تكشف قراءة الباحث المصري المرموق هنا لابن رشد وموقفه من العقل والفلسفة عن أنه واضع الأساس النظري للانفصال المؤسف بين العقل والواقع، والذي تعاني منه الثقافة العربية حتى اليوم، حينما أصر على الفصل بين الفقه والفلسفة وبين الواقع دون ربطها به، وإمعان طاقتها النقدية والشكية فيه.

استعادة ابن رشد وتكريس العقل السلفي

وائل فاروق

 

سجل "ابن عربي" – قطب التصوف الأكبر– في أهم كتب التصوف الإسلامي "الفتوحات المكية" عن لقائه - وهو بصحبة الفقيه الأندلسي "ابن جبير"- بابن رشد. إنه لقاء اجتمعت فيه عناصر الثقافة الإسلامية الثلاثة – العرفان/ التصوف والفقه/ الشريعة والبرهان/ الفلسفة– على مستوى القمة، لكن هذا اللقاء كان ذا طبيعة خاصة لأنه كان لقاءا مع جثة ابن رشد. كان ابن رشد قد دفن قبل هذا اللقاء بشهور في مراكش ثم تقرر دفنه في المدينة التي ولد بها –قرطبة- على سبيل التكريم، وربما أيضا الاعتذار، فقرطبة التي تستعيد الآن ابن رشد هي نفس المدينة التي طردته وأحرقت كتبه، لذلك قررت استرداده هو وكتبه، فوضعت جثتة في جانب، وعلى الجانب الآخر من –الدابة- توازنها كتبه. ولنستمع لابن عربي –شاهد العيان- يروي قصته «لما جعل التابوت الذي فيه جسده [ابن رشد] على الدابة، جعلت تواليفه تعادله من الجانب الآخر. وأنا واقف ومعي الفقيه الأديب أبو الحسن محمد ابن جبير، كاتب السيد أبي سعيد [الأمير]، وصاحبي أبو الحكم عمرو ابن السراج، الناسخ، فالتفت أبو الحكم إلينا وقال: ألا تنظرون إلى ما يعادل الإمام ابن رشد في مركوبه؟ هذا الإمام وهذه أعماله، فقال ابن جبير يا ولدي نعم ما نظرت! لا فضّ فوك! فقيّدتها عندي موعظة وتذكرة».[1]

أمام الموكب الجنائزي – لابن رشد وكتبه – يقف الجميع صامتين ولا يتكلم إلا الناسخ – الذي ليس من طبيعته الكلام فهو ناسخ عمله النقل والتقييد - فيقول: «هذا الأمام، وهذه أعماله» ربما لأنه كناسخ لا يعيش إلا مع الكتب أو في الكتب، تماما كابن رشد الذي "لم يدع النظر والقراءة منذ عقل، إلا ليلة وفاة أبيه وليلة زواجه"[2].

لم ير الناسخ في خروج ابن رشد من"قبر" وتوجهه إلى "قبر" إلا "أعماله/ كتبه"، والفقيه الذي شارك قبلها بسنوات قليلة في اضطهاد ابن رشد يعلق على كلام "الناسخ" ويقول: "نعم ما نظرت" ولا يقول: نعم ما قلت. فما الذي رآه الناسخ ولم يروه؟! لقد كان خروج ابن رشد من القبر "قيامة" مبكرة وها هو يحاسب الآن، ها هو ذا في الميزان جسده في كفة وأعماله في الكفة الأخرى، ابن رشد إذن كان حيث وضعه دانتي في الكوميديا الإلهية في الأعراف، ينتقل من قبر إلى قبر، ويبقى جسده عالقا بكتبه في ميزان لا ترجح إحدى كفتيه .

اليوم ونحن محملون بما يزيد عن ثمانية قرون على خروج ابن رشد من قبره، كيف نرى هذا الخروج؟! يقول عبد الفتاح كليطو: إن" ترحيل جثمان ابن رشد، سيكون له، بالنسبة لنا نحن، مدلول دقيق هو رفض أرسطو وترحيل الفلسفة إلى اللاتينين"[3]. ويقول الجابري: إن ابن رشد مازال حيا، إنه تراثنا "والتراث هو الموتى الأحياء فينا[4] لينتقل ابن رشد إلى قبر جديد، لكنه هذه المرة قبر من لحم ودم، فهذه الجملة تجعل منا قبورا وتحفظ لابن رشد كونه جثة؛ جثة حية فينا. "لقد طُمست طروحات ابن رشد تحت ركام الالتباس وطبقات التاريخ السفلية ولم يُقرأ من قبل العقل الإسلامي إلا مع بداية القرن العشرين وبالتحديد عام 1903 عندما اصدر فرح انطون كتابه "ابن رشد وفلسفته"[5]، كان فرح أنطون يبحث عن "أصل" في التراث الإسلامي للحداثة، يبحث عن فقيه يصدر فتواه بشرعية الحداثة، وكان هذا الفقيه هو ابن رشد الذي أصدر فتواه بشرعية النظر العقلي، وما النظر العقلي إلا جوهر الحداثة المرجوة، هكذا بدأت سلسلة من الاستعادات لابن رشد، كان آخرها في تسعينيات القرن الماضي، فقد عقدت له المؤتمرات، وكتبت المقالات في الصحف بل وانتج فيلم سينمائي ضخم لصاحب السعفة الذهبية لمهرجان كان: يوسف شاهين، وكان عنوان الفيلم بالغ الدلالة "المصير". كانت النخبة والأنظمة الحاكمة تخوض معركة التنوير ضد التيارات الدينية الظلامية وضد الإرهاب الذي تمارسه باسم الدين، كان على ابن رشد مرة أخرى أن يدافع عن التلاؤم بين التقليد الإسلامي والعقلانية أو الحداثة، وليرفع التناقض الموهوم بين العقل والنقل، بين الفلسفة والشريعة، بين التراث والحداثة، بين الأصالة والمعاصرة.[6]

لكن "ابن رشد الماضي" يزيد الأمور تعقيدا لـ "ابن رشد الحاضر"، فهل هو ابن رشد العربي المهمش في التراث الذي احتل مركزه الغزالي في اللاهوت والفلسفة والفقه والتصوف؟ أم هو " أفرَّؤيز" اللاتيني أحد ملهمي التنوير الأوروبي، ولا يتوقف الأمر عند ثنائيتي الزمان (الماضي/ الحاضر) والمكان (العرب/ الغرب) فهناك ثنائية معرفية أخرى أكثر أهمية هي ثنائية ( الفلسفة/ الشريعة) فهل كان ابن رشد فيلسوفا يخادع الفقهاء بمؤلفاته الدينية لأن أفكاره الحقيقية نجدها في شروحه لأرسطو، أم كان فقيها استفاد من الفلسفة في تجديد الفكر الديني؟ أم هو كما يرى نصر أبو زيد " امتدادا للتراث المهمش للعقلانية ، فرض عليه سعيه للخروج من الهامش تقديم تنازلات زادت من هامشيته"؟ [7]

ابن رشد "سيستمر في الشمال، في أوروبا حيث ستفرض الرشدية نفسها .. وستكون فلسفته أحد المصادر الأشد قوة للصدمة التي ستمنح الفاعلية، في باريس، وبادوفا، وأكسفورد، وإلى وسيط الحضارة الأوروبية هذا: الجامعة"[8]، ولكن تجربة ابن رشد هناك في الشمال كانت مجرد هامش لتجربة المعلم الأول أرسطو لم يكن الاهتمام به مقصودا لذاته، كان مجرد وسيط ضمن استمرارية تجربة إنسانية حفظ ثمارها الفكرية، وليس أدل على ذلك من أن أغلب الباحثين الأوروبيين الذين درسوا ابن رشد لم يلتفتوا هم أيضا إلى حياته كقاض وكفقيه وكإنسان، إلا بما يؤكد ويشرح دوره كوسيط.[9] من إذن المسؤول عن هذا؟ يبدوا لي أن المسؤول الأول عن هذا هو ابن رشد نفسه، فهو أول من دفع بوجوده كإنسان إلى الهامش، فابن رشد "لم يخلّف أي نص في السيرة الذاتية أو ما يشبهها – على الأقل فيما بقى معروفا من نصوصه وباستثناء فقرتين أوردهما عبد الواحد المراكشي في كتابه "المعجب" رواية عن تلميذ لابن رشد، يتحدث فيلسوفنا في إحداها عن لقائه الأول "بأمير المؤمنين"، وفي الأخرى عن اقتراح ابن طفيل عليه بطلب من هذا "الأمير" تلخيص كتب أرسطو، باستثناء هاتين الفقرتين اللتين ترويان على لسان ابن رشد، فإننا نكاد لا نعثر له على حديث عن شؤونه الشخصية، ماعدا عبارات سجلها قلمه، بين ثنايا هذا الكتاب أو ذاك، أشار في بعضها باقتضاب شديد إلى ما سبق أن فعل أو ما ينوي فعله في مجال البحث العلمي والكتابة والتأليف، أو إلى ما حرّكه إلى تأليف هذاالكتاب أوذاك وأخبر في بعضها الآخر عن تنقله بين قرطبة واشبيلية ومراكش مسجلا ملاحظات سريعة بعبارات مقتضبة جدا، أو معبرا عن إحساسه بالغبطة أو بالمرارة مما له علاقة بوضعيته كفيلسوف. وبالجملة فكل ما سجله ابن رشد بقلمه أو روى عنه، مما يتعلق بشأنه الشخصي،لا يخرج عن مجال مسيرته العلمية[10]

أما كتب التراجم التي ترجمت لابن رشد فهي لم تذكر إلا محطات مهمة في حياته فلا تكاد تخرج عناصرها عن نسبه ودراسته والوظائف التي تقلدها وكتبه ووفاته ثم تعوّض هذا النقص بعبارات من نوع "ولم ينشأ في الأندلس مثله كمالا وعلما وفضلا"[11] أو "كان على شرفه أشد الناس تواضعا وأخفضهم جناحا"[12] أو "وولى قضاء قرطبة فحمدت سيرته، وتأثلت له عند الملوك وجاهة عظيمة لم يصرفها في ترقيع الحال ولا جمع المال، إنما قصرها على مصالح أهل بلاده خاصة ومنافع أهل الأندلس عامة"[13] ترسم هذه العبارات وغيرها صورة نموذجية لـ "الفيلسوف الرمز" وهذا شيء اعتاد عليه العقل العربي الذي لم يتخلص حتى اليوم من التقاليد المعرفية الشفاهية في حفظ الفضائل عن طريق اصطناع الرموز- فحاتم الطائي رمز الكرم و"السموأل" رمز الوفاء و"لقمان" رمز الحكمة، فهذه الفضائل تحتاج إلى رموز تحفظ وجودها في صحراء لا تبقي حركة الزمن فيها على شيء، فالحياة العادية للإنسان ليست جديرة بالتقييد، ليست جديرة بالإقامة في الذاكرة التي تستحق أن نضحي من أجلها بالواقع.[14] إن ما يستطيع الباحث المحقق أن يصل إليه حول حياة ابن رشد يعتمد بشكل أساسي على مهاراته كباحث في التأويل وتوظيف ما يجده من عبارات مشتتة في كتب ابن رشد ليملأ بها فجوات النموذج التقليدي الذي تقدمه كتب التراجم،[15] إلا أنها مع ذلك تظل تأويلا لحياة الفيلسوف وليست حياته نفسها .

لماذا لم يهتم ابن رشد بكتابة سيرته الذاتية ولماذا لم يلتفت إلى ذلك أيّ من تلاميذه أو أبنائه؟ يبدو سلوك ابن رشد غريبا، لأنه يبدو كما لو كان خرقا للتقاليد، لقد حرص سابقوه ولاحقوه على تدوين أو إملاء سيرتهم الذاتية – كما أرادوها- فعل ذلك الغزالي وابن سينا من قبله وابن عربي وابن خلدون من بعده، موقف ابن رشد إذن ليس مجرد "تواضع ونكران للذات"[16] إنه موقف فكري وطريقة للنظر في الحياة، أو لنقل نمط متكرر لعلاقة العقل بالواقع في التراث الإسلامي. فأزمة العقل العربي لا ترجع فقط إلى الاضطهاد والتهميش الذي تعرّض له على مدار تاريخه،[17] وإنما ترجع- بالأساس- إلى طبيعة اختياره لموضوعه، ليست الأزمة كما يلح الباحثون في تراث الثقافة الإسلامية في غياب العقلانية، وإنما في انقطاع العلاقة بين العقل وموضوعه الحقيقي وهو الواقع الإنساني، أعني الحياة والممارسة الإنسانية التي نلحظ غيابها المخيف من التراث الفلسفي الإسلامي حيث نجد "لتاريخ الفلسفة في الحضارة العربية الإسلامية مظهران: مظهر سياسي إيديولوجي، ومظهر فكري نظري. فالحاجة إلى الفلسفة كالحاجة إلى محاربتها وتضييق الخناق على أهلها كانت تمليهما دوما اعتبارات سياسية مباشرة أو غير مباشرة."[18]

فعل "التفلسف" في الثقافة العربية الإسلامية منذ بداياته الأولى كان فعلا سياسيا، مما جعل علاقته بالواقع الإنساني والحياة اليومية للناس الذين يعيشون فيه علاقة قسر وتعسّف. فالفلاسفة لم ينطلقوا أبدا من الواقع المعاش للناس، وكان الصراع السياسي على السلطة هو القوة الدافعة لفعل "التفلسف" وهو ما طبع الفلسفة الإسلامية بطابع جدلي صراعي ينتهي إلى تكفير الآخرين؛ وهو ما لاحظه ابن رشد نفسه في رده على الغزالي متهما إياه بأنه يفتقد إلى "الفضيلة العلمية"، من حيث أنه لا يتعامل مع العلم من أجل العلم ذاته بل هو يسخره لأغراض تقع خارج العلم. كما فعل في كتابه تهافت الفلاسفة الذي صرح فيه أن غرضه هو التشويش على الفلاسفة والتشكيك في أصولهم ونتائجهم، وهو مالا يليق بالعالم كما يقول ابن رشد. "فإن العالم بما هو عالم، إنما قصده طلب الحق، لا إيقاع الشكوك وتحيير العقول".[19]

نشأ "علم الكلام" ــ أولى تجليات الفلسفة الإسلامية – في إطار الصراع مع الدولة الأموية التي وظَّف معارضوها من الشيعة الفلسفة الدينية الهرمسية في تجنيد الساخطين على الحكم الأموي وراء أئمة الشيعة؛ معتمدين التأويل الباطني للقرآن. وهو تأويل يصرف معنى آيات القرآن إلى خدمة أغراضهم السياسية، وقد امتد نشاطهم إلى العصر العباسي ليؤسسوا حركة باطنية سرية تستند على الموروث الهرمسي العلمي والفلسفي في قراءة النص الديني وقد انتشرت هذه الحركة السرية في العالم الإسلامي من مشرقه إلى مغربه لتهدد الدولة العباسية، كما هددت الدولة الأموية، وساعدت على انهيارها.[20]

في مواجهة هذا التيار وفي إطار الصراع السياسي ظهرت العديد من الفرق الكلامية مثل "المعتزلة" و"أهل السنة والجماعة ". ظهرت المعتزلة كتيار فكري معارض للدولة الأموية ولعقيدة "الجبر"التي كرستها لتبرير أفعال خلفائها، حيث ترى أن الإنسان مسير وغير مخير وبالتالي فهو لا يخلق أفعاله ولا يكون مسؤولا عنها فكل عمل للإنسان منسوب إلى قضاء الله وقدره. فقالت المعتزلة بحرية الإرادة الإنسانية وقدرة الإنسان على خلق أفعاله ومسؤوليته عنها. وقد ساهم المعتزلة بنصيب وافر في الثورة على الدولة الأموية مما جعلهم ينتقلون إلى صفوف الحكم العباسي يدافعون عنه ضد أعدائه من الباطنية الذين كانوا يستندون إلى الفلسفة الهرمسية وفيثاغورس وغيره من الفلاسفة اليونانيين ذوي الاتجاه الروحاني ولم يكن أمام المعتزلة لمواجهة هذه الحركة الباطنية إلا الاستعانة بـ"اللوجوس" وفلسفة أرسطو. لقد تم استدعاء أرسطو إلى ساحة الجدل الكلامي بناء على أوامر من الخليفة العباسي "المأمون" نفسه بعد أن جاءه أرسطو في الحلم ليشرح أفضل الطرق الموصلة للمعرفة الصحيحة[21]. وبالطبع فإن أرسطو لم يكن مرحبا به من" أهل السنة والجماعة" لأنه يجعل من العقل المرجعية الوحيدة، بينما هم يعتمدون النقل والرواية ويستندون إلى"النص الديني" كمرجع وحيد. وعندما عاد "أهل السنة " إلى صفوف الحكم مع الخليفة المتوكل – الذي أراد أن يواجه نفوذ القواد العسكريين الأتراك بنفوذ الفقهاء من أهل السنة على "العامة" - حاربوا التيار الباطني كما حاربوا "الفلسفة " مستخدمين في ذلك تراث المعتزلة، أقرب خصومهم إليهم[22].

لقد تبدلت أشكال هذا الصراع إلا أنه ظل ممتدا عبر التاريخ لينتظم كل أعلام الفلسفة – أو من هم في حكمهم ممن تعاطوا مع الفلسفة - في جبهات، ويكفي أن نشير على سبيل المثال لا الحصر إلى ارتباط "الكندي" بالخليفة المعتصم بالله، ثم ارتباط "الفارابي" بسيف الدولة الحمداني، وكذلك "ابن سينا" -الشيخ الرئيس- صاحب الفلسفة المشرقية، و"الغزالي" الذي ارتبط بالوزير نظام الملك والخليفة المستظهر بالله الذي كتب له "فضائح الباطنية وفضائل المستظهرية" مدفوعا كما قال هو نفسه ب "طلب الجاه وانتشار الصيت"[23]، وكذلك "ابن طفيل" و"ابن رشد" اللذان ارتبطا بدولة الموحدين في الأندلس. لقد أدى هذا كله بالفلسفة إلى أن تتحول إلى أداة في يد السلطة، تواجه بها أعداءها بل وتبطش بهم. ويكفي على ذلك مثالا محاكم تفتيش الضمير المعتزلية وضحاياها الذين كان من بينهم أحمد ابن حنبل إمام ومؤسس المذهب الحنبلي، أحد المذاهب الأربعة الرئيسة في العالم الإسلامي اليوم.[24] هكذا خرجت من مجال عملها وهو الحياة الإنسانية التي تركت تماما للفقهاء الذين لم يفقدوا أبدا سلطتهم على الشارع أو العامة على مدار التاريخ، ومهما كانت الظروف التاريخية. وكانت هذه السيطرة على العامة هي السبب الرئيس في نكبات الفلاسفة، حيث كان الحكام يضحون بهم في سبيل إرضاء الفقهاء والعامة، وما أشبه اليوم بالبارحة، فابن رشد المستعاد ظل حضوره في الفضاء العام رهين إرادة السلطة، محدودا بحاجتها، لا يتجاوز نقد أعدائها إلى نقدها، وهو ما جعل كل استعادة لابن رشد تنتهي بنكبة لأحد أبنائه.

ابن رشد القاضي الفقيه:
تشير كتب التراجم إلى ابن رشد بلقب "الحفيد" تمييزا له عن أبيه وجدًّه، فجده[450هـ - 520] كان قاضي قضاة قرطبة وأكبر فقهاء الأندلس كما كان أبوه أيضا قاضيا على قرطبة [532]، وكلاهما في نهاية حياته ترك القضاء للتفرغ للتدريس والتأليف، ابن رشد إذن سليل واحدة من أعرق الأسر الأندلسية التي مارست الفتوى والزعامة والفقهية.[25] إننا نعرف من خلال استعراضنا لتاريخ الثقافة العربية الإسلامية أن الفقه كان على خصام مع الفلسفة؛ ونعلم أن العصر الذي عاش فيه ابن رشد مرحلة التعلم والشباب كانت من أكثر العصور التي مارس فيها الفقهاء في الأندلس سلطتهم، ليس على الفكر والثقافة وحدهما، بل وعلى المجتمع والسياسة كذلك. فمن أين لابن رشد إذن وصلت الفلسفة؟ ولماذا اختص بالفلسفة دون آبائه وأبنائه الذين عملوا كأسلافهم بالقضاء والفقه والطب في بلاط الخلفاء؟[26]

يبدو ابن رشد غربيا عن السياق الذي نشأ فيه وامتد من بعده، يبدو كما لو كان لحظة قطيعة معرفية عابرة. إلا أن هذه الغرابة مصدرها أننا لا نرى فيه إلا الفيلسوف – كما رأى هو نفسه – لكن ابن رشد في الأساس فقيه ضليع في الفقه كأبيه وجده، وقد مارس القضاء مثلهما "وكان يُفزع إلى فتواه في الفقه كما كان يفزع إلى فتواه في الطب"[27]، أما باكورة إنتاجه العلمي فقد كان في الفقه "الضروري في أصول الفقه" الذي فرغ من تأليفه حين كان عمره 32 سنة.[28]

إلا أن هذا الفقيه قد نشأ في بيئة خاصمت علم الكلام ودعت إلى ترك كل تراث الفرق الإسلامية والعودة إلى الأصل الذي لا شك فيه، وهو القرآن والسنة الصحيحة. وقد مثلت هذه الدعوى السياسة الرسمية للدولة الناشئة – دولة الموحدين – التي اتخذ مؤسسها ابن تومرت شعار "ترك التقليد والرجوع إلى الأصول" شعارا لدولته وهو ما يراه الجابري امتدادا لمشروع "ابن حزم" الظاهري[29]. وقد تزامن مع هذا نزوع عقلاني وعودة إلى "أرسطو" كما نجد عند ابن باجة[30] وابن طفيل. "فالتحرر من علم الكلام في الأندلس، قد حرر الخطاب الفلسفي مع ظهوره فيها مع ابن باجة من إشكالية التوفيق بين العقل والنقل، بين الفلسفة والدين. كما أن التحرر من الفلسفة الدينية الهرمسية قد حرر الخطاب نفسه من توظيف العلم في دمج الدين في الفلسفة، والفلسفة في الدين، الشيء الذي انشغلت به الفلسفة في المشرق. إن هذا يعني أن الفلسفة عندما ظهرت في المغرب والأندلس، ظهرت كفلسفة برهانية "عقلانية" منذ البداية".[31]

شعار دولة الموحدين- التي كان ابن رشد نفسه أحد أعلامها- "ترك التقليد والعودة للأصول" كان الأساس الذي انطلق منه ابن رشد ودفع به نحو أكثر أطواره نضوجا فقهيا وفلسفيا، ذلك في الوقت الذي كان فيه غيره من الفلاسفة أسري "التباس مسائل علم الكلام بمسائل الفلسفة" كما يقول ابن خلدون.[32] فمثلا "فخر الدين الرازي" (544 - 606 هـ) الذي كان معاصرا لابن رشد (520-595) كان يعيد تأسيس المذهب الأشعري باعتماد القياس الأرسطى، وتوظيف المفاهيم الفلسفية التي ابتدعها "ابن سينا"، في نفس الوقت الذي كان ابن رشد فيه يعيد بناء كل من الفلسفة والعقيدة القرآنية، بالعمل من جهة على تخليص الفلسفة من تأويلات "ابن سينا" والرجوع بها إلى الأصول، إلى أرسطو بالذات، والعمل من جهة أخرى على تخليص العقيدة الإسلامية من تأويلات المتكلمين، وفي مقدمتهم الأشاعرة، والرجوع بها إلى الأصول.[33]

أما مؤلفات ابن رشد التي ألفها ابتداءا- أي لم تكن شرحا أو تلخيصا – نجد أنها، إلى جانب التزامها مبدأ "العودة إلى الأصول"، كان لها أصل سابق عليه، فمثلا كتابيه" الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة" و"فصل المقال" ينطلقان من الرسالة التي ردّ فيها جدّه "ابن رشد الجدّ" على تكفير الأشاعرة، لمن ليس علي مذهبهم والتي يقول فيها: "فمن الحق الواجب على من ولّاه الله أمر المسلمين أن ينهى العامة والمبتدئين عن قراءة مذهب المتكلمين الأشعريين، ويمنعهم من ذلك غاية المنع، مخافة أن تنبو أفهامهم عن فهمها فيضلوا بقراءتها. ويأمرهم أن يقتصروا فيما يلزمهم اعتقاده على الاستدلال الذي نطق به القرآن."[34] ولا يذهب ابن رشد بعيدا عن هذا عندما يقول: "وهذا التأويل ليس ينبغي أن يصرح به لأهل الجدل فضلا عن الجمهور. ومتى صرح بشيء من هذه التأويلات إلى من هو من غير أهلها وبخاصة التأويلات البرهانية لبعدها عن المعارف المشتركة، أفضى ذلك بالمصرح به والمصرح له إلى الكفر!! فالتأويلات ليس ينبغي أن يصرح بها للجمهور، ولا أن تثبت في الكتب الخطابية أو الجدلية".[35]

ولا أسعي هنا على الإطلاق إلى التشكيك في أصالة ابن رشد وإبداعه، إلا أنني أريد التأكيد على أن هذه الأصالة النظرية متجذّرة في السياق المعرفي الذي نشأ فيه ابن رشد، ولا شك أنه تأثّر به كما أثّر فيه، كما أريد أن أؤكد أيضا على أن ابن رشد "الفقيه" هو الأساس الذي انبنى عليه ابن رشد "الفيلسوف"، وليس أدل على ذلك من منهجه في معالجة العلاقة بين الشريعة والفلسفة، فهو "لم يدافع عن الفلسفة بالفلسفة، بل دافع عنها بالفقه، فالسياق العام الذي يتحرك فيه تفكير ابن رشد هو موقعه كفقيه بل كقاض، يتحدث من داخل الشريعة الإسلامية وبمعاييرها وأحكامها."[36] لذلك نجد أن ابن رشد يتناول بالنظر الشرعي "فعل الفلسفة" وليس مقولات الفلسفة، فالتفلسف من حيث هو فعل يقع تحت طائلة الفقه بوصف الفقه "النظر في أفعال المكلفين"[37]، لذلك فابن رشد يدافع عن شرعية النظر العقلي، وليس عن نتائج هذا النظر. ابن رشد إذن "فقيه متفلسف" أو لنستخدم تعبيره "مجتهد" ، فالاجتهاد بالعودة إلى الأصول هو ما يرفع ابن رشد عن مرتبة الفقهاء الذين يقول عنهم "ولأن ها هنا طائفة تشبه العوام من جهة، والمجتهدين من جهة، وهم المسمون في زماننا هذا بالفقهاء، فينبغي أن ننظر في أي الصنفين أولى أن نلحقهم؟ وهو ظاهر من أمرهم أن مرتبتهم مرتبة العوام وأنهم مقلدون" وهم كذلك لأنهم "يصيرون أقاويل المجتهدين أصولا لاجتهادهم، وكفى بذلك بدعة وضلالا".[38] مرتبة الاجتهاد إذن هي المرتبة التي لا تتناقض فيها الحكمة والشريعة "لأن الحكمة –الفلسفة- صاحبة الشريعة وأختها الرضيعة."[39] ولأن "الحق لا يضاد الحق بل يوافقه ويشهد له".[40] ونحن نقطع قطعا أن كل ما أدى إليه البرهان وخالفه ظاهر الشرع، أن ذلك الظاهر يقبل التأويل على قانون التأويل العربي".[41] أما إذا أدى النظر البرهاني إلى نحو ما من المعرفة، بموجود ما سكت عنه الشرع، فلا إشكال هناك "لأنه بمنزلة ما سكت عنه من الأحكام فاستنبطها الفقيه بالقياس الشرعي".[42]

لم يكن ممكنا إذن لابن رشد أن يرى تناقضا بين الفلسفة والفقه لأنهما اجتمعا فيه، كان هو نفسه دليل الوحدة والاندماج العملي بينهما . لذلك يبدو موت ابن رشد نهاية مأساوية لهذه الوحدة العملية بينهما. فابن رشد لم يخلف لنا أي نص – وكذلك من كتبوا عنه قديما وحديثا- عن الممارسة العملية لذلك التوافق النظري بين الفقه والفلسفة، ولقد بحثت باستماتة عن أي فتوى عملية لابن رشد عن نص أي حكم فصل به بين متنازعين من لحم ودم أثناء الفترة الطويلة التي تولى فيها القضاء في قرطبة وأشبيلية، فلم أوفق في العثور على شيء، وقد أصابني هذا بإحباط كبير لأنى لم أجد إلا عبارات مقتضبة يعبر فيها عن ضيقه بهذا "الشغل". ألم يجد ابن رشد في قضايا الناس ما يستدعي "النظر"؟ ألم يتوقف أمام مآسيهم، وأدق تفاصيل حياتهم التي كانوا يعرضونها أمامه بوصفه "القاضي"؟ هل أثرت "عقلانية" ابن رشد على أحكامه؟ هل ضمنت الفلسفة تطبيقا أكثر عدالة للشريعة؟ كيف؟ هذه الأسئلة وغيرها كثير لن تجد إجابة لأن القاضي ابن رشد اختار أن يهدر الواقع، لأن الواقع لم يكن جديرا بالنظر العقلي، والناس الذين يعيشون فيه ليسوا إلا "العامة" الذين يحرم إفشاء التأويل فيهم. لذلك لا ينعى ابن رشد على الفقهاء أنهم يصبون الواقع والحياة الإنسانية قسرا في قوالب النصوص، أو أنهم يجعلون النص أصلا والواقع الإنساني فرع عليه، لا يهتم ابن رشد بحياة الناس قدر اهتمامه بالنصوص/ الأصول، لتبقى العقلانية العربية من بعده – كما كانت من قبله- تعيش انفصالا مؤسفا بين العقل والواقع.

قام ابن رشد بوضع الأساس النظري لذلك الانفصال عند تحديده مجال عمل كل من الفقه والفلسفة، فابن رشد الفقيه الأصولي الذي دعا إلى إعادة فتح باب الاجتهاد قصر اجتهاده على العقيدة محاولا تخليصها مما دخلها من التغيير نتيجة لتأويلات المتكلمين، ثم إعادة بناء العلاقة بينها وبين الفلسفة التي عمل على تخليصها هي الأخرى مما دخلها من الشوائب على أيدى المتكلمين والشراح[43]، هذا الفقيه بعد قيامه بهذا العمل الضخم الذي امتد لقرابة خمسة عقود من حياته حدد مجال عمل العقل في الإلهيات حيث يرى أن الفقه والفلسفة مختلفان بالموضوع والمنهج، فالفقه هو "العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسبة من أدلتها التفصيلية".[44] إن موضوعه إذن هو الأحكام الشرعية العملية، أي أفعال المكلفين أي الحياة الحقيقية للناس، العمل الزواج السفر الحرب الحب الفن وكل ما يأتيه الإنسان من أعمال في حياته. وعلي النقيض من ذلك الفلسفة التي رأى أن مجرد إفشائها في الجمهور يؤدى إلى الكفر، يقول: "فعل الفلسفة ليس أكثر من النظر في الموجودات واعتبارها من جهة دلالتها على الصانع".[45] فعمل الفلسفة ليس في الواقع، ولا يهدف إلى تحسين شروط الواقع، فالنظر يكون في الموجودات، ويكون بهدف الوصول إلى الله، إننا بإزاء موقف تراجيدي هنا، فابن رشد يخرج الواقع من مجال النظر، ليسلمه إلى فقه مؤسس على محدودية العقل أمام النص. فـ "العقل ليس بشارع"[46]، ثم يرجع ليدافع عن شرعية عمل العقل؟ أين يمارس هذا العقل إذن عمله، ولماذا؟ سيواجه ابن رشد الإجابة بنفسه، ففي زمن نكبته كانت أقسى تجاربه كما يقول: "أعظم ما طرأ عليّ في النكبة أني دخلت أنا وولدي عبد الله مسجدا بقرطبة، فثار لنا بعض سفلة العامة فأخرجونا منه"[47]، لقد طرد ابن رشد العامة من "نظره" فطردوه من حياتهم.

"الانفصال بين العقل والواقع" وهي السمة التي حاولت أن أحدد معالمها في تجربة ابن رشد في الصفحات السابقة هي أحد أهم الأسباب التي تجعلنا نقف متشككين بإزاء تجارب استعادة ابن رشد، ولنبدأ أولا بتجربة الاستعادة وآليتها التي تمثل في أحد أخطر سلبيات الثقافة العربية المعاصرة. فالمثقف العربي بشكل عام "أسير النماذج الأصلية والعصور الذهبية، يستوي في ذلك التراثيون والحداثيون، إذ الكل يفكرون بطريقة نموذجية أصولية. فالتراثيون، على اختلافهم، يفكرون باستعادة العهد النبوي أو عصر الراشدين أو العصر العباسي، أو هم يحاولون احتذاء عقلانية ابن رشد أو واقعية ابن خلدون أو قصدانية الشاطبي، والحداثيون، على تباينهم، يفكرون باستعادة عصر النهضة أو العصر الكلاسيكي أو عصر الأنوار، أو هم يحاولون احتذاء منهجية ديكارت أو ليبرالية فولتير أو عقلانية كانط أو تاريخوية هيجل أو مادية ماركس".[48] وهو ما أدى إلى أن "مفاهيم الخطاب العربي الحديث والمعاصر لا تعكس الواقع العربي الراهن ولا تعبر عنه، بل هي مستعارة في الأغلب الأعم إما من الفكر الأوروبي حيث تدل هناك في أوروبا على واقع تحقق أو في طريق التحقق، وإما من الفكر العربي الإسلامي الوسيطي حيث كان لها مضمون واقعي خاص أو يعتقد أنها كانت كذلك بالفعل. وفي كلتا الحالتين فهي توظف من أجل التعبير عن واقع مأمول غير محدد، واقع معتم مُتَفَسِّخ إما من هذه الصورة أو من تلك الصور النموذجية القائمة في الوعي/ الذاكرة العربية. ومن هنا انقطاع العلاقة بين الفكر وموضوعه، الشيء الذي يجعل الخطاب المعبر عنه خطاب تضمين وليس خطاب مضمون".[49]

وهكذا لا يكتسب الحاضر شرعية وجوده إلا بالعثور على أصل له في الماضي، فالماضي ومن يسكنونه من سلف هم أصحاب النفوذ المطلق على العقل العربي.[50] وقد فطن إلى هذا ابن رشد فلم يشر إلى الفلاسفة اليونانيين إلا بكلمتين على مدار كتابه "فصل المقال"، وهما " القدماء" و"الأوائل"، حتى يتجنب الرفض والنفور التلقائي من كونهم سابقين على الإسلام أي "جاهليين"، أو كونهم ليسوا عربا "عجم"، وكلا الكلمتين يحمل معنى سلبي.

تجربة الاستعادة ثانيا تكرس غياب العقل النقدي: فالاتصال الذي قرره ابن رشد بين الحكمة والشريعة ليس إلا فتوى دينية تحلل النظر العقلي الذي حرمته فتوى سابقة، على أساس أنه "تأمل المصنوعات للدلالة على الصانع".[51] لذلك فنحن "معشر المسلمين نعلم على القطع أنه ﻻ يؤدى النظر البرهانى [:العقل] إلى مخالفة ما ورد به الشرع، فإن الحق ﻻ يضاد الحق بل يوافقه ويشهد له".[52] وأخطر ما يترتب على هذا أن العقل الأرسطى والنص الديني أصبحا مرجعيتين مطلقتين، وأن مقولة "الحق ﻻ يضاد الحق" أصبحت حقيقة قبلية معطاة سلفا. العقل عند ابن رشد إذن ﻻيعنى المنهج أو الإجراء (procedure) النقدى، فهو نظام مضمونى (substantive) كامل ومغلق. وإذا كان "الحق ﻻ يعارض الحق" عنده، فإن هذا يرجع بالضبط إلى أن كل ما يقوله أرسطو نستطيع "نحن الفلاسفة" أن نجده فى النص أيضاً حتى لو اضطررنا إلى تأويل النص. العقل الرشدى ﻻ يفعل شيئا بشكل أساسى إﻻ "التوفيق" بين أفكار ومفاهيم انتهى التفكير فيها ولم تعد قابلة للنقد. ولعل ابن رشد لا يبتعد كثيرا هكذا من حيث غاية النظر العقلي عن خصمه الأول الغزالي الذي يقول: "إنه العقل الذي يدل على صدق النبي ثم يعزل نفسه"[53]، ولا شك أن هذا العقل المعتزل، لا يمت بصلة إلى عقل التنوير الذي ينطلق من نقد مسلماته وبديهياته.

تجربة الاستعادة ثالثا تكرس نخبوية العقل: يصنف ابن رشد الناس في درجات متفاوتة، في قمة الهرم الفلاسفة/ أهل البرهان، ثم الفقهاء/ أهل الجدل، ثم العوام/ أهل الخطابة. ويسمح المضمون المركّب للنص الدينى بأن يدرك كل نوع من الناس على قدر ما تسمح به طبيعته. وبالتالى يجب أن يقْنَع عامة الشعب بالتأويل الخطابى والحرفى للنص الدينى؛ بينما يحتفظ الفلاسفة "بالحق" فى التأويل لاستخلاص المعنى الباطن للنص. فماذا يحدث لو تطاول واحد من عامة الشعب على هذا التقسيم وفقاً "للطبائع البشرية" وقرر تأويل النص؟ يجيب ابن رشد، مفكرنا التنويرى الكبير وقائد حداثتنا، أن هذا يؤدى إلى الكفر، وما يؤدى إلى الكفر فهو كفر، وبالتالى يجب على من ليس من أهل العلم أن يأخذ بظاهر النص، كما أن من يصرِّح من أهل العلم بتأويلاته الفلسفية للجمهور كافر، لأن فعله يؤدى إلى الكفر. وباختصار يجب أن يلتزم كل فرد "بالطبيعة" و"الاستعداد" الخاصين به وألا يتخطَى حدوده فى التأويل لأن هذا يسبب بلبلة وفتنة بين الجمهور[54]، واتساقا مع ذلك يرى ابن رشد ضرورة اتخاذ إجراءات لمنع وصول كتب التأويل الفلسفى إلى هذا الجمهور.

هكذا نرى أن اتصال الحكمة بالشريعة جعل العقل قاصرا. من حيث الموضوع قاصر على الإلهيات، ومن حيث الغاية قاصر على اثبات ما جاء به الشرع، أما من حيث الفاعلين فهو قاصر على نخبة النخبة.

في قصة للكاتب الأرجنتيني خورخى لويس بورخيس بعنوان "بحث ابن رشد" نجد ابن رشد مشغولا بالتفكير في دلالة كلمة "تراجيديا وكوميديا" اللتين وردتا في كتاب فن الشعر لأرسطو، بينما يكتب الرد على كتاب "تهافت الفلاسفة" للغزالى، هكذا وضع بورخيس ابن رشد في أفقين يبدوان مختلفين لكنهما يجتمعان في شخصيته، أفق إغريقي يشرح فيه أرسطو، وآخر إسلامي يثبت فيه عدم التعارض بين علوم الشريعة وعلوم الحكمة، وفي جلسة لابن رشد مع أصدقاء له: الرحالة، الفقيه ومقرئ القرآن والشاعر، يناقشون الرحالة فيما رآه في ممالك الصين من مشاهد مسرحية أُديت في إحدى المنازل.[55]فحينما يحدثهم الرحالة عما شاهده من فنون التمثيل يسأله مقرئ القرآن إذا ما كان هؤلاء الممثلون يتكلمون؟ فيجيبه بأنهم يتكلمون ويغنون، فيرد: لماذا الحاجة إذن إلى عشرين شخصا؟ إن راويا واحدا يستطيع أن يروى أي شئ مهما كانت أحداث روايته معقدة.

فكرة الراوي الواحد القادر على رواية أشعار الكثيرين من الشعراء، والتي كانت لها موقعها الخاص في الثقافة الإسلامية هي التي تشكل طريقة وعى جلساء ابن رشد بفن التمثيل، وكيف يتم تحويره ليصير كقصيدة شعر. إن طبيعة ثقافتهم الإسلامية هي التي تحجب عنهم مالا يندرج فيها. لذلك يرتضى ابن رشد بشرح التراجيديا على أنها المدائح، والكوميديا على أنها الهجاء، بل يؤكد أن صفحات رائعة من الكوميديا والتراجيديا يذخر بها القرآن. ومعلقات الحرم! كان ابن رشد يجهل كل شيء عن الأدب اليوناني، فشرع في فهم "فن الشعر" من خلال ما كان يعرفه عن الشعر العربي؛ حيث لم يكن قادرا على تصور شعر آخر. لم يكن لدى الناقل العظيم لفلسفة اليونان إلى الغرب أي فكرة عن التمثيل المسرحي، وهكذا كان شرحه لفن الشعر قائما على سوء تفاهم محزن مضحك (مأساوي كوميدي).[56]

لم يكن استدعاء ابن رشد اليوم وتقديمه كجذر/ أصل عربي إسلامي للحداثة يرجع لمحتوى أو مضمون أعماله، فالحداثة التي يعتبر الفرد أحد حقائقها ومرجعياتها لا يمكن أن تقبل بمقولة "لا تعلقوا الدر في أعناق الخنازير" التي تبناها ابن رشد. فالحداثة في غياب الحرية، وفي غياب العقل النقدي، ستتركنا معلقين – كابن رشد- بين التراجيديا والكوميديا.

 

[1] محي الدين ابن عربي :الفتوحات المكية ، تحقيق عثمان يحيى ،القاهرة المجلس الأعلى للثقافة 1985،ج2،ص373

[2]ابن الآبار:تكملة لكتاب الصلة ،دار السعادة، القاهرة 1955،ج1،ص496

[3] عبد الفتاح كليطو :لسان آدم : ترجمة عبد الكبير الشرقاوي ،الدار البيضاء ،دار توبقال 1995 ص65

[4] محمد عابد الجابري: نحن والتراث، قراءات معاصرة في تراثنا الفلسفي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 1985، ط4، ص 113

[5] محمود أمين العالم، مجلة الطريق، ع6 ، دار أنطون ثابت، بيروت 2003 ألقي هذا البحث لأول مرة في أبريل 2012 في معهد ستراوس للدراسات المتقدمة في القانون والدين بجامعة نيويورك، ثم نشر بالإيطالية في المجلة الفلسفية العلمية المحكمة "انشيركيو" في عام 2016، وهذا لينك الدراسة المنشورة. http://www.incircolorivistafilosofica.it/averroe-fra-fiqh-e-filosofia/

[6] انظر على سبيل المثال لا الحصر ،عاطف العراقي :ابن رشد ومستقبل الثقافة العربية ،القاهرة ،الهيئة العامة للكتاب 2004

[7] نصر حامد أبو زيد: الخطاب والتأويل، الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي 2000 ، ص57 .

[8] عبد الفتاح كليطو : السابق :ص65

[9] انظر ، إرنست رينان، ابن رشد والرشدية، ترجمةعادل زعيتر، القاهرة 1957 .

[10] محمد عابد الجابري :ابن رشد سيرة وفكر :مركز دراسات الوحدة العربية ،بيروت ،ط2/ 2001، ص23 ، وانظر أيضا، عبد الفتاح التليلي، ابن رشد في المصادر العربية، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2002،ص 73 – 76 .

[11] عبد الفتاح التليلي، السابق

[12] ابن الآبار :السابق :ص196 وما بعدها

[13] محمد بن عبد الملك الأنصاري ،، السابق ، ص22

[14] Wael Farouq, alla radici della raggione araba, in Dio salvi la raggione, Benedictus16th and others, canta galli 2006, p. 81.

[15] محمد عابد الجابري :ابن رشد سيرة وفكر، مرجع سابق ،ص24

[16] محمد عابد الجابري :ابن رشد سيرة وفكر، مرجع سابق ،ص 24

[17] نصر حامد أبو زيد : السابق ص 21

[18] محمد عابد الجابري :مقدمة كتاب "فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال بيروت مركز دراسات الوحدة العربية 2002،ط3،ص13

[19] ابن رشد" تهافت التهافت " تحقيق سيلمان جمعة دار المعارف القاهرة 1964،ج1،ص16

[20] محمد عابد الجابري : السابق ،ص16

[21] ابن النديم: الفهرست ،طبعة فلوجل مكتبة خياط بيروت د.ت. ،ص243

[22] انظر محمد عابد الجابري :السابق: من ص(7-27 )

[23] انظر:الكندي: كتاب الكندى إلى المعتصم بالله في الفلسفة الأولى،ضمن رسائل الكندي الفلسفية، دار الفكر العربي، القاهرة، ط2 1978،ص 32-35 وانظرالفارابي:كتاب الملة،بيروت 1986،ص47 ، وانظر: الغزالى: فضائح الباطنية، تحقيق عبد الرحمن بدوي، دار الكتب الثقافية، الكويت 1964،ص2

[24] انظر : محمد عابد الجابري: المثقفون في الحضارة العربية : محنة ابن حنبل ونكبة ابن رشد، مركز دراسات الوحدة العربية ، بيروت ، ط3 ، 2014 ، ص 77

[25] عبد الفتاح التليلي، ابن رشد في المصادر العربية،ص16-18

[26] السابق، ص21-22

[27] محمد عابد الجابري :ابن رشد سيرة وفكر ،مرجع سابق،ص89

[28] محمد عابد الجابري : ابن رشد سيرة وفكر :المرجع السابق ،ص77

[29] انظر مقدمة كتاب ابن رشد "الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة" مركز دراسات الوحدة العربية ،بيروت 2001 ،ص 42

[30] انظر: ابن باجه:شروحات السماع الطبيعي ، لأرسطوطاليس،تحقيق معن زيادة،دار الفكر،بيروت 1981

[31] انظر : محمد عابد الجابري: مقدمة كتاب ابن رشد "فصل المقال في تقرير مل بين الحكمة من الاتصال "مركز الدراسات الوحدة العربية ،بيروت ،ج3 ،2002، ص43.

[32] ابن خلدون: المقدمة ، ص 1048-1049

[33] انظر مقدمة الجابري لكتاب ابن رشد" الكشف عن مناهج الأدلة":السابق، ص31

[34] ابن رشد الجد وكتابه المقدمات، الدار العربية للكتاب. بيروت،1988، ص427-423

[35] Averroes, Decisive Treatise& Epistle Dedicatory , trans. Charles E. Butterworth, , Brigham Young university press,2001, p26

[36] محمد عابد الجابري، مقدمة كتاب ابن رشد "فصل المقال": ، السابق، ص49

[37] The scholars have arrived at a classification of human action into five categories, al-ahkam al¬khamsa. In the middle are those deeds which are neutral, without, so to say, any ethical value and without weight at the Last Judgment. It is important to emphasize that the majority of human activity is of this category. Basically, the situation is that if the law has nothing to say, then a deed is neutral. On either side are the good and the bad. The two extremes are haram, i.e. forbidden, and wajib, obligatory. As examples of wajib one can mention the so-called five pillars: the daily prayer cycle, pilgrimage rites in Mecca, etc. Examples of haram are well-known. Most are deeds which regarded as forbidden - murder, theft, alcohol and pork for. If one performs the forbidden or omits the obligatory one is acting against the will of God and must expect to bear the consequences on the Last Day. In between are to be found the mandub, recommended, and the makruh, reprehensible. Whoever performs the mandub and avoids the makruh can expect God's praise.

[38] ابن رشد : الضروري في أصول الفقه، مختصر كتاب المستصفى، تحقيق جمال الدين العلوي، دار الغرب الإسلامي،بيروت1994 ،ص125

[39] Averroes, Decisive Treatise& Epistle Dedicatory, p 9

[40] Averroes, Decisive Treatise& Epistle Dedicatory ,p 32

[41] Averroes, Decisive Treatise& Epistle Dedicatory, p11

[42] Averroes, Decisive Treatise& Epistle Dedicatory, p17

[43] محمدعابد الجابري، مقدمة فصل المقال، مرجع سابق، ص75

[44] Averroes, Decisive Treatise& Epistle Dedicatory

[45] Averroes, Decisive Treatise& Epistle Dedicatory , trans. Charles E. Butterworth, , Brigham Young university press,2001, p1

[46] أبو إسحاق الشاطبي: الموافقات في أصول الشريعة, المكتبة التوفيقية,2003 , ج1,ص13

[47] ابن عبد الملك الأنصاري السابق 28

[48] علي حرب: أوهام النخبة أو نقد المثقف، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 1996، ص92.

[49] محمد عابد الجابري: الخطاب العربي المعاصر، دراسة تحليلية نقدية، مركز دراسات الوحدة، بيروت، 1992، ص 182.

[50] Wael Farouq, Alle radici della ragione araba,Dio salvi la ragione, Benedetto 16th, Cantagalli 2007,( 49-92), P75

[51] ابن رشد: فصل المقال، مرجع سابق ص

[52] ابن رشد: فصل المقال، مرجع سابق ، ص96

[53]الغزالي:المستصفى من علم الأصول: المكتبة التوفيقية،القاهرة،د.ت، ج1,ص6

[54] ابن رشد : فصل المقال، مرجع سابق ، ص 119-124

[55] عبد الفتاح كليطو : السابق67

[56] عبد الفتاح كليطو : السابق66