اثنتي عشرة ساعة، ولو أعلنه مبارك أمس لاستجيب له، ولكن مقترحيه لا يدركون أيضا فرق التوقيت بين النخبوي/المكتبي والثوري/الميداني.

الاسم الثالث في البيانين هو نبيل العربي، الذي أصبح بعد الثورة وزيرا للخارجية، فأمينا عاما لجامعة الدول العربية، وقد أدهشني أن يكون الاسم الثاني في لجنة «الحكماء» نجيب ساويرس، وهو رجل صريح، قال للتلفزيون إنه لم يذهب إلى ميدان التحرير، وهذا لا يعيبه، ولا ينتقص من وطنيته، ولكن وجوده لا يتفق مع تأكيده التلفزيوني أن «المطالبة برحيل الرئيس مرفوضة من قطاع كبير جدا من الشعب»، ولا أتصور قناة (أو تي في) التي يملكها ساويرس أجرت استطلاعا حول هذا الأمر، وهو ليس مفوضا من قبل الشعب، أو من موظفي قناته أو شركاته للتحدث باسمهم. ولكنه حر في قوله «لا أقبل المساس بكرامة الرئيس»، ولم يكن أحد ليختلف معه في هذا الشأن، فالثورة لم تهدف للمساس بكرامة مبارك، وإنما لإنهاء ليل نظامه الأسود، وهو ما سيعترف به ساويرس، فيما بعد، مراهنا على ضعف ذاكرة المشاهدين، وهو يصف عصر مبارك في برنامج تلفزيوني بأنه: «قرف.. يوم التنحي.. فرحة كبيرة... يا لهوي.. ما عندكش فكرة».

أما الاسم الأول في اللجنة فهو أحمد كمال أبو المجد، وأنا أقدره منذ قرأت له، في وقت مبكر وأنا طالب في المرحلة الثانوية، كتاب (حوار لا مواجهة)، ولكني لا أستريح للمهادنين الذين ينتظرون ضوءا أخضر، ولا يخاطرون بطرح أفكار شجاعة وحسابهم على الله. في صيف 2000 سئل محمد حسنين هيكل (ربما في صحيفة "الأسبوع" فالذاكرة كثيرا ما تخون) عن مدى تكرار سيناريو التوريث في مصر، بعد أن نجحت التجربة في سوريا، فقال إن الرئيس مبارك لا يمكن أن يسمح بهذا. راهن هيكل، بكلمات لا تؤخذ عليه، على وطنية الرئيس، ولكنه لم يقل ماذا نفعل لو بدأت الخطوات الفعلية في تمهيد الطريق. وقد بدأت تلك الخطوات بالفعل، ويحسب لهيكل أنه كان من أوائل من فجروا هذه القضية، وأخرجوها من غرف تحضير العفاريت في الظلام، إلى أضواء الجامعة الأمريكية بالقاهرة، في محاضرة عام 2002. أما أحمد كمال أبو المجد فقال عام 2005 (وأكتب الآن من ذاكرة لعلها خؤون) إن في تعديل الدستور الآن مخاطرة غير محسوبة. ثم فاجأنا مبارك بعد أيام بتعديل المادة 76، وأصبح نصها «ينتخب رئيس الجمهورية عن طريق الاقتراع السري العام المباشر». بعد ذلك لم أعد أهتم بآراء الرجل، وإن كنت أحيي مواقفه في المجلس المصري لحقوق الإنسان.

اتصلت بأحد أعضاء هذه اللجنة، وسألته عن موقف دوائر صنع القرار. قال إنهم طلبوا لقاء نائب الرئيس، وينتظرون. لم يكن الوقت في صالح (لجنة الحكماء) التي لم يمنحها أحد توكيلا، وكان «ناس الميدان» قد أسقطوا آخر ورقة في شرعية مبارك وسليمان وممثلي نظام فقد عقله؛ فلم يتأخر كثيرا، بعد الخطاب الأبوي العاطفي المستعطف مساء أمس، وأرسل قتلة محترفين، وبلطجية مأجورين، تغطيهم إعلاميا صحف حكومية وقنوات تلفزيونية تتهم الثوار بانتهاك الشرعية السياسية والأعراف والآداب العامة. قال ممثل اسمه طلعت زكريا، في برنامج تلفزيوني، إن شباب التحرير يدخنون الحشيش، ويمارسون الجنس في الميدان، ثم واصل هذيانه قائلا إن الذين في الميدان ليسوا ثوارا، ولكنهم جماعة الإخوان. وزايدت عليه الممثلة سماح أنور إذ بادرت إلى الاتصال ببرنامج تلفزيوني، وحرضت على حرق المتظاهرين في الميدان، وقالت بالحرف الواحد: «مفيش مشكلة إن حد يولع فيهم».

كنا في الميدان، نراهن على تعب البلطجية، ونفاد مفعول ما تقاضوه من أموال ممن جندوهم، وأتتنا أخبار برنامج تلفزيوني، في قناة (المحور) لمالكها حسن راتب، استضاف شبابا يدعون أنهم ينفذون مخططات أجنبية بهدف تخريب البلاد، وبعضهم قال إنه تلقى تدريبا في الخارج، في أمريكا بالذات. ثم شاهدت تلك السذاجات، ورأيت الاندهاشات البلهاء لمذيعي البرنامج هناء سمري وسيد علي، وهما يزفان إلينا البشرى، بأن الذين في ميدان التحرير «من حماس»، واستعانا بأدلة بشرية تعترف بتلقي تدريبات على قلب نظام الحكم في أمريكا والدوحة. ولن يحترم السيد المحترم ذكاء المشاهد ولا ذاكرته، حين يقول بعد خلع مبارك أنه فجر الثورة من برنامجه!

اتصل بي أسامة عفيفي، وقال إن بعض البلطجية مثل جنود الشرطة، يعذرون بالجهل، وقد غرر بهم، لم يهاجموا الثوار طمعا في المال فقط، وإنما بدافع النخوة، والدفاع عن الشرف. غسلوا عقولهم المحدودة، وأقنعوهم بأننا نريد تخريب الوطن، ونشر الرذيلة. أحدهم قال لأسامة في قهوة بالقرب من أكاديمية الفنون بالهرم، وهو يلتمس العفو، إن رجالا كبارا في الحزب الوطني حرضوهم على الإغارة، لتطيهر ميدان التحرير من «شباب مدمنين يدخنون الحشيش»، ويمارسون «الجنس الجماعي والشذوذ».

وقلت له إن كثيرا من لاعبي الكرة والممثلين والمذيعين ورؤساء التحرير الذين عينهم مبارك أو ابنه لا يكلفون خاطرهم بزيارة الميدان، زيارة واحدة خاطفة ليكون لديهم ولو طيف ذكرى، بدلا من استسهال الكلام المجاني عن ناس الميدان، وكأنهم كائنات فضائية من كوكب آخر، وكأن الميدان في قارة أخرى لا وسط القاهرة. وحين يريدون إرسال شيء إلى الميدان فلا يكون إلا أسوأ ما في البلد، البلطجية الغزاة!

لم يسمح غبار المعركة أن يرى بعضنا بعضا. استرحت قليلا، ساعة قيلولة واحدة للتواصل مع الدنيا. في طريق العودة إلى الميدان، اطمأننت بالتليفون على أصدقائي. قال لي أحمد زغلول الشيطي إن البلطجية حطموا سيارته، وطلبت أن ينتظرني، سأكون في الميدان بعد دقائق. قال إنه سيعود إلى منزله المطل على الميدان، ليستريح ويكتب يوميات لصحيفة بيروتية. وكان الجندي بجوار الدبابات في ميدان مصطفى كامل، يشير إلي ويقول: «ممنوع يا أستاذ». لم أسأله: هل أنت جندي أمس أم أنك زميله؟ في الزي العسكري يتشابه المجندون. لم أضيع وقتا، وذهبت إلى الضابط، وتذكرني قبل اطلاعه على بطاقتي، وفرحت بذكائه، وحسن تصرفه، وقال: «تفضل». ولم يعد الجندي يشير إلي، في الأيام التالية، أو يطلب استئذان الضابط، بل يبتسم ويحييني، وهو يتحدث مع آخرين أو يمنعهم. ثم سألني الشاب الجالس بصحبة اثنين من البوابين: «ماشي الليلة يا أستاذ؟». وقلت: «يوم الجمعة». مررت بسينما قصر النيل المغلقة منذ سنوات، ورأيت سيارة عبث بها بلطجية، وكسروا زجاجها، وتكاد الحجارة وقطع الزجاج تغطي أسفلت الشارع. اتصلت بالشيطي وكان تليفونه خارج الخدمة، وقال لي البواب إنه صعد إلى شقته، وإن سيارته في المدخل، وليست هي المحطمة في الشارع.

أبلغت زميلي في الأهرام المسائي علي الشناوي بأن يمد لي الإجازة أسبوعا آخر، وسوف أتصل به بعد أسبوع، لهذا الغرض أيضا، ويسألني: إلى متى؟ أرد بأنني أشعر بالغربة إلا في الميدان، ولا أستطيع الرجوع للعمل، إلا بعد رحيل مبارك والقضاء على النظام وممثليه في المؤسسات، وأستشهد بجملة عمر المختار: «لن نستسلم. ننتصر أو نموت».

أمست سعة الميدان لعنة على مواطنيه. في الصباح تم تأمين مدخله من ناحية جسر قصر النيل، ويؤمن الجيش مدخل شارع قصر العيني، والآن تحولت مداخل الميدان إلى مصادر تهديد، من سبعة شوارع أخرى هي: محمد محمود، التحرير، وطلعت حرب، والبستان، وقصر النيل، وشامبليون، ومحمود بسيوني، أما المدخل الأوسع والأكثر خطورة فهو ميدان عبد المنعم رياض. تغير الميدان منذ المساء، واختلف مواطنوه، من حيث الملامح والديموجرافيا والقدرة على المواجهة. كفت الإذاعات الثلاث عن بث الموسيقى، ولم يصعد الشباب إلى مسرح عمر مكرم ليقدموا مقطوعات غنائية أو موسيقية، ولم يتناوب على منصة الإذاعة، بجوار قناة الجزيرة، خطباء البرلمان اليومي، جندت الإذاعات وناس الميدان من أجل الدفاع عن الحدود، وتحولت الإذاعات إلى أجهزة إنذار، تعلن عن حاجة مدخل عبد المنعم رياض إلى «مئة مقاتل ليريحوا إخوانهم هناك»، أو تسأل عن مياه زائدة على حاجة أصحابها لأن «المقاتلين» يعانون العطش، أو تطلب متطوعين لتأمين انتقال المستشفى الميدان خلف خطوط الاشتباك مباشرة، أو توفير مزيد من الحجارة، والإسراع بها إلى خط المواجهة.

منذ المساء وجد كل الذين في الميدان لأنفسهم دورا. قرع طبول الحرب تقوم به نساء وبنات يطرقن الأسوار وأعمدة الإنارة والبراميل الفارغة، لحفز همة الرماة، أو لتنبيه الذين في قلب الميدان إلى اقتراب خطر، فتنهض تعزيزات بدعوة من إذاعة الميدان أو جهاز إعلام دولة الميدان. شباب مسلحون بحجارة يحتمون بدروع عبارة عن أجزاء من سيارات محترقة، يقفون على مسافة نحو مئة متر في الشوارع المحيطة بالميدان، وإذا اقتربت طائفة من البلطجية أطلقوا صفيرا، فيذهب إلى إغاثتهم فريق قادر على ردع المعتدين أو دحرهم. كبار السن يخلعون أحجار الأرصفة، ويكسرونها قطعا صغيرة جاهزة للرشق، ويتولى شباب نقل هذه المقذوفات في أجولة إلى الجبهة. أما الذين في خط المواجهة فيبتكرون خوذات بدائية ليست إلا قطعا من الصاج، أو الورق المقوي، أو فوارغ من البلاستيك للمياه المعدنية تثبت معا بقطعة قماش، ولكنها تمتص الصدمات، وتقيهم شر الحجارة.

في المشهد لا ترى إلا ما تقع عليه عيناك، وتحت القصف لا أشاهد الجانب الآخر من الميدان، ولا أجرؤ على النظر إلى أعلى. كانت البنايات المطلة على الجبهة، بموازاة سور المتحف، تسقط علينا شهبا من الرصاص والقنابل الحارقة، المولوتوف. اتصلت بأحمد حسو، أعلم أنه يعمل في جهة إعلامية ما في ألمانيا. سألته: «هل لكم كاميرا هنا في الميدان؟». قال إنه يعمل في الإذاعة لا التلفزيون، وسوف يحاول الاتصال بأي من زملائه. صرخت فيه: «أدركونا، نحن نتعرض لإبادة، تلفزيون الدولة يحرض علينا الغوغاء، يحاولون سحقنا». واتصل بي انتشال التميمي من روتردام، ونوري الجراح من لندن، وأيمن بكر من الكويت، وأصدقاء من سوريا، وكنت أطمئنهم، وأضحك من وراء قلبي، وهم فهموا أو أحسوا بافتعال الثبات، واهتزاز الثقة، ونصحتهم بالابتعاد عن الفضائيات، لأنها تركز فقط على عمق الكارثة، وتثبت الصورة، ولا تذهب بعيدا عن هذا العمق الدامي.

كنت حريصا في الكلام، مع غير المصريين، ومع المصريين في الخارج أيضا، وطمأنت أيمن بكر في الكويت. وحين اتصل بي أسامة عفيفي، لم أترك له فرصة للكلام، وقلت له: «الإبادة شاملة، والإغارة من فوق العمارات ومن الشوارع المحيطة بنا. اتصل فورا بفوزي، أو اللي اسمه جابر. موقف الجيش سيء وغير مفهوم». أزعجته الجملة الأخيرة، وشرحت له أننا لا نطالب الجيش بقتال البلطجية، أو الزحف أمامنا، وإنما بتحريك دبابتين إلى الأمام 200 متر، عند تمثال عبد المنعم رياض، وسوف توجد تلقائيا منطقة عازلة، بموازاة سور المتحف، ليبعدوا عنا. نحن في مرمى النيران من فوق البنايات، وجسر أكتوبر. ونصحني بقراءة رسالة نصية على تليفوني.

لم أكن قد قرأت رسائل هاتفية منذ الصباح. هدأت قليلا، وقلت لأسامة إن لدي تفسيرا واحدا حسن النية بالجيش، هنا والآن، لعله يرخي الحبل لآخر مدى لاستنفاد القوى المعادية للثوار، تمهيدا لإزاحة مبارك من دون أن يشعر باللوم تجاه الرئيس. تركني أهذي، ثم سألني عن حالي، فقلت: أحتاج بشدة إلى كوب شاي، عطشان وجائع وقلق، ولا أستطيع أن أغادر، ولو إلى دورة المياه، ثم إن الميدان ليس فيه دورة للمياه، وأنا مزنوق ولم أشعر بذلك إلا الآن.

ضحكنا، وقلت إن الناس هنا يحتاجون إلى الشاي والسجائر.

رجعت إلى عمق الميدان لأستريح، ولم أطمئن فعدت إلى أول سور المتحف. هنا أول حدود جمهورية الميدان، منطقة غير خطرة غير آمنة. ارتقيت دبابة لأرى المشهد، وكانت الطلقات النارية لاتزال تهبط من الشرفات أو أسطح البنايات. فتحت التليفون، وقرأت رسالة الجيش: «القوات المسلحة حريصة على أمنكم وسلامتكم ولن تلجأ لاستخدام القوة ضد هذا الشعب العظيم»، ووجدت الرسالة نفسها مرسلة بعد ست دقائق. قلت لضابط كبير، قدرت أنه عقيد أو عميد، لم أتبين رتبته، إذ يرتدي سترة مضادة للرصاص، وحوله جنود يرتدون مثله: هذه الحرب يمكن أن تنتهي بتحريك دبابة أو اثنتين من حاملات الجنود، إلى نهاية السور، هذه المسافة تكفي لعزل الفريقين.

لم يقاطعني الرجل. استمع إلي بهدوء، ثم أبلغني أنه لم يتلق تعليمات.

تغيرت ديموجرافيا التحرير. زاد عدد الملتحين، وكانوا الأقرب إلى خط الدفاع، من دون شعارات تبرز انتماءهم لغير جمهورية الميدان. قبل منتصف الليل بدقائق، رأيت سيارة نقل تابعة للجيش، تعطي ظهرها للبلطجية، وتشق صفوف المدافعين عن الميدان. كنت أتابع المشهد من فوق دبابة، مع غيري ممن يستريحون من الرشق، ولا يستطيعون الابتعاد عن «الجبهة»، والسيارة التي تتحرك لا يقودها جندي، بل شاب يرتدي هلاهيل فوقها سترة لعل فيها حجارة، هو منا، فكيف استطاع أن يدير محرك سيارة يستحيل وجود مفتاحها معه أو مع أي من مواطني الميدان؟ ولماذا لا يعترضه الجيش؟ وإلى أين يذهب بها؟ كانت السيارة التي تحمل بضعة من الرماة، وكثيرا من الحجارة الصغيرة، قد دخلت شارع البستان، ثم وقفت على بعد نحو مئة متر، ومالت بزاوية قائمة، وتبعها شبان يحملون قطعا من سيارات محترقة، استكملوا بها إغلاق الشارع الذي سدته السيارة أمام الإغارات، وأمن الميدان هذه الجبهة. بعد دقائق تحركت سيارة نقل أخرى للجيش، يقودها شاب آخر، سد بها شارع قصر النيل، عند منتصف المسافة بين ميداني التحرير وطلعت حرب.

شغلتني مناورة الشابين، بعض الوقت، عن ساحة التراشق، ونحن في منتصف الليل تقريبا، والنار تلتهم سيارة للجيش، على مقربة من تمثال عبد المنعم رياض، والجيش يتابع ولا يغار على ممتلكاته، ولا يهم بالدفاع عن مسالمين جاء لحمايتهم من الشرطة، ثم تركهم لبلطجية بعضهم من الشرطة. لم يمض وقت يحسب حتى توقف هبوط القنابل من البنايات المطلة على الميدان، وقد زحزح المغيرون إلى ما بعد التمثال، فاحتلوا جسر أكتوبر، وزحف الثوار واحتلوا أرضا استراتيجية طولها نحو 200 متر، تمثل عنق ميدان التحرير، وتمنع عن أهله الخطر، وتحرك المستشفى الميداني خلف الخطوط الالتحام مباشرة، وكل بضع دقائق، يأتي مصاب في رأسه، يتصبب دما. تجرى له إسعافات أولها تطهير الجرح، ووضع ضمادة معقمة، ويتناول بعض الماء، ويعود إلى الذين أصابوه.

من فوق الجسر توالت القذائف، والقنابل الحارقة، بجنون يعوض البلطجية سماء أجبروا على التنازل عنها للثوار الزاحفين، آخرها سطح بيت عال يضم طابقين فقط، ويقع على ناصية شارعي رمسيس ومحمود بسيوني. لم أنتبه إلى هذا البيت من قبل، كيف لا أراه إلا حين أشعل البلطجية واجهته؟ لم أبال بالقصف، واقتربت من البيت، واكتشفت أنه يطل على ثلاث شوارع: محمود بسيوني، ورمسيس أو ميدان عبد المنعم رياض، ومحمد حجاج، والشارع الأخير ضيق وقصير يمتد شمالا حتى شارع معروف، ولا يوجد به إلا بضع بنايات أحدها هذا البيت الأثري، ولا مدخل إلى البيت إلا بابه في شارع محمد حجاج، ولو شاهدته من هذا الشارع ستراه مكونا من ثلاثة طوابق. فما الذي يشغلنا عن هذه التفاضيل؟ لعله اللهاث الذي يجعلنا لا نرى الجمال في بيت أثري كهذا، أقدم وأعرق من عمر عدة «دول» تتطاول علينا، غرورا أجوف بفائض نفط وأموال وقلة لياقة. القادمون فوق الجسر لا يرون هذا البيت، ينشغلون بلوحات إعلانية تستر روعته، والمشاة لا يملكون ترف التأمل، وهم في الزحام يتدافعون للبحث عن موطئ آمن لأقدامهم. الحريق طهر أعيننا، فأدركنا أن هنا بيتا يستحق الاهتمام.

وثق حظر التجول علاقات الجيران، بالتوازي مع اجتذاب ميدان التحرير زملاء وأصدقاء شغلتهم الدنيا سنين عددا، وجعلتهم بخلاء ولو باتصال تليفوني. قابلت كثيرين حال اللهاث اليومي دون لقائنا، مع التأكيد المتواصل على ضرورة هذا اللقاء. خيل إلي أن الماشي هناك، يحمي رأسه بكاب، ويحمل حقيبة صغيرة لا تثقل ظهره، هو عادل البنداري.

فاجأني وجوده. لم أره منذ أكثر من ست سنوات، وكانت مصادفة قد ذهبت بي إلى مدينة شرم الشيخ، لأحضر مؤتمر (كتاب في جريدة) في نوفمبر 2004، وقد شارك جابر عصفور ببحث عنوانه (حرية الفكر والإبداع والنشر)، واستعرض فيه تصاعد القمع وضحاياه من الكتاب والمفكرين، والأعمال التي تعرضت للمصادرة.. إلا قليلا. هذا القليل هو الذي يدفع الرجل إلى أن يميل بعض الميل، منطلقا من تمتعه بضمير نقدي انتقائي. توقف في البحث عند أزمة رواية «وليمة لأعشاب البحر» في صيف 2000، وقد انتهت تلك الأزمة «لتبرز الدور الذي تحول إليه مجمع البحوث الإسلامية، وتحوله إلى محكمة تفتيش جديدة، لا تتردد في إصدار أحكام التكفير ضمنا أو صراحة». وتجاهل عصفور الرجل الثاني في وزارة الثقافة قضية اشتهرت بأزمة «الروايات الثلاث» في يناير 2001، وبطلها وزير الثقافة فاروق حسني شخصيا، إذ استيقظ الوزير مبكرا، على غير عادة الفنانين التشكيليين، وفاجأنا بالظهور في التلفزيون، وقدم بلاغا عن ثلاث روايات أصدرتها الهيئة العامة لقصور الثقافة، وأعلن مصادرتها، وإقالة رئيس الهيئة علي أبو شادي، ورئيس تحرير السلسلة محمد البساطي، والأمين العام للنشر محمد كشيك، والمشرف العام أحمد عبد الرازق أبو العلا، وقال الوزير: «هذه معركة وحرب للدفاع عن أعراف المجتمع وحرماته». ولم يشأ العصفور المثقف الموظف أن يتطرق، في بحث علمي مقدم لمؤتمر في جمهورية شرم الشيخ الحرة المستقلة ذات السيادة، إلى هذه القضية. يراوغ جابر «الموظف» إذا تعلق الأمر بالوزير، ويتوارى جابر «الوزير» إذا كان المجرم رئيس الجمهورية. لم أتهمه بالشهادة الزور، بل نسيته وفرحت بعادل البنداري، وقلت له:

ـ «ملعون أبو أي شيء يمنع الناس أن تلتقي.. إلا في ثورة!».

عادل كان سعيدا، ليس بالثورة، وإنما بالتمرد على دائرة لا تنتهي، من انشغالات تؤدي إلى انشغالات، حتى لا يجد الإنسان أمامه إلا مواصلة الجري، لإدراك نهاية مستحلية للدائرة. وقال إن الأيام تتشابه، وكان لا بد من زلزال مثل هذه الثورة، لإعادة التفكير في أمور بدهية أو تبدو كذلك، منها الحق في الإجازة. ضحك وقال إنه قرر أن يبيت الليلة في الميدان، مستيقظا لن ينام. كان قد طاف أركان الميدان الأخرى، كما نفعل جميعا للاطمئنان على بيتنا. وسألني: هل رأيت الضابط الواقف هناك، في مدخل شارع طلعت حرب، عند الدبابة؟ قلت إن الدبابات في كل مكان، والضباط أيضا، يتساوى وجودهم مع عدمه، وإنني كدت أضيق بشعار«الجيش والشعب إيد واحدة»، وسألته: ماذا يفعل هؤلاء؟ وأشرت إلى ضباط حول الدبابات أمام مدخل المتحف. قال إن شابا ذهب إلى نقيب عند مدخل شارع طلعت حرب، ورفع يده بالتحية، فما كان من الضابط إلا أن تناول يد الشاب وقبلها، ودمعت عيون الحاضرين. ونصحني بالرفق بهم، فيجب ألا يمارسوا أي لون من العنف، ولو بدفع البلطجية إلى ما وراء ميدان عبد المنعم رياض.

كنا تحت القصف، وحافلة (ميني باص) للجيش تتحرك، من العمق إلى الجسر. عفريت آخر أدار محرك السيارة، كما فعلها أخوان له، حين أدارا قبل ساعة سيارتي نقل للجيش، لصد الإغارات الجانبية. توقفت السيارة أمام البيت المشتعل، على مقربة من الجسر، ثم اعتلاها شباب يواجهون المعتدين فوق الجسر، وأمدهم آخرون بالحجارة، وحققت السيارة/المنصة بعض التكافؤ بين الفريقين فارتدع البلطجية، ولكنهم لم يهنوا تماما، وتواصلت القنابل الحارقة.

كنا في نحو الثانية صباحا، ومدكور ثابت يتصل بين وقت وآخر، ليطمئن على الأحوال وعلى سلامتي، وقلت له إن الميدان الآن آمن، هناك تكافؤ بين الفريقين، بعد دحر البلطجية وإجبارهم على عدم تجاوز الجسر، ونبهته إلى أن المتحف في خطر، مازال في مرمى نيرانهم، ولا توجد سيارة إطفاء، واقترحت عليه أن يكلم من ظننته صديقا له علاقة ببعض الأجهزة، وضحك قائلا:

ـ «والله ما أقدر، هو يظنني لا أعرف، ويتعامل معي على أنه شريف».

قال عادل البنداري إن المصريين، يقصد مواطني الميدان، بعد هذه المعركة لن يكونوا بحاجة إلى فياجرا! قلت إن من يتحدى خطرا كبيرا تمحى مخاوفه الصغيرة، تزول عقد الاضطهاد، ويتأكد له أنه المنتصر، في الشارع والعمل والسرير. هذه ليلة باردة جدا لو ابتعدنا عن الميدان أو عن هذه الساحة، حيث التراشق وهدير قرع طبول الحرب فوق هذا السور الحديدي. في فلسطين أعلى نسبة للخصوبة مادام الخطر قائما، هناك كفاح من أجل البقاء بالنهار، وكفاح آخر بالليل. وقطع كلامي اتصال أسامة عفيفي، وكنت سأتصل به، وأحثه على الاتصال بفوزي فهمي، لإرسال سيارتي إطفاء؛ فالمتحف ليس بعيدا عن عبث البلطجية، هم يتمسكون بالجسر، آخر معاقلهم، ومن لديه الاستعداد لقتل أخيه لن يتردد في إحراق المتحف. أبلغته أنني تحاملت على نفسي واتصلت بجابر الوزير لأنبهه، ومن حسن حظي أن تليفونه مغلق.

اتصلت بزميلي في الأهرام المسائي عبد الخالق صبحي، وأبلغته أن المتحف في خطر، ولا بد من إجراء سريع ينقذه. واتصل أسامة عفيفي بعد ثوان، وقال إن فوزي لا يرد، وسوف يتصل بعماد أبو غازي. قلت إن المعركة دائرة، والعصفور هارب، مذعور في عشه، لا يفتح التليفون خشية أن يقفز الغاضبون في وجهه، ورجاله في مؤسسات وزارة الثقافة غائبون، لم أر أيا منهم في الميدان، وكان عليهم أن يأتوا الليلة، بمساعديهم وموظفيهم، ويبيتوا هنا لحماية المتحف بأجسادهم. في هذا الزحام، واللهيب يهبط علينا، لم أتذكر زاهي حواس الذي أصبح وزيرا للدولة لشؤون الآثار، غاب تماما عن ذاكرتي، وعن ذاكرة أسامة الذي لم يقترح علي الاتصال به. فيما بعد، فسرت استبعاد الذاكرة والضمير الثقافي لزاهي حواس، في ذلك الموقف العصيب، إسقاطا لنموذج يمثل نظام مبارك، لا هم له إلا الاستعراض باتخاذ آثار مصر خلفية لصوره في الصحف والفضائيات، وحين تكون الآثار في خطر يهرب من المواجهة، ويغيب عن المشهد.

اقترح أسامة أن أكتب له أحداث هذه الليلة. قلت إن المشهد أكبر من قدرة اللغة، أي لغة تضيق عن وصف ما يجري وتعجز. اللغة تمسك بما يستطيع العقل إدراكه، أو الإحاطة به علما، ولا أستطيع إدراك هذا الحدث الجلل، ولا أعرف كيف أكتبه. أنهيت المكالمة بسرعة، وكدت أقول له، وأنا أعاني الحصر: إننا لم نستعد للثورة بالقدر الكافي، ونجهز دورات للمياه، وهو إجراء تأخر أسبوعا كاملا، قبل الشروع في إنشاء عشر دورات للمياه في الميدان. وأشار عادل إلى بقايا كشك خشبي في شارع محمود بسيوني، وكانت الإضاءة خافتة، تمنح إحساسا بالستر، وبين الجدار الخشبي وحائط بناية انفجرت طاقة تفتت حجارة الرصيف.

قرب الفجر بدا التعب واضحا على الفريقين. هدأ المعتدون فوق الجسر، وتوجت ضمادات مخضبة بالدماء جبين العشرات من الثوار ورؤوسهم، كان بعضهم يصر على العودة إلى ساحة القتال، وهو يتحامل على إصابة في ساقه، أو إحدى ذراعيه. اطمأننت، وقال عادل إنه سيظل حتى الصباح، وقلت إنني سأرجع إلى البيت، وهنأته بنجاح الثورة في اختبار القوة. هتفت لنفسي: فلتحيا التكنولوجيا. لا بد أن تحسم المعركة لصالح الإنترنت، لا الجمال وثقافة الصحراء والبداوة. ودعت عادل، ولم أره إلا يوم 13 مايو في (جمعة الوحدة الوطنية) بالميدان، كأننا افترقنا قبل ساعات، وأحزنني أن أعرف منه، بعد 100 يوم، أن الهدوء الذي أغراني بترك الميدان لم يستمر إلا نحو 30 دقيقة، إذ اشتعلت المعركة من جديد، واستمرت نحو ساعتين. قلت له: ولكنك لم تتصل بي لتبلغني!

كنت أعبر جسر قصر النيل، وكلمني أسامة عفيفي، فهنأته أيضا بنجاح الثورة، وهو استغرب إذ كنت أصرخ فيه قبل ساعة. وقلت:

ـ «لكل ثورة اختبار، والليلة نجحنا بجدارة».

ـ «البلطجية تراجعوا؟».

ـ «بقاياهم هناك، المهم أن الخطر زال».

وقلت إن المجد للتكنولوجيا، للعقل البشري في إبداعه، وسألته:

ـ«كيف كانت الثورات تنجح في عصور سابقة؟».

وانقطع الاتصال فجأة. انتهى الشحن من كثرة الاتصالات، وعلي أن أواصل الطريق في صمت.

الخميس 3 فبراير.. الثورة تقرر مصيرها

فور الاستيقاظ، تمزقت بين اطمئنان إلى نصر تجاوزت به الثورة محنتها فجر اليوم، وفنون انتقام القوى المضادة للثورة، وهي تملك النفوذ والمال والإعلام، وقد انحرفت برامج التلفزيون، من الإلحاح على الفوضى إلى التأكيد على أصابع أجنبية وأجندات خارجية. سمعت في السيارة الأجرة عند جامعة القاهرة قول مواطن، لآخر لا يعرفه، إن الشرطة ضبطت إسرائليين في ميدان التحرير ومدينة السويس، جاءوا للتحريض على نظام مبارك. لم يسعفني الوقت لإيضاح أن إسرائيل لو أرادت إرسال رجال فلن يكون ذلك إلا لدعم نظام مبارك، فهو باعترافهم كنز إستراتيجي، صديق لن يجدوا أفضل منه، فكيف يضحون به؟ غادرت السيارة، وسمعت عند محطة المترو بقيام بعض الشباب بتعرية سيدة شقراء أجنبية. كانوا يتسكعون عند نادي الصيد في حي الدقي، وتنادوا فرحين باكتشاف صيد، في ظل أجواء مشحونة بالكراهية:

ـ «جاسوسة».

مزقوا ثياب المرأة البريئة، وسترها مواطنون بسطاء، لا علاقة لهم بالثورة ولا بالقوى المضادة التي كان عماد الدين أديب رأسا في حربتها، ولم أبرئه في تلك اللحظة، وقلت: «بركاتك يا عماد»، وتمنيت أن أسأله كيف علم بضبط «مجموعات غير مصرية في المظاهرات تحمل أجهزة اتصالات ثبت أنها مرسلة من الخارج، ومنهم مجموعات عربية وأجنبية... وبعض المنظمات التي تتلقى أموالا من الخارج موجودة في هذه الحركة». ("المصري اليوم" الأربعاء الدامي 2 / 2 / 2011). وما موقع السيد عماد الدين في مؤسسة الأمن لكي يدلي بتصريح لم يكذبه مسؤول؟

نشط ياسر رزق رئيس تحرير صحيفة (الأخبار) في التحريض الدامي. ياسر يجمع الحسنيين، مدلل في مؤسسة الرئاسة حيث مبارك الأب، وفي لجنة السياسات التي تحكم البلاد حيث جمال مبارك ووزير الإعلام الزبلكاني أنس الفقي. نشر تحت عنوان (أخطر مؤامرة أجنبية لضرب مصر) رسما يمكن تخطيطه وتنفيذه في أي جهاز كمبيوتر، لاقتحام مبنى التلفزيون الحصين، والاستيلاء على جهات حيوية في مصر. شرح القضية في عدة صفحات، موضحا أن وراء المؤامرة جماعة الإخوان وجهات أجنبية منها إيران وحزب الله. لم نر وجوه هؤلاء المخربين في أي برنامج بقنوات التلفزيون التي تتسول متحدثين عن الاستقرار وحكمة الرئيس، وكتبت الصحيفة عن سقوط «مخربين» من اليمن وإيران وغيرهما، وكذلك «تم القبض على 40 سوريا وفلسطينيا في داخل 3 سيارات ميكروباص في دمنهور، كما تم القبض على 4 فلسطينيين حاولوا إثارة الجماهير بوسط القاهرة... وضبط الأهالي 6 من المغاربة بميدان عبد المنعم رياض. كما تمكن الأهالي من قتل أجنبي، تم ضبطه يرتدي ملابس عسكرية بميدان عبد المنعم رياض». لست معنيا بتوثيق الفشل المهني، ولا السقوط الأخلاقي، فلا يستطيع بضعة أجانب أن يثيروا الفتنة في ملايين المصريين، إلا إذا كنا سذجا وبلهاء ومضحوكا علينا. وأين ذهبت جثة الأجنبي؟ وما جنسيته؟ ولماذا فشلت الأجهزة الأمنية في التقاط صورة له؟ ولماذا لا تنشر نصوص التحقيق مع المقبوض عليهم غير الضالين من العملاء؟

بذور الكراهية التي زرعها رزق وأديب ومقدمو برامج في التلفزيون المصري أنبتت أكثر من سبع جرائم، أولى ضحاياها المرأة المجهولة عند نادي الصيد، وأخراها لارا لوجان مراسلة محطة تلفزيون (سي. بي. إس) الأمريكية، إذ وقعت فريسة لبعض الغوغاء، خلال تغطيتها فرحة النصر في ميدان التحرير مساء 11 / 2 / 2011 عقب خلع مبارك، لبرنامج (60 دقيقة)، وتعرضت للضرب والاعتداء الجنسي، وأنقذتها نساء وجنود نقلوها إلى الفندق.

كثرت وجوه ذوي اللحى في ميدان التحرير الذي تجمل اليوم بأهله، وأصبح دولة مستقلة ذات سيادة إعلامية، وفي الوقت نفسه ينفتح على وسائل الإعلام الأخرى، لا يرفضها أو يتوقع على ذاته. قرأت في الصحيفة الخاصة بالميدان بيانا يخص مؤسسة الأهرام، والصحيفة التي تحمل عنوان (ميدان التحرير) مجرد ورقة واحدة كبيرة الحجم (A3) تتداولها الأيدي، ويرأس مجلس إداراتها محمد مصطفى شردي ويرأس تحريرها شريف عارف والمشرف العام معتز أبو سمرة، وثمنها: الحرية. سألت هشام يونس: أين البيان؟ قال إنه مع أسامة الرحيمي، ثم اتصل بشخص لا أعرفه، وقال له: «أضف توقيع سعد القرش». أردت قراءة نص البيان، فأنا لا أذهب إلى الأهرام، ولا أنوي إلا بعد زوال النظام، وكان كارم يحيى قادما من ناحية شارع محمد محمود، وسألته عن البيان، فأعطاني بيانا يخصه، يحمل تاريخ 30 / 1 / 2011، وتوج بأربعة عناوين:

«نداء عاجل إلى زملائي بالأهرام

لا تصمتوا على مجازر مبارك وعصابته

شكلوا لجانا شعبية للحفاظ على مؤسستكم

مارسوا عملكم بمهنية وضمير وانحازوا إلى شعبكم»

ثم افتقدت بيانات كارم التالية، إلى أن قابلته في مظاهرة بالميدان، أمام جامعة الدول العربية، لمناصرة ثورة سوريا، يوم الجمعة 29 / 4 / 2011، وأعطاني المقال رقم 18 في هذه السلسلة، وعنوانه (الموت ولا المذلة).

حسمت «موقعة الجمل» لصالح الثوار. سحقت أقدام الجياد والبعير والبغال رؤوس مدبري الفتنة، وبعد معركة كبرى دامت نحو 15 ساعة، أجبر البلطجية على التخلي عن موقعهم الاستراتيجي فوق جسر أكتوبر، أصبح ميدان التحرير آمنا حقا، وإن ظل ميدان طلعت حرب رهينة في أيدي البلطجية، وكانوا يواصلون على بعض المحاور انقضاضا يائسا، مناوشات وتحرشات واقتحامات محدودة، أقرب إلى توابع الزلزال، واستدعى هذا مزيدا من التحري الدقيق عن هوية الداخلين، وتفتيشهم بدقة، خشية تسلل حاملي الأسلحة أو أفراد الشرطة. وتخلت اللافتات عن روح السخرية والدعابة وصارت أكثر جدية:

«يسقط مبارك. متظاهرون حتى ترحل»

«يسقط الخائن مبارك عدو الشعب»

«كلموه بالعبري يمكن يفهم»

لم يحاول مسؤول مصري أن يعترف بأن مصر استيقظت يوم 25 يناير، وأنجزت الثورة في جمعة الغضب 28 يناير، ونجحت في عبور الاختبار الصعب أمس في «موقعة الجمل». كانوا مذهولين، ولا يستطيع المهزوم أن يفخر بثورة شعبية، مهمتها الأولى نسف محاولات الإصلاح والترقيع.

ذهبت البغال والجمال والجياد وجاء المتجهمون. نهاية البلطجة السياسية بداية الوصاية الدينية. غادرت الميدان لأشحن التليفون وأستريح، في أول ساعة قيلولة أكون فيها عكر المزاج، يضيق صدري ولا ينطلق لساني منذ بداية الثورة. مشيت مطمئنا في شارع قصر النيل، ومررت بدار ميريت. قابلت محمود قرني في المسافة القصيرة بين الباب والسلم، سألته بقلق عما إذا كان يرى ما أرى، واستفهم فقلت: «الإخوان احتلوا الميدان يا محمود؟ أنا خائف»، ونفى ذلك، موضحا أنهم أكثر تنظيما في شؤون الإعاشة والدفاع أمس الأربعاء، هذا كل ما في الأمر. لم أدخل ميريت، وتركت محمود، وهبطت السلم نصف مطمئن. ثم عبرت ميدان طلعت حرب حذرا، كان تحت احتلال البلطجية، ولا يجرؤ طلعت حرب على الشكوى، وقد حمل تمثاله لافتة «نعم لمبارك».

هممت بكتابة تعليق سريع في صفحتي على الفيسبوك، وتلقيت اتصالا من الرقم الدولي المجهول نفسه، من دولة يأتيني منها اتصال لأول. نطق المتصل على الطرف الآخر باسمه، ولم ألتقط منه إلا اسم «مجذوب»، هل هو الاسم الأول أم اللقب؟

دعاني الرجل إلى ندوة أدبية بالسودان يوم 16 فبراير. اعتذرت على الفور، لا أنا ولا أي مصري يستطيع أن يغادر مصر أو القاهرة، في هذه الفترة. أغراني بوجود فلان وفلان، وكررت الاعتذار، والرجل أصر قائلا إنهم يريدون تكريمي في الخرطوم. أبديت عجبا صامتا: من يعرفني في السودان لكي يدعوني لندوة، فما بالك بتكريمي؟! وشكرته وهو احتار، واقترح أن نؤجل اتخاذ قرار.

وكتبت في صفحتي:

«حتى صباح الثلاثاء (1 فبراير) كنت أتمنى لمبارك خروجا كريما يليق بمحارب قديم. وبعد معارك أمس الأربعاء واليوم الخميس لا أقل من محاكمته كمجرم وخائن للشعب. لا تقل جريمته عن جريمة حبيب العادلي حين سحب الشرطة وأشاع الفوضى. البلطجية بعد فشلهم في اقتحام ميدان التحرير سيتوجهون للمولات والمحال. حريق القاهرة الثاني ودماء الشهداء في رقبة مبارك: لا تصالح».

واقترح علي عبد المنعم الباز في رسالة عبر الفيسبوك:

«دعوت من أعرفهم في الكويت لإرسال تبرعات عن طريق أهلهم فور فتح البنوك أرجو أن تحاولوا مساعدتنا بأسماء وعناوين وتليفونات من يستحقون مساعدات مالية من أهالى الشهداء والجرحى وأصحاب المحلات المنهوبة. فكرتي أن يرسل كل شخص بنفسه لأقرب ضحية في منطقته بدون حسابات بنكية... ربنا معاكم ربنا مع الأحرار ربنا مع مصر».

لم أرد عليه. واتصلت بي صديقة من سوريا، وأخرى من عاصمة أوروبية اقترحت أن ترسل لي ألف يورو، وتذكرت الحمقى الذين يدعون أن الثوار يخاطرون بأرواحهم من أجل 50 يورو، ووجبة من محل كنتاكي، وهو مبلغ لو يعلمون رخيص. لم نسمع أن بغلا أو جملا استأجر في «موقعة الجمل» بمثل هذا الثمن البخس. ضحكت وهي لم تفهم السر، وأوضحت أن البنوك مغلقة، وهي تعرف ذلك، واقترحت أن ترسل المبلغ عبر إحدى شركات الأوراق المالية، وقلت إنني لم أعلن إفلاسي بعد حتى تأتيني المساعدات من الشمال الأوروبي، وقالت إنها ستتركها معي أمانة لإيصالها لأي جهة تتولى شؤون الجرحى أو أهالي الشهداء.

وعدتها بالرد، واستشرت أسامة عفيفي، فحذرني أن أتلقى أي مبلغ من الخارج، سوف يمر عبر جهاز أمن الدولة، وتصل صورة ضوئية من الشيك إلى برامج التحريض التلفزيونية، ويخطب المذيع العايق والمذيعان الأقرعان، وهم يعرضونه على الهواء مباشرة، للتنديد بالعملاء الذين يتلقون باليورو ثمن خيانة مصر! وكان عمرو أديب يستأسد علينا، في برنامج تقاسمت إثمه معه المذيعة رولا خرسا، زوجة عبد اللطيف المناوي رئيس قطاع الأخبار بالتلفزيون المصري. مدام رولا التي هي زوجة عبد اللطيف المناوي تستبسل في الدفاع عن مبارك الذي «توعد بمحاربة الفساد»، وعمرو أديب الذي هو شقيق عماد الدين أديب القريب من آل سعود وآل مبارك يتوعدنا، ثم يبصرنا بأن «حسني مبارك بكل حكمة اختار الدولة... فعل ما طلبناه في 7 أيام»، في خطابه العاطفي مساء الثلاثاء عشية «موقعة الجمل»، ثم ينصحنا عمرو شقيق عماد الدين أديب بالتي هي أحسن: «كل مواطن يقول للي جنبه: مفيش مظاهرات من اللحظة دي»، وفي البرنامج نفسه سمعنا شخصا يتصل، ربما بترتيب خاص مع فريق البرنامج أو أي جهاز في السلطة، ليقول إن هناك جهة أجنبية تمنح كل متظاهر في الميدان 200 دولار وثلاث وجبات «ليبيتوا في الميدان».

وبعد خلع مبارك لن يتأخر عمرو أديب عن اللحاق بركب الشتامين، ولن يتردد في البكاء على الشاشة قائلا: «كنا في عصر أسود ومهبب... نحتفل النهار ده بانتهاء الذل.. ليلة ذهاب الذل من مصر... عماد أديب ذلوا أهله لأنه قال كلمة حق».

عمرو أديب، زوج لميس الحديدي مسؤولة الدعاية لمبارك في الانتخابات الرئاسية 2005، شقيق عماد الدين أديب ذي الحظوة من آل سعود وآل مبارك، هو الذي أطلق مقولة «من أنتم؟»، عقب موقعة الجمل، ثم استلهمها منه معمر القذافي الذي حكم شعبا لا يعرف من يكون لمدة أربعين عاما، ولا أتصور أن القذافي عني بحقوق الملكية الفكرية لكلمتين تلخصان مأزقه، وعمرو أديب نفسه هو الذي أبدى شجاعة في تمزيق جثث الموتى، وهي جسارة مفتعلة لن ترضي الثوار. أهل التحرير أعلنوا غيرتهم على شرف الميدان، حين طردوا منه عمرو أديب يوم 8 / 2 / 2011، ودفعوه إلى الحدود قائلين: «برة.. برة». أغلقوا عليه صندوقا، ولم يشغلوا أنفسهم به. وفي اليوم التالي، وضعوا الصندوق الذي به عمرو أديب في سلة أضافوا إليها المغني تامر حسني، حين حاول اللحاق بقطار الثورة، بعد الهجوم عليها في التلفزيون. تبرأوا منه، وطردوه، فإذا به مثل النساء يبكي قلة حيلته أمام الذين خدعوه في تلفزيون مبارك.

استعلجني عبد المنعم الباز، وأرسل لي يقول:

«رجاء تحاولوا تجمعوا لنا معلومات دقيقة عن ضحايا الثورة الأسماء والعناوين والتليفونات وطبيعة احتياجاته فكرتي أن المصريين بالخارج يتبرعوا بنفسهم مباشرة لأقرب شخص لهم جغرافيا أو نفسيا بدون صناديق تبرعات أو ارقام حسابات بنكية».

وكتبت في صفحتى:

«لعبد المنعم وكل الأصدقاء المصريين والعرب بالخارج: أي تحويلات مالية إلى الجرحى أو أهالي الشهداء الآن سوف تستخدم في تشويه الثورة، ويلتقطها أرامل النظام ويبثونها في الفضائيات دليلا على التمويل الأجنبي والأجندات الخارجية والمؤامرات الكونية.. شكرا لكم».

وعلق قاسم مسعد عليوة من بور سعيد:

«ما اقترحه د. عبد المنعم نابع من شعور وطني خالص، لكن كلامك يا أستاذ سعد سليم 100% فلا بد من اليقظة».

وعلى مضض علق عبد المنعم:

«ماشي يا سعد بس جمعوا معلومات وتجهزوها لبعد انتصار الثورة على الثروة إن شاء الله وبعدين انا وغيري هنبعت بشكل شخصي عن طريق اهلنا واصدقائنا لأقرب ضحايا وشهداء للثورة.. لاننا فعلا حاسين أننا مقصرين بجانب مايفعله الناس في مصر».

كلمني نوري الجراح. كانت التقارير التلفزيونية تقول إن الميدان يشهد حربا أهلية. طمأنته، وقال إنه أعد بيانا وقعه نحو 150 مثقفا عربيا وأجنبيا، وعنوانه (رسالة تضامن من مثقفين عرب وعالميين مع شباب مصر الثائرة على الاستبداد في ميدان الحرية)، والبيان مكتوب بلغة عاطفية، تبدأ بالقول:

«يثور اليوم الأحرار بقيادة الشباب نبض مصر العظيمة، في كل بقعة من البلاد: في القاهرة والإسكندرية والسويس والإسماعيلية والمحلة والمنوفية وكفر الشيخ وحلوان وغيرها، في كل مدينة وقرية، وكل شارع وميدان في الدلتا والنيل. نواصل الوقوف معكم يا شباب مصر الجميل، ويا شهداءها وجرحاها في ميدان التحرير، وفي كل ميدان بمصر، بطلعتكم البهية، وأرواحكم الطيبة، وحناجركم الصادحة بصوت الحق، نحن نتطلع إليكم، مستمدين الشجاعة منكم، والأمل. ومستلهمين العزيمة ونحن نصبو معكم إلى فجر يوم جديد، لا يكون فيه دكتاتور، ولا لص ولا فاسد مفسد في الأرض وفي الناس، ولا مجرم يزين جريمته بدستور مزيف وخطاب كاذب».

وينتهي البيان الطويل بهذا النداء: «يا شباب مصر، إنكم بوقفتكم ضد الظلم وسعيكم نحو الحرية والخلاص من الدكتاتور ودكتاتوريته إنما تعبرون عن شوق شباب العرب جميعا، وجميع الشرفاء في أمتنا إلى فجر يوم عربي جديد. وكما انتصرت ثورة تونس الرائدة، ستنتصر ثورتكم العظيمة. إنها الثورة العربية الكبرى. المجد والخلود لشهداء الحرية في مصر. النصر لثورتكم، والخزي والعار لنيرون مصر الهمجي ونظامه البائد. نهيب بجميع الأحرار العرب وأحرار العالم مساندة شعب مصر الحر في معركته العادلة».

أرسلت بيان المثقفين العرب والأجانب إلى رياض أبو عواد في وكالة الأنباء الفرنسية، واتصلت به لأبلغه أن لديه الآن بيانا مهما في بريده الإلكتروني. في اللحظة نفسها تلقيت رسالة إلكترونية سيكون لها دور بارز في توجيه مسار الثورة، وحفر مجرى عميق يجذب إلى الميدان مزيدا من المهاجرين والأنصار.

عنوان الرسالة (المخابرات البريطانية: الداخلية المصرية فجرت الكنيسة)، أما التفاصيل فتفسر سر الإصرار البريطاني على المطالبة برحيل مبارك وكبار أعوانه، وفي مقدمتهم العادلي وزير الداخلية، إذ كشف دبلوماسي بريطاني، أمام دوائر قصر الإليزيه الفرنسي، أن المخابرات البريطانية تأكد لها من مستندات رسمية مصرية صوتية وورقية ضلوع العادلي في تفجير كنيسة القديسين مار مرقس والأنبا بطرس بالإسكندرية، في الدقائق الأولى من عام 2011. جريمة أزهقت أرواح 23 وأدت إلى جرح نحو 100، وزلزت الشرفاء، وشقت الصف الوطني؛ فلم يعد المسلمون قادرين على تجاوز الخجل وتهنئة أصدقائهم المسيحيين بعيد الميلاد. وكشفت الرسالة قيام العادلي، منذ ست سنوات، بتشكيل جهاز خاص يديره 22 ضابطا، أما جسد هذا الجهاز الخاص فهو أفراد من جماعات إسلامية قضوا سنوات في السجون، وتجار مخدرات، وبلطجية مشهود لهم بالإجرام وسوء السلوك، ويتم تقسيمهم إلى مجموعات، حسب المناطق الجغرافية والانتماء السياسي، ويستطيع الجهاز أن يصبح أداة تخريب شامل في جميع أنحاء مصر، إذا تعرض النظام لأي اهتزاز.

أما سيناريو الجريمة فهو شيطاني بامتياز، إذ أعد رائد الشرطة (فتحي) المقرب من العادلي، منذ 11 / 12 / 2010، رجلا اسمه (أحمد) قضى 11 عاما في السجون، وكلفه بالاتصال بمجموعة متطرفة مصرية لتفجر الكنيسة، واتصل الرجل بجماعة في مصر اسمها (جند الله)، وأبلغها أنه يملك معدات حصل عليها من غزة، يمكن أن تفجر الكنيسة، وأنه يهدف إلى «تأديب الأقباط»، وأعجبت الفكرة (محمد) قائد جند الله، وجند لها (عبد الرحمن) الذي أبلغ أنه سيترك أمام الكنيسة سيارة ستنفجر تلقائيا، ولكن الضابط (فتحي) فجر السيارة، بنفسه عن بعد، قبل أن ينزل منها (عبد الرحمن). ثم توجه الرائد (فتحي) على الفور إلى (أحمد)، وطالبه باستدعاء (محمد) قائد جند الله، إلى شقة في شارع الشهيد عبد المنعم رياض بالإسكندرية، لمناقشة النتائج، وفور حضوره سارع الضابط إلى القبض عليهما، ونقلهما فورا إلى القاهرة في سيارة إسعاف حديثة، واعتقلهما في مبنى تابع لوزارة الداخلية بالجيزة. وتمكنا من الهروب مساء (جمعة الغضب) 28 / 1 / 2011، وخوفا على حياتهما، قررا اللجوء إلى السفارة البريطانية، وفجرا المفاجأة.

كنت واحدا من كثيرين تلقوا الرسالة اليوم، وأعدت إرسالها إلى كثير من الأصدقاء والزملاء، مع إضافة إيضاح يعنيني شخصيا، قلت فيه: «اسألوا زميلي في الأهرام المسائي أحمد عبد الخالق: ألم أقل لك بعد تفجير الكنيسة إنني لا أستبعد أن يفعلها النظام، بعد فضيحة تزوير الانتخابات، ليصرف الناس عن هذا الأمر؟ إن نظام مبارك غير شرعي وهش، ولا يستمد شرعيته أو قوته إلا من صناعة عدو وهمي، وقد أوغر الآن صدور المسيحيين، ونجح في استعدائنا على إخواننا في غزة». وأرسلت الرسالة لأحمد أيضا، وحين رجعت للعمل، بعد خلع مبارك بأكثر من أسبوعين، قال لي:

ـ «أنت نبي، ولكن من أخبرك؟».

قلت له:

ـ «إنها النبوة يا ولدي».

وأعطيته نماذج للصهاينة، حين فجروا في ميناء حيفا عام 1940 سفينة بريطانية تحمل يهودا، وأدى الحادث إلى قتل أكثر من 250 من اليهود وبعض أفراد الشرطة البريطانية.

نزلت الرسالة مثل صاعقة، انتشرت من شخص إلى عشرات يعيدون إرسالها إلى مئات يرسلونها إلى الآلاف، وأمست حديث الميدان الذي لم يبال أهله بمناورات عمر سليمان نائب الرئيس في اليوم نفسه.

بدا عمر سليمان لاعبا طال عليه الأمد، وتيبست عضلاته، ويريد في اللحظات الأخيرة من المباراة استعراض مهاراته، إنه مثل الحاوي العجوز الذي لا يعنيه القفز، قدر امتلاك الجراب المليء بالمفاجآت، ومن مفاجآت الحوار الذي دعا القوى السياسية إليه أن يتجاور سياسيون محترفون وآخرون ليسوا أقل من بلطجية منحهم صفوت الشريف حق تكوين أحزاب لا يعرف اسمها أحد، وكنت أرى هؤلاء في نقابة الصحفيين، وهم ينتمون إليها رسميا، وأشعر بالخجل.

هرول الإخوان إلى حوار مع سلطة نبذها الشعب، ولا يعترف بها أي من القوى الوطنية التي وجدت في الثورة شرعية تنسف ما قبلها، ثم تبين للإخوان في وقت متأخر، أن السلطة تفرض عليهم حوارا تحت التهديد، فأصدروا اليوم (3 فبراير) بيانا بدأ بتبرير قبول الحوار «انطلاقا من حرصهم على المصالح العليا للوطن»، وأعلنوا أن هناك «مظاهر جديدة تدل على عدم جدية الرغبة في الحوار».

اليوم أيضا تأكدت لي معاناة سليمان، في مقابلة مع للتلفزيون المصري، أزمة فرق التوقيت. لم يدرك وهو مدير المخابرات العامة أن النظام سقط في عموم مصر، ولا ينتظر الشعب إلا الإعلان عن موعد الدفن، ولم يبلغه أن في مصر ثورة، إن لم يكن منذ 25 يناير، فهي حقيقة منذ مساء جمعة الغضب 28 يناير، ولكنه قال إن «الرئيس مبارك وجد أن مطالب حركة 25 يناير مشروعة ومقبولة، ووضع خريطة طريق لذلك»، فإذا لم يكن هذا هو الاستفزاز فماذا يكون؟ ولم ينس الرجل أن يشير إلى وجود «أجندات خارجية». وهو اتهام للشعب المصري بأنه أقل من أن يصنع ثورة وطنية خالصة، لأنه يستحق الحرية.

حتى وإن أسقطت الجماهير شرعية مبارك ونظامه، فإن أحمد شفيق دستوريا هو رئيس الوزراء، وكان عليه أن يعلن مسؤوليته عن جريمة «موقعة الجمل»، ولكنه بعد لقاء سليمان ببعض القوى السياسية، عقد مؤتمرا صحفيا، واكتفى بالاعتذار وإبداء الأسف لوقوع «العنف» بين مؤيدين ومعارضين. لم يكن يريد أن يقول إن في البلاد ثورة، حتى بعد خلع مبارك، والاصطلاح والاتفاق على أن «ثورة 25 يناير» غيرت وجه البلاد، ظل شفيق يصف الثورة بأنها «ما حدث في 25 يناير»، وهذا سلوك لفظي يشبه خزي اللصوص من وجود شرفاء يرفضون السرقة.

في السابعة مساء عدت إلى الميدان. حييت الجندي بجوار الدبابات في ميدان مصطفى كامل، وكان يمنع شخصا، ويتحرى بيانات آخر، وابتسم ولم يعد يسألني أو يطلب إلي أن أستأذن الضابط. وأجبت الشاب الجالس مع اثنين من البوابين عن سؤال توقعت متوقع عن موعد رحيل مبارك: «غالبا بكرة».

كابر مبارك واستخف بنا، وأعلن أنه فاض به الكيل، ويريد الرحيل، ولكنه يخشى الفوضى.

رد عليه متحدث في إذاعة الميدان القريبة من شاشة الجزيرة: «ارحل وسترحل الفوضى معك»، ورأى الغاضبون هذا الكلام الفصيح لا يناسب الهتاف، إذ اعتدنا الهتاف بالعامية، وتحركت المسيرات في الميدان تهتف وتغني على إيقاع الطبول:

«دلعه يا دلعه.. مبارك شعبه خلعه».

«حلو يا حلو.. مبارك شعبه حله».

«الجدع جدع، والجبان جبان.. واحنا يا جدع قاعدين في الميدان».

كان مبارك قد تحدث اليوم إلى كريستيان امانبور مذيعة شبكة (ايه بي سي نيوز) الأمريكية، ووجه رسائل إلى سادته هناك قائلا: «مازلت أشعر بأنني قوي»، وشرح كيف قال لباراك أوباما في اتصال هاتفي: «أنت لا تفهم الثقافة المصرية ولا تعرف ما سيحدث في مصر إذا تنحيت»، محذرا أن يصل الإخوان إلى السلطة. جمال مبارك حضر المقابلة التي لم تكن تخص الشأن العائلي، أو خلافا بين أمه السيدة سوزان وزوجته السيدة خديجة، وإنما تتعلق بمصير البلد في لحظة فارقة، فبأي صفة حضر الوريث مثل هذا اللقاء؟

في المقابلة نفسها قال مبارك الكبير إنه لم يكن سعيدا بما وصفه «العنف» بين مؤيديه ومعارضيه، في «موقعة الجمل»، لكنه لم يعتذر للجرحى وأسر الشهداء. لم يعلن تحمله المسؤولية باعتباره الرئيس الدستوري. وسوف ينشر ياسر رزق فيما بعد قول فتحي سرور، بعد حبسه على ذمة التحقيقات في «موقعة الجمل»، عما حدث يومي 2 و3 فبراير، إن اجتماعا موسعا عقد في اليوم التالي، برئاسة مبارك وحضور نائبه عمر سليمان، ووزير الداخلية محمود وجدي، وصفوت الشريف رئيس مجلس الشورى المنحل، وإنهم «تناولوا ما حدث في ميدان التحرير بكل سخرية، سواء قتل المتظاهرين أو الشروع في القتل، والحادث كله تناوله أركان النظام بتهكم». ("الأخبار" 21 / 4 / 2011).

وسوف يسجل تقرير لجنة تقصي الحقائق المشتركة بين مجلس حقوق الإنسان والمنظمة العربية لحقوق الإنسان، في أحداث ثورة 25 يناير، أن النظام دبر مظاهرات تأييد للرئيس السابق في ميدان مصطفى محمود وبعض المحافظات، ثم اتجهوا إلى ميدان التحرير، واخترقوا الحواجز الحديدية التي وضعها الجيش لتأمين المتظاهرين، وقام البلطجية «باعتداء دموي فاجر على المتظاهرين بميدان التحرير فيما عرف بمعركة الجمال والبغال، يوم الأربعاء الأسود. كما تعرض المتظاهرون فجر الخميس في الساعة الرابعة والنصف لهجوم بالرصاص الحي من القناصة الذين تمركزوا أعلى المباني المطلة على ميدان التحرير، وهو ما أدى إلى إصابة ثلاثة آلاف شخص من المتظاهرين ووفاة ما يزيد على 200 شخص، ولم تكن سيارات الإسعاف كافية لنقلهم إلى المستشفيات، وقد منع البلطجية التابعون للحزب الوطني دخول المساعدات الطبية والغذائية للمتظاهرين».

وفي يوم 7 / 7 / 2011 سيحيل المستشار محمود السبروت قاضي التحقيقات في «موقعة الجمل» 25 متهما إلى محكمة الجنايات، بتهمة القتل العمد للمتظاهرين، وتكوين عصابات مسلحة للاعتداء على المتظاهرين والشروع في قتلهم، وإرهاب وإيذاء المحتجين سلميا، وضربهم وإحداث عاهات مستديمة ببعضهم. وعلى رأس المتهمين: صفوت الشريف، وفتحي سرور، ورجل الأعمال إبراهيم كامل، ورجل الأعمال عضو البرلمان المنحل محمد أبو العينين، وعائشة عبد الهادي وزيرة القوى العاملة، وحسين مجاور رئيس اتحاد العمال، والمحامي مرتضى منصور وابنه أحمد وابن أخته وحيد صلاح جمعة، ومن نواب الحزب الوطني المنحل: طلعت القواس، وعبد الناصر الجابري، ويوسف خطاب، ورجب هلال حميدة.

وسوف تظل صفحة «موقعة الجمل» مفتوحة وقابلة لإضافة متهمين آخرين، كانوا يتمنون هزيمة الثورة، وإعلان أنفسهم أبطالا. ويوم 22 / 7 / 2011، فجر يسري فودة في برنامج (آخر كلام) في قناة أون تي في إذ عرض لقطات مصورة ظهر فيها لأحمد الفضالي رئيس حزب اسمه (السلام الديمقراطي)، وسط البلطجية فوق الجسر، وهم يواصلون رشق الثوار. المفارقة أن الفضالي ترأس اللجنة التشريعية في مؤتمر الوفاق القومي، الذي بدأ جلساته في نهاية مايو 2011، وقوبل باعتراضات شديدة لمشاركة رموز نظام مبارك مثل مصطفى الفقي، وبعض المتهمين في «موقعة الجمل» مثل مرتضى منصور الذي أعلن ترشحه لرئاسة الجمهورية!

موقعة الجمل بالأرقام: 14 شهيدا، أكثر من ألف مصاب، 25 متهما، أكثر من 370 شاهدا، 1480 ورقة تحقيقات.

تلقى أحد أصدقائي، هذا المساء، اتصالا من زوجته. قالت إن الخطر يقترب من بيتهم في حي الشيخ زايد، القريب من مدينة أكتوبر في الجيزة. أخبرته أن مخربين أشعلوا النار في هايبر وان، وتعرض المركز التجاري للنهب. وتلقى آخرون اتصالات تفيد بوقوع حرائق في مؤسسات ومراكز تجارية وبنوك، فكتبت في صفحتي على الفيسبوك تحذيرا لكل من يتوجه إلى ميدان التحرير أو يمشي في الشارع ألا يقاوم أي بلطجي يريد تفتيشه أو سرقته، وقلت إن البلطجية هذه الأيام «إيد واحدة»، وفي الرسالة نفسها اقترحت ألا يحمل أحد من المال إلا ما يزيد قليلا على حاجته إلى المياه وساندوتش متواضع وطبق كشري والسجائر، وقلت إن 20 جنيها تكفي هذه الحاجات اليومية، وما زاد على ذلك حلال على البلطجية. وكتبت أيضا أننا سنشهد الليلة «حريق القاهرة الثاني»، على أيدي ميليشيات جمال مبارك وأحمد عز.

ولا أحتفظ بنص تلك الرسالة في صفحتي، إذ قرأتها أمل الجبوري وسارعت إلى الاتصال بي، ونصحتني بحذفها فورا، تجنبا لأي اعتداء من قبل هذه الميليشيات أو مندوبيهم في الشارع.

تذكرت عبد الرزاق عيد. يوم الخميس الماضي، قبل ثمانية أيام، كان آخر اتصال هاتفي بيننا، تواعدنا على اللقاء في جمعة الغضب، وحيل دون ذلك، ومضى أسبوع قامت فيه قيامة البلاد، وتغير وجه مصر، وتبدلت في الأجساد أرواح وطاقات، ونسيت الاتصال به. هل تجنبت ذلك حتى لا يصدمني عنه خبر غير سار؟ ولماذا لم يحاول الاتصال؟ امتلكت الشجاعة، وجاءني صوته، هو نفسه عبد الرازق، وفرحت بالعثور عليه، أو التقاطه من بين جثث الشهداء. في الميدان، هنأ كلانا صاحبه، كأننا نجونا من موت لم يكن بعيدا، في جمعة الغضب أو موقعة الجمل. كان عبد الرازق قد انخرط مع شباب أسسوا فيما بعد (اتحاد شباب الثورة)، وأصبح المنسق العام للاتحاد.

ظهور عبد الرازق سيجنبي، في الأيام التالية، بداية من الغد، مشقة العودة إلى البيت قرب الفجر مشيا على قدمي المتعبتين. استأذن هذا المساء، وتواعدنا على اللقاء غدا، في (جمعة الرحيل) كما نسميها نحن مواطني الميدان، أما الآخرون في ميدان مصطفى محمود فيسمونها (جمعة الوفاء) لمبارك. ودعت عبد الرازق، وجاءني صوت زميلي في الأهرام علي محمود، لم يعد يسألني هو أو غيره من الزملاء متى أرجع للعمل؟ إذ تأكد لهم أنني سأعود حين يغيب مبارك. أبلغني علي أنه علم من مصدر مهم في الحزب الوطني أن «شيئا ما» سوف يحدث الليلة في الميدان، وإن الجيش سيوفر وسائل مواصلات لمن يريد المغادرة الآن. قلت له إن الميدان بخير، عادت إلى أهله الضحكة الصافية، وانتهت موقعة الجمل بخيبة أمل مخططيها ومنفذيها، وأنت تسمع الموسيقى والغناء، وفي الإذاعة الأخرى تتواصل جلسات البرلمان الشعبي.

ثم اتصل بي أسامة عفيفي، وسارع إلى إلقاء هذا التحذير. لم يكن يحذرني، وإنما يناقشني، لأن موظفين في التلفزيون أبلغوه ألا يذهب إلى الميدان غدا الجمعة، لأن «شيئا ما» سيحدث الليلة، يستعيد بهم المهزومون هيبتهم بعد فشل موقعة الجمل، ومن الغد لن يكون الميدان لأهله، سيحرره أنصار مبارك من الثوار، ولن يسمحوا لأحد بالاقتراب. فاجأته بأن زميلا قدم لي هذه النصيحة، ورجحت أنهم بعد خيبة الأمل في موقعة الجمل يمارسون حربا نفسية، لخلخلة الكتلة البشرية في الميدان، تمهيدا للانقضاض عليه بأقل التكاليف.

غادرت الميدان مبكرا. كانت الساعة الواحدة من فجر الجمعة، نظرت إلى الميدان، وصنعت على جدار دبابة خيطا عميقا في الندى الذي يتوج شعارات تدعو مبارك للرحيل. حييت الجنود، وتذكرت كاركاتيرا لمحيي الدين اللباد، رسم فيه مواطنا عربيا في شارع، يشير إلى دبابة مناديا: «تاكسي». رسم سرق واستلهم واقتبس كثيرا، ونبهته مرة إلى ذلك، ولم يبال. كان يمكن أن ينسب الرسم لغير صاحبه، لولا أن اللباد نشره في كتابه (100 رسم وأكثر).

تلكأت فوق جسر قصر النيل، وأغمضت عيني لعلي أرى دبابة تسعى، لتحملني إلى ميدان الجيزة، أو شارع الهرم، وقلت: ما أكذب الكاريكاتير.

تلكأت مرة أخرى، واتصل بي ثلاثة من زملائي، تناوبوا على المكالمة والنصيحة، حامد محمد حامد، ومحمد عطية، وعصام رأفت. استراحوا لأنني غادرت الميدان، وقالوا إنهم شاهدوا مصفحات للشرطة تعبر جسر أكتوبر في طريقها إلى الميدان، وإن لديهم شائعات وأخبارا عن اقتحام وشيك. قلت إنني على حدود الميدان، وشكرتهم لأنهم اتصلوا في وقت مناسب، قبل أن أبتعد مسافة تحول دون عودتي إلى الميدان، واستحلفوني ألا أفعل. تخطفوا سماعة الهاتف، وذكروني بأن لي أولادا ينبغي أن أخاف عليهم.

رجحت أن اقتحاما لن يقع، فالحرب خدعة، ولم أشك في غباء قيادات الحزب الوطني وأنصاره، إذ يعلنون عن الاقتحام، لكي نأخذ حذرنا، ونستعد لصده، ولم يبلغهم أن أهل الميدان لن يبرحوه حتى يقرروا مصائرهم.

ولكن الفجر مضى بسلام، وإن شهدت (جمعة الرحيل) معركة خاطفة وأخيرة، انتهت بالقضاء على آخر آمال البلطجية في الاقترب من ميدان التحرير.

في منتصف المسافة من الميدان إلى البيت، اتصل بي أحمد زغلول الشيطي، وكنت عند جامعة القاهرة. في هذا المكان افترق عني طارق إمام، قبل يومين، وذهب للمبيت عند باسم شرف، بعد أن خرجنا معا من الميدان. قابلت الشيطي قبل منتصف الليل، وفرقنا زحام الميدان، وطمأنته قائلا إن الطريق غير مضاء، يخلو تقريبا حتى من ضوء سيارة عابرة، هذه مسافة غير مأهولة، لا أقابل فيها لجنة شعبية ولا آدميين، وسوف أكون سعيد الحظ لو مرت بي سيارة، سأشير وتتوقف تلقائيا وفقا لأخلاق الميدان. علا صوتي وأنا أشركه في الدهشة، أن يتمكن بلد من العيش بسلام، على الرغم من الغياب التام للشرطة ستة أيام كاملة، حتى الشرطة العسكرية لا أثر له، باستثناء دبابة في نهاية شارع الحرير، ولا يتحرى جنود الجيش هوية المتجهين إلى شارع فيصل أو شارع السودان، وقلت إن بلادا مثل مصر لا تموت، يكفي أنني في الظلام وفي برد يناير لا أشعر بخوف ولا برد. قال الشيطي:

ـ نسيت يا سعد أن اسمها المحروسة؟!

حادث 4 فبراير .. جمعة الرحيل

خلا شارع فيصل إلا من بعض السيارات. كان في الميكروباص عدد قليل، أربعة شباب ورجلان أحدهما يقترب من الخمسين ذو معطف، قال بلهفة إنه كان في ميدان التحرير في وقت مبكر، وإنه عائد إليه الآن، وقد ضايقه البلطجية في الدخول، وأخذوا منه أدوية، ولم يشفع له أنه طبيب، وأطلعهم على بطاقته، واتهموه بأنه ذاهب لعلاج «المخربين». قال لهم إن واجبه أن يعالج أي جريح، ولو كان عدوا في حرب، وقالوا له: «خليهم يموتوا». هز أكبر الراكبين سنا رأسه، إشارة يفهم منها الأسى على الجرحى، أو الموافقة على سلوك البلطجية، ولم أرجح أحد الأمرين حين سأل:

ـ «بالذمة يرضي ربنا؟».

لم أفهم هل السؤال استنكار لموقف الثوار، أم لقسوة قلوب البلطجية. ثم أوضح:

ـ «والله ربنا ما يرضى بوقف الحال، حال البلد واقف يا عالم».

شرحت له أن المتظاهرين ليسوا سببا فيما يراه من مظاهر الخراب. لم يطالبوا بوقف حركة السكك الحديدية، ولكن الحكومة فعلت ذلك لتمنع تدفق القادمين من الصعيد والدلتا، وتدفع المواطنين للثورة على المتظاهرين، واتهامهم بأنه سبب الأزمة. ولم يسع متظاهر واحد للتخريب، واستشهدت بمول طلعت حرب في جمعة الغضب، وقلت إن قيادات في الحزب الوطني ووزارة الداخلية تعمدت فتح السجون، أو رحبت بذلك، ليخرج المجرمون لترويع الآمنين؛ فيغادر المتظاهرون ميدان التحرير حماية لبيوتهم، ويضحي الناس بحريتهم على مذبح الأمن المفقود. قلت إن ما لم يتم في 30 عاما لن ينجزه مبارك في بضعة أشهر، وإنه مستعد للتضحية بالوطن وبالشعب في سبيل ألا يخرج من القصر على قدميه. وكنا قد بلغنا جسر الجلاء.

هنا تبدأ حدود أرض الثورة، وعلى الداخل أن يتكبد مشقة السير، في أرض خلت من ضجيج محركات السيارات. أغلق الجسر بدبابتين، وترك ممر ضيق يسمح بمرور شخص واحد، وقبل الوصول إليه يقف أفراد ظننتهم أعضاء في لجان شعبية، يفتشون المتجهين إلى ميدان الحرير، ويمنعون الأغذية والأدوية والأغطية. أدركت أنهم بلطجية مهمتهم حصار الثوار، ليموت الجرحى بجراحهم، ويهلك الأصحاء جوعا أو يتركوا الميدان، ثم تلاحقهم الأجهزة الأمنية بتهم أعدت لهم. أبلغت المسؤولين عن التفتيش في مدخل الميدان، بعد جسر قصر النيل، فقال إن كل شيء سيتم تدبيره.

حول تمثال سعد زغلول المطل على جسر قصر النيل حضرت الأعلام المصرية لأول مرة منذ بدء الثورة. تفاءلت بباعة الأعلام، حيث تكون الأعلام يأمن الناس، هذه أجواء انتصار تلي حربا، انتهت أو تكاد، وقد أصبح الميدان آمنا، واستعد البعض لإقامة طويلة، فضربت خيام، وتخلت الإذاعات عن دور النذير، وعادت الأغاني والموسيقى، وغنى كثيرون لمبارك، سخروا منه، وهم يطوفون:

«سنة حلوة يا جميل. سنة حلوة يا عميل. 30 سنة خدمة. والنهار ده يوم الرحيل».

علمت بزيارة المشير محمد حسين طنطاوي، وزير الدفاع والقائد العام للقوات المسلحة، قيل إنه كان بشوشا مع المتظاهرين، وقال لهم إن مطالبهم أو كثير منها قد تحقق، وهتفوا له: «يا مشير يا مشير.. احنا ولادك في التحرير»، ولم ينسوا بالطبع أن يرددوا الشعار السحري: «الجيش والشعب.. إيد واحدة». علمت أيضا أن عمرو موسى الأمين العام لجامعة الدول العربية زار الميدان أيضا، وأنه حاول تهدئة الثوار، ونصحهم بالعودة إلى بيوتهم. وصرح اليوم لإذاعة أوروبا أنه يدرس ترشحه للرئاسة «بعد نهاية الفقرة الحالية للرئيس». الرجل زار الميدان، زيارة سائح قبيل سقوط نظام تأكد له قرب نهايته. الشعب يفرق بين فرعون وموسى، ولكن الثوار لا ينسون أن موسى ابن النظام، وإن اختلفت الدرجات، وأنه قال قبل أشهر إنه سيمنح صوته لمبارك إذا رشح نفسه: «أرشح الرئيس مبارك... طالما أن الرئيس مبارك سيرشح نفسه.. وأنا أعلم، يعني عارف كويس وعارف طريقة إدارته للأمور... فأنا أصوت له».

موقف عمرو موسى فسر لي سر إضافة اسمه اليوم إلى البيان الثالث للجنة منح أعضاؤها أنفسهم لقب (الحكماء). احتل موسى المركز الثاني مكان نجيب ساويرس الذي اختفى اسمه، وظل نبيل العربي محتفظا بالمركز الثالث، وبعده جاء عمار الشريعي. أما المركز الأول فاحتفظ به أحمد كمال كمال أبو المجد. وجاء أبو المجد أيضا ليقرأ البيان الثالث في الميدان. تضمن البيان أربعة مطالب: تأمين حريات المتظاهرين، ودعوة الجيش لأداء دوره في الانتقال الآمن والسلمي للسلطة (لم يحدد كيف؟)، والتوقف عن اعتقال المتظاهرين، والتوقف عن أعمال البلطجة التي تتم «على نحو مدمر ومخطط تماما عند مداخل الطرق والميادين». سقف البيان منخفض، يريد أن يمسك العصا من المنتصف، ولا يغضب مبارك إذا تمكن من استعادة السيطرة على الحكم، ولا يريد أن يسمي الجريمة باسمها، ويتجاهل الإشارة إلى المتهمين بارتكاب جريمة الأربعاء الدامي (معركة الجمل) تخطيطا وتمويلا، ولا يطالب مبارك بإعلان المسؤولية عنها، أو بفتح تحقيق عاجل لمحاسبة المجرمين.

رأيت البيان استشراقيا، نقبله لو كتبه أو أعلنه متعاطفون أو متضامنون أجانب، يرون ميدان التحرير، أو الثائرين في عموم مصر، من فوق، من خلال ما تختاره لهم الفضائيات من مقاطع فيديو، وهي صور بانورامية لا تقترب كثيرا من الوجوه، ولا تعرف أسماء الثوار أو ملامحهم، وإنما تراهم كتلة أو جموعا، ولكن بطن الميدان يفور بكثير من التفاصيل، والأحشاء تغلي، والمطالب ترتفع إلى حدها الأقصى حتى تصطدم بالسماء، وفي مقدمة المطالب إسقاط نظام سقط بالفعل. ثم إن أحدا لم يمنح «الحكماء» تفويضا، والاعتراف بأنهم «حكماء» يعني التسليم بأن الحشود المليونية، في ميدان التحرير، وغيره من الميادين من الإسكندرية إلى السويس، تحتاج إلى أوصياء، حكماء، عقلاء، لأنها غير مؤهلة لشرح قضيتها. الغاضبون إذن مراهقون في مقابل الحكماء.

في جانب من الميدان طاف شاب يحملا لافتة:

«السعودية خسارة فيك.. تل أبيب بتناديك»، إشارة إلى أنه لا يستحق حتى مصير زين العابدين بن علي الهارب في جدة.

إلى الميدان تأتي الأخبار. في يوم الجمعة نكون معنيين بتناقل سلوك خطباء الجمعة، لنعرف اتجاه الريح، والذين ينصرفون قرب الفجر مثلي لا يستطيعون الحضور مبكرا، وإدراك صلاة الجمعة في الميدان، ثم نتبادل ما سمعناه من خطباء في مساجد مختلفة. إمام مسجد النور في حي العباسية، بؤرة الفتنة السلفية بعد رحيل مبارك، حث المتظاهرين اليوم على العودة إلى بيوتهم، «وإلا حل عليهم غضب الله»، وفي مسجد السيدة نفيسة وصف خطيب يقوم بوظيفة رسمية ما يحدث في الميدان بالفوضى، وقارن ذلك بالفتنة الكبرى بين عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب، أما إمام مسجد الفتح في ميدان رمسيس، الذي سأسمعه في الجمعة التالية، فتحامل على الضحايا، ودعاهم إلى مزيد من الإيمان مستشهدا بالحديث القائل: «ما نزل بلاء إلا بمعصية، وما رفع إلا بتوبة»، ولم يسأله أحدهم عن مدى مسؤولية مسلمي بنجلاديش الأبرياء عن الكوارث الكونية التي تحل دائما ببلادهم!

وسط ما نسمعه عن تناقضات الخطباء، انطلاقا من الموقف السياسي أو اللا موقف لكل منهم، جاءني خبر وفاة أحمد محمود الصحفي بالأهرام. أحمد صاحب دار اللطائف للنشر والتوزيع، وهي قريبة من وزارة الداخلية. السبت 29 يناير التالي لجمعة الغضب، كان في دار النشر، وشاهد تفاصيل جريمة أو جرائم، وسارع إلى توثيقها بالصورة، بكاميرا تليفونه المحمول، ولم تغفل عنه عيون الصقور في الوزارة. لم يطلق أحدهم بالقرب منه طلقة تحذير، بل عاجله قناص برصاصة، ضباط برتبة نقيب، قاتل محترف يعرف ماذا يفعل الضحية، فأخرس صوته، وطمس أدلة جرائم سجلتها الكاميرا. اخترقت الرصاصة العين اليمنى وسببت نزيفا حادا في المخ، أدى إلى غيبوبة لازمته حتى الوفاة. القاتل الذي يجهل لغة الحوار أناب السلاح في الكلام، وسكت الكلام، والبندقية تكلمت لغة الدم.

وأصدر اتحاد الناشرين المصريين «بيانا للأمة» يؤكد دعم الثورة الشعبية، ويقر بشرعية، مطالبها، ويدين العنف والقتل والاعتقال والملاحقات، وقطع خدمة الاتصالات والإنترنت «ويؤكد على ضرورة محاسبة المسؤولين عن هذه الاعتداءات التي راح ضحيتها المئات من الشهداء وآلاف الجرحى ومنهم الزميل الناشر الشهيد أحمد محمود».

حين يقترب منك الموت لا يكون للحوار مع القاتل أي جدوى، ويصبح الجلوس مع نائب عزرائيل نوعا من التواطؤ، أو درجة تقترب من الخيانة، ولكن أحمد كمال أبو المجد ولجنة الحكماء ظلوا ينتظرون رد سليمان نائب مبارك، واليوم لم يستبعد سليمان أن يكون بعض المتظاهرين مدعوما من جهات أجنبية، وقال إن مبارك «لا يمكن أن يغادر منصبه الآن، حتى لا تعم الفوضى... ما حدث في تونس لن يحدث في مصر»، والجملة الأخيرة لا تختلف عن اليقين الذي تحدث به مصطفى الفقي، في بداية الثورة، أو المرأة التي واجهت الثوار أمام نقابة الصحفيين (26 يناير) قائلة: «يا ولاد المومس.. مصر مش تونس».

الذين رفضوا المشاركة في الثورة، استنادا إلى حجج مختلفة، سارعوا إلى ما وصفه سليمان بأنه حوار مع القوى الوطنية، واليوم أعلن الإخوان قبول الحوار بشروط، بعد ساعات من الرفض.

تفاءلت بروح الميدان، وانصرفت مبكرا إلى ساعتي القيلولة، وكانت الساعة تقترب من الثالثة عصرا. تركت أصدقائي، وقلت لهم إنني سأعود بعد ساعتين، سوف أشحن التليفون، وأتحاور مع العالم خارج حدود الميدان، وتأكد لي أن الحية لا تعلن الهزيمة بسحق رأسها، ويظل ذيلها يلعب، يتراقص من الألم أو الموت ليغيظنا، ويؤكد قلة حيلتنا أمام كائن من دون رأس، لا يستحق عناء الضرب من جديد. كانت معركة صغيرة، لعلها آخر المعارك العنيفة، تدور حول ترسيم حدود جمهورية ميدان التحرير. من ميدان طلعت حرب، حاول مجموعة من البلطجية الشباب التقدم، وتقدمت من شارع قصر النيل، وحاولت تفادي القذائف المقتربة، ولم أكن مستعدا للإمساك بحجر من أحجار تشكل بثورا في كل شبر بالشوارع التي تطوق الميدان، وفي الوقت نفسه لست اليوم مستعدا للموت.

نظرت خلفي، إلى ميدان التحرير. لم يكن أحد يقترب، وليس فيمن حولي أحد أعرفه. تفاديت الحجارة وكسر الزجاج. حاولت عبور ممر الجريون إلى شارع محمود بسيوني، ولكن حارسا أغلق الممر، ووقف يراقب المعركة من فتحة ضيقة ببوابة حديدية مغلقة بجنزير وقفل. أين كانت تلك البوابة الضخمة؟ لا تنبت الجدران في الثورات بوابات حديدية. وكيف دبر الجنزير والقفل؟ سرت خطوات قليلة، لصق الحائط، باتجاه ميدان طلعت حرب، فانشق الجدار عن ممر بين شارعي قصر النيل ومحمود بسيوني يكفي شخصا رشيقا، لم أر هذا الممر من قبل، وظننت القدر فتحه لي لكي أنجو من معركة لا أريد الاشتراك فيها، معركة صغيرة، وقتلي فيها لا يسرني، وسوف آخذ عاطف سليمان وعبد الرازق عيد، فيما بعد، إلى هذا الممر، وسيندهشان مثلي، وأقول لهما إن المعماري الذي صمم منطقة وسط البلد، حين كانت أمريكا تنشأ، توقع حدوث ثورات، فابتكر مثل هذا المضيق ليصل بين بحرين أو محيطين. وفكرت: كم من ثوار 1919 مروا من هنا؟ هروبا أو تصديا لجنود الإنجليز؟

كانت المعركة في شارع محمود بسيوني أشد عنفا، تدور حول حق استغلال ميدان طلعت حرب. من تكون له الغلبة سيحتل الميدان، وإذا سيطر عليه الثوار، فلن يكون للبلطجية، أو أي من القوى المضادة للثورة مكان في وسط البلد. ولو احتله البلطجية سيكون جيبا مناوئا لميدان التحرير، وثغرة تصلها الإمدادات التي تستنزف طاقة الثوار. بحثت عن ثغرة أخرى للخروج، وعدت من الممر نفسه، وهو أكثر اتساعا من ناحية شارع محمود بسيوني. دخلت الممر الواصل بين شارعي قصر النيل وطلعت حرب، وكان شاب أمام بار استوريل يلتقط قطعة زجاج. رجوته قائلا إن مثل هذه القذيفة قاتلة، ولم أنس أن أذكره بالعهد الثوري: «سلمية يا كابتن.. القزاز لأ»، وهو خجل وتراجع، والتقط حجرا، ولم ينس أن يذكرني بأنهم لا يتورعون عن قذفنا بأي شيء، يقتلوننا من دون رحمة.

كانت القذائف من ثلاثة محاور (شوارع: طلعت حرب، وقصر النيل، ومحمود بسيوني) تتقاطع حول الرجل الحائر طلعت حرب الذي يقف حيران أسفا أمام أحفاده، لا يملك أن يأمر أحدا أو ينهى آخر. أمام قصف الشباب الذين لم ألمح بينهم ملتحيا ممن ينتمون إلى الإخوان أو السفليين، تراجع البلطجية، تأكد لهم أن الإصابات ستكون مميتة، وهم لا يدافعون عن قضية، وقد قبضوا الثمن، وفعلوا ما عليهم، وربما لم يتفق معهم الرعاة الرسميون للهجوم على الموت، فينقلب السحر على الساحر، وتلاحقهم دماء البلطجية أيضا.

معركة خاطفة ولكنها حاسمة، استمرت نحو نصف الساعة، ولم يشهدها كثيرون، ولا علم بها أصدقائي إلا حين قصصت لهم حكايتها في المساء. عبرت ميدان طلعت حرب، وقد انتقلت ساحة المعركة إلى منتصف شارع قصر النيل، وعاد الثوار ببلطجي شاب، أمام البناية رقم 17، وفيها مقر إدارة مهرجان القاهرة السينمائي، هناك في الطابق الثالث، وعلى الاسفلت يدور فيلم لا يخيله أحد. وقع الشاب على الأرض، وهم يوسعونه ضربا بأقدامهم وما تبقى من أحذية، وحاول حماية رأسه، ولكن دماءه سالت من الوجه والرأس. اختلطت الدماء بالدموع فاصطبغ الوجه لون الطوب، ولم أنجح في الدفاع عنه، ولا نفعت هذه المرة صيحتي فيهم: «سلمية يا كباتن سلمية». أخذوه إلى الشرطة العسكرية، في حين استمر قصف زملائه في منتصف شارع قصر النيل، وقلت إنني لم أشارك اليوم في رمي حجر، ولم أنجح في الدفاع عن بلطجي «أسير»، وعزيت نفسي قائلا إنني حميت غيره من الموت، حين نهيت ثائرا أن يقذفهم بكسر الزجاج. ملت يمينا نحو فندق كوزموبوليتان، وتفاديت قصف البلطجية، ثم يسارا إلى شارع مواز لقصر النيل، ثم يسارا إلى قصر النيل شارع المعركة، وأصبحت وراء خطوط العدو، وليس معي ما يفيد أنني معهم أو مع الثوار، وكانوا يتراجعون.

فرح البلطجية بالنجاة، وفرح الثوار بضم ميدان طلعت حرب، وبسطوا سيطرتهم عليه، ومن علامات السيادة امتداد مسؤوليتهم عنه، واعتباره معبرا إلى ميدان التحرير، وجاء إليه مسؤولو التحقق من الهوية والتفتيش الذاتي للمتجهين إلى ميدان التحرير الذي يحتفل اليوم، في (جمعة الرحيل)، بمرور أسبوع على تحريره واستقلاله عن حكم مبارك، ولكن أحمد شفيق لم يشأ أن يكون هذا الاستقلال تاما، إذ لاحقنا بالسخرية، بعد فشل القوة والبلطجة والحيلة، وما سماه عمر سليمان الحوار مع النظام. قال شفيق الذي تفرغ للكلام إلى الفضائيات: «لا مشلكلة مع بقاء المحتجين في ميدان التحرير، كما يشاءون»، واقترح ساخرا أن يتحول الميدان إلى هايد بارك، وأبدى استعداده لإرسال حلوى إلى مواطني الميدان! وجرؤ الرجل على الكلام باسم الشعب قائلا إن الرئيس أب حقيقي للمصريين، «ويوجد ارتباط قوي بين الرئيس والشعب».

بعد خطوات من ميدان مصطفى كامل، في شارع جانبي يربط شارعي الجمهورية ومحمد فريد، مقابل كنيسة سان جوزيف، كان ثلاثة أو أربعة رجال بينهم فتحي إمبابي يقدمون عصائر للجنود، وهم من الحرج رافضون، تأبي كبرياء الجيش أن يتلقى أحد أفراده شيئا، ولو علبة عصير. عانقت فتحي الذي لم أقابله منذ سنوات، وفرق بيننا زحام القاهرة. كان الوقت قصيرا، وهم مشغولون بإقناع الجندي بقبول هدية لا رشوة. وماذا يريد مواطن من جندي آت إلى المدينة في ظرف استثنائي؟

دخلت المكتب، وأجريت بحثا بانوراميا إلكترونيا عن مظاهر الحياة خارج القاهرة، وردود الأفعال إزاء ميدان التحرير، وغيره من ميادين مصر في (جمعة الرحيل)، وكيف يرى الأجانب والمصريون المغتربون الصورة من بعيد. قرأت تقريرا فكاهيا، أضحكني كثيرا، وأنا أستعيد كلماته الموزونة الخارجة بطزاجتها من بطون الكتب القديمة، ولم يفعل خطيب الجمعة في جامع الخلفاء الراشدين في كفر الشيخ، إلا أن استعادها، وأنهى بها الخطبة: «اللهم احرق من في ميدان التحرير، وشتت شملهم، ورمل نساءهم»، ولما نهره البعض قال: «أنا مع مبارك ومابخافش». تركوه ولم يمسوه بسوء، لأنه كفيف!

اتصل بي عبد الرازق عيد، وكنت قد فتحت الإيميل، وأقرأ رسالة آمال فلاح. كتبت سطرا واحدا لا يترك لمثلي فكاكا من الحزن. لعلها أرادت أن تتخفف من حزنها بالكتابة، ولم أكن مستعدا لسماع أخبار عن موت أصدقاء. قالت:

«هل تعرف أن مصطفى الحسناوي توفي قبل أيام في مستشفى بباريس وصلاح مرعي في المستشفى؟».

أغمضت عيني، فجاءني مصطفى وصلاح لائمين. لم يتمكن مصطفى من إخفاء ابتسامته الودود، هي أبرز سمات هذا النبيل، منذ قابلته في يونيو 2005، في روتردام، وشاهدت فيلمه الوثائقي الطويل (عندما تغني المرأة). غسل الفيلم روحي، وقلت بفخر: أنا مصري. وإن هذا مخرج يبدع عملا يفيض حبا وأسى على مصر، في نهوضها المتعثر نحو الحداثة، واللحاق بالعصر، منذ الحرب العالمية الأولى، على خلفية علاقة النساء بالغناء والمجتمع. كان الحسناوي مخلصا لفن يمتلك أدواته، يسلط أضواء حانية على المسكوت عنه، منتصرا للحرية، لا يرفع شعارا، ولا يحب الصخب، ويميل إلى الهمس. غنت وتحدثت منيرة المهدية في الفيلم، كما غنت أم كلثوم، وإن نزع الفيلم عنها القداسة، وأتى من المجهول بأغنيتها القديمة (الخلاعة والدلاعة مذهبي من زمان)، لا هي جريمة ولا عيب. كانت الآنسة أم كلثوم بنت زمانها، واستجابت لروح ذلك العصر، واتسقت مع بشريتها التي يحاولون تجريدها منها. وفي كتابها (أم كلثوم) تكتب رتيبة الحفني أن «أم كلثوم أخطأت مرة، بنزولها على رغبة الجمهور»، في تقديم تلك الأغنية، وقد لامها محبوها «على انسياقها وراء موضة العصر من الأغاني الهابطة الخليعة»، فسارعت إلى جمع الاسطوانات من الأسواق، ودفعت تعويضا لشركة الإنتاج، ثم قدمت الأغنية مرة أخرى، بعد أن أجرى أحمد رامي تعديلا على الكلمات التي أصبحت (الخفافة واللطافة مذهبي من زمان). كنت كلما قابلت مصطفى، في روتردام أو القاهرة أو الإسماعيلية، سألته: أين عثرت على هذا التسجيل النادر؟ فكيف يموت في ظرف لا يسمح لنا بالانشغال بأحد أو قضية أبعد من حدود الميدان، ومستقبل مصر؟ حتى صلاح مرعي العاشق لتراث مصر القديمة، لم أسمع بمرضه. في روتردام 2006، تجادلنا وتناقشنا كثيرا في توت عنخ آمون، وحور محب، وشادي عبد السلام، وفيلم (المومياء)، ومشروع فيلم (اخناتون)، الذي اقترحت عليه إخراجه بعد رحيل شادي. قال إن حياة اخناتون تخلو من الدراما! اختلفت معه؛ فما من ملك مصري انتهى نهاية تراجيدية مثل اخناتون الذي لا يعرف له قبر أو مومياء، هو أو زوجته الجميلة نفرتيتي. ثم أكملنا النقاش في القاهرة والإسماعيلية وأبوظبي، وفي معرض للنحت بالإسكندرية، في أكتوبر 2009، وكنت أستعد للسفر إلى الهند، أوصاني بإحضار أسطوانات للموسيقي الهندي رافي شنكر، «أفضل عازف جيتار في العالم». قال إن الهند بعيدة، وإن سيارته قديمة، ضمن الفئة التي تقرر عدم السماح لها بالسير، تمهيدا لإعدامها، وضحك وسألني:

ـ أسلم عربيتي بيدي لأحمد عز يسيحها؟!

سألني عبد الرازق: «سامعني؟». أفقت ونفضت عن ذاكرتي مصطفى وصلاح، وقلت إنني سأكون في الميدان بعد ساعة أو أقل. قال إنه كتب بيانا، ويريد طباعته ولا يجد مكتب كمبيوتر في وسط البلد، والأهم أنه يستعجل إطلاعي عليه قبل توزيعه، واقترح أن يمر بي. جاءني وقرأت البيان (رقم 1) وعنوانه (لا إخوان ولا أحزاب.. الشرعية الآن للشباب). يبدأ البيان بتسجيل أن مصر تمر بأيام تاريخية فارقة، ثم يلخص مطالب الثوار في سبع نقاط، منها عدم انتماء الثوار لجماعات أو حركات أو أحزاب سياسية رسمية أو تحت التأسيس، وأنهم ليسوا مدفوعين من جهات أجنبية ولا يمولهم أحد، ولم يرتكبوا أعمال تخريب، ولا يفوضون أحدا ليتحدث باسمهم، وأنهم باقون في الميدان «حتى تتحقق مطالب الثورة». سألته عن أي فريق يعبر هذا البيان؟ هناك تحركات غير معلنة، وتحالفات لا نراها، ولكننا نلمس آثارها في الميدان، وخصوصا تصرفات الإخوان، فكلما لوحت لهم السلطة ببعض المكاسب، انخفضت أعدادهم في الميدان. ولم يكن عبد الرازق قد شكل مع بعض الشباب (اتحاد شباب الثورة) الذي أصبح المنسق العام له.

قطعنا شارع قصر النيل، ووقفت في منتصف الشارع أمام البناية رقم 17. وسألت عبد الرازق:

ـ شايف الدم؟

ـ دم ايه؟

ـ دم بني آدم.

ـ آ، صحيح، دم طازج.

قلت إنه دم بلطجي شاب، سال هنا قبل ثلاث ساعات في آخر معارك للبلطجية في وسط البلد. لم يمت، ولكنه دفع ضريبة لن ينساها، ولعل الجيش أطلق سراحه، ولكنه لن يفكر في الاعتداء علينا مرة خرى، وربما ينضم إلى الثوار بعد أن تطيب جراحه. كان ميدان التحرير قد تمدد، وبسط الثوار نفوذهم إلى الشوارع المحيطة التي أصحت ممرات آمنة إلى ميدان طلعت حرب.

مشيت واجما، وهو يسألني عن رأيي في البيان، ويكلمني عن شباب انخرط معهم. قلت له إن حسني مبارك يجب أن يرحل اليوم، أليست هذه (جمعة الرحيل)، إنه لا يحمل مثلنا قلبا يحب الحياة، ولا يعرف معنى للصداقة، ولا يقيم وزنا للإبداع، ولم يشاهد فيلم (المومياء)، ولا يعرف من يكون شادي عبد السلام أو صلاح مرعي، ولا شاهد فيلم (عندما تغني المرأة)، ولا حزن لموت مصطفى الحسناوي.

ظن بي مسا من جنون. قلت إنني لا أهذي، ويبدو أنني كنت أهذي.

دخلنا الميدان، صرنا في الهدير العاصف. قلت له إن مبارك لم يعرفنا، ولا يرانا. حددوا إقامته في القصر، وأخفوا عنه جهاز التحكم في القنوات الفضائية، وهو من دون الريموت كونترول لا يستطيع حتى أن يشكو قلة حيلته، وهوانه على ابنه ومساعديه، وأولهم مندوب المبيعات الزبلكاني الذي أصبح وزيرا للإعلام. لم أهتف بسقوط مبارك، وقلت: «تحيا مصر». إذا تكلمت مصر، فعلى العالم أن يسمع، أن يقف على أطراف أصابعه، ويضبط ساعته على توقيتها. مصر الآن تتكلم، وها هو العالم لا يسمع إلا صوتها. الثورة التونسية، التي ألهمتنا ومنحتنا الثقة بالذات، بدأت وانتهت والعالم يمضي في طريقه، وتتقاطع سبله وتلتقي وتفترق، وتدور عجلة الإنتاج في مجالات شتى، وتذاع في الفضائيات أفلام ومسلسلات ومساجلات، فلما دارت ماكينة الثورة المصرية وقف الخلق ينظرون، واستدارت الرؤوس نحو القاهرة، وصار ميدان التحرير رمزا وعلما على حالة مصرية غير مسبوقة. مصر تتكلم يا عبد الرازق، والعالم آذان تنصت، فلماذا يموت الأحبة يوم القيامة، فيذهبون إلى هناك غرباء، وفي مقدمتهم سيد درويش الذي توفي يوم عاد سعد زغلول من المنفى؟

أجلت الاتصال بصلاح مرعي إلى أن أبتعد عن مكبرات الصوت. بعد دقائق قابلت شريف البنداري الذي لم أره منذ سنوات، وقال إن صلاح في مستشفى قصر العيني الفرنساوي، وكان الوقت متأخرا، ونويت زيارته غدا، ونسيت تماما، ودائما أتذكر في أوقات غير مناسبة، في طريق العودة إلى البيت قرب الفجر، وأؤجل الاتصال والزيارة. وأحزنني أن أعرف برحيله بعد أيام من نجاح الثورة.

بدأ المطر. لا أحب الاحتماء من المطر، وأتلقاه بفرح، وأحيانا أنزل من بيتي لأتعرض له في الشارع. تفاءلت وعوضني المطر الخفيف ألا يستجيب مبارك لمليون مواطن في الميدان، وأضعافهم في منازلهم في القاهرة وسائر المدن المصرية، ونحو ثمانية ملايين مصري في الخارج، ويواصل عناده، ليقدم خدمة كبرى للثورة، لكي تستوي على عودها، وتجمع الذين شغلتهم أعمالهم سنوات عن التلاقي، وتؤدي دورا آخر مهما في إزالة أوهام الاستعلاء بالدين، الإسلام تحديدا، أو بدرجة التدين عند بعض المسلمين ممن ينتمون إلى جماعات في مقدمتها الإخوان؛ ففي دعوة عنصرية نازية نصح صبحي صالح شباب الإخوان، في مؤتمر للجماعة في حي العباسية بالقاهرة يوم 20 / 5 / 2011، بالزواج من الأخوات فقط: «زواج الأخ من بنت غير إخوانية، ولو كانت محترمة ومتدينة ومن بيت طيب، يعطل النصر»، ولم ينس تعزيز كلامه بالآية القرآنية «أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير». وأحكم النص مؤكدا أن الأدنى هو غير الأخوات. وبعد خلع مبارك أعلن الإخوان أنهم لن يرشحوا أحدا لرئاسة الجمهورية، وأعلن عبد المنعم أبو الفتوح القيادي السابق اعتزامه الترشح، فعلق محمد مرسي قائلا إن أبو الفتوح «نقض عهده مع الله»، فماذا يقول محمد مرسي أو صبحي صالح أو غيرهما من صناديد الإخوان في المختلفين معهم في الرأي؟

لكن الثورة، التي غيرت مفاهيم غير المبالين بالسياسة، أسهمت وسوف تسهم في نسف هذا الاستعلاء. ما ترويه ناني علي عن (أحمد) الشاب الإخواني، يستحق الانتباه، ونأمل أن يكون صراع الأجيال داخل الجماعة بداية لكسر مفهوم النقاء العرقي أو المذهبي، داخل الإخوان أو غيرهم من الجماعات الإسلامية أو غير الإسلامية في مصر.

كتبت إلي ناني علي وهي مصممة جرافيك تقول إنها كانت عضوة في جماعات الفيسبوك منها (6 ابريل) و(كلنا خالد سعيد) و(ضد إهانة ثقافتنا)، وشاركت مع فنانين وفنانات منذ يوم 25 يناير، بعيدا عن الانضواء تحت تيار أو تنظيم أو ائتلاف. كانوا يذهبون إلى أعمالهم، ثم يأتون في المساء إلى ميدان التحرير، ومعهم مياه وساندوتشات للثوار، وينتظرون ساعات مع أهل الميدان، ثم يعودون إلى بيوتهم، إلى أن وقعت الواقعة، ورأت الهول في (موقعة الجمل)، فقررت مجموعة منها ناني علي ومها عزمي الاعتصام في الميدان والمبيت «لحد خلع مبارك.. كان أنور مهداوي وفريدة الشناوي من أصحابنا اعتصموا من يوم 28 يناير»، هن مصممات جرافيك وأنور نحات.

تروي ناني علي كيف استشهدت في حضنها مي أحمد (19 عاما)، بنت عادية جدا، من حي روض الفرج، تلقت في الساعة الثانية ظهر الأربعاء الدامي 2 / 2 / 2011 (موقعة الجمل)، قذيفة من الحجارة أصابت رأسها، وحملتها ناني ومها وهي تنزف، وبسرعة توجهتا بها إلى مستشفى الإسعاف: «مها سايقة بصعوبة وأنا حاضناها وكاتمة الدم ببلوزتي لحد ما وصلنا المستشفى، وكانت بطلت حركة»، ولما وضعوها على المحفة، عرفت ناني ومها أن مي استشهدت. مازالت ناني تحتفظ بالقميص الذي يحمل دماء مي، وتقول إنها لن تتنازل إلا بعد أخذ ثأر مي، وثأر الشهداء من مبارك.

موقعة الجمل اختلطت فيها دماء رجال ونساء، وشباب وفتيات، من المسلمين والمسيحيين، من الإخوان وغير المتدينين، تجاور في الشهادة المدافعون عن شرف الميدان، عن مصر التي يريدونها أفضل من الهوة التي تردت فيها على يد مبارك.

ناني علي مسلمة لا ترتدي حجابا، وصديقتها مها عزمي مسيحية يتدلى على صدرها «صليب كبير»، وفي سيارة مها المسيحية استشهدت مي المسلمة. تقول ناني إن (أحمد) الإخواني كان يراقبهما «بقرف»، فهما لا تحتميان براية أي فصيل، وهو ظنهما مسيحيتان، ومساء اليوم، الجمعة، رآهما تحت المطر، خارج الخيمة التي تزدحم ببنات ونساء، فسارع إلى خلع معطفه، وقدمه إلى مها. «ستر» الإخواني فتاة مسيحية، ثم وقف يحميها هي وصديقتها ناني المسلمة التي ظنها مسيحية. تضيف ناني أن أحمد عضو في نادي الشمس، وتخرج في كلية الهندسة، ولكنه لم يسبق له الكلام مع البنات، وأصبح الآن «صاحبنا جدا، ونتقابل في النادي، ونحضر معارض زملائنا عن الثورة، وفيها آرت من مختلف الأنواع. ملاحظة: أحمد عمره ما راح معرض إلا معنا».

ألا يكفي مثل هذا المكسب للثورة؟

تركني عبد الرازق أواجه مصيري في العودة إلى البيت قرب الفجر، سيرا على قدمي. تسليت بالكلام مع مسعد صالح، العريس الذي مضى على زفافه ثمانية أيام. كان مصدر معرفتي بما يدور في برامج تلفزيونية لا يتاح لي أن أشاهدها. سألني: هل رأيت عمار الشريعي في التحرير؟ وقلت إن الميدان كبير، أكبر مما كنا نراه من قبل، ويوم الجمعة هو أحد أيام الحشر، وربما يكون صديقك بجوارك ولا تراه، ولا تسمع من الصخب رنين تليفونك وهو يتصل بك. قال إن الشريعي زار الميدان، وتعرض في الزحام لأزمة قلبية، ونقل إلى المستشفى. وأخبرني أنه تكلم قبل أيام في أحد البرامج، وقال إن شباب ميدان التحرير «نماذج مشرفة»، ودعا الرئيس إلى الرحيل، وناشده قائلا: يا ريس أنت تعلم حبي لك، ولكني أرجوك أن تحقن دماء أبنائك، وترحل. وقلت لمسعد: عمار متفائل، لم يعد مبارك يسمع.

فكرت ألا أشاهد أيا من البرامج التلفزيونية الموجهة، وأن أتجاهل المذيعين المشبوهين، سأتركهم في الصندوق يعمهون، تطاردهم لعنة الثوار والشهداء، سأعذبهم وهم ينتظرون أن أحك الفانوس، ليخرجوا من الظلمات إلى النور. كنت أريد أن أنام في سلام لا يكدره نفاق مذيع أو ضيف، وأنا أتناول لقيمات قبل النوم. تذكرت افتراء إعلاميين وصحفيين وكتاب منهم أنيس منصور علينا، وتساءلت: ماذا لو أمدنا محل كنتاكي بوجبة واحدة في الأسبوع، لتكن اليوم الجمعة، لكي أنام فورا، ولا أضيع وقتا في تجهيز عشاء في الفجر، ولا أضطر لفتح التلفزيون.

أعددت عشاء سريعا، ولعنت خيري رمضان. كان قد اعتنى بنفسه، وصفف شعره كحلاق محترف، تاركا خصلة تسقط على جبينه، ذات اليمين، وتبدو كأنها نافرة تلقائيا، وأقسم بالثورة أنها ليست كذلك، وحسدته على برود الأعصاب، وخلو البال الذي يجعله يفكر في «القصة» أكثر من الثورة. في البرنامج التفزيوني استضاف سياسيين وشابين قالا إن لهما علاقات بمؤسسات تدريب أمريكية، وطمأنهما بأنه حصل على دورات أيضا، وهو يواصل استجوابهما، مستندا إلى خبرته كمخبر صحفي بقسم الحوادث، ثم حكي قائلا إنه كان شاهدا على واقعتين بالقرب من ميدان التحرير، بطلة أولاهما عجوز في الثمانين، كانت تتجه إلى الميدان، وأوقفها الجنود، وعثروا في حقيبتها على أموال، وفسرت ذلك بأنها «نازلة تشري خاتم»، أما بطل الحكاية الثانية فهو «شخص فلسطيني»، كان في طريقه إلى الميدان، واكتشف الجنود في حقيبته 15 ألف جنيه. لم يقسم خيري رمضان، ولكنه أكد كلامه: «أنا أشهد». اتهمت نفسي بالتعاسة حتى في ليلة الحقائب المباركة هذه؛ فها أنا أعود جائعا، لا يصادفني الذين يوزعون الأموال ولا الأطعمة، ولا يقابلني أمثال هؤلاء البلهاء قليلو الخبرة بالثورات، إذ لا يترددون في الذهاب إلى الميدان بحقائب أموال، على الرغم من علمهم بوجود نقاط تفتيش رسمية، ولجان شعبية لا تخلو من بلطجية مهمتهم قطع إمدادات الأطعمة والأدوية عن أهل الميدان.

أشفقت على خيري رمضان، ولعنت ظروف تدفع إنسانا لإنة نفسه، أيا كان العائد.

ولكنني فوجئت بعلي خامنئي مرشد الجمهورية الإيرانية يطل من الشاشة. كان أحد البرامج يقدم إعادة لخطبته التي خصصها لثورتي تونس ومصر. فاجأني الرجل بالوصف الانتقائي للثورة الشعبية، وقد أصبحت عنده «يقظة شعب مصر الإسلامي هي حركة تحرير إسلامية، وأنا باسم الحكومة الإيرانية أحيي الشعب المصري والشعب التونسي»، زاعما أن الثورتين استلهمتا الثورة الإيرانية 1979. وبلسان عربي مبين حرض خامنئي الجيش المصري على الانضمام إلى المتظاهرين، والتمرد على مبارك: «إن شاء الله ينضم جزء من الجيش إلى الشعب... العدو الرئيسي للجيش المصري هو النظام الصهيوني وليس الشعب». ومن الطبيعي أن تنتهي مثل هذه الخطبة بالتبشير، أو التمنى وهو أضعف الإيمان، أن تسير مصر في طريق الجمهورية الإسلامية الإيرانية.

أضحكني الرجل، ولكنه ضحك كالبكا.

أغلقت التلفزيون حتى لا أفاجأ بإعادة الخطبة، وكنت أود أن أسأله:

ـ هل تكرهنا إلى هذه الدرجة؟

السبت 5 فبراير

هذا أسبوع الصمود. منذ بدأت الثورة لم أستقل المترو، حرصت أن أظل فوق الأرض، لا يحجبني شيء عن شمس تشهد ثورة لم يخف أصحابها ساعة الصفر، مكانها معلوم، وحدودها محروسة بقوى شعبية تطوعية، وجمهورية الميدان تتيح ديمقراطية من نوع خاص .. أنت تريد أن تعمل وزير تموين، تفضل وأرنا همتك، وهذا يريد أن يكون قائدا أو فردا في شرطة المرور، فأمامه الميادين والشوارع وله أن ينظم مرور السيارات، وسوف ينجذب إليه بعض الصبية والشباب، ويلتزم قادة السيارات بأوامر الصغار قبل الكبار، ويبادلونهم التحية والابتسام، ولا يزعجونهم بمنبهات الصوت لاستعجال فتح الطريق.

ركبت المترو لأول مرة منذ انطلاق قطار الثورة. أردت الذهاب إلى محطة جمال عبد الناصر، لرؤية مصير محلين للخمور. أشيع أن الثوار ينتقمون من كل مظاهر يرونها غير إسلامية، ويعيثون في القاهرة فسادا. وكنت قد مررت بنقابة المحامين والصحفيين يوم الأربعاء الدامي (موقعة الجمل)، ورأيت كنيسة قلب يسوع المواجهة لنقابة الصحفيين لم تمسها يد، على الرغم من خلو الشارع من الشرطة. انطلق المترو من أمام جامعة القاهرة، وتوقف في المحطات كعادته باستثناء محطة التحرير، كانت إضاءتها خافتة، ومن خارج القطار نسمع الإذاعة الداخلية للمحطة الساكنة، حيث يصنع التاريخ أعلاها، وتصطخب سماؤها بكلام وهتافات وشعارات ونقاشات ستغير مستقبل البلاد. كان مواطنون قد طمسوا اسم (مبارك) من قائمة أسماء محطات المترو، وهي مكتوبة أعلى أبواب عربات القطارات، واستبدلوا بها أسماء تختلف من محطة لأخرى (الشهداء)، أو (شهداء 25 يناير)، أو (الثورة)، وسوف يحسم الاختيار للاسم الأول بعد نجاح الثورة في خلع مبارك. عدت من محطة رمسيس إلى محطة جمال عبد الناصر، ولمحت صحيفتي (الأهرام المسائي) التي أقسمت ألا أدخلها ما دام مبارك في الحكم، وجذب انتباهي عناوين الصفحة الأولى:

«عدوان فارسي على مصر

إمام القمع الذي يسمى خامنئي ينادي إخوان البنا:

تقدموا للسيطرة على حكم مصر وأقيموا «الدولة الإسلامية»

قال في خطبة الجمعة إن إيران يحكمها «قائد إلهي عظيم».. ثم أخذ يحرض الشعب والجيش في مصر على الانقلاب»

قلت لنفسي مرة أخرى: ألم أسألك، في الفجر، يا سيد خامنئي.. هل تكرهنا إلى هذه الدرجة؟

في الصفحة الأولى نفسها قرأت عنوانا كبيرا باللون الأحمر:

مشاهد من ميدان الاحتلال الإخواني «التحرير سابقا»

وتحته عناوين أخرى عن مظاهر «الاحتلال»، و«صور إنسانية دهستها أحداث التحرير». بدأ تزوير الميدان، وتشويه مظاهره الحضارية، بعد فشل الحملة العسكرية التي جند لها الحزب الوطني مهاجرين من محافظات أخرى، وأنصارا من رجال المال والبلطجية المأجورين. يأملون أن تنجح السياسة فيما فشلت الحرب في تحقيقه. فتحت الصحيفة لأجد صفحتي الوسط (الدوبل كما يقال في الاصطلاح الصحفي) خصصتا لصور وموضوعات مقسمة إلى ستة مشاهد لحالة الميدان أمس الجمعة، أولها كتب بصيغة أمنية، إذ شوهد القيادي الإخواني فلان، ولوحظ أن تنظيم الإخوان فعل كذا، ووصف الشعارات والهتافات في الإذاعة الشعبية بأنها «تخرج عن إطار الأخلاق العامة، وهو ما يتنافى مع طبيعة الشعب المصري»، واعتبر المطالب المكتوبة على لافتات «غير دستورية»، ولم ينبهه أي من الذين راجعوا الموضوع أو رئيس التحرير إلى أن الثورات تؤسس شرعيتها الخاصة، وأن شرعية 25 يناير أبطلت الدستور القديم، وجعلته تاريخا.

وكتب آخر أنه زار الميدان، ورأى باعة جائلين «وكأنك في سوق بلا صاحب»، ورأى أجانب من جنسيات مختلفة «ولا أدري ماذا يفعلون، ولكني لاحظت أنهم يتجولون بين المتظاهرين، ويلتقطون الصور بهواتفهم المحمولة وكاميراتهم الصغيرة، ومعظمهم ليسوا من المراسلين أو الإعلاميين»، ولم يقل كم كانت نسبة الإعلاميين بينهم، وكيف تحقق أنهم غير صحفيين، ثم سجل «انسحاب معظم الشباب أصحاب رسالة التغيير. الموجودون الآن أغلبهم من الإخوان الذين تم جلبهم من جميع المحافظات، وافترشوا الأرض ومعهم أشخاص يرتدون ملابس بدوية وأخرى شامية، ولهجتهم غير مصرية بالمرة ويتم كل فترة توزيع المأكولات التي تأتي من رجال أعمال بينهم رامي لكح. وفي نهاية الرحلة وفي المساء كان عدد الخارجين معي مكان المظاهرات أكثر من الوافدين، بعد أن رأوا أن ما يحدث بالداخل مجرد تهريج منظم من أشخاص غريبة عن أبناء مصر وشبابها».

وكتب ثالث أن الذين مازالوا يطالبون بالتغيير «مجموعة واحدة.. لا يتعدى عددها أكثر من 500 معظمهم إن لم يكونوا جميعا ممن ينتمون للتيارات الدينية، كما اختفت مجموعات الشباب الناشط على موقع المنتدي الاجتماعي (الفيسبوك)... وفي حدود الساعة الثامنة مساء لم يبق في التحرير إلا ما يقرب من 7 آلاف متظاهر». وكتب رابع تحت عنوان (صور إنسانية دهستها أحداث التحرير) أن المشهد في الداخل خادع، وأنه اكتشف ذلك «لأنني أول من شعرت بسلبيات هذه التظاهرات التي باتت إيجابياتها تتلاشى أولا بأول»، ونقل عمن أطلق عليه اسم عم حسن أنه باق في الميدان لأن أولاد الحلال يوزعون الطعام والمياه على المتظاهرين، وبذكائه اتخذ عم حسن من التظاهر مهنة.

وكتب ثلاثة صحفيين ما قالوا إنه مشهد من على حدود الميدان، ناقلين عن شهود قولهم إن عدد المتظاهرين في الداخل «حوالي خمسة آلاف متظاهر»، وإنهم يتعاطون أدوية مخدرة لزيادة الحماسة والقوة. وسأل الفرسان الثلاثة الواقفون على الحدود مواطنا: ماذا تريد يا عمنا، «لم نكشف عن هويتنا، عرفنا أنه كان يريد الدخول لأنه يتم توزيع وجبات غذائية جيدة وأموال من جانب بعض المجموعات... كان يرغب في الدخول من أجل هذا الغرض، ولكن تم منعه»، ونقل الفرسان الثلاثة أيضا عن شاهد عيان أن في الميدان رجلا وأسرته «يحصلون على وجبات مجانية إلى جانب مبالغ مالية».

بضعة صحفيين تقع صحيفتهم على مرمى حجر من الميدان، يذهبون إليه بعين استشراقية، أو يقفون على الحدود، ولا يحاولون الدخول ليروا الحقيقة، بدلا من هذه الخطايا المهنية والإنسانية التي لا تغتفر إلا إذا كان الميدان يقع تحت السيادة الإسرائيلية.

لا يقتصر الخطأ على صحفيين صغار، بعضهم مغلوب على أمره، ففي الصفحة الثالثة من الأهرام المسائي يكتب مسؤول قطاع الأخبار بالتلفزيون المصري عبد اللطيف المناوي تحت عنوان (القاهرة التي لم أعرفها) كلاما يدينه، ويدين الذين أجلسوه في موقع ليس مؤهلا له، حتى إن التلفزيون كان يبث جانبا من جسر أكتوبر، عبر كاميرا ثابتة كأنها عين زجاجية لأعمى، للإيهام بأن مصر لا تشهد ثورة، ولو ذهب المناوي إلى الميدان الذي يراه من شرفة مكتبه، لرأى الثورة، بدل أن يقوم بتزوير المفاهيم، فتصبح الثورة «الأزمة التي مازلنا نعيشها»، ويقول إن «ميدان التحرير شغل جزءا منه الشباب واحتله الإخوان»، وقلت لنفسي إن تزوير الحقائق جزء من منظومة فساد لا تريد الاعتراف بأن ما حدث يوم الأربعاء الدامي (موقعة الجمل) جريمة منظمة، وأن ضرب المتظاهرين المسالمين، كما قال فؤاد رياض القاضي السابق بالمحكمة الدولية لجرائم الحرب «جرائم ضد الإنسانية خاصة إذا تم بشكل جماعي وهو أمر تجرمه المواثيق الدولية التي انضمت إليها مصر». ("الأهرام" 2 / 3 / 2011).

قطعت مقاطعتي للأهرام المسائي، وصعدت إلى الطابق الثامن، وفوجئت بأحدهم، فسألته: هل دخلت الميدان، أم سمعت عنه، ثم «فبركت» الموضوع لترضي طارق حسن؟ قال إنه سمع الخارجين من الميدان يقولون إنهم حصلوا على وجبة غذائية ومبلغ من المال. قلت له: الآن يحميك رئيس التحرير، ولكن ضميرك سوف يستيقظ غدا، ولن يحميك منه شيء. وسألته: كيف تواجه نفسك، وأنت تبدأ حياتك المهنية بخطيئة إنسانية ومهنية؟ لماذا لم تدخل الميدان لكي تحصل على وجبة ومبلغ مالي، ثم تشرح صدر رئيس التحرير بدليل الإدانة، وتصور ذلك في الأهرام المسائي، لتثبت أن الموجودين في الميدان مأجورون يمكن شراء ضمائرهم بوجبة؟ لماذا لم يلفت نظر زملائك ـ الذين رأيتهم يتلصصون علينا أمس ـ جرحى معركة الجمل، في كل ركن بالميدان، ولكنهم لا يريدون أن يغادروه؟ هل ضحى هؤلاء، وغيرهم من الشهداء، بأرواحهم في سبيل الفوز بوجبة؟ فيما بعد، طالبت طارق حسن رئيس التحرير، في مكتبه مساء السبت الذي عدت فيه إلى العمل 26 / 2 / 2011، بكتابة اعتذار للمصريين، لأن الصحيفة خانت عهدا منشورا قطعه مع القارئ، في أول مقال كتبه بعد توليه المسؤولية. قلت له إن الصحيفة اتهمت الثوار بالعمالة والانتهازية الرخيصة. ثم طالبته بالاعتذار مرة أخرى، في غرفتي الخالية من الزملاء مساء الاثنين 28 / 3 / 2011، قبل 48 ساعة من إقالته.

في كلتا المرتين، كان رئيس التحرير يهون من الأمر، ويسألني عن مبالغات الصحف الخاصة فيما يخص الشهداء، ويجادل قائلا إنه لم يكتب سطرا خلال الثورة، ومن كتبوا سجلوا مشاهداتهم ورؤاهم. نفيت أن يكون ذلك أو بعضه قد حدث، فأنا مقيم بالميدان، منذ جمعة الغضب، وشاهد على ما يجري فيه، وسألته: هل من المصادفة أن يكون سبعة صحفيين على قلب رجل واحد، أن يتفقوا جميعا، وألا يرى أحدهم جريحا أو أحد ضحايا معركة الجمل؟ أليس منهم صحفي رشيد! وهو رفض الاعتذار، وقال إن التحقيق الذي يجري في معركة الجمل سياسي لا جنائي.

غادرت الأهرام، وأنا ناقم على خامنئي وعلى خيري رمضان وغيره من الصحفيين الصغار الذين يتجنون على الثوار. اقتربت من دار القضاء العالي، لأرى ماذا فعلت الثورة، وشبابها المتهم بتخريب مملتكات الآخرين، وبخاصة محال الخمور. وقفت أمام محل لبيع الخمور في شارع 26 يوليو، ولم يخدش بابه حجر، وعلى بعد نحو 100 متر من هذا المحل، في أول شارع طلعت حرب محل آخر لبيع الخمور، سلم من اتهامات مجانية يطلقها أعداء الثورة، كما سلم أيضا من رصاص الشرطة الذي خطف بعض الأرواح، وأشعل النار في بعض الديار. اليوم اطمأننت على كنيسة قلب يسوع في شارع عبد الخالق ثروت، كما أطمئن يوميا على كنيسة سان جوزيف بشارع محمد فريد التي أمر بها يوميا، وهي الأخرى لم يقذفها أحد بحجر. الآن أقول لنفسي إن الثورة انتصرت.

رأيت الدبابات والمدرعات قد قامت بدورها في حماية الثوار، دور غائب على مدى ثلاثة أيام، دور لا يكلف الجيش جهدا ولا حرجا، جدار فولاذي أقيم عند المتحف المصري، صنع منطقة عازلة موازية لسور المتحف حتى ميدان عبد المنعم رياض. قيل إن رئيس الأركان سامي عنان زار الميدان في الصباح.

ازدان ميدان التحرير بصور الشهداء، وعلقت ملابسهم التي تحتفظ بدمائهم على سور حديدي يبدأ من تلاقي الميدان بشارع طلعت حرب، وكانت تلك المنطقة مخصصة للصحفيين والشعراء والكتاب، يفترشون الأرض أمام شركة بنها للإلكترونيات، ومن أراد المبيت يجد أغطية متواضعة. هنا تقابل سمير عبد الباقي، وأحمد طه النقر، ويحيى قلاش، وأسامة الرحيمي الذي سيقدم إلي شابا سيصير نجما. قال أسامة: ألا يذكرك عمرو قطامش، هذا الفتي المبتسم، بجورج سيدهم في شبابه؟ وأقبل محمد سعيد تسبقه ابتسامته، لم أقابله منذ عشر سنوات، ولكن الثورة جعلتنا نلتقي يوميا، وكان الله قد زاده بسطة في الجسم، حتى إن أسامة ضحك وقال لي: «محمد سعيد ابن البقال»، فابن البقال يبيع الشيء ويقتطع لنفسه بعضه أو جزءا آخر، ثمنا لقيامه بمساعدة أبيه. ذكرتهما بصلاح منصور في فيلم (بداية ونهاية)، وضحكنا.

حرر أصحاب كل مهنة لأنفسهم مكانا أو مقرا في الميدان، فإلى جوار الكتاب والصحفيين يوجد الفنانون التشكيليون، وفي وسط الميدان خيمة السينمائيين، وفي داخلها وخارجها يجلس مخرجون وممثلون، وبعيدا عنهم كانت محسنة توفيق تقف هناك، عند المتحف المصري، بالقرب من المستشفى الميداني رقم 6، حيث علقت لافتة قماشية تقول «باقون حتى الرحيل»، لا تلتفت الكاميرات إلى ذلك المكان، الأضواء تنجذب إلى عمق الميدان، ومحسنة توفيق في الهامش الأقوى من المتن، والهامش هو الذي انتفض وثار، وهي أكثر إخلاصا له ولنفسها، وفي الليل تمضي بهدوء، بخطوت بطيئة، لتظهر في اليوم التالي، في حين لا يزور بعض زملائها ميدان التحرير إلا وتتبعهم الفضائيات، باتفاق سابق أو مفاجأة لا يمكن تصديقها من فرط التكرار.

في الزحام رأيت امرأة، لا يبدو من ملابسها أو ملامحها أنها ناشطة سياسية أو مثقفة، تحمل كرسيا رسمت في منتصف مسنده نجمة داود، وفيه رسالة لمبارك: «خد الكرسي وارحل يا ظالم»، وفتى يتجول في أرجاء الميدان حاملا لافتة من ورق كارتوني، مكتوبة بخط غير متقن: «نصف ثورة يساوي هلاك أمة». قلت لنفسي إن الثورة نجحت؛ فهذا شاب يتمتع بذكاء فطري، ولو كان مثقفا لذكر المثل الصيني القائل «أنصاف الثورات أكفان الشعوب»، ولكنه بلغ الحقيقة بنفسه.

في بداية ساعتي القيلولة جذب انتباهي عنوان (بيان للشعب). فتحت هذه الرسالة، متجاهلا ما قبلها وما بعدها، وقرأت البيان المفتوح، وقد وقعه 191 من إعلاميين وكتاب وصحفيين وسينمائيين، وتقول سطوره الخمس: «نعلن براءتنا إلى الله والشعب المصري العظيم مما يقوم به الإعلام الرسمي، المقروء والمسموع والمرئي، ومن على شاكلتهم، من تزوير للحقائق وكذب وافتراء وتشويه متعمد وساذج لصورة هذا الشعب النقي الطاهر الذي يحرص على حرية وتقدم هذا الوطن أكثر مما يحرص على حياته.. ونطالب بوقف تلك الأكاذيب فورا، والاعتذار عنها، وإيقاف كل المسؤولين عن ذلك لحين تقديمهم لمحاكمة عاجلة».

كنت صاحب التوقيع رقم 192، وأرسلت البيان لأصدقاء اقترحت عليهم أن يوقعوه، ثم يرسلوه إلى آخرين. ونشر صفاء ذياب البيان، اليوم السبت، في موقع (شهريار)، وذيل بهذه الجملة: «إذا كنت ترغب أن تنضم إلى البيان، فأضف اسمك وأرسله إلى كافة الإيميلات المسجلة لديك». وأرسل صفاء، من منفى أوروبي ما، إلى صفحتي على الفيسبوك، قائلا:

«كلنا معكم يا سعد. كما تستطيعون التوقيع في الموقع مباشرة ليكون (شهريار) موقعا لكم».

قرأت تصريحا لأحمد شفيق رئيس الوزراء عن «عناصر أجنبية»، اتهمها بإثارة الفتنة، وشدد على أنها «أعداد محدودة، وأجهزة الأمن تتعامل معها». قلت إنه مسكين، لا بد أن يكون له تصريح يومي، ولا شيء جديدا في البلاد، ولا إنجاز لوزارته إلا الكلام، فليتكلم.

وجدت رسالة من محمد سعيد. كان قد أنشأ صفحة على الفيسبوك عنوانها (إنهم يأكلون الكنتاكي في ميدان التحرير)، صفحة تعنى بنشر صور الأطعمة الموجودة في الميدان، وهي لا تزيد على خبز وساندوتشات متواضعة، ولكنها تفضح ادعاءات الإعلاميين الكذابين والضالين المضللين في التلفزيون المصري حيث لا يعرف مذيعوه وضيوفه أن في ميدان التحرير ثوارا انتفضوا من أجل ثلاثة مطالب أساسية «تغيير. حرية. عدالة اجتماعية»، مع وضع «كرامة» أحيانا مكان «تغيير»، وتحت هذه المطالب تندرج كثير من التفاصيل. وظلت الاتهامات تلاحق الثوار في الميدان وفي الشارع، حتى إن سلسلة مطاعم كنتاكي مصر سوف تنشر في الصحف إعلانا تحت عنوانع (تنويه) يقول: «إنه نظرا للظروف الراهنة فقد اضطرت الشركة لإيقاف العمل تماما بجميع مطاعمها بالجمهورية من يوم الجمعة 28 يناير 2011، ولم يتم بيع أو توزيع أي وجبات خلال فترة التوقف. وهذا وقد تم إعادة العمل بمعظم مطاعم السلسلة يوم الأحد 6 فبراير 2011 والتي تعمل حاليا من الساعة 11 وحتى قبل ميعاد حظر التجول بساعة واحدة».

عدت إلى الميدان. أبتسم الجندي بجوار الدبابات في ميدان مصطفى كامل ردا للتحية. استرحت لأن الشاب لم يكن موجودا بجوار صديقيه البوابين في شارع قصر النيل.

هذا المساء، مثل غيره من الأيام السابقة، لم نهتم بإجراء تعديلات في الجهاز التنظيمي للحزب الوطني، اليوم استقال صفوت الشريف وجمال مبارك وزكريا عزمي وأحمد عز ومفيد شهاب وعلي الدين هلال من هيئة مكتب أمانة الحزب الحاكم، وقام مبارك رئيس الحزب بتعيين حسام بدراوي أمينا عاما، وقال بدراوي في تصريحه الأول «سيتم قطع رقبة من يثبت تورطه في أحداث ميدان التحرير التي لم يتستفد منها الحزب الوطني». لم يجرؤ على تسمية الجريمة باسمها، ولم يجرؤ أيضا على الإشارة بإصبع الإدانة إلى المجرمين، ويتحدث عن قطع رقبة وأشكال عرفية للعقاب تنتمي إلى عصر ما قبل الدولة، أشكال من العقاب العشائري، وتصريحات وسلوك يذكرك بأجواء ثلاثية (الأب الروحي)، حيث الدستور الحاكم هو قانون العائلة لا سلطة لدولة. وهل قامت الثورة إلا من أجل إقامة دولة مدنية حديثة؟ يتحدث بدراوي عن مستقبل الحزب، ولا يعي أن الحزب والنظام مات، وتأخر ساعي البريد في الوصول إلى ميدان التحرير بشهادة الوفاة، ولا تغني هذه المرواغات عن بلوغ الغاية الأولى، وهي إسقاط النظام.

في وقت متأخر كلمني علي الشناوي. طلبت أن يمد لي إجازتي، فأمس الجمعة لم يرحل مبارك، والطغاة لا يهربون إلا مساء يوم الجمعة، ويبدو أننا سنقضي كثيرا من أيام الجمعة في الميدان، حتى يعثر مبارك على الريموت كونترول، ويشاهد المظاهرات في مصر كلها تقتحم عليه وحدته، من شاشات سوف تنهمر عليه مثل سيل، بعد عجز السد عن احتمال قوة تدفق الجماهير.

أخبرت عبد الرازق بمحاولة اغتيال سليمان. ربطت بين ما أذاعته اليوم شبكة فوكس نيوز الأمريكية، وما رآه علي الشناوي، وقلت إن شخصا واحدا، لا يمكن أن تخطئه العين، له مصلحة مباشرة في إبعاد سليمان عن المشهد، يكرهه ولا يكاد يطيقه. ثم ضحكت وقلت إننا أيضا لا نحب سليمان، كان وجها مقبولا في البداية، ولكن انظر إلى تصريحاته ومرواغاته لتعرف أين يصب ولاؤه، فهل نحن شركاء في المحاولة؟

كنا نستريح على رصيف الحديقة الوسطى، وأقبل شلبي أسعد، شاب أسمر، نطق اسمه بسرعة، وحياني وقبلني، وقدمت إليه «صديقي عبد الرازق عيد»، ونسيت اسمه وأنا أقدمه لعبد الرازق، فقال: شلبي أسعد. ابتسمت وقلت لهما إن «شلبي» لا يصلح اسما لشخص، بل لقبا لعائلة، فلم أقابل أحدا اسمه شلبي، وهو قال إنه اسمه، وإنه مسيحي من سوهاج، وإنه يتابعني منذ أكثر من عشر سنوات، ويحتفظ بأعداد مجلة ثقافية كنت عضوا في مجلس تحريرها. أشار إلى مسرح شباب الثورة القريب من مسجد عمر مكرم، وقال إنه من شباب الثورة، ولكن إيقاف حركة السكك الحديدية منعه أن يأتي إلى القاهرة في الأيام الأولى، ولكنه واصل العمل مع شباب الثورة في سوهاج، وإن كثيرا من المدن فيها ميدان للتحرير خاص بها، فاطمأن قلبي. ودعته على أن نلتقي غدا.

قلت لعبد الرازق إن هؤلاء الذين تواصلوا عبر العالم الافتراضي هم الحقيقيون، وسألته:

ـ ألم تسمع أسعد الذي كان أحد عناصر الخلايا النائمة؟

تبسم قائلا:

ـ شلبي، اسمه شلبي!

أعلنت الإذاعة الداخلية أن غدا سيكون «أحد الشهداء»، فازدادت ثقتنا، وقلت لعبد الرازق إنني أنوي استغلاله الليلة، بأن يوصلني بسيارته، في طريقه إلى البيت، فنقطع المسافة في أقل من 20 دقيقة، بدلا من 90 دقيقة تهد الحيل، وأنني أرغب في العودة مبكرا، بعد انتصاف الليل مباشرة، وأنوي ألا أشاهد التلفزيون، فأنام في سلام، ولا أحرق دمي أو أعكر مزاجي بغباء المذيعين والضيوف.

قبل المغادرة كان طابور طويل من الراغبين في دخول دورات المياه في مسجد عمر مكرم، ولم أحتمل الانتظار، والسيارة تنتظر بعيدا، على الضفة الأخرى للنيل، بالقرب من دار الأوبرا. طلبنا دخول حمام في محل هارديز المواجه للجامعة الأمريكية، حيث يتم إمداد الميدان بمياه الشرب، وخجل الشاب أن يرفض الطلب، وقلنا له إن الأمر استثنائي وعاجل. كان بلطجية ومخربون قد خربوا محل الأطعمة مساء جمعة الغضب، نهبوا محتوياته وأحرقوه، حتى إن دورة المياه في الطابق الثاني خلت من الإضاءة، وتناثرت قطع الحجارة، وأجزاء من الأثاث، وفي الطابق الأرضي افترش متعبون من الخدمة النهارية الأرض وناموا. وبعد خلع مبارك بنحو أسبوعين، كنت في الميدان مساء، ورأيت شابين من العاملين بالمحل يقطعان شجرة أمام الباب. حدث هذا من دون ضجة، وبمنشار صغير، بمحاذاة الرمال أو أعلى من ذلك بقليل. سألتهما لماذا يقطعان الشجرة؟ استغربا السؤال، وكانت البلاد من دون شرطة ولا حكومة، والميدان مستباحا مثل أماكن كثيرة في القاهرة وغيرها. قال أحدهما إنهم سيزرعون مكانها شجرة أخرى. فوجئوا بالسؤال، ولم يتوقعوا أن يسألهم أحد، وكانت الإجابة تعني ألا أسأل، وألا أتمادى في الكلام، وقد أوشكوا على إنهاء المهمة. وبعد أيام تم تجديد الرصيف، وذهبت الشجرة ضحية ثورة انصرف صانعوها، بحسن نية، إلى أعمالهم بعد إنجازها. وظلت المساحة أمام مدخل هارديز عارية.

عدت إلى البيت مبكرا. لم تكن اللمة أمام مدخل البناية التي أقيم فيها قد انفضت. ألقيت السلام، وصعدت. وضعت الصحف على المائدة، وذهبت إلى النوم.

أحد الشهداء .. 6 فبراير

ظننت الرجوع المستريح، أمس في سيارة عبد الرازق عيد، سيمنحني طاقة ووقتا لقراءة الصحف، ولكنني أجلت قراءتها للصبح، وليس الصبح ببعيد. ثم نهضت من النوم بسرعة، وأهملت الصحف، كما تركت صحف الأيام السابقة وكما سأترك صحف الأيام التالية، وسوف أعود إليها بمشاعر مختلفة ومتضاربة.. من الدمع أسى على كبوة كان يمكن أن تنزلق إليها الثورة، أو عدم تصديق حجم الإنجاز الذي تكلل بخلع مبارك، وإنهاء نظامه المتجذر الفاسد المفسد. لم يكن أحد يحلم بإزاحته بمثل هذه الخسائر القليلة، في وقت قصير لم يتجاوز 18 يوما.

في مدخل الميدان من جسر قصر النيل، قابلتني بشائر مليونية «أحد الشهداء». دائما أتفاءل بأيام المليونيات. أولى البشائر قصيدة (الميدان) لعبد الرحمن الأبنودي، ومكبرات الصوت تتابع إذاعتها. يقول مطلعها:

أيادي مصرية سمرا.. ليها في التمييز

ممدودة وسط الزئير.. تكسر البراويز

سطوع لصوت الجموع.. شوف مصر تحت الشمس

آن الأوان ترحلي يا دولة العواجيز!

عواجيز شداد، مسعورين، أكلوا بلادنا أكل

ويشبهوا بعضهم.. نهم وخسة وشكل

طلع الشباب البديع قلبوا خريفها ربيع

حين تجاوزت بوابة الميدان، رأيت شابا يحمل صفحة من (المصري اليوم) سوف تصير من أيقونات الثورة، ويتبادلها المدونون، وتنتشر عبر الفيسبوك. لفت انتباهي إخراجها الجيد، فنيا وإنسانيا، يعنيني شخصيا مصطفى الصاوي، أول شهيد أمشي في جنازته صباح السبت 29 / 1 / 2011، هل كان معنا ونحن نسد شارع طلعت حرب، أمام مصفحة ضابط الشرطة القاتل في جمعة الغضب، ليكون أول شارع حر في القاهرة؟ هل تدافعنا معا ونحن نحتمي من القنابل في مول طلعت حرب التجاري؟ لم يعرفني ولا أعرفه، وكان بالنسبة إلي مجرد اسم، رقم في قائمة، ومنحته الصورة روحا مدت بيني وبينه جسرا. ويعلو الصفحة شهيد مبتسم عمره 16 عاما، وتحته صورة االشهيد الفنان لتشكيلي أحمد بسيوني. حملت الصفحة عنوانا جاذبا، يبدأ رأسيا بأربع كلمات بخط أسود: (شهداء ثورة 25 يناير)، ثم يستكمل العنوان أفقيا بخط أحمر: (الورد اللي فتح في جناين مصر). أما الصورة الأكثر جذبا للانتباه، فهي «الشهيدة سالي زهران»، وتحتل قلب الصفحة، بابتسامة ساحرة تستقر في قلب القارئ.

منذ الأربعاء الدامي «موقعة الجمل» والميدان بيتنا ومدينتنا الفاضلة، لا بد أن أطمئن على حدوده لحظة الدخول، وقبل الخروج في الفجر. كنا نتبادل الدهشة والتساؤل: هل كنا بهذا الجمال، وهذه الروعة، ونحن لا ندري؟ في هولندا قبل أربع سنوات كنت خجلا، وأنا أسمع سيدة هولندية تحكي عن «مجاعة جنسية» في مصر، كانت عرضة لتحرش لفظي وجسدي، لم يسلم منه كثير من المصريات أيضا، محجبات وغير محجبات. تحرش يتناقض مع تدين شكلي أقرب إلى نفاق اجتماعي تفضحه ممارسات لا علاقة لها بأي دين أو تحضر، وجاءت الثورة لتكنس هذه القشرة غير المتحضرة، وتبقي على الجوهر الإنساني والأخلاقي، وتعيد إلينا إنسانيتنا، وتعرفنا على حقيقتنا، وتجعلنا نكتشف أنفسنا ونزهو بها، وندرك أن التحرش وأشكال العنف كانت عرضا لمرض اسمه عدم التحقق، وابتعاد الأمل، واسنداد الأفق، وجاءت الثورة فرفت سقف الآمال لتجاوز السماء، وتعيد إلينا الثقة بأننا أفضل مما كنا نظن، وأجمل من صورتنا عن أنفسنا، كنا نحتاج إلى الحرية لتعالج أمراضنا، وها نحن استطعنا أن نصنع حريتنا وكرامتنا في الميدان ونجعلهما خبرا. في زحام مليونيات ميدان التحرير لم تقع حالة تحرش واحدة، ولم يحاول أحد أن يلقي مخلفات يشوه بها جمال الميدان، وكان تقاسم المياه والخبز والسجائر أمرا محببا، حتى بين من لا يعرف بعضهم بعضا. مساء أمس قالت إذاعة الميدان إن هاتفا محمولا فقد. لم يقل الإعلان إنه سرق، بل فقده صاحبه، وبعد دقائق أعلن أن الهاتف عثر عليه مواطن وأحضره إلى مسؤولي الإذاعة.

لا أدري هل أدى المسيحيون القداس من قبل خارج الكنيسة؟ في الميدان حدث هذا، يتجاور المسيحي والمسلم، وفي المكان نفسه يقام القداس ثم الصلاة، وجميعهم يرفعون الأيدي إلى السماء. الآن ينتمي المسيحي إلى هؤلاء المواطنين وإلى هذا المكان، بعد أن ظل زمنا من رعايا الكنيسة، سوف يحتكم المواطن المسيحي إلى الشارع ويحتمي به، منذ أصبح الميدان معبدا دينيا ووطنيا. فكيف لا أفتخر بانتمائي إلى دولة الميدان، ولا أسعى للاطمئنان عليه قبل الخروج، وبعد الدخول؟

لاحظت مظهرين من ألغاز الجيش.. في مدخل الميدان من ناحية قصر النيل ضيق الخناق على الداخلين، وامتدت الأسلاك الشائكة تسد المدخل إلا من ثغرة تسع فردا واحدا، والأسلاك الشائكة ليست أسلاكا تقليدية مما نعرف، بل لفائف مزودة بشفرات حادة تشبه شفرات الحلاقة، والاقتراب منها مخاطرة، وامتدت جموع منتظري الدخول بطول جسر قصر النيل، ولكن روح الميدان لم تدع فرصة للتململ، أو محاولة لاجتياز الطابور الذي أصبح اختراعا مصريا حضاريا.

أما المظهر الثاني فهو إغلاق الجيش مدخل الميدان من ناحية عبد المنعم رياض، وعلى القادم من هناك أن يسلك شارعا جانبيا، ثم يدخل من ناحية شارع شامبليون أو شارع قصر النيل أو غيرهما، وقلت إنه استيقظ متأخرا أربعة أيام، ولو أنه فعل ذلك يوم الأربعاء لحقن دماء كثيرين، إضافة إلى وقوع خسائر منها سيارتان للجيش نفسه.

كانت المعركة غير متكافئة بين جيل الجمال والجياد وجيل الإنترنت. صب عناد مبارك في صالحنا، وهو لم يتعلم الدرس، فبعد أن تفجرت فضيحة تفجير كنيسة القديسين بالإسكندرية، عن طريق وزارة الداخلية، ترددت أخبار عن ثروة مبارك وزوجته وولديهما. الخبر الأول دفع كثيرين للانتقام لوطنيتهم بالاحتشاد في الميدان، برأهم الخبر من تهمة قتل إخوان في الوطن، ليس ذنبهم أنهم مسيحيون، والخبر الثاني دفع إلى الميدان بكثير من ذوي الوعي السياسي المتواضع، ممن رأوا أنهم سرقوا، وعلت في الميدان هتافات في مسيرات شعبية:

«حسني مبارك يا طيار.. جبت منين 70 مليار».

كان شوقي جلال قد أرسل لي رسالة إلكترونية وصلته، عقب مبارة مصر والجزائر بالسودان في نوفمبر 2009، تتضمن أرقاما بعشرات المليارات، قيل إنها ثروة مبارك وولديه وزوجته، ومن المؤكد أن الأجهزة الرقابية والأمنية التقطت تلك الرسائل التي تبادلها المئات أو الألوف، ثم واجهتها بصمت معاوية القائل إنه لا يحول بين الناس وبين ألسنتهم، ما لم يحولوا بينه وبين الكرسي.

لكن تبادل هذا الخبر أو المعلومة أو الشائعة الآن له شأن آخر، فعلى سور بالميدان، علق مواطن، لعله بائع مياه غازية، لافتة مكتوبة على بقايا ورقة كارتونية:

«نصيب كل مواطن في ثروة جمال مبارك فقط 87000 جنيه للفرد».

لم يكن الميدان بحاجة إلى شعارات عن الوحدة الوطنية بين المسيحيين والمسلمين. لا فواصل ولا مسافات تتطلب مد جسور بين أبناء الشعب، أيا كانت الديانة. اليوم أقيمت صلاة الغائب على الشهداء، وبعدها أقيم قداس الأحد، في المكان نفسه، ومن المكان أيضا تعانق بتلقائية المصحف والصليب، تحت ظلال العلم المصري.

نحو الساعة الواحدة جاءتنا تحذيرات وأخبار عن انسحاب الجيش من الميدان. لا توجد وسيلة للتأكد إلا التوجه إلى ساحة الخبر أو الشائعة. كانت محركات دبابات ومدرعات عند بوابة المتحف تتحرك، وتراءت لنا مشاهد «موقعة الجمل» التي جرت في وجود الجيش، فماذا يحدث لو انسحب الجيش، وتركنا في مواجهة أسود جريحة لا يردعها شيء عن ارتكاب جريمة نسف الميدان. شكلنا دروعا بشرية، ونام البعض في داخل جنازير الدبابات فتوقفت عن حركتها البطيئة، وظلت المحركات تعمل، والدخان يرتفع، ولا أحد من الضباط يرد على أسئلة حائرة. ثم قال ضابط كبير باقتضاب، وقد انتقل الثقل البشري إلى هذه الناحية من الميدان ونام المئات حول الدبابات، إنهم يسخنون المحركات. وأقبل شيخ كبير، وفاجأ الضابط الواقف على الرصيف بانحناءة وقبل يده: «وحياتك يا ابني، أبوس أيديكم، خلصونا من مبارك، أنتم يا ابني أدرى مني بطغيانه».

قدر الضابط الكبير وجع الرجل، وقال باقتضاب:

ـ لا نتدخل في السياسة.

فسأله شاب بابتسامة ماكرة:

ـ لا نستبعد أن أولاد حضرتك هنا، معنا في الميدان!

صمت الضابط، وكانت ابتسامته أكثر بلاغة.

كان الميدان صاخبا، لا يبالي أهله بمتحاورين لم يمنحهم الثوار تفويصا للحوار مع عمر سليمان نائب الرئيس، في قاعة تتصدرها صورة جدارية لمبارك أعلى رأس سليمان مباشرة. ربما تخاصم شخصان، أو فريقان من المتحاورين؛ فلا ينظر أحدهما إلى الآخر، ولكنهم جميعا سينظرون إلى سليمان، ويرون مبارك هو الأعلى، ويتحاورون تحت ظلاله، وبتوجيهاته المباشرة. ولم يكن ناس الميدان ينتظرون نتائج حوار رفضوا فكرته، وأعلنوا عدم جدواه. انضم الإخوان، اليوم لأول مرة، إلى الحوار، وضمت المائدة رفعت السعيد واثنين من رموز الإخوان ونجيب ساويرس، وجرى «التوافق على بقاء الرئيس في منصبه حتى نهاية مدته الحالية»، كما قال سليمان.

الثوار ليسوا انتحاريين، لكنهم يعشقون الحياة، ولا يريدونها منزوعة الحرية. ازدان الميدان اليوم بأول عرس. (علا وأحمد) عروسان من قلب الثورة، اختارا أن يشهد زفافهما أكثر من مليون ثائر، لم يشارك مثل هذا العدد من الناس في حفل زفاف يضم ممثلي فئات الشعب وطوائفه بمن فيهم الجيش، والغائب الوحيد عنه هو الشرطة. كان العروسان أخوين لكل شاب وشابة، وابنين لكل رجل وامرأة. تفاءلت بالعرس الذي ستتبعه أعراس أخرى أبطالها (علياء وياسر) و(سالي ومحمد).

في «جمعة الشهداء»، «جمعة الرحيل»، قبل يومين، عادت إلى الميدان حيوية تنوع الانتماءات، وذهب خوفي الذي عبرت عنه الخميس الماضي لمحمود قرني. كان قد اتصل بي أمس، وتكلمنا بشأن دور أكثر فاعلية للثقافة والمثقفين. قلت إن دورنا ألا نغادر الميدان، وأن نحشد له أنصارا من المترددين، ونصدر بيانات توضح بعض الأمور، وتتخذ مواقف من سياسات أو أشخاص.

سألني:

ـ أين المثقفون الموظفون الذين ظنناهم سينضمون إلينا؟ ألا يعملون بالكفاءة نفسها مع جابر عصفور، كما عملوا من قبل مع فاروق حسني؟ لم نر أيا منهم في الميدان، ولا جرؤ أحدهم على أن يوقع معنا بيانا.

أخبرته أن الثورة سوف تنتصر، وسوف يصير هؤلاء المماليك متحدثين باسم الثورة في عهد الوزير التالي، أو في عهد وزير منهم.

اقترح أن نلتقي في الثالثة ظهر اليوم الأحد، في أتيليه القاهرة، لنتتفق على صيغة بيان. في الموعد المحدد ذهبت إليه، لأطمئنه أن الميدان لم يحتله الإخوان، ولا أصبحت لهم فيه غلبة، كما بدا لي قبل ثلاثة أيام. لم أجد محمود قرني في الموعد، وكان بجوار باب الأتيليه نعي «شهيد الفنانين الشاب الفنان أحمد بسيوني... الذي استشهد يوم الجمعة الحزينة»، جمعة الغضب.

سألني رياض أبو عواد: ماذا فعلت في السفر إلى أبوظبي؟ كان مقررا منذ شهر أو أكثر، أن نسافر معا يوم الأربعاء 9 فبراير، ونسيت الأمر كله، نسيت حتى أن أعتذر. قال إنه اعتذر إليهم قبل أيام، وإنه سوف يتذكر أن يعتذر إليهم نيابة عني. أكبرت في رياض تفضيله البقاء في القاهرة، وهو رد على تقديري لموقفه من الثورة متسائلا: كيف أغيب عن مثل هذا المشهد؟

سرت باتجاه وسط البلد، وقد عادت الحياة إلى كثير من المحال التجارية، وعلى بعد نحو مئة متر من ميدان طلعت حرب المحرر منذ الجمعة الماضي، وقف بضعة شبان من بقايا مؤيدي مبارك يهتفون على البعد:

«عايزين حسني».

كدت أقول لهم إنكم تريدون «حسني»، وهو يمكن أن يذهب أو يوجد في أي مكان إلا هنا، إنه آخر شخص في العالم يفكر في التوجه لميدان التحرير، فابحثوا عنه أو التمسوه في مكان آخر. وأنقذني رنين التليفون من تلك المغامرة غير محمودة العاقبة.

أخبرني علاء عبد الهادي أنه صاغ بيانا، وأرسله بالإيميل لأوقعه، وأجمع أكبر من التوقيعات. وقلت إنني سأتمكن من قراءاته بعد ساعة، وأعيد إرساله إلى أصدقاء، وسوف أتصل بآخرين هاتفيا لجمع توقيعاتهم.

واتصل نوري الجراح وسألني:

ـ هل كتبت شيئا عن تجربة الثورة في ميدان التحرير؟

ـ لا طبعا، لا أنا ولا غيري كتبنا حرفا واحدا، ثم إن الثورة ليست في الميدان وحده، إنها في كل المدن، وفي ميادين أخرى لا تحظى باهتمام الإعلام، ولكن ميدان التحرير صار رمزا.

قال لي بحماسة من يرى الثورة ثورته، ثورة جيله، ثورة العرب الحالمين بالعودة إلى ديارهم، بعد اغتراب في أقاصي الأرض:

ـ أنتم تصنعون تاريخا لمصر وللمنطقة وللكرامة الإنسانية، فكيف لم تكتبوا هذا الحدث؟

قلت إن اللغة تضيق بالكلام، وتعجز عن وصف مشهد أكبر من فعل الكتابة. سوف تصبح أي كتابة الآن تسجيلا لشيء آخر غير روح الميدان، ستكون الكتابة محكومة بقواعدها، والحدث خارج قواعد الكتابة والتاريخ والبلاغة، كتابة اليوميات خيانة للذات، لعلها استثمار لفعل الثورة وتضحيات شهداء حلموا بحرية الوطن، وقتلوا في (جمعة الغضب)، قبل أن نبلغ ميدان التحرير في المساء. في الميدان لا فرق بين نخبة وجماهير، الكل يشارك ويصنع حدثا، فكيف تخلو إلى نفسك، وتتلصص على غيرك، لتكتب كلاما لا يسمو إلى بلاغة الحدث؟

استمع إلي وقال إنهم أخطأوا في حصار بيروت 1982، إذ لم يوثقوا الحدث بما يليق، وطلب أن أدعو أصدقائي إلى أن يكتبوا ولو سطورا، أن يسجلوا الشعارات واللافتات والصور والملاحظات والعلاقات الجديدة في الميدان، وتفاصيل الحياة اليومية في الشارع والبيت.

كان نوري على حق. على الفور، كتبت اليوم في صفحتي على الفيسبوك:

«للجميع في التحرير أو أي مدينة مصرية: قبل أن تتسرب الثورة من الذاكرة، نظرا لكثرة التفاصيل الإنسانية، وتلاحق الأحداث، أرجوكم سجلوا يومياتكم ومشاهداتكم منذ مغادرة باب المنزل، وكيفية الوصول والعودة، منذ اليوم الأول. سجلوا الآن ولو سطورا، ثم تأتي الكتابة لاحقا، واجمعوا ما تستطيعون من صور ولافتات، وسوف أتلقاها منكم لتصدر في كتاب أو أكثر من مجلد، توثيقا لحدث غير مسبوق، سيكون ملهما لأجيال لم تولد بعد. سأنتظر المواد بعد النصر».

كنت مستفزا من ادعاءات إعلاميين يتحدثون كأنهم نواب الجلاد، وكتبت في صفحتي على الفيسيوك:

«مصيبة المدعي خيري رمضان في تلفزيون الريادة الزفت. قال بسلامته، وقد سبسب شعره، إنه رأى فلسطينيا في شارع قصر العيني يحمل 15 ألف جنيه، ذاهبا بها إلى المتظاهرين. هل هذا يعقل، وهو يمر على الجيش واللجان في كل مكان على رأي القذافي. ملعون أبو كده».

علق بعض الأصدقاء مستنكرين نفاق الإعلاميين. اكتفى محمد سعيد بكتابة إحدى لافتات ميدان التحرير:

«الكذب حصري على التلفزيون المصري».

منذ يوم 25 يناير، والذين يقال إنهم سياسيون وصحفيون يستخدمون في تشويه الثورة. في الصفحة الرابعة من (الأهرام المسائي)، وعلى بعد سنتيمترات من مقال (وسقط الفاشلون في يوم الغضب المزعوم) لمدير التحرير المكسوف المجهول في موقع الحزب الوطني، قال الذين وصفتهم الصحيفة بأنهم سياسيون إن من غير اللائق اختيار يوم عيد الشرطة للتظاهر. استأسد ناجي الشهابي الذي وصف بأنه رئيس حزب يسمى الجيل قائلا: «إن الشعب المصري قال كلمته بكل جدية وحزم: لا لتنفيذ أجندات خارجية، لا للتخريب، لا لزعزعة استقرار مصر في عيد أبنائنا من رجال الشرطة.. الذين خرجوا للتظاهر هم تنظيم الإخوان غير القانوني والجماعات السياسية التي تتلقى تمويلات (تمويلات وليس تمويلا واحدا ولا تمويلين) من الخارج، ولكنهم لم يحققوا هدفهم المنشود وهو شل الحياة في العاصمة والمحافظات، فالشارع يسير بشكل عادي، وكما توقعنا في حزب الجيل أن الشعب سيلفظ دعوات التظاهر». أما وحيد الأقصري الذي عرفته الصحيفة بأنه دكتور ورئيس حزب مصر العربي الاشتراكي فقال: «إن هناك وجوها معروفة هي التي شاركت في مظاهرات اليوم (25 يناير)... المظاهرات ليست بشعبية ولكنها نخبوية... ليست تعبيرا شعبيا». وتفاصح الممثل محمد صبحي محذرا: «إن هذه اللحظة خطر على مصر، ولا يصح أن نقلد دولا أخرى أو مجتمعات أخرى لأننا لنا شخصية وهوية مستقلة... وغير منطقي أن نقارن رئيسا برئيس أو نظاما بنظام.. نقول ما نشاء بحرية ولو تفوهنا بما نقوله الآن في عهود سابقة لحدثت مذابح، وهذا شيء لا ينكره أحد». ("الأهرام المسائي" 26 / 1 / 2011).

كنت أحتفظ بنسخة الصحيفة، وسمعت اليوم اتصال الممثل محمد صبحي ببرنامج تلفزيوني، وقد تباكى على ما قال إن حال البلد آل إليه، بسبب استمرار التظاهر في ميدان التحرير، واستهان بالثوار. رآهم مراهقين، وقام بتمثيل دور الأب الحكيم، داعيا إياهم إلى العودة إلى بيوتهم، متهما إياهم بالإسهام في فوضى لا يستفيد منها إلا أعداء مصر. وكتبت في صفحتي:

«والخرا اللي اسمه محمد صبحي قال كلاما عبيطا وهو يتباكى. قبل وظيفة مستشار وزير الثقافة (فاروق حسني) ولم يستشره أحد. وهاجم (مهرجان المسرح) التجريبي، ثم تكالب على التكريم».

سألت نفسي: ألا يكفي ما مررنا ونمر به لتنتهي دهشتي؟ ولكنني الدهشة أصابتني مرة أخرى ممن لا يرون في ثورة 25 يناير إسقاطا لما قبلها.. الدستور، والمؤسسات التشريعية، ونظام حكم مغتصب للسلطة، والحكومة الجديدة التي عينها مبارك برئاسة أحمد شفيق. هل أرى بوضوح أم أغشي علي؟ وإلا لماذا يكتب نصر القفاص اليوم واصفا شفيق بأنه «رجل يعرف معنى الوطن والمواطن.. فهو القائل إن الشعب هو المالك الحقيقي على تلك الأرض ـ المحروسة» ("الأهرام" 6 / 2 / 2011). لم أكمل قراءة صفحات (الأهرام)، ولمحت في صفحتها الأخيرة ما كتبه أنيس منصور عن خائن أو خونة «فيرسلون مندوبين لهم في ميدان التحرير يستأجرون شققا في الميدان ليذهب إليها أعضاء الجماعات يشربون ويأكلون ويلقون بالقنابل عندما تصدر لهم الأوامر.. من هؤلاء؟ إنهم من إسرائيل ومن فرنسا ومن إيران ومن حزب الله. ما عقاب مثل هذا أو هؤلاء المرتزقة الذين رأوا اليورو لأول مرة.. ويأتيهم الطعام ساخنا تحت الخيام في ميدان التحرير».

أضحكني الأنيس منصور، وددت أن أسأله: هل هؤلاء يستأجرون شققا تطل على الميدان، أم أنهم يستأجرون خياما في الميدان؟ طويت الأهرام لأكسر ضلوع أنيس منصور، وكتبت في صفحتى على الفيسبوك:

«لا أذهب للعمل، ولا أقرأ الصحف. والآن فقط قرأت مصادفة ما كتبه اللي اسمه أنيس منصور مضحك السادات عن خيانة، ولا يجرؤ على التصريح باسم الخائن. قلها يا شيخ وأنت في السادسة والثمانين. ثم يدعي أن من في الميدان.. (رأوا اليورو لأول مرة.. ويأتيهم الطعام ساخنا تحت الخيام).. ملعون أبو النفاق... أم كده».

وعلق عيد صالح متسائلا:

«من الذي جعل مصر مستعمرة لليورو والدولار أليسوا هم الخونة والأذناب والعملاء طوال 40 عاما باعوا الوطن ونهبوه ومزقوه. اسألهم عن ثروات من يدافعون عنهم بدءا من رأس النظام حتي أصغر حارس في ممالكهم البائدة والتي سحقتها ثورة الشباب العبقري وألقت بهم في مزابل التاريخ».

كتبت رسالة اعتذار عن عدم القدرة على مغادرة القاهرة، ولو يوما واحدا. ثم جاءني الرد من أبوظبي محييا الثورة، متمنيا لمصر الخير كله.

فتحت بيان (نحن منكم ومعكم) وقد وقعه 44 مثقفا، وفيه تحذير «من محاولات سرقة صوت هذه الثورة أو تزييف إرادتها من أحزاب وقوى لم يكن لها أي منجز في قيام ثورة 25 يناير المجيدة»، وتوقفت أمام السطر قبل الأخير القائل: «إن ثقتنا كاملة بأثر ثورتكم في تغيير مقدرات مصر...»، ورأيت شبح خامنئي وبعض ممثلي الإدارة الأمريكية، وأرسلت إلى علاء عبد الهادي أن تعدل الصيغة إلى «ثورتكم التي لا علاقة لها بأمريكا أو إيران»، واتفق معي في الرأي وقام بتعديل الصيغة مع استبعاد أمريكا وإيران وأي طرف آخر، وانتهت الصياغة إلى: «ثقتنا كاملة بأثر ثورتكم المصرية الخالصة»، وفي أقل من ساعة زاد عدد التوقيعات على 110، وأرسلته إلى رياض أبو عواد وبثته وكالة الأنباء الفرنسية.

كثير من الأصدقاء، من الكويت حيث أيمن بكر وعبد المنعم الباز إلى لندن حيث اتصل بي منير مطاوع طالبا أن أوقع له أي بيان نصدره، كانوا قد فوضوني في توقيع أي بيان.

عدت إلى الميدان. أخبرت عبد الرازق أن جنازة رمزية لأحمد محمود، الناشر والصحفي، ستخرج غدا من نقابة الصحفيين، مرورا بشارع شامبليون، وتقام الصلاة عليه في الميدان. وسمع أحد الشباب كلمة «الصلاة»، فحسبني شيخ الإسلام، وسألني:

ـ هل ما نحن فيه شرعي أم مخالف للشرع؟

ـ أي شرع؟

ـ الشرع الإسلامي!

ظننته يمزح. ليس بيننا معرفة سابقة، ولكن ناس الميدان أهل، ومن حق كل منهم أن يمازح الآخر، ويتعامل معه كأنه صديق، وسألته:

ـ وماذا يا ترى ما نحن فيه؟

ـ المظاهرات.

أشار ناحية الإذاعة، وقال:

ـ خلاص، أسأل الدكتور صفوت.

ـ من الدكتور صفوت؟

ـ حجازي.

ـ من حجازي؟

ـ أنا أتابع برامجه في التلفزيون.

ـ آآآآآ

لم يستطع تأولي إجابتي «آآآآآ»، فاستفهم:

ـ يعني ايه؟

شرحت له أن مطابلنا إنسانية، لا علاقة لها بالدين ولا الشرع، هي تتجاوز ذلك. حكيت له قول الإمام محمد عبده قبل أكثر من مئة عام: «إن المسلمين لا يتساءلون إلا فيما تظهر فائدته ليحرموا أنفسهم منه، وقلت إن استفتاء المشايخ يكون أحيانا نوعا من التنطع، وأحيانا يستخدم سياسيا، كما حدث حين حرم المشايخ تجارة العملة، والآن توجد شركات الصرافة في كل مكان، تعمل بتصريح رسمي، فماذا عن الحكم «الشرعي» السابق بتحريم تجارة العملة؟ أليس من الأجدى ألا نقحم الدين في قضايا متغيرة؟ أنت هنا تثور لأنك تنشد الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية، ولا يختلف على ذلك مسلم أو ملحد، استفت قلبك، ولا تذهب إلى دكتور أو مهندس. وضحكنا.

مر شاب بأوراق يوزعها. كان بيانا من ورقتين أصدرته اليوم الجمعية الوطنية للتغيير، يشدد على سبعة مطالب تلخص الإجماع الوطني، أولها «رحيل حسني مبارك عن الحكم».

وعلا صوت أبو العز الحريري، وهو يخطب في برلمان الميدان قائلا إن «لجنة الحكماء» لا تمثل إلا نفسها، ولا علاقة لها بالثورة، وإن المتحاورين مع سليمان لا يمثلون الشعب، وإن الحوار الوحيد المقبول يجب أن يكون حول كيفية رحيل مبارك.

قلت لعبد الرازق إن السلطة تبلغ أقصى درجات الدكتاتورية ليس ببطشها، وإنما بلا مبالاتها، ونحن الآن نتعرض لدرجة من اللا مبالاة، فكيف نطور الثورة، حتى لا تتحول إلى اعتصام؟

وعلا غناء شباب في الميدان، ورأيت أن نكف عن الكلام، ونذهب إلى الغناء، وفي الطريق استوقفنا أسامة الرحيمي، واستمعنا إلى عمرو قطامش وهو يلقي (حورية من جهنم)، ومن دون ادعاء أوضح قبل الإلقاء أنها من الشعر الحلمنتيشي، وليست ثورية!

أما الشباب فكانوا يغنون، وأحدهم يعزف على العود ألحانا معروفة، ويستبدلون بالأغنيات المشهورة كلمات جديدة، ومنها أغنية أصبحت تراثا، ويؤديها الذين يحتفلون بعيد ميلاد أحدهم، ويقول مطلعها: «ياللا حالا بالا بالا هنوا أبو الفصاد.. هيكون عيد ميلاده الليلة أسعد الأعياد.. فليحيا أبو الفصاد».

وأصبحت الكلمات الجديدة المغناة:

ياللا حالا بالا بالا نطرد حسني مبارك

الطيارة يا حسني واقفة واقفة في انتظارك

فليسقط حسني مبارك

حيث جنابك جبت لشعبك قرحة كمان ومرارة

والتعذيب والنهب يا ريس ناجح فيه بجدارة

قم واتفضل لحلح طولك.. خد وياك سي جمال

وعلاء وأمه وكل معارفك ورموز الاحتيال

يسقط يسقط حسني مبارك

ربي يلخبط كل احوالك

بكرة الشعب يحاكمك حتما

انت وسوزي كمان وعيالك

ياللا حالا بالا بالا نمشي لحد القصر

نطرد أس فساد الدولة لاجل نحرر مصر

هي مسيرة صغيرة كبيرة ماشية بكل الشعب

نهتف لازم لازم يرحل.. اهتف كده م القلب

مهما يقولوا ومهما يخونوا

اسمع كلمة حق

اللي بيرعب حاكم خاين

هو كلمة: لأ.

وغنوا أيضا:

يا جمال قل لأبوك: شعب مصر بيكرهوك

يا سوزان قولي للبيه: 30 سنة كفاية عليه.

وقلت لعبد الرازق: ونحن أيضا كفاية علينا، فغدا جنازة زميلنا الشهيد.

الاثنين 7 فبراير

لليوم الثاني على التوالي يغلق الجيش مدخل الميدان من ناحية ميدان عبد المنعم رياض.

أسرعت للحاق بجنازة أحمد محمود. كانوا قد تحركوا من نقابة الصحفيين، وقابلتهم في ميدان التحرير. وقفنا للصلاة، خلف نعش رمزي بالقرب من إذاعة قناة الجزيرة، وشارك عشرات المئات في الصلاة، يتجاور المسلم والمسيحي، الرجال والنساء. نظر الإمام إلى صفوف المصلين، ولم يأمر المصليات غير المحجبات بتغطية رؤوسهن، وقال: «صلاة الغائب على روحه وأرواح الشهداء»، وأقبل علينا رجل يرتدي ملابس الإحرام. انشغلت للحظة عن الصلاة، ولم يكن الحاج بجواري لأسأله: أين أحرمت؟ ومن أوحى إليك لك بهذه الفكرة؟ كان ميدان التحرير قد أصبح قبلة الذين ينشدون الحرية، وتذكرت ما كتبه عماد فؤاد قبل أيام: «عاجل من السعودية: نعتذر عن تلقي طلبات الحج للأعوام القادمة، وعلى من أراد أن يحج أن يتوجه إلى ميدان التحرير». انتهت الصلاة، واختفى الرجل بملابس الإحرام، وسط زحام وهتافات المصلين الثائرين بنشيد «بلادي بلادي لك حبي وفؤادي».

طاف النعش في الميدان، وخلفه المشيعون، ومعظمهم صحفيون وإعلاميون ومثقفون، ونددت الشعارات والهتافات بالتضليل الإعلامي: «يسقط رؤساء تحرير النظام»، «تسقط القنوات (الفضائية) العميلة»، «يسقط نقيب الحكومة»، في إشارة إلى مكرم محمد أحمد نقيب الصحفيين، ثم صوبت الاتهامات إلى مبارك نفسه: «الشعب يريد محاكمة السفاح». فيما بعد سترتفع في الميدان جدارية عنوانها «لتكون مصر دولة خالية من الفساد، لن يفلت.. مروجو الأكاذيب» تحمل أسماء وصور إعلاميين وصحفيين منهم: محمد عبد المنعم، مجدي الدقاق، عمرو عبد السميع، ممتاز القط، مكرم محمد أحمد، حمدي رزق، أسامة سرايا، محمد بركات، ياسر رزق، عبد اللطيف المناوي، طارق حسن، عبد الله كمال، سمير رجب، إبراهيم نافع، مرسي عطا الله، عبد المنعم سعيد، خيري رمضان، تامر أمين بسيوني، سيد علي. وإلى جوارها جدارية أخرى عنوانها «ضد الثورة» خصصت لممثلين وإعلاميين ولاعبي كرة قدم كان بعضهم من «أبطال موقعة الجمل»، ومن وجوه هذه الجدارية: عادل إمام، محمد فؤاد، يسرا، سماح أنور، تامر حسني، حسن شحاته، حسام حسن وشقيقه إبراهيم حسن، أحمد بدير، عصام الحضري، أشرف زكي، روجينا، طلعت زكريا، أحمد شوبير، مرتضى منصور، سيد علي، تامر أمين، مفيد فوزي، هالة فاخر، خيري رمضان. وسوف أجد اليوم رسالة من محمد سعيد تضم ما أصبح معروفا بقائمة العار.

بعد الفراغ من الجنازة أعطاني يحيى قلاش ورقة عنوانها (بلاغ للنائب العام). كان مطلوبا أن أوقعها وأجمع توقيعات أخرى، لمطالبة النائب العام بفتح ملف الفساد وإهدار المال العام في المؤسسات الصحفية الرسمية، وندعوه إلى سرعة اتخاذ إجراءات منها: منع سفر رؤساء مجالس إدارات ورؤساء تحرير هذه الصحف، الحاليين والسابقين، ومنع تهريب أو التخلص من أية وثائق أو مستندات أو أموال من مقتنيات هذه المؤسسات، والكشف عن مصادر ثروات من تحول حولهم شبهات فساد. كان مع يحيى قلاش ورقتان أخريان، تحملان تاريخ غد الثلاثاء 8 / 2 / 2011، للدعوة إلى جمعية عمومية غير عادية عاجلة. وسوف يكتب كارم يحيى عن الدور البائس للنقابة خلال الثورة، إذ تحدث النقيب «المخلوع» مكرم محمد أحمد مع زوجة الشهيد أحمد محمود عن تعويض مناسب، ورفض التضامن معها ضد قتلة زوجها، وقال لها نصا: «لن أدخل في تحقيقات ضد الشرطة»، وعلى الرغم من تحديد أرملة الشهيد وغيرها من الشهود هوية القاتل، فإن النقيب «تجاهل تماما أية إشارة إلى مسؤولية قناصة الشرطة ووزير الداخلية ورئيسه مبارك عن قتل الشهيد». ("الأهرام المسائي" 15 / 5 / 2011).

في ميدان طلعت حرب الذي تم تأمينه منذ الجمعة الماضي وقف شبان متأنقون، لا تشي ملامحهم بأنهم ثوار، ولا أثر للثراء على وجوههم. لم يكونوا أبرياء مدافعين عن عقيدة يؤمنون بها، بل أجراء أو مرتزقة كلام، يروجون بضاعة سهلة لا يعاقب عليها القانون، ولا يؤاخذهم عليها الثوار، وفي الوقت نفسه لا يجرؤون على حملها والدخول بها إلى ميدان التحرير. كان يراقبهم صف ثان من المرتزقة الكبار، على الرصيف أمام دار الشروق، يتابعون أداءهم الصغار، ويجرون تقييم موقف، راصدين ردود فعل المتجهين إلى ميدان التحرير والخارجين منه، والصبية الأقرب إلى المماليك يقولون: «عايزين ايه يا جماعة؟ مطالبكم تحققت، وحال البلد واقف». كان الرد يتباين بين تجاهل صامت، وكلام يبطل السحر: «مطلبنا سهل، عايزين مبارك يمشي!».

قلت لأحدهم: «يبدو أنك متعلم، ولكن هذه الوظيفة مهينة، لا تشرفك وأنت لا تختلف عن بائع سريح ممن يطوفون شوارع وسط البلد، للإلحاح على بيع منتجات لا يقتنعون بها»، وكان الناس يتفرقون من حوله، ويأتي آخرون بحكم الانجذاب لأي تجمع، والشاب حائر، لا يستطيع الإجابة عن أكثر من سؤال يوجه إليه، وأمسك بيدي، يريد استبقائي، وأنا أريد الخروج، وسألته: تريد نصيحة؟ هز رأسه بالموافقة، فقلت: «ثوروا تصحوا!». ناداني: «يا كابتن، يا كابتن»، وقلت له: «خليك في الميدان، أنا راجع بالليل».

فتحت الصفحة الأخيرة في (الأهرام) مصادفة، وقرأت عجبا كتبه أنيس منصور الذي تساءل: «من الذي أراد أن يضع نقطة سوداء على الثوب الأبيض لحسني مبارك؟ من الذي أراد أن تكون النقطة في حجم ميدان التحرير؟ من الذي جعل ميدان التحرير ميدان حرب؟ حرب ضد من؟ ضد مصر!»، فأعدت كتابة جملته في صفحتي على الفيسبوك معلقا:

«انتهى كلام اللي اسمه أنيس منصور، إخص.. على أم كده».

وكالعادة لامني مصطفى عبادة على كلمة (إخص)، وسألته عن معناها، ولم يعرف. قلت له: لم الغضب إذن؟

كان الممثل أحمد راتب يتحدث في برنامج تلفزيوني قبل أيام بتأثر يكاد يصل درجة البكاء، لا يبكي حال البلد، وإنما حاله الشخصي، وقال له محفوظ عبد الرحمن: إنها ثورة من أجل الكرامة يا أحمد. رد بانفعال: «بلا كرامة بلا كلام فارغ، عايزين نأكل عيش». اليوم قرأت لأحمد راتب هذا التصريح: «ثورة الشباب يوم 25 يناير فقط وبعد ذلك تهريج... إن المتظاهرين الآن ليسوا من الشعب المصري الذي يحب مصر». ("الشروق" 7 / 2 / 2011). طويته كالعادة في صحبة أنيس منصور، لأجد رسالة من محمد سعيد عنوانها (قائمةالعار)، تضم نحو 40 شخصية ممن «أساءوا للثورة وشباب الحرية»، وقبل استعراض الأسماء توجد مقدمة توضح أن القائمة هدفها تدوين تصريحات ومواقف من «لم ترق قلوبهم لدماء الشهداء وصرخات المصابين، وأطلقوا الأكاذيب وصدقوها، وأكملوا مشوار المصلحة الشخصية، ونسوا تماما مصلحة الوطن. لكن القائمة تحصر فقط من قدموا مواقف ضد الثورة نفسها لا الذين كانوا يؤيدون النظام منذ سنوات طويلة بشكل معلن مثل رؤساء تحرير الصحف الحكومية... ونؤكد احترامنا لمن التزموا الصمت من المشاهير، رغم أنه صمت مخجل لكنه بالتأكيد كان أرحم من الأفواه التي... ضللت الشارع المصري». وتضم القائمة:

وزير الإعلام أنس الفقي، عبد الله كمال رئيس تحرير روزاليوسف، حسن راتب «صاحب قناة (المحور) التي انحازت للنظام طوال الوقت»، سيد علي «مذيع برنامج 48 ساعة والصحفي في الأهرام والمنفذ الأول لسياسة حسن راتب طوال أيام الثورة»، هناء السمري «مذيعة برنامج 48 ساعة والشريكة في كل الجرائم الإعلامية التي خرجت من القناة طوال الثورة»، المذيعة مي الشربيني، لاعب الكرة المذيع خالد الغندور «خاض حربا يومية شرسة من أجل تأييد بقاء الرئيس مبارك في الحكم»، إبراهيم حسن وحسام حسن «طالبا بأن يمنع الجيش الطعام والدواء عن المعتصمين أو ضربهم بخراطيم المياه حتى يتركوا الميدان»، حسن يوسف «اتصل بكل القنوات العامة والخاصة للتأكيد أولا على أن خلايا إيرانية مهدت للثورة، ثم كان صاحب أول تصريح حول توزيع الجنيهات ووجبات الكنتاكي على الشباب، للبقاء في الميدان، وتضاف إليه زوجته شمس البارودي»، الممثلة زينة «سمحت بأن ترتفع فوق الأعناق في أول مظاهرة لتأييد الرئيس مبارك، وقالت للتلفزيون المصري إن الشباب يعوي في ميدان التحرير لأكل العيش»، الملحن عمرو مصطفى «سار في مظاهرات التأييد (لمبارك) ووصف شباب التحرير بالخونة»، أشرف زكي «صاحب الدور الأكثر وقاحة كونه قاد مظاهرات التأييد باعتباره نقيبا للممثلين لكنه في الحقيقة نائب وزير الإعلام أي كان يقوم بدوره كمسئول حكومي»، الممثلة ماجدة زكي «وقفت بجوار شقيقها (أشرف زكي) تهتف في ميدان مصطفي محمود: يا جمال قول لأبوك المصريين بيحبوك»، الممثلة روجينا زوجة أشرف زكي «ظهرت في ميدان مصطفي محمود ترتدي الأسود وتقول للرئيس: أوعى تسيبنا هنتبهدل يا ريس»، مرتضى منصور، تامر حسني «بكي على شاشة التلفزيون المصري من أجل مبارك»، سماح أنور التي قالت: «مفيش مشكلة إن حد يولع فيهم (الثوار)»، الممثلة نهال عنبر، الممثل طلعت زكريا، إلهام شاهين «قالت إن مصر تحتاج لقبضة من حديد وإن قرار إغلاق الجزيرة صدر متأخرا»، يسرا «دافعت عن الرئيس وطالبت الشباب بالعودة إلى بيوتهم ولم تجد أي سلبيات في سياسات النظام طوال 30 عاما»، أحمد بدير «دفاع عن الرئيس وهجوم على الشباب الذين بقوا في الميدان لأن لهم مصالح شخصية»، غادة عبد الرازق «مع مبارك وضد الشباب الجاحد الناكر للجميل»، إيهاب توفيق، وعفاف شعيب، ولاعب الكرة هاني رمزي، المغني حكيم «قال إن الشباب عطلوا البلد وأجلوا ألبومه الجديد وإنه مع استمرار مبارك»، مي كساب «طالبت بإغلاق الفيسبوك والقنوات العربية وادعت أن الشباب جهلاء وطالبتهم بإخلاء الميدان»، هالة صدقي «قالت إن ميدان التحرير أصبح مثل حديقة الحيوان، مزارا سياحيا، وإن الجالسين هناك يحصلون على نقود مقابل أن يتفرج عليهم الزوار»، نادية الجندي «طالبت الشباب بقراءة التاريخ ليعرفوا قيمة مبارك»، ماجدة الصباحي، محمد فؤاد، دلال عبد العزيز «وصفت شباب الثورة بالمخنثين»، وفاء عامر: «ما حدث للشباب غسيل مخ».

وتضم القائمة أيضا: الجهاز الفني للمنتخب المصري لكرة القدم بالكامل، وأعضاء اتحاد كرة القدم، قنوات بانوراما، قنوات مودرن، قناة الفراعين.

وسوف تجد (القائمة السوداء) طريقها من الفضاء الإلكتروني إلى الورق المطبوع، حيث نشرت صحيفة (الوفد) قائمة بمن قالت إن شباب الثورة رأوهم من «أعداء ثورة التحرير»، فإضافة إلى الأسماء السابقة يوجد أيضا الممثلون أحمد السقا، نبيلة عبيد، تامر عبد المنعم، فريدة سيف النصر، صابرين، حكيم. (13 / 2 / 2011).

أرفض التكفير الديني أو التخوين الوطني. لا أحد يملك الحقيقة المطلقة فيما يخص العقيدة الدينية، وليس من حق شخص أو مجموعة إصدار حكم بأن شخصا ما خائن أو غير وطني، ولكن الحس الشعبي ربما يختار شخصا، ويصدر حكما بإعدامه سياسيا، وبهذا المعنى ظل إسماعيل صدقي رئيس الوزراء الأسبق «عدو الشعب» بجدارة. أما إبراهيم الهلباوي، أول نقيب للمحامين، فقد نسف موقفه من حادثة دنشواي ما تقدم من تاريخه وعبقريته وما تأخر، وحمل لقب «جلاد دنشواي»، بعد قيامه بدور المدعي وأثبت التهمة على الفلاحين، وفشلت جهود ثلاثين عاما في محو هذه الخطيئة، حتى إن دنشواي لا تذكر إلا مقترنة بالهلباوي.

أرفض التكفير الوطني، ولكنني قرأت (قائمة العار) كإبداع شعبي. لا أعرف من ابتكر شعار (الشعب يريد إسقاط النظام)، لعله الصيغة الشعبية الأخيرة لشعارات سابقة، وهكذا كانت هذه القائمة فكرة استفزت شخصا مجهولا ضاق صدره ببعض المنافقين، فأرسلها لأصدقائه، وبدورهم أضافوا إليها وحذفوا منها. ثم استقرت بالأسماء التي أرسها إلي محمد سعيد، بدليل أنه أضاف سبعة أسماء أخرى:

عمرو أديب «الذي حرض بلطجية الحزب الواطي على ثوار الميدان عندما تساءل: أين أعضاء الحزب الوطني؟ لتخرج مظاهرات بلطجية الحزب الذي اعتدوا على الثوار في ميدان التحرير»، ولميس الحديدي (زوجة عمرو أديب) «التي ظلت تهاجم الثوار في برنامجها (من قلب مصر)»، ورؤساء تحرير المجلات والصحف «الفاسدة التي تسمي القومية» ومنهم: أسامة سرايا (الأهرام)، طارق حسن (الأهرام المسائي)، محمد علي إبراهيم (الجمهورية)، خالد إمام (المساء)، مجدي الدقاق (أكتوبر). وقال: «جار حصر بقية من يحاولون ركوب الموجة والظهور بمظهر المناضلين». وأضاف آخر اسم الممثل محمد صبحي، وتوفيق عكاشة «صاحب قناة (الفراعين) وصاحب القبلة الشهيرة ليد صفوت الشريف».

واقترحت على محمد سعيد أن يضيف أنيس منصور وأنور الهواري.

أشفقت على الذين شملتهم القائمة، ولم أرسلها لأحد، مع استنكاري أن يحرض بعضهم على الثوار، وفي الوقت نفسه لا أرى فائدة في استعداء الثوار على كارهي الثورة.

قطع تفكيري اتصال السماح عبد الله. سألني أين أنا؟ فقلت إنني قريب من الميدان، وسأعود بعد دقائق. كنت أستعد للرجوع، ولم أسأله ماذا يريد؟ وهو لم يرني منذ بدأت الثورة، ولعله قلق علي. اقترحت عليه أن يكتب بيانا يطالب فيه المثقفون بإلغاء (جائزة مبارك)، على أن أتسلمه منه بعد قليل، وأتولى مهمة جمع التوقيعات ثم توزيعه على وسائل الإعلام. لم أفكر في البيان إلا أثناء المكالمة، وقدرت أن هذا البيان وغيره يسهم في خلخلة الكرسي حول مبارك، والعيار الناري الذي لا يصيب الهدف يحدث صداعا، وربما يؤدي بيان قوي إلى تصدع لا صداع؛ فالكرسي الذي يتربع عليه مبارك مثبت بمسامير عمقها ثلاثون عاما، وقد صدئت المسامير، وأصبح الكرسي والمسامير والقاعدة ومبارك كتلة واحدة، وعلينا أن نواصل النبش حول المسامير، والإخلاء حولها، تمهيدا لخلعها نظرا لخطورة الكسر.

سألني السماح: تحت يدك كمبيوتر؟ لم أفهم سؤاله، ولم أشأ أن أرد على السؤال بسؤال آخر، وقلت: نعم، فاقترح علي أن أكتب البيان، وسوف ينتظرني في الميدان.

بدأت الكتابة، وبعد أقل من دقيقة، اتصل بي مرة أخرى وقال: «أنا فكرت في البيان. الجائزة مكسب ثقافي لا يصح إلغاؤه، ليكن توجه البيان هو المطالبة بتغيير اسم الجائزة».

كان رأيه صائبا أرسلت رسالة بالإيميل إلى أحمد الخميسي، وجاءني رده يدعوني إلى التفكير في مستقبل الثقافة المصرية بشكل أكثر عمقا من مجرد تغيير اسم جائزة. وكتبت بيانا عنوانه (لا لجائزة مبارك)، يقول نصه:

«بعد التجاهل التام للأخطاء والخطايا التي ارتكبها النظام، منذ تفجر الثورة المصرية الخالصة يوم 25 يناير، بإطلاق الرصاص على المتظاهرين المسالمين، وعدم اعتذار الرئيس حسني مبارك لأهالي الشهداء والجرحى عن هذه الجريمة المنظمة، ثم تواطؤ أجنحة في النظام مع رجال أعمال في عدوان سافر استخدمت فيه كل أشكال القتل، لاغتيال هذا الحلم الجميل، نعلن نحن مثقفي مصر رفضنا لاسم (جائزة مبارك)، ونطالب يضرورة تغيير اسم الجائزة لتكون (جائزة النيل).

وندعو المثقفين الشرفاء الحاصلين على هذه الجائزة في العلوم الاجتماعية والفنون والآداب أن يردوها، ويتبرأوا منها.

وإذ نطالب برحيل الرئيس، فنحن ندين قبول جابر عصفور منصب وزير الثقافة، في حكومة أتت على جثث الشهداء، ولا تتمتع بثقة الشعب».

سارعت إلى الميدان بالبيان، وكان شباب الحزب الوطني قد تركوا ميدان طلعت حرب.

لم أجد السماح عبد الله في مكان متفق عليه. اتصلت به، وقال إنه غادر، وضمنت توقيعه وتوقيع أصدقاء كثيرين فوضوني بالتوقيع من دون الرجوع إليهم. قابلت أسامة الرحيمي وغادة الحلواني وعصام زكريا، وتشاورنا في الأمر، وتوقف عصام أمام جملة: «تواطؤ أجنحة في النظام مع رجال أعمال في عدوان سافر...»، وقال إن النظام نفسه مهندس الاعتداء ومتورط في موقعة الجمل. وكتب صيغة أخرى أكثر مباشرة وصراحة وإدانة لنظام يمارس القتل. لا أملك نسخة من ذلك البيان الذي كتبته، ثم أضاف إليه عصام زكريا بضعة أسطر، وسلمت مسودته الوحيدة لأسامة، لكي يكتبها بالكمبيوتر، وأتسلمها منه غدا الثلاثاء في اجتماعنا بنقابة الصحفيين.

اتصل بي نوري الجراح. كان قلقا على الثورة من محاولات الالتفاف، عبر حوارات عمر سليمان مع قوى أليفة لم تقم بالدعوة للثورة، ولا كانت متحمسة لها. وقال إنه تحدث مع مازن مصطفى لتخصيص حلقة من برنامج مدته 60 دقيقة عن الثورة، تبث مساء غد الثلاثاء في قناة (الحوار)، ويستضيف على الهواء بعضا من أهل الميدان. قلت إنني أخشى عليهم من مازن، هو يتحدث أكثر من ضيوفه، وأنا أحب خفة ظله وسرعة بديهته، ولكنه يطرح على ضيفه سؤالا، ثم يحاصره بمجموعة من مشاريع الإجابات، وضحكنا وأنا أقترح عليه أسماء بهاء طاهر، وأحمد السيد النجار، وأبو العز الحريري، ونوارة نجم، وإبراهيم عبد المجيد، ويحيى قلاش، وأعطيته رقم هاتف منزل بهاء، وأرقام الهواتف المحمولة للآخرين، ونصحته أن يتصل مرة بعد مرة، لأننا في الميدان لا نسمع رنين الهواتف بسهولة.

أعدت الليلة على عبد الرازق عيد مخاوف أمس، أن تتضاءل الثورة وتصبح اعتصام. وقلت له مازحا، وأنا أشير إلى دبابات الجيش وجنوده الذين لا يسمحون بدخول شارع قصر العيني:

ـ ماذا يحدث لو قفزنا سور مجلس الشورى، واقتحمنا الحديقة، ونصبنا فيها خيمة، أو بتنا في العراء؟ من الضروري توسيع دائرة الاحتجاج خارج ميدان التحرير.

وقال: من يدري، واستأذنته في الرد على اتصال أيمن بكر. كان متفائلا وهو يتابع من الكويت ما لا نستطيع متابعته، ويرى الأمر من مسافة تسمح له باستشعار ميزان القوى، وإلى أي كفة يميل. قال إن القنوات الخاصة «بدأت تتزن»، واستشهد ببرنامج الليلة في قناة دريم، وفيه تحدث بصراحة مناصرون للثورة، في حلقة «نسفت جهود أنس الفقي في التضليل لمدة أسبوعين».

بشرته وأنا أمشي فوق جسر قصر النيل، في اتجاه دار الأوبرا حيث توجد سيارة عبد الرازق، بأن مبارك يخسر، وأن رجاله في الإعلام لا وزن لهم، ولا يصدقهم أحد، ونحن متفائلون، وغدا سنخلع نقيب الصحفيين. وضعت نفسي في السيارة، وقد تعبت من المشي ومن الكلام، ومنيت نفسي بعودة سريعة، تخف فيها قبضة اللجان الشعبية، ويتخلى شبابها عن المناهدة اليومية في تفتيش واستجواب ينتهي باعتذار مهذب من جانبهم على تعطيلنا. ولم يوقفنا أحد.

الثلاثاء 8 فبراير

توجهت إلى نقابة الصحفيين. كان مطلوبا أن يوقع مئة عضو، لكي تنعقد جمعية عمومية طارئة، تمهيدا لسحب الثقة من النقيب ومحاسبة مجلس النقابة على أدائهم في الثورة. واكتمل العدد في وقت قصير، وانتظرت أسامة الرحيمي أن يأتيني بالبيان الخاص بجائزة مبارك، كما اتفقنا أمس.

في أول شارع شامبليون، جلست على الرصيف امرأة في نحو الأربعين، تبدو عليها أمارات جمال مغدور، ينقصها ربيع كهذا يزيح سحابات الهموم وأدخنة الغاز المسيل للدموع والأسى، ويعيد إلى روحها البريق. كان حولها طفلان ينظر أكبرهما إلى السيارات في شارع عبد الخالق ثروت، ويتناول الصغير بعض الكشري. قدرت أنها زوجة شهيد، أو أم شهيد من أولئك الذين لم يتجاوزا العشرين. أسند الطفل الكبير قطعة من الورق الكارتوني المقوى إلى سيارة خيل إلي أن صاحبها تركها على جانب الشارع منذ اندلاع الثورة، وتناول من أخيه طبق الكشري، واللافتة مالت وانكبت على وجهها، فعدلها ولم يسندها، وظلت تطل عليها السماء، وهما لاهيان عنها بلقمة ربما لا يجدان مثلها في الميدان. كانت الكلمات مكتبوبة بخط متواضع، ولم أسأل الطفل الكبير هل كتبها بيده؟ أم أملاها على عابر سبيل؟ أم تطوع جار لهم بكتابتها واقتراح هذه الجملة: «هتنخلع هتنخلع ولو من غير بنج».

تركتهم لأرد على اتصال نوري الجراح. قال إنهم في برنامج قناة الحوار اتصلوا بالستة الذين اقترحت أسماءهم، وسألني عن وسيلة للاتصال بإبراهيم فتحي وسمير أمين. قلت إنني لم أر إبراهيم فتحي في الميدان، ولعله في لندن، وأرسلت إلى نبيل بشناق في برلين أسأله عن أي أرقام لسمير أمين، فأعطاني أرقامه في باريس وأرسلتها إلى نوري. لم أقترح عليه أن يستضيف البرنامج أيا من أعضاء «لجنة الحكماء»، كما أطلقوا على أنفسهم منذ البيان الأول وأصروا على اللقب نفسه في السطر الأول من بيانهم الجديد. البيان الرابع أصدروه اليوم، وتمسكوا فيه بلقب منحوه لأنفسهم، وفي الوقت نفسه لم يسموا الأشياء بأسمائها، ولم يكونوا شجعانا في النيابة عن شعب ثائر، وجاءت صيغتهم أكثر حنانا على السلطة في الكلام عن «الشباب المتجمعين في ميدان التحرير وغيره من مواقع التجمع في المحافظات»، وهو كلام أقرب إلى التزوير، لأن الشعب بكل انتماءاته وأطيافه ومراحله العمرية ثار وله ممثلون في ميدان التحرير وغيره. ثم تحدث البيان عن «حقيقة نوايا الدولة تجاه الانتفاضة المطالبة بالتغيير»، وهو كلام لم يستشر في صياغته الثوار الذين لا يعادون «الدولة»، بل السلطة، وتحديدا رمزها مبارك، ثم إن الثورة أصبحت أكبر من مجرد «انتفاضة». كنت أعيد قراءة البيان الذي تضمن ثمانية مطالب موجهة إلى «السيد نائب رئيس الجمهورية والسيد رئيس مجلس الوزراء» فإذا أسامة الرحيمي يأتي من بعيد، يحمل حقيبته الجدلية. ناديته وسألته عن البيان، وكان خاليا من التوقيعات، وقلت إنني سأتولى جمع التوقيعات، ثم أرسله إلى وسائل الإعلام.

شدد البيان على مطالبة المثقفين بإلغاء اسم (جائزة مبارك)، وأن تحمل الجائزة اسما آخر «يليق بكرامة شعب مصر العظيم وثورة 25 يناير المباركة بعد الجرائم التي ارتكبها رئيس مصر السابق مبارك بحق الشعب وشباب الثورة يوم سحب قوات الأمن من أنحاء الجمهورية وأطلق السجناء والمجرمين لترويع الأهالي الآمنين في بيوتهم بسائر المحافظات وخداع الناس بخطاب كاذب في الوقت الذي أطلق البلطجية على المتظاهرين في ميدان التحرير» في موقعة الجمل. وانتقد البيان استخدام العنف بإفراط لإزهاق أرواح مئات الشهداء وإراقة دماء آلاف الجرحي.

أضحكني لقب «رئيس مصر السابق مبارك»، لأول مرة يكتب في بيان. تفاءلت ولم أناقش أسامة، وكنت أتعجل خلخلة الوتد لتسقط الخيمة، ورفع طبقات الصدأ عن مسمار أكلته البارومة، ولكنه كاف ليسند كرسي الرئيس. أجريت اتصالات، وكنت أضمن توقيعات كثير من الأصدقاء من دون العودة إليهم، ورأيت أن يكون مثل هذا البيان ممهورا بتوقيعات ممثل لكل جائزة. بيسر حصلت على موافقة أحمد السيد النجار الحاصل على جائزة الدولة التشجيعية، وإبراهيم عبد المجيد الحاصل على جائزة الدولة التقديرية، وبهاء طاهر الحاصل على جائزة مبارك. ضحك بهاء، وقال إنه وقع إلى الآن أربعين بيانا، فلا ضير من هذا البيان أيضا!

قلت لنفسي إن بيانا بهذه القوة ينقصه شيء ما، ليكن مثلا توقيع رئيس اتحاد كتاب مصر محمد سلماوي، الأمين العام للاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب. لم أقل له إن نص البيان يتضمن عبارة «رئيس مصر السابق مبارك»، بل قلت إن البيان يدعو إلى تغيير اسم جائزة مبارك، ولم أنس أن أشيد لسلماوي بموقف اتحاد الكتاب، أول نقابة مصرية تتضامن «مع انتفاضة 25 يناير 2011 المجيدة» في اليوم التالي مباشرة. لم أقل له ما أبديته لأصدقائي خلال الأيام الماضية، إن سلماوي كان الأقرب إلى الوزارة من جابر عصفور، ورجحت أن ذلك البيان المبكر (26 / 10 / 2011) تسبب في استبعاده. وفي اتصالي به اليوم راهنت على أن الرجل لم يعد يطمح إلى شيء، بحكم السن والثورة، وإنه سيوافق على التوقيع فنحن جميعا في مواجهة الأسد، إلا أنه استطرد في شرح الخلفيات التاريخية لجائزة مبارك، وكان هناك مشروع (جائزة النيل)، ولكن أحد رجال المال اقترح في مجلس الشعب قبل أكثر من عشر سنوات أن يكون اسمها (جائزة مبارك). كنت أعرف هذا الكلام، وتظاهرت بالدهشة، أملا في نيل موافقته على التوقيع، ولم يكن قد حسم أمره، أو كان حاسما أمره، ولا يريد المخاطرة؛ ففي العمر ما يغري بالكثير. قال سلماوي إنني أعرضه لحرج هو في غنى عنه، ولكن قلبه معي!

أرسلت البيان بتوقيعاته إلى أصدقاء ليوقعوه ثم يعيدوا إرساله لآخرين، وقلت لرياض أبو عواد إن البيان مفتوح، وإنه يستطيع أن يضم إليه توقيعات أخرى، قبل أن يبثه عبر وكالة الأنباء الفرنسية.

وسوف يثبت التاريخ مكره، وتدور الدائرة على مبارك، وعلى رجل المال الذي اقترح أن تحمل الجائزة اسم الرئيس، وعلى مثقفين متخاذلين لا يتقون ثورة الشعب ولو بتوقيع بيان ينصر الثائرين، ففي 20 / 4 / 2011 قرر مجلس الوزراء إلغاء (جائزة الجائزة)، وإنشاء (جائزة النيل).

لم يرفع أحد في ميدان التحرير شعارا اشتراكيا، وإن كان الميدان حالة اشتراكية فنية بامتياز، واليوم ابتكر رضا عبد الرحمن فكرة (جدارية ثوار وشهداء 25 يناير)، وهي لوحة تشكيلية مفتوحة، شارك فيها كثيرون من أعمار مختلفة، سجلوا فيها أسماءهم، وبعضهم أضاف لمساته بالرسم أو كتابة شعارات منها «النصر للثوار»، و«المجد للثورة وشهدائها»، و«بحبك يا مصر.. يسقط مبارك»، و«أهم من أكل العيش.. إن الواحد بكرامته يعيش». ومن لم يشارك في الجدارية أو يرها، شاهد صورا فوتوغرافية لها أرسلها محمد عبلة عن طريق الفيسبوك.

جمعت (جدارية ثوار وشهداء 25 يناير) توقيعات مخرجين وكتاب وفنانين ومواطنين فرحوا بانضمام النجوم إلى الثورة، ولكنهم سيلفظون تامر حسني غدا (الأربعاء)، حين جاء وصعد إلى المنصة، ناسيا أن دولة ميدان التحرير الفاضلة غيرت ذائقة الجمهور، ولم يعد هو (نجم الجيل)، كما يحلو له أن يلقب نفسه، بل أصبح كل ثائر نجما قادرا على التغيير. انتزع الناس منه الميكروفون، وأنزلوه بالقوة، وحاول بعض المتحمسين ضربه، وهتفوا: «برة.. برة»، وتطوع البعض لتهريبه وحمايته، فقبع في ركن وظل يبكي مؤكدا أنه كان مضحوكا عليه. الهتاف نفسه: «برة.. برة» كان من نصيب عمرو أديب الذي طرد من الميدان اليوم.

في المساء جمعني الميدان بأصدقاء لم أرهم منذ فترة، وداعبتهم قائلا: أكان لا بد أن تقوم ثورة حتى نلتقي؟ جاء إبراهيم المنيسي، وعماد الدين حسين، وبلال فضل، وحمدي عبد الرحيم الذي قال إنه كان يشكو ألما في أصابع يده، وقدم إليه أكثر من طبيب أكثر من نصيحة، وهو كمريض صالح استجاب لنصائح لا تؤدي إلى الشفاء. كانوا متخصصين في أمراض العظام والأعصاب، ولا يعرفون أن العلاج بالثورات أكثر جدوى، إذ جاءت الثورة، وجعلت حمدي ينام ساعات أقل، وعلى الرغم من ذلك نسي الشكوى. قبض أصابعه ثم فردها مرات، وقال: «لا ألم، ولا هم يحزنون». وقلت له: «ثوروا تصحوا»، وضحكنا وأعجبه ذلك وقال:

ـ فاكر جملتك الموجزة الموجعة ردا على رسالتي لك من المغرب؟

لم أكن أتذكر شيئا. كان حمدي عبد الرحيم في المغرب، وقرأ لي صفحة في (القدس العربي)، في خريف 2007، صفحة عن الجزائر صارت فصلا في كتابي (سبع سماوات.. رحلات في العراق وهولندا والجزائر والهند والمغرب ومصر)، وتوالت رسائله من هناك، وفي بعضها قال: «مصر بعيدة كيوم تحرير القدس. مقالك عن الجزائر غسل روحي. شكرا لقلمك». قلت له إنك تقول هذا الكلام من وراء قلبك، ولولا الضيق، والغيرة على مصر ما قلته. وكتب في رسالة تالية: «مصر أجمل حاجة خلقها ربنا.. أم الدنيا عن حق، وليس عن سخرية... أخاف على مصر بشكل مرعب...». هذا ما أتذكره، وقد ضاع بريدي الإلكتروني، وفيه جانب كبير من ذكريات ورسائل عمرها ثماني سنوات، ولا أستطيع استعادتها ولا استعادته. قال حمدي إنه لن ينسى تلك الجملة التي لخصت وجعه في ثلاث كلمات:

ـ كان ردك علي: «مصر في الثلاجة».

سألته:

ـ أنا كتبت هذا الرد؟

ـ نعم، قلت لي: «مصر في الثلاجة».

قلت له إن حرارة الثورة أخرجت مصر من الثلاجة، وها هي يدك تماثلت للشفاء من دون أدوية، وها هي مليونية اليوم تتحدى تصريحات عمر سليمان اليوم لرؤساء تحرير الصحف.

كان سليمان قد قال لهم في الصباح، كأنه يحذر أو يهدد، إن بديل الحوار هو الانقلاب، وإن مبارك باق، ولن يغادر مصر. ولم يعد شعب الميدان يأبه لتحذير أو وعيد أو وعود، وها هو شاب يوزع بيانا من (المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية) عنوانه: (لا تنازل عن مطالب الشعب.. الشعب يريد إسقاط النظام.. كرامة. حرية. عدالة اجتماعية) يحذر من «سيناريو منظم لفض التظاهرات ودفع الجماهير للقبول بأي سلطة مقابل أن يستقر الأمن.. ومن الذي أطلق سراح السجناء وقام بتسليحهم؟ وإذا كان الهدف هو السرقات لماذا انتشرت هذه العصابات في العشوائيات والأحياء الفقيرة كما انتشرت في المناطق الراقية؟ لقد رصد المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية تحرك عربات جيب مدنية تطلق الرصاص العشوائي على المواطنين في الشوارع ودون أن يكونوا مشاركين في التظاهرات، وكان أحد المصابين محمد عثمان الذي أطلق عليه الرصاص هو وزملاؤه من ثلاث عربات جيب أثناء جلوسهم بشارع 26 يوليو أمام المحل الذي يعملون فيه».

طويت البيان ولم أسأل عن الجهة التي أصدرته، وكان أبو العز الحريري يقترب من الجهة التي اتخذها شعراء وكتاب وصحفيون مقرا وأحيانا مركز صحفيا. قلت له إن الملل بدأ يصيب كثيرين، وإن النظام يراهن على ذلك، فماذا لو استحدثنا جبهة جديدة، في ميدان رمسيس أو ميدان العباسية، أو أمام قصر عابدين، لإلهاء النظام عنا؟ قال إنه يرجح أن الإخوان عقدوا أو سيعقدون صفقة مع النظام، وينسحبون ويتركون فراغا في الميدان، وإن علينا أن نواصل الحشد، وألا نغادر الميدان الذي ربما يتعرض لهجوم، في ظل ما يراه النظام فراغا بعد انسحاب الإخوان.

تركنا أبو العز واتجه إلى الإذاعة، وجاء يحيى قلاش وزكريا عبد العزيز الذي أعدت عليه مخاوفي، ورغبتي في تطوير جغرافيا الثورة، فلم يقل أكثر من خمس كلمات:

ـ المهم أن نحافظ على الميدان.

كانت الساعة تقترب من الثامنة، وأضاءت شاشة التليفون. في الصخب لم أسمع الرنين، ولم أر رقما للمتصل سوى كلمة (مكالمة)، وتعني أن المتصل شخص مهم في الداخل، أو أن المكالمة من خارج البلاد. سمعت لكنة غير مصرية، وشققت الزحام بصعوبة، مبتعدا عن قلب الميدان، فازداد الصوت وضوحا، وقال إنه من قناة (الحوار)، وكنت أريد العودة إلى أصدقائي، فقلت إن أرقام هواتف الضيوف لديكم، وقد أخبرتهم، وهم في الانتظار، وإذا لم يردوا من أول مرة، بسبب الضجيج، كرروا المحاولة، فقال إن الدكتور مازن مصطفى سيحاورني على الهواء مباشرة بعد دقيقة. لا مجال للتراجع، إذ ورطني نوري ومازن الذي سألني عن أحوال الميدان، فقلت إنها أكثر من مطمئنة، وإن لدينا أملا كبيرا حتى لو لم يكن قريبا. وسألني نوري: وماذا بعد يا أخي؟ أليس خطرا على الثورة أن تتضاءل مع الوقت وتصبح كرنفالا لأناس لهم مطالب يتوجهون بها إلى السلطة، وينتهي الأمر؟

فاجأني السؤال. كنت أمس، وأمس الأول، أشكو الخوف نفسه إلى عبد الرازق عيد، ولم أتفاءل قبل دقائق بكلام أبو العز الحريري عن احتمال خيانة، وضرورة التشبث بالميدان، ولكني أمام الارتباك الصوتي على الهواء مباشرة قلت إن ميدان التحرير ليس وحده أرض الثورة، ولكنه رمزها وعاصمتها، وإن في كل مدينة ميدانا للتحرير، وإن هناك خططا لتطوير الثورة، وليس كل ما يخطط له يقال، وليس كل ما يقال في دوائر ضيقة يذاع في برامج التلفزيون.

قلتها ارتجالا على سبيل التمني، وفي طريق الرجوع إلى الأصدقاء قابلت عبد الرازق عيد، وقال يحيى قلاش إنه ذاهب إلى شارع مجلس الشعب الذي انتقل إليه آلاف الثوار، وأقاموا الخيام!

كانت جبهة أخرى للثورة قد فتحت، وامتدت إليها إجراءات أمنية تشمل ميدان التحرير. هنأ بعضنا بعضا بالفتح الجديد: أحمد طه النقر، ومحمد رفاعة الطهطاوي، ويحيى قلاش، وعبد الرازق عيد الذي ذكرني بأمنيتي أمس أن نقفز سور مجلس الشورى، ونقتحم الحديقة، وننصب خيمة. تمنينا حديقة تحيط بها أسوار حديدية ودبابات وجنود، فاستجاب قدر الثورة شارعا يضم مجلس الشعب ومجلس الوزراء، ورفع الثوار على بوابة مجلس الشعب لافتة «مغلق حتى إسقاط النظام»، ورفعوا لافتة على بوابة مجلس الوزراء تنهي الأمر كله «الشعب أسقط النظام».

قابلت تامر السعيد. لم أره منذ سنوات، بعد أن أخرج فيلمه الوثائقي المهم (غير خدوني) عن معتقلين مغاربة من ضحايا سنوات الرصاص في سجون الحسن الثاني، ثم اختفى باحثا عن ظروف مواتية، لإخراج فيلمه الروائي الأول، وشاهدته ممثلا في فيلم (ميكروفون)، وها هم بعض أبطال (ميكروفون) قد أتوا من ميدان التحرير، ليشهدوا تحرير شارع مجلس الشعب، وانضمامه إلى دولة الميدان المحرر. لم نتحدث في السينما، وكانت الثورة أكبر في أي خيال. جاءني اتصال من أشرف راضي، ولم أكن مطمئنا.

أخبرت أشرف أنني في شارع مجلس الشعب، فحذرني قيام بلطجية بالهجوم على المتظاهرين في الشارع. قلت إن من يغامر بالعدوان يقامر بحياته، وإن الشارع من ناحية شارع قصر العيني مؤمن تماما. قال إن الهجوم سيأتي من الناحية الأخرى، من الشوارع الخلفية في حي باب اللوق، بقيادة أو بتحريض أحد أعضاء مجلس الشعب، وقد اعتقل فيما بعد بتهمة الاشتراك في «موقعة الجمل». أبلغت مسؤولا عن التأمين، فاتصل بالميدان، وقال إن ما يزيد على ألفي رجل في الطريق، وكان المستشار زكريا عبد العزيز الرئيس السابق لنادي القضاة يخطب في مكبر صغير للصوت: «الثورة مستمرة وتحقق كل يوم مكسبا جديدا»، وتحدث عن مرحلة ما بعد الثورة، واستعرض بعض الإجراءات الفصيلية ومنها إلغاء مجلس الشورى، وعدم جدواه لدولة مثل مصر، واقترح دستورا مؤقتا من 15 مادة، يجري العمل به لفترة قصيرة تصل إلى سنة، تجرى خلالها «انتخابات مجلس شعب محترم».

كلمني محمد الحمامصي، وداعبته: «واحشني يا حمص، أين أنت؟». قال إنه في البيت، يستعد للسفر غدا الأربعاء إلى أبوظبي، وسألني وهو يسمع صخب نقاشات ومكبرات صوت: ألن تسافر؟ قلت إنني اعتذرت قبل يومين. تذكرت أن كتابي (سبع سماوات.. رحلات في العراق وهولندا والجزائر والهند والمغرب ومصر) صدر عن (ارتياد الآفاق) في أبوظبي، وأنني نسيت الأمر، وكان الكتاب الفائز بجائزة ابن بطوطة للرحلة المعاصرة قد صدر خلال مؤتمر أدب الرحالة (العرب بين البحر والصحراء) في ديسمبر 2010 بالدوحة، وفوجئت بأنه النسخة غير الأخيرة، وسقط منه فصل عن رحلة إلى المغرب. أنكرته ورفضت تسلم النسخ، فالكتاب ليس كتابي، وأوصيت أصدقائي من الحضور بأن ينسوا هذه الطبعة التي لا تخصني. أخذت وعدا بإعادة طبعه كاملا، وقيل إنه صدر خلال الثورة، ولم يكن لأي خبر شخصي بهجة، بعد أن رفعت الثورة سقف الفرح إلى السماوات العلا، وتراجعت الأسباب الأخرى للسعادة، إلا أنني كنت أنانيا حين طلبت إلى الحمامصي أن يسأل عن الكتاب، ويأتيني بنسخ من طبعته «الشرعية»، وهو ما لن يحدث، وسوف تمر أشهر أخرى، يتخللها زيارة لي لأبوظبي من دون أن أرى نسخة من كتابي، وقد انتهيت من هذا الكتاب يوم 11 / 8 / 2011، قبل أن يصلني كتابي (سبع سماوات)، ولو حدث هذا الارتباك في سياق غير ثوري، لكان رد الفعل عاصفا، ولكن الثورة أدت إلى تراجع الاهتمام بكل ما هو شخصي، بعد أن أسكرتنا نشوة كبرى.

خرجت من شارع مجلس الشعب منتشيا، وكلمني نوري عن البرنامج. لمته على الورطة التي أوقعني فيها، وبشرته باقتحام الجبهة الجديدة للثورة، وسألني عن حالة الأمن، وخوفه الذي يستمده من شائعات وبرامج الترهيب التلفزيونية. قلت إن مصر تعيش منذ 12 يوما من دون شرطة، وتقريبا من دون حكومة، فضلا عن رئيس فقد شرعيته كما يعلم الجميع، ولا توجد جهة رسمية تسيطر على عشرات الألوف من البلطجية الذين سمنتهم الشرطة من قوت الشعب، كما توجد في الشارع 23 ألف قطعة سلاح مهربة من السجون، والسجون نفسها سمح باقتحامها فهرب منها آلاف السجناء، أو تم تهريبهم، وعلى الرغم من هذه الغيوم، فالأمن أفضل من دون الشرطة، إذ استدعى الشعب العبقري من ذاكرته التاريخية إبداعا لعله غير مسبوق، وأحبطت اللجان الشعبية التي تشكلت تلقائيا أي أشكال للفوضى المخطط لها. قلت لنوري إن هذا السياق المعقد، على المستوى النظري، لو جرى في أي بلد آخر لانهارت مؤسساته في يوم واحد، ودخل في دوامات من الحروب الأهلية، وكنت أقترب من ميدان التحرير، وخفتت الشعارات وأخلت مكانها، في إذاعة الميدان، لأغنية أم كلثوم وهي تعلن في فخر: «أنا الشعب أنا الشعب لا أعرف المستحيلا.. ولا أرتضي بالخلود بديلا».

وحين اتصلت أمل الجبوري سمعت بعضا من جملة أم كلثوم قبل أن أرد عليها. قالت إنها لم تكن محقة، قبل أيام، حين أشفقت على الذين في الميدان من طول البقاء، وإنها تأثرت بشادية وهي ترجو الشباب، في برنامج تلفزيوني، أن يعودوا إلى بيوتهم. قلت لها إن شادية بعيدة عن الحياة وعن السياسة، ونحن نثق بإخلاصها، ولا نغضب منها، وإننا نعذر شادية الإنسانة ولا نؤاخذها، ونحب شادية المطربة، حتى إن أغنيتها «يا حبيبتي يا مصر» من علامات الميدان. قالت أمل إنها كتبت قصيدة لمصر، وإنها الآن متفائلة جدا، وإن الصحافة الألمانية مشغولة بما يجري في مصر، وبين يديها الآن صحيفة خصصت صفحتها الأولى لميدان التحرير، وصحيفة أخرى وضعت صورة في نصف الصفحة الأولى للميدان، تحت عنوان: «مبارك.. افتح باب الحرية». قالت إن الذي أضحكها وأسعدها كتابة الصحيفة الألمانية كلمة «الحرية» باللغة العربية. قلت:

ـ «حتى يفهم».

هذا إذن ثلاثاء التفاؤل، من شارع مجلس الشعب إلى برلين إلى ميدان التحرير حيث يوزع شاب صحيفة من أربع صفحات اسمها (شباب التحرير). ظننتها مطبوعة جديدة، تضاف إلى صحيفة (ميدان التحرير) المكونة من صفحتين، ورقة واحدة فقط، ولكن (شباب التحرير) تمتاز بصور ملونة، وجذب انتباهي عنوانها بخط كبير: «25 يناير 2011: يوم ولدت مصر من جديد»، وهو يذكر على الفور بالعنوان الفادح والفاضح لرئيس تحرير (الأهرام) أسامة سرايا، أسفل صورة ضخمة في الصفحة الأولى لمبارك، في عيد ميلاده 4 / 5 / 2008: «يوم أن ولدت مصر.. من جديد».

كان (لوجو) صحيفة الأهرام أعلى يسار الصفحة الأولى، منكمشا خجولا، وفي أسفل الصفحة نفسها بخط صغير إشارة إلى أن هذا الملحق «هدية إلى شباب 25 يناير. إشراف: محمد البرغوثي»، وبينهما صورتان فوتوغرافيتان من قلب الميدان.. الأولى لجموع واقفين على الاسفلت أمام لافتة اسفلتية كتب عليها: «يسقط الطاغية.. ارحل يا ظالم»، والثانية لطفل ورجل مصاب في جبهته يقرأ صحيفة، وشابين أحدهما مصاب في ذراعه، وهم في حالة استرخاء يستندون إلى جنزير دبابة، كأنهم ممثلون لفئات المجتمع، ويوجهون رسالة صامتة وبليغة: الشعب في حماية الجيش.

كان هذا هو العدد الثاني من ملحق (شباب التحرير)، ويحمل تاريخ الأربعاء 9 فبراير، وكنا قد استقبلنا يوم الأربعاء. فاتني العدد الأول، وكنت حريصا على رؤيته، وسألت كثيرين عنه، لأنني لم أقرأ الأهرام أمس، تجنبا لاستفزازات أرامل مبارك، وفي مقدمتهم عبد المنعم سعيد، ومرسي عطا الله، وأنيس منصور.

تفاءلت بصدور هذا الملحق، وأيقنت أن القبضة الحديدية تتراخى، وأن تحرير الميدان يتبعه تحرير الصحف، لتعود إلى مالكها الحقيقي، الشعب.

لكن الليلة أبت إلا أن تمضي من دون حادث عارض، سيكون له ما بعده، وإن كان وقوعه بعد هذا اليوم الحافل كفيلا بإطفاء فرحتي. في خلاء الميدان، بعيدا عن الزحام الطبيعي بالقرب من شاشة الجزيرة ومكبرات أصوات الإذاعات، تتاح الفرصة للحركة، والمسيرات الصغيرة، وقد فوجئت بمن دفعني من ظهري، وشدني عبد الرازق عيد خشية الوقوع، ولم أكن لأقع وإن كنت أريد الاشتباك في سجال مستحق، ونحن اعتدنا العنف في الشارع، منذ أكثر من عشر سنوات هي عمر قلة الحيلة وانسداد الأفق وسيادة أخلاق الزحام حيث لا أمل إلا في الخلاص الفردي. ولكن روح الميدان استبدلت بذلك العنف المرحلي روحا أخرى، لا مجال هنا لعنف جسدي أو لفظي أو تحرش بصري، فما الذي جاء بهذا الشاب الملتحي ليدفعني؟

كان قد دفع غيري، وحين مددت يدي اعتراضا على سلوكه قال لي:

ـ «مسيرة للأخوات».

رأى ذلك مبررا كافيا. كان رجال وشبان بقمصان وجلابيب قصيرة، يتفقون في إطلاق لحاهم بأطوال متفاوتة، ويختلفون في حلق الشوارب، يشكلون بأذرعهم المتشابكة حلقة، تتخذ شكل الدائرة، وحسب طبيعة جغرافيا الميدان والزحام تتحول إلى مستطيل أو مربع، أو شكل يشبه الأميبا، وفي الوسط نساء بجلابيب سود، لا فرق بين امرأة وفتاة، إذ تختفي ملامح الوجوه القليلة السافرة بين كائنات كثيرة يلفها السواد. قلت لهذا «الأخ»:

ـ «يعني ايه مسيرة للأخوات؟».

رد بدهشة وهو يتحلى بالصبر:

ـ «يعني مسيرة للأخوات!».

أصابتني عدوى الصبر فلم أنفعل، بعد أن كدت أقول له إن هذا لا يختلف كثيرا عن أنصار مبارك، حين ضاق بهم الهتاف باسمه في مصر كلها، فجاءوا إلى الميدان ليزاحمونا أو يقتلونا. أشرت إلى الميدان الكبير، ولم يفهم الشاب أنني لا أعترض على أن تسير الأخوات، ومن معهن من المحارم، لاستعراض الإيمان والتقوى في مكان خال بالميدان، بدل أن يزاحموا الناس هنا. ولكني قلت له إن هذا استفزاز يسيء إلى أخريات هن أخواتنا وزميلاتنا، ولا أحد يعترضهن في أي مكان، من دون الحاجة إلى سياج يحمي المسيرة، وإن البنات في «موقعة الجمل» لم يكن بحاجة إلى مثل هذه الحماية المفتعلة حيث لا يوجد ذئاب.

لم يفهم أنني أريد أن أقول له إن هذا السلوك نوع من التنطع، أو النفاق الاجتماعي، أو الاستعرض السياسي قبيل اقتسام غنيمة الثورة.

لقد أفسدوا علي فرحتي!

الأربعاء 9 فبراير

التفاؤل الذي اختتم به أمس كان يتيما، قصير العمر، وهل عاشت وردة يومها الثاني؟ نمت بعمق الأمل، ولكن الصباح حمل لي ظلالا من الكآبة. عرض برنامج تلفزيوني صورا للشهداء، كانوا صغارا على القتل، خرجوا مسالمين، في معركة غير متكافئة، لا يملكون فيها إلا حناجرهم، ولكن رجال الشرطة لا يتكلمون، تعودوا أن يسمعوا ويطيعوا وإن تأمر عليهم جاهل، وعاجلوا الأبرياء برصاص حصد أرواحهم، وبدت أجسادهم هشة، بعد تاريخ من معارك مع أمراض منهجية مطوية في أطعمة مسرطنة. أبكاني توالي الصور، وقد ثقب الرصاص الذقن أو الجبهة أو البطن، والدماء تخفي ملامح الوجوه والثياب. بكيت.

كنت وحدي في المنزل وأجهشت بالبكاء. أغلقت التلفزيون، ولعنت الشرطة والبرنامج الذي يريد أن يفسد علي يومي. عجبت من بكائي لأول مرة منذ بدأت الثورة، كيف أبكي وما أره ليس جديدا ولا مدهشا؟ وقد سقط الذين لا أعرف أسماءهم جرحى وصرعى، في جمعة الغضب وفي موقعة الجمل. كانوا يلفظون أنفساهم الأخيرة مساء الأربعاء الدامي، في مستشفى ميدان فقير أمام المتحف المصري، وحول كل شهيد مجموعة يبعدون عنه الزحام، ويحركون مراوح من الثياب للتهوية حيث يعز الأوكسجين في الزحام، ثم إن المصابين والأطباء والممرضين، مثل المدافعين عن شرف الميدان، كانوا في مرمى القناصة فوق أسطح وشرفات بنايات مطلة على ساحة معركة لا يريد الجيش أن يخلي منها البلطجية والقناصة المحترفين.

في الطريق إلى الميدان تذكرت هامشا في (الوسيط في تشريعات الصحافة) للدكتور عماد عبد الحميد النجار. درسنا هذا الكتاب في الجامعة قبل نحو 25 عاما، وبقي منه في نفسي هامش فسر لي سر بكائي. هامش من بضعة أسطر ظل محفورا في الذاكرة أكثر من متن كتاب يزيد على 500 صفحة، وهو منقول عن كتاب (دفاع عن الأدب) لجورج ديهاميل الذي سجل أنه قابل خلال الحرب طبيبا قاسي القلب، لا تؤثر فيه مناظر الآلام والجراح، ويؤدي عمله بشكل آلي، «ببرود أرستقراطي تلونه السخرية»، ثم دخل عليه يوما، فرأى الدموع تغرق عينيه، ولم يكن معتادا لمثله أن يبكي. كان يقرأ كتابا عن الحرب، يضم وقائع كان يرى مثلها كل ساعة. ويعلق ديهاميل على ذلك قائلا: «لو أني كنت أجهل قدرة الألفاظ لاستطعت إدراكها تلك الساعة». سحر الكلمة أذاب قسوة قلبه، والآن أضيفت الصورة الساكنة والمتحركة إلى الكلمة التي كانت يوما هي الصورة الوحيدة.

لم أكن صانعا لجريمة، بل شاهدا عليها. لم أبك على أحد، ولم أر دموعا في الميدان أو في المواجهات؛ فكل منا توقع لنفسه مصيرا مماثلا، وتساءلت: كم من بواسل الشرطة بكوا حين شاهدوا صور الضحايا؟ تذكرت النقيب ذا النجوم اللامعة فوق كتفيه، وهو يخرق بزهوه سقف مصفحة يقودها جندي في شارع طلعت حرب في جمعة الغضب، ويصوب بندقيته إلى أهداف من لحم ودم، وقدرت أنه اليوم عاطل لا يذهب إلى العمل، ولا يحظى بشرف دخول الميدان، ويضيع وقته في متابعة الفضائيات، فهل طاوعته دموعه وهو يرى صورا لبعض ضحاياه؟

مضت مليونية أمس الثلاثاء من دون رحيل مبارك. انتظرت أن يلقي خطابه الثالث، أن يعترف بكلمة واحدة أنتظرها: «فهمتكم»، ولكنه كابر، وأضله الله على علم. وأدرك المعتصمون أن أمامهم أياما أو أسابيع، وأن عليهم أن يتحدوا الملل الذي يتعمد النظام ممارسته، حتى يفيض بهم الكيل فيرحلوا اكتفاء بما قدمه النظام من وعود. اليوم تدب في الميدان حركة جديدة، تحد آخر بالحياة، مسرح جديد يقام على حدود الميدان، أمام خيمة (عشاق النهار)، رأيت قاسم مسعد عليوة فوق خشبة المسرح الجديد، حييته من بعيد، وكان يفصلني عنه عمال وألواح خشبية.

دولة الميدان لا تنسى الحاجات الأساسية للمقيم، وفي مصر يطلق على دورة المياه (بيت الراحة)، ولا يتنسى للإنسان أن يستريح ودورة المياه بعيدة، وعليها زحام. اليوم بدأ نشاط مختلف، بعيدا عن عمق الميدان، في جزيرة صغيرة تواجه إذاعة الناصريين، يجهز نجارون ألواحا خشبية صنعوا منها جدرانا وسقفا لجدران أصبحت فواصل بين عشر دورات للمياه، ونشط سباكون وقطعوا مواسير توجوها بصنابير، وجهزوا قواعد للصرف الصحي، أما الرمل فمن باطن الجزيرة نفسها. كتب بالعربية (دورة مياه عمومية للرجال)، وبالإنجليزية:

For free

وفي وقت لاحق، ستضاف لمسات أخرى، أحدها لمحتج كتب بخط متسرع: (كابينيه مبارك العمومي) أعلى الباب العام المفضي إلى الدورات العشر، على العكس من خط النسخ المتأني الذي يوضح الهدف من إنشائها: «تماشيا مع سياسة الملل التي يمارسها النظام»، ورسمت على الواجهة اليمنى للمدخل لوحة لامرأة ترتدي العلم المصري، وتمضي إلى الأمام بشموخ، وتتدلى على صدرها قلادة يتعانق فيها الهلال والصليب. أما الواجهة اليسرى للباب فرسمت عليها لوحة أخرى لشاب يرتدي قميصا كتب عليه (الحرية)، ويحمل العلم المصري، ويمشي فوق جماجم ومخلفات كتب عليها (البلطجية) و(الحرامية) و(الأمن المركزي)، وفي خلفية اللوحة كتب محتج بخط غير جميل «يسقط حسني مبارك».

اطمأننت على الميدان، وتكلمت كثيرا في التليفون الذي يجب أن يشحن، وقد حانت ساعتا القيلولة والاتصال بالعالم. فوجئت بزيارة ألكسندر سلطانوف مبعوث الرئيس الروسي إلى مصر، واستقبال مبارك له اليوم. مبارك معزول عن العالم، ومنذ اندلاع الثورة لم يستقبل أحدا، باستثناء زيارة عمر الزواوي مستشار سلطان عمان قابوس الأحد الماضي (6 فبراير)، ووزير الخارجية الإماراتي عبد الله بن الشيخ زايد أمس الثلاثاء (8 فبراير). لا أحد يعلم ما يدور في الغرف المغلقة، وإن مالت الترجيحات الشعبية إلى أن عروضا عربية تقدم لاستضافة مبارك، إنقاذا له لا حبا في الثورة.

المدينة الفاضلة في ميدان التحرير كشفت أجمل ما فينا.. علاقات القربى والجيرة، والاجتماع على الفكرة، والرهان على الحلم، وامتد هذا الاكتشاف أيضا إلى دوائر أوسع، يلمسها أمثالي ممن يقطعون أكثر من 13 كيلومترا، مشيا على الأقدام في طريق العودة فجرا، ويرون أصحاب السيارات يدعون مشاة لا يعرفونهم إلى الركوب. لا يخشى المشاة أن يكون قائدو السيارات محتالين، ولا يخشى هؤلاء أن يكون المشاة لصوصا أو بلطجية، سرعان ما يكتشف الطرفان أنهم ينتمون إلى دولة ميدان التحرير. زلزال الميدان له آثاره الكبرى، فالعالم يرانا، وها هي المظاهرات تنطلق اليوم من كوريا الجنوبية إلى الأرجنتين تساند المصريين، واستمد بعضها من الميدان خفة الظل، ففي لافتة يحملها اثنان أمام البيت الأبيض تعانق الخط مع الرسم، وتقول كلمات اللافتة:

DICTATOR

MADE IN THE U$A

واستبدل بحرف O في كلمة دكتاتور وجه مبارك، ووضعت بندقية مكان حرف I في كلمة (IN)، واستبدلت بحرف S علامة الدولار.

لا يعنينا من يقابل مبارك، ومن يهاتفه. يشغلنا كلام رجاله، وفي مقدمتهم عمر سليمان، الرجل الغامض الذي قال أمس الثلاثاء كلاما بدا لي مقدمة لأعمال احترازية أو انتقامية. والكلام نفسه قاله اليوم أحمد أبو الغيط وزير خارجية مبارك، وأضاف أن الجيش قد يتدخل لحماية الأمن القومي، إذا ما حاول «المغامرون» انتزاع السلطة. لم يكن في مصر مغامرون إلا الثوار الذين رفعوا منذ البداية شعار: «الشعب يريد إسقاط النظام». لم أبال بالأخير، وكتبت هذا التحذير في صفحتي على الفيسبوك:

«تحذير وبلاغ للرأي العام أرجو أن تنقلوه لأكبر عدد ممكن من الأصدقاء: قال عمر سليمان إن متشددين إسلاميين لهم صلات بتنظيم القاعدة كانوا بين آلاف السجناء الفارين من السجون (في جمعة الغضب). معنى هذا أن تفجيرات يمكن أن يدبرها النظام، لإشاعة الفوضى، وإحكام القبضة على المطالبين بإسقاط النظام ورموزه. لا تنسوا تقرير المخابرات البريطانية عن تورط وزير الداخلية في تفجير كنيسة القديسين ليلة عيد الميلاد».

وكلمني أيمن بكر، فقلت إنني كنت أكتب له الآن رسالة، ولا وقت الآن لإكمالها، لأنني سمعت أن جابر عصفور قدم استقالته، ولم يتأكد لي الأمر بعد، وطلبت إلى أيمن أن يراجع التحذير في صفحتى على الفيسبوك، ويصوغ بيانا يوقعه هو والأصدقاء في الكويت، ويرسله لي على أن أتولى إضافة توقيعات أخرى لمغتربين، ثم أنشره وأرسله إلى وسائل الإعلام لتعميمه.

البيان الذي صاغه أيمن على عجل، شمل أيضا انتقادت لأحمد أبو الغيط، وسجل قلق المثقفين من «التلويحات الأخيرة التي صدرت عن نائب الرئيس ووزير الخارجية المصريين، والتي تهدد باستخدام قوة الجيش في قمع التظاهرات السلمية، وهو ما يمكن أن يلقي بمصر في جحيم حرب أهلية طاحنة... لا يقبل أحد أن يدخل الجيش طرفا في صراع سياسي يمثل فيه الطرف المطالب بتغيير النظام الأغلبية الساحقة من الشعب المصري، وهي الأغلبية التي ستصبح في مواجهة لا يقبلها ولا يتمناها أحد مع جيش مصر الوطني العظيم... جيش الشعب.. وليس لحماية النظام».

واعتبر البيان الإشارات المتكررة عن هروب عناصر من تنظيم القاعدة من بعض السجون «سابقة خطيرة تثير مخاوف كبيرة... خاصة بعد ما تم الكشف عنه من ضلوع وزارة الداخلية المصرية في تفجير كنيسة القديسين بالإسكندرية، مطلع هذا العام، وهو الحدث الذي كاد أن يشعل حربا أهلية بين المصريين... ما معنى أن يتم ذكر هروب عناصر من القاعدة الآن، في الوقت الذي يسعى فيه النظام إلى فض التظاهرات التي تعم مصر كلها؟».

سألني صديق في التليفون: «جابر استقال؟». قلت: أفلح إن صدق، وإن لديه حدا أدنى من الذكاء ليفعلها. لم أكن قد كلمت أحدا من قيادات وزارة الثقافة، ولا رأيتهم في الميدان منذ اندلاع الثورة، باستثناء محاولة وحيدة لجابر عصفور فجر الخميس وكانت «موقعة الجمل» قد أمست موقعة بالقنابل الحارقة، وكان هاتفه مغلقا.

رأيت أن أتصل بأحمد مجاهد رئيس هيئة قصور الثقافة. قال لي إن «الدكتور استقال لأسباب صحية»، وسألته ممازحا:

ـ صحته بمب، أجمد مني ومنك، وأنت عارف وأنا عارف.

قال: «أنت عارف سبب الاستقالة». وتماديت في الاستهبال:

ـ سبب ايه؟

قال: «اللي حاصل في الميدان وفي البلد». شعرت بالاستياء، وكدت اسأله: هل تستحي يا أحمد، أو تخاف أن تنطق كلمة «الثورة»، تحسبا لأن تكون المكالمة مرصودة؟ وسألته:

ـ متى أراك في الميدان؟

فاجأه السؤال، وجاء رده محسوبا: «بكرة في مسيرة اتحاد الكتاب».

ولم أر أحمد مجاهد في اليوم التالي، هو أو غيره من موظفي الوزارة الذين سيتغنون بالثورة، ويحلفون بحياتها بعد النصر، ولو كانوا يعلمون أن مبارك سيهرب من القاهرة، بعد 24 ساعة من مسيرة الخميس، لتركوا مكاتبهم، وجاءوا لالتقاط صورة تثبت أنهم «زاروا» الميدان.

كتبت في صفحتي على الفيسبوك:

«الوزارة وقفت في زور جابر. لا هو بلعها، ولا نحن غفرنا. هل نسامح؟».

تذكرت نصر أبو زيد، وهو يقول في رسالة لسعيد الكفراوي الذي استحلفني ألا أنشرها، إن جابر عصفور طحنه «قادوس السلطة»، وإنه انتشى نشوة «الاندماج والذوبان الكامل عشقا في السلطة وولها بها»، ولم يكن الأمر بحاجة إلى إهانة من الوزير الزبلكاني الصغير أنس الفقي حتى يحاول جابر أن يتمرد تمردا خجولا. كيف يحتمل المثقف أن ينظر في وجه الدكتاتور وأعوانه إلا إذا كان هو نفسه دكتاتورا صغيرا أو من موالي الدكتاتور؟ جابر أحد الموالي.. تابعا أمينا للسيدة الأولى، وملبيا لأوامر ابنها الذي خطط لاغتصاب البلد، ثم وزيرا أقل من قامة أنس الفقي الذي يخلو رصيده من عمل ثقافي أو سياسي، وقد صافحته مكرها ذات مرة. كنا في مناسبة في الأوبرا، وفي خروجي من المسرح رأيت سمير سرحان وبجواره أنس رئيس هيئة قصور الثقافة، وكنت أقول إنني لا أحتمل أن يكون هذا التاجر الصغير مسؤولا ثقافيا، ليكن وزيرا لأي وزراة، أو رئيسا للوزراء، أو رئيس ديوان رئيس الجمهورية كما كان يطمح، إلا الثقافة، هذا شرف يجب أن يحرم منه الصغار والدخلاء، فما بالنا لو كان الدخيل صغيرا؟ مد سمير سرحان يده فصافحته، وقبل أن أدير وجهي، قدمني له وقدمه لي، وتصافحنا، وهو ابتسم ولم أقل شيئا. فما الذي يدفع مريض القلب جابر عصفور، المثقف الكبير الذي كان يحلم باستكمال مشروع طه حسين، إلى احتمال الأذي، والإهانة في مجلس الوزراء، وتجرع العلقم، والنظر إلى وجه الظالم؟

كان إبراهيم الهلباوي (1858-1940) أشهر محام في عصره، وضرب به المثل في القدرة على الإقناع، وانتشر المثل القائل «والله أقتلك وأجيب الهلباوي»، إذ يستطيع الرجل أن يحصل على البراءة للقاتل، ولكنه ارتكب عام 1906 خطيئة القيام بدور الادعاء على فلاحين أبرياء، في حادثة دنشواي، وأثبت عليهم التهمة، فاستيقظ الحس الشعبي، ومنحه الناس لقب «جلاد دنشواي»، وظل العار يلاحقه 36 عاما، على الرغم من محاولات التكفير عن ذنبه، وتطوعه بالدفاع عن الناس من دون مقابل.

وحين وجدت حليف الشيطان جابر عصفور يسعى للاستهانة بذاكرة الناس، لم أجد أوجز من (جابر عصفور الهلباوي) عنوانا لمقالي في (القدس العربي) يوم 14 / 3 / 2011، ودعوته فيه إلى الكف عن إعلان الانتصار على جثة، وعدم الادعاء بأنه كان مع الثورة، وإننا كنا نقبل منه هذا الهراء، لو أنه قدم استقالته، وطلب السماح، وتعاطى حبوب الشجاعة، وأعلن في إذاعة ميدان التحرير أنه خدع، وانضم للثوار، كما فعل بعض رجال القذافي حين انضموا للثوار. ولكن جابر هو اختياره، وشاء تاريخه أن ينتهي نهاية تليق به.

يشهد أسامة عفيفي أنني استغثت به، وبمدكور ثابت وآخرين، مساء موقعة الجمل الأربعاء 2 فبراير حتى فجر الخميس، وقلت لهما إنني اتصلت بجابر، وهو هرب من الحقيقة، وأغلق التليفون، في حين يتعرض المتحف المصري لحريق من فوق الجسر. وفشل أسامة في الاتصال به، ثم أبلغ عماد أبو غازي، وهو غير ذي صفة آنذاك، ووعد بالاتصال بمن في سلطتهم إرسال سيارة مطافئ تحسبا لحريق. فكيف يدعي جابر، الذي أعلن استقالته، في خجل، لأسباب قال إنها صحية، «أن المذبحة التي ارتكبت بحق الشباب في ميدان التحرير دفعته إلى حسم موقفه وترك الوزارة». ("الحياة" 16 / 2 / 2011)، وهو شاهد الجريمة على الهواء مباشرة، ولم يهتز له جفن، ولم يحاول الاتصال بأي قناة فضائية، ليعلن التضامن مع الثوار، والتخلي عن الوزارة، والرهان على مستقبل وطن يغتاله مبارك ورجاله.

عقب استقالة عصفور سألته صحيفة (الوفد) سؤالين، ولم ينبض قلبه بالشجاعة للإجابة عنهما:

السؤال الأول: «عاصرت فترة تنحي عبد الناصر عن الحكم.. فهل تنصح الرئيس بالتنحي؟»

الإجابة: «لا تعليق».

السؤال الثاني: «ما هو سيناريو الخروج من الأزمة التي نعيشها الآن من وجهة نظرك؟».

الإجابة: «أرفض التعليق».

أجري هذا الحوار مساء اليوم الأربعاء، أو غد الخميس، ونشر يوم الجمعة (11 / 2 / 2011)، وفي مساء اليوم نفسه خلع مبارك. أحسب عصفور قد لامته نفسه الأمارة بالسوء كثيرا، إذ فوجئ بالتنحي، ولو كان يقرأ الثورة جيدا، لقال كلمة الحق، ورزقه على الله، بدلا من أن يضيق بها صدره، ولا ينطلق لسانه، أملا في أن يطول عمر الدكتاتور، ويفكر في الاستعانة به، إذ اختبره وتأكدت له قسوة قلبه الذي لا يهتز لسقوط الشهداء تحت سنابك الخيل.

بعد شهر من «موقعة الجمل»، تأكد لعصفور أن مبارك فعل ماض، فحسم أمره، وتحرر من حلف الشيطان، وتشجع على فك وثاقه، وسمي الثورة «الأيام الخالدة التي ستظل مضيئة»، وتناول قيام «الدولة البوليسية بقمع المتظاهرين بوحشية بالغة»، وتبين له أن «أنس الفقي أفسد الإعلام المصري»، وأن الحزب الوطني «أفسد الحياة السياسية في مصر، وتبنى مؤامرة التوريث... حزب مجرم بكل معنى الكلمة». ("الحياة" 2 / 3 / 2011). وفي استقالته قال كلاما كوميديا يليق بخارج من غيبوبة: «فوجئت بالتنبيه الخشن إلى أنها حكومة الحزب الوطني، وأنا لا أنتمي إلى هذا الحزب»، وكأنه كان يتوقع أن الذي يحكم مصر هو حزب العمال البريطاني، ويعلم جابر وغيره أن الحزب لا يفرق بين أعضائه والمماليك والموالي.

مساء اليوم في الميدان، لم ننشغل بجابر، فالثورة حياة، ولا بكاء على الموتى، وهو اختار، وسألني أحد أصدقائه في اتصال سريع: هل تعرف السبب الحقيقي لاستقالة جابر؟ قلت: «لا أشغل نفسي به يا دكتور». قال إنه اتصل بسوزان مبارك أكثر من مرة، ولم يجد ردا، فأدرك أن النهاية اقتربت، وقفز في اللحظة الأخيرة.

كان مساء أكثر هدوءا من مساء أمس. اتصلت بي زوجتي وقالت إنها ستعود غدا. كانت هي وأولادي خارج القاهرة، منذ صبيحة «موقعة الجمل» الأربعاء الماضي، واختلفنا بعد خطاب الفتنة الذي ألقاه مبارك مساء الثلاثاء.

قبل الخروج من الميدان رأيت الذهاب إلى شارع مجلس الشعب. كانت الخيام بطول الرصيف، وحلقات النقاش تصطخب، ومن نهاية الشارع من ناحية حي باب اللوق، رفع شاب يده بصحيفة لا نراها، وهو يهتف للثورة. اقتربنا منه واقترب منا، وكان يردد عنوان ملحق (شباب التحرير): «برلمان التزوير تحت حصار التحرير».

عبرت نهار النيل. في نهاية جسر قصر النيل وقف جنود الشرطة العسكرية لتفتيش القادمين إلى الميدان، ويردون تحية الخارجين الذين يحييهم سعد زغلول رافعا يده. يحظى هذا الرجل بتمثال أمام دار الأوبرا بالقاهرة، وتمثال آخر في موقع حيوي يطل على البحر المتوسط في الإسكندرية، ومن الطبيعي أن أفكر في مبارك الذي لا يتمتع بأي قدر من الحكمة، ويواصل عنادا سيحرمه أن يكون له شارع باسمه، أو تمثال كهذا يذكر الناس به.

كان سائقو الميكروباص قد عرفوا الطريق إلى الثورة، وسهروا من أجل الثوار، وحشدوا سياراتهم حول تمثال سعد زغلول، ومن هنا يتجهون إلى بولاق الدكرور والهرم والجيزة وفيصل، ومن دون استغلال حظر التجول لمضاعفة الأجرة. لقد أدركتهم روح الثورة.

الخميس 10 فبراير

لم أشأ أن أفتح التلفزيون هذا الصباح. لا الوقت يسمح بالتأخر عن مسيرة اتحاد الكتاب، ولا أنا مستعد لأبكي كما حدث أمس. التقينا عند بوابة دار الأوبرا، أمام تمثال سعد زغلول تقابل الذين بدأوا المسيرة من مقر الاتحاد بالزمالك، مع الذين تأخروا مثلي. وقفنا قليلا قبل عبور جسر قصر النيل، وتبادلنا التحية والتهنئة بالثورة. أدهشني تأنق بعض أعضاء مجلس إدارة اتحاد الكتاب، وحرصهم على ارتداء الزي الرسمي ورابطة العنق، في أجواء ثورية لا تسمح لكثيرين بتبديل ثيابهم أو الاهتمام بمراعاة تناسق ما يلبسون، ولكني رأيت من أطمئن على حالي في وجودهم، أمثال السماح عبد الله وعبد المنعم رمضان وجرجس شكري، وهناك أيضا بين بين، منهم مدحت الجيار الذي مد إلي يده، وأنا قاسي القلب أتذكر حديثه التليفوني للتلفزيون المصري، مساء 30 يناير، عن فضائل «خطاب التكليف» وتجديد الثقة بمبارك، وإعطاء الفرصة لحكومة أحمد شفيق، كما أتذكر كلامه المنشور في الأهرام المسائي (3 / 2 / 2011): «كم من دول كثيرة أطاحت برئيسها فعاشت في فوضى»، وقلت له: «والله لا أسلم عليك»، وتركت يده معلقة في الفراغ.

على الجسر علت هتافاتنا: «الشعب يريد إسقاط النظام»، و«إذا الشعب يوما أراد الحياة.. فلا بد أن يستجيب القدر». لم أسمع الهتاف الأخير في الثورة المصرية إلا اليوم، وكدت أترحم على روح أبي القاسم الشابي، لولا أن زاحمني عبد المنعم رمضان بكتفه وهو يرفع يده بصحيفة وصوته بالهتاف، وقلت له: «شفت التوانسة؟ خلونا نهتف بالفصحى»، ولم أبال بالجيار، وإن أشفقت عليه من قسوتي، وقدرت أن أبادره بالمصافحة إن رأيته، ولكننا كنا قد بلغنا مدخل الميدان، وقابلنا شباب الثوار بالتحية والترحيب: «أهلا أهلا بالكتاب اللي انضموا للثوار»، وأحزنني أن نعامل مثل ضيوف يزورون الميدان إبراء للذمة، وكان هذا ممكنا ومقبولا لو كان بيننا أحمد مجاهد أو عماد أبو غازي أو محمد صابر عرب، أو غيرهم من موظفي وزارة الثقافة المحسوبين على الكتابة قبل الوظيفة، ولو علموا أن بيننا وبين نجاح الثورة أربعا وعشرين ساعة لكانوا أول المشاركين.

صعد محمد سلماوي منصة إذاعة شباب الثورة، وألقى كلمة عن تضامن اتحاد الكتاب، في وقت مبكر، مع «ثورة الشباب»، وقاطعه صوت غاضب من خلفي، وكانت هالة البدري بجواري تبحث عن شيء تحتمي به من مطر يبدو في الأفق، وقالت لي: «جميل جدا أن يكون المثقف مجرد فرد في الزحمة». علا الصوت الغاضب مرة أخرى، كان محمود عبد السميع بخبرة مدير تصوير سينمائي يرفض تزوير المشهد، أو استبعاد أحد عناصره. ردد: «ثورة شعبية. ثورة شعبية شارك فيها الشعب كله»، فالملايين التي خرجت وثارت وزينت الميادين بالمحافظات تمثل الشعب كله، والشهداء من الأطفال والشباب والشيوخ ورود في خريطة باتساع الوطن. انتبه سلماوي وقال: «ثورة الشعب». ثم ألقى سيد حجاب قصيدة لاذعة، لم يخفف المطر من قسوتها، وتبللت الورقة، وحاول البعض حماية الشاعر من المطر، فأنقذوه وتلفت الورقة.

فاجأني شلبي أسعد، رأيته يربط رأسه بشارة، وينظم عملية الصعود إلى المنصة، وبينه وبين المنظمين حوار حول من يتكلم، وقال لأحدهم: «الأستاذ سعد القرش ....»، وأخجلني إطراؤه، فأفسحوا لي طريقا إلى المنصة، ونبهته إلى علاء عبد الهادي، فصعد وألقى بيان (نحن منكم ومعكم) الذي ناقشناه يوم الأحد 6 فبراير. لم أقل لشلبي إن بيني وبين الميكروفون شيئا من عدم الاستلطاف، وهو ألح وأخذني من يدي، وانتظرت خلف المنصة إلى أن تنتهي فتحية العسال، ولحقت بها ابنتها صفاء الطوخي لتساعدها على الهبوط، واشتد المطر وأنقذني من توجيه كلمة، وهممت بهبوط درجة السلم لأعود إلى الميدان، فقابلتني فتاة وأمها التي تقول ملامحها وملابسها إنها من حي شعبي. قالت لي الأم إنها تريد أن يذيعوا في مكبر الصوت اسم ابنها (أحمد سعيد محمود)، كان قد خرج يوم 25 يناير ليشارك في الثورة، ولم يعد. أعطيتهم اسم ابنها، ووعدوا بالتحري عنه، وإبلاغ أحد المراكز الحقوقية المهتمة بمساعدة أهالي الشهداء والمصابين والمفقودين.

قلت لشلبي: «شفت؟ المطر أنقذني!». ظننته لا يسمعني، ولم يكن مباليا بالمطر، وهو يحكي بفخر عن حالة الميدان: «في التحرير، نعرف الحقيقي من المزيف، تاريخ كل إنسان معروف، من هنا طردنا عمرو أديب، قلنا له: برة برة. وطردنا تامر حسني، بكى ولا العيال»، وأشار إلى حدود الميدان، والأصوات تعلو من أمام المسرح، وهتاف «الجيش أزاح مبارك» يرفع الهامات إلى مستوى المنصة، وهم يطالبون بإذاعته. انتبه شاب بيده مكبر الصوت، وأعلن بهدوء أنهم يتجنبون إذاعة الشائعات، ولا بد أن يتأكد لهم أي خبر من أكثر من مصدر قبل إذاعته، ولم يستبعد أن يكون النظام نفسه وراء هذه «الألاعيب»، ويحاول بها أن يفرق الثوار.

وقفت في وسط الميدان، أمامي على البعد تمثال الجنرال الذهبي عبد المنعم رياض، وعلمت بوفاة سعد الدين الشاذلي رئيس أركان القوات المسلحة في حرب أكتوبر. عاد الرجل من المنفى، ورضي بالسجن، رافضا أن يقدم لمبارك التماسا بالعفو، وقد حذفت صورة الشاذلي من لوحة الشرف الخاصة بحرب 1973، وأضيفت صورة مبارك، كما أوضحت بالفصل الخاص بيوم الأربعاء الدامي «موقعة الجمل». ومن ورائي تعانقت الأغاني الوطنية من إذاعات الميدان، وكلها تمتد من زمن سيد درويش في صعود ثورة 1919 حتى حرب 1973.

كنست ريح الثورة زبدا كثيرا وكثيفا عمره أربعون عاما، كيف لم ننتبه إلى خلو هذه السنوات العجاف من عمل غنائي محترم؟ ونلجأ مثل تاجر مفلس إلى رصيدنا القديم، حتى إن الذين راهنوا على خنوع الشعب، ظلوا ينتهزون الفرص بالترويج لجمال بن حسني مبارك بإذاعة أغنيات يرد فيها اسم (جمال)، ولم ينتبهوا إلى أن الغناء لاسم جمال وحده ليس كافيا، فالأغنيات تنتمي كلمات ولحنا وروحا إلى زمن آخر، وتحيل مستمعيها إلى زمن جمال آخر، من المستحيل أن يكون جمال مبارك. سألت نفسي: هل أدرك سعد الشاذلي في أيامه الأخيرة روعة الشعب في ثورته؟ أم مات اليوم حسرة على ما بلغه مبارك من عار الاستعانة والاستقواء بالعدو؟

مبارك أجرى اليوم اتصالا بقائد وحدة شكيد العسكرية في حرب 1967، الوزير الإسرائيلي بنيامين بن أليعازر. وسوف يقول بن أليعازر غدا الجمعة للتلفزيون الإسرائيلي إن محادثات هاتفية جرت مع مبارك أمس الخميس لمدة 20 دقيقة، وإنه «قال أشياء قاسية جدا بشأن الولايات المتحدة... أعطاني درسا في الديمقراطية، وقال: نرى الديمقراطية التي قادتها الولايات المتحدة في إيران، ومع حماس في غزة، وهذا هو مصير الشرق الأوسط. ربما يتحدثون عن الديمقراطية ولكنهم لا يعلمون ما يتحدثون بشأنه، وستكون النتيجة تطرفا وإسلاما راديكاليا».

وقال بن أليعازر إن مبارك تحدث باستفاضة خلال المحادثة الهاتفية بشأن «ما يتوقع حدوثه في الشرق الأوسط عقب سقوطه.. توقع أن يتضخم الأمر، لا تتوقف (الفوضى) عند مصر ولن يسلم منها أي بلد عربي في الشرق الأوسط وفي الخليج». وسوف يقول رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لقناة (العربية) يوم 20 / 7 / 2011 إن مبارك «كان صديقا عظيما لإسرائيل».

وسيقول بن أليعازر أيضا يوم 3 / 8 / 2011، حيث حضر مبارك، على سرير طبي متحرك، جلسة محاكمته في القاهرة: «هذا يوم صعب وحزين»، وقال إنه عرض على مبارك اللجوء السياسي إلى إسرائيل، لكنه رفض.

التفكير في العرض نفسه إدانة لمبارك، وهل تقدم إسرائيل مثل هذا العرض إلا لصديق؟!

حين كان مبارك يطلب اليوم الغوث من إسرائيل، سألني صديق: «سمعت بالكارثة؟»، وضحكت لأننا في انتظار نصر. قال إن شيخ الأزهر أحمد الطيب أفتى بحرمة التظاهر، وعدم شرعية الخروج على الحاكم، بل إن من يعصاه «ليس في قلبه مثقال ذرة من الإيمان». كدت أضاحكه بالقول إن الرجل غير جاد، ولعله يريد تحريم التظاهر غدا الجمعة، ورأيت أن هذا سيكون هزلا على هزل، وقلت إنه كلام مردود عليه؛ فنحن لا نعترف بمبارك حاكما منذ (جمعة الغضب) 28 يناير. وسألته: ماذا قال شيخ الأزهر عن الشهداء؟ فوجئ بالسؤال، وأجاب: لا شيء!

مبارك أيضا تجاهل الشهداء والجرحى، ولم يأمر بالتحقيق في جريمة «موقعة الجمل»، ولم يعتذر عن سلسلة جرائم طوال 17 يوما تتوج 30 عاما من الفشل، هو نفسه الذي يعلم أنه كنز استراتيجي لإسرائيل، ولا يجد حرجا في التحدث إلى العدو 20 دقيقة لكي يجد له مخرجا.

انتهت تحية الأمطار الصديقة، وتواصل العمل في دورات المياه بالميدان، وشغلني التفكير عن قراءة الفاتحة لروح عبد المنعم رياض وسعد الشاذلي، وكانت ساعتا القليلولة مشحونتين بانفعالات متضاربة. تابعت لقطات في التلفزيون لجنرالات يرتدون الزي العسكري، وكنت أتصل بالبيت، لأطمئن على عودة زوجتي وأولادي إلى القاهرة، وسط شائعات عن بلطجة وقطع طرق. ردت ابنتي سلمى (14 عاما)، واقترحت عليهم أن يأتوا الليلة إلى الميدان، فقالت إنهم متعبون من السفر، وسوف يأتون غدا الجمعة. أنهيت المكالمة بسرعة لأتابع التلفزيون المصري، وكان يذيع لقطات مصورة لاجتماع أعضاء المجلس الأعلى للقوات المسلحة برئاسة المشير حسين طنطاوي القائد العام للقوات المسلحة وزير الدفاع والإنتاج الحربي، وأصدر بيانه الأول، والساعة تشير إلى نحو الخامسة والربع:

«انطلاقا من مسئولية القوات المسلحة، والتزاما بحماية الشعب ورعاية مصالحه وأمنه، وحرصا على سلامة الوطن والمواطنين ومكتسبات شعب مصر العظيم وممتلكاته، وتأكيدا وتأييدا لمطالب الشعب المشروعة، انعقد اليوم الخميس الموافق العاشر من فبراير 2011 المجلس الأعلى للقوات المسلحة لبحث تطورات الموقف حتى تاريخه، وقرر المجلس الاستمرار في الانعقاد بشكل متواصل، لبحث ما يمكن اتخاذه من إجراءات وتدابير للحفاظ على الوطن ومكتسبات وطموحات شعب مصر العظيم».

كان لافتا للنظر أن المجلس ينعقد لأول مرة في غياب رئيسه مبارك القائد الأعلى للقوات المسلحة. الغياب المفاجئ لمبارك أثار الخيال، ورجحت أنهم عزلوه واستراحوا ليريحوا الشعب. وسوف يتبين أن أمس الأربعاء شهد نقاشا بين مبارك وابنه جمال ومندوب المبيعات الزبلكاني الذي أصبح وزيرا للإعلام أنس الفقي «الذي أصبح مقيما في القصر الجمهوري» حول خطاب كان يخطط أن يلقيه مبارك مساء الأربعاء، واستمر الجدل حول مضمون الخطاب إلى ما بعد منتصف الليل، لأن جمال والفقي رفضا أن يتنازل مبارك عن الحكم، وتقرر تأجيل الخطاب إلى اليوم الخميس. ("الأهرام" 8 / 4 / 2011).

مساء اليوم أعلن الأمين العام للحزب الوطني الحاكم حسام بدراوي أن من الحكمة أن يستقيل مبارك اليوم، وتضاربت أنباء تؤكد الاستقالة أو ترجحها أو تتمناها، ولكن الفقي اتصل بوكالة رويترز وأبلغ رسالة واضحة وموجزة: «مبارك لن يستقيل»، وأعلنت قناة العربية على لسانه أيضا، أن مبارك لن يقدم استقالته في خطاب سوف يذاع في العاشرة مساء اليوم.

أسرعت إلى الميدان. لاحظ الشاب الجالس بصحبة اثنين من البوابين في مدخل بناية بشارع قصر النيل تفاؤلي، ابتسمت وهو أعاد سؤاله التقليدي: «ماشي الليلة يا أستاذ؟». رددت بثقة: «آخر ليلة يا عمدة!». كان الناس يتدفقون باتجاه الميدان، من شوارع ينبع منها حالمون بالغد، يراهنون على الأمل، ويريدون أن يشهدوا ولادة مصر الجديدة، في ميدان التحرير أمام أعينهم وليس عبر الفضائيات في بيوتهم، يرغبون في الاحتفال بتحرير بلادهم وسط مواطني الميدان، جاءتني أول تهنئة من خارج العالم العربي، عبر رسالة نصية قصيرة:

Mabrooook

وبعدها لم يكن ممكنا أن أسمع رنين التليفون. أمسى الميدان جاذبا لموجات من المواطنين، بعضهم يزوره لأول مرة، والجميع يتبادلون التهانئ، قبل التوجه إلى أقرب مكان لشاشة قناة الجزيرة، أو لمكبرات الصوت في الإذاعات الأخرى، انتظارا لخطاب الساعة العاشرة، ولا أحد يريد إلا أن يسمع كلمة واحدة: «فهمتكم». هي ليلة الحشر، ليلة جمعة ستكون احتفالا بالنصر، بدل أن تكون «جمعة المواجهة».

كنت قد تلقيت رسالة على الهاتف من عبد الرحمن أبو ذكري، علمت منها أن الغد «جمعة المواجهة». تدعو الرسالة لمظاهرة مليونية في ميدان رمسيس «بعد الصلاة، بالتوازي مع اعتصام التحرير. أرسلها لعشرة على الأقل ممن تعرف». لكن تدفق مزيد من الفرحين يثقل الميدان، ولا يسمح لأحد بالحركة. وجاءت العاشرة، ولم يظهر الرئيس، أو يصدر بيان عسكري أو رئاسي يوضح سبب التأخر. ليس أمامنا إلا مزيد من الانتظار الذي يخفض سقف التوقعات، حتى يملأ الرئيس حجم الشاشة، ولكن الصورة ليست ثابتة، ظلت تهتز اهتزازا لا يعني الارتعاش، وإنما الاستجابة لتموجات شاشة قماشية تداعبها الرياح، وتجبر جسد الرئيس العجوز على الحركة بمرونة.

أخير تذكر الرئيس أن في مصر ثورة، سقط فيها شهداء، وأن هؤلاء لم يموتوا في حرب مع إسرائيل، أو صدا لغزو أجنبي، بل لتطهير البلاد من احتلال محلي مملوكي جعل من مصر شركة استثمارية. لا بد أنه غافل المحيطين به، وعثر على الريموت كونترول، وشاهد قناة فضائية أخرى بخلاف القنوات المصرية، وسارع إلى القول: «إن دماء الشهداء لن تضيع هدرا... لن أتهاون في معاقبة المتسببين عنها بكل الشدة والحسم.. وسأحاسب الذين أجرموا في حق شبابنا... إنني تألمت كل الألم من أجلهم»، ثم ألقى كلاما إنشائيا لا يعني أحدا سواه، عن تقدمه بطلب تعديل ست مواد دستورية، وتمسكه «بالمضي في النهوض بمسؤوليتي في حماية الدستور»، وهو لا يدرك، بسبب فرق التوقيت الثوري، أن الدستور انتهى عمره بقيام الثورة يوم 25 يناير، ونجاحها في تحرير ميادين التحرير مساء 28 يناير. كان يمكن الاستماع إلى مثل هذا الكلام يوم 24 يناير، أما السبعة عشر يوما الماضية فكل يوم فيها قفزة كبرى، وشرفة تطل على مستقبل لا تراه عينا حسني مبارك الذي يصر على عناده القديم: «ما لم ولن أقبله أبدا أن أستمع لإملاءات أجنبية تأتي من الخارج، أيا كان مصدرها، وأيا كانت ذرائعها أو مبرراتها». لم يكن الوقت مناسبا لاستنكار هذا الكلام، فالثوار أول من يرفضون الإملاءات، والثورة تستهدف اقتلاع مبارك وأركان حكمه، فما علاقة ذلك بالإملاءات؟

كنا ننتظر خطبة وداع واعتذار، ولكنه ألقى خطابا نرجسيا ذكر فيه اسم (حسني مبارك) مرتين،

إضافة إلى الإشارة إلى شخصه، والإفراط في المن على الشعب بما يراه تضحيات، وهو لا يعي أن أحدا لا يريد منه إلا تضحية واحدة وأخيرة، إذا كان ترك السلطة بعد ثلاثين عاما تضحية، وهو لم يفعلها، وإنما أصر على تذكيرنا في البداية: «إنني كرئيس للجمهورية»، ثم واصل استعراض المهام الكبرى التي لن ينجزها سواه، قبل أن يناقض نفسه قرب نهاية الخطاب معلنا: «رأيت تفويض نائب رئيس الجمهورية في اختصاصات رئيس الجمهورية». بعد هذه الجملة ضاق صدري، فسببت أبا الرئيس بصوت عال، كنت أترنح انهيارا، وكدت أبكي حسرة على أيامنا في التحرير، وصاح جاري الذي لا أعرفه: «اخلعوا الجزم»، فانتشرت الصيحة، وتناقلتها الألسنة، وحالت الأحذية المرفوعة في وجه مبارك بيننا وبين خطابه، ولم يكن يعنينا ماذا يقول؛ فالذي يمنح تفويضا لنائبه يمكنه أن يسحب التفويض في أي وقت، ويتفرغ لافتراس ضحاياه بعد التئام جراحه.

مرة أخرى يصير الغباء خطيئة. لا وقت للمناهدة والمساومات، تحولت مكبرات الصوت إلى منابر شعبية جماهيرية، علت الأصوات على الجمل الأخيرة لخطاب مبارك. كان الكلام قاطعا لا يقبل التأولي: تحميل مبارك المسؤولية عن دماء الشهداء، وتخيير الجيش بين مبارك والشعب، ووقف الحوار والتفاوض: «لا للحوار، لا للجنة الحكماء»، وارتفعت شعارات:

«مش عايزينك حاكم.. عايزينك تتحاكم».

«العصيان المدني التام.. حتى يسقط النظام».

«بكرة قبل العصر.. نهد عليك القصر».

كلمني مسعد صالح. كنت أستمع ولا أتكلم، قال بحكم دراسته لفنون الإعلان والصورة والتسويق إن الخطاب سجل على مرتين، ولم يكن أحد في الميدان ليلاحظ ذلك؛ فالصورة لا تستقر، تنساب مع الرياح. وحين راجعت الخطاب فيما بعد تأكد لي قول مسعد، إذ يصر مبارك في الجزء الأول والأكبر على التمسك بالسلطة، وأنه «عازم كل العزم على الوفاء بما تعهدت به... دون ارتداد أو عودة إلى الوراء»، وهذا يناقض قوله في نهاية الخطاب إنه فوض نائبه في اختصاصات رئيس الجمهورية.

كان عمر سليمان يلقي كلمة عقب خطاب مبارك، ونحن منصرفون عنه، منخرطون في نقاشات حادة ومحبطة، على خلفية أغنية عبد الحليم حافظ «خلي السلاح صاحي»، ثم يرتفع الصوت بالإعلان الدال: «عدونا غدار».

دعا سليمان الشباب إلى العودة إلى ديارهم وأعمالهم، وحذرهم أن ينصتوا «إلى الإذاعات والفضائيات المغرضة التي لا هدف لها إلا إشعال الفتن والعمل على إضعاف مصر وتشويه صورتها»، ولم ينس الاعتراف بأن «ما أعلنه السيد الرئيس يؤكد من جديد حسه الوطني الرفيع وانحيازه للمطالب المشروعة للشعب». لم يعترف سليمان بأن في مصر ثورة، واكتفى بالقول: «إن حركة شباب 25 يناير نجحت في إحداث تغيير»، ولم ينتبه إلا أن التغيير شمله أيضا، كنا قبل أسبوعين نرضى به رئيسا أو مفوضا تؤول إليه صلاحيات الرئيس، والآن لا نرضى إلا برحيله مع مبارك.

انصرفت جموع من شوارع طلعت حرب والتحرير ورمسيس، استجابة للدعوة إلى الزحف نحو القصر الجمهوري. كنت محبطا لا أريد الكلام، ولا أقوى على الحركة، إلى القصر أو إلى البيت، وشملت الميدان أجواء عزاء. إذا كنا في الميدان مبالغين في الآمال، فماذا عن أصدقائي المغتربين العرب الذين هنأنوني أول الليل؟

تحاملت على عبد الرازق عيد ونحن نعبر جسر قصر النيل. كنا صامتين، لعله حاول أن يتكلم ليخفف عني، ولم أكن أرغب في الكلام، كنت مشغولا ومهموما وغير متفائل تماما بغد الجمعة. ألقيت نفسي في سيارة عبد الرازق، واتصل أيمن بكر، وظل يتكلم ولا أجيب أو أعلق، ثم قلت له:

«اتركني الآن أرجوك، نتكلم بكرة».

أمام الباب جاءني من الداخل غناء وموسيقى هندية، ظننت أولادي تركوا التلفزيون مفتوحا، وناموا قبيل الفجر بعد تأخري في الرجوع، ولكن ملك (8 سنوات) أقبلت تحتضنني، وتزف إلي ما تراه خبرا سعيدا. كانوا نياما، وهي لم تجاملني بالقول إنها تنتظرني، بل قالت:

ـ «بابا، أنا بقيت بحب الأفلام الهندية».

استأذنتها في إغلاق التلفزيون. كنت جائعا، ولا أشعر بالحاجة إلى تناول أي شيء، وأريد أن أنام استعداد لجمعة لم يستقر الثوار على اسم لها، وجاملت ابنتي بابتسامة تحييها على الانحياز للأفلام الهندية، ولم أقل لها إن مراوغات مبارك، وتواطؤ رجاله على الكذب عليه وتضليله، جعلتنا نعيش ميلودراما تنافس في غرائبيتها الأفلام الهندية.

11 فبراير .. يوم مبارك الأخير

كنت أستقبل صباحات أيام الثورة بالتفاؤل. لم أكن قلقا إلا صباح يومي 28 يناير (جمعة الغضب) و11 فبراير (جمعة المواجهة أو الحسم أو التحدي). يشكل هذان اليومان قوسي حدث كبير، شهدت بعض أيامه مفاجآت تراجيدية، ولكنها كانت تفاصيل محتملة وواضحة، ويمكن التصدي لها وإن كانت دامية، مثل «موقعة الجمل».

في جمعة الغضب كانت المواجهة مع طرف معلوم هو الشرطة، في جولة أولى لمباراة لا يعرف أي طرف كيف تنتهي ولا متى. لم تتوقع الشرطة هزيمة سريعة في نهاية اليوم.

اليوم غائم، لا نعرف الطرف الذي سيخوض المواجهة معنا، ولا طبيعة أعضائه، ولا نوع أسلحته، ولا أماكن الفخاخ والانقضاض. هذه فرصته الأخيرة، وليس أمامه جولات تعويضية ليكون عاقلا في الخصومة، سيقاتل مثل انتحاري من أجل بقائه، وهو يعلم أن مصر، وفي القلب منها العاصمة الجديدة ميدان التحرير وامتداداته إلى التلفزيون والقصر الجمهوري، لا تتسع لنا وله، وبقاؤه يعني القضاء على الثورة والانتهاء من هذا الصداع.

رفضت اصطحاب أولادي إلى الميدان، كما وعدتهم أمس. لم أقل لهم إن اليوم مفتوح على أي توقع، ولا يمكن لعراف أن يتنبأ بالنهاية، ثم إنني لن أذهب مباشرة إلى ميدان التحرير. ودعتهم وخرجت لا أعرف إلى أين أذهب، وسمعت من راديو بأحد المحال البيان الثاني للجيش، ويتضمن إنهاء حالة الطوارئ فور الانتهاء من الظروف الراهنة، والتزام القوات المسلحة برعاية مطالب الشعب المشروعة: «وتؤكد القوات المسلحة على عدم الملاحقة الأمنية للشرفاء الذين رفضوا الفساد وطالبوا بالإصلاح»، وقفت أمام الجملة الأخيرة، وتساءلت: هل فعلها الجيش الذي التزم الحياد السلبي، غير المبرر أخلاقيا ولا وطنيا في «موقعة الجمل»؟ هل تسلم الحكم بالفعل، لتكون له سلطة الملاحقة أو عدم الملاحقة؟!

فكرت في التوجه إلى قصر عابدين، أو إلى مبنى التلفزيون، أو القصر الجمهوري، ثم حسمت أمري وأنا أفكر في الرسالة النصية التي أوصتني بالتجمع في ميدان رمسيس، أمام مسجد الفتح.

في مترو الأنفاق لمحت مقال حسن نافعة في (المصري اليوم)، بعنوان (جمعة التحدي قبل جمعة الزحف). استعرت الصحيفة لثوان، وجرت عيناي بسرعة بين السطور، قرأت المقال عموديا، هابطا من العنوان إلى السطور الأخيرة، بحثا عن يقين، عن أمل بالنجاة من يوم لا أعرف كيف ينتهي، إلى أن بلغت سطوره الأخيرة: «إن الشعب بات مقتنعا بأن الرئيس مبارك لا يريد أي حلول، ويصر على التسويف والمماطلة، لذا، سيخرج اليوم عن بكرة أبيه ليتحداه من جديد بالتنحي، وإذا لم يستجب هذه المرة فيسضرب له الأسبوع المقبل موعدا مع جمعة الزحف». (11 / 2 / 2011). قدرت أن حسن نافعة كتب مقاله قبل خطاب مبارك مساء أمس، هذا الخطاب الذي عجل بعملية الزحف إلى القصر الجمهوري، من الجمعة القادمة (18 فبراير) إلى مساء أمس (الخميس) واليوم (الجمعة)، هذا الخطاب الذي غير (جمعة الزحف) المقترحة يوم 18 فبراير، وجعل اسمها (جمعة النصر). بهذا الخطاب/الخطيئة يكون مبارك قد أسهم بشيء في نجاح الثورة، وهذا ما يكتبه أنور الهواري اليوم في (الأهرام المسائي) بكثير من الفخر بالرئيس مفجر الثورة!

تخلى خطيب الجمعة في مسجد الفتح عن الكلام العام. كان محرضا على الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد، وزاد حماسه فأظهر انحيازه للمسلمين لا للوطن، فانصرفت عنه، متنقلا بين عناوين الصحف على الرصيف المجاور للمسجد، كان يعنيني إلى أي حال صار (الأهرام المسائي) وأنا بعيد، وأقسمت ألا أعود إليه في عهد مبارك. كانت صورة مبارك تشغل قلب الصفحة الأولى، صفحة كاملة تخلو من الأخبار، وتخصص لعناوين ومقتبسات من خطاب مبارك المحبط أمس، تحت عنوان كبير بالخط الأحمر من كلمتين: (الوتد المصري).

أضحكتني حكاية «الوتد المصري». لو اطلع مبارك على الصحيفة فلا بد أن يعترض، لم يكن مجرد وتد يمكن اقتلاعه، أو كسره والاستغناء عن الجزء الغائص في الأرض، هو مسمار شائك ذو أسنان وأهداب وزوائد، غائر في قاعدة خرسانية، وعلى الرغم من إصابته بالصدأ، فإن نزعه صعب، ولا يمكن خلخلته إذ أصبح الحديد والصدأ والخرسانة كتلة واحدة، ومن الحكمة القيام بعملية إخلاء، لينتزع بكامل هيئته قبل التخلص منه، تمهيدا لتنظيف المكان من نثار الصدأ. ولكن ضيق الأفق، وقلة الخيال تسخط المسمار وتدا.

لكن الإساءة بحسن نية إلى مبارك في الصفحة الأولى، رد عليها إطراء هزلي في الصفحة الأخيرة. لم أكن أنوي أن أعكر دمي بما يكتبه أنور الهواري، لولا أن (الأهرام المسائي) حين فتحتها كانت تنطوي على نكتة، ولم أكن لألتفت إليها إلا حين رأيت الأنور يسقط عاريا على الرصيف، ويتصبب رأسه دما وعرقا، ولا يعنيه الارتطام، وهو يرفع مبارك بيده ليظل مسنودا، ولا يختلط بكائنات الاسفلت المؤذية. كان المقال يحمل عنوان (حسني مبارك).

حسبت كاتبه الهواري سيودع الرئيس بكلمة امتنان على ما أسبغ عليه من مناصب، أو يطلب إلى مبارك أن يودعنا بهدوء، ولم أكن أعلم أن جعبة أنورـ التي اتسعت لسباب مبارك وابنه ثم للهتاف لهما والإشادة بعبقريات صفوت الشريف وأحمد شفيق وغيرهما ـ تتسع لفكاهة لا يحتملها الموقف الملتهب. السطر الأول في المقال يقول: «حسني مبارك اختار أن يكون شريكا في ثورة الشباب»، هذا تزوير مزدوج، ليقل عن مبارك ما يشاء، ولكن الثورة في عموم البلاد لا تخص الشباب، هذا اختزال يؤكد عوارا في خيال الكاتب الذي نسب إلى مبارك ما عجزت قنوات وزير الإعلام الزبلكاني أن تنسبه إليه، وهو أن مبارك «قرر أن يختتم عصره بإطلاق الشباب في ميادين الحرية». المسألة إذن ليست مجرد شراكة في الثورة، كان بدء المقال بحكاية الشراكة مجرد «جر رجل» للقارئ، ليكتشف أن مبارك مفجر الثورة وقائدها، وأن المطالبة برحيله، وإسقاط نظامه عبث يمارسه مراهقون «هم الدليل على أن عهده لم يكن قمعا وكبتا وقهرا وتكميما للأفواه وإسكاتا للأصوات».

تفاءلت بيوم يبدأ بعنوان (الوتد المصري)، ثم بمقال وداعي فكاهي في الصحيفة نفسها لكاتب لم يعلن أن ذاكرته تعاني سقما، لكي ينسى ما كتبه في صحيفة (الوفد) يوم 29 / 9 / 2006، تحت عنوان (فرعونان في وقت واحد!) عن ازدواجية في قمة الحكم غير مسبوقة في تاريخ مصر: «وهذه الازدواجية التي تجمع مبارك الأب مع مبارك الابن... حتى فقد الناس لذة الحياة وبهجتها بصورة لم تعرف الانقطاع... فترة تخلو تماما من أي أمجاد أو انتصارات أو مفاخر أو أفراح قومية وجماعية... المرارة تسكن الفم، وهذا هو السبب فيما نشهده من موجات الاكتئاب القومي الشامل التي تغمر المصريين جميعا حتى استوت عندهم ظلمة الليل مع ضوء النهار، وانتقلت المرارة إلى أعين الناس وبصائرهم فلا يرون بصيص أمل نحو المستقبل، وبينما نحن كذلك جاءنا الفرعون الثاني ليأخذ مقعده إلى جانب الفرعون الأول، فازداد الشعب إحساسا بالألم المزدوج وبالمرارة المضاعفة».

طويت الصحيفة، وفيها الرئيس والأنور الذي اطمأن على عدم سقوط مبارك، وسارع إلى مسح دمائه وعرقه، ودخلت المسجد. جلست في الساحة، تحت شمس الله الحنون، مع رجال تصلهم عظات الخطيب من مكبرات للصوت.

كان الخطيب الذي لا أرى وجهه يتناول الشأن السياسي الجاري ببعض الحرج، يقول ولا يقول، يلمح ولا يفصح. تزايدت شكوكي في أنه لا علاقة له بالثورة، ولا يعرف كيف صار ميدان التحرير، ولا كيف نما وعي الثوار في عموم مصر، وقلت إنه رجل طيب وكفى، إذ يحث المحتجين على عدم استفزاز الجيش وتجنب الصدام معه، ويترحم على أرواح الشهداء، ويقدم التحية إلى «الثوار الذين ثاروا على الفساد». ولكن هذا الرجل الذي ظننته طيبا أفصح عن انحياز القوي إلى ما ينتمي إليه، انحيازا طائفيا لا وطنيا، إذ تساءل: «كيف تقوم دعوة للتغيير لا يقول فيها أحد: محمد رسول الله؟ أي تغيير بدون الإسلام؟ كيف يكون هناك تغيير إلا تحت راية الرسول صلى الله عليه وسلم؟». ثم قسم مصر إلى فسطاطين، وهو يرفع صوته في نهاية الخطبة: «اللهم العن الذين سرقوا أموال المسلمين»، وكأن سرقة أموال المسيحيين حلال!

سعدت بانتهاء عبء خطبة الجمعة، وعجبت لرجل وهبه الله الصوت الجهير، وحرمه الحكمة والحس السياسي أو الإنساني، إذ لا يراعي أن في مصر وفي ميادين التحرير، وربما في ساحة مسجد الفتح نفسه، ثوارا مسيحيين يسوؤهم أن يسمعوا كلاما طائفيا ينتقص من وطنيتهم، وخرجنا إلى شارع رمسيس قاصدين ميدان التحرير، مرددين هتافات:

«مطالبنا هي هي.. والخطاب كان تمثيلية».

«يا سيلمان يا سيلمان.. غور في داهية انت كمان».

مررنا بمنطقة التوفيقية، وانضم إلينا كثيرون، ثم بدار القضاء العالي ونقابة المحامين، وقد خلت هذه الشوارع من بلطجية انتشروا كالجراد لترويع الآمنين في «موقعة الجمل»، ولعل بعضهم تطهر من الخطيئة وجاء ليهتف معنا، إلى أن بلغنا ميدان عبد المنعم رياض. كان في المسيرة مكبران للصوت، ومن يملك مكبرا يتمكن من الاستبداد في توجيه التعليمات أو الإرشادات، وكان صوتي المجهد أضعف من أن يصل إلى كثيرين، ولكن البعض استجاب لاقتراحي أن نتوجه إلى التلفزيون، أما ميدان التحرير ففيه ما يكفي من الثوار. سلكنا شارعا ضيقا، يختصر المسافة، وعبرنا حاجزا صنعه الجيش، ثم بلغنا حاجزا آخر مستحيل عبوره، وبيننا وبين مبنى التلفزيون أمتار وجداران عاليان من الأسلاك الشائكة. سمعت من ينادي:

ـ «انزل يا وائل.. انزل انزل».

كان وائل غنيم في شرفة بناية تطل على التلفزيون ولا ترى النيل، وحوله مصورون وكاميرا تلفزيونية، وأطل من عل، ورفع يده بعلامة النصر. عدنا إلى شارع كورنيش النيل، ورفعت رأسي فرأيت شابا كأنه وائل في شرفة الطابق نفسه، ولكنه الآن يطل على النهر، وحوله مصورون وكاميرا، ونحن مشغولون عنهم وعنه، ولا أحد يناديه، وفرحنا بالوصول إلى مبنى التلفزيون، والسير في طريق كان مأوى لمؤيدي مبارك من أبطال «موقعة الجمل». فكرت في أولئك البلطجية البؤساء والمأجورين المضحوك عليهم والضالين، أين هم الآن؟ هل يشاهدون الفضائيات وأولها تلفزيون الدولة، ليروا حجم جريمة أسهموا فيها بنصيب الدم؟

ضقت بالجيش الذي سد أول الطريق بالدبابات والحواجز الاسمنتية والأسلاك الشائكة، وترك ممرا لا يزيد على متر واحد للعبور، ولكن الضيق تسرب، بعد تجاوز الحاجز، سالكا طريقا يخلو من الألغام والبلطجية والمنتفعين، وقد تطهر بثوار لا يحول بينهم وبين مبنى التلفزيون إلا جداران أخيران متوازيان من الأسلاك الشائكة، وصف أخير من الدبابات، وجنود متأهبين في الشرفات، يصوبون فوهات البنادق إلى الشارع حيث نقف. هتفنا بسقوط النظام، وسقوط وزير الإعلام، وكنا نكلم أنفسنا، وتأكد لي أن النظام سقط بالفعل، فلا أحد يعترضنا، ولا نرى من يدخل أو يخرج.

كانت أشجار الكورنيش قد أنبتت رجالا تسلقوها، وارتفع بعضهم ليصير في مستوى الجنود المتأهبين في الشرفات، وبارتفاعهم استغنوا عن مبكرات الصوت، ونحن نردد وراءهم: «العصيان المدني التام.. حتى يرحل النظام». ما أحسست به قبل قليل، تأكد لي الآن، فلم يطالبوا بإسقاط النظام الذي رأوه قد سقط حقا، ولم يعد هناك داع للمطالبة بإسقاطه مرة أخرى، وأصبح الشعار:

ـ «الشعب.. يريد.. محاكمة الرئيس».

لم ينس الثوار أن يضيفوا إلى الأرض المحررة أمام التلفزيون أحد مقومات الدولة، هنا يوجد «مستشفى ميداني. ماسبيرو».

نظرت عن يميني، فرأيت أفواجا ينضمون إلينا. قالوا إنهم لم يجدوا في ميدان التحرير مكانا، ولم تكن الثغرة التي جعلها الجيش ممرا إلى مبنى التلفزيون تسمح بمرور جيوش المتدفقين، فاضطر كثيرون إلى الهبوط والسير في طريق قريب من مياه النيل، حتى إن الناظر من منطقة الجزيرة المقابلة، إلى الشاطئ القريب من التلفزيون، سيرى أجسادا بشرية تتحرك كأنها فيضان، يغطي المسافة من صفحة الماء إلى الاسفلت صعودا إلى الأشجار.

لم تكن الشمس رحيمة بنا. رأيت ألا أتصل بأي صديق في التحرير، وأن أستريح قليلا، وأشحن التليفون، وأتصل بالعالم. عدت من أمام التلفزيون إلى وسط البلد مارا بنقابتي المحامين والصحفيين ونادي القضاة، والشوارع صامتة صمتا جليلا، لا وجود لأي شرطي، ولا أثر لأي بلطجي، والحركة هادئة كما يليق بعصر الجمعة التي لم يتفق الثوار لها على اسم واحد. كان التلفزيون المصري يبث لقاءات تنتقد سياسات الرئيس، وبعضها يتهمه صراحة، وخيل إلي أن شيئا ما سيحدث، ويتم التمهيد له، فأرسلت إلى أيمن بكر اقتراحا عاجلا، أن يكتب بيانا باسم المصريين في الخارج، للمطالبة بسحب الجنسية المصرية من مبارك، وكان عاطف سليمان يلح في الاتصال، ولا أجد وقتا للرد، ثم كلمته بعد دقائق، وتواعدنا على اللقاء في السابعة، واستعجلت أيمن، وفي انتظار رده فتحت الفيسبوك، ولم يكن في انتظاري شيء غير تقليدي.

كتبت في صفحتي على الفيسبوك:

«الأحذية التي رفعناها أمس قبل أن يكمل مبارك المخلوع خطابه أكثر شرفا وبلاغة من كلامه الفارغ. يا ترى من كتب خطابه بعد اختباء جابر عصفور في قفصه؟».

صنعت لنفسي مشروبا ساخنا، واستعجلت أيمن بكر مرة أخرى. قلت له إن الوقت لا يسعفنا، ربما يهرب مبارك غدا أو بعد غد، لا تسمح الأجواء له بأكثر من هذه المهلة، ولا بد أن نسجل موقفا بهذا البيان، ولديه في الكويت أصدقاء كثيرون، وفي الإمارات والحجاز آخرون سيرحبون بتوقيع البيان، ولدي قائمة بأصدقاء مصريين في أوروبا منحوني حق توقيع أسمائهم أيضا، ولكن الوغد لم يرد علي، وجاءت الأحداث أسرع منا.

كان التعب قد حل بي، وبدأت الاستسلام لحالة استرخاء لم أشعر بمثلها طوال أيام الثورة.

كتبت في صفحتى على الفيسبوك:

«تعبت جدا من المشي في الشوارع والميادين. مشي لم أجربه منذ خدمتي في القوات المسلحة عام 1990. ملعون أبو عناد الحمير».

وعلق سلام إبراهيم قائلا إنها رياضة: «وسط كل مظاهر المحبة والحماس النادر،
أنت تعيش في وسط لحظة تاريخية سوف لا تتكرر كثيرا. مبروك للشعب المصري، للشباب، ولك، أتابع لحظة بلحظة ما يجري عندكم وكأنه يجري بجسدي
».

لم يأتني البيان من أيمن. أفقت من الاسترخاء على إعلان التلفزيون المصري عن إذاعة بيان مهم. أسرعت إلى التلفزيون، وكان عمر سليمان قد فقد كثيرا من جسارته، ووقف مهزوما، وهو يلقي البيان الذي أوقف العالم على أطراف أصابعه:

«بسم الله الرحمن الرحيم. أيها المواطنون. في هذه الظروف العصيبة التي تمر بها البلاد، قرر الرئيس محمد حسني مبارك تخليه عن منصب رئيس الجمهورية، وكلف المجلس الأعلى للقوات المسلحة بإدارة شؤون البلاد. والله الموفق والمستعان».

صرخت بأعلى ما أملك من قوة لا أدري من أين أستمدها على الرغم من الوهن:

ـ «إلى الحجيم».

لم أكن خالي البال، ولا صافي الذهن، لأقرأ التناقض بين «تخلي» مبارك عن السلطة، ومنح نفسه سلطة «تكليف» الجيش بإدارة شؤون البلاد. هو تخلى فكيف تكون له صفة «التكليف»؟

لم أشغل نفسي بالتفرقة بين التخلي والتنحي، بين استقالة مبارك وعزله وخلعه.

ما يعنيني الآن أن بيانا قصيرا من 35 كلمة، بدأ بالبسلمة وانتهى بالتأكيد على توفيق الله، أنهى عصرا، وطوى صفحة سوداء، برموزها وأولهم مبارك ونائبه سليمان الذي سيدخل التاريخ كأول نائب رئيس لا يفعل شيئا إلا إلقاء أهم 35 كلمة غيرت مستقبل مصر.

لم تشغلني حيرة سليمان وانكساره، وانطفاء عينيه، وهو زائغ البصر، يلتقط الحروف لينطق الكلمات مضطرا. لم يشغلني إلا العدو إلى ميدان التحرير. لا أدري هل أغلقت الكمبيوتر أم تركته مفتوحا، ودسست التليفون في جيبي، وهبطت 21 دورا، وألقاني المصعد في الشارع، إلى ميدان مصطفى كامل، غير مبال بالشاب وصاحبيه البوابين في مدخل بناية بشارع قصر النيل. الشارع الذي تلقى من العجائز والمتعاطفين البصل والمياه الغازية في (جمعة الغضب)، يزدحم الآن بالزغاريد الهابطة من الشرفات نفسها، ومنبهات السيارات الصاعدة ترد التحية، وكلما اقتربت من ميدان طلعت حرب زاد عدد المواطنين من أعمار مختلفة، يهنئ بعضهم بعضا، ويتبادلون القبلات من غير سابق معرفة.

خلا ميدان طلعت حرب من البلطجية، ومن مسؤولي التفتيش الذاتي لحماية الثوار، فالكل في عرس يحتفلون بنصر صنعوه بالدماء والعرق والدموع. يسري حسان أول صديق قابلته، في شارع طلعت حرب أمام محل فلفلة، احتضنته وقلت له إنني لا أصدق، وأخشى أن أكون ميتا، ودخلت جنة لا تتسع لنا ولمبارك، فقال:

ـ «صدق. فعلناها، انتصرنا».

بلغت حدود الميدان وهنأت عزازي علي عزازي، وامام شركة بنها للإلكترونيات ألقيت نفسي في حضن محمد سعيد وبكيت. أجهشت بالبكاء كطفل تائه في الزحام، وهو يهدئني ويطمئنني:

ـ مصر حرة، وحسني برة. مصر حرة يا سعد.

بكى محمد سعيد تأثرا. التف حولنا البعض، كأننا نعرفهم ونألف وجوههم، هم أهلنا الذين نقابلهم ونتبادل معهم الكلام والقلق والمشورة منذ تحرير الميدان في (جمعة الغضب). أخفيت وجهي وتماسكت، وصمت سعيد، وابتعد كل منا عن الآخر، ولعله انشغل بأصدقاء، وجذبني عمق الميدان، لأكون قريبا من شاشة الجزيرة، وهي تعيد بيان إعلان الثورة بصوت نوارة نجم:

«بشكر الجزيرة. بشكر تونس. مفيش ظلم تاني. مفيش خوف تاني».

اتصل بي أصدقاء من عواصم أوروبية قلقين من نيران قالوا إنها تعلو في بعض زوايا الميدان. لم أكن أرى شيئا، ولا أستطيع الحركة، وطمأنتهم قائلا إنها ألعاب نارية، ورأيت رقم نوري الجراح، لم أسمع صوته في الصخب العالي، وقدرت أنه يسمعني فصرخت: «انتصرنا، مصر حرة»، وقلت إن اليوم كان مفتوحا على كل الخيارات والتوقعات، وإننا نستحق هذا الانتصار المنتزع، وسمعت كأنه يهنئ الشعب المصري والعربي، وقلت إن التحدي الحقيقي هو الاستعداد لمواجهة الفترة القادمة، فالبناء أصعب من الهدم، وعلينا أن نرفع طبقات من العفن والركام، لكي نؤسس البيت «على نظافة».

وخوفا من أي انقضاض للجيش على السلطة، علت في الميدان صيحات مبكرة:

«مدنية مدنية. مش عايزينها عسكرية».

كنا نخشى أن تفرض الأحكام العرفية، ولم ننتبه إلى لصوص أو متربصين، يقفون هناك على البر، ويستعدون للانقضاض على السفينة المتأرجحة، ويمدون الأيدي بالحبال، ليشدوا الوثاق، ويربطوها بقواعدهم، وإقصاء أهلها، وعدم السماح لهم بالصعود، واحتلال مكان هو حقهم بحكم المواطنة. لم يعلنوا إقصاء أحد، ولكنهم سارعوا إلى منح المولود اسما يخصهم، اسما إسلاميا، والثورة مخاض الجميع، أسهم كل ثائر فيها بنصيب، واسمها لا يخص قبيلة ولا فئة، والتعجيل باسم إسلامي لثورة تحرير وطنية، لا تنتمي إلى دين، بل إلى وطن، سرقة واضحة، «وضع» يد على طريقة البلطجية لصوص الأراضي.

كنا مشغولين بدق طبول الفرح، وسهرنا نغني ونهتف لمصر الصاعدة، وظهورنا عارية، ونشعر بالأمان مع الإخوان والسفليين، ولا ندري أن متشددون قد استعادوا ثقتهم بأنفسهم، ونشطوا على الإنترنت بحملات ترهيب، وكثيرا ما تلقيت في الأيام التالية رسائل كثيرة، أبرزها بطاقة على خلفية من صور الثورة، يعلوها هذا السطر: «إن لم تكن ثورتكم إسلامية.. فلا خير فيكم»، وفي أسفلها «ثورة على الظلم. ثورة على الفساد. ثورة على الذنوب. ثورة على العلمانية. ثورة على الطاغوت»، وفي أعلى الصورة قبضة قوية غير رحيمة، بجوارها «حملة تطبيق الشريعة الإسلامية»، أما الشعار فهو «إن الحكم إلا لله» بخط كبير، تليه بخط أصغر بقية الآية القرآنية «أمر ألا تعبدوا إلا إياه، ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون»، وقد وردت في سورة (يوسف). تقول الآية القرآنية، إن الإسلام ـ لو يعلمون ـ دين الأنبياء، هو إسلام الوجه لله، حتى قبل البعثة المحمدية.

عقب إعلان خلع مبارك، علت الدعوات إلى مدنية الدولة، في الركن المدني من الميدان، في نهاية شارع طلعت حرب. ثم تحركت بصعوبة من أمام شاشة الجزيرة، حيث ارتفعت نداءات: «الله وحده أسقط النظام»، ولم أستطع السكوت على ما رأيته مغالطة وإهانة لتضحيات الثوار، كانوا شبانا وفتيات وسيدات محجبات ومنتقبات. قلت لأحد الشباب إن هذا شعار عنصري، في الميدان مسلمون ومسيحيون، والله لم يسقط النظام منذ سنوات، ولو فعل لأعفانا هذا العناء. لم يخسف الله بأي دكتاتور الأرض، ولم يسقط عروش السفاحين في أي عصر، بل نحن من يفعل أو لا يفعل، ولا يتدخل الله في مصائر العباد وصيرورة التاريخ.

هز الشاب يده وكتفيه، في إشارة إلى قلة حيلته مع أمثال هؤلاء الذين هو أحدهم، وكنت حسن الحظ لأن الشاب عاقل لم يصبه تهور ديني دفع آخرين إلى السعار والاجتراء على الله والناس باسم حدود الله، حتى ارتكبت جرائم باسم الدين في وقت متقارب، وقد شرحت ذلك في مقال (قبل الغرق في المستنقع الوهابي)، نشرته في ("الأهرام المسائي" 28 / 3 / 2011، ثم في "القدس العربي")، وبعد نشره ببضعة أيام (انظر ملاحق الكتاب) قرأت لمحمد عمارة مقالا في عموده الثابت (هذا إسلامنا) إعادة لإنتاج الاسطوانة القديمة عن هزيمتنا عام 1967، باعتبارها هزيمة «لنماذج التحديث الغربية التي سوقها الاستعمار والتغريب والمتغربون في العالم الإسلامي... الجسد الإسلامي قد ظل رافضا قبول هذه الأجسام الغريبة عن هويته الحضارية وذاتيته الإسلامية وعصيا على التماهي فيها»، وقلت إن هذا ليس إسلام عموم المسلمين، فلماذا يدعي عمارة التحدث باسمهم؟ والأولى أن يكون عنوان عموده دقيقا (هذا إسلامي)، أما المسلمون الآخرون فيستبعد كثير منهم إقحام الله والدين في التفوق الحضاري، والصراع الحربي، وينزهون الدين عن هذه التفاصيل، بما فيها أن ينص الدستور على أن دين الدولة هو الإسلام، إذ يرون الغرب المسيحي والشرق غير المؤمن برسالات السماء أكثر تقدما وتحضرا واستقلالا، ولا يربطون بين التبعية والهزائم العسكرية أو الحضارية، ويصفون المد الديني على الطريقة الوهابية ارتدادا عن الدين والتحضر، في حين ينام عمارة قرير العين، منذ عقد السبعينيات الذي شهد «ظاهرة للإحياء الإسلامي متعددة الحدود والقوميات. وفي ذات العقد وضع بمصر دستور 1971 الذي أضاف إلى النص على أن دين الدولة هو الإسلام، أضاف أن مبادئ الشريعة الإسلامية هي مصدر من مصادر التشريع. ثم جاء تعديل هذه المادة سنة 1980 لتصبح مبادئ الشريعة هي المصدر الرئيسي للتشريع. هكذا بدأ التحول عن القبلة الغربية إلى قبلة الإسلام!». علامة التعجب لعمارة. ("القاهرة" 5 / 4 / 2011).

ثم نشر سمير فريد شهادة عنوانها (حتى لا يتحول الوطن إلى ساحات قتل)، سجل فيها أنه سمع شابا ملتحيا في ميدان التحرير «يوم النصر»، بعد الإعلان عن تخلي مبارك عن الحكم، وكان الشاب (يصرخ: «لا تقولوا انتصرنا إنما النصر من عند الله»، فعدت إليه وسألته أنت إخواني، فرد: «أعوذ بالله.. أريد قتل كل الإخوان.. أنا سلفي»، ففزعت من رده وقلت له: «إرادة الشعب من إرادة الله، والثورة لم تكن لقتل من يختلف معك، وإنما لنعيش جميعا في حرية»). ("المصري اليوم" 9 / 4 / 2011). أما محمد حسان فقال في ندوة نظمتها الدعوة السلفية في محافظة القليوبية يوم 9 / 6 / 2011 إن التغيير الذي نتج عن ثورة 25 يناير حدث «بإرادة الله وحده ولا دخل لبشر فيه»، وهو ما سيذهب إليه صفوت حجازي وآخرون!

لوح من ظن نفسه قويا، مهددا بفرض شروطه وخطابه، بادئا بالإقصاء، لاعتبارات دينية أو إيمانية. نسي الذين ابتلاهم الله بالهوس الديني أو الإيماني أن الميكروفون الذي يلوثون الفضاء بزعيقهم فيه قد صنعه الغرب الصليبي الكافر، وأن الثورة على الطغاة المسلمين، في مصر وتونس، ما كانت لتنجح لولا مخترعات صليبيين أناروا الطريق أمام البشرية، وأن هذه الوسائل التي لم نتعب في صناعتها أسهمت في إنقاذ الضحايا المسلمين من حكامهم المسلمين.

فجأة رأيت ميدان التحرير يسرق، تغزوه العباءات السود لسيدات، واللحى الطويلة والجلابيب القصيرة. كانت الهتافات طوال 18 يوما ترفع الوطن لدرجة العقيدة، ومن المستحيل أن تعرف دين صاحب الشعار، ولكن الليلة بدت كلحظة خطف الغنائم، واقتسام ميدان التحرير، وتوزيع فضائه وهوائه، ومكبر الصوت بيد مهووس ينادي:

ـ «تكبير».

فيرد المئات سعداء بالنصر:

ـ «الله أكبر».

الآن أرى الهرم قد انقلب أو يكاد. يقف على قمته المدببة، وتميل قاعدته مع الريح، وفي سقوطه سوف يسحق كثيرين، ثم يتسلقه الذين انتظروا هذه اللحظة، ويرفعون فوق قمته الجديدة رايتهم. انقلب الهرم فأمسيت أردد: «ذهبت الفكرة، وجاءت السكرة»، بدلا عن القول المأثور: «ذهبت السكرة، وجاءت الفكرة».

أخرجتني ابنتي سلمى من الاستغراق في نكد حل سريعا مكان الفرح. هنأتني بذهاب مبارك، واقترحت أن يأتوا إلى الميدان. رحبت فورا، فهذه لحظة لن تتكرر في عمري، ولا أتصور أن تشهد سلمى مثلها، إذ تعلم المصريون درسا طوال 30 عاما، وقد نجحوا الآن، والناجح «لا يعيد السنة».

أما الذين يحبون الدنيا، الحالمون بمصر على طريقتهم، المؤمنون بالثورة وصناعها، الرافضون للتجهم، المؤمنون بأن الله محبة وأنه جميل يحب الجمال، فقد أسهموا بنصيب رمزي في إسعاد الناس. كنا نسمعهم في الزحام، وهم يمدون أيديهم بالأكواب:

ـ «اشرب شربات التنحي مجانا».

رأيت أشرف الصباغ على ناصية شارع طلعت حرب، وهو يستعد لمغادرة الميدان. هنأته وهنأني، ونسيت أن أشكره على رسالته الفيسبوكية المبكرة في (جمعة الغضب)، كان مشهدا مبشرا لا يحتاج إلى أكثر من 36 ثانية لكي يرفع تونسيون علم مصر بجوار علم بلادهم. كان أشرف قد شهد ثورة تونس، ولم يكن ليفوته أن يشارك مصر ثورتها.

سألته: إلى أين تنوي أن تذهب؟ ضحك وقال إنه سوف يشد الرحال إلى ليبيا!

ودعته، وعبرت جسر قصر النيل. انتظرت عند دار الأوبرا، والشارع أنبت مواطنين من كل الأعمار والفئات، وقليلون يغادرون الميدان، وكثيرون يدخلون وبعضهم أتى لأول مرة، حتى إن أما شابة حملت رضيعها، وتحاملت على نفسها، وجاءت لتزور الميدان، وتري ابنها ميلاد مصر الجديدة. واصطفت السيارات، ولم يعد الشارع يتسع إلا للمشاة، وظلت هناك حارة ضيقة للعربات الخشبية (الحنطور).

هي ليلة الصخب. أغان وزغاريد ونفير سيارات، ونقاشات حول مفاجأة رحيل مبارك ومستقبل مصر. وحده كان صامتا، تابعته وأنا أنتظر زوجتي وأولادي، وهو لا يراني ولا يعنيه أن يراني. كان يقترب من حدود الستين عاما، يرتدي بدلة نصف كم، تذكرك بأفلام الستينيات وحلل جمال عبد الناصر المصنوعة في المحلة الكبرى. صعد فوق سيارته القديمة، ولوح بالعلم بيد، وبالأخرى حمل لافتة كتبها على عجل:

«تذكر يا مصري هذا التاريخ 11 / 2 / 2011».

انتظرت أكثر من ساعة. كانت شوارع الجيزة، مثل شارع التحرير لا تصلح إلا للمشاة، ولا مكان فيها للسيارات. قابلت أولادي في الدقي، وكان حسن طلب عائدا من الميدان متهللا. هنأته وتواعدنا على لقاء، وحملت ابني آدم (5 سنوات)، وأسرعت إلى الميدان، وهو يرفض أن يسير مع سلمى أو ملك، وكلما هددته بأن يمشي مثلهما قال بدهشة من ينتزع حقه: «طفل! طفل!»، مستعيرا كلامي لأخته حين تهم بضربه، أو تعنفه على خطأ ارتكبه. وحين دخلنا الميدان قال إنه يريد دخول الحمام. لم يستعد الثوار لمثل هذا الزحام، ولم ينته العمل في دورات المياه (كابينيه مبارك العمومي). انتظرت أمام مسجد عمر مكرم، وقالت ابنتي إن الزحام شديد في الداخل، وليس أمامنا إلا الانتظار، فلماذا يتصل أيمن بكر في هذا الوقت غير المناسب؟

سألني: سمعت أوباما؟ ضحكت وقلت إننا أنجزنا ثورة، ولم ننجز عشر دورات للمياه، وإنني في ورطة صغيرة، ولا أعرف كيف أتصرف مع ابني! وهو لم يسمع كلامي جيدا، وفهم أنني في الميدان لا أسمع أوباما ولا غيره، فقال إن أوباما صرح بكلام هو الشعر عن المصريين والثورة: «علينا أن ندرس الثورة المصرية للأجيال»، «يجب أن نربي أبناءنا ليصبحوا كشباب مصر». وفيما بعد سيتناقل أصدقاء عرب تعليقات أخرى لزعماء، منهم رئيس الوزراء الإيطالي سيلفيو برلسكوني القائل:

«لا جديد في مصر، فقد صنع المصريون التاريخ كالعادة».

وقال رئيس الوزراء النرويجي ينس شتولتنبرج:

«اليوم كلنا مصريون».

وقال هاينز فيشر رئيس النمسا:

«شعب مصر أعظم شعوب الأرض، ويستحق جائزة نوبل للسلام».

وقال ديفيد كاميرون رئيس الوزراء البريطاني:

«يجب أن ندرس الثورة المصرية في المدارس».

وقالت قناة سي إن إن:

«لأول مرة في التاريخ نرى شعبا يقوم بثورة، ثم ينظف الشوارع بعدها».

حملت آدم مرة أخرى بحثا عن علم مصر. لا تخلو يد كبير أو صغير من علم، ولعل بائعي الأعلام فوجئوا برحيل مبارك، فاختفت الأعلام، وكلما سألت بائعا اعتذر ودلني على آخر يرجح أن يكون لديه فائض: «يوم عيد يا أستاذ». ابتعدت عن الزحام، وأسرعت إلى ميدان طلعت حرب، وتركت ورائي فؤاد حداد يصيح بصوت سيد مكاوي: «الأرض بتتكلم عربي»، وتنافسهما في الطرب أم كلثوم، ولكنها تغرينا وتأمرنا: «عيشوا كراما تحت ظل العلم»، وأنا حائر لا أجد أعلاما، ثم عثرت عليها مع بائع شاب في ميدان طلعت حرب. اشتريت علما لآدم وعلما لملك، والتقطوا صورا مع تمثال طلعت حرب، وفرحوا بالألعاب النارية في الميدان، ثم توجهنا نحو المتحف المصري. رفعتهما فوق دبابة، ولوح كل منهما بعلمه، والتقطنا الصور. استأذن رجل أن نعطي ابنه الصغير علما يلوح به فوق الدبابة وهو يلتقط له صورة، وكانت سلمى تستعجل الذهاب إلى المنصة والإذاعة، فنسينا العلم مع الطفل الآخر، وكنت قد تعبت من حمل ابني، بعد يوم شاق من المشي والهتاف والنقاش والرد على المكالمات، وقد تجاوزت الساعة الثانية فجرا، وانتهت مرحلة العلم القماشي، وبدأ البحث عمن يرسم علم مصر على وجوه سلمى وملك وآدم، وطلبت ملك أن يكتب على جبينها كلمة «مصر».

ردد أولادي مع المحتفلين: «ارفع راسك فوق، انت مصري»، وضحكت سلمى من توجيه السخرية والاتهام بالسرقة لمبارك، عبر بيت من (الليلة الكبيرة)، بعد إبدال كلمة لتكون: «مع السلامة، مع السلامة يا ابن الحرامية». كان لديهم فائض نشاط ورغبة في التنزه بالميدان، ورؤية وجوه الثوار والمحتفلين بالنصر، وقد أصبحت الملايين من سكان القاهرة وضيوفها ثوارا ومحتفلين، وكلما قلت إنني أريد العودة إلى البيت طالبوني بالبقاء، ثم اشترط آدم أن أشتري له كشري، ولم أتردد في الموافقة، وأشار إلى بائع كشري على بعد خطوات، وكنت أتصل بعبد الرازق عيد، أريد أن أودعه، وجاء ليسلم علينا، ونحن بالقرب من مبنى جامعة الدول العربية. قال إن «الشباب»، يقصد الذين شكلوا فيما بعد (اتحاد شباب الثورة) وغيره، يخشون العودة إلى بيوتهم، يخافون أن يكونوا هدفا لموتورين من بعض أجهزة الأمن، وقد جمعوا أجهزة الصوت، ولا يشعرون بالأمان إلا في وسط الناس هنا في الميدان.

طمأنته قائلا إن مبارك نفسه أصبح فعلا ماضيا، كبيرهم هزم وهرب إلى شرم الشيخ، ولا يبكي عليه أحد. وقلت إنني مستعد للعودة من البيت إلى الميدان فورا إذا استدعاني، لن أنام بالطبع. وكان آدم يواصل البكاء، ويضرب الأرض بقدميه الصغيرتين، ويصر على شراء الكشري من الميدان، ولا أستطيع إثناءه عن فكرة أن الكشري هنا غير مضمون، ولو بإغرائه بشراء كشري وأشياء أخرى بعد الخروج. لم يبال آدم بقلق عبد الرازق على الشباب، ولا بتعبي وقلة حيلتي معه، فحملته وساومته.

هنأني مسعد صالح، وسألني عن حكاية الرجل الذي وقف خلف عمر سليمان وهو يلقي البيان. قلت إنني لم أر أحدا، كنت أنتظر خبرا واحدا، وفاجأني به سليمان، شكرا. ولكن مشكلة الكشري أكبر من إزاحة مبارك، وأحس آدم أنني أسخر منه، فحاول التملص، لا رغبة في النزول، وإنما في عقابي بالرجوع إلى كشري الميدان!

في الفجر رأيت إعادة للبيان الثالث للجيش يلقيه اللواء محسن الفنجري عضو المجلس الأعلى للقوات المسلحة. رأيته مطمئنا، إذ أقر الجيش «أنه ليس بديلا عن الشرعية التي يرتضيها الشعب»، وجاء في ختامه:

«إن المجلس الأعلى للقوات المسلحة يتوجه بكل التحية والإعزاز لأرواح الشهداء الذين ضحوا بأرواحهم فداء لحرية وأمن بلدهم ولكل أفراد شعبنا العظيم».

عند ذكر كلمة «الشهداء» صمت الرجل صمتا بليغا، وأخذ وضع «انتباه»، ويعني في اللغة العسكرية أن يشد الرجل قامته فيكون أكثر مهابة. ورفع الفنجري يده بالتحية للشهداء، ثم أكمل البيان.

تحية الفنجري للشهيد صارت من أيقونات الثورة، وتفوقت على أيقونة أخرى للواء حسن الرويني قائد المنطقة المركزية، وهو يعالج جرحا في وجه أحد مصابي الثورة أمام المتحف المصري.

التحية العسكرية رمز الولاء، تؤدى للقادة، للرئيس الجديد. وجاءت تحية الشهداء من عضو المجلس العسكري الحاكم اعتزازا بالثورة، واعترافا بالشرعية الثورية التي يقف لها الجيش «انتباه».

السبت 12 فبراير

لا شيء ورائي اليوم. لدي رصيد كاف من الإجازات، ويحتاج جسدي إلى ساعات نوم إضافية لأعوض أيام المشقة، فلماذا أستيقظ قلقا في الضحى؟ لا أصدق حلم أمس، وأريد أن يتأكد لي أنه لم يكن حلما. تحسست وجهي، ونهضت من دون تكاسل، ولم تكن القنوات الإخبارية وغير الإخبارية مشغولة إلا بما أشك في وقوعه، وتعيد إذاعة بيان نائب الرئيس الذي لم يعد نائبا للرئيس، ورأيت الرجل الذي حدثني سألني عنه مسعد صالح، في الفجر، خلف عمر سليمان، كانت عيناه تدوران مع عيني سليمان الذي لا يرى وجهه، ولكنه بمسؤولية الحارس يحمي ظهره، وبدا أنه مرهق لم ينم منذ أيام، وأشفقت عليه، وسمعت بيان الرحيل مرة أخرى، وقلت من جديد، بصوت أكثر هدوءا من صرختي أمس: «إلى الجحيم»، وتساءلت: كيف قضى الدكتاتور ليلته؟

بعد سكرة خلع مبارك أمس، جاءت الفكرة. هتف متظاهرون أنهم سيأتون غدا لتنظيف الميدان، وكان آخر شعار تردد واحتفظت به أذناي في الفجر لحظة مغادرة الميدان:

ـ «الشعب يريد إخلاء الميدان».

في الشارع جاءتي هذه الرسالة:

«ألف مبروك، ودعوتنا قائمة، وستصلك التذكرة. أرجو الرد سريعا».

هو الرقم نفسه، أما صاحبه فأذكر من مكالمات سابقة أن اسمه «مجذوب»، لا أعرف هل هو اسمه الأول أم لقبه. اليوم لم يوقع اسمه في هذه الرسالة المكونة من تسع كلمات. ثم حاول الاتصال أكثر من مرة، وأنا في طريقي إلى ميدان التحرير، وتجنبت الرد، لأنني لا أرحب بفكرة الابتعاد عن مصر أو القاهرة في هذه الظروف، ولا أملك القدرة على تكرار الاعتذار من فرط تهذيب الرجل، ثم إن صوتي لا يخرج، أمس تكلمت وهتفت وصرخت بأكثر مما أحتمل، وفي ضحى اليوم اكتشفت أنني غير قادر على الكلام. وبعد أيام، حين أزور السودان للمرة الأولى، حيث فازت روايتي (أول النهار) بالمركز الأول لجائزة الطيب صالح العالمية للإبداع الكتابي، سوف أسعد بأداء وأدب مجذوب عيدروس الأمين العام للجائزة.

بلغت ميدان الجلاء، ونظرت إلى تمثال طه حسين، وقلت ليته كان موجودا ليدرك أن أفكاره تثمر ثورات، وأن أحفاده على مرمى حجر من تمثاله بدأوا «تنظيف العاصمة». وزع شبان وفتيات المهام، من جسر الجلاء مرورا بدار الأوبرا وجسر قصر النيل فميدان التحرير، بعضهم يرفع القمامة في أكياس، وآخرون يكنسون الأرصفة ويزيلون الأتربة، وفريق ثالث يتولى مهمة طلاء الرصيف والأسوار الحديدية، أما أعمدة الكهرباء فحملت ألوان علم مصر، وكان شباب يغسلون التماثيل البرونزية لأسود جسر قصر النيل.

في مدخل الميدان حمل شاب لافتة تدعو الداخلين إلى «قراءة الفاتحة على أرواح الشهداء وروح حسني مبارك إن شاء الله»، وتجولت شابات يوزعن قفازات وأكياسا بلاستيكية على من يريد الإسهام في تنظيف الميدان، وكتب كثيرون على قمصانهم أنهم كانوا أمس ثوارا، واليوم يبنون مصر. الميدان اليوم «منور» بأهله وزائريه من المصريين والعرب، أما الأجانب فكانوا يحيون المصريين بابتسامة مصحوبة بالتهنئة:

Happy new EGYPT

خيمت نسمة سلام وسكينة على أهل الميدان. ظلوا ينظفونه بمحبة، مثل الشباب الذين يتولون تنظيف الأرصفة والأسوار خارجه، تأكد لهم أن البلد بلدهم. كنا نقول كلما أصابنا الاستياء من مسؤولين كبار يعبثون بمصير مصر: «البلد بلدهم»، ونواجه تجريفهم للبلد بلا مبالاة، كأن مصر لا تخصنا، ثم إن شيئا لا يتغير، أو هكذا ظننا إلى أن عادت إلينا مصر، بعد أن رأت أننا بذلنا الجهد اللائق بهذه العودة، وأصبح الشعب هو القائد، وهو ما لخصته لافتات اليوم:

«الشعب خلاص أسقط النظام».

«مصر حرة.. حسني برة».

«مصر حلوة من غير مبارك».

«لو لم أكن مصريا لوددت أن أكون مصريا».

لم أغير عادتي في الطواف بالميدان، وقد حمل أحد مداخله لافتة كبيرة «ادخلوها بسلام آمنين»، كأن الميدان هو مطار القاهرة الدولي. ثم رأيت في يد تمثال الشهيد عبد المنعم رياض علما مصريا مرفوعا، علقه أحدهم وذهب مطمئنا إلى أن «البلد بلدنا».

انتهت جولتي في الميدان، ورأيت أن أسلك مسارا مختلفا، عكس ما كنت أفعل طوال أيام الثورة، بالذهاب إلى (مثلث الرعب). نقابة المحامين التي رأيت البلطجية يحاولون اقتحامها يوم «موقعة الجمل» هادئة وآمنة، في غياب الشرطة، وفي مواجهة الداخل علقت لافتة كبيرة تقول: «المحامون وثورة الشباب يد واحدة»، وعلى يمين الباب علق بيان يقول: «قرر المحامون تطهير أنفسهم.. وقرروا منع دخول (النقيب) الأستاذ حمدي خليفة وأعضاء مجلسه المنتمين إلى الحزب الوطني إلى النقابة بأي صفة عدا كونهم محامين ليس إلا»، وقام أحدهم بمحو كلمة «الأستاذ»، إذ رأى النقيب غير جدير بها.

دخلت المكتب مهنئا ومتسائلا عما إذا كان ما حدث أمس حقيقة؟ وكتبت في صفحتي على الفيسبوك:

«مبروك لنا جميعا. للأسف صوتي لا يخرج منذ فجر اليوم. لا أصدق. وتساءلت في الصباح: هل كنا في حلم؟ إذن كيف قضى المخلوع ليلته؟ وهل وجد من يهاتفه؟»

اتصل بي أيمن بكر. أخبرني بفخر أن صحيفة (الرأي) صدرت بعنوان «عظيمة يا مصر»، ويعلوه بخط أصغر عنوان آخر «ميدان التحرير تمدد إلى القصر فسقط سيده..»، أما صحيفة (القبس) فكتبت في صفحتها الأولى: «هنا أم الدنيا»، ونسيت أن ألومه على البيان الذي تأخر، ولم يعد له جدوى، واستأذنته لأن محمد سعيد يرسل لي بخصوص حملة لإزالة اسم مبارك من المؤسسات، على يستبدل به «شهداء الثورة»، ورحبت بالفكرة، فأنشأ صفحة على الفيسبوك (جروب حركة شباب التحرير)، وجمعت توقيعات، وعممت الدعوة.

عدت للميدان مساء، والموسيقى تعانق السماء، والأغاني أكثر عمقا، والناس أكثر أمانا. كانت «الأرض بتتكلم عربي».

الأحد 13 فبراير

أحد بلون الثورة، أحد من دون مليونية، نحتفل فيه بالنصر، وتتواصل حملة تنظيف الميدان والشوارع المؤدية إليه. مازال صوتي مجهدا، وأفضل ألا أتكلم، وألا أرد على التليفون. الميدان تكسوه قمصان الشهداء، ممزقة قليلا وتتعمد بالدم، ولكن مصر، رغم البرد، خرجت «من الثلاجة» وتكلمت، وهي حين تتكلم على العالم أن ينصت.

اليوم وجدت في انتظاري بيانا مفتوحا تبنى حملة لمطالبة العالم بتجميد حسابات قادة نظام مبارك، تمهيدا لإعادتها إلى شعب مصر. سجل البيان أنه «في فترة رئاسة الرئيس المخلوع مبارك التي دامت 30 عاما، كانت أموال الشعب المصري تنهب نهبا منظما بواسطة النظام الحاكم وأذنابه من رجال الأعمال والمقربين للسلطة.. هذه السرقة تعتبر في الحقيقة بمثابة خيانة... الفجيعة أن ما قد حوله... النظام الحاكم السابق وأذنابه وأصدقاؤه إلى حساباتهم البنكية خارج مصر هو ما يقدر بين 200 و300 بليون دولار أمريكي على الأقل. والحقيقة المرة أن مصر، في تاريخها، لم تكن في حاجة لمثل هذه الأموال مثل الآن لإعادة بناء مصر التي خربها النظام الحاكم وبلطجيته».

اتصل بي أيمن بكر. حملني ذنب عدم مشاركته في الثورة، وكان يود أن يأتي إلى القاهرة لكي يبيت ليلة واحدة في الميدان، ويرجع في الصباح إلى الكويت. قال بحزم إنه آت إلى مصر، لا يحتمل أن يكون الآن بعيدا. قلت له إن هناك ألوانا من المشاركة الإيجابية، ونبهته إلى أن مصر تعاني بوادر أزمة سيولة، وعليه أن يفيد البلد بضخ قيمة تذاكر الطائرة، وأن يدعو غيره إلى تحويل ما يستطيعون من أموال.

صمت، وأدار الفكرة في رأسه، ثم سألني:

ـ تفتكر؟

ـ طبعا.

تركته وانشغلت بإرسال رسائل إلكترونية وضعت نصها في صفحتي على الفيسبوك أيضا. أعدت تذكير الأصدقاء بالدعوة التي كتبتها يوم الأحد 6 فبراير في صفحتى على الفيسبوك:

«للجميع في التحرير أو أي مدينة مصرية: قبل أن تتسرب الثورة من الذاكرة، نظرا لكثرة التفاصيل الإنسانية، وتلاحق الأحداث، أرجوكم سجلوا يومياتكم ومشاهداتكم منذ مغادرة باب المنزل، وكيفية الوصول والعودة، منذ اليوم الأول. سجلوا الآن ولو سطورا، ثم تأتي الكتابة لاحقا، واجمعوا ما تستطيعون من صور ولافتات، وسوف أتلقاها منكم لتصدر في كتاب أو أكثر من مجلد، توثيقا لحدث غير مسبوق، سيكون ملهما لأجيال لم تولد بعد. سأنتظر المواد بعد النصر».

أضفت إليها اليوم:

«هذه الدعوة موجهة للنبلاء فقط، لا مكان لمن يمسكون العصا من المنتصف، انتظارا لرؤية السفينة الغارقة، لينضموا لصفوف الشرفاء. لا مكان لمن عمل مستشارا أو تربح من وزارات: البترول أو الزراعة أو الإنتاج الحربي أو الإعلام أو الثقافة أو غيرها، أو استفاد من سفريات زاهي حواس أو فاروق حسني أو جابر عصفور، أو عمل براتب لدى جابر عصفور، مقابل نقل أخبار المثقفين.

لا مكان لشهود الزور: فوزي فهمي، وصلاح عيسى، ويوسف القعيد، ومحمد سلماوي، وعائشة أبو النور، والسيد يسين، وأنيس منصور، وخيري شلبي، وسامية الساعاتي، وأحمد عبد المعطي حجازي، وجابر عصفور (ترتيب الأسماء وفقا لصورتهم بعد مقابلة مبارك يوم 30 سبتمبر 2010)، ثم كتبوا في الأهرام مقالات يتغنون فيها بصحة الزعيم وشبابه الدائم.

لا نقبل توبة التائبين

في انتظار شهادة الشرفاء».

ولكن مصطفى عبادة اعترض على «لا نقبل توبة التائبين»، فحذفتها من رسائل إلكترونية لأصدقاء لم أكن قد أرسلتها إليهم منهم سوسن بشير. لم نكن قد التقينا طوال أيام الثورة، كنا نتواعد ولا نتقابل، ويحول الزحام دون سماع رنين الهواتف. جعلتنا الثورة نقابل كل يوم أصدقاء لم نرهم منذ سنين، وحالت دون لقاء أصدقاء آخرين كنا نقابلهم كثيرا. تبادلنا رسائل إلكترونية قصيرة، وقلت إنني لا أستطيع الكلام، وتواعدنا على اللقاء في مكتبة (آفاق) في الثامنة.

اتخذت طريقي الذي لم يتغير منذ 28 يناير (جمعة الغضب). من شارع قصر النيل إلى ميدان طلعت حرب فالتحرير. كانت الحشود تواصل الاحتفال بالنصر، ويتعالى الهتاف: «واحد، اتنين.. فلوسنا راحت فين»، و«ارفع راسك فوق.. انت مصري»، ومن بين أكثر من مئة ألف مازالوا في الميدان، كان البعض يهتف: «الشعب يريد إخلاء الميدان»، وخلف إذاعة الميدان، وراء ستارة كانت شاشة لقناة الجزيرة، حيث توجد غرفة عمليات الثورة، كان شباب ينامون من التعب، وآخرون يواصلون جمع أغطية في كوم كبير، تمهيدا لإخلاء الميدان.

غادرت الميدان. كان المرور ممنوعا في شارع مجلس الشعب، والشارع غارق في الوحدة والظلام والصمت، بعد أن أجلي منه المتظاهرون، هؤلاء الذين احتلوه الأسبوع الماضي، وأعلنوا منه سقوط النظام بجناحيه التشريعي والتنفيذي. سألتني سوسن عما إذا كنت أصدق ما جرى؟ قلت إن كل الشواهد تؤكد أن ثورة أزاحت مبارك، وأبعدته عن القاهرة إلى دولة مجاورة اسمها شرم الشيخ، وإنني أحاول أن أصدق، أن أستيقظ من الحلم، أو من حقيقة أكبر من قدرتنا على الخيال. روت لي جابنا آخر من (جمعة الغضب) في شارع قصر العيني، معركة لم أشهدها بسبب قبضة الشرطة في وسط المدينة، واقترحت عليها أن تكتبها، وقلت إنني سوف أبدأ الأسبوع القادم كتابة ما شهدته من يوميات الثورة، إذ نسيت كثيرا من التفاصيل، وربما تسعفني تعليقاتي في صفحتي على الفيسبوك منذ يوم 28 يناير. سألتني: ولماذا الأسبوع القادم وليس غدا؟ قلت إنني في إجازة من العمل، وأريد الاستمتاع بالكسل، حتى إنني لا أستطيع تلبية دعوة لزيارة قصيرة للسودان.

أبدت دهشتها:

ـ السودان؟

قلت إنهم يتصلون بي منذ الأيام الأولى للثورة، واعتذرت فورا، ثم اتصلوا بي مرة أخرى، وقالوا إنهم يريدون تكريمي! لا أحد في السودان يعرفني، فلماذا يريودون تكريمي؟! وبعد نجاح الثورة لم أستطع الرد على اتصالاتهم، ولكنهم يصرون على حضوري، ولا أريد مغادرة مصر، ولا القاهرة، يوما واحدا إلى أن يكتمل نجاح الثورة.

قالت: خليك هنا، مصر أحلى.

الاثنين 14 فبراير

اليوم ينزع الميدان ثوبه الثوري بهدوء. كان الشباب يواصلون تنظيف الميدان، وقصدت تمثال عبد المنعم، واتصلت بي رحاب عبد المنعم، ثم جاء اتصال آخر من سارة طعيمة، كان سؤالهما: متى ترجع للعمل؟

في بدايات الثورة، كنت أرد عليهما، وعلى من يوجه إلي هذا السؤال من محرري قسم التحقيقات الذي أتولى رئاسته: «بعد رحيل مبارك»، وحذرهتما الكلام عن الثورة مع أتباع أرامل نظام مبارك في الصحافة، أو الاقتراب من التحرير، لكي لا يشي بأي منهما أحد عيون «شرطة الصحافة» ممن يندسون في الميدان. في الأيام الأخيرة لم يعد سؤال عودتي إلى العمل مطروحا، وكانت الاتصالات للاطمئنان، واليوم قلت لهما إنني سأرجع بعد التعافي، ولم أحدد يوما. لم تقل لي أي منهما إنني «خلعت» من رئاسة قسم التحقيقات، ولن أعلم بذلك إلا يوم العودة (26 / 2 / 2011).

أنهيت المكالمتين، وانجذبت إلى تجمع صغير بالقرب من المتحف المصري، في موقع المستشفى الميداني رقم 6. وقف مواطنون ينتمون إلى فئات وأعمار مختلفة، منهم أطفال مع ذويهم، شكلوا دائرة حول نصب أقيم تلقائيا، فوق مكان عال كأنه مائدة يغطيها مفرش متواضع، وتعلوها صور شهداء، بعضها في إطار مذهب، وبعضها في إطار فقير، أو من دون إطار لشهداء فقراء، تطل من عيونهم القناعة والحرمان. بكت أم شهيد صغير، قبل أن تكمل قراءة الفاتحة، وكادت من الإعياء تشد المفرش، وتطيح صور الشهداء، وهي تقعد مستندة إلى أيدي الحاضرين.

رأيت وجوها لشباب لعلهم من الذين لجأوا معنا إلى مول طلعت حرب، هربا من الرصاص وقنابل الغاز في (جمعة الغضب). كانوا صغارا على الموت، وملامحهم تحمل براءة لا تقل عن براءة وجه خالد سعيد، قبل أن يشوهه رجال الشرطة والسلطة من مسؤولي الطب الشرعي، إلا أن خالد سعيد أصبح له اسم، وليس لكثير من هؤلاء أسماء ينادون فتنهض سيرهم، لكنهم ماتوا ولم يشهدوا هذا النصر، وبعضهم لم يكن يعي تماما ما الثورة، بعضهم في سن ابنتي، فلم أتمالك نفسي، وأجهشت بالبكاء، إذ أراني أخا لكل هؤلاء الشهداء، وأخفيت وجهي خجلا، ودخلت شارع شامبيلون.

حسبت شارع شامبيلون، الذي يزدحم بورش إصلاح السيارات، يسترني عن عيون من يمكن أن يعرفوني، فما الذي جاء الآن بإبراهيم عبد المجيد؟ لمحته قادما باتجاه الميدان، فابتعدت إلى الرصيف المقابل، وواصلت النظر إلى الأرض. لم ير أنني رأيته، وهو ناداني بصوت عال: «صباح الخير يا سعد»، تفصل بيننا سيارة وقليل من المارة ونظرتي إلى الأرض، وهذه أسباب كافية لكي لا أسمعه، وأستمر في السير.

عبر الشارع، وسألني:

ـ مالك؟

هززت رأسي في صمت، لكي يفهم أنني متعب، أو أعاني ألما في ضرسي، ولا أستطيع الكلام. سألني عما إذا كان أحد من أولادي قد أصابه سوء؟

انهارت قدرتي على التماسك. نظرت إلى الميدان، وقلت حروفا متقطعة أو كلمات متناثرة، عن الشهداء، والصور، والمتحف، والميدان، وأشرت إلى ناحية النصب التلقائي لصور الشهداء، فالتقط يدي، وقال إنني أرتعش، ودعاني للجلوس، فبكيت من جديد. هززت رأسه، وحاولت أن أقول له إنني سأكون بخير.

كاد إبراهيم يبكي، وقال إنه لا يستطيع الذهاب لرؤية صور الشهداء، ولكن ماذا نفعل؟

أكملت طريقي وغسلت وجهي في النقابة، ثم خرجت للرد على اتصال عمار علي حسن، وقد بادرني قائلا: «مبروك يا جميل»، وهنأته أيضا، وقلت إن التهنئة مستحقة للشعب كله، فقال إنه يهنئني بجائزة الطيب صالح.

ـ ايه جائزة الطيب؟

ـ الجائزة التي فزت بها في مجال الرواية.

ـ والله ما أنا فاكر، ولا أحد أخبرني.

تذكرت محمد عبد الحافظ ناصف. كان قد أخبرني بالجائزة، وقلت له آنذاك إنني غير مستعد، فليس لدي رواية جديدة. قال إنهم في الدورة الأولى لم يشترطوا أن يكون العمل مخطوطا أو منشورا. قلت إنني أحب رواية (أول النهار) عما سبقها أو تلاها من أعمالي، فقال إن الأمر يكلفك أكثر من إرسال الرواية بالإيميل. وقد أرسلتها، ثم أنستني الثورة الأمر كله، وبعد تسعة أشهر يثمر ذلك جائزة سأفاجأ، في حفل توزيع الجوائز بالخرطوم، بأنها الأولى!

سألني عمار:

ـ سرحت في ايه يا جميل؟

ـ أبدا، مندهش من المفاجأة. نشروا الخبر؟

ـ المسألة سر، وأنا فزت بجائزة في القصة القصيرة. اتصلوا بي، وأشاروا إشارة تصل لدرجة التأكيد، وقالوا إنك تتعالى عليهم، وترفض السفر للسودان.

ـ أتعالى على السودان؟ على جائزة تحمل اسم الطيب صالح؟

قال إنه سيصل بهم، ويبلغهم موافقتي، وقلت إنني سأرسل لهم الآن صورة جواز السفر التي طلبوها.

في الطريق إلى البيت أصابني شك. لم أحتمل الانتظار إلى الغد، وكتبت رسالة نصية قصيرة، ولكن الهاتف رفض إرسالها. أسخف رسالة صوتية أسمعها الآن أن الرصيد نفد، ولم يكن هذا وقته. قدرت أنهم في السودان ينامون مبكرا، إلا أنني أصررت على إيضاح الأمر إلى مجذوب عيدروس، وأرسلت هذه السطور، وكانت الساعة قد تجاوزت منتصف الليل بعشر دقائق:

«عاجل:

فاجأني الصديق عمار بفوزي بجائزة. وأخشى أن أكون خالفت الشروط التي لا أذكرها الآن وأضعكم في حرج. وتقتضي الأمانة إيضاح أن روايتي (أول النهار) نشرت 2005 بالقاهرة».

ولم يصلني رد حتى مطلع الفجر.

الثلاثاء 15 فبراير

نمت بعمق. أشعر بألم جراحة خطيرة تحتاج إلى وقت طويل للتعافي، ولا أريد الآن مغادرة مصر، ولكن رفض دعوة أشقاء أحبهم على البعد لا يليق، وقد أبرأت ذمتي قبل النوم، وأرسلت رسالة، ولم يأتني رد بعد مضي ساعات أمام نشرات الأخبار وبرامج فضائيات فتحت علينا مضخات التحليلات والسيناريوهات حول مستقبل البلاد والمنطقة. لم أغير عادتي في الاستعداد للذهاب إلى الميدان، كأنه جزء من أملاكي لا بد أن أطمئن عليه.

ردا على رسالتي، وجدت في انتظاري ثلاث رسائل قصيرة من محجوب عيدروس:

الرسالة الأولى:

«أرجو أن توضح كيف خالفت الشروط».

الرسالة الثانية:

«شكرا لك على التوضيح».

الرسالة الثالثة:

«شكرا لك على التوضيح وليس هناك شرط يمنع، على الأقل هذه الدورة، أرجو إرسال صورة الجواز الآن».

فشلت إذن خطة الهروب. لا بد من السفر، ثم إن الجائزة تخص «أول النهار»، الأثيرة، المحظوظة، قليلة الحظ أيضا. احتفى بها كثير من أهل الكار، من روائيين واثقين، لم يكن لهم هذا العمل عدوا، ففي ندوة بأتيليه القاهرة قال بهاء طاهر: «رواية سعد القرش نوع من الكتابة الأدبية الجديدة تماما.. رواية فاتنة، وجديدة بكل معنى الكلمة، فهي إبداع جديد في مجال التاريخ الفانتازي الذي لا أعرف هل كتب أحد فيه من قبل أم لا». ("الموقف العربي" 17 / 1 / 2006). وأشاد بها كتابة: عاطف سليمان، وخيري عبد الجواد، ومحمد العشري، وهشام بن الشاوي، وحسن حامد، ومن النقاد: جورج جحا، وفيصل دراج، وزهور كرام، ونهلة عيسى، وإبراهيم فتحي، وعزة هيكل، وحسين عيد. ظل الاهتمام في حيز النخبة، ثم جاءت جائزة الطيب صالح، على غير انتظار، لكي تعيد إلي الأمل في استقامة الأمور، ولو بعد حين.

خشيت أن أفرح بالجائزة. لم أقل لأحد إنني فزت، وسوف أسافر لتسلم الجائزة، حسبت ذلك خيانة للثورة، وصرف الانتباه، انتباهي على الأقل، عنها قليلا. وضع يوم 11 فبراير حدا أقصى للسعادة، أمدني بأجنحة تحلق في السماوات العلا، ولم يترك لي فرصة للفرح بأي شيء آخر، فليكن الفرح بالجائزة محدودا وسرا، حتى لو جاءت من السودان، وباسم الطيب صالح، ومن لجنة تحكيم لا تعرف اسمي.

اتصل بي عمار:

ـ كلمتهم يا جميل؟

ـ كله تمام، نتقابل في المطار.

قال إنه سيمر بي، ثم نذهب معا في سيارته.

الأربعاء 16 فبراير

هذا آخر أيامي في القاهرة. لم أخبر أحدا بالجائزة، ولا أود السفر، وأتمنى أن أتلقى اتصالا بتأجيل الحفل.

في صغري، قبل أن يكون السفر ممكنا، تمنيت أن يتاح لي منطاد ثابت في الأفق، ولو بعيدا عن نطاق جاذبية الأرض، لأراقب حركة الناس من بعيد، ولكن التورط في أجواء الترحال حقق لي متعة الرؤية والاستماع معا. حين أصبحت الرحلة ممكنة، اكتشفت أنني أزهد السفر، ولست مولعا به. قبيل كل سفر أتمنى إلغاءه، أشعر بالانقباض، ليس رهبة من الموت، لكنه إحساس غامض لا أعرف له تفسيرا. قبل ثلاثة أيام من سفري إلى الهند للمرة الثانية (صيف 2008)، اشتريت لأولادي سيارة. ظللت أستبعد فكرة اقتناء سيارة أو قيادتها، لشغفي بالنظر إلى ما حولي وأنا راكب بحرية لا تتاح لسائق. فاجأت أولادي بالسيارة، يقودها أخي أيوب. لم أخبرهم ـ حتى بعد رجوعي من نيودلهي ـ أنني كنت أشعر، قبل السفر، بملاك الموت ينتظرني في الهند، وأردت إعفاءهم من عناء شوارع القاهرة. في تلك المرة، أخطأني الملاك.

مررت بميدان التحرير. الديموجرافيا تتغير، ظهرت وجوه رجال الشرطة العسكرية من الضباط والجنود، وانصرف صناع الثورة، من الرجال والشباب المؤمنين بأن الثورة ليست مهنة، وإنما مرحلة يليها إتمام نسف البيت، قبل إعادة بنائه. كانوا حسني النية، فتركوا الميدان لوجوه لم تظهر من قبل، وليس صعبا قراءة الريبة في العيون.

ذهبت اللافتات الكبرى عن سقوط الرئيس، وظلت لافتات أخرى تتساءل عن ألغاز بقاء أركان النظام من دون مساءلة. ارتفعت عن الرؤوس قليلا لافتة تعلوها صورة شاب لم يتجاوز الأربعين، نبيل محمد المغربي، «أقدم سجين سياسي في مصر». اعتقل في عصر السادات عام 1981، لكنه أدين بالاشتراك في قتله! فيما بعد، في الأسبوع الأول من يونيو 2011، أفرج عن المغربي، سيكون شيخا طاعنا في السن، وقد ناء جسده الهزيل بثلاثين عاما في المعتقلات، ويعاني أمراض الكبد والكلى والسكر وضغط الدم وهشاشة العظام وضعف السمع والبصر.

الوقت لا يسعف، ولا يغري بطول البقاء في الميدان. كانت لافتات صغيرة ترتفع على استحياء تدعو إلى تطبيق ما يقولون إنه الشريعة الإسلامية، وجاءني من أصدقاء في الإسكندرية أن الشوارع تلوثت هناك بمثل هذه الملصقات. مررت بمكتب رويترز بسرعة. وجدت في انتظاري بيانا مفتوحا، وقعته وأعدت إرساله لأصدقاء.

البيان الذي جاء تحت عنوان (نحو دولة علمانية)، صدر قبل أن تنهي لجنة تعديل الدستور عملها، ولا يريد فيه موقعوه أكثر من استلهام دستور 1923، الذي اعتبر المصريين متساوين في الحقوق المدنية والسياسية، على عكس دستور 1971، الذي تنص مادته الثانية على أن «الإسلام دين الدولة، واللغة العربية لغتها الرسمية، ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع».

كان المشير محمد حسين طنطاوي رئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة أصدر أمس الثلاثاء قرارا بتشكيل لجنة لتعديل الدستور، على أن تنتهي من عملها خلال عشرة أيام. وتولى المستشار طارق البشري رئاسة اللجنة التي تضم في عضويتها أستاذة القانون الدستوري: عاطف البنا، وحسنين عبد العال (جامعة القاهرة)، ومحمد باهي يونس (جامعة الإسكندرية)، والمستشار ماهي سامي نائب رئيس المحكمة الدستورية العليا، والمستشار حسن البدراوى نائب رئيس المحكمة الدستورية العليا، والمستشار حاتم بجاتو رئيس هيئة المفوضين فى المحكمة الدستورية العليا (مقرر اللجنة)، وصبحي صالح المحامي الإخواني.

طالب البيان بتعديل المادة الثانية من الدستور الحالي، واستلهام الصياغة القديمة لدستور 1923 الذي تقول مادته الثالثة: «المصريون لدى القانون سواء، وهم متساوون في التمتع بالحقوق المدنية والسياسية، وفيما عليهم من الواجبات والتكاليف العامة لا تمييز بينهم في ذلك بسبب الأصل أو اللغة أو الدين»، وتنص مادته الثانية عشرة على أن «حرية الاعتقاد مطلقة»، وشدد البيان على احترام حرية التعبير الديني، وحرية ممارسة الشعائر الدينية، باعتبارها حقا مكفولا للجميع في ظل الدولة المدنية التي «يجب أن تظل بمنأى عن التيارات والأهواء الدينية، وأن تلتزم بالدفاع عن حقوق المواطنة، وأن تحث المواطنين جميعا على احترام القانون الوضعي الذي من شأنه أن يعيد للدولة المصرية هيبتها ومكانتها بين دول العالم».

لم يصلني أي إخطار بتأجيل الحفل. يجب أن أغادر المكتب بسرعة، وأن أختصر ساعتي القيلولة، وأستعد لمقابلة عمار في ميدان التحرير.

سحبت حقيبتي قاطعا الميدان من جسر قصر النيل، حتى قهوة علي بابا، حيث كانت هنا شاشة الجزيرة. كان شحاته العريان يقف مستندا إلى السور. لم يلاحظ أنني مسافر أجر حقيبتي، وأنظر في الاتجاهين لكي أرى عمار، وهو يحثني على ضرورة الإصرار على تنفيذ بقية مطالب الثورة، وأهمية الحضور بعد غد الجمعة، وأنا من الخجل لا أستطيع أن أقول إنني فزت بجائزة، وإنني أسافر الآن لتسلمها، وسوف أغيب عن الميدان 48 ساعة، وتفوتني (جمعة النصر). قلت له: «طبعا يا شحاته، طبعا». ولمحت عمار يقف على الناصية الأخرى، فأشرت إليه بقدومي.

لم يلاحظ شحاته العريان أن صديقا ينتظرني. حييته وأنا أستعجل عبور شارع التحرير: «سلام يا جميل»، فقال: «مبروك». عجبت له، وتساءلت: كيف علم بأمر الجائزة؟ وفي الحال تأكد لي أنه يهنئني بنجاح الثورة، وقلت له: «مبروك».

في مطار القاهرة اتصل بي أسامة عفيفي. حدثته عن بيان المثقفين، وقد نسيت إرساله إليه، وقلت إنه منشور في الموقع الإلكتروني لرويترز، ووكالة الأنباء الفرنسية، وهو يحدثني عن (جمعة النصر). جاءت ردودي مقتضبة، وهو لم يطمئن، وسألني فجأة:

ـ انت فين؟

قلت بتردد:

ـ في المطار.

ـ أي مطار؟

ـ مطار القاهرة.

ـ معقول؟ لكن خلفية الصوت تقول إنك فعلا في مطار.

ـ مسافر للسودان.

ـ سودان ايه.

ـ سودان الطيب صالح.

حدثته عن الجائزة، فهنأني من قبله. قلت إنني خجلت أن أخبر أحدا، واعتبرت الفرح بالجائزة أنانية، ومغادرة القاهرة خلاصا شخصيا وتفضيلا للجائزة على نصر لم يكتمل.

طمأنني أسامة. قال إن الأفراح تأتي بأفراح، وعلي أن أفرح كثيرا، ويكفي أن الجائزة تحمل اسم الطيب صالح، وتأتي من السودان، عقب نجاح ثورة 25 يناير. وكان علينا التوجه إلى الطائرة.

فجر الخميس 17 فبراير.. أحفاد عمر المختار

في الطريق إلى الطائرة، كان التلفزيون يعرض لقطات لمطاردات وصرخات واستغاثات.

كان أحفاد عمر المختار ينهضون!

 

الهرم

(25 / 2 / 2011 ـ 11 / 8 / 2011)

 

ملاحق

عن وهم المونديال وأشياء أخرى

هل تذكرون الصبي الذي فضح نفاق الجميع، حين قال بعفوية إن الملك عريان. كان السدنة والمقربون من الرجل الكبير قد أوهموه بأن الثياب التي سيرتديها لن يراها الخونة، وهم يتابعون الموكب. وخشي الشعب حتى أن يهمس، أو يشير إلى عري الملك، إلى أن قالها طفل، لم تكن سنه تؤهله للانضمام للحزب الحاكم، أو لحفظ الصيغ الجاهزة المفروضة على وسائل الإعلام.

غاب هذا الصبي عن أبطال قصة (بيت من لحم) ليوسف إدريس، وكانوا متواطئين، وصامتين، على جريمة هم أبطالها وضحاياها، ولم يتكلم الصمت. فماذا لو تابع ذلك الصبي المشهد المصري يوم الأربعاء (19 / 11 / 2003)؟ حين أصيب الرئيس، شأن أي إنسان طاقته محدودة، بحكم بشريته، وتم صك الأمر وتوزيعه على وسائل الإعلام، على أنه «وعكة صحية طارئة ألمت بالرئيس».

لا أهدف من استدعاء الصبي الأسطوري إلى التعليق على صحة الرئيس، أو نفاق رجاله، أو نفي أن تكون الوعكة حدثا «طارئا»، أو دعوة للاستراحة، أو تسليم الراية لجيل لا يعتمد في شرعيته على الماضي، أو التساؤل عن انتشار الجنود في الشوارع، كأن حربا توشك أن تبدأ. بل كان وجود الصبي ضرورة قومية، لإنهاء الهوس المصري «الرسمي»، بأننا الأحق بتنظيم كأس العالم، من دولة مؤسسات حقيقية، مثل جنوب افريقيا، حيث زهد رئيسها المناضل مانديلا في الحكم، فتركه مختارا، لأنه تقدم في السن، بعد أن أجهدته سنوات الاعتقال والحكمة.

أبسط القواعد المؤهلة لتنظيم أية بطولة، أو لكسب ثقة دولية ما، أن تكون الدولة دولة، بمعنى أن تتمتع بحد أقصى من الاستقرار، وهو ما يتحقق بوسائل يسميها العالم المتحضر مؤسسات. هذه الكيانات لها قواعد، وتعمل وفقا لمعايير عامة، متفق عليها، ولا تتوقف على رأس أوحد، يدبر ويفكر ويخطط ويتابع التنفيذ، باعتباره فرعونا أو نصف إله، ويرتبك الجسد في غيابه، لدرجة الشلل التام، بسبب غياب الرؤسة، كما في الأفلام المصرية.

ولنا أن نتصور أن «الوعكة الصحية الطارئة التي ألمت بالرئيس» (وفقا للصك الرسمي المصري) قد حدثت عام 2010، أثناء إقامة أربع مباريات، أو قبيل بدئها. في مثل هذه الحالة ستنشغل الفضائيات، عن مياريات ألغيت، ببث مادة مسلية، أشبه بملهاة لم تخطر على بال أوسع الكتاب خيالا!

من شأن هذه البروفة الحية، والصالحة لأن تكون سيناريو متوقعا لمستقبل البلد، أن تحظى بمتابعة واندهاش المشاهد، في عالم متقدم انتزع حريته بدم أبنائه، لدرجة لم يخف معها المخرج مايكل مور أن يعلن، قبيل الحرب الأمريكية على العراق وهو يتسلم جائزة أفضل أوسكار فيلم وثائقي: «نحن ضد الحرب يا سيد بوش. عار عليك عار عليك».

ولماذا نعبر المحيط، وأمامنا أمثلة من إسرائيل، حيث يقف شارون أمام سلطات التحقيق، متهما بالرشوة والفساد، ولم يجرؤ على القول إن أولاده جمعوا ثرواتهم من «المصروف الشخصي» مثلا. وسبق أن تابعت الفضائيات رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق نتانياهو وزوجته، وهما يدخلان مركزا للشرطة، متهمين بنقص «عهدة» تافهة من الملاعق والسكاكين. ولا ننسى أن إسرائيل لم تؤجل يوما المسألة الديمقراطية، إلى ما بعد الانتهاء من المعركة الكبرى مع «العدو العربي».

تنبع هذه الشفافية، من يقين بأن الرجل الكبير مجرد موظف يتقاضى راتبا، من شعب اختاره لأداء مهمة، لفترة يحددها الطرف الذي يدفع. وهل يحق لقائد طائرة أن يختطفها، شأن معظم حكام العالم الثالث يختطفون بلادهم مدى الحياة؟ في مثل هذه الحالة يحاكم، أو يقتل، أو يهرب كالفأر المذعور، ولنا عبرة في قائمة، تمتد من شاوشيسكو إلى بينوشيه إلى صدام.

فهل نصارح أنفسنا، ونعترف بأننا دون مستوى تنظيم هذه البطولة، ونوفر ملايين ربما تتعرض حاليا للنهب، تحت راية المونديال!

أما الاستمرار في الدعاية، فله وجه واحد حسن، هو التفاؤل بأن عشر سنوات كافية، لأن نتأهل سياسيا لمستوى الحدث، ولمستوى كرامتنا الإنسانية.

ــــــــ

("العربي" الناصري 7 / 12 / 2003).

* كتبت هذا المقال عقب ترنح مبارك، أثناء خطابه في مجلس الشعب، ولم يكن مسموحا بأكثر من مثل هذه الإشارات، وكان المسؤول عن ملف استضافة مصر لتنظيم بطولة كأس العالم 2010 وزير الشباب والرياضة آنذاك علي الدين هلال أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة، المهندس البارز لمشروع توريث مصر لجمال مبارك. وفي يوم السبت 15 / 5 / 2004 أعلن جوزيف بلاتر رئيس الاتحاد الدولي لكرة القدم (الفيفا) فوز جنوب افريقيا بتنظيم البطولة بعد حصولها على 14 صوتا، تليها المغرب التي نالت 10 أصوات، ولم تحصل مصر على صوت واحد، ومنذ ذلك اليوم أصبح «صفر المونديال» فضيحة وعلامة على الفشل، وشكلت لجنة لتقصي الحقائق، ولكن الكوارث توالت، من قطع مواطنين لطرق سريعة، اعتراضا على تعرضهم للعطش، في بلد النيل، وشهداء عبارة (السلام) في البحر الأحمر، ويزيد عددهم على شهداء العدوان الثلاثي على مصر 1956، وشهداء الخبز، وغيرهم.

ماذا أقول لابنتي يا سيادة الرئيس؟

سامح الله ابنتي سلمى؛ فمن غير قصد دفعتني لكتابة هذا المقال، بعد أن أقسمت ألا أقرب المقالات، حتى أنتهي من رواية أنجزت منها نحو أربعين صفحة في ثمانية عشر شهرا. كما جعلتني أقل وفاء لحكمة يتوارثها المصريون بالفطرة، وهي «السلطان من لا يعرف السلطان ولا يعرفه السلطان».

المسألة أن سلمى (عشر سنوات) فاجأتني بأنها لا تحبك أيها الرئيس حسني مبارك. طبعا أخذت على خاطري، ولم أعلن هذا، ليس تضامنا معك، ولكن إشفاقا عليك، فأنت في النهاية رئيس. ودائما أتفادى الكلام أمام سلمى عن الذين لا أحبهم، لكني أستفيض في الكلام عن رموزنا التاريخيين: تعرف ابنتي ملك (أربع سنوات) كيف تميز صور توت عنخ آمون من صور سلفه اخناتون، وتسمي الأخير «عمو» وتحب تمثاله النصفي في البيت. وليلة نقل جدنا رمسيس الثاني من ميدانه، حملت ملك على كتفي، وفي يدي سلمى، حتى أصابني التعب في ميدان التحرير. وبكت ملك وأنا أطلب إليها أن تودع الملك، وتلوح له. رفضت التلويح بيدها، لكنها أشارت كمن يستغيث «لا يا بابا: رمسيس.. رمسيس».

لم أحدث سلمى عنك، ولا قلت لها رأيا، ولا قارنت بينك وبين الرؤساء السابقين، أقصد الراحلين، موقنا بأن أي رأي أسكبه في رأسها نوع من المصادرة على حقها في الاكتشاف، وأنها يوما ستكبر، وتختار وتحكم، لكنها فاجأتني باستعجال هذا اليوم الذي ظننته بعيدا.

لو كنت مكانك رئيسا لمصر لقرأت هذا المقال ووعيته جيدا، وبحثت عن سر غضب طفلة تحلم بأن ترى في حياتها رئيسا آخر، وتتنفس هواء جديدا.

بدأت الحكاية بزيارتها قلعة صلاح الدين، وطلبت كاميرا لا أملك سواها، ولا أعرف نوعها، لكنها تسد الرمق في الرحلات والمصايف، منذ اشتريتها قبل سنوات بسبعة وستين جنيها. قلت لنفسي إن من حق سلمى أن تجرب؛ فإما تعلمت كيف تضبط المسافات والزوايا وتتحكم في الثواني الفاصلة بين رؤية العين وضغطة الإصبع، وإما أن تكسر الكاميرا وأخلص منها.. من الكاميرا طبعا منعا لأي لبس. في القلعة صورت سلمى من تعتبرهم أشرارا أو أخيارا: ريا وسكينة، ومحمد نجيب وجمال عبد الناصر وأنور السادات، ثم انصرفت. سألتها المدرسة (في أصل المقال المنشور كتبت "سيدة" بدلا عن "المدرسة" حتى لا يصيب المدرسة مكروه): لماذا لا تصورين الرئيس؟، فضحكت وهزت كتفيها وأجابت عن السؤال بسؤال من كلمة واحدة: «الرئيس؟!». فيما بعد، سألتها عن السبب، فقالت إن من صورتهم فعلوا شيئا واضحا، وسألتني: ماذا فعل الرئيس مبارك؟. قلت: شارك في الحرب قائدا لأحد الأسلحة. ردت ضاحكة، كأنها تلومني وتتهمني بعدم تصديق ما أحاول إقناعها به: «يا بابا؟!».

ولأنها كانت مشغولة بالاستعداد للسفر، بدوني لأول مرة، إلى الأقصر وأسوان، فقد آثرت أن أرتب لها كلاما معقولا، حين تعود. لكني متردد، ولا أخفيك طبعا أنها ستعود مشحونة بما قدمه الأجداد: تحتمس وحتشبسوت وسيتي والبناء الأعظم رمسيس. فماذا أقول لابنتي؟

فيما أعلم: لا صبر لك على القراءة، على الأقل بحكم السن؛ فبعد أيام يبدأ العام الثمانون من عمرك المديد، وربما تكون الثمانون سن الحكمة، والمصالحة مع النفس والشعب، والتفكير في أن يخصص لك التاريخ صفحة، لعلها غير موجودة الآن، رغم وجود صفحات أخرى بها كثير من الأعمال غير الصالحة. لا تتعجب، فأنت لم تمش يوما في شارع الجلاء، ولا ذهبت إلى قصر العيني أو معهد الأورام، ولا شاهدت مشهد يوم الحشر أمام مستشفى الجلاء للولادة، لتسمع من الناس، ملح الأرض، الذين لم ينصت إليهم صدام حسين، بل صدق أنه حصل فعلا على مئة في المئة في الاستفتاء الأخير قبيل سقوطه، ولم يفكر أن الله في علاه لم ينل هذه النسبة في أي وقت، ولا ينزل لعناته على ملحدين لا يؤمنون به. فماذا تقترح علي أن أقول لابنتي؟

هل أحكي لها عن الرؤساء العرب الأموات أحياء، ولن يدخلوا التاريخ باستثناء: الفريق عبد الرحمن سوار الذهب، والعقيد اعلي ولد محمد فال رئيس المجلس العسكري للعدالة والديمقراطية في موريتانيا. من الممكن أن أقول لها إن الملك فاروق الذي انتهى حكمه قبل 55 عاما، يكبرك بثماني سنوات فقط، وإن مصر كمؤسسة عمرها 5100 عام، تنهار منذ ربع قرن، ونحن في انتظار سماع ارتطام لا نملك منعه، وإن حيوية الدولة تكتسب من حيوية الرئيس والمؤسسات.. الشرعية بالطبع، وليس فريق الجوالة الذي استغل الفراغ السياسي من باب العشم، بمنح البلد مصروفا شخصيا يعبث به الابن، ويدير العجلة برعونة الجوعي. هل أقول لابنتي إن مصر تعيش حالة مزمنة تيبست فيها المفاصل، وتصلبت الشرايين، وإن أكثر من سبعين مليونا لا يعرفون مصير البلاد غدا، إذا حدث لك مكروه، ولعلك تتفق معي قليلا في أنك، في نهاية الأمر، بشر غير محصن ضد الشرور الممتدة من الموت الطبيعي إلى أعراض الشيخوخة.. في حالة السلامة.

سأقول لها إن المصريين الذين شهدوا فجر الضمير، على رأي هنري بريستد، وكانت بلادهم أصل الشجرة في التاريخ، كما قال الباحث الكندي سيمون نايوفتس، هم شعب طيب، مستعد للتسامح والتجاوز عن خطيئة ربع قرن من الجمود والبلادة، لم تشهد فيها مصر إلا زيادة في البطالة والأمية والفساد الوقح والبلطجة المقننة.

سأكون سعيدا، لو عادت سلمى بعد يومين، ووجدت أنك تأسيت بسوار الذهب السوداني والعقيد اعلي الموريتاني، واتخذت أكثر القرارات حكمة، ونويت صادقا أن تدخل التاريخ من الباب الوحيد المتاح الآن، ليسجل اسمك في الصفحة الواحدة الجاهزة لمثل هذا الدخول، وهي إعلانك التخلي عن الحكم، ورعاية انتخابات حرة، لا تشارك فيها، أنت أو ابنك الأستاذ جمال، أو أحد أركان حكمك، وهم لحسن الحظ قليلو العدد والعدة.

أعلم أنك تعبت، فإذا حسبنا فترات حكمك بالقرون لا بالأعوام، فإن أكثر من ربع قرن من حكم هذا الشعب مرهق للأعصاب، وربما تكون قد اشتقت لحياة طبيعية، تشاهد فيها عروض أفلام منتصف الليل، لأن بعدها استرخاء بلا صداع.

أتعبناك يا سيدي فاسترح، واعمل فينا معروفا. رد إساءتنا بإحسان: ازرع في نفوسنا أملا أخيرا، ولو مرة واحدة في العمر ـ عمرك لا أعمارنا ـ بالتخلي عنا. إذا كنا بلاء فنحن نعفيك، وإذا كنا نعمة فيكفيك ربع قرن وسنة، وليس في العمر ـ عمرك لا أعمارنا ـ ربع قرن آخر.

بالمناسبة: ألحت سلمى ولاتزال في طلب شخصي، أن أشتري لها تليفونا محمولا، ولو أدخر ثمنه من مصروفها. هل كانت على حق، وتحمل في وعيها الصغير نبوءة باتخاذك مثل هذا القرار، وتريد أن أبشرها باتصال سريع؟

لا تخذل ابنتي، فبعد يومين ستعود. أريد أن أقول لها إنك اخترت لقب «الرئيس السابق»، وإنها أخطأت حين تجاهلت تصويرك في القلعة، وأساءت الظن بك. أريد أن أكافئها وأشتري لها موبايل، لأنها استعجلت حلما، فصار واقعا. الواقعية، كما تعلم، أسوأ ما في حكاية رئاسة الدولة، أدعو الله أن يمنحك بعض الخيال، ففي البدء كان الخيال.. وفي النهاية يكون!

ــــــــــ

(نشر في «الدستور» القاهرية 28 / 3 / 2007، و«القدس العربي» لندن 4 / 4 / 2007).

وفاز بجائزة "المقال السياسي" من نقابة الصحفيين لعام 2007، مع مقال آخر للكاتب عنوانه "المصريون يكتشفون الله".

ــــــــــ

من التعليقات في موقع "القدس العربي" بعد النشر:

الفكرة ممتعة، واذا كان هذا اسمك الحقيقي وتعيش في مصر فهذه جرأة.

سهيل كيوان ـ فلسطين.

ـــــــــ

تحية عطرة أخي سعد القرش، في الحقيقة هذه أول مرة أقرأ لك فيها وأرجو أن لا تكون الأخيرة، كما يقال في الموروث الشعبي "المكتوب يقرأ من عنوانه" لفت نظري العنوان، قرأت المقال الجميل مع قهوة الصباح، استمتعت جدا بقراءة ما جادت به أفكارك، وهي فكرة سلمى، التي أوحت لك بكتابته. أسعدك الله في دنياك وآخرتك مثلما أسعدت كثيرا ممن قرأ المقال وأنا واحد منهم، وأسعد الله ابنتك وألهمها أفكارا جميلة لتوحي لك بالكتابة، وأسأل الله أن يحقق رغبتنا ورغبتك بأن يتنحى " الرئيس" قريبا وبأي طريقة كانت، وممن على شاكلته من زملائه‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍!!!!!!

عدنان أبو بكر / فلسطين.

ــــــــــ

قسم بالله ذلك حدث فقد ركبت تاكسي بالقاهرة وكنا نتناقش فيما يجري بمصر وأقسم لي سائق التاكسي بأن ابنته 6 سنوات أحضرت لها مجلة وكان بداخل المجلة صورة لرئيسنا المحبوب فقامت بتقطيعها فقلت لها وهذه رواية عن السائق فقالت أنا لا أحب الرئيس، فالاستفتاء على الدستور كان استفتاء على الرئيس وهذا ما حدث في الانتخاب الرئيس وفي جميع الاستفتاءات الماضية، الشعب مغيب ومشغول بأمور المعيشة كل واحد عايز موبايل وهاتف في المنزل وسيارة ودش وجميع الفضائيات عشان كدة الكل مشغول وينطبق عليهم الآية ربنا شغلتنا أموالنا وأولادنا.... وكل مشغول الشعب مشغول بحياته والنظام مشغول بحاجات ثانية وافتكرت أغنية أم كلثوم لما قالت أنا الشعب أنا الشعب لا أعرف المستحيل، فلا بد أن يجئ اليوم الذي يفوق فيه بعد ان استباحت نسائهم وأولادهم في البيوت وفي المدارس وبيعت ثرواتهم. سيدى اين العدالة أين الحكماء لقد أقسم الرئيس أربع مرات على أني حافظ على الدستور ولم يحافظ على الدستور الدستور كل مواد كانت القطاع العام والاشتراكية وحول البلد إلى رأسماليه فأين المحافظة على الدستور، الدستور القديم يقول بأن القضاه يشرفون على الانتخابات والاستفتاء الذي تم في ظل الدستور القديم لم يلتزم الرئيس ما جاء به وطبق الدستور الجديد في الاستفتاء الجديد وكل سنة وانت طيب وبعد شهرين حيكون الانتخاب الجديد، والشعب حيكون منتخب وتايه يا ولاد الحلال ما حدش شاف شعب عريق وعظيم تايه وسياب أموره إلى.... سامحهم الله وحزبنا الله ونعم الوكيل.

مهتاب الونش

ــــــــــ

لماذا أنت حاقد على هذا الرئيس إلى هذه الدرجة فهو ما زال في ريعان شبابه ولم يزد عمره عن 79 ربيعا والدليل علي ذلك انك لن تستطيع رؤية أي شعره بيضاء من شعر رأسه.

محمد دبش

ـــــــــ

رجاء لا تقسم مرة أخرى بأن لا تكتب مقالات. نريد قلمك هذا في مقالات أخرى قادمة إنشاء الله.

صفاء علي

ــــــــــ

العزيز سعد القرش/ أضم صوتي لصوت المبدع سهيل كيوان أنك إن كنت تكتب باسمك الصريح وبهذا الشكل وأنت في بلدك، فمصر بخير.

فيصل عبد الحسن.

أربع نصائح قبل أن تركب سيارة الترحيلات

كان المشهد أمام مستشفى الجلاء للولادة بشارع الجلاء جديدا تماما. مظاهرة طازجة احتجاجا على إبادة الفلسطينيين في غزة. طبيعي أن تنبت المظاهرات في الجامعات والميادين وحول مثلث الرعب «نقابتي الصحفيين والمحامين ونادي القضاة» في وسط البلد. لكن شارع الجلاء ـ الذي فيه يولد فيه الناس، وفيه يقتلون ـ لا عهد له بالمظاهرات، بالذات أمام مستشفى تعودنا أن تولد أمامه سيارات الأجرة والفوضى والتلوث والزحام. قلت لبهاء حسين متفائلا: لا غزة ستموت، ولا الأمل هنا.

كنا قادمين من اتحاد الكتاب، بعد المشاركة في وقفة احتجاجية صامتة، لا يحتمل حي الزمالك إلا مثلها من فرط هشاشته وأرستقراطيته. سلمت على بهاء طاهر وقاسم عليوة الذي قال لي بأسى إنه رأى في ميدان التحرير، قبل ساعتين، عناصر الشرطة تضرب فتاتين، وتدفعهما بالقوة إلى داخل سياراة الترحيلات. لم أتخيل أن يزج بي في سيارة مماثلة بعد دقائق.

فبعد عبور شارع الجلاء بسلام الله، بلغنا شارع رمسيس، وشاهدنا مظاهرات نوعية، تحدث في مصر لأول مرة، شبيهة بما يدور في حروب العصابات، في فيتنام في الستينيات، وجنوب لبنان 2000 و2006، وغزة 2008 و2009. يتظاهر عشرون مواطنا أو أقل، فيحيط بهم العشرات من جنود الشرطة، يطبقون على أنفاسهم، يعتصرونهم عصرا. يختنقون ويخرجون نافضين رؤوسهم باحثين عن بعض الأوكسجين، ويهتف أحدهم بحياة فلسطين، فينضم إليه عابرون، ويكون آخرون من الناجين من معصرة الشرطة قد هتفوا، بلا اتفاق، في مكان آخر، فيجذبون إليهم مواطنين، وتنقسم المظاهرة الأولى الصغيرة إلى مظاهرات عنقودية تتوالد تلقائيا، بإبداع يعجز عن ملاحقته خيال ضباط الشرطة، وسوف أحدثك عن هذا الخيال المنقوص.

حاولت دخول شارع عبد الخالق ثروت. قال لي ضابط كبير «ممنوع»، لم يكن لدي وقت لأفهمه أن حظر التجول في هذا الشارع غير قانوني ولا دستوري، لا المقام يسمح، ولا مرارتي تحتمل، ولا هو مستعد. قلت له إنني أريد دخول «نقابتي»، حين جاء لواء شرطة، مزهوا بصقرين وأربعة سيوف متقاطعة على كتفيه، قلت مرة أخرى إنني ذاهب إلى النقابة، ولكن ماذا تقول لمن حرمه الله نعمة الخيال، وسلبه البصيرة، حتى إنه يخاف أن يقوم كاتب، أو صحفي، أو مواطن عابر، بإشعال فتيل مظاهرة أمام نقابة الصحفيين، في شارع يخلو من أي مخلوق. لو افترضنا أن هذا الإنسان سيء النية، وأن نفسه الأمارة بالتظاهر سولت له ارتكاب فعل الصراخ في الشارع، فلن يسمعه أحد، سيرهقه الهتاف، ثم يلجأ إلى النقابة، أو يأوي إلي ركن شديد.

أقترح ألا يتخرج أحد في كلية الشرطة إلا بعد النجاح بتفوق في مادة الخيال. ما الجريمة التي يمكن أن يرتكبها عشرات المواطنين في معرض الكتاب مثلا، داخل أسوار عالية، لكي تحاط أرض المعارض بعشرات المصفحات، وتصطف داخل المعرض 21 سيارة مصفحة، وتضخ في المكان مئات أو آلاف من الجنود، كأننا مقبلون على حرب، قل هذا الكلام فيما يخص الجامعات والنقابات. لو تمتع صاحب السعادة والصحة الوافرة اللواء المتين ببعض الخيال لسمح لي بالمرور، بدلا من مشادة وشجار انتهى بانصرافه هو وأكثر من عشرة من ضباطه عن «واجبهم المقدس» تجاه متظاهرين مسالمين، لينفسوا عن بعض ما يعانونه من كبت.

لو أنك مكاني، وأحاطك الضرب من كل جانب، فسوف تحاول أن تحمي رأسك بيديك، وتوسع زاوية ساقيك لتتفادى السقوط على الرصيف. فماذا تفعل حين تفاجأ بضربة حذاء غبية من ضابط أكثر غباء في «محاشمك». بتلقائية وضغت يدي بين فخذي، فجاءت الضربة التالية في الوجه، وسقطت النظارة، وفي ضباب الرؤية، كان زجاج العدستين يتناثر على الأسفلت.

بعد خروجنا من اتحاد الكتاب، قلت لبهاء حسين إنني أود الذهاب إلى الحمام، نصحني بالعودة إلى الاتحاد ففيه منافع للناس، وراهنت على سرعة وصولنا إلى وسط البلد، ولو كنت أعلم خاتمتي ما كنت رفضت؛ إذ ظللت أكثر من أربع ساعات تالية أعاني. وهذه أولى النصائح لأي مواطن في مصر:

«لا تؤجل دخول الحمام»

فلا يعلم إلا الله أي سيارة ترحيلات يمكن أن يدفع بك إليها، ولا متى يفتح بابها ليسمح لك بالتبول بجوارها، على مسؤولية ضابط رحيم، لا يملك لك غير هذا الكرم. كان شعار الشرطة لسنوات: «الشرطة في خدمة الشعب»، وبعد بولسة الدولة صار الشعار: «الشرطة والشعب في خدمة الوطن» يعني الحاكم وحده لا شريك له، وأقترح أن يستبدل بهذا الشعار الأخير شعار جديد: «تبول يا أخي قبل القبض عليك».

لحظة جذبني شرطيان يرتديان الملابس المدنية، لعنت كل شيء.. الفلسفة والتاريخ والرواية والقانون والصحافة، وفقيها دستوريا تحمس لحكم العسكر فكان أول ضحاياهم وضربوه بالحذاء عام 1954، والدستور الذي يداس بالحذاء، والضابط الذي ضربني في موضع الرجولة، وآخرين «نقطوا في الفرح» مجاملة للواء، وكسروا النظارة وضلوعي. مشهد يتطابق لقطة بلقطة مع ما تراه كل أسبوع في القدس، بين جنود الاحتلال الصهيوني وقاصدي المسجد الأقصى لصلاة الجمعة، فمتى احتل هؤلاء الناس بلادي؟ تذكرت أن اليوم هو الأربعاء 31 ديسمبر 2008، وأنه قبل خمسين عاما بالضبط، استقبلت المعتقلات عشرات من المفكرين، احتفلوا ببشائر 1959 في سجون لم يغادروها إلا بعد سنوات. تذكرت أنني وعدت أصدقاء عرب في هولندا أن أهاجر إليهم إذا آلت السلطة، غصبا أو طواعية، لجمال مبارك، وقلت لنفسي: ربما جاءت الحجة للرحيل عن بلد ليس فيه رجاء، فلامني صلاح جاهين، وراهنني على أن أغادر مصر:

أنا مصر عندي أحب وأجمل الأشياء

باحبها وهي مالكة الأرض شرق وغرب

وباحبها وهي مرمية جريحة حرب

باحبها بعنف وبرقة وعلى استحياء

واكرهها وألعن أبوها بعشق زي الداء

واسيبها واطفش في درب وتبقى هي ف درب

وتلتفت تلاقيني جنبها في الكرب

والنبض ينفض عروقي بألف نغمة وضرب

على اسم مصر.

أما نجيب سرور فرمقني غاضبا، وشاط حجرا فوق الرصيف فانفتق بوز حذائه، وبك الدم من إصبعه، وسألني: معك منديل؟ قلت إنهم أخذوا كل شيء كما ترى. قال: سيتنهي احتلال مليون شرطي لمصر، سيجند هؤلاء يوما في جيش مصر الطبيعي. انتحر أحسن لك من حكاية الهجرة، عايز تسيب مصر وهي محتلة؟ مصر «في الجغرافيا ما لها مثيل، وفي التاريخ عمرها ما كانت التانية». قلت له: عندك حق يا عم نجيب، سنبقى في هذا البلد، نحن أهله، ولسنا سكانا عابرين، سنظل مثل فلسطينيين يلتصقون بأشجار الزيتون، غير عابئين بالجرافات الإسرائيلية، سنطلق صيحة عمر المختار: «ننتصر أو نموت». لن أبرح هذه الأرض، حتى لو بقيت عضوا بالجالية المصرية في القاهرة.

دفعوني إلى ميكروباص بين اثنين أشداء يقبض كلاهما على ذراع، أشرت إلى الباب المغلق، مبديا حسن النية، لأتحسس موضع الضربة القاتلة، وأخذا التليفون والبطاقة، لثالث يجلس في مقدمة السيارة بجوار السائق، يسجل بياناتي الشخصية: عنواني وتاريخ ميلادي المجيد، وسألني عن مهنتي. لولا الألم بين فخذي، لضحكت كما لم يفعل عادل خيري وهو يجيب عن سؤال ماري منيب: «سواق يا هانم سواق»، فالبطاقة معه وفيها نوع المهنة. أجبت فسألني: أين أعمل. أضحك هذه المرة من الغباء، لا الأسى، لأن البطاقة فيها أنني أعمل في الأهرام.

تكرر هذا الاستجواب، بعد انطلاق الميكروباص، من شارع جانبي إلى شارع شامبليون، مرورا بالنقابة وشارع عبد الخالق ثروت، ليزج بي في سيارة الترحيلات، أعاني العطش، ومن الزحام يتصبب العرق، في عز البرد. والنصيحة الثانية:

«احتفظ دائما بزجاجة مياه في يدك»

فلا تعرف متى يفتح باب السيارة، كما أنها تفيدك في الدفاع عن نفسك، وإرباك شرطي جهول، ومرواغته في شارع جانبي، حتى تتمكن من الهرب، وإذا نجوت بها فهي زاد مهم في الطريق إلى المعسكر.

كانت سيارة الترحيلات أرحب من الوطن. قدرت أن تتزلزل الأرض، حين يعي كل منتم إلى مؤسسة أن الخطر قريب منه، وأنه ليس معصوما من مثل هذا المصير، وكان خيالي واسعا؛ فباستثناء اتصالات أجراها، بمحبة حقيقية، كثير من الأصدقاء والزملاء، لم يحدث شيء. كنت واهما حين ظننت أن ورائي مؤسسة تحميني، ونقابة تغار على أحد أبنائها، تغار على المهنة. تأكد لي أنه لا أحد كبيرا بموهبته وقدراته في هذا البلد، وحده اتصل بي محمد سلماوي رئيس اتحاد الكتاب ليطمئن، بعد ساعة من مغادرة المعسكر.

فكرت في الجريمة، ولم أجد شيئا أعاقب عليه. لم أقطع شجرة، ولم ألوث ماء النيل، ولم أمزق صورة السيد الرئيس محمد أنور السادات بطل الحرب والسلام، ولا صورة السيد الرئيس محمد حسني مبارك بطل الحرب والحصار. ما تعرضت له جريمة في حق كل مؤسسة أنتمي إليها، على اتحاد الكتاب ونقابة الصحفيين مطالبة وزير الداخلية بالاعتذار، ولي أن أقبل أو أرفض. فكرت في اللجوء إلى القضاء. الرئيس مبارك، هو المسؤول، ولكني لن أختصمه، لأنه رجل مسن (81 عاما)، وليس من اللائق أن أتعبه في شيخوخته. ولن أختصم رئيس الوزراء، لأنه رجل طيب تورط في هذه المهمة، حين أسندوا إليه مناقصة رئاسة وزراء مصر بالأمر المباشر، ويومها صرح بأنه «مالوش في السياسة». ولن أختصم وزير الداخلية، ولا اللواء الذي أمر بضربي وأشرف على عملية «الصيد»، وأهان نقابة الصحفيين واتحاد كتاب مصر. لن أشرفه بأن يقترن اسمه باسمي. أنا باق والنظام نفسه زائل.. أعني النظام لا الحكومة. ما أكتبه الآن «كلام موزون وله معنى»، يصلح للقراءة اليوم وبعد خمسين سنة، أما اللواء فسيحال للتقاعد بعد شهر أو أشهر، وسيعاني مثل أي مواطن، ويحار في بعض الأمور، ولن يجد المفتش كورومبو ليحل له بعض الألغاز، وحين يضايقه موظف المعاشات سيكتب شكوى، للنشر في بريد القراء، ويمر من شارع عبد الخالق ثروت، ويحصره البول، ويمسح عرقه بورقة الشكوى، ويريد التماس بعض الراحة في الظل، سيكون أشعث أغبر، يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، ويمنعه موظف الأمن في النقابة، وهو يطيل الحوار مستمتعا بهواء بارد آت من الداخل، لكن البول يحصره. سأقول للموظف: دعه يدخل، الحاج في سن والدك، ولم يفعل شرا في حياته، ولا شهد هذا الأسفلت أذى شارك فيه وأشرف عليه. سأدخله وأطلب له «حاجة ساقعة»، ربما ينبهني إلى أنها محظورة عليه، وأن الشاي أفضل، سأدله على الزملاء المشرفين على أبواب شكاوى القراء، ولن أمنحه شرف المجالسة.

كانت سيارة الترحيلات أوسع من الوطن. السيارة، لا أركبكها الله، برزخ بين عالمين، قبر له باب مزدوج، باطنه فيه الرحمة حيث يوجد رفاق مثل الورد.. إخوان، ومدونون، ومدرسون، هي زنزانة متحركة مستحيل أن تفر منها إلا إليها، لها نوافذ صغيرة جدا تغلق من الخارج، وسط النافذة تتعامد قضبان حديدية، تحيط بها من الداخل والخارج ستارتان من حديد متقاطع، لا يسمح فقط إلا بمرور أنبوبة قلم جاف، أو ورقة مبرومة بعناية. كتبت رقم تليفون في ورقة وبرمتها ودفعتها للخارج فأبت السقوط في الشارع، ظلت معلقة في الهواء، وأنا أنادي العابرين: «يا كابتن، يا كابتن». كان في المساحة بين ستارتي الحديد أوراق تجمدت، وطمس المطر والرياح ما فيها من حروف وأرقام، كم من فصل مر على هذه الأوراق المطوية على أشواق مصريين أبرياء. فيما بعد لاحظت أن ارتفاع هذه النوافذ يزيد على المترين، وهذا سر عدم التفات أحد من المارة الذين لا يرون مصدر الصوت.

كنت أنادي أي أحد ليلتقط الورقة، وكان زميل ينادي الضابط: «الكوفية يا بيه»، وينادي آخر: «الجزمة»، إذ دفعوا به للسيارة بعد مطاردة انتهت بأن داس أحدهم قدمه، ولم يبالوا بأن يرتدي حذاءه المخلوع. قال لي إنه اشتراه بخمسة وستين جنيها قبل يومين. قلت له: يكفي أن معك فردة لتصنع منها نسخة. ضحك وضحكنا. والنصيحة الثالثة:

«احرص على حذائك حرصك على شرفك»

فلا تعرف متى يفرج عنك، ولا تضمن أن تتهم بالتحريض على رفع الحذاء في المظاهرة، فوق صورة كبير من الكبراء، ولن يعترفوا بأنهم سلبوه، كما أخذوا تليفون إحدى الصحفيات، ولم يكن هناك ما يثبت أنهم نشلوه. داخل السيارة لن تشعر بغربة، سوف تستعيد أناشيد حماسية للإخوان، هي نفسها التي كانوا يرددونها أيام الجامعة، ويردد آخرون أشعار مظفر النواب، وأغنيات سيد درويش والشيخ إمام ومحمد منير. يقول أحدهم «إنهم» ألغوا حفل محمد منير الليلة (رأس سنة 2009)، ليس تعاطفا مع ضحايا المجازر الإسرائيلية في غزة، بل خوفا من تحوله إلى مظاهرة مناهضة للنظام في دار الأوبرا، بدليل «أنهم» لم يلغوا حفل المغني الذي تهرب من أداء الخدمة العسكرية. والنصيحة الرابعة:

«احفظ بعض الأغنيات، تخفف بها عن نفسك، وتهزم مهزوما خارج السيارة»

تحولت السيارة إلى مركز اتصالات، إذ تمكن شاب، في الوغى، من الاحتفاظ بتليفونه، وقدمه لمن يريد من دون مقابل، حتى نفد الرصيد، فأتته أرصدة من حيث لا يحتسب، وتواصلت الاتصالات. تذكرت رقمي حمدي عبد الرحيم وأسامة عفيفي، أبلغتهما أنني في سيارة تتهادى في الشوارع، منذ أربع ساعات، ولا أعرف متى تصل، ولا إلى أين. ثم كانت المحطة الأخيرة في معسكر لتدريب الشرطة، في الرحاب أو طرة، ففي الظلام تتشابه الأماكن والملامح. بعد ساعة من الانتظار سمح بالهبوط، بجوار السيارة لقضاء الحاجة، فاصطف الجميع ليطفئوا الحرائق.

أما النصيحة الخامسة فهي ليست لك، إلا حين تصير رئيس دولة، وقتها يجب أن تحرص عليها، ليدوم عزك وعرشك. أعلم أن الرئيس مبارك لا يصبر في هذه السن على القرءة، وأن هذه السطور منشورة بخط صغير، لكن قراءتها مهمة، وأريد البدء بمدخل تاريخي؛ فحين استولى هولاكو على بغداد، (عام 1257 ميلادية، 655 هجرية) ذهب إلى قصر الخلافة، إلى المنطقة الخضراء، وسيق إليه الخليفة العباسي المستعصم، وأرشد الغزاة إلى خزائن الأموال وحوض مملوء بالذهب وسط القصر، لكن هولاكو لم يقنع بذلك، وأمر بحرمان المستعصم من الطعام حتى شعر بالجوع، فقدم إليه هولاكو طبقا مملوءا بالذهب. قال الخليفة: «كيف يمكن أن آكل الذهب؟»، فرد عليه هولاكو: «ما دمت تعرف أن الذهب لا يؤكل، فلم احتفظت به، ولم توزعه على جنودك، حتى يصونوا ملكك الموروث من هجمات هذا الجيش المغير؟ ولماذا لم تحول تلك الأبواب الحديدية إلى سهام، وتسرع إلى شاطئ نهر جيحون لتحول دون عبوري؟»، فقال الخليفة: «هكذا كان تقدير الله»، فرد عليه هولاكو: «وما سوف يجري عليك إنما هو كذلك تقدير الله»، وقتل الخليفة، وانتهى أمر الخلافة.

يمنعني الأدب أن أقول إن اعتقال الشعب كله لا يضمن دوام الملك، وإن مليونا من رجال الشرطة يجب أن يصونوا الشعب والملك من هجمات الجيش المغير، كما قال الهالك هولاكو في وصاياه.

والآن أريد أن أقص عليك حكاية، ليست تاريخية ولا هولاكية؛ فمنذ بدأت ابنتي «ملك» تعي، وهي تفاجئني بأسئلة عن أمور ظننتها بديهية أحيانا، وأحار في الإجابة عن بعضها. أحاول أمامها تجنب أي كلام مجرد، لأنها سوف تسألني مباشرة: «يعني ايه؟» عن شخص أو مكان أو موضوع. مصادفة سمعت «ملك» كلمة مصر، في نشرة تلفزيونية يوم 3 / 2 / 2006. كانت تقريبا قد أتمت أربعين شهرا، فسألتني:

ـ «يعني ايه مصر؟»

قلت لها:

ـ «مصر هي بلدنا، اللي احنا عايشين فيها»

فسألتني في براءة:

ـ «هي فين، أنا مش شايفاها»

سيادة الرئيس: ملك، ابنتي لا ترى مصر. أليست هذه مأساة تستحق الاهتمام؟!

ـــــــــ

(نشر في "صوت الأمة" القاهرية 9 / 3 / 2009، و"القدس العربي" 24 / 3 / 2009).

وفاز بجائزة "المقال السياسي" من نقابة الصحفيين لعام 2009.

ـــــــــ

يوم نشر المقال، كنت في طريق عودتي من المحلة الكبرى إلى القاهرة، حين أرسل لي أحمد يوسف هذه الرسالة على التليفون: «أخي العزيز سعد. لك عميق الحب والاحترام والتقدير. قل لملك إن مصر سوف يطلق سراحها يوما ما، لأن فيها رجالا أنقياء مثلك، عندئذ سوف تراها وتفرح لرؤيتها».

ـــــــــــ

ومن التعليقات في موقع "القدس العربي" بعد النشر:

الأخ العزيز / سعد القرش ما ان انتهيت من قراءة ما كتبتم إلا أحسست أاننى مدين لك بشكر كبير على ما وصفت به حال مصر وما جرى وما زال يجرى فيها و ارى انك ينتظرك مستقبل باهر فى عالم الرواية. تعبيراتك شديدة الإيجاز بليغة التعبير وهذا فى اعتقادى سيكون حال رواية القرن الواحد والعشرون. ايجاز غير مخل وتعبير فصيح اما شكرى لك فانك عبرت عن ما يشعر به كل وطنى غيور على بلده سواء اخوانى او اشتراكى او مدون وغيره. وبا عتبارى من الإخوان ارى ان لغتك التعبيرية عن الناشطين الوطنيين هى خير لغة والتى يجب ان تسود بين من يحلمون بالتغيير فى هذا البلد وكما ذكرت وذكرك نجيب سرور ان مصر الاولى تاريخيا وفى الجغرافيا ليس لها مثيل فكيف نتركها للمحتل المحلى لن نتركها ابدا ولو اصبحنا خوارج كما تنعتنا تيارات العصر السلفية مطلوب تشابك الأيدي.

مصطفى منسى

ـــــــــ

أخي الحبيب سعد القرش

قرأتُ المقالة وعلى الرغم من أنكَ لستَ فى حاجة لمعرفة صدى هذه المقالة لدى من يقرؤها فإننى أجد نفسى مدفوعاً دفعاً للهتاف باسمكَ ككاتب ساخر من نوع فريد.

ولى هنا أمران:

أولهما إن النصائح الأربع كان الممكن مضاعفتها لولا أنك حكمت نفسك بالتجربة ذاتها داخل عربة الترحيلات المتعينة بذاتها.

وثانيهما أننى أرجو لو تناقشتَ معى فيما عساى أن أضيفه إلى مقترحات عديدة سابقة لى بشأن الدور الذى يمكن للاتحاد القيام به فى مثل هذه المواقف غير البيانات والوقفات والتصريحات والاتصالات وما إلى ذلك.

طعم العلقم قد يثير الامتعاض نعم، لكن من الممكن علاجه كما فعلت بالسخرية.. السخرية المرة.

تحياتي

المخلص/ قاسم مسعد عليوة

ـــــــــ

يا سعد سامحك الله. أبكيتنى وأضحكتنى ضحكا أمر من البكا

بهاء طاهر

ـــــــــ

كم احترم مواقفك يا صديقي المسلوب من وطنه وابنته

كم احترم مواقفك وخواطرك ورؤياك الثاقبة لامور حياتنا المنعولة الخجلة حتى اننا نتحدث ونكتب عنها والصمت في داخلنا يخافها

كم مرت علينا مآسي آبائنا وأجدادنا ولكن لم ولن تكن كما نعيشها نحن فقراء الفكر والدنيا في عصرنا الحالي

كم مرت علينا حسرات الأسى والعون

كم مرت علينا مصائب وخسارات وانكسارات

كلها لن ولم تساوي ما نحن فيه اليوم

انها نكبة الفكر والثقافة والحب والانسانية

أحبك من كل قلبي، كلما يأتي صوتك من بعيد، من قاهرتك، ارتمي في فراشي يومين واجمع جسدي حول رقبتي لأموت

وكلما زرت بلدي ينهار فيه كل شيء

لماذا نعيش هذا كله

أليس لها الحق (ملك) ان تعيش ما لا نعيشه نحن

أليس من حقها ان يكون لها مستقبل افضل من مستقبلنا

إليك يا ملك ألف قبلة من عمك البازي

المخرج باز البازي من كردستان العراق

ـــــــــــ

تحفة فعلا.. يخرب دماغك يا سعد يا قرش.. معلهش مش قادر اكتب باقي الاسم عشان شايف عربية الترحيلات قدام عنيا وبابها مفتوح زي باب الهويس ايلي ممكن يبلع 80 مليون مصري.. مع استثناء الحكام والعسكر طبعا

عماد

ــــــــــ

قرأت المقال، هو أقرب للحكاية، فيه عناصر سردية، لكنك اشتغلت عليه بطريقة عالية الحساسية الفنيّة، سؤالي هل هذا حصل معك، أم من صنع الخيال؟؟!

أما الفكرة الثاتية فهي أني لم أكن أتوقع جرأتك في الكتابة؟؟ هل أنت تعيش في مصر حقا!!

أماني / سوريا

ـــــــ

أنت كاتب ساخر من الطراز الإجرامي، ثانيا النصائح التي تخصك، ثق انها تخصني، أقرأ وألعنك واقهقه ، الله يجازيك يا شيخ والف مبروك تستأهل يا سعد.

أرسلت مقالتك البديعة للأصدقاء وهم كثر، فغرت من الاعجاب الشديد بك وبها.

عالية ممدوح

من السعودية إلى مصر.. التحالف مع الإخوان لعب مع الشيطان

قبل الغرق في المستنقع الوهابي

 

للمرة الثالثة، يكاد التاريخ يكرر نفسه، في أقل من مئة عام. في المرة الأولى تحالف عبد العزيز بن سعود وهو يؤسس «مملكة» مع الإخوان، فأخفق في بناء دولة، كما يروي صديقه محمد أسد (ليوبولد فايس)، وفي المرة الثانية تحالف السادات مع الإسلاميين، فانقلب السحر على الساحر، ولم يتمكن الذي «حضر» العفريت من التحكم في مارد لم يرض بأقل من رأس السادات، وفي الأفق تحالف سيعصف بإنجاز فكرة «الدولة» الحديثة التي تعب في إنشائها رفاعة الطهطاوي وبنوه وأحفاده. وقد بدأ التحالف الثالث مع صعود ثورة 25 يناير، قبيل وفاة النظام القديم، ويلوح هذا التحالف الأكثر خطورة، لأنه يتأسس على قواعد دستورية، «وكله بالقانون!».

ولم تكن الجريمة التي ارتكبها سلفيون في حق «مواطن» تصادف أنه مسيحي إلا «قرصة ودن» للدولة المصرية، وأستطيع القول إن المتطرفين فازوا بالجولة الأولى.

المسألة باختصار أن متطرفين في مدينة قنا نصبوا من أنفسهم قضاة وجلادين، وقضوا بإقامة ما يرون «الحد الشرعي» على مواطن، ونفذوا الحكم بالفعل، ووضعوا السلطة والمجتمع في اختبار صعب، ثم فازوا بنشر صور المصالحة في الصفحة الأولى لصحيفة الأهرام الحكومية. ووضعت الأهرام يوم الجمعة 25 / 3 / 2011 الكارثة في حجمها الطبيعي، كخبر أول يحتل النصف الأعلى للصفحة الأولى، تحت عنوان: «جريمة نكراء بصعيد مصر»، ويليه عنوان ثان هو «متطرفون يقيمون الحد على أحد المواطنين بقطع أذنه.. والعلماء يبرئون الشريعة». وقال التقرير في السطر الأول إن نيابة قنا بدأت التحقيق في جريمة متطرفين قطعوا أذن المواطن أيمن متري، وأحرقوا سيارته وشقته، عقابا على شبهة إقامته علاقة مع امرأة سيئة السمعة.

هنا يمكن اعتبار المعالجة الصحفية انتصارا لهيبة الدولة، وتسمية للأشياء باسمها، انطلاقا من مصارحات ما بعد الثورة.

ولكن الطبعة الثالثة للأهرام استبدلت بهذا الخبر، في المساحة نفسها من الصفحة الأولى، موضوعا عنوانه: «خلافات واسعة حول مشروع قانون تجريم الاحتجاجات»، وأزاحت خبر الجريمة إلى أسفل، مع تغيير في المعالجة الصحفية، وفقا لموازين القوى الجديدة الصاعدة والمرعبة في مصر الآن، تحت عنوانين هما: «مسلمون وأقباط يطفئون نار الفتنة في قنا.. متطرفون يقيمون الحد على مواطن بقطع أذنه والعلماء يبرئون الشريعة»، وحذفوا صورة الضحية، وظلت صورة المصالحة بحضور ممثل للجيش وشيخ أزهري معمم وشاب سلفي وشقيق الضحية.

هنا مؤشر خطير على النفاق السياسي والاجتماعي، وانتصار قوى التطرف، وصعود المعادين للثورة، وإقرار الجيش بهذا الصعود، وأكاد أقول «والرضوخ له».

وفي جلسة الصلح، بحضور ممثل للقوات المسلحة، قيل كلام كثير جميل ورائع، لكنه فارغ، يفتقد إلى أي معنى، أو مضمون، فعند اختبار الكلام كانت الهمجية أسبق، وقطعت أذن الرجل بسبب شبهة اتهام، وضاعت هيبة الدولة، وفاز التطرف بجولة أولى سيكون لها ما بعدها.

يوم نشر خبر الجريمة، أوقعني الحظ السيء مع «واعظ» شاب، ارتكب في خطبة طولها خمسون دقيقة أربع خطايا منبرية، أولاها: تأكيده أن كارثة المد الزلزالي الذي أصاب اليابان يوم 11 / 3 / 2011 «مجرد جند من جنود الله ضد قوم كافرين»، ونسي أن الميكروفون الذي يصدع رؤوسنا بزعيقه من صنع اليابان، وأن كثيرا من المخترعات لليابان فيها فضل كبير. والخطيئة الثانية قوله الواثق بتحريم التدخين، مستندا إلى فتوي بعض العلماء عام 1999، «ولا يمكن القول إن التدخين حلال إلا بفتوى أخرى من هذه اللجنة»، وهذا اجتراء على الدين، أخشى معه أن يتمادى جهلاء في جسارتهم، ثم يستنكروا يوما سورة في القرآن لأن اسمها (الدخان). والأمر الثالث: هو الاستكبار عن الاعتراف بوجود مسيحيين في البلاد، حين قال إن حرب 1973 مثلا، شارك فيها المسلمون وغير المسلمين، وكأن ذكر المسيحيين وامتداحهم بما هم أهل له يسيء إليه، ويقلل من هيبة منبر الجمعة، على الرغم من وجود سورة اسمها (مريم)، وأخري اسمها (آل عمران)، وهو لا يدري أنه بهذا الشطط يعصي ربه القائل في سورة المائدة: «لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا، ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة»، وقال في سورة آل عمران مخاطبا عيسى عليه السلام: «وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة»، أما الأمر الثالث فليس خطيئة ولكنه غفلة، إذ قال: «لا يمكن أن أدعو مسلما لتقصير ثيابه وإطلاق لحيته وهو لا يصلي»، وكأن هذه الأمور الشكلية من الدين أو هي الدين.

خطيب الجمعة هذا لا يختلف عن المتطرف الذي قطع أذن المواطن المسيحي، كلاهما لا يعرف قانون الإجراءات الجنائية الذي أرسى دعائمه عمر بن الخطاب، إذ تربص بقوم بلغته أنباء عربدتهم، في حديقه منزل أحدهم، وانتظر إلى الليل، وتسلق الجدار وهبط عليهم، وضبطهم في ساعة أنس، والكؤوس تدور. حالة تلبس واضحة. وقبل أن يوجه اتهامه لصاحب البيت، بادره الأخير معترضا: لقد أتينا واحدة، وأتيت ثلاثا: قال تعالى: «وأتوا البيوت من أبوابها»، وأنت لم تأت البيت من بابه، وقال تعالى: «لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على
أهلها
»، وأنت لم تسلم، والثالثة قوله تعالى: «ولاتجسسوا»، وأنت تجسست علينا. فما كان من أمير المؤمنين إلا أن انصرف في صمت، معترفا بأخطائه الثلاثة، وهكذا أرسى دعائم قانون الإجراءات الجنائية.

فأين هيبة الدولة المصرية من مكافأة المجرم، وما موقعها من تمثيلية مصالحة بين مجني عليه بريء ـ على الأقل إجرائيا ـ ومتطرف جعل من نفسه قاضيا وجلادا، ثم يتحدث مندوبون عن تسامح وكلام فارغ يعد من ميراث العهد البائد. ولماذا «التسامح الإسلامي»، وما موضع هذا المصطلح في كيان دولة حديثة نسعى لتأسيسها؟ من يتسامح يستطيع ألا يتسامح، لتكن القاعدة هي تسامح إنساني لا يرتبط بدين، بدلا من هوس الاستعلاء بالإيمان يمارسه مسلمون على مسلمين، والاستعلاء بالإسلام الذي يمارسه كثير من الخطباء على المسيحيين. يرونهم كفارا خارجين على الدين، ومحرفين للكلم عن مواضعه، ناسين قول الله تعالى في سورة المائدة: «لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل»، فهل يأمرهم الله أن يقيموا إلا كتابا منزلا من السماء.

في شهادته على عصر صديقه الملك عبد العزيز يسجل محمد أسد في كتابه (الطريق إلى مكة) خطورة «تحضير» العفريت السلفي إذا كنت تنوي بناء دولة. العفريت عفريت يصعب استئناسه، سيخلص لطبائعه، وسرعان ما يتسلل من الثياب ويسمم الجسد، أو يحرق الثياب، ويكون خطرا على أي تسامح. يقول الرجل:

«تحول الحماس الديني للإخوان، وميلهم لخوض الحروب، إلى قوة جديدة في يد ابن سعود، وبدأت حروبه منذ ذلك الوقت تكتسب شكلا جديدا.. اكتسبت وجه الحماس الديني الذي يخوض المعارك لا من أجل مكاسب دنيوية، بل من أجل إعلاء شأن العقيدة. أما بالنسبة للإخوان، فقد كانت الولادة الجديدة للإيمان تحتوي، على الأقل، على مضمون أشمل من المضامين الشخصية الذاتية، وكانوا يلتزمون بالعقيدة وتعاليمها، بلا تهاون أو تحريف... كانت مفاهيم أغلبهم مفاهيم بدائية، وكان حماسهم يتسم بالتعصب الزائد. ولسوء الحظ، ظل ابن سعود قانعا وراضيا بما هم عليه من مظاهر بدائية، وفهم سطحي للدين، وابتعادهم عن المعارف الدنيوية. لم ير ابن سعود في حركة الإخوان إلا قوة في يد السلطة، وفي الأعوام الأخيرة قدر لهذا التصور أن ينقلب، ويصبح قوة مضادة تهدد المملكة التي شيدها بجهده».

السطور السابقة عن ترجمة رفعت السيد علي للكتاب، في طبعتي المركز القومي للترجمة بمصر ومنشورات الجمل، ولكنها وفقرات أخرى تنتقد ابن سعود حذفت من طبعة مكتبة الملك عبد العزيز العامة.

العفريت الذي استعان به ابن سعود، أكاد أرى خطوات تحضيره في مصر، وقد تابعت طوال أيام ثورة 25 يناير منحنى الحضور السلفي والإخواني، وأبديت خوفي بعد موقعة الجمل (2 فبراير)، وقلت لأصدقاء «شكلها هتقلب إخوان»، ثم لاحظت تراجع الحضور الإخواني، حين لوح لهم عمر سليمان نائب الرئيس بالحوار، وشطب لقب «المحظورة»، وخشينا من فراغ ينتج عن سحب كوادرهم من الميدان. (سيكون هذا الرصد ضمن كتاب أعده حاليا عن الثورة)، وبلغ المنحنى السلفي ذورته بعد تنحي مبارك يوم 11 فبراير، حيث ارتفع شعار «الله وحده أسقط النظام»، بدلا من شعار «الشعب يريد إسقاط النظام»، وكدت أتعرض لأذى، في تلك الليلة بالميدان، بسبب اعتراضي على بروز هذه النزعة السلفية العنصرية.

لا يعلم الذين أطلقوا شعار «الله وحده أسقط النظام» حقيقة أن ثلاثة من الخلفاء الراشدين ماتوا قتلا، وهم يصلون أو يقرأون القرآن، وأن العشرة المبشرين بالجنة قاتل بعضهم بعضا، وسقط قتلى في موقعة الجمل الأولى بقيادة أم المؤمنين عائشة، وبسيوف المبشرين بالجنان، ولا أحد ينكر وقوع تمثيل بجثث أشرف خلق الله، أاحفاد الرسول من ابنته السيدة فاطمة، ولم يكونوا أقل إيمانا من الثوار بميدان التحرير.

ضع شعار «الله وحد أسقط النظام»، بجوار صيحة «إسلامية إسلامية»، بجوار حضور أو استدعاء أو دعوة الشيخ القطري يوسف القرضاوي لخطبة الجمعة في ميدان التحرير، بجوار اقتراح عبود الزمر لجنة للتكفير، بجوار تصريح مهووس ـ بعد الاستفتاء على تعديل الدستور ـ عنوانه "غزوة الصناديق"، وستكون النتيجة قص شعر فتاة بقاطع حديدي (كاتر لم يصنعه المسلمون) وسط الركاب في ميكروباص، وقطع أذن مواطن مسيحي، واستنكار واعظ صغير السن أن يقول كلمة «مسيحيين»، خشية أن يتلوث المنبر!

مع صعود النفاق السياسي تتراجع هيبة الدولة، ويميع مفهوم المواطنة، ويضيع الدين نفسه، وما يضمن إقامة الدين وممارسة شعائره هو الدولة المدنية والدستور الذي لا ينص على أن للدولة دينا، الدستور المدني يحترم جميع الأديان، ولن يلاحق مسلما أو يجعل له في "أمن الدولة" ملفا لأنه يطلق لحيته أو يواظب علي صلاة الفجر.

المستنقع الوهابي الذي حال دون قيام «دولة» في الجزيرة زحف إلى مصر، منذ نحو 35 عاما، ويكاد ينجح، بنص الدستور هذه المرة، وساعتها سيقول كثيرون: دولة فاسدة يقودها أهوج مثل جمال مبارك أفضل ألف مرة من دولة دينية، سيكون الخروج عليها كفرا.

بعد ما تصورته نجاحا للثورة، أكاد لا أفهم شيئا، فمن يصنع هذا التحالف الشيطاني بين السلفيين ومؤسسات دولة يريد مواطنوها الشرفاء أن تخرج إلى النور؟ أرجوكم لا تسهموا في تحضير العفريت!

لنكن فاعلين وشهودا على ولادة دولة مدنية، لا شهداء في دولة دينية ستأكل المخالفين لها، بمن فيهم الإخوان المسلمون.

ــ

* الأهرام المسائي 28 / 3 / 2011، ثم القدس العربي، ومواقع أخرى.

للمؤلف:

قصص:

1 ـ مرافىء للرحيل. الهيئة العامة للكتاب (1993).

2 ـ شجرة الخلد. الطبعة الأولى، مركز الحضارة العربية (1998).

الطبعة الثانية، الهيئة العامة للكتاب (2008).

روايات:

1 ـ حديث الجنود. الطبعة الأولى، هيئة قصور الثقافة (1996).

الطبعة الثانية، الهيئة العامة للكتاب (2001).

الطبعة الثالثة، الدار المصرية اللبنانية (2008).

2 ـ باب السفينة. دار البستاني (2002).

3 ـ أول النهار. الدار المصرية اللبنانية (2005). فازت بالمركز الأول لجائزة الطيب صالح العالمية للإبداع الكتابي (الدورة الأولى 2010).

4 ـ ليل أوزير. الدار المصرية اللبنانية (2008). فازت بجائزة اتحاد كتاب مصر (2009).

5 ـ وشم وحيد. الدار المصرية اللبنانية (2011).

رحلات:

1 ـ سبع سماوات: رحلات في العراق وهولندا والجزائر والهند والمغرب ومصر (2011). فاز بجائزة ابن بطوطة للرحلة المعاصرة (2008-2009) من المركز العربي للأدب الجغرافي (ارتياد الآفاق).

ــــــ

البريد الإلكتروني:

saadelqersh@hotmail.com