يأخذنا القاص العراقي المقيم في ألمانيا برحلة فنطازية في عالم منفي يلوذ بفراشهِ في موسم الثلج لنرحل في مخيلة الكاتب وحلم الشخصية التي يطير فيه إلى وطنه متحولا إلى ألهه من آلهات القدر فيطوف حول حدود بقعته البعيدة ليسقط على أرض غرفته في واقعٍ يعج بالعجز على وقع انفجار قريب.

الرجل الذي حلم بتساقط الثلج

محـمد حسـن

 

ذات مساء معتم كان البرد قد اشتد في برلين، على نحو مفاجئ، وصدف ان تهاطل الثلج قبل حلول أوانه، فغطى وجه الارض ودثر سقوف المباني المقوسة واتشحت ببياضه قبب الاشجار وافاريز النوافذ, فحجب الضباب الرؤيا، بصورة شبه شاملة, فشعر المكنى أبن الطائر، بسلطان النعاس يسحبه لفراش النوم، فجرّ نفسه جراً واستوى على سريره، وما أن أسبل جفنيه للنوم حتى حلم بنفسه محمولا على روافع لا مرئية وما عاد بوسعه ان يحط قدميه على الارض, آنئذٍ حاول عبثاً التأكد من حقيقة ما يجري له، لكن الطائرة كانت قد شهقت به عاليا في تلك الاثناء, فاخترقت اكوام الغيوم وغاصت في احشاء السماء فحلّ به رعب طفولي هائل، جرّاء ذلك الصعود الصاروخي ولما استبد به خوف لا نهاية لحدوده، سلّم لفكرة أنه قد اخُتطف من قبل زمرة ينتمي افرادها لكوكب آخر, وفي غمرة ذلك الشعور المروع, فتش عن وسيلة تخلصه من مخاطر الطيران وكوارثه, غير أنه بوغت على نحو مفاجئ, برقبة الطائرة تميل ومنقارها، ينعقف نحو الارض وتنحدر بسرعة لا رادّ لها حينها احس ببوله يلطخ فخذيه ويسيل على ساقيه ويخرج من ردني سرواله ويلوث عقبيه، فاستنفر قواه الشيطانية لاختراع كذبة، يستر بها فضيحته، غير أن عجلات الطائرة الخلفية كانت قد لامست مدرج مطار الكويت فاغتبط الرجل اشد الاغتباط لتلك المفاجأة السعيدة، وتأكد في ذات اللحظة من انه لم يشخ على سرواله، وان ما حدث لم يكن سوى، تهيؤات خيال عابث، ليس إلاّ. بعدها جرت الأمور بسلاسة شديدة، حيث قبض الطيار على المكابح الهوائية والتحمت الطائرة بخرطوم المدرج وانفتح الباب وتدحرج من كانوا على متنها تدحرج كرات مطاطية، مثنى وثلاث ورباع وبرمشة عين تطاير من حوله الجميع، مثلما تتطاير الاوراق في احتفالات فوز الفرق الرياضية بالبطولات القارية، فاستقبلته الصالة بهوائها المنعش بعد ان مر من الحواجز الأمنية, وتخطى كاونترات التفتيش وألواح التصوير الاتوماتيكية, دون ان يستوقفه احد، ولما بلغ بوابة صالة المغادرة كانت الطريق سالكة، وحشود المسافرين خفاف، كريش طيور الدراج، وينزاحون من امامه بحقائبهم كالهواء وينفجون مفسحين له الطريق مثلما تنفج المياه تحت ثقل باخرة عملاقة، قطع الرجل الامتار التي تفصله عن البوابة الرئيسية، بخفة ويسر عجيبين، وحين بلغ بوابة المطار, انتفخت ثيابه وتزيرت دواخلها بفعل دوامة هوائية، فرفعته عن الأرض, كما ترفع الرياح البالونات, وعلت به شيئا بعد شيء للحد الذي وقف في الهواء، وبات بمقدوره ان يخطو على تراب الرياح, وعزى فضل ذلك لسرواله الواسع, الذي انتفخ, وتحول إلى برشوت أو ما يشبه منطاد مصغر، فتحرك مختالا للحظة, وغبطة داخلية تدفعه, لاستعراض خفة حركته ومرونتها, وحينما أحس أن بمقدوره أن يطير كما تطير الطيور, يمم، وجهه صوب حدود بلاده، لا مد ذراعا. ولا حرك ساقا, وانما طار بقواه الذاتية, وكان الطقس يزداد برودة, بصورة تكاد لا تصدق، وندف الثلج الكبيرة الرطبة تتطاير، وتدور حوله بكسل، وهذا ما لم يكن في حسبان الرجل، لكنه كان متدرعا بعزيمة واصرار فولاذيين، وكأن مهمة كونية شاقة، قد عُهد له بتنفيذها، وحالما تخفف من عوالق الجاذبية وتخلص من مقيّداتها، وانصاعت الرياح, لمشيئته، تسلق مدارجها لدرجة غدا فيها اعلى من اعلى البنايات بكثير، فلاح له الركاب الذين كانت تصبهم الحافلات، بإحدى الساحات, يتصاغرون, ويغدون بحجم دمى صغيرة, تتدحرج على الارصفة، وتدبي كالزواحف على اطراف الممرات الضيقة, حينها هُيئَ له ان ملائكة السماء قد قبضت عليه وأن نهايته باتت وشيكه وهو بصدد مغادرة هذا العالم, وإلى الأبد. لكن ما أن حرك يديه وغرف بكفيه الهواء, ونفض عنهما الثلج، حتى وقع بصره على تلال قرنفلية اللون، رآها تتطوح تحته، تطوح امواج البحار الصاخبة، وكثبانا تميد تحت ظله الشاحب المنساب بهدوء ملائكي، تخطى في دقائق طيرانه القليلة، الكثير من الصرائف، ومر فوق الأكواخ، وحضائر أبقار، ومعالف, ورأى خلال سباحته الحالمة في الهواء، بيوت شعر تتلاعب بأعطافها الرياح, وأكواخ, وخيم متهرئة, ورعاة ماشية، وقوافل بدو رحل, على ظهور جمال مسرجة، اجتاز أبن الطائر, مروجا، وحلق فوق مزارع نسيجية عديدة, وعندما اقتضت الضرورة أن يهبط, هبط بحذر شديد, وحرص على أن لا يصطدم, بعوارض بوابات مخفر سفوان الحدودي، فتزايد تهاطل الثلوج بصورة تفوق كل خيال للحد الذي خيل له ان دعائم السماء قد تخلخلت، وان الكرة الارضية على وشك أن تنزلق من أناءها وتتحطم ككرة زجاجية، وطبقات الثلج وكتله لم تزل تتهاوى فوق بعضها بغزارة شديدة، وأصغر كتلة من تلك الكتل، حجمها لم يكن يقل عن, حجم خزان نفطي، وجبل الثلج يرتفع، ويرتفع، ويتضخم ويمتد على طول الحدود بسرعة أثارت العجب، ففكر, ان يستغل ذلك, استغلالا نافعا, فارتفع ثانية وواصل طيرانه على ذات الوتيرة، التي بدأ بها، طالما امده الله بأجنحة غيبية، خشية ان يصرعه قصف الرعد ويحطمه انهمار الثلوج الصخرية، وزاد الرجل من سرعته وواصل مسعاه, وكتل الثلج الضخمة، تتساقط وتنهمر فوق بعضها، وجبل الثلج يمتد ميلا، بعد آخر, حينها أحس ابن الطائر بنشوة ودفء غريبين وهو يرى بأم عينه ما صنعه طيرانه من اعاجيب، وهو يبلغ تخوم بساتين مدينة الفاو, ويتخطاها, ويمر كشبح هلامي فوق حلق الخليج، ويحاذي بطيرانه حدود بلاد فارس، وقد فعل ذلك عن سابق قصد، بينما كتل الثلج ما زالت تتعقبه وتقتفي أثره، على طول خط الحدود، حينها ايقن ان آلهة السماء قد نصبته الها للثلج وان مهمته لهذا اليوم أُريد لها أن تفصل بلاد ما بين النهرين عن سائر جيرانها، فضاعف من سرعة طيرانه، وسور حدودها بجبل شاهق من الثلج, ولما أنتهى من ذلك, وعاد للنقطة التي ابتدأ منها, رأى من المعيب أن لا يجد سبيلا لتغطية سماؤها, وفي اللحظة التي مطط جسده, وسعى لجعله سقفا, يغطي سماء البلاد برمتها, اسقطه من على السرير, عصف انفجار هائل, حدث للتو على مقربة من منزله, فتحطمت نافذة حجرته, واصابته عدة شظايا من زجاجاها المتطاير, وغص الفضاء من حوله بدخان أسود, فهرع كالمجنون نحو باب البناية الخلفي ونفذ من لهب ألسنة النيران بأعجوبة.