حذارِ ...
ليس كل ما له غلافان كتاباً!
إنه نتاجٌ شبيهٌ بالحالة البلازمية، بمويجاتها التي لا تزال قوانين الطاقة والحركة المسيِّرة لها تُلحق تشوشاً بعقول الفيزيائيين، من جيل لآخر ..
صحيح أن الناشر أعطاه اسمَ جنسٍ (كتاب)، ورضخ للسائد والشائع فحاول أن يُصفِّدَه بغلافين، ولكنه كتابٌ (نَفَطَ) بين يدي صاحبه، الذي رآه يتدفق كلما أسلم قيادَه، مُختاراً، لساحر ة يتقازم تحت قدميها جنُّ سليمان، هي (الشابكةُ) أو الإنترنت، وابنها الفيس بوك؛ فلم يفعل مالكُ الحقل النفطي الفيسبوكي غير أن يستدرج السردَ المتدفقَ، الذي أسقط تماماً زمن الورقة والقلم، وأعلى شأن (لوحة المفاتيح).
حسناً أيها الناشر .. هو كتابٌ، وله غلافان يحملان اسمك، لكنه غير كل الكتب ..
قد تبدأ بقراءة هذا التحذير، فأنت قارئ (كلاسيكي)، تبدأ من البسملة على أول صفحة، وتنتهي عند (الحمدله) في نهاية الكتاب .. لكنك بصدد كتاب لا يعترف بصفحة بداية وصفحة نهاية .. كل الصفحات بدايات، وكلها نهايات.
ليست ثمة صفحة بقائمة محتويات لا يعترف الكتاب ولا مؤلفه بترتيبها. كما أن ما تجدونه من عناوين جانبية، قد تتسم أحياناً بالغباء، هي ليست أكثر من آثار تطورية، ورثها الكتاب عن أسلافه القدماء، تماماً كعظمة العصعص التي تذكرنا بآبائنا من القردة العليا أو السفلى!
كُفُّوا أيها القراء عن انتظار الكاتب يرتب لكم ما تقرأوه .. رتبوه أنتم بأنفسكم، أو اتركوه مبعثراً، وفق أمزجتكم وما ترتاحون إليه ..
وهذا كتاب يستجيب لذلك ..
يمكنك أن تقرأه من آخر صفحة، وتميل إلى صفحة بوسطه، ثم تعود لصفحة في ربعه الأول ..
ولا تزعج نفسك بما حاول نقاد كلاسيكيون متجمدون الإيحاءَ به من ضرورة وجود (وحدة عضوية)، أو (محور عام)، وغير ذلك من أفكار تعيش الآن نزعها الأخير .. وعلى كل حال، فأنت إن انتابك الحنين للبحث عن وحدة عضوية، فإنك ستجدها، ولكن اعلم أنك ستضحي بجزء من متعة عفوية السرد الفيسبوكي، الذي (يبدو) محايداً، وبريئاً كرضيع ..
إذ يهم هذا العمل الذي يسميه الناشر كتاباً أن يُمتعك، متوسلاً بمصادر متعددة متنوعة للمتعة، أهمها متعة أن تشارك بعملية (كولاج) لمشاهد وأحداث عشتها، وقد تكون شاركت بصنعها، وقد أخذت ملامحُها تشحب من هول ما يعتمل في كل أنحاء العالم، وليس في بلادنا فقط، من تحولات وتحورات تجعل وجه العالم اليوم لا يشبه تماماً ما تركته عليه قبل أن تدخل فراشك بالأمس.
ومن مصادر المتعة أيضاً: تناقل المعارف، فقد بتنا لا نصبر على قراءة كتاب كامل، وحسبنا أن الوسائط المرئية تغنينا عن القراءة. كما أن (النميمة) ممتعة، لا جدال. هل يمر عليك يوم دون أن تشارك، بغير قصد طبعاً، في نميمة، ولو صغيرة؟. إننا نحن البشر مجبولون على النميمة. والنميمة من آليات صنع التاريخ البشري، كما يزعم كتيِّبٌ أوشك أن أنتهي منه الآن. كما أن فن القص إن هو إلا النميمة عينها، مقننة، بل متعاقد عليها، بعقد غير مكتوب، بين القاص (النمام) والقارئ، يتعهد فيه الطرف الثاني بالاستسلام التام للطرف الأول، من أجل متعة القيل والقال!
هذا جانب مما أردت أن أحذر منه من يقدم على فتح هذا الكتاب اليوم، ليبدأ من صفحة 95، ويعود ليفتحه غداً عند صفحة 3!
لماذا؟!
من الذي جعلني أنحرفُ فأصير كاتباً ؟
لماذا لم أعرف مهنة أخرى تعرف النوم الطبيعي ؟
ألم يكن ثمة سبيل إلى مهنة أتركها ورائي وأنا أغلق باب مسكني عليَّ ؟
مهنة لا تدخل معي إلى فراشي ؟!، ولا تدخل قبل ملعقة الطعام إلى فمي، فتفقده المذاق ؟!
أنظر الآن إلى عمال يحفرون خندقاً طويلاً ليمدوا خطوط الغاز الطبيعي .. ينتهي يومهم الشاق، فيغادرون إلى بيوتهم .. وفي الليل، يروحون في نوم عميق لم أعرفه منذ سنوات طويلة ..
إيه يا عمنا !
جاي دلوقت تقول لماذا ؟!
كان من زمان!
تجديد الخطاب الديني !
تعبير شديد الالتباس.
تجديد يعني إحلال جديد محل قديم. فنحن نقول: مثلاً: تعمير، وتعني إدخال العمران إلى حيز لم يعرفه. ولا تحتمل كلمة تجديد أي رائحة لكلمة (تعتيق)، مثلاً، أو استدراكاً أو استثناءً، وإلا كان بها شيئ من معنى كلمة (تأفيق). !فهل يجرؤ أحد على (إبعاد) قديمٍ عتيق و(إحلال) جديد، بغير تأفيق ؟!
وكلمة الخطاب أيضاً واضحة الالتباس: فالخطاب هو كل صيغة لغوية تستخدم في عرض وتوصيل أفكار، بما في ذلك القرآن، والحديث، وسائر موروثاتنا من الأسلاف المجتهدين، مهما كانت أهمية إسهاماتهم. وارتباط كلمة الخطاب بصفة الديني تؤكد ما ذهبتُ إليه.
فماذا سيجدد من يريدُ أن يجدد ؟!
أشياءٌ لا نلتفت إليها .. أو نلتفت إليها ولا نأبه لها !
هي أشياء كثيرة، منها حقيقة أن (اضطراب بناء اللغة) يعكس عدم استواء التفكير، وقصوراً في الإبداع المتصل باللغويات.
ونبسط الأمر على هذا النحو:
من خلال مسارات عصبية، تنتقل (إشارات) الأفكار إلى مراكز التعبير عنها في الدماغ، فتترجمها إلى لغة، مستخدمة (محصول) الفرد من الكلمات، بالهيئة التي استقرت في دماغه، من حيث البناء والضبط.
قد تكون الأفكار (أكبر) و(أشد توهجاً) من المحصول اللغوي.
قد تكون الأفكار أضأل، بينما المحصول اللغوي متماسك.
في الحالين: لا تكتمل دورة حياة الأفكار، ويخيب الإبداع.
وعلى فكرة، لا يقدم دورُ (مصحح اللغة) إلا رتوشاً، لا تفلح في إخفاء أوجه القصور، في الإحساس باللغة، أو في قيمة الأفكار.
المبدع الحقيقي: مُفكرٌ ساحرُ لغة!
لو. أقولُ (لو) تهيأ لنا نشاطٌ حقيقي من نقاد ذوي قدرات خاصة، لتبدتْ تماماً سوءات خريطة الإبداع في مصر، ولعلمنا أن أكثر من ثلاثة أرباع ما (تُخرجُه) مطابعنا يعاني مثل هذه الاضطرابات، التي تجعله لا يتجاوز قيمته كورق وحبر!
"سيدنا" الذي في (الحسين)!
تبدأ الحكاية حين تيسر لي، بطريقة أو بأخرى، وفي ظروف لا أتذكر تفاصيلها الآن، أن كنتُ في استقبال زميلٍ بعد عودته من الولايات المتحدة الأمريكية، وكان مبتعثاً إليها بنظام (القنوات)، حيث يتحدد أستاذان مشرفان على الرسالة، ويسافر الطالب إلى أمريكا مرةً من أجل جمع بيانات الرسالة، ثم يعود إلى مصر، ويجري أبحاثه، بإشراف أستاذه المصري، ثم يحمل نتائج الدراسة ويعود مرة أخرى إلى أمريكا، لتخضع النتائج لعمليات تحليل ونمذجة باستخدام أحدث كومبيوترات ذلك الوقت (كان عندنا في المعهد جهاز يحتل حجرة!)، وتنتهى رحلته مع الدكتوراة بالعودة إلى مصر، وإعداد الرسالة، ولا أعتقد أنها كانت تناقش في مصر، وإنما يكون مجموع نتاج هذه العملية المكوكية هو المسوغ لمنحه الدرجة العلمية.
جاء صديقنا، إذن، وفي حقيبته الأوراق النهائية التي لا تحتاج لأي جهد إضافي، غير تجليدها، لعرضها على جهات الاختصاص العلمي الإدارية، لتمنح الطالب درجته. وأعتقد أنني كنت مشاركا في استقباله بمطار القاهرة، لأستلم منه أغراضاً (خاصة جداً) كنت أوصيته بجلبها لي، سراً، وكانت بيننا درجة كبيرة من المودة.
كان بين المستقبلين عمٌّ لصديقي الكريم، أصرَّ على إكرامنا بدعوتنا للعشاء المفتخر في مطاعم (الحسين)، ولنصلي ركعتين حمداً على عودة (الدكتور) سالماً غانماً ..
ولم يكن أحد ليرفض هذا العرض الكريم، وانتهى بنا الأمر ملتفين حول مائدة على رصيف مطعم كبير. وانشغلنا في التعامل مع الطعام الفاخر، فلما انتهينا، اتجهنا إلى السيارة لنتخذ طريق مغادرة القاهرة.
وما إن وصلنا إلى مكان السيارة في شارع جانبي حتى سمعنا صرخة مدوية من العم الطيب، ورأينا بأعيننا حقيبتها وقد فُتحت عنوةً ..
وكان من الطبيعي أن نبحث أول ما نبحث عن حقيبة الدكتوراه، وكانت حقيبة فخمة، والشيئ الوحيد الذي التقطه اللص من السيارة.
المهم .. تجمهر العشرات حولنا، للفرجة لا أكثر. وبعد أكثر من ساعتين على اكتشاف السرقة، وكنا حائرين، نجلس على الرصيف أمام السيارة المنكوبة، عاجزين عن أي فعل، واقترح أحدهم إبلاغ الشرطة. وبعد دقائق، اقترب منا شخص ملفوف بالريبة، وتحدث مع العم صاحب السيارة، ناصحاً بعدم إدخال البوليس في العملية، لأن ذلك معناه ضياع أوراق الدكتوراة إلى الأبد.
قال إنه يعرف (سكة أخرى)، فانطلقنا معه.
غاص بنا، سائرين، في أزقة شبه مظلمة، لا تكاد تتسع لأكثر من ثلاثة مشاة متجاورين. وسرنا زمناً طويلاً، وانتهينا إلى بناية شبه متهدمة، تعج بالكلاب النابحة. دخل بنا (الوسيط) فيها، وقادنا إلى حجرة داخلية بلا سقف، شحيحة الضوء، حتى أننا لم نتبين وجود (سيدنا) - كما نعته الوسيط - متكئاً إلى وسادة فوق حصير على الأرض.
لم نلبث أن اعتدنا على ضوء المكان، واتضحت لنا ملامح سيدنا، بلحية رمادية مدببة، و(زبيبة) كأنها كرة من حبيبات مجمعة من (زبل الحمام). ودخل إلى صميم الموضوع. عشرة آلاف جنيه، حالاً، وقبل الخروج من المكان، وإلا فإن الأوراق، التي نقل له أتباعه أحاديثنا عن أهميتها ونحن في حيرتنا الشديدة عقب اكتشاف السرقة، ستُحرق.
لم تنجح معه أي مفاوضات، إلا عندما حصلنا على موافقته على أن يغادر عم صديقنا صاحب الرسالة المكان، برفقة بعض أعوان (سيدنا)، ليعود بعد أن يجري بعض المكالمات الهاتفية، ويقابل شخصاً يحضر له المبلغ المطلوب.
وقد حدث ..
وعادت الدكتوراه إلى صديقنا المسكين، الذي استدعت حالته الاستعانة بأطباء أمراض نفسية وعصبية لمساعدته في اجتياز اضطرابات صحية كادت تعصف به.
قصة (شبه) حقيقية .. تدخلتُ فيها لضرورات إنسانية أخلاقية حاكمة، وأخرى فنية.
أشياءٌ صغيرةٌ .. حُضُـورٌ قوي !
لبعض الأشياء الصغيرة التي أحتفظُ بها بين (مقتنياتي) شخصيةٌ تتمتع بحضور قوي.
من هذه الأشياء الصغيرة قوية الشخصية، قطعةٌ من الهيكل الكلسي للشعاب المرجانية.
كانت كبيرة الحجم، وتكفلت عوامل عديدة، بينها حب استطلاع، وربما عدوانية بعض أطفال الأسرة والمعارف، بتقليص حجمها، لكنها ظلت محتفظة بوجودها، بالرغم من أنني لا أطلُّ عليها إلا في فترات متباعدة.
أفكرُ أحياناً في أن سر بقاء هذه القطعة من الشعاب التي أُخليتْ من مراجينها هو أنها ليست مجرد قطعة من الكلس، وإنما هي تاريخ. هي سجلٌّ نشأ بهذا النمط المعماري الفريد، بإشراف هندسي من حيوان غاية في البساطة والضآلة والعبقرية، هو المرجان البحري.
وقد يتجاوز زمن تكوين هذه القطعة مائة سنة، راح المرجان خلالها يجمع جزيئات الكربونات من ماء البحر، ويتعامل معها كيميائياً وبيولوجياً، لينشئ هذه العمارة الهائلة، التي كان يسكن في كل ثقب منها (مرجان)، وثيق الصلة بغيره من المراجين: يأكلون سوياً، ويتخلصون من فضلاتهم سوياً، وإن هاجمهم مفترس انسحبوا إلى ملاذاتهم الأنبوبية سوياً.
إنها ليست قطعة من الشعاب.
إنها تاريخ من العلاقات والحكايات.
والتاريخ المسجل في حكايات كحكايات المراجين لا يضيع.
كلام الفضائيات
راجعوا أحاديث البرامج التليفزيونية، والمقالات الصحفية، التي تتعرض للمشهد المصري الآن، لتكتشفوا أن أكثر من 90% من المتحدثين والكتّاب لا يأتون بجديد، بل يعيدون إنتاج أفكار مطروحة، ومقولات ترددت كثيراً، ويجتهدون في أن يظهروا وكأنهم يقولون درراً !. والأسوأ من ذلك كله، أنهم يحرصون على أن يظهروا وكأنهم يمتلكون كل الحقيقة. والأشد سوءاً أن الجمهور لا يهتم بتبين الطيب من الغث، لغياب العقلية الانتقادية وآليات الفرز.
رقمنة
من الاستخدامات السيئة للتكنولوجيا العصرية، رقمنة الموسيقى
أختفت تقريباً الأصوات (الأنالوج) الطبيعية، وتحول كل ما يصل إلى أسماعنا من غناء وموسيقى إلى نظام الديجيتال، ليخترق آذاننا برنينه المعدني المسطح المفتقد للأحاسيس والمشاعر الإنسانية
وأفدح ما تمخض عنه هذا النظام الأغاني الشائعة باسم المهرجانات
ولأغاني المهرجانات أبعاد كثيرة، وأهم ما يمكننا أن نقف أمامه هي أنها ربما تكون بمثابة الجدار أو الحاجز الصوتي، يقيمه من يمارسها إنتاجا واستماعاً من الشباب ليبتعدوا خلفه عن عالم الكبار الذين يروهم قد أفسدوا كل شيئ.
هـ. ج. ويلز وأنا ...!
أصدقائي يعرفون تماما أخلاقي، فلا مظنة غرور.
اقول هذا بمناسبة اكتشافي أن هـ.ج. ويلز، رائد الخيال العلمي، وشخصي الضعيف، نتفق في أكثر من ناحية :
= هو أديب وأنا أديب
= هو كاتب علمي وانا كذلك
= هو خريج كلية العلوم، وأنا كذلك (كلانا درس البيولوجيا).
= هو مؤمن بداروين، وأنا احترم آراءه وأستمتع بكتاباته، وخاصة نظريته في النشوء والارتقاء
= هو تشيع لنظريات داروين وحولها إلى فكر سياسي اجتماعي، فدعا إلى التخلص من البشر الأدنياء، والمرضى، والمشوهين، والمجانين، بالإضافة إلى الملونين والسود، واليهود، أملاً في أن يصفو العالم، ويتقدم بعد أن يتخلص من المنغصات والمشاكل التي يصنعها كل هؤلاء !
وأنا لم أصل إلى هذه الدرجة من التشدد، ولكني فقدتُ تعاطفي الإنساني مع كل من أراد ويلز التخلص منهم.
= هو كفر بالديموقراطية، لأن هؤلاء الأفراد يسيئون استخدامها، تماما كما حدث، ويوشك أن يتكرر في مصر الآن. وأنا تلح عليَّ الآن فكرة أن على البشر أن يبحثوا عن صيغة أخرى، غير الديموقراطية.
بقي اختلاف بيني وبينه، هو كاتب عظيم، وأنا كاتب متواضع .. وهو كاتب خيال علمي فذ، وأنا لم أقترب من هذا الصنف من الكتابة، إلا في رواية قصيرة (تفضلت "الكلمة" بنشرها).
تأملات ستينية !
أنتمي لجيل مرَّت به أحوالٌ شديدة الوقع ..
كان مولدي في العام 1948 .. سنة (النكبة) !
بدأ وعيي يتفتح مع اشتداد عود ثورة 52 وترسخ وجودها، وتحول قائدها جمال عبد الناصر من مجرد (كولونيل) ثائر إلى صاحب نظرية جديدة في التطبيق الاشتراكي، وارتفاع مد الفكر القومي العربي، وتحقق أول وحدة عربية في القرن العشرين (مصر وسوريا) بقيام (الجمهورية العربية المتحدة)
غنيت في (القسم المخصوص) في المدرسة الابتدائية في مسرحيات صغيرة ضد الطغيان والاستبداد والعهد الملكي البائد.
حفظتُ نص (الميثاق الوطني) في المدرسة الإعدادية.
غنيت مع عبد الحليم للسد العالي.
واصلت طريقي في التعليم، برغم تواضع مستوى أسرتي المادي، حتى تخرجتُ في كلية العلوم، ولم يبلغ مجمل نفقات تعليمي جزءاً مما أنفقته أنا شخصياً على الدروس الخصوصية لأحد أبنائي، في مادة واحدة.
تحمستُ للفكر الاشتراكي، وانضممتُ في نهاية المرحلة الثانوية إلى (منظمة الشباب الاشتراكي)؛ وربما كان الهدف (المضمر) من ذلك هو الحصول على أول بذلة أرتديها، وتمضية أيام طويلة في المعسكرات، حيث الطعام والترفيه أفضل ألف مرة مما كنت أجده في بيتنا !
استفدتُ، واستمتعتُ بـ (السلع) و(الخدمات) الثقافية التي بدأت الدولة الاشتراكية تقدمها لنا، فكنت أقتني وأقرأ شهرياً أربع مجلات وأربع كتب ثقافية دورية، على الأقل، وأشاهد عرضاً أسبوعيا لإحدى فرق مسرح التليفزيون، في مسرح (سيد درويش)، أعلى التياترو، وسعر التذكرة تسعة قروش.
ضربتني النكسة في نهاية عامي الجامعي الأول. كابرتُ ورفضتُها.
التحقتُ لبعض الوقت بكتائب خدمة الجبهة، بالرغم من اضطراري للعمل صيفاً لأغني أسرتي عن تحمل مصروفاتي.
بدأتُ أنشر قصصي القصيرة في الدوريات المحلية والعربية
مات عبد الناصر فور تخرجي في كلية العلوم 1970.
التحقتُ بالجيش في أكتوبر 1970، في وحدة للحرب الكيماوية، في تشكيل قتالي شارك في عمليات حرب أكتوبر 73.
إنتهت خدمتي العسكرية في نوفمبر 1974، وعدتُ إلى الحياة المدنية محملا بأحلام رومانتيكية (عبيطة)، عن وطن منتصر، ينتظر منه أبناؤه أن يحتضنهم ويعوضهم عن سنوات قاسية مرت بهم حتى اجتازوا قناة السويس.
قتل (السادات) هذه الأحلام بسياسة انفتاح (عبيطة)، أيضاً، ضيعت ملامح مجتمع كان يأمل في التقاط أنفاسه وترتيب أحواله المعيشية على نحو عادل.
إنتهى السادات مقتولاً، كنتاج طبيعي لسياسات مجنونة.
حاولت، كغيري من ملايين المصريين، البحث عن (حل فردي)، بعد أن تخلى الوطن عنَّأ، وأفسح ساحاته للصوص وسلمهم مفاتيح خزائنه. فشلت كل محاولاتي للعمل في الدول العربية. السبب: الحنين إلى الوطن !!
شهدت مصر زمناً من أحلك أزمانها، امتد لأكثر من ربع قرن، تربع (الجنرال) مبارك على كرسي السلطة، وكأنه التصق به، حتى أزاحته غضبة شعبية جارفة، فسقط نظامُ حكمه، وظهرت مع السقوط سوءات مجتمع عايش البؤس سنوات طويلة.
..... فهل آن الأوان لنعود إلى حضن وطن لا يرفضنا ؟!
الفصل الكهربي للبروتين ...
في خريف 1976، كنت نموذجاً متكرراً مئات الآلاف، إن لم يكن ملايين المرات، للشاب المصري الذي عايش تقلبات حادة مرت بوطنه، آخرها مشاركته في حرب انتصر فيها جيش بلاده، وهو أحد مقاتليه؛ فلما وضعت الحربُ أوزارَها، إرتكب القائمون على شأن الوطن (أوزاراً) لا تغتفر، وأضاعوا ما تحقق في أكتوبر 73 في متاهات مباحثات زلقة، إنتهت إلى معاهدة مهينة؛ ثم تلاحقت أوزارُهم، فبدلاً من أن تستفيق البلاد وتمضي، ككل البلدان التي خاضت حروباً وخرجت منها منتصرة، أو حتى منهزمة، تعيد ترتيب بيتها الداخلي، وتعتني بمواردها البشرية، تعليماً وثقافةً وغذاءً وحياةً اجتماعية نظيفة، تسودها العدالة، إذا بها تمرُّ بحالة من (الخَـرَف) العام، تفرغ فيها رئيسُها لتدليل ذاته ومداعبة مناطق الشبق السياسي فيها، حتى فوجئ وهو يستحلب لذته ذاتياً برصاصات تخترق نياشينه التي منحها لنفسه، وترديه قتيلاً.
وكنتُ قد أنهيتُ مدة خدمتي العسكرية (ألإجبارية)، وهي سنةٌ امتدَّتْ – من أجل استعادة كرامة الوطن التي لم يكن لي يد في إضاعتها – لأربعة سنوات. وعدتُ إلى الحياة المدنية وكأنني عائد إلى حياة مختلفة، فقد كنت اعتدتُ الحياة العسكرية، إذ كانت ميزاتها المادية أكثر من ميزات الحياة المدنية، فقد كنتُ أجد الطعام سهلاً، طيباً إلى حدٍّ ما، ولا حاجة لي بملابس كثيرة، فأنا طول الوقت في (الأوفر-اول)، ولا أحتاج لمصروفات كثيرة، فحتى السجائر – وكنت وقتها أدخن – كنت أحصل على كفايتي منها من خلال ما كان يقدمه سلاح (التوجيه المعنوي) للجنود من مواد ترفيهية، بينها السجائر؛ إضافةً إلى أنني، طوال السنوات الثلاث الإجبارية، كنت أصرف راتبي من الوظيفة المدنية (وقدره 17 جنيها مصرياً)، إضافة إلى (مستحقاتي) بصفتي (رقيب ه. ع. مستبقٍ)، وقدرها 18 جنيها مصرياً. أي أن دخلي الشهري كان نحو 35 جنيها، وهو الراتب الأساسي لدرجة المدير العام في الحكومة في ذلك الأوان!.
ويجبُ أن أعترف أيضاً أن التواجد في الجيش طوال هذه المدة ولدَّ لديَّ ارتياحاً إلى حياة الصحراء، وكان (الملجأ)، أو (الدُشمة) التي أقيم فيها هي مكتبي وخلوة تأملاتي، وفيها كتبتُ العديد من المقالات والقصص القصيرة، نشرتُ بعضَها في مجلة الجيش، أيضاً، وهي (مجلة النصر)، بدعم من أحد المشرفين على تحريرها، الصديق الراحل، الشاعر الجميل العذب (مصطفى الشندويلي)، الذي كان (يرتب) مكافأة نشر لي قدرها (3 جنيهات كاملة) عن كل مقال أو قصة!.
إذن، فقد (لفظني) الجيش، بعد أن (أكل لحمي)، إلى العراء. عراء اقتصادي، إذ فقدتُ أكثر من نصف مجمل دخلي السابق، وعدتُ (عالةً) على أسرتي الفقيرة، التي يعولُها موظف حكومي صغير بالدرجة السادسة، وكان عليَّ أيضاً أن أوفر تكاليف حياتي الشخصية، كشاب في السابعة والعشرين، متعدد الاحتياجات، يعاني قصوراً حاداً في الموارد والإمكانيات، ويمارسُ أحلاماً مُضَيَّعةً، لا أمل في تحقيقها، في حياة خاصة، يعاود فيها طوراً جديداً في حياته التي (توقفت) لأربع سنوات، بحساب الزمن العادي، أما بحساب استهلاك الروح والجسد، فتقترب من أربعين سنة.
كنت، فعلاً، أفاجئُ نفسي في حالة (شائخة) في كثير من الأحيان. وأنا أدين بالفضل لظروف عملي، كاختصاصي بحث علمي، بالدرجة الثالثة، في المعهد القومي لعلوم البحار والمصايد، بالأنفوشي. استمتعت في المعهد، معظم الوقت، بزمالة راقية، مشبعة بالمودة، وفرت لي جوَّ أسرة بديلا عن أسرتي التي كنت لا أعايشها إلا لألقي بجسدي في فراشي، بعد انتصاف كل ليلة. وساعدني المناخ العلمي على الاحتفاظ بلياقتي الذهنية، أو بالأصح على أن أستعيدها، بعد أن استنزفتها سنوات (البيادة)؛ وتصادف أن التحقتُ بقسم علمي كان معظم أفراده زملاء دراسة، وأصدقاء الشباب الأول، في قسم علوم البحار، بكلية العلوم.
كنت أقضي معظم ساعات نهاري في المختبر، أو متسكعاً في المختبرات الأخرى، في فترة التفتيش عن موضوع يصلح لأن أسجِّل فيه لدرجة الماجستير، التي لم ألبث أن بدأتُ دراساتها التمهيدية النظرية، واجتزتُها بنجاح. وانتهى أمري بي لأن تكون دراستي حول تصنيف أسماك عائلة التونة في الساحل المصري للبحر المتوسط.
كنتُ سعيداً بدراساتي العملية، التي كانت تتيح لي أن أبقى في مختبري حتى قرب منتصف الليل أحياناً، كما كانت توفر لي الطعام الجيد في بعض الأيام، إذ كنت أشتري، على حساب ميزانية الأبحاث، عينات الأسماك من السوق، وبعد أن (أشتغلها)، أرسلها إلى (شواية) أسماك قريبة من موقع المعهد، ليلتف حولها كل (السهرانين)، وكانت سمكة واحدة من بعض أنواع التونة، تكفي لسد جوع خمسة منا!.
ولا بأس في أن أكشف لكم عن خطتي العملية في تصنيف الأسماك، إذ كنت أستعين على إحكام تحديد النوع بطرق عدة: دراسة الخصائص الخارجية للنوع (الموفولوجيا) – دراسة شكل الهيكل العظمي والجمجمة ونظام توزيع الأحشاء الداخلية – دراسة محتوى المعدة – بالإضافة إلى التصنيف الكيميائي، بتحديد نمط توزيع الأحماض الأمينية المكونة لجزيئ البروتين، وهو نمط مميز لكل نوع، وينطبق ذلك على كافة الكائنات الحية، لا الأسماك فقط. وكانت دراسة هذا النمط تستدعي توفر جهاز كهربي يفصل هذه الأحماض، واسمه (جهاز الفصل الكهربي: إلكتروفوريزيس)، ولم يكن متوفراً في مركزنا البحثي في ذلك الوقت.
وكنت حريصاً على الاتصال بالحياة الثقافية والأدبية في الإسكندرية، وخاصة قصر ثقافة الحرية، حيث كانت نشأتي ونشأة جيلي الأدبية، في نادي الشعر (الأحد من كل أسبوع)، والقصة (الإثنين). ومن أبرز الوجوه في نادي القصة بذلك الوقت، أديبة (علومية)، هي الدكتورة حورية البدري، وكانت لما تزل معيدة بقسم النبات، في ذلك الوقت، وكنت أطلعها من حين لآخر على أحوال بحثي في أسماك التونة. وكانت على علم باحتياجي الشديد إلى ذلك الجهاز.
وتصادف أن كنت في زيارة لمبنى كلية العلوم، في يوم من ذلك الخريف – 1976 – مشاركاً في إصدار مجلة ثقافية للكلية، وكنت أوشك على مغادرة المبني العتيق في (محرم بك)، وفوجئتُ بصديقتي الفاضلة الأديبة حورية البدري تنادي عليَّ، وتستوقفني، وتدعوني للصعود إلى قسم النبات، قائلةً إنها وجدت من لديهم خبرة بالفصل الكهربي للبروتين، ومن المهم لي أن أقابلهم.
إستسلمتُ لها آملاً في سبيل إلى انتهاء مشكلتي في دراستي التصنيفية للتونة، لأقابلها، خبيرة تصنيف النبات، التي تجدونني في الصورة، أجلس إلى جوارها مسترداً هيئة الآدميين، بعد نحو سنة، لا أكثر، من زمن ذلك اللقاء التصادفي، مع حورية البدري، في باحة كلية العلوم.
لكَ إفريزُك .. و لي إفريزي !
تأتي من حين لآخر شواهد تؤكد على غفلتنا.
كنت بالأمس بصحبة أحد أصدقائي المبجلين، وهو من علماء الجيولوجيا البحرية.
تطرق الجديث بيننا إلى سيناريو الجزيرتين والترسيم وكوبري الحاج سلمان.
حدثتُه عن فكرتي التي تدور حول أن السيناريو هو في حقيقته إعدادٌ للمسرح الإقليمي والعالمي لزمن ما بعد النفط، وأهم مشاهده البحث المسعور عن موارد طبيعية بديلة.
لم يكن يعرف شيئاً عن (الميثان هيدرات)، وقود المستقبل، الذي يتكون في مناطق الأفاريز القارية للبحار والمحيطات.
والإفريز القاري لساحل البحر الأحمر السعودي متسع جداً، بينما هو ضيق جداً عندنا.
يعني أن احتمالات تواجد الميثان هيدرات في إفريز السعودية شبه مؤكدة، بينما نحن فقراء فيه.
هنا، رجعتْ به الذاكرة إلى مأمورية بحثية في البحر الأحمر، على ظهر سفينة أبحاث ألمانية، شارك صديقي فيها، وقال إن الألمان كانوا يستخدمون أجهزة الاستكشاف بتركيز شديد في تلك المناطق الإفريزية، ويجمعون عينات قاعية بكثافة، ولا يقولون لأحد شيئاً عن هذا النشاط!
نشرتُ منذ سنوات، في مجلة (البيئة والتنمية) تقريراً عن الميثان هيدرات، عنوانه (إنتبهوا). لا أحسبه وجد صدىً.
إن السيناريو الذي عشناه حتى النخاع في الأسابيع القليلة الماضية، لا هدف له إلا الترسيم، للتأكيد على إبعاد (اليد المصرية) عن إفريز السعودية.
مزدوج الجنسية
لمن يكون ولاء مزدوج الجنسية ؟
وهل يمكن أن يزدوج الولاء ؟
المؤكد أن (الحنين) للوطن الأم غير (الولاء) له؛ فيمكنك ان تظل طول عمرك تحن لوطنك، وقد تزوره بشكل دوري، لزيارة الأقارب، والاطمئنان إلى (الأملاك)، مثلاً. لكن، إن وقفت على محكِّ الاختيار بين خدمة تؤديها لوطنك الأم، وأخرى لوطنك البديل، الذي أعطاك ما لم يتيسر للأول، الفقير، أن يعطيك مثله، أو حتى أقل منه، فماذا يكون اختيارك؟.
مفاتيح فكرية جديدة ...
لا أستسيغُ كثيراً من المصطلحات الأدبية والفلسفية والفنية المستحدثة.
وكنتُ أحسب أن السبب في عزوفي عنها قصور في ترجماتها، إلى أن تمكنت مني فكرة أنها عاجزة عن أن تستوعب حاضر الحضارة البشرية شديد التقلب.
كانت تلك المصطلحات تخرج فيما مضى من بطانة مذاهب فلسفية شقت سطح الحياة كردود أفعال لأحداث جسام، أفقدت الناس ثقتهم في قدرة العقل البشري على إدارة أمور الحياة على سطح الأرض؛ فليس ثمة من يشك في أن سلاسل الحروب الإقليمية والعظمى، التي شهدها القرن العشرون، ليست إلا ضرباً من الجنون، مهما اختلفنا حول دوافعها ونتائجها. فأن يلجأ الإنسان إلى (القتل والتدمير) انتصاراً لما يعتقد أنه (حق)، لا يخلو من تناقض فج!
ومن تلك الأحداث الجسام أيضاً القفزات غير المسبوقة في عالم التكنولوجيا؛ وتراجع الموارد الطبيعية بعد عقود طويلة من استنزافها طلباً للرفاهية، الأمر الذي خلق مناخاً عاماً من عدم الاطمئنان إلى المستقبل.
خلاصة القول أنني أرى أن مذاهب ورؤى قرنٍ مضى باتت قاصرة عن أن تكون (مفاتيح فكرية) يستقبل بها البشرُ الربع الثاني من القرن 21، الذي سيشهد تقلبات لم تخبر البشرية شدتها وقسوتها من قبل، نتيجة اتساع الهوة بين الفقراء المتخلفين، وهم الأغلبية، والأغنياء المتقدمين.
يحتاج العالم إلى مفاتيح جديدة، يجتمع فيها الفكر الفلسفي بالتكنولوجي بالمناخي باللوجستي.
هل ترى (المتوسط) ؟. هل ترى (الأحمر) ؟!
يمكن اعتبار مصر شبه جزيرة تمتد سواحلها للبحرين الأحمر والمتوسط آلاف من الكيلو مترات، إضافةً إلى 4 بحيرات تطل على المتوسط، وبحيرتين داخليتين، ثم نهر النيل.
وتُفاجأ بأن المصريين يأكلون أسماكاً تنتجها مزارع سمكية تنافس الزراعة على الأرض، ويتحكم في أسعارها تجار جشعون!
إن معظم المصريين لا يعرفون، حتى، أسماك البحر ومنتجاته الأخرى من قشريات ورخويات، فإن تيسرت لهم أسماك فهي من المياه العذبة والمزارع.
ولن تستطيع المزارع أن تفي باحتياجاتنا من البروتين السمكي مع تزايد تعدادنا، فعلينا إن سارت الأمور على ما هي عليه أن نتوقع تصاعد أسعار أسماك المزارع أكثر وأكثر، فالإنتاج محدود والطلب متزايد، والضمائر، مع الرقابة، معدومة.
فما السبب في أننا (لا نرى) بحارنا؟!!
إن الاعتماد على الجهود الأهلية الفردية في أنشطة الصيد البحرية لن يجدي، فالصيد البحري أصبح صناعة عصرية، تعتمد على معطيات تكنولوجية عالية في نواحي الاتصالات والرصد وأدوات الصيد وسفنه.
لقد بدأنا بداية طيبة، وكانت لدينا شركات للمصايد، أتذكر منها شركة المصايد الشمالية، وكانت تعمل في المياه الدولية، وهي التي غيرت ثقافة الطعام عند المصريين وأدخلت عليها الأسماك البحرية، وكان الناس يحصلون على إنتاجها من أسماك (الشاخورة)، مثلاً، بقروش زهيدة.
فجأةً، إنهارت الشركة، وبيع أسطولُها كـ (كهنة)!
لماذا لا نلتفت لبحارنا؟.
أثناء عملي في معهد علوم البحار كنا نشارك في تحقيقات مع سفن يونانية تصطاد في مياهنا المتوسطية الغربية، وقد أدى نشاط تلك السفن إلى تدمير مخزون طبيعي من الأسفنج الذي يزدهر نموه في تلك المياه.
لماذا لا نشجع الاستثمار في أنشطة الصيد في مياهنا الإقليمية وأعالي البحار ؟
هل إغلاق هذه الأبواب مقصود، لصالح غيلان المزارع السمكية؟!
لدينا قسمان علميان لعلوم البحار، في جامعتي الإسكندرية وقناة السويس، ومعهد قومي لعلوم البحار، ومئات العلماء، وآلاف الأبحاث، ومخزون هائل من الخبرات، وكل ذلك مُهدرٌ، لا يفيد في عمليات إنتاج الطعام البحري من سواحلنا التي لا نستحقها!
عجوز مستنير يأكل الفول في ترام الرمل ..!
يدهشني من وقت لآخر أبطال الحياة اليومية من آحاد الناس، من صنف هذا العجوز الذي جلست إلى جواره في ترام الرمل ظهر اليوم.
كان يجلس إلي جواري فلم أر من ملامحه إلا خط وجهه الجانبي، وبروزاً كبيراً، أحسبه ورماً، في منتصف جبهته، وشعراً مهملاً، وملابس شديدة التواضع. كان يضع على كف يد رقاقة معدنية بها طعام، ويأكل باليد الأخرى.
بدأ حديثه كمن يعتذر عن بساطة طعامه من الفول المدمس، وحسبته سيمضي مثرثراً فيما لا طائل منه، فأدهشني برؤية عميقة لمسائل الغذاء، هي مكون أساسي لجانب من هذه المسائل.
قال: ماله الفول؟. أحسن من الهمبورجر.
قال أيضاً: الهمبورجر جاء إلينا من بلاد الشمال .. من بلاد الجليد، حيث الناس يأكلون الهمبورجر بما فيه من دهون لتدفأ أجسامهم، ورحنا نحن نقلدهم، ربما مأخوذين بالتسمية (همبورجر)، ونحن لا نعرف معناها، فهي نسبة إلى مدينة ألمانية هي هامبورج. ما لنا نحن وغذاء أهل الشمال؟.
وكان يتخلل حديثه بعض كلمات بلغة عربية فصيحة سليمة. ولم يكن يبدو مختلاً أو معتوهاً.
أنا واثق من أنه - كما قلت له - رجل مثقف، فقد تطرق إلى مسائل عميقة تؤرق العالم بطريقة بسيطة مدهشة، وهو واع لما يقوله.
لو كان هذا العجوز المستنير بقي ملتزماً الصمت لما أحس به أحد، ولكنه لما تحدث (رأيتُه)، وأدركت أنه واحد من البسطاء الذين يسعون في الحياة، دون أن يلتفت إليهم الآخرون.
تحالف قوى الشعب العاملة ..
من التساؤلات التي لا أكف عن تأملها وأنا أراجع أحوال التجربة الاشتراكية في ستينيات القرن الماضي، بصفتي ناصري الهوي: كيـف تأتَّى لجمال عبد الناصر أن ينحت ويُطلق مقولة (تحالف قوى الشعب العاملة) ؟! .. هل كان حالماً ؟
إنه الحلم المستحيل، فقد أثبتت الأيام أن تلك القوى العاملة، التي كان يريد لها أن تتحالف، لا تجتمع على حال إلا التناقض، ولا على صفة إلا ثقافة القبح والتكالب على الفتات والاستعداد لتوفير ظهورها لمن يركبها.
أخيراً .. أمام عربة الفول !
من معالم الحياة الاجتماعية/ الاقتصادية/ السياسية في مصر الآن انتشار عربات الفول المدمس في كل مكان.
بدأت علاقتي بهذه العربات بالتأفف من منظرها العام المتردي، ومستوى نظافة كل شيئ فيها، من البائع حتى أوراق لف الأرغفة المحشوة بالفول المدمس.
ولما فرضت العربات نفسها، وأصبحت ظاهرة، لم تعد مستغربة.
وكانت بداية تعاملي معها بالتقاط لفافة فول لآكلها في الطريق، أو جالسا في مقهى. وكنتُ أراقبُ المتحلقين حولها وأمامهم صحائف الفول والمخلالات وشرائح الطماطم، وأتساءل، هل يأتي يومٌ وأخوض هذه التجربة ؟
أتي اليوم بالأمس، الثلاثاء، في نحو العاشرة صباحاً، وأنا خارج من باب مستشفى التأمين الصحي في (طوسون)، والجوع مستبدٌ بي. عبرتُ الشارع لجهته الأخرى، فوجدتُ تظاهرة عربة فول بجوار سور السكة الحديد، خط أبي قير.
والغريب هو أنني فكرتُ أن أحداً لن يراني، فالمكان بعيد جداً عن أن يتواجد فيه من يعرفني؛ ولست أدري لم فكرتُ في هذا؛ غير أن الدافع القوي الذي أدخلني إلى (حلبة الفول المدمس) هو الجوع.
وكان صاحب العربة فتى نشيطاً، متحمساً لعمله، منظماً، يجيد استخدام زبائنه، موزعاً عليهم جميعا لقب (باشا)، وهو لا يعلم أن باشا في التركية تعني (الشبشب(!.
طلبتُ طبقاً، فأعده لي من الفول الساخن، أحمر اللون، ممزوجاً بالطحينة البيضاء، والزيت، والكمون والملح، وأضفتُ أنا إليه قطعاً صغيرة من الطماطم، وعصرتُ نصف ليمونة، ثم أضفت قطعتي (فلافل). يا للهول !
وفر لي البائع شوكة، لكنني لم أستعملها إلا في تجهيز الخليط الديناميتي، واستخدمتُ أصابعي وقطع الخبز في (التغميس)، الذي بدأ في ارتباك واضح، ثم لم يلبث أن انتظم، ولم تعد أشياء تقع مني على الأرض!
كان ما شعرت به من متعة بعد هذه (المغامرة) المدمسة يعود أولاً لكسري حالة التخوف من الاقتراب من العربة، وثانياً، لحالة الشبع التام بطعام أحسستُ به لذيذاً، ومختلفاً تماماً عن الفول (الرسمي)، على مائدة البيت، أو في السندويتشات التقليدية.
وطول الوقت، لم يكف البائع عن تسميتي بالباشا، حتى أخذ مني قيمة الفاتورة: أربعة جنيهات ونصف الجنيه !
يستحقون الازدراء ...!
قابلتُ في مشواري الشاق في دروب الحياة الثقافية نوعيات مختلفة من البشر .. كثيرٌ منها نقي السريرة طيب المعدن، وكثيرٌ أيضاً في طابعه الخِسَّةُ ..
فأما النوع الأول، فلي منهم أصدقاء خلصاء. وأما نماذج النوع الثاني متدنية السريرة، فكانت تمارس ناحيتي أشكالاً من التجاهل والإهمال، دون أن تحاول حتى أن تتعرف على ما أكتب وأنتج، ولا غرابة في ذلك، فكلهم نصف موهوب أو ربع مثقف ....
لم أتأثر كثيراً بسلوكيات الأدنياء، وإن كنتُ تأذيتُ منها، فقد كان بأيديهم، كموظفين ومسئولين إداريين في بعض الهيئات الثقافية، أن يفوتوا عليَّ فرصاً أنا أحقُّ بها ممن يحصلون عليها؛ وكنت طول الوقت قادراً على مواجهتهم، وأنا ماضٍ في طريقي، أعمل بجد ومثابرة، بينما هم يتساقطون كمناشف دورات المياه!
أقابل كثيراً منهم الآن، وأجدني أقابلهم بما يستحقونه من ازدراء، فهم لا يستحقون شفقةً.
أنا (أبطال) قصصي ..!
قرأ مجموعتي القصصية، ورفع سماعة التليفون ليحاسبني على بعض ما بها من وقائع وأحداث، متصوراً أنني (بطل) كل القصص!
وهذا شأن متكرر، يعرفه معظم كتاب القصة والرواية.
يا صديقي .. أنت بتصوراتك هذه تُضفي عليَّ قدرات ليست فيَّ، ولم أمتلكها كلها في يوم من الأيام، فكاتب القصة إنسان (كذَّاب) (خبَّاص)، بائع أوهام، وإن كان متمكناً من حرفته فهو (أكذب) و(أخبص)، ويستدرج قارئه فيوقع معه على عقد ينص على أن يتيح الطرف الثاني (القارئ) للطرف الأول (القاص) الفرصة لأن يخدعه، ويبيع له أوهاماً.
هذا ملخص للعلاقة بين الكاتب والقارئ.
ويمكن أيضاً تشبيه القاص أو الروائي بمن يبني بيتاً، يأتي بأحجاره من محاجر يمتلكها هو فعلاً، أو من محاجر افتراضية، ويأتي ببعضها من محاجر آخرين، أو من بيوت هجرها أصحابها أو تهدمت.
إن تجربة الكتابة هي (معايشة)، وليست (عيشاً) ..
وهذا ما لم أقله لصديقي في التليفون، لأنه كان (مصدقاً) بشدة أنني (أبطال) قصصي كلها!
حامد جوهر لم يحصل على درجة الدكتوراه ...
أخبرني بذلك صديقي الدكتور مصطفى فوده، مؤسس المحميات الطبيعية في مصر، في لقاء معه مساء أمس ..
كان فوده قريباً من جوهر في سنوات حياته الأخيرة، وهو من أخبره بعدم حصوله على درجة الدكتوراه، التي ذهب إلى "كمبردج" من أجلها ..
والدكتوراه، لمن لا يعرف، نوعان: الأولى في (فلسفة العلوم - Ph. D) والثانية - الأعلى - في العلوم (D. Sc.)، وقد مُنح جوهر الثانية، دون أن يمر بالأولى، بعد أن قدم للجامعة 12 بحثاً جديداً عن أحياء البحر الأحمر، وبلغت قيمتها العلمية درجة رأت معها جامعة كمبردج العريقة أنها ترقى لمرتبة الدرجة الفاخرة، أعلى تكريم علمي للعلماء الحقيقيين ..
برافو ... عليَّ ...!
أزعمُ أنني أجيدُ اتخاذ القرارات الفورية .. خبرة متراكمة، لا أكثر.
من هذه القرارات، قرار اتخذتُه وأنا أمام الميكروفون، في ندوة لمناقشة كتاب صدر لصديق قديم.
كانت الندوة في مركز الإبداع، وكان يديرها أحد أساتذة جامعة الإسكندرية، وكان أستاذا في (الجغرافيا)، وواحد من الذين تلوثوا (جينياً) في الحظيرة المباركية، والكتاب عن الحياة العلمية في الجامعات الإنجليزية، وقت أن كان المؤلف يدرس لدرجة الدكتوراه في (الفيزياء).
إيه اللي لم الجغرافيا على الفيزياء ؟. شبكة تبادل المنافع الفطرية.
كنت عايشت تجربة إعداد نص الكتاب قبل طباعته، وأزعم أن أحداً في القاعة لم يكن ليعرف عنه أكثر مما أعرف، بمن في ذلك مدير الندوة، بتاع الجغرافيا. وجِئتُ أشارك في (الاحتفال) بكتاب طيب، ومؤلفه صديق، وأنا (مذاكر) كويس أوي!
ولما جاء وقت المداخلات، طلبتُ مداخلة، فسمح لي السيد المدير، فوقفتُ لأتحدث، وبدأت أفتح ورقةً كتبت فيها ملاحظات قصيرة لمقاومة النسيان، فإذا بالسيد المدير (يضبطني) أعد ورقتي، ويعترض، مطالباً عدم الحديث من ورقة، وحدد لي وقتاً قصيراً جداً، أظنه 3 دقائق، وبلا ورقة.
نظرت إلى صديقي المؤلف الجالس إلى جانبه، فلم يبد أي رد فعل.
قلت لمدير الجلسة: أنت تحتكر الكلام طول الوقت، بدون وجه حق، وتدلي بآراء خاصة حول الكتاب، وبعيداً عنه، ولا أحد يستطيع إيقافك، مع أن المدير لا يقول رأياً، وإنما ينسق بين الآراء.
فأصر، في عصبية على دقائقه الثلاثة، وبلا ورقة. هنا، أعلنت انني لن أتحدث، إحتجاجاً على أسلوب المدير القميئ. وابتعدتُ عن مكان الميكروفون.
العجيب أنه بعد انتهاء اللقاء، اقترب مني كثيرون، أكدوا على صحة موقفي، وأبدوا لي أسفهم من أسلوب المدير بتاع الجغرافيا الذي تحدث عن أشياء كثيرة غير الكتاب، لأن الكتاب كان يحكي عن مختبرات الفيزياء.
ألا أستحق أن أقول لنفسي (برافو)؟!
المركز القومي للترجمة .. إصلاحٌ وتهذيبٌ!
لوحات مظلمة مهداةٌ إلى الغائب "طلعت الشايب" .. أطفأوا مصابيحك!
===
(2)
زيارة لإدارة فنون الترجمة في الديوان العام لوزارة المالية!
------
دخلتُ صباح اليوم مبنى هذا الديوان للمرة الأولى، وللحقيقة، فقد فوجئتُ بنظافته، وبالكم الهائل من (الطاقة الإيجابية) التي تهبط على زائريه فتغمرهم وتهدهد أرواحهم.
لم أبذل مجهوداً يُذكرُ للوصول إلى إدارة (فنون الترجمة) في مبنى الوزارة، فهي إدارة معروفة جداً، تسوقك إليها لافتات أنيقة، وخطوط ملونة، إن اتبعتها، بمساعدة اللافتات، وجدتُ نفسك أمام باب سحري، ما إن تتجاوزه حتى تسمع بأذنيك، وكأنك تحلم، عبارات الترحيب بالعربية الفصيحة، والإنجليزية، والفرنسية، والفارسية، واليابانية، والألمانية، والصينية، والعبرية، والفرعونية!
هل تشك، الآن، في أنك في بيت ترجمة أصيل؟!
صحيحٌ أنني لم أجد مقعداً، ولم يستقبلني موظف متأنق بربطة عنق غالية، ولكني لم أشعر بأي غرابة، بل لم أكن بحاجة لبشر في الإدارة، فقد تكفل الـ (إيه-آيُّــون) بكل شيئ ..
لاشك أنك بحاجة لأن أفسر لك معنى (إيه-آيون) .. إنها وحدات الذكاء الاصطناعي (AI) .. وضحت؟!
لا تثريب عليك، فأنت لم تزر، مثلي، إدارة فنون الترجمة في مبنى ديوان وزارة المالية! . لم تحظ بمتعة التخاطب بملامسة سطح بلازمي شفاف، ما إن بدأتُ حواري معه حتى تدحرجت عليه محتويات ملفي الشخصي، فيما يتصل بنشاطي في الترجمة، ومعاملاتي المالية المترتبة عليه.
تصاعدت وردات ملونة، رسمت تهنئة لي، تقول: نشاط طيب، نرصده لك منذ سنوات.
قلتُ بصوت مسموع: شكراً. رد صوت أنثوي بديع: لست بحاجة لأن تشكرنا.
لم أعرف كيف أبدأ في طرح المسألة الرسمية التي جئتُ من أجلها، ومع ذلك، انطلقت عبارات بلازمية بتتابع يتيح لعينيَّ متابعتها.
كانت تقول: نعلم ما جئت من أجله. لا شأن لنا بوجود إدارة مرتعشة في المركز القومي للترجمة، لا تعرف ما الإدارة الحديثة، ولا تجيد مخاطبة المترجمين الأصلاء، مثلك، بل تمارس معهم نوعاً من الإرهاب الإداري، فترفع في وجوههم فرمانات مثيرة للشفقة، كانت سائرة في القرن الثامن عشر، صكها ناظر المالية الأول محمد لاظوغلي باشا!
قلت في أسىً واضح: وكيف تتركوننا فريسة لأناس من خارج الزمن؟!
قال الصوت فادح الأنوثة: يرفضون الاستجابة للزمن، وتتحكم فيهم دوافع نفسية، بحكم كونهم كائنات (موظفة) خالية من أي رائحة لموهبة، معادية لكم، أنتم المترجمون، الذين تتحملون مختارين أمانة اللحاق بعجلة التطور.
وانتهى الزمن المحدد لي مع النظام الإيه-آيوني، فرفعتُ له إصبعيَّ الإبهام في كفيَّ، معاً، وغادرت، مستعيناً باللافتات والأسهم الملونة ..
كيف وجدتُني خبيرَ مناخٍ؟!
لم أدرس المناخ إلا لِماماً، ضمن مادة علوم البحار الفيزيائية، في مرحلة البكالوريوس، ثم كمقرر صغير، درَّسه لنا أحد ضباط القوات البحرية، في الدراسات التمهيدية للماجستير، بقسم الدراسات البيئية، بمعهد الدراسات العليا والبحوث، بجامعة الإسكندرية.
وكانت لي اجتهاداتي المتواضعة في تتبع المعركة الوجودية المصيرية التي لا تزال تدور وقائعها حتى الآن، بين أناس يعيشون معنا في هذا العالم، ولا يأبهون بما يطرأ على مناخه من تغيرات فادحة، تنذر بكوارث لا قِبل للبشر بها، بل إن بعضاً منها وقع بالفعل، ويقع بين حين وآخر، وأناس يهتمون بهذه المسألة، ويحاولون إعلاء صوت العقل.
وكان تتبعي لهذه القضية من أجل أن أعد مقالات قصيرة (أنتجت منها العشرات) تتصل بالمسائل المناخية، نشرتها في أكثر من دورية ثقافية عامة. غير أنني أدين بخبرتي المتراكمة بالمسائل المناخية للكاتب والمترجم الكبير، الأستاذ (طلعت الشايب)، الذي غادرنا منذ أيام قليلة، رحمه الله.
كلفني طلعت الشايب بترجمة ثلاثة كتب وثيقة الصلة بنواحي مختلفة من قضية المناخ. كانت البداية بكتاب أعطيتُ له عنواناً هو (تبعات المستقبل - إقتصاديات عالمٍ يحترُّ)، وهو ترجمة (روحية) للعنوان الأصلي للكتاب. وكما هو واضح، فإنه يتناول عرض آراء مختلفة حول جدوى الإنفاق العالمي من أجل (إصلاح) أحوال المناخ الكوني. وبالطبع، فإن الكتاب ينتصر للجانب المظاهر لضرورة مواجهة تدهور أحوال المناخ، مهما كانت تكلفتها الحالية، لأن كلفة الخسائر التي يمكن أن تترتب عليها مستقبلاً مرعبة.
أما الكتاب الثاني، فكان عن تحديات تغير المناخ في القارة الأفريقية. وهو كتاب غاية في الأهمية بالنسبة لنا نحن (ألأفارقة من غير ذوي البشرة السوداء)، فالقارة الأفريقية معرضة لتغيرات مناخية شديدة، ستكون آثارُها مزعجة، ولا يمكن إغماض الأبصار عنها، فسوف تكون لها ترديداتها المؤثرة في سائر أنحاء القارة.
أما الكتاب الثالث، والذي صدر منذ شهر تقريباً، فهو (مناخ ما قبل التاريخ)، وأعترف بأنني لم أكن أعرف شيئاً عن المناخ، ولا عن تاريخ الحياة على سطح الأرض، قبل أن (أعايش) هذا الكتاب حتى النخاع، وأنا أترجمه. إننا لا نرى إلا تحت أرجلنا. ولا صلة لنا بتاريخ الحياة على الأرض، وهو يمضي في (دورات) شبه ثابتة متكررة، تخضع خضوعاً تاماً لأحكام المناخ، الذي يقضي باندثار حضارات وبزوغ أخرى، وانقراض أنواع من الكائنات الحية وسيادة غيرها، ويحرك الكتل البشرية غرباً وشرقا وشمالا وجنوبا، ويخلط الأجناس، وينقل الخبرات .. الخ. فالمناخ هو (قانون) الأرض!
ســـنةٌ فيـســــــبوكِيَّـــةٌ !
أحمدُ الله كثيراً على أنني (أدركــتُ) الفيس بوك، وأزعمُ أنني من مجيديه، وقد أفدتُ منه كثيراً، كإنسان يحرص - قدر الإمكان - على التواصل الاجتماعي، وكمشتغل بالكتابة؛ وقد أنقذني من هجمات موجات الاكتئاب، على النقيض مما يدعي به أطباءٌ نفسيون من أنه يحفزها.
وما أكتبه الآن يقومُ على فكرةٍ، توسَّــمتُ فيها الطرافة، وهي أن أسترجع أحداث ثورة 25 يناير، بمراجعة مُـرْسَـــلاتي، أو (البوسطات – Posts)، لأنها انعكاس مباشر للأفكار، في صفحتى بهذا المحفل الدينامي البديع، على مدار سنة فيسبوكية، من 25 يناير 2011، إلى 25 يناير 2012. وبالطبع،
فثمة الكثير من الشئون والإشارات المضمخة بـ(الذاتية)، لن أمسها، فهي لا تهم القارئ، وإنما سأعالج ما اعتقدت في موضوعيته، ويتصل بالثورة التي كان الفيس بوك ميدانها الأمامي !.
في الساعة الواحدة والثلث، ظهر يوم الثلاثاء 25 يناير 2011، أرسلت أخبرُ أصدقاء الفيس بوك بأن العدد رقم 557 من جريدة (القاهرة)، الصادر صباح ذلك اليوم، فيه - على صفحته الأخيرة – مقالي المعنون "رسالة النار .. الاحتجاج احتراقاً !"، وفيه أقول، إن حادثة (محمد البوعزيزي)، الجامعي العاطل، بائع الخضروات الجائل في بلدة (سيدي بو زيد) التونسية، لن تكون نهاية مسلسل حوادث الاحتجاج بإحراق الذات. وينتهي المقال بتساؤل : ترى، من سيكون مرسل الرسالة التالية ؟.
وفي الثاني من فبراير، أرسلتُ أقولُ: كنا نعاني جنرالاً واحداً، فأصبحوا ثلاثة!. وعلقت صديقتي الشاعرة (هبة يونس) : من هؤلاء الثلاثة؟. وتعجبت من سؤالها، ولكني أجبتها: مبارك وسليمان وشفيق!. ودعوتُ في الرابع من فبراير إلى (الكف عن عادة تاريخية مذمومة : تقديس الحاكم). وتعبيراً عن الدهشة التي عشناها أمام هذا الحدث المداهم المفاجئ، كان يجب أن ألاحظ، بتاريخ 5 فبراير: (معنى ما حدث، ويحدث، وسيحدث، هو أن النظام المنهــار كان هشـــاً جداً .. كان مخــوَّخاً!)، وأن أودع الحزب الوطني، إلى غير رجعة: (الحزب الوطني .. باي .. باي!). في اليوم التالي، أرسلت دعوة إلى محاكمة شعبية للفساد والمفسدين، وقلت: قد تكون الحكومة جادة في ملاحقة الفساد والمفسدين جنائياً، ولكن خبرتنا مريرة ببطء الإجراءات القانونية، وأحوال المحاكم والقضاء في مصر، مع سطوة رأس المال وقدرته على تجييش المحامين من محترفي إنقاذ المفسدين، وممن يجيدون البحث عن ثغرات في نصوص القوانين، على نحو ما جسده عادل إمام في أحد شرائطه .. شكوك تاريخية يغذيها زمن طويل من افتقاد الثقة؛ فلا ينبغي أن يحول ذلك دون إجراء محاكمة سياسية شعبية لرموز النظام المنهار.
وفي 7 فبراير، طلبت من الثوار أن يضيفوا إلى مطالب الثورة تنظيف الصحف المملوكة للدولة من أذيال لجنة السياسات وعملاء وزارة الداخلية .. نريد استرداد هذه الصحف!. ونوهتُ، في اليوم ذاته، إلى مقالي المنشور في موقع (ميديل إيست أون لاين)، وعنوانه: 1968 .. عندما ثار شباب العالم. وفي اليوم التالي، كانت دعوتي إلى ما أسميته "ثورة الإسبراي" (عرفت فيما بعد بالجرافيتي، وانتشرت الرسومات وصيحات الاحتجاج على الجدران – من فضلك، راجع دراستنا عن جداريات الإسكندرية في عدد ديسمبر 2011 من مجلة إبداع)؛ وتلخصت الدعوة في كلمات: أنبوبة إسبراي لكل مواطن نملأ بها جدران مدننا - نكتب كلمة واحد: لا نريدك معنا! وفي اليوم ذاته، تحدثت للشباب، متخوفاً:
يــا شــــــبـاب .. أرفضـــــوا الآبــــــــاء! وكنت أتمنى لو كان للحركة الثورية الشبابية في ميدان التحرير القدرة على تحقيق ذلك؛ ولكن الآباء التهموا حركة الشباب، وأقصوهم خارج المشهد. وفي الخامسة والنصف من يوم 11 فبراير، كان لي رأي: خطأ تاريخي لعبد الناصر، تعيين السادات نائباً، وخطأ تاريخي أفدح للسادات: تعيين حسني نائباً .. متى تنتهي أخطاؤنا التاريخية؟ وكان هذا الرأي نقطة أساسية في مقالي : (عمرٌ ضاعَ)، الذي كتبته يوم 14 فبراير، ونشر بعد ذلك في (اخبار الأدب).
ويستوقفني، في 17 فبراير، شريط فيديو، مع تعليق بسيط: طرحت عائلة طفلة يابانية ذات خمسة أعوام، اسمها "نينا"، على اليوتيوب، شريط فيديو لها وهي تتحدث لوالدها، وتشرح له ما يحدث في مصر، وتقول ببساطة وبراءة إن المظاهرات والاحتجاجات مستمرة في ميدان التحرير، وسط القاهرة، منذ أسابيع، بهدف إسقاط نظام الحكم، إلا أن مبارك يخيب أمل شعبه ويرفض التنحي! شريط آخر تداوله الفيسبوكيون في نفس الوقت، لرئيس الوزراء، الأسبق، الفريق أحمد شفيق، في حوار ساخن جداً على الهواء امتد لأربع ساعات، وأداره ريم ماجد ويسري فوده، واستضاف: د. أحمد كمال أبو المجد، ود.عمرو حمزاوي، ونجيب ساويرس، والروائي علاء الأسواني، والإعلامي حمدي قنديل. وكان لهذا الحوار تأثيره في ما تلى من تطور متسارع للأحداث.
ومن أهم (بوسطات) مارس :
- أتيلييه الإسكندرية ينظم أول حدث ثقافي بعد ثورة 25 يناير، ويستلهم روحها، في مؤتمر عنوانه : ثقافة المستقبل/ مستقبل الثقافة؛ ويتخذ شعارا له كلنة (كايروس) اليونانية، ومعناها (اللحظة المواتية)، التي إن لم تقتنص ضاعت، وضاع معها كل شيئ.
- إشارة وردت في موقع شركات تجارية عربية بالإنترنت إلى أن المتهمين علاء وجمال مبارك تلقيا 5% من قيمة عقد تصدير الغاز المصري لإسرائيل.
- شريط فيديو لأحد المتأسلمين السياسيين، أثار موجة استياء بقولته عن (غزوة الصناديق)، وتبجحه بأن (البلد أصبحت بلدنا)!.
- شروط تأسيس الأحزاب مجحفة للشباب والفقراء المتطلعين للمشاركة في الحياة السياسية، فهم لا يتحملون تكاليف إثبات صحة توقيعات المؤسسين ونشر أسمائهم في صحيفتين كبيرتين. لماذا لا يتم ذلك في موقع بالإنترنت، تحدده الإدارة المسئولة، وتعطي حق الدخول إليه لوكيل المؤسسين، نظير رسم معقول، لينشر الأسماء بهذه الطريقة العصرية، التي كانت أداة الشباب أصحاب الثورة، حتى لا يحرموا ثمار جهودهم.
ومن محصول شهر أبريل :
- خبرٌ مستفز منشور في موقع (ياهو) بتاريخ 4 أبريل، عن عزم أحد الممثلين البدء في تصوير فيلم يحكي السيرة الذاتية لمبارك!
- بيان مستفز، صادر في 13 أبريل عن مجلس أمناء مكتبة الإسكندرية، يبدي فيه الأمناء (استغرابهم) لاحتفاظ سوزان ثابت بـ 143 مليون دولار من أموال المكتبة في حسابها الشخصي.
تعليق : لماذا لم يتقدم (أمناء) المكتبة ببلاغ للنائب العام عن عملية السطو التي تمت على أرصدة المكتبة، بدلاً من اكتفائهم بالاستغراب، وحرصهم الغريب على تجديد الثقة بمدير ســكت على سرقة أموال المكتبة؟
تعليق: فإن كان ما تم قد حدث في غفلة من المدير، فالغفلة لا تليق بنائب رئيس البنك الدولي السابق في مسألة مالية - أرجو من المجلس العسكري الموقر أن يتدخل ويوكل المراجعة الكاملة لمجمل أحوال المكتبة للجنة عدلية فنية متخصصة .
تعليق: هل يمكنكم تصديق رجل له خبرة دولية بالشأن المالي، ومسئول عن مؤسسة ثقافية عظيمة، عندما يقول أنه لم يكن يعلم شيئا عن فساد سلطوي ظل يضرب أرصدة مؤسسته سنوات طويلة؟ .. كيف نصدق؟. يا ناس .. لا نريد أن نعود إلى الصمت على من يفترضون فينا الغباء، وينتظرون منا السكوت .. سيعودون بنا إلى الوراء، ما داموا قابعين في أماكنهم، يرقدون على بيض يفقس مزيدا من الفساد!
تعليق: خدم (العيلة المباركية) منتشرون في مواقع كثيرة .. يرتدون أقنعة، ويتجملون، ويظهرون غير ما يبطنون؛ وبعضهم يحرق الأرض تحت أرجل الثورة، على أمل أن يعود أصحاب النعمة، ويعودون هم للخدمة.
- الحوار الجاري الآن بقيادة (الجمل) يتجاهل المثقفين خارج أضواء القاهرة، وهو بذلك ســادرٌ في خطيئة النظام السابق .. لم نسمع في الدائرة المختارة إلاَّ الأفكار ذاتها، التي يرددها أصحابها هنا وهناك ويملأون الدنيا بها ضجيجا، فكأن مصر تتلخص في حلقة لا تتغير من مثقفي القاهرة .. من حقنا في الأقاليم أن نشارك ..
أوردت رويترز من أديس أبابا في 19 أبريل: اثيوبيا تبقي مصر بمعزل فيما يتعلق بسد على نهر النيل. قال وزير الموارد المائية الاثيوبي ان بلاده لم تبلغ مصر عزمها بناء سد ضخم على نهر النيل وان البلدين لم يبحثا القضية على الرغم من مخاوف من نشوب نزاع بينهما.
تعليق: أقترح اتهاما إضافيا لمبارك وعصابته: إهمال مسألة نهر النيل والموارد المائية، فهو أخطر من مجرد إهدار أموال، مهما بلغ حجمها، لأنه إهدارٌ للحياة وللمستقبل في مصر، وعواقبه وخيمة، لا يعلم مداها إلا الله. هذا بلاغ للناس .. وللنائب العام.
- خبر: عن موقع ميدل ايست أونلاين: (جائزة النيل) تجرف جائزة مبارك. مجلس الوزراء المصري يستجيب لمطالب المثقفين ويلغي أكبر جائزة في البلاد تحمل اسم الرئيس المخلوع، ويعوضها بأخرى تليق بكرامة مصر.
تعليق: هذا خبر طيب، وثمرة من ثمار يناير. فملعون من يعاود هذا السلوك القبيح ويخلع اسم الحاكم على جوائز مصر ومشروعاتها، فلا فضل لأحد في إنجازات، وإنما الفضل كله للشعب. بل إنني لأدعو إلى التخلص من مظهر قبيح آخر، هو فرض صورة الحاكم علينا في الدواوين الرسمية والميادين .. لا نريد فرعونا أو إلها أو نصف إله، وإنما مصريا كفؤاً، نختاره ليقود فريق العمل زمناً، ثم يمضي لحاله، مشكورا محترما.
ومن أهم ما شغلني في مايو، تكوين مجموعة في الفيس بوك أسميتها (مطاردو الفساد)، تمنيت لو يتوفر عليها فريق من الأصدقاء المتحمسين، فلم يستجب كثيرون. ومن القضايا التي أثرتها، عمولات السلاح. أرسلت في آخر مايو:
- هناك مسألة مسكوت عنها وعليها .. لم يقترب منها أحد .. وها أنا أفتح على نفسي عش الدبابير وأقترب منها: صفقات الأسلحة لمصر، وعمولاتها؟ .. من استفاد من هذه العمولات، التي هي في كثير من الأحيان سرقات مقننة .. من نهب عرقنا ودماء شهدائنا؟ .. إفتحوا لنا الملفات وإلا كنتم من الشياطين الخرس!
وفي الرابع من يونية، نشرت جريدة المساء تفاصيل محاولة الاحتيال والتدليس التي قامت بها سوزان ثابت للاستيلاء على قصر العروبة (بالمستندات .. قصة شراء سوزان مبارك قصر العروبة وتوكيل التنازل عنه)، ومن المثير للريب أن يتم التعتيم على هذا الخبر، وتتخاذل الدولة عن محاسبة المحتالة!
تعليق: إلى الذين لا يزالون يتعاطفون مع (العائلة الناهبة) .. ما رأيكم؟ .. عملية نصب (مشفية) .. (ما تخرش الميه) .. ولا أجدعها نصاب محترف .. يا ريت نعرف مين مهندس هذه العملية؟ .. أعتقد أنه يحمل صفة وزير. عملية نصب واحتيال مقرونة بتزوير في أوراق رسمية. يا رب سلحفاتنا القضائية تشد حيلها شوية!
تعليق ثان: تخيلوا معي .. امرأة أعطوا لها لقب السيدة الأولى. تحولت إلى ناشطة اجتماعية وسياسية وثقافية وشخصية مجتمعات دولية، وكانت حريصة على تثقيف الناس من خلال مشروع للقراءة .. ثم .. تقوم بعملية نصب واحتيال وتزوير لتأخذ قصرا من قصور الدولة، وتنشر الفساد في كل موقع تحل به .. أي تركيبة نفسية شيطانية هذه؟
واستوقفني في أخبار يونية أيضاً أن (بن اليعازر)، وزير الدفاع والصناعة الإسرائيلى الأسبق، والعضو الحالى بالكنيست الإسرائيلى، والمسئول عن قتل الأسرى المصريين فى حرب 67، قال: بكيت على مبارك .. وحذرته من الثورة فقال: لسنا تونس)!
كما استوقفني في الثاني من يوليو خبر يقول: (كشفت الشرطة البريطانية «سكوتلانديارد» أن علاء مبارك نجل الرئيس المخلوع ضبط في مطار هيثرو الانجليزي «عام2010» وهو ينقل قطعة أثرية ذهبية مغلفة بالبلاستيك في حقائبه الدبلوماسية في قضية شهيرة يعرفها كل السياسيين البريطانيين). وأتمنى أن يتم تعقب أعمال نهب الآثار، وأعتقد أننا سنضبط سرقات لا حصر لها، من هذا النوع.
وفي يوليو أيضاً، نشر موقع ميدل ايست أونلاين: مفكر تونسي يدعو إلى إلغاء الشريعة الإسلامية!.المفكر هو محمد الطالبي، ويرى أن الشريعة ليست تنزيلاً من الله بل هي أمر اخترعته ديكتاتورية الفقهاء. وننتقل إلى الكويت، لتفاجئنا امرأة عربية كويتية برأي لافت للنظر أيضاً، إذ اقترحت استعادة نظام الجواري إرضاء لمجتمعها الذكوري، ثم عادت واقترحت البحث في تصنيع خمر إسلامية!
وفي 11 يوليو، أورد 3 بوسطات متتالية :
- الثورة فرس جامح، ونحن نفرض عليها أن تسير متعكزة؛
وهي فكر مختلف، ونحن نجره جرا إلى قوالب مجمدة تصنعها أمخاخ ضربها قصور الشرايين. - ارتكب الشباب خطأً تاريخيا بأن تخلوا عن ثورتهم، وسلموها للآباء القتلة!
- إلى كل الشاكين والمتشككين والباكين والناحبين والناعبين والمولولين والمتحسرين .. برغم كل شيئ، مصر تعيش بعضاً من أروع وأبهى أيامها .. أيام ثورة .. والقادم أحلى
وفي العشرين من يوليو، أجد من يشاركني الرأي في ممر التنمية الذي يروج له الدكتور فاروق الباز. مقال علمي مهم منشور في الاهرام اليوم – صفحة قضايا واراء – عنوانه: تنمية وتعمير الصحراء المصرية .. ومالا يدركه الباز. يعارض ممر فاروق الباز. وفي العدد ذاته خبر يقول: ميناء (السخنة) يستقبل 3 حاويات يابانية ملوثة بالإشعاع !
تعليق: بـــلاغ للنائـــب العام - يدل وصول هذه الشحنة من المخلفات اليابانية المشعة على أنها عملية اعتيادية - ويدفعنا ما رأيناه من تضخم حجم الفساد وطبيعته السرطانية إلى التشكك في وجود عمليات أخرى مماثلة، يدفع ثمنها الفادح مواطنون أبرياء في بلادنا .. فهل نرى استجابة بمراجعة أنشطة استيراد مثل هذه الحاويات، وسجلات الشركات التي شاركت فيها، أم نستمر في التغاضي وكأن الأمر يحدث في كوكب آخر ؟
وفي أهرام 24 يوليو مقال للشاعر الكبير فاروق شوشة يحاول الكشف عن لغز القناصة قتلة شهداء الثورة، عنوانه: في معضلة القناصة! علقت عليه في موقع الأهرام : (مقال مهم جدا لفاروق شوشة عن احتمال أن يكون القناصة قتلة شهداء الثورة فرق خاصة من الحرس الجمهوري، وأنا في تعليقي على المقال أضيف احتمالا آخر ورد في شهادة الأديب عبده جبير المنشورة في العدد الحالي من جريدة أخبار الأدب – رجاء مشاركة الأصدقاء في الحوار وتشـــيير الموضوع).
في اليوم التالي، مدفوعا بالدعوة لمطاردة الفساد، كانت الـ(ستاتاس): ســــؤال بــرئ جــداً، والله العظيــم، ولصالــح الجميـــع، وانتصـــاراً للشــفافيــة (اللي تعبت معانا)، هو: هــل يمكن إعـــلان إقــرارات الذمــة الماليـــة لكل (رجالات) الدولة، الآن؟ مشكلتنا مع (رجالات) الزمن المستأصل أن الثروات كانت تتضخم في الخفاء، وأن اللصوص كانوا يتسترون على بعضهم .. فهل لدينا الشجاعة لنظهر ما لدينا (ع المكشوف)، أم أن بيننا من لا يزال يستحب الظلام؟! هل أنتظر من يجيب على سؤالي؟
وقد بدأت في 31 يوليو تسجيل مشاهد تخيلتها ستتحقق في المستقبل القريب، وأطلقت عليها مشاهد ظلامية، تجسد مواقف منتظرة للفاشية الدينية، منها:
- مشهد مستقبلي (1): رجل يمشي مع زوجته في الشارع، وهي سافرة الوجه .. سيارة فاخرة تقترب، عليها شعار ديني عظيم - ينزل منها أربعة ملتحين أشداء، في سراويل قصيرة، يمسكون بخيزرانات، ينهالون بها على الزوج؛ يتجمع بعض الناس (مجرد حب استطلاع)، يصيح أحد الملتحين قصير السروال: ليبرالي نجس!
- مشهد مستقبلي (2): قناة (السماحة) الفضائية تذيع، حصريا، في منتصف نهار الغد حفل تقطيع أيدي وأرجل. يعقب الحفل دائرة حوار، ويعلق عليها أفقه المحللين. لا تفوتكم. قمة الإثارة!
- مشهد مستقبلي (3): عربات خاصة للملتحين بالمترو، مكيفة الهواء، وأخرى، بلا هواء، لغير الملتحين من الليبراليين وأشباههم!
- مشهد مستقبلي (4): العلاوات الاجتماعية مقصورة على من استبدلوا الزي الإفرنكي الأعجمي بالجلباب القصير وأطلقوا اللحى. قرار جمهوري.
- مشهد مستقبلي (5): إلغاء مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار التابع لمجلس الوزراء، ليحل محله (دائرة الاستخارات القومية)!
- مشهد مستقبلي (6): بالرغم من أن أجهزة تكبير الصوت من (المحدثات)، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار، وإمعانا في العمل على أن يموت الليبراليون وأشباههم بغيظهم، تقرر تزويد كل مسجد وزاوية، حتى وإن تلاصقت جدرانها، بمزيد من المكبرات، ونفضلها مجسمة (ستريو)، على أن ترفع درجة الصوت فيها إلى أقصى درجة، على أن تتاح لكل من يريد أن يطلق صيحات الحق من خلالها، مهما قيل عن قبح صوته، فإن صوتا قبيحا يرفع الأذان لهو أفضل عند الله من صوت أي ليبرالي متخرج في الكونسرفتوار.
- مشهد مستقبلي (7): العائلات المصرية الليبرالية تحرص على توفير الحماية لبناتها خارج البيت، وأحيانا داخله، بعد تفشي حوادث (السبي)، بعد إعلان فتوى جواز سبي الحريم الليبرالي، وقد نشطت فرق السبي في الآونة الأخيرة، حتى أن سوقاً لعمليات بيع وشراء السبايا الليبراليات قد راجت في الآونة الأخيرة، وبعد أن كانت تجرى معاملاتها سراً، ينتظر أن تسمح لها الحكومة بالتداول في البورصة.
- مشهد مستقبلي (8): تتجه النية إلى مراجعة خطط أبحاث اكاديمية البحث العلمي والمراكز البحثية التابعة لها، وجميع مراكز البحث العلمي النوعية في أرض الكنانة، لتطوير السياسة البحثية، وتوجيهها إلى مجالات أصيلة، تأكيدا لصحيح الموروث، مثل: البحث في الاختلافات النوعية لأبوال النياق، لمعرفة الخواص الدوائية لبول كل نوع منها؛ ودراسة التأثيرات السيكوفيزيقية للرقية والعلاجات الروحية ومطاردة الجان.
- مشهد مستقبلي ظلامي (9): يتردد في أروقة سادة الحكم الجدد أن النية تتجه لإصدار مرسوم رئاسي يحدد، أولاً، معالم الليبرالي؛ وثانياً، يوضح الإجراءات التي يجب أن تتبع لاعتباره (مرتداً)، ثم يخير بين أن يقام عليه الحد، أو يغادر إلى أيٍّ من بلاد الكفرة الملاحدة.
- توجيه ظلامي من المستقبل المصري المنظور: "على عناصرنا المتمسكة بعرى الدين القويم تدمير أي واجهة محل ملابس زجاجية فيها (أصنام) المانيكانات، فإن كانت البضاعة المعروضة ملابس داخلية، فالإحراق أولى بها"!
في الرابع من أغسطس، جمح خيال أحد المحامين في محاكمة رموز النظام المنهار، فاستجبت لذلك وقلت: لا يجب أن نهون من شأن فكرة المحامي الذي شكك في وجود مبارك، وطالب بإثبات شخصيته جينياً. كل شيئ جائز. أعد دراسة عن السي آي إيه، وأصابعها تلعب في كل شبر، من القطب إلى القطب، وعملاؤها متنوعون، من جامعي القمامة إلى رؤساء الجمهوريات. ماذا سنخسر إن حللنا الـ (دنا) لمبارك وأسرته؟
في 19 أغسطس: (أخاف أن يبدأ الجيل الجديد في تغيير صورة علاقة المودة تجاه الجيش، فتنقلب جفاء، كحالنا مع البوليس، إن تكرر بطش المحاكم العسكرية بالشباب. إبحثوا عن صيغة مختلفة للتعامل مع الشباب، مستقبل مصر، فكلنا في خندق واحد، ولنتحمل ضغوط هذه الأيام الصعبة، إلى أن تمر على خير).
بدأت في 24 أغسطس تسجيل أفكار لكتاب أفكر في وضعه، هو الكتاب الأسود لحكم مبارك، من هذه الأفكار:
- من جنايات مبارك العديدة على هذا الوطن إهماله لخطط تنمية سيناء، كأنه تخاذل عنها عامداً متعمداً؛ ولو كانت تلك الخطط سارت في مسارها الطبيعي لاختلف الوضع الآن
- في الكتاب الأسود لمبارك: أنه أفقـرَ المصريين، وكان وزراؤه يتبجحون بمعدلات نمو وهمية، لا تذهب عائداتها إلى عامة الشعب، وإنما تصب في خزائن الحاشية وطبقة من الخدم خلقها النظام.
- في الكتاب الأسود لمبارك إساءته إدارة موارد مصر البشرية، أغلى وأهم مواردها على الإطلاق، بل لقد كان لا يتورع عن إبداء الضيق بتعداد المصريين المتزايد، مبديا امتعاضه من مطالبهم التي يعجز وإداراته المترهلة، عن تلبية مطالبهم، والغذاء في مقدمتها؛ وأصل المشكلة أن قدراته الذهنية قصرت عن التعامل مع هذه الأعداد المتزايدة، ومعظمها متعلم، أو مدرب تدريبا جيدا، على أنها موارد، في زمن يتكالب فيه العالم على الموارد، سواء كانت طبيعية أو بشرية. واكتفى بإطلاقهم في أسواق العمل العربية، ليستفيد من تحويلاتهم النقدية.
- في الكتاب الأسود لمبارك، تغييبه للشفافية، وحرصه على حجب الحقائق عن الشعب، والسكوت عن وعلى جرائم ومخازي، بحجة المحافظة على عنصر (الاستقرار)، فكان كمريض بخراج ضخم، مملوء بصديد نتن، يخفيه، إما خوفا من (جراحة)، أو استهانة بالخراج الذي تستشري سمومه في سائر الجسم.
- في الكتاب الأسود لمبارك إطلاقه أفراد أسرته الثلاثة، على نحو لم يحدث من قبل، حتى في أسر الملوك، ليمارسوا انشطة وأدوارا ليست لهم، يساعدهم في ذلك جيش جرار من الانتهازيين وممن تتوفر لديهم أخلاقيات ومهارات الخدم، فتدخلوا في شئون كثيرة، أفسدوها، وتهيأت لهم فرص ما كانوا ليحلموا بها لو أن السادات اختار نائبا آخر غير مبارك، فتضخمت ذواتهم، ومنهوباتهم، وأرصدتهم، وعقاراتهم؛ واتسع سقف تطلعاتهم إلى تمديد النفوذ بفكرة التوريث.
- في الكتاب الأسود لمبارك، أنه في سبيل تمهيد الطريق للمنتفعين من أسرته وفريق رجال الأعمال الجشعين المحيط بهم، تهاون في علاقة مصر بالكيان الصهيوني، بل لعله تحالف معه، مستخدماً إياه كخيال مآتة، يرهب ببطشه وقوته أي صوت يرتفع مطالباً بمراجعة علاقتنا به، وانطلق المنتفعون يغترفون من نتائج هذه العلاقة المهينة، التي تشل يد وفكر الحكومة الآن عن اتخاذ أي رد فعل إيجابي ضد تطاولات الكيان الصهيوني علينا. أليس في ذلك السلوك شبهة (عمالة) من رجل (ألصقت) به صفة (صاحب الضربة الجوية)؟
- سخرية الرئيس مبارك من ضحايا العبارة السلام 98
في الخامس من أكتوبر، أعلق على خبر اكتمال الخريطة الجينية للفئران: (إكتمال "جينوم" الفئران! خدمتنا الفئران طويلا كحيوانات تجارب؛ واكتمال جينومها يعني امتداد خدمتها لنا إلى مجال تجريب جديدة في الهندسة الوراثية والعلاج الوراثي. العلم يتقدم، والإنسانية مقبلة على نقلات يستحيل التنبؤ بها في المستقبل المنظور. ألا تستحق الفئران منا الشكر؟ شـــكراً للفئران!)
وأتساءل في منتصف أكتوبر: إن كنا عاجزين عن (رفع) الحد الأدنى للأجور، لعدم وجود تمويل حقيقي، فلماذا سكوتنا عن وضع سقف لهـــا؟! أسأل وأنا أعرفُ الإجابة .. فالسقف سيدُكُّ رقــابَ كثير من كبار موظفي الدولة، وكثير من الهيئات، بأجورهم المستفزة؛ وهم متخذو القرار. فأرجو ألاَّ يضج أحدٌ من المطالب الفئوية، فهي مطالبة بجانب من العدالة الاجتماعية، التي أسقطنا النظام السابق لأنه أهدرها.
وأعود، في اليوم ذاته، لأتساءل، مستدعياً روح رواية (السمان والخريف)، لنجيب محفوظ : كم (عيسى الدباغ) لدينا في مصر الآن؟
عيسى الدباغ، الوفدى الذي ألغت الثورة حزبه وحطمت مستقبله السياسى وقضت على امتيازاته.
لم أكن مستريحاً لنهاية (السمان والخريف)، حيث ألبس محفوظ عيسى الدباغ حالة من التصالح مع الذات، ومع الثورة، ومع واقع مصر الجديد. كان ذلك مفتعلاً. ولا أعتقد أن (الدباغين) الجدد يمكن أن يتصالحوا، فهم طافحون بالغيظ والكراهية للشعب الذي أسقطهم وأزاحهم.
وفي 24 أكتوبر، ألتفت لحادثة لها دلالتها: (في حادثة الرأسمالي المصري الذي قام بتعلية سور فيلته، لفت نظري أن خفراءه أطلقوا اعيرة من أسلحة آلية. هل أجهزة الأمن المصري منتبهة لما يمكن أن يكون لدي أمثال ذلك الرأسمالي من أسلحة؟ وما مصدرها؟ وهل أصبح تسليح الخفراء بنادق آلية؟ والسؤال الأساسي: هل تستطيع الإدارات الأمنية - أصلاً - الاقتراب من امبراطوريات مثل هؤلاء الأشخاص؟).
وفي 26 أكتوبر، وإزاء إحساس متضخم باختلاط الحابل بالنابل في المشهد المصري، أقول: (يشترك في الانزعاج مما يجري في مصر الآن كل من: الذين لا يرون إلاَّ تحت أقدامهم؛ والذين (يرون) جيداً .. وأهم ما يرونه مكاسب شخصية تحققت بآلية التوزيع المختلة التي استخدمها نظام مبارك لتكريس طابور يعمل من أجله، عند الضرورة. والناحيتان طبيعيتان في الصراع الدائر، بجناحيه: الحرية السياسية، والعدالة الاجتماعية). وفي السياق ذاته، كانت (ستاتاس) يوم 29 أكتوبر: (أعود إلى رأي أثبتُّـه هنــا منذ شهور قليلة، وهو أن الثورة كشفت سوء أداء فئتين يفترض أن يقودا جموع الشعب: الإعلاميين، والحقوقيين (محامين وقضاة) - الإعلاميون لامعون تحت الأضواء، ومعظمهم فارغ، متضخم الذات، يفتقر للنزاهة، ويتصارعون ويفرضون علينا الانشغال بنزاعاتهم المهنية، ومعظمها غبي. والحقوقيون، ها أنتم ترونهم يتبادلون (فرش الملاءات) لبعضهم، على نحو ينتقص من هيبة لهم، مرغوها في أوحال نزاعات مهنية، و(شرشحات) نطالعها منهم صباح مساء في الصحف والتليفزيون. عيب يا .. أساتذة ؟!
وأعود في 31 أكتوبر فأسجل رأياً يرصد غياب الدافع إلى تحقيق العدالة الاجتماعية: (من كلمات السر الحاكمة فيما يجري الآن من جدل حول الثورة: (تضارب المصالح)، بين الشخصي والعام. فكثيرون جداً حققوا مكاسب كبيرة، بجهودهم، مستفيدين من مناخ عام لا يراعي عدالة توزيع الثروة الوطنية. فلما جاء (المحــكُّ) - الثورة - تحرك الضعف الإنساني، وعلا وجيبُ الــ(أنــــا) .. وكان الصراع بين المكاسب التي تحققت، مهما كانت أسباب وأساليب تحققها، ومشاركة المجتمع في تحقيق عدالة اجتماعية، تنال، أول ما تنال، من هذه المكاسب، وأبسطها : سقف المدخولات. قلبي مع من يعانون هذه المعضلة).
وفي السياق ذاته، كانت فكرتي التي سجلتها بعد بضعة أيام: (من المسكوت عنه وعليه هذه الأيام أن أحداً لا يفكر في الاقتراب من امتيازات وأوجه دعم ضخمة جداً، يستفيد منها رأسماليون انتفعوا من فساد النظام السابق، من ضرائب وفروقات أسعار الطاقة، ولا أحد يفكر في مراجعة أسعار الأراضي المنهوبة للأفراد والشركات، وبعض بنود إنفاق جهات (سيادية) - أرجو شطب هذه الكلمة المقرفة من مفردات اللغة العربية - ومن كل هذه الأشياء يمكن أن يتوفر ما يحل مشاكل التفاوتات الاجتماعية. فلماذا لا يتحرك أحد؟ أعرف الإجابة، وهي، لأن معظم من يقدرون على التحرك، من شخصيات فاعلة في الساحة هذه الأيام، (مستفيدون) على المستوى الشخصي، فمخصصاتهم المنتفخة لا تزال سارية).
في 6 نوفمبر: صعقني خبرٌ قرأتُه بالأمس: سوزان مبارك اعتمدت في شهر (مايو) الماضي - بعد ثلاثة أشهر فقط من الثورة - قرار مجلس أمناء مكتبة الإسكندرية بالتمديد لسراج الدين، مدة ولاية جديدة!
أرجو ألاَّ يكون الخبرُ صحيحاً، وإلاَّ يتأكد لي أننا نعبث.
في فجر اليوم التالي، تملكتني حالة تذكر، فسجلت منها: (ذهبنا، ونحن طلبة، نشتكي للمعيد الشاب "أحمد زويل" أن الامتحانات في الساعة الثانية بعد الظهر، حيث حرارة سرادقات اللجان لا تطاق. رد علينا: "المستعد يمتحن حتى في كونك إتش سي إل"! يقصد في حمض الهيدروكلوريك المركز. ولم أنس هذا التعبير، فكنت دائما لا أذهب إلى أي كونك إتش سي إل إلا وأنا مستعد! (من تداعيات ساعات الفجر).
وبلغ بي الضيق، مساء 24 نوفمبر، مبلغه، وأنا أشاهد وجوهاً متكررة في أحد المكلمات الفضائية، فكتبت: (من ضيوف برامج المكلمة الدائمين ضابط مباحث أمن دولة سابق (أسمعه في هذه اللحظات في برنامج توك شو مشهور)، وضابط مخابرات سابق، يحملان الآن صفة خبراء أمنيين، وكانوا ، مع غيرهم، من (كلاب السلطة) في عهد مبارك؛ ويفرضهم علينا الإعلام الآن، متجملين، يستغلون (طيبة) وضعف ذاكرة الناس. وليتهم يقدمون لنا شيئا ذا بال، وإنما يعيدون إنتاج أفكار مستهلكة، قرفنا منها، ومنهم).
وفي اليوم نفسه، قلت، كأنني أصيح: (لماذا الإصرار على نغمة أن ميدان التحرير ليس هو كل مصر؟ وهل القاهرة هي كل مصر؟ وهل القوات المسلحة هي كل مصر؟ وهل الرأس هي كل الجسم؟ وهل لدي من يتشككون في قيمة ميدان التحرير إحصائيات تؤكد تشككهم؟ وهل يستحق هذا الميدان العبقري، بعد كل ما تحقق فيه، أن نشكك في شرعيته؟)
ونشرت المصري اليوم في هذا اليوم خبراً، نصه: استشهدت، مساء الثلاثاء، رانيا فؤاد، الطبيبة بالمستشفى الميدانى بميدان التحرير، نتيجة اختناقها بالغاز المسيل للدموع الذى أطلقته قوات الأمن المركزى ضد المتظاهرين فى الاشتباكات التى استمرت حتى ظهر الأربعاء. وبعد أيام قليلة، وفي 29 نوفمبر، نشرت (بوابة الأهرام الإلكترونية) خبر: بالمستندات موظفون بجمارك السويس يرفضون تسلم 7 أطنان قنابل غاز من أمريكا للداخلية! علقت عليه: جســـر بحري من غازات الدموع لنجدة الداخلية المصرية ضد الشعب المصري .. يذكرنا بالجسر الجوي الأمريكي لإسرائيل في 73 .. ! .. أي عــــار!
تعليق آخر: بلاغ للنائب العام .. من فضلك .. اتخذ إجراءاتك في هذه الواقعة .. فقط !!
طبيبة، على أرض مصرية، وسط القاهرة، تمارس حقها الطبيعي كمواطنة بالتواجد في أي مكان على أرض بلادها (الحرة!) .. وتقوم (متطوعة) بمساعدة أبناء وطنها، يتم اغتيالها بسلاح كيماوي، استورده وزير الداخلية، وأمر باستخدامه واحد من جيش اللواءات العاملين معه، ليصيب هذه المواطنة المصرية العظيمة، ويسلب حياتها، وهي تبدأها! أنا أتهم وزير الداخلية وأتباعه بقتل الشهيدة رانيا، بسلاح محرم دولياً، قتلاً عمدياً.
فاض بي الكيل في 25 نوفمبر من ظاهرة يرتفع صوتها من حين لآخر، فعبرت بالعامية: مستغرب إن ما فيش حد فكر إننا - في الظروف دي - نرجع للملكية - في وجود (الملك) - العيل - أحمد فؤاد - لا أستبعد أن يظهر شلة تافهين - زي شلة آسفين يا زفت - ويطلعوا علينا بشعار: آسفين يا جلالتو!
في الثاني من ديسمبر كان من رأيي أنه: (يخطئ من يعتقد أن دولة دينية ستكون اختيارا مناسبا للشعب المصري، وجانب كبير منه ناله حظٌ وافر من الإفقار والتدهور العام بفضل حكم مبارك المخلوع؛ فإن لم تفلح (الأغلبية الجديدة) في حل مشاكله (وأشك في أنها ستفعل، فلا قدرات ولا خبرات لديها)، فإن حالة (الانقياد الديني) ستتراجع أمام استمرار ضغوط الفقر والتدهور، وستكون مصحوبة بخيبة أمل كبيرة، وربما انتهت إلى مضاعفات خطيرة). وربما كان وراء هذا الرأي امتعاضي الشديد من شريط فيديو لمتأسلم سياسي سلفي، يقول فيه: إن وجه المرأة كفرجها! وزاد طين ذلك الشريط بلة أن تعليقا قد صاحبه، يقول: يمتنع عن المشاهدة غير المسلمين لإنه شيخنا ونحن فقط من له الحق في إنتقاد فتواه وأرائه الدينيه نقدأً بناءً(!)
وبعد أن قرأت دراسة عنوانها (مصر هبة الحبشة!)، في مجلة الكلمة الإلكترونية، التي يرأس تحريرها الدكتور صبري حافظ، رأيت أن ألفت النظر إلى هذه الدراسة المهمة: دراسة مهمة جداَ، أدعوكم لقراءتها، فهي تكشف أبعاداً خطيرة لشأن يتصل بصميم وجودنا كمصريين، وهو مياه نهر النيل، التي بدونها لا حياة لمصر.
ورصدت في 7 ديسمبر: علامة مبهجة - واحد من آلاف الشباب الموهوبين في بلادي - لا يكاد يعرفه أحد، بينما لا عبو الكرة التافهون، والمغنون الناهقون البشعون، يستأثرون بالأضواء، والأموال! هيثم دسوقي - مخترع مصري شاب - شاهدوا الفيلم لتحصلوا على جرعة انتعاش!
وفي 9 ديسمبر، انتشرت نكتة مدوية، فقد صرح واحد اسمه (الشحات) بأن مستوى نجيب محفوظ الفني ضعيف ولغته ركيكة. تخيلوا! ما توقفت أمامه هو: كيف سمح لنفسه أن يقضي (كل هذا الوقت) في قراءة (كل) إنتاج أديبنا العالمي الخالد، ليخرج إلينا بهذه المقولة القاطعة المانعة؟!
وفي العشرين من ديسمبر، ساءني، ككل المصريين، منظر سحل الفتاة وتعريتها على أسفلت ميدان التحرير: "لا ينبغي أن نغض الطرف عن هذه الصورة البغيضة.
مهما كانت (جريمة) هذه الشابة (المصرية) العزلاء، فإنها لا تستحق من هذه الفصيلة (المدججة) بمعدات القتال، من (مغاوير) جيش وطنها، أن ينتهكوا آدميتها ويعروها على هذا النحو المخزي. أطالب بمحاسبة هؤلاء العصبة من الهمج الذين لا يستحقون شرف الانتساب للجندية المصرية. يمكن للتحقيقات والاستخبارات العسكرية ذات القدرات الرهيبة أن تأتي بهم. فإن لم يحدث، وإن لم نقتص لهذه الفتاة المنتهكة، التي هي أعلى شرفاً، وأزكي وطنية من أشباه الرجال الذين اجتمعوا على إيذائها .. إن لم يحدث ذلك، ستظل الرجولة المصرية مخدوشة، وسنكفر بأشياء كثيرة!"
وجلب الاستياء من ذلك السلوك الهمجي تداعيات أخرى، منها: (يجب أن تتسع الدعوة لإنهاء حكم العسكريين لتشمل إنهاء حالة (عسكرة الدولة).
عشرات الآلاف من الضباط السابقين، جيشا وشرطة، يحتلون وظائف مدنية كبيرة، بلا أي مؤهلات. كل ما كان مطلوبا منهم أن يكونوا (عُصياً غليظة)، تحقق (الضبط والربط) في مؤسسات الدولة .. فاستشروا في كل مكان).
وفي آخر أيام السنة، كتبت معلقاً: (أســـوأ خبــر سمعته في نهاية 2011 (إنتخاب) سراج الدين نائباً لمدير المجمع العلمي المصري، في تحدىٍ سافر لمشاعر المصريين، كأن هناك من يكافئه على دعمه المباشر للنظام المباركي والعائلة المخلوعة .. كأن الذين اختاروه مغيبون، لا يدركون أن ثورة قامت على بعد أمتار منهم، وأن ألسنة نيرانها قد طالتهم!)
وفي 11 يناير، أستمر في مراقبة وتأمل مجريات الأمور، وأكتب: (مقالي الجديد عن نوع من (القراد)، لا يعيش إلاَّ في آذان الخفافيش. عيشة تطفل. تفسد الأذن التي يصيبها القراد، فلا تقوم بوظيفتها الحيوية للخفاش؛ فهو (يرى) بأذنيه، عن طريق تحسس الأصوات التي تحيط به. ولا يصيب القراد غير أذن واحدة، فقط، ويترك الأخرى سليمة. ليس ذلك حباً في العائل، ولكن (الطفيل) - الحويط - يدرك أن ضياع الأذن الثانية يعني موت عائله، وموته هو بالتالي.
جانب من مشاكلنا الحالية أن قراداً كثيراً نما وازدهر في أذن النظام السابق.
ولا يزال هذا القراد يناضل من أجل المحافظة على (الأذن الثانية) سليمة .. ليس من أجل سواد عيون النظام، ولكن حرصاً من القراد على مصالحه وحياته.
فإلى الجحيم بالخفافيش، وبكل أنواع القراد!)
وأكتب ستاتاس ثانياً: (كنا نزور، في طفولتنا، أقارب لنا في الأرياف. وكنت أرفض ركوب الحمار، وهي متعة كان يتعارك عليها أخوتي. وسألني قريب ريفي عن السبب، فقلت، ببساطة (حرام). ويبدو أنني كنت رومانتيكياً (من يومي). فضحك الرجل وقال: دي ركايب .. لازم تتركب وإلا تزعل مننا! فصدقته، وركبت الحمار، حتى لا يزعل مني!
للأسف الشديد، أستطيع أن أرى كثيرا من الناس، عبر أحداث سنة الثورة، لا تستطيع أن تنسى أنها .. ركايب! وكانت (زعلانه)، لأن الثورة جاءت لتحررها من راكبيها .. فهي تريدهم .. ولا تزال!)
في الرابع عشر من يناير، أطلقت مجموعة جديدة في الفيس بوك، أسميتها (حكومة ظل)، هدفها المشاركة في إعادة بناء الوطن، واستعادة ملامحه، بالأفكار الجديدة، وفي تجرد شديد، وهي مجموعة نشطة، وساحة حوارات مفيدة.
وأنهي هذا العرض بنص تهكمي وصلني في بريدي الإلكتروني، فنشرته بالفيس بوك، يقول:
آه منكو يا مصريين !
يعني حصل ايه، يعني، لما الواد الغلبان علاء مبارك اتجوز من هيدي، بنت رجل الأعمال مجدي راسخ، اللي اشتغل مع رجل الأعمال محمد نصير، صاحب "فودافون" ؟
وهاستفيد ايه، أنا يا مواطن يامصري يا غلبان، يعني، لما اعرف ان مرات راسخ هي (ميرفت قدري)، وجدها هو ابن خال عثمان أحمد عثمان؛ واخت مرات علاء متجوزة شريف البنا، ابن محمد البنا، بتاع مجلس الشعب؟
ايه اللي انت استفدته، كمواطن، لما عرفت - يعني - ان بنت الجنزوري تكون متجوزة من واحد اسمه مصطفى حيزة، وشغال مدير اعمال حسين سالم ؟
وايه يعني لما مرات سيادة الشفيق فريق، نزيهة الجمال، تبقي عمة خديجة الجمال، مرات جمال مبارك؟ مالنا احنا؟ .. إنشالله ياكلوا بعض!
وايه اللي حصل - يعني - في الدنيا، لما يكون زهير جرانه إبن خالة محمد منصور والمغربى وأحمد عز؟ .. خربت الدنيا؟
وعادي جدا، في رأيي المتواضع، إن منير ثابت، اخو سوزان مبارك، يبقي جوز خالة انس الفقي؟ .. موش كل واحد له خالة .. والخالة لازم تكون متجوزة؟
طيب، وإيه يعنى لما سري صيام، رئيس محمكة النقض، يبقي ابو سري صيام، رئيس البورصة؟ سنة الحياة .. كل إبن له أب! ومنير فخري عبد النور، وزير السياحة، يبقي ابن خالة يوسف بطرس غالي، ربنا يسهل لهم .
والصدف ياما بتحصل - يعني - دي اكيد صدفة بحتة، ان اخت رشيد اتجوزت امين رياسة الجمهورية، اللي في نفس الوقت، اخو قنصل مصر في امريكا. الدنيا أصبحت قرية صغيرة .. تكنولوجيا الاتصالات اتقدمت!
ويشاء ربك ان احمد فاضل، رئيس قناة السويس، إللى الناس عايزه تأممها من تاني (!!)، مجوز ابنه لبنت عمر سليمان. بالرفاء والبنين. الدنيــــا شــــبكة!
اتقو الله بقي وسيبو الناس في حالها. انت ايش عرفك الناس دي كافحت قد ايه علشان تتجوز بعض؟!
يا ساتر منكو يا مصريين!
يا .. نمَّــام ..!
أحياناً تكون (النميمة) محببة.
نعم. وأعتقد أننا لو تيسر لنا الإصغاء إلى المحصول اليومي من ثرثرات البشر لكان جانب كبير منها من باب النميمة.
وهل (الإبداع) القصصي والروائي، إن توخينا الحقيقة المجردة، إلاَّ نوعاً من النميمة، نجمله فنسميه إبداعاً، وهو بالأساس فرد (مبدع) يضع شفتيه عند أذن فرد (متلقٍّ)، وينطلق (يجيب في سيرة) أناس يختلط فيهم المتخيَّل بالحقيقي.
ومن بين أصدقائي (نمَّامٌ) رائع!
لا نكاد نجلس في مكان، سواء كنا وحدنا أو مع آخرين، إلاَّ ويبدأ بتلقائية شديدة، وبدون أدنى مجهود منه، (يجيب في سيرة) أناس أشاركه المعرفة بهم، أو لا أعرفهم ويحسب أنني مهتم بأن أسمع منه أخباراً عنهم، وغالباً ما تكون (حريفة)، إذ يضيف إليها (البهارات) و (المقبلات) من عندياته، لكنها - دائماً - حقيقية، بنسبة 95%!. فصديقي النمام، والحق يقال، لا يكذب .. كثيراً!
هو يعرف أنني في عراك مع مدير مركز ثقافي، فيتبرع بأن ينقل إليَّ أسلوب ذلك الرجل في الحياة، فأعرف منه - مثلاً - أنه استعان بالعلاقات الاجتماعية وصلات النسب ليشق حياته في الجامعة والحياة الثقافية العامة، فتزوج من بيت رمز ثقافي كبير. ولا يخوض صديقي النمام في طبيعة تلك الزيجة التي لا تزال تخدم الرجل في حياته، وأكتفي أنا بذلك، وأرجوه أن يذهب إلى حكاية أخرى، فينطلق يفجر مفاجأة هائلة، مؤكداً أن (رمزاً أكاديمياً وقيادة ثقافية كبيرة) كان يسخر إمكانيات مشروع ثقافي ضخم وضع تحت سطوته، لصالح دار نشر (وهمية) كان يمتلكها من وراء ستار، ليصب جانب كبير من الميزانية السيادية الهائلة لذلك المشروع في جيبه وجيوب خلصائه والمقربين (والمقربات) منه .. ويسألني صديقي النمام: تحب أقول لك أسماء؟ فأرفض .. فما عرفته صادمٌ بما فيه الكفاية.
ترى، كم نماماً ينتشرون في مكاتب إداراتنا الثقافية، وعلى أرصفة مقاهي القاهرة، ويتناقلون أخباراً وأسراراً تشين من تلتصق بأسمائهم، ثم لا يلبثون أن ينفضوا، ليستقبلوا من تناولتهم ألسنتهم بالنميمة بالأحضان والقبلات والترحيبات؟!
لا تصدقوا كلَّ ما ترونه أمامكم، ولا كل كلام (المثقفين) في المقاهي وصفحات الفيس بوك!!!
رأيتُ ليلة القدر !
تأثرتُ جداً بما حدثتني به جدتي (أم عبده)، جدتي لأمي، عن ليلة القدر، خاصة تصويرها كيف تفتح السماء بوابتها، لتستقبل أدعية المؤمنين.
وأتذكرُ أنني ظللتُ لعدة ليالٍ أتسلل إلى (فوق السطح)، وأرقد على ظهري، شاخصاً إلى صفحة السماء، وكانت بها نجوم وكواكب كثيرة، لم أعد أراها هذه الأيام .. لا أعرف لماذا؟.
والمؤكد أن تأثير جدتي أم عبده، التي كنا ندللها أحياناً فنسميها (عجوة)، على مخيلتي كان هائلاً، لأنني كنت، بعد استغراق طويل، أرى بوابة السماء تتفتح فعلاً، وتنساب منها طيور الجنة، بالصورة التي وصفتها لنا، وكان بعضها يحطُّ على وجهي، وأنا مستنيم لسحر ما أرى، لدرجة أنني، في كل مرة، أنسى أن أدعو الله أن يكرمني وأهلي، وأن يعفو عنا جميعاً، كما أوصتنا جدتي عجوة!
وفي آخر مشاهدة لي لبوابة ليلة القدر، سقطت الأمطار، فأصابني بلل شديد، غير أنني لم أتحرك، حاسباً أن المطر خير قادم من البوابة.
ونزلتُ إلى أمي أعطس وأسعل، وارتفعت درجة حرارتي، فقد ضربني الالتهابُ الرئوي.
أقرأ الأعمال الإبداعية من أول عنوانها...
ثمة مبدعون (عتاة) يدركون أهمية العنوان، فيأتون به موحياً، جذاباً. ولا أعتقد أنهم يبذلون جهداً كبيراً في ذلك، فالمبدع الحقيقي يبدو لنا وكأنه يغترف من بئر صافية خفية.
أنظروا، مثلاً، إلى عنوان ديوان أحمد الجعفري الجديد: "قليلٌ من النور كي أحب البنات".
لاحظوا اختياره أن تكون كلمة (قليل) مبتدأ مرفوعاً ليقول إن حبه للبنات لا يحتاج إلا لقليل من النور، وهو ما يوحي بأنه (يمتلك) هذا القدر القليل من النور، لا (يطلبه). ولو كان يطلبه لكان العنوان (قليلاً) من النور ....
ثم استخدام كلمة النور، وليس الضوء، أو أي مصدر إنارة آخر، فالنور يسرب أحاسيس الرقة والأمان و .. الشرعية، فلا شيئ خفي في النور ..
شكراً "فلافي" ..
أصبحنا، أنا وقطنا الجميل المدلل (فلافي) في علاقة تفاهم وصداقة حقيقية. هو ينقذني من أي طاقة سلبية طارئة، وقد أصبح يتفهمني، حتى أنه يعرف معنى بعض كلماتي إليه، وأعرف معاني أصواته المهذبة الخافتة. ينام آمناً بين ذراعيَّ، ويستغرق في نوم عميق طويل، ولا يلبث أن يشعر بأن ذراعيَّ قد تعبتا من حمله، فيتحرك برفق مبتعداً. حساسية فائقة.
وأشعر بالذنب تجاهه، لأن حبنا له جعلنا نحرص على عدم مغادرته البيت، إلا لزيارة البيطري، وقد تعود على الحبس، وهذا يحزنني.
لم يدر بخلدي يوماً أن أكون في علاقة كهذه.
شكراً فلافي !
علمانيون في ترام الرمل
مجتمع ترام الرمل صورة مصغرة للمجتمع السكندري، والمصري عامةً.
جلست صباح اليوم إلى جوار رجل في سني، وجرى بيننا حوار طيب عن الموجة الحرارية التي تضرب مصر الآن، وتبينت أن الرجل واسع الثقافة، ومعلوماته البيئية مرتبة وحديثة.
وبينما نحن نتحدث عن الاختلال المناخي العام في العالم كله، إذا بشيخ ثالث، جالس في المقعد المواجه لنا، يقاطعنا بحدة واضحة، وغير مبررة، قائلاً (بكلماته ذاتها): أهو رمضان جاي بعد بكره .. ح تشوفوا .. وربنا ح يقفل أبواب جهنم علشان رمضان، ويخلف ظنكم!
ولم أكن بحاجة لجهد لأتبين أنه يتحدث عن الآية التي تقرن مقدم رمضان بعدم استقبال جهنم لكفار جدد.
وأخطأت حين أردتُ أن أصوب له فهمه، فقلت له ممازحاً: أنت عجوز مثلي، وتتذكر، أكيد أن رمضان كان يأتي في عز الشتا .. يعني الحر اللي احنا فيه ما لوش دعوة بكون بوابة جهنم مفتوحة أو مقفوله!
فلم يرد؛ وإنما تركنا نعاود نقاشنا؛ ثم عاد فجأة يقول: علمانيين!
نظرتُ إلى جاري الذي ابتسم، وقال لي: أسكت يا علماني!
سعد أفندي خليفة
إن تمت هذه الكتابة فستكون أول محاولة ناجحة للكتابة عن أبي !
حاولتُ أن أكتب عنه أكثر من مرة، مترجماً لشخصيته، بين سائر أفراد العائلة، فلم أتمكن من إنتاج كتابة أرضى عنها، وتليقُ به.
لأبدأ بمشهد نهائي !
جنازة أبي. وأنا أقف تائهاً في المسجد، منتظراً إجراءات صلاة الجنازة، ولم أكن أصلي.
فجأةً، وبعد انتهاء صلاة الظهر، في مسجد الجمعية السنية لتحفيظ القرآن الكريم، في غيط العنب، وجدتُ الأستاذ (باهي القطيشي)، وكان يؤم الصلاة، وهو مأذون المنطقة، ويسكن في البيت المجاور لبيتنا، وبيننا مودة، أخذ يصيح منادياً عليَّ، فسعى بعض الناس فذهبوا بي إليه.
قال: أنت ستؤم صلاة الجنازة!.
لم أستطع أن أبدي أي رد فعل غير مزيد من الارتباك المعجون بحزن حاد. قال يشجعني: المسألة بسيطة .. أربع تكبيرات .. وراح يوضح لي مكونات تلك الشعيرة الجنائزية.
ثم دفعني دفعاً لأتقدم المصلين، فوقفت وأنا مخلخل الكيان، ساقاي ترتعشان، وإذا بي أجد (لفافة) من أنسجة قطنية، مُسجَّاة على حصير المسجد أمامي: إنه أبي!
كان جثمانه في الكفن رفيعاً جداً، وأقصر من طوله الحقيقي.
وكان عليَّ أن أبدأ الصلاة، فبدأتُها، ولا أعلم ما إذا كانت قد جرت صحيحة أم أنني لم أحسن الإمامة، والاحتمال الأخير هو الأرجح، فقد كنت أرفع التكبيرات بصوت مغمور بالدموع، متقطع بنشيج البكاء.
بكيت أمام جثمان أبي كما لم أبك في حياتي.
بكيتُ تعبيراً عن مفاجأتي بكم الحب الذي كنتُ أكنه له، ولم أفلح في التعبير عنه بصورة من الصور الاعتيادية التي يفصح فيها الناسُ عن مشاعرهم تجاه بعضهم البعض. كان يجب أن يموت، وأن يفرضني الشيخ باهي إماماً لصلاة جنازته، ليتسنى لي أن أقول له، بهذا الأسلوب الفريد المستغرب: لقد أحببتك حباً كبيراً يا أبي!
ومع أنني لم أترجم لأبي، إلا أن وجوده في حياتي فرض نفسه على كثير من قصصي، فقد مرَّت شخصيته في قصص: (جمال عبد الناصر)، و(رأيتُ الزعيم وقابلتُه)، وغيرها.
وكان فخوراً بي ككاتب، وإن لم أره أو أسمعه يبدي فخره. وأعتقد أنني ورثت عنه شغفاً بالفن، وربما نسخة من (جينة) موهبة، فقد قالت لي جدتي أنه كان (يفِـنْ) مع (جوز ملكه العوَّاد)، هو يقول كلام، والعواد يدندن!.
وواضح أنه كان شاعراً غنائياً، لحن له (جوز ملكه) كلماته.
كما أتذكر أنه كان صديقاً لجار لنا (نصحي عبد الشهيد)، الذي كان هاوياً للتصوير الفوتوغرافي، وكان يساعده في انتقاء صور طبيعية فنية ليشارك بها في المعارض. وقد شجعه نصحي على مواصلة الدراسة، وكان أبي قد انقطع عنها، والتحق بالعمل (عامل وردية) في شركة الغزل والنسيج القريبة من غيط العنب، والتي كنا نسمع صفارة تغيير الورديات (نوبات العمل)، في السابعة صباحاً، وأنا أستعد للذهاب إلى المدرسة، وفي الثالثة بعد الظهر، وأنا جائع جداً، ومحرج من أن أطلب (غداءً مبكراً)، إن كان أبي يعمل في وردية (من 7 لـ 3)، أما صفارة الساعة 11 فكان من النادر أن أسمعها، لأنني أكون وقتها في سابع نومة.
وكان لنصحي الفضل في أن حصل أبي على شهادة (التوجيهية)، وحصل على وظيفة درجة سابعة في وزارة الداخلية. وكان تحوله من عامل في شركة الغزل إلى (موظف حكومة) انقلاباً في محيط الأسرة.
ملف الرئيس
لرئيس الجمهورية ملفٌ عندي.
ارتبطت كلمة (ملف) عندنا بالمفهوم الأمني، ولكني أقصد ملفاً فيه رصد وتتبع لعلاقتي كمواطن مصري بمن عاصرتهم من رؤساء مصر.
وبادئ ذي بدء، لم يكن لي، بصفتي الشخصية، يد في اختيار أي منهم. كنتُ طفلاً عندما جاء عبد الناصر، ووجدتني أنشأ في أحضان أطوار حكمه المختلفة، بإيجابياتها وسلبياتها. أما السادات، فلا أحد من المصريين اختاره رئيساً، وإنما أتى به (عزرائيل) - آلياً - إلى كرسي الرئاسة بعد أن مات عبد الناصر، ولم يلبث عزرائيل، أيضاً، أن اختطفه، ليأتي بنفس الآلية أسوأ من جلس على كرسي رئاسة مصر في نصف قرن مضى، مبارك، الذي ارتضى أن يقيم كرسيه فوق بالوعة مليئة بالصراصير، سمينة وعجفاء، فلما طالت جلسته، ضجت الصراصير، ووجدت طريقها إلى مقعدته!
ولم أشارك في أي انتخاب أو استفتاء أجراه السادات ومبارك، فقد كان التزوير شيمتهما.
كما أنني لم أشارك في الانتخابات التي أتت بالإخوانجي مرسي، ولم أستخدم عصير الليمون لتقبله درءاً لمجيئ منافسه الجنرال المسطح. كان كلاهما وجهان لعملة واحدة: الفاشيستية !
ولما حلَّ مرسي بالبلاد، تقبلتُ وجوده، فقد أتى به شعبُنا (المؤمن)!. بل إنني تمنيت أن ينجح، ولو بدرجة مقبول، ويقضي سنواته الرئاسية، مهما كان عددها، ويمضي لحال سبيله، لتدور عجلة الديموقراطية في بلادنا، ونعتاد صفة (رئيس سابق) محترم.
لكن الفاشيستي الديني مرسي كان (هاوياً)، لا يجيد، حتى، تسوية بنطاله، إذ رأيناه في صورة مشهورة له يشده لأعلى خشية سقوطه عن وسطه!
وتخلى الشعب (المؤمن) عن الرئيس (بتاع ربنا)، والتف حول (منقذ) عسكري جديد.
لم أشارك في الانتخابات التي جاءت بالسيسي، الذي لا أعرفه حتى الآن، ولا أعتقد أن معظم المصريين يعرفونه، فلا تاريخ سياسي له، بل إنه لم يطرح حتى الآن برنامجاً محدد الملامح لمسيرته السياسية، منذ تخلى عن الرداء العسكري قبل ما يقرب من عامين اثنين. لكنه الآن رئيس شرعي، وهو مجتهد بأسلوبه الخاص، ومن جهة أخرى فلا سبيل لإقصائه إلا عندما يحين المشهد الانتخابي القادم، أو بالتفاف من الشعب المؤمن الوفي حول (منقذ) آخر!.
ورأيي أن ندعه في اجتهاده، آملين أن ينجح، ففي نجاحه خير لنا جميعاً؛ ولا أحسبه يتعمد الفشل، إن لم ينجح.
وليمضي كلٌّ منا في الإخلاص لموقفه من الرئيس: المؤيدون، والمعارضون، شريطة التخلي عن ادعاءات باحتكار الوطنية، والترفع عن صغائر التعامل وتبادل الاتهامات بالخيانة والعمالة.
المراهقة الفكرية !
تعبير شاع في ستينيات القرن الماضي، الذي شهد إرهاصات تجربة اشتراكية، في منطقة كان مجرد ذكر كلمة (اشتراكي)، أو (ماركسي)، أو (شيوعي)، بمثابة تذكرة دخول معتقل.
لم يكن ثمة غير قليل من المتخصصين لديهم القدرة على التفكير المنهجي في أمور (تحويل) مجتمع مليئ بالتناقضات إلى مجتمع شبه كوميوني!
أعتقد أننا نعيش حالة مراهقة فكرية شبيهة، إذ ينساق أغلبُنا، انسياق مراهقين، وراء أفكار عارضة تشتعل كالفوسفور أمام عيونهم، فيهتاجون، فتنطفئ، فيهمدون.
قليلون هم من يهتمون بتنظيم ملفات أفكارهم في أدمغتهم، وإعداد ملخصات لها، والربط بينها. فما إن ينفتح ملفٌ منها، اندفعوا متوفرين عليه، غاضين الطرف عن عامل تفاعليته مع ملفات أخرى.
كم منا، على سبيل المثال، ربط بين (فورتينة) الجزيرتين، ومشروع كوبري سلمان، وإقامة جسر بين المغرب وأسبانيا عبر جبل طارق، وبين ممر التنمية الذي زرعه في أدمغة بعضنا فاروق الباز؟
كم منا، كمثال ثان، تساءل عن (إعلان) زراعة ملايين أفدنة جديدة، وإقامة عاصمة جديدة، وربط ذلك بما نعانيه من شح مائي؟
ويساعد على استفحال أعراض المراهقة الفكرية تدني الثقافة، حتى بين من يلصقون بأنفسهم صفة مثقف. واسألوا بعض الصحفيين المحترمين عن رأيهم في المناخ الصحافي العام، تجدون فيه مرارة. كما راجعوا، مثلاً، عدد ما كان يسمى (إئتلافات الثورة)، في أعقاب 2011، تجدونها بالمئات، تغصُّ بمراهقين فكريين، يحاولون تغطية ضحالة فكرهم بأصوات عالية وهتافات مدوية ظلوا يطلقونها طويلاً في فراغات لم تعد ترددها!
تُرى: ماذا سيكون (الاشتباك) (التالي) بين المصريين؟!
إشتباكات شبيهة، إلى حد كبير، بين نوعيات بائسة من البشر، أعايشهم في "باكوس"، التي يسميها السكندريون (الصين الشعبية) لكثافة ساكنيها.
كل يوم تنشب اشتباكاتٌ بدرجات متفاوتة من الاحتقان، وتتصاعد أصواتٌ زاعقة، ويخلع البعض قمصانهم، معرين أنصاف أجسامهم العليا، دليلاً على (رفع درجة الاستعداد)، وقد يلوِّح البعض بـ(شومة)، أو مطواة، وأحياناً سيوف من إنتاج الترسانة المحلية. ويكون ذلك مصحوباً بتنويعات من شتائم منتقاة، لم تعد الآذان تنفر منها، بل لعلها تنتظرها، إذ لا تكتمل بهجة الاشتباكات إلا بها، تذبح الشرف، وتصف وتشير إلى كل موضع في أجسام الأمهات والآباء وكافة الأهل.
كـرٌّ وفرٌّ يمتد لساعة أو أكثر، وتدخل لحمامات سلام، وترضية خواطر. ثم .. تنتهي الزوبعة بلا نقطة دم واحدة تراق.
لكن اشتباكات الباكوسيين، والحق يقال، تخلو من أي اتهام بالخيانة أو العمالة أو الارتزاق.
أدعوا أطباء النفس البشرية، وعلماء السلوكيات، إلى دراسة مشهدية لاشتباكات المصريين البسطاء، التي أعتقد أنها لا تخرج عن أن تكون تنفيساً عن ضغوط اجتماعية واقتصادية وجنسية.
الإنسانُ "المُؤلَّلُ" قادم ..!
ما رأيكم في تسمية (عصر الإنسان المؤلل) لتكون ترجمة للمصطلح الجديد Transhumanism؟!
ثمة من يفضل (عصر ما بعد الإنسانية)، أو (عصر عبر الإنسانية) ..
أنا شخصياً أفضل المؤلل، أي المميكن، أو الذي أصبح أقرب إلى الآلات ..
إنه العصر الذي يبشر به مفكرون في العالم، الذي بدأ فعلاً، والذي يأتي بعد عصر الثورة العلمية .. إنه عصر الثورة التكنولوجية، بثقافته المختلفة وسياساته واقتصادياته وأخلاقياته المغايرة ..
وأياً كانت الترجمة التي نفضلها، فها هو مصطلح جديد قد تم نحته، و(أُلقي) إلينا، لنردده، ونتفلسف حوله، ونحن لا دخل لنا به من قريب أو بعيد، فنحن نستهلك الفكر والمصطلح على نحو استهلاكنا لما لا نتتجه من طعام.
"حُرفةُ" الترجمة!
يعرف من أدركتهم (حُرفة) الترجمة - أي (انحرفوا) فصاروا مترجمين، مثلي! - تلك العلاقة العجيبة مع (أشخاص) من يترجمون لهم أعمالهم.
فالمترجم فرد واحد، له ملامحه وذائقته المحددة، وأصحاب الأعمال التي يترجمها متعددون، من مختلف المشارب والثقافات، ولهم طرائقهم المتباينة، وأحياناً شديدة التباين، في استخدام اللغة الواحدة.
وما إن يبدأ المترجم في تحسس طريقه إلى عالم المؤلف، ويتبين طريقته في إخضاع اللغة للتعبير عن أفكاره، تتولد علاقة تفاهم عميق، لا تنتهي إلا بانتهاء المترجم من عمله، وقد أصبح (عارفاً) تماماً بعالم المؤلف، وطريقة تفكيره، ومواطن القوة والضعف في بيانه وثقافته. ومن هنا، فإن المترجم هو أفضل (ناقد) على الإطلاق لكتاب ترجمه.
وأعكف الآن على ترجمة قصة قصيرة لجورج أورويل، صاحب (مزرعة الحيوانات) و(1984)، وغيرهما من روايات مشهورة، ومن غير المعروف عنه كتابة القصة القصيرة، ولكنه كتب هذه القصة إبان عمله كضابط شرطة في خدمة (التاج البريطاني) في الهند، واضطُّرَّ إلى قتل فيل، في ظروف معينة. إنه في القصة يحكي قصة قتل الفيل (وعنوانها : أرديتُ فيلاً قتيلاً)، وفي الحقيقة ينتقد الفكر الاستعماري، ويمارس نوعاً من الاعتراف التطهيري، تخلصاً من إحساسه بالذنب لاضطراره إلى قتل هذا الحيوان (العظيم).
وأنا طول الترجمة (أتحدث) إلى أورويل، وأبدي استحساني لأسلوبه في الحكي، واستخدامه التقديم والتأخير للأسماء والأفعال والصفات الإسمية وصفات الأفعال، وأضبط نفسي من حين لآخر أبتسم، أو (أزوم) مستحسناً.
إنه كاتب (جميل)، وأنا مستمتع بحالتي معه من خلال هذه القصة، وقد نجح بالفعل في جعلي لا أقف ضده لأنه قتل الفيل، فهو يفضح الإستعمار أيضاً، ولا يخالف صورته التي رأيناها له وهو يقف ضد الاستبداد في رواياته.
هذه خواطر كاتب إنحرف إلى الترجمة!
ع القمة !
يعتقد البشر أنهم يحتلون قمة هرم الحياة على سطح الأرض احتلالاً مُطلقاً، وأن غيرهم من الكائنات الحية (أدنى) منهم مرتبةً، وهو أمر يفتقد الصحة في إطلاقه، فالرفعة والتدني نسبيان.
مثال: يضع الإنسان (البكتيريا) بين الكائنات الدنيئة، تأسيساً على افتقادها لما لديه من قدرات، حسبما يرى، متناسياً دورها الداعم لكل صور الحياة الأرضية، ويحتاج تفصيلُه إلى كتب.
لكن يكفينا، في عجلة، أن نشير إلى أن البكتيريا تعرف مبدأ (تقسيم العمل)، أو التخصص الدقيق، وتلتزم به التزاماً تاماً، فالبكتيريا التي تحلل (السليلوز)، مثلاً، لا تعرف غير السليلوز، فلا تقترب من البروتين، لأن له فئة أخرى متفرغة له.
يحاول الإنسان أن يتشبه بالبكتيريا في ناحية تقسيم العمل، لكنه يفشل كثيراً، مهدراً طاقاته وقدراته موارده وأعمار أفراده.
تراودني أحياناً فكرة أن علم التصنيف يحتاج إلى مقاربات جديدة، تعيد النظر في معنى العالي والمتدني، وفقاً للقدرات الحقيقية.
تداعيات سبعينية
موضوعياً، لم تكن الأحوال والظروف التي عشتها منذ الطفولة ترشحني لأن أبلغ السبعين ..
صحيحٌ أن في عائلتنا معمرين، كجدة أبي التي أعتقد أنها قاربت المائة سنة، لكن فيها أيضاً قصار العمر، الذين قضوا نحبهم مبكراً، بسبب الإهمال، كأخي (صلاح)، وكان يصغرني، وقد مات متأثراً بشرب زجاجة (سينالكو) عبَّأها أحد أعمامي، وكان يعمل (نجَّاراً) بالصبغة الكحولية، التي يستخدمها في دهان ما يصنعه من أثاث. وجد الزجاجة على طاولة قريبة، وفي متناول يده، وفي غيبة عيون تراقب، ومدفوعاً بحبه لذلك الصنف من المياه الغازية، فتجرعها كلها، فـ(طبقت على مراوحه)، حسب تشخيص جدتي للواقعة!
وقد سبقته إلى الآخرة أخت كانت تكبرني، ولم أسمع (البيت) يتحدث عن سبب موتها.
كانت وقائع موت الأطفال تمضي على نحو ما تمضي كل وقائع الحياة، ربما بسبب خصوبة النساء بصفة عامة، فقد كانت أمي - رحمها الله - وعلى سبيل المثال تعطي الأسرة طفلاً في السنة، فإن (راح) واحدٌ، فإن ثمة وليداً (في السكة)!
والتهم المرضُ أيضاً أخوين لي، في مرحلتين متقدمتين من عمريهما، فأما الأول، فكان طالباً بكلية الزراعة، وكان الثاني طبيباً متخصصاً في الأنف والأذن والحنجرة، وكان سبب الوفاة واحد: أعطاب في صمامات القلب، بسبب إهمال تتبع ومعالجة إصاباتهما المتكررة بالميكروب السبحي اللعين. كان الجهل يبدأ بالتعامل مع حالات المرض، يعاونه الفقر، وقصور شديد في الخدمات الطبية التي توفرها الدولة لمواطنيها؛ فقد كانت أمي تلجأ إلى مستشفىً حكومي بجوار (كوبري راغب)، إسمه (مستشفى الجمهورية)، وواضح من التسمية أنه أُنشئ بعد الثورة، وبعد إعلان مصر جمهورية، فكانت (تتحاش) - أي تحجز للعلاج - بطفلها المريض، وكانت راضية عن المستشفى، وتحكي الحكايات عن (الوجبات) المميزة التي تقدم للمرضى ومرافقيهم، غير أن تكرار ظهور أعراض المرض كانت دلالة على عدم جدوى ما يتلقاه طفلاها من علاج، وكانت في كل مرة ترجع إلى المنزل محملة بالعلاج، الذي لم يكن يزيد عن زجاجات مملوءة بمستحضرات (راوند) و(حديد) و(زرنيخ)!
والواضح أنني نجوت من الإصابة بتلك الأعطاب، وتمكن جهازي المناعي من قهر الميكروب السبحي، كما تمكن جسمي من قهر (فيروس سي)، الذي أصابني في الخامسة والستين .. وتلك حكاية أخرى ......
(أ. د.) و (أ. د.) ... !
أما الـ أ.د. الأولى، فكان يحملها أستاذ في آداب الإسكندرية، لن أذكر اسمه، وأتذكر أنه كان متخصصاً في فلسفة السياسة.
رأيته بنفسي، أكثر من مرة، في القهوة التجارية، المطلة على كورنيش الميناء الشرقية، يراجع الرسائل العلمية لبعض تلاميذه.
كان يدخل إلى المقهى، بجسمه الشحيم، ممسكا بمقبض حقيبة جلدية حال لونُها، ليجد تلميذه ينتظره عند طاولة مجاورة لنافذة ترى البحر. وقد شهدت تلك الطاولة كل اللقاءات التي تيسر لي، بالمصادفة البحتة، أن أشهدها.
وما إن يتخذ مقعده، حتى يدور حوار قصير جداً بينه وتلميذه، الذي لا يلبث أن ينهض، ويغادر المقهى، بينما يبدأ الـ أ. د. يغالب النعاس، حتى يرجع التلميذ ومعه لفافة لا يتغير حجمها في كل حالة، ويضعها أمام أستاذه، ويطلب من الساقي أن يُحضر زجاجة مياه غازية.
ويفتح الأستاذ اللفافة، لتنتشر منها في سائر أنحاء المقهى رائحة نفاذة، تميز (الكبدة)، ولا يكون من العسير أن أفهم مصدرها: مطعم متواضع على بعد خطوات قليلة، خلف المقهى.
ويأكل الأستاذ، مستعيناً بالمياه الغازية، ساندويتشين، هما الوجبة القياسية التي كان يحضرها كل التلاميذ. وبعد أن ينتهي يمسح أصابعه وفمه بأوراق مملوءة ببقع الزيت كانت تغلف طعامه.
وبعد دقائق قليلة يعود الساقي ومعه فنجان قهوة، ينهيه الأستاذ في رشفات قليلة، ثم تمتد يداه الملوثتان إلى حقيبته المهترئة. يفتحها ويخرج منها (كومة) أوراق، يرتبها، ويبدأ حديثه (العلمي) الذي لم يكن يخلو في كل الحالات من تعبيرات احتداد، يتلقاها التلميذ خانعاً.
ولا يستغرق العمل (العلمي) غير نصف ساعة أو أقل، ليقف ويغادر المقهى، وكأنه لم يكن بصحبة أحد!
ليست في هذه الصورة القصصية أي مبالغة.
أما الـ أ. د. الثانية، فلأستاذي الجميل الحبيب أ. د. يوسف حليم، أستاذ علوم البحار في جامعة الإسكندرية (رحمه الله). كان الرجل يدعو تلامذته ليتناولوا معه وجبة الغداء في نادي سبورتنج، وبعد الطعام، يراجع مع تلميذه فصلاً واحداً من الرسالة العلمية. أي أن كل فصل من الرسالة بوجبة في نادي سبورتنج!
مهارة المزيفين ..
للمزيَّفين، والمُزِّفين، مهارات خاصة، لا تتوفر لغيرهم، في فنون التزييف.
عرفت الأوساط الثقافية في الإسكندرية مُزيِّفاً خطيراً، انتحل صفة (أستاذ مساعد الجراحة في جامعتي الإسكندرية وقناة السويس)، حسب التعريف الذي كان يضعه بعد اسمه المحلَّى بـ (أ.د.).
كان يجالس بعض أدباء ومثقفي المدينة في (القهوة التجارية)، على كورنيش الإسكندرية، وكنت أراه دائماً محتذياً حذاءً كاوتشوك متواضعاً، كما كان هندامه أشد تواضعاً، وأحياناً تجد (ياقة) القميص متسخة!. ولم يكن لديه سيارة خاصة.
تشككتُ فيه من مفردات مظهره، فليس هكذا يبدو الأطباء، ناهيك عن الجراحين، فهم أغنياء، ولا يعقل أن يتخذوا مظهر الصعاليك.
وكان ينشر مقالات علمية وثقافية عامة في كل المجلات العربية، تقريباً. ولم ينشر إطلاقاً في مجلة مصرية. فقد كان حريصاً على الابتعاد عن المجلات المصرية، حتى لا تطاله الشبهات، ومن جهة أخرى، فإن (مردود) النشر في المجلات العربية أكبر كثيراً.
وكنتُ أنا من الكتاب شبه الدائمين لمجلة (القوات الجوية) التي كانت تصدر في (أبو ظبي)، وطلب مني مدير التحرير أن أتحرى صحة شكوى تتهم الجراح المزيف بالزيف.
لم أركن إلى ظنوني، ورأيتُ أن أذهب بنفسي للبحث عن صحة انتسابه لهيئة التدريس في طب الإسكندرية، فلم أجد أحداً يعرفه. وذهبتُ إلى نقابة الأطباء، فلم أجده مسجلا في قوائم العضوية.
والغريب أنني ذهبت بما توصلتُ إليه إلى صديق يعمل أستاذا للجراحة في طب الإسكندرية، فعاتبني وقال (حرام عليك .. الراجل "زميل" محترم)!!!
والغريب أن المنتحل الكبير رفع دعوى قذف وسب ضد احد الصحفيين في مؤسسة دار الهلال، وكسبها، إذ قدَّم للمحكمة أوراقاً ثبوتية تفيد بأنه عضو بنقابة الأطباء!!
وفوجئ الجميع بخبر القبض على اللص المزيف المنتحل، بعد أن أبلغت عنه واحدة من زوجاته اللاتي تزوجهن منتحلاً صفة الأستاذ الجراح. وبلغت به حدة حالته المرضية لدرجة أنه طلب أن يجري الكشف الطبي على ضابط الشرطة الذي هاجمه في منزل أمه المتواضع، وضبط معه حقيبة بها أدوات طبيب.
وقضى المزيف 10 سنوات في السجن .. وخرج .. وعادت ريمه لعادتها القديمه !
أين أنت يا مدثر يا درديري؟!
من الذين أحب أن استدعيهم عبر الفيس بوك: الجندي مجند المدثر الدرديري على، من قنا.
من أعجب الشخصيات التي عرفتها في حياتي.
هو غير متعلم، ولكن ثقافته واسعة، ربما لطول فترة تجنيده، التي تجاوزت ست سنوات.
كان لي حظ أن اشاركه الإقامة في أحد (ملاجئ) السرية. والملجأ، لمن لا يعرفه، عبارة عن حفرة عميقة، بها مصطبة عريضة، هي الفراش للنوم، والمقاعد للجلوس، مغطاة بأقواس حديدية، وفوقها طبقة كثيفة من الرمال. وللملجأ باب، و5 أو 6 سلمات تصعد إلى سطح الأرض.
كان المدثر يتكفل بكل ما يتصل بالمعيشة في الملجأ، من التنظيف حتى إحضار (التعيين)، لي وله، في أوقاته.
وكان يطلق عليَّ اسم شخصية سياسية اشتهرت في ذلك الوقت، هي (يارنج)، أو (جونار يارنج)، مندوب الأمم المتحدة الذي كانت له جولات مكوكية في المنطقة، أملا في حل مشكلة العرب وإسرائيل.
كان المدثر يراني قادماً إلى السرية حاملاً حقيبتي وبها كتبي وأوراقي، فيقول: يارنج جه !
وكان ينظف زجاجة فانوس الملجأ، ويوقده، ثم يترك لي المكان، إن جاءتني (الدلالة)، أي (الجلالة)، فهكذا كان يصف نزول الوحي القصصي عليَّ، تحت الأرض !.
وكان يحكي لي عن أسرار كثيرة يحتفظ بها، منها غرامه بالسيدات العجائز، وبعد كل أجازة يحكي لي غزواته في هذا المجال، وكنت أستمع إليه باهتمام، وأصدقه. ولو كان يعرف الكتابة والقراءة فربما أصبح قاصاً أفضل بكثير من مئات الأقلام التي تسود الصفحات البيضاء !.
كان حلم عمره أن يرى (البحر المالح)، فاصطحبته في إحدى أجازاتنا الميدانية، وما إن رأى البحر وأمواجه، في شاطئ (ستانلي)، حتى أخذ يصيح بجنون (يا بوي .. يا بوي)، وكنت، خلال أيام الأجازة الأربع، لا أستطيع أن أخرجه من المياه إلا مع حلول الظلام !.
يا رب تكون بصحة وعافيه يا مدثر يا درديري يا علي !
مراكش في "جليم" ..
إنفجرتُ، بعد ظهر أمس، وأنا جالس أنتظر الترام في محطة جليم، بموجة من الضحك الهستيري، لم أستطع منعها .
جلس إلى جانبي رجل في مثل سني، وإن كان صوته يدل على أنه، حفظه الله، متين البنيان مكتمل الصحة، وكانت رقعة كبيرة من الجلد الأسود المتغضن تفترش جبهته.
حرص وهو يجلس على أن يلقي التحية بصوت هائل: السلام عليكم ورحمة الله.
وكنت منشغلاً تماماً بمسائل مزعجة عشت فيها الساعات القليلة السابقة، فلم أرد، معتقداً أن غيري سيرد، فردُّ السلام كما يقول الفقهاء فرض كفاية، أي يكفي أن يرد فرد واحد نيابة عن جمع الحاضرين.
لكن أحداً لم يرد، فانزعج الرجل، وعاد يصيح: أعوذ بالله ! .. هل أنا في تل أبيب؟
فلم يعره أحد التفاتاً. فجلس صامتاً.
وطال انتظار الترام، وأنا جالس إلى جواره وشحنتي ضده تتصاعد لحظة بعد لحظة. ويبدو أنه قد شعر بالملل، فأخرج هاتفه المحمول (ملعون من اخترع هذا الهاتف)، وظل يتحدث بصوت عالٍ جداً، وتضمنت ثرثرته أحوالا اجتماعية أسرية، وشتائم، وتهديدات .. وكل ذلك يصبُّ في أّذنيَّ، لدرجة أنني كرهته بشدة، وتمنيتُ أن تتعطل الشبكة، أو تنتهي الشحنة، أو أن يصاب بغصة فيظل يسعل فيتوقف عن اللغو السخيف الذي لا يمكن أن يصدر من رجل يفترش الالتهاب الجلدي جبهته، واتهم ناساً لا يعرفهم بأنهم يهود.
وكنت متبيناً تماماً لكل تفاصيل حديثه المنوع، إلى أن قال وهو ينهي تهديداً زاعقاً:
- على نفسها جنـت "مراكش!
هنا، تضافر كل ما اختزنته ضده من مشاعر عداء وكراهية، فأطلق ضحكاتي الهستيرية التي أثارت انتباه كل الواقفين بالمحطة، الذين كان بعضهم على بينة من دافعي إلى الضحك.
ذكريات مع زويل ....
= وقف معنا (المعيد) أحمد زويل في أحد أيام امتحانات الكيمياء، يرد على استفساراتنا السريعة قبيل دخول اللجان. قلت له: توقيت الامتحان صعب جداً .. من 2 إلى 5 بعد الظهر .. (عز النغرة) !
ضحك مهوناً، وقال: "المستعد لا يهمه .. حتى لو اشتغل في (كونك إتش سي إل) "
ومعناه في وسط من حامض الهيدروكلوريك المركز، وهو من أقوى الأحماض غير العضوية.
ولم أنس هذه المقولة أبداً، وتعهدت نفسي بأن أكون مستعداً عند الدخول في أي عمل، لأواجه أي ظروف، حتى لو كانت إتش سي إل !
وفي العام 2002، اقترح الدكتور أحمد زويل إنشاء جائزة عالمية تسمى (جائزة الإسكندرية للإبداع)، وبعد انتهاء الاحتفال بإطلاقها، في مبنى مركز الحرية للإبداع، فاجأته وهو يوقع لي نسخة من كتابه "رحلة عبر الزمن ... الطريق إلى نوبل"، وقلت له هل تصادف أن عملت في هذه الرحلة في وسط من إتش سي إل؟.
فنظر إليَّ لحظات، وسرعان ما تذكر، وضحك، وقال: ياه ! .. بل في (الأكوا ريجيا)! والأكوا ريجيا هي (الماء الملكي)، عبارة عن خليط من حمضي النيتريك والكبريتيك المركزين.
في ذلك الاحتفال، استوقفني في الكلمة التي ألقاها الدكتور زويل قوله إن الناس (إللي ما معاهاش) - بنص كلماته the havenots - يمكن أن تعمل بحث علمي، للتغلب على نقص الإمكانيات، وفي نفس الوقت، طالب بإطلاق حرية هجرة العلماء من الدول الفقيرة إلى الدول الغنية، مع العمل على ربطهم بالوطن للاستفادة من نجاحاتهم.
الله يرحمه ..
أنصــارُ الدعوة البوذية !
تصلني نشرة فصلية من جمعية اسمها (سوكا جاكاي العالمية SGI)، وموضوع غلاف أحدث أعدادها (العالم 2030) .. ربما يكون عنوان تقرير الحكومة الذي قدمه رئيس الوزراء منذ أيام مأخوذاً منه !
ويصدر النشرة منتدى تابع للجمعية البوذية، هو (المنتدى البوذي للسلام والثقافة والتعليم).
وأتلقى النشرة منذ بداية ظهورها. لست أدري كيف تحصلوا على اسمي وعنواني البريدي في الإسكندرية؛ واستمرت النشرة الورقية تصلني حتى بعد أن اتخذت الهيئة الإلكترونية وصارت متاحة في (الشابكة)، أي الإنترنت. وأرى في ذلك ذكاءً وحرصاً أكثر منها على (أصدقائها)، فلا معنى لتحمل أعباء الورقية في وجود الإلكترونية إلا إظهار الحرص.
ومن الطبيعي جداً أن يحرص أولئك (الأصدقاء) من آل بوذا على نشر مبادئهم، فهذا حقهم، وهم يفعلون ذلك في النشرة، وبأسلوب غاية في الرقي؛ غير أنهم يهتمون في الجانب الأكبر من النشرة بتناول موضوعات علمية وتكنولوجية، وغير ذلك من منوعات غير بوذية، تستحق القراءة. وانظر مثلاً إلى اهتمام هذا العدد بصورة العالم في المستقبل القريب - 2030.
هل أطمع في أن يجيئ يومٌ نرى (داعش) تصدر نشرة مماثلة، تبث فيها فكرها الداعشي من خلال معالجات جديدة لأحوال العالم وعرض لأخبار العلوم والتكنولوجيا؟!
هل ثمة احتمال لأن (يطور) - لا أشير هنا إلى داروين، أستغفر الله العظيم - الأزهر مجلة من إصداراته المتعددة لتكتسب دائرة قبول أوسع، ويجد فيها القارئ ما يستحق أن يهتم به؟!
لا أعتقد.
ما أعتقد في احتمال حدوثه هو أن تسائلني جهة دينية سلطوية عن تحمسي لنشرة أنصار الدعوة البوذية. وإجابتي هي: أنا أستفيد منها.
فشكراً لأنصار الدعوة البوذية على اهتمامهم بي.
ضايليمَّـا - Dilemma...!
يمكنني أن ألتمس العذر للحاكم الذي يجد نفسه حائرا في (معضلة) الحكم.
هو يعلم، يقيناً، أن (توزيع الثروة القومية) غير عادل، فهناك من مواطنيه قلَّةٌ تمتلك (أكبر) جزء من الوطن، وأكثرية غالبة تمضي حياتها يوماً بيوم.
وكلاهما يمثل (فكَّاً) حاداً، وهو بين الفكين. لا يستطيع إعلان انحيازه الكامل والواضح لأيٍّ منهما.
الأقلية هي السلطة الحقيقية: القوى المحركة في البرلمان - والوزراء الموالون لها، ومعهم كل أجهزة الدولة الإدارية - والإعلام - وقبل كل ذلك، المال الوفير القادر على شراء ما ومن يُشترى.
ولا يملك الحاكم إلا (مغازلة) هذه الأقلية القوية طول الوقت، وتسهيل أمورها، ليدوم شهر العسل بينهما.
فإن انتقلنا إلى الأكثرية المعدمة وشبه المعدمة، فإن الحاكم قد يكون طيب النية في إصلاح أحوالها، لكنه لا يمتلك مفتاح الحل الحقيقي، وهو إعادة توزيع ثروة الوطن، فيلجأ إلى مغازلات من نوع آخر، إرضاءً لبطون خاوية، وقد يستخدم المسكنات؛ لكنه يبقى طول الوقت مركزاً انتباهه عليها، متحسباً لأي بادرات غضب منها، وهو مطمئن إلى أن لديه عُصِيُّه الغليظة، وإن كان لا يتمنى أن يستخدمها.
لا تتركوا العلم حكراً للعلماء وحدهم
هذه مقولة إيزاك أسيموف، عملاق أدب الخيال العلمي، وهو أيضاً أستاذ جامعي في الكيمياء.
كان مقصده الأساسي هو أن يكون ثمة من يراقب توجهات العلم ومردوداته، خاصة من النواحي الأخلاقية، فأنت لا تضمن أن يكون العلماء أنبياء مطهرين على طول الخط.
لكني هنا أستخدم المقولة لأدلل على أن آخر من يمكنه أن يتحدث للناس غير المتخصصين في العلم هم العلماء المتخصصون أنفسهم.
وأمامي نموذج على ذلك: كتابان من إصدار (المكتبة الأكاديمية)، وهي مؤسسة محترمة ذات تاريخ مشرف، أصدرت سلسلة تحمل اسم (عروض) .. وقد يغيب عن القارئ عندما يطالعها أنها عروض لكتب علمية، تذكرنا بمجلتنا العظيمة (تراث الإنسانية) التي خنقناها بدم بارد، ولا نكترث بافتقادنا لبديل لها، فلعل المسئولين يفكرون في إعطائها قبلة حياة.
الكتابان الصادران عن المكتبة الأكاديمية يعرضان لكتابين علميين متخصصين في علوم حديثة، يستعصي الاقتراب منها حتى على دارسي العلوم. وأعترف بأنني لا أفقه في تلك العلوم شيئا كثيراً، ولا أستطيع الربط بين معطياتها، فوجدت في الكتابين العارضين ضالتي، أو هكذا حسبتُ، حتى فوجئتُ بأن العالم الجليل الذي وضع العرضين لم يعرض، وإنما نقل من الكتابين أجزاءً، بأسلوب يشي بأن لا صلة له بالكتابة.
إن عرض الكتب، خاصة العلمية، يحتاج لمقدرة (كاتب)، وليس لتبحر عالم. إن آخر من يصلح لتقديم الثقافة العلمية هم العلماء، ما لم يكونوا بالوقت ذاته (كُتَّاباً).
ولي في هذا السياق كتاب عنوانه (كيف تعرضُ لكتاب)، أنتظر أن تنشره الهيئة العامة للكتاب قريباً ..
أعيدوا لنا قصر ثقافة الحرية
أيها اللصوص الذين سرقوا من تاريخنا الشخصي مهدنا، ومن تاريخنا الوطني ملمحاً ثقافياً عبقرياً منتجاً.. أعيدوا لنا قصر ثقافة الحرية.
سامحكم الله بما نهبتموه من ملايين الجنيهات، وما تحصلتم عليه من مصالح شخصية، لتقترفوا خطيئتكم النكراء بقتل شخصيته الأصلية، وتحويله إلى (خنثى) ثقافية مزرية مقيتة، دينها الواسطة وتبادل المصالح.
لا أعتقد أن تكاليف العمل بقصر الحرية منذ إنشائه حتى اغتياله تزيد عن تكاليف نصف العمر البغيض لذلك الوجه القبيح القائم في نهاية طريق الحرية الآن.
ولا أعتقد أن سيدة فاضلة، كالأستاذة عواطف عبود (البنَّاءة الثقافية) التي أهدت لقصر الثقافة عمرها، قد وصل راتبها الشهري، في نهاية مشوارها المثمر، إلى ربع ما يتقاضاه المدير الحالي، الذي جاء إلى مقعد الإدارة، منتدباً من كلية الفنون الجميلة، عبر آليات، أو شبكة (التعـ .. ويم) الإداري، التي كانت قد بدأت وتأسست بانتداب (شيئ) آخر، هو طبيب أسنان مغمور، كان يعتقد أن أمل دنقل سيدة، ليكون أول مدير لهذا المكان في طوره الخنثوي، حتى قبل أن يتسلمه صندوق التنمية الثقافية من المقاول، فقد كان الطبيب المدير يعالج أسنان أسرة فاروق حسني في الإسكندرية، وكان أستاذا مشرفا على رسالة أكاديمية لأحد موظفي الثقافة ذوي الصلة، كما سارع إلى دعمه نفرٌ من مثقفي الإسكندرية، كان أقل واحد فيهم أجدر بالكرسي الذي يجلس فيه مسلكاتي الأسنان..
فلما ذهب فاروق حسني بزوال سوزان، ترك وراءه رجاله، الذين كان نفوذهم، ولا يزال قوياً، في تلك الشبكة التي أشرنا إليها، فجاء أحدُهم بـ (مجهول) آخر، من (خوجات الرسم)، بلا تاريخ إبداعي أو فكري أو إداري، وذلك لكي (يسترزق) من باب الانتداب (لعن الله من أوجد هذه الكلمة في حياتنا).
وقد انتهي الأمر بهذا الكائن الشائه إلى أن المرء لا يستطيع أن يميز بينه وقسم البوليس القائم إلى جواره؛ فأعظم نشاط في هذا الكائن الخنثى هو النشاط الأمني، حيث لا تجد فيه أكثر من (أمنيين) غلاظ، أقرب إلى البلاطجة، وأشبه بحراس المبالات العامة.
ورأيي أن الحل هو في إبعاد خيوط تلك الشبكة غير النظيفة عن هذا المكان، وإعادته إلى الثقافة الجماهيرية، لعله يستعيد عافيته، ويعطينا أجيالاً من المبدعين والكتاب والفنانين، من أمثال: إبراهيم عبد المجيد ومصطفى نصر وسعيد بكر وأحمد آدم والسيد حافظ وأحمد فضل شبلول وعبد الله هاشم وأحمد حميده والسعيد الورقي ومحمد السيد عيد ومصطفى حامد جاد الكريم وسعيد سالم وأحمد إبراهيم ورأفت صبري وعبد المنعم الأنصاري وعبد العليم القباني وصبري أبو علم وفوزي خضر وعبد المنعم سالم وأحمد السمرة وحورية البدري، وعشرات، بل مئا غيرهم.
طَنَاشٌ!
كنتُ وزميلةٌ فاضلة ننفصل أحياناً عن محاضرة كيمياء، ونتبادل في تجاورنا بالمدرج، رسم هيئات هزلية في هوامش مذكرة الكيمياء الطبيعية، أو كتابة شطحات ساخرة، من صنف أسماء وهمية لكتب تراثية مسجوعة العناوين.
ذات مرة، كتبتُ: "بعد كده ما فيش في علم التطنيش"!
فانفجرت ضاحكة، فتوقف الدكتور يحيى طنطاوي، رحمه الله، ونظر باتجاهنا، وابتسم، ثم عاد إلى شرحه.
كلما فكرت أن أبدأ في تأليف ذلك الكتاب، أتراجع.
أسئلة عمَّار على حسن (الحرجة) ..
15 سؤالاً وجهها مثقف ومبدع وأكاديمي مصري إلى رئيس مصر (المنتخب) .. طالباً أن يجد لها إجابات ..
رأيي أولاً أنها ليست أسئلة (حرجة)، وإنما يصرخ كل منها نحن لا نعرف .. نحن لا نرى .. نريد أن نعرف .. نريد أن نرى ..
ولو كنت مكان الرئيس السيسي لاغتنمتُ الفرصة، وأعددتُ الإجابات .. فإن كان عمار على حسن هو من كتبها، فإنها أسئلة تتردد على ألسنة وفي أذهان عدد كبير من المصريين، الذين تهمهم (سلامة) مصر، ويريدون أن يشاركوا في تأمين حاضرها، والله أعلم بمستقبلها ..
إن المعلومات حق من حقوق الإنسان، يجب أن تكون متاحة له، فإن احتجبت مهما كان التبرير، تصاعدت المخاوف والشكوك ..
يسأل عمار على حسن:
إلى الرئيس .. أسئلة "حرجة" عن تيران وصنافير
بلا مقدمات ولا ثرثرة، هذه أسئلة لا أعتقد أن الرئيس عبد الفتاح السيسي، الذي طالبت بعدم ترشحه للرئاسة أصلا ولم أنتخبه، سيجيب عليها، لكن عليه أن يعلم أنها هي ما يدور في أذهان المصريين الآن، حتى بمن فيهم، من ساقوهم إلى الموافقة داخل مجلس النواب" وكذلك من ينتمون إلى الأبواق الإعلامية التي مهدت ودافعت وبررت ومارست أقصى درجات "الخطيئة السياسية" في تبجح ليس له نظير في حياة أي دولة حتى ولو كانت في مجاهل التاريخ أو الجغرافيا، وكان من يسيرون أمورها يعانون من أمية سياسية فادحة وفاضحة وإلى الأسئلة الواقفة في حلوق الناس أشواكا مسنونة، أو إبرا صدئة:
1 ـ هل انفردت كعادتك بالقرار ووقعت اتفاقا سريا حول تيران وصنافير دون استشارة أحد، ثم أعلنت عن رغبتك فيما أسميته "إعادة" الجزيرتين إلى المملكة العربية السعودية في الاجتماع الشهير الذي عقدته مع شخصيات قريبة من السلطة وأذيع على الهواء، وأحضرت فيه الدكتور مفيد شهاب ليبرر ما واقفت عليه من وراء الجميع؟ أم أن القوات المسلحة والمخابرات العامة والمخابرات الحربية كانت على علم بما يتم منذ اللحظة الأولى؟
2 ـ هل التنازل عن تيران وصنافير مربوط حقا باتفاق أشمل تدخل فيه إسرائيل، وترعاه أمريكا، والهدف منه صناعة حدود بحرية بين السعودية وإسرائيل بما يوجب دخول المملكة طرفا في "اتفاقية السلام" المصرية ـ الإسرائيلية، أو فتح باب لتفاوض بين الرياض وتل أبيب؟ وهل لهذا علاقة بدخول إسرائيل في تحالف عربي تسنده واشنطن ضد إيران ومن معها؟
3 ـ هل وصل إليك أو إلى أحد في السلطة أن هناك تصورا سعوديا، لمرحلة ما بعد النفط، يقوم جزء منه على استغلال كل جزر المملكة في البحر الأحمر بتأجيرها أو بيعها لشركات عالمية أو بناء منتجعات عليها وبيعها لأثرياء العالم؟ وماذا لو دخلت تيران وصنافير بعد تسليمها إلى هذا المسار وبيعت لشركات تقف وراءها إسرائيل ولو من بعيد، أو باعها المالك الثالث إلى رابع يعمل ضدنا؟
4 ـ هناك قوى خبيثة تعمل على إزكاء صراعات داخلية في المملكة لإحداث فوضى عارمة فيها وتفكيكها، لا قدر الله، فهل إن جرى هذا، وهو أمر لا يتمناه أي عربي حقيقي، ستسارع إسرائيل باحتلال تيران وصنافير، ووقتها لن نستطيع أن نفتح فمنا لأن سلطتك أقرت بأنها ليست أرضنا؟
5 ـ هل هناك علاقة بين موافقة إسرائيل على انتشار جيشنا في سيناء لمحاربة الإرهابيين القتلة الفجرة وبين قضية تيران وصنافير؟ وهل أدخلتنا إسرائيل في "حرب استنزاف" ضد الإرهابيين، المتهمة هي لدى كثيرين منا بمساعدتهم وتوجيههم، لنقع تحت ضغط يفضي في النهاية إلى التنازل عن الجزيرتين؟
6 ـ ماذا عن فتح ممر بين الجزيرتين توظفه إسرائيل بعد استلام السعودية لهما في إعطاء دفعة قوية لمشروعها بحفر قناة بين خليج العقبة والبحر المتوسط أو إنشاء قطار سريع بينهما الأمر الذي يعني تدمير وظيفة قناة السويس؟ وكيف يستقيم هذا مع قرارك بحفر فرع جديد للقناة وإنفاق كل هذه الأموال الطائلة عليه لاسيما بعد الإصرار على إنهاء الحفر في سنة واحدة بما رفع التكلفة، ثم الحديث عن مشروعات كبرى على شاطيء القناة؟
7 ـ ما حقيقة ما تردده بعض الأوساط التي تريد دق إسفين بين مصر والسعودية عن ضغوط مارستها الرياض على القاهرة عبر المشروعات التي أطلقتها السعودية في أثيوبيا والتي تقوم على استغلال سد النهضة الذي يضر بنا ضررا بالغا الأمر الذي جعل السلطة في النهاية تمضي في هذا الطريق الذي انتهى، حتى الآن، بموافقة "البرلمان" على اتفاقية تعيين الحدود البحرية بين مصر والسعودية؟
8 ـ ما حقيقة ما يقال عن أن السلطة سارعت في دفع البرلمان إلى مناقشة الاتفاقية حين علمت أن المحكمة الدستورية العليا ستقضي ببطلان مناقشته لها عقب حكم المحكمة الإدارية العليا بمصرية الجزيرتين أو ستفرض ضرورة إجراء استفتاء شعبي عليها؟ وهل تخشي إجراء هذا الاستفتاء لأنه سيأتي على النقيض مما قلته من أنك واثق أن الجزيرتين للسعودية وبالتالي يكون استفتاء أيضا على شرعيتك وشعبيتك التي هبطت الآن إلى أدنى حد؟ وكيف تدعو الناس فيما بعد إلى احترام القانون بعد أن ضُرب بحكم المحكمة الإدارية العليا عرض الحائط؟
9 ـ كيف سيجري بعد اليوم الحديث بين قادة الجيش وجنوده عن تقديس الأرض وأن التضحية بالنفس في سبيل حتى ولو حبة رمل واحدة واجب وطني؟
10 ـ إلى متى تظل تعتقد أن ما تقدم عليه، وتتفق عليه سرا، هو عين الحق والحقيقة والوطنية، وأن من يراجعك أو يعارضك أو يستفسر حتى عما فعلت تغضب منه، ويرميه إعلامك بالخيانة؟
11 ـ هل نصدق أنك ستبني دولة ونحن لا نرى حولك إلا المنافقين والمداهنين والملاينين الذين وصل بهم الأمر إلى رمي من يدافع عن أرض مصر بالخيانة؟
12 ـ لماذا تم حجب المعلومات والوثائق التي تثبت عكس ما ذهبت إليه وقررته وفرضته عن أعضاء البرلمان الذين تم حشدهم تباعا في سلسلة لقاءات وشرح القضية لهم بما جعل كثيرين منهم يأخذون موقفهم المؤيد لك عن غير دراية؟ وبعضهم بالطبع يطيعك في كل شيء حتى ولو على حساب مصر العظيمة؟
13 ـ هل حقا أنك أعددت تلك الدراسة القصيرة البسيطة التي انتشرت على الإنترنت وتمت ترجمتها وقيل إنك قدمتها في نهاية دورة عسكرية في أمريكا وفيها تتحدث عن "الخلافة" و"البيعة" ودمج الإخوان وأمثالهم في العملية السياسية؟ وهل هذه الدراسة، لو كانت لك حقا، تعني أن قضية الأرض لا تشغل هذا الحيز الذي يملأ رؤوس الغاضبين من التنازل عن تيران وصنافير؟ وفيما الاختلاف إذن عن تصور الإخوان الذين قامت الدنيا عليهم ولم تقعد لمجرد اتهامهم بالتنازل عن جزء من سيناء؟
14 ـ هل يمكن أن تلمح إلى القرار التالي الذي ستنفرد به، أو تكون قد انفردت بالفعل وستعلن قريبا، حتى نعرفه من الآن؟
15 ـ هل تدرك الآن أن مصلحة هذا البلد تقضي أن تفسح الطريق لغيرك بعد أن ثبت لك أن المسألة أكبر مما تصورت، وكنت قد استسهلتها إلى درجة دفعتك إلى أن تقول في لحظة انتشاء أنك تعرف مشاكل مصر وتعرف كل حلولها أو تعد الناس بدولة مختلفة بعد سنتين فقط من حكمك؟ هل يدفعك ضميرك إلى الاعتراف بأنك وصلت إلى نهاية الرحلة؟
عم (شير شيل) !
من أجمل الشخصيات التي عرفتها في طفولتي، وامتدت صلتي بها في صباي.
كان بمثابة (التابع) لجدي!
واسمه هو تحريف لاسم "تشرشل"، رئيس وزراء بريطانيا إبان الحرب العظمى الثانية، وكان العم (شير شيل) معجباً جداً به، حتى خلع عليه أصدقاؤه اسمه محرفاً.
كان يعمل في (القهوة أم مرايات)، وهي أول ما يقابلك من معالم (غيط العنب)، بعد أن تعبر كوبري راغب باشا. كان جرسوناً، و(تشهيلجياً)، أي يؤدي الخدمات بمقابل .. كل أنواع الخدمات، ابتداءً من (إلقاء) رسالة في صندوق البوسطة، وتحضير مائدة إفطار شهي من فول وفلافل موريس، إلى جلب عاهرة لأحد الزبائن!. وكان ينظف المقهي، ويدير حساباته، ويتخذ من ركن فيه مسكناً. ولم يعرف له أحدٌ أقارب، فكان وصف (مقطوع من شحره) يناسبه تماماً.
وكنتُ أرافق جدي أحياناً إلى مقهاه المفضل، الذي كانت المرايا تكسو معظم حوائطه، فكنت أتعجب أشد العجب من كل هذا الاتساع، وكل هؤلاء البشر المتواجدين بالمقهى. ولازلتُ أتذكر المقهى كلما احتسيتُ مخلوط (السحلب)، أو حتى إذا ورد اسمه في حديث، فقد كان جدي يوصي عم (شير شيل) بإعداد طلبي المخصوص، فيأتيني الرجل بكوب ضخم، مترع بالسحلب، الذي كنتُ آكله لا أشربه، من كثرة ما به من إضافات خاصة، أتذكرُ حتى الآن مذاقها، ولا أستطيع أن أصفه. وكنت، بعد أن آكل سحلب شير شيل وأعود إلى البيت، أطلبُ أن أنام على الفور، فتعلق جدتي قائلة لجدي: إيه .. إنتا عطيت له بنج؟!
وكانت جدتي هي الوحيدة التي تكره شير شيل، لأنها علمت أنه (المراسلة) بين جدي وزوجة أخرى أو عشيقة تقيم في (اللبان)؛ وكان عم شير شيل يضحك بصوت عال عندما تقابله جدتي عند الباب لتأخذ منه أشياء أرسلها جدي للبيت، وتستقبله صائحة: أهلاً بالمعرَّص الكبير!
مرحباً سيناء .. أرجو أن تكوني بخير ..
زرت سيناء مرات عديدة ..
كمقاتل، في 9 أكتوبر 73، مهمتي تأمين وحدتي المقاتلة ضد الغدر الكيميائي الصهيوني.
وكمقاتل أيضاً، في زيارة فريدة برفقة ضابط في وحدتي العسكرية، وهو زميل (علومي) قبل أن يكون (قائدي)، وأتيح لنا أن نصل إلى أعلى نقطة في استحكاماتنا على الضفة الغربية للقناة، لنطل على ضفتها الشرقية. لا أتذكر زمن هذه الزيارة، ولكنه كان قبل أسابيع قليلة من أكتوبر، وكانت القيادة حريصة على أن يزور خط الجبهة أكبر عدد ممكن من الضباط والجنود، ليثبت في أذهانهم مسرح العمليات الوشيكة.
كان الساتر الترابي على الضفة الشرقية برتفع كلما عملنا نحن على ارتفاع (المصطبة)، كما كانت تسمى، وكنا نراقب تحركات العدو من فوقها.
ومن فوق تلك المصطبة، رأيتُ القناة تمتد (إلى أسفل)، وهي التي تحول بيننا وسيناء.
واتتني يومها فكرة رحت أعمقها، وهي: لقد كانت إرادة غيرنا أن نحفر قناة لربط العالم تسهيلا لجهود النهب الاستعماري. لم تكن لنا أي إرادة في حفرها. صحيح أنها أفادتنا اقتصادياً وديموغرافياً، لكنها قطعت اتصال مصر بسيناء. وربما كان ذلك مقصوداً، إذ جرى التفكير والتحضير لحفر القناة، من قبل الفرنسيين أولاً ثم الإنجليز، في مناخ محاولات مبكرة إلى إعادة تشكيل العالم المتخلف وتوزيع قطع كعكته على الدول الاستعمارية.
عرضت هذه الفكرة على صديقي ونحن فوق المصطبة التي تجري من تحتها مياه القناة. ثم سألته: لماذا لا نفكر، بعد الحرب، في ردم القناة ؟!
إستولت عليه الدهشة، حتى أن أول ما قاله لي كان : يخرب بيت جنان أهلك !
لكن الفكرة لم تغادرني، ولم تغادره أيضاً، وأمضينا كثيراً من الوقت نتباحثها بعد أن عدنا إلى موقع وحدتنا العسكرية.
اتفقنا على أن ردم القناة سيكون انقلاباً عالمياً. ورحنا ندرس الفكرة من كل الجوانب، وتوصلنا وقتها إلى أن مجرد التلويح بالفكرة رسمياً، أو تسريبها على أنها (منتج) فكر مجموعة من الدارسين المصريين، يمكن أن يكون ورقة ضاغطة، مثل ورقة رفع سعر النفط، مثلاً، يمكننا أن نحصل من ورائها على مردودات اقتصادية وسياسية ضخمة. وتوصلنا إلى أن أول من سيعارض بشدة ردم القناة (إسرائيل)، فالقناة هي من وجهة النظر الاستراتيجية خط دفاعها الأول ضد أي تهديد مصري لأمنها !.
تلك كانت فكرة من أجل سيناء، التي درستها بيئياً بعد ذلك، نظرياً وحقلياً، واحتفيتُ بها أشد الاحتفاء في دراستي (وصف مصر بيئياً)، التي تجدون صورتين من صورها، تمثلان انقسام سيناء، بيئياً، إلى شمالية وجنوبية، ولكل منهما ملامحه البيئية شديدة التميز، وكنوزه الثمينة من مكونات التنوع الأحيائي.
أكبر سلام باحترام لسيناء، التي تستحق مساحة أكبر من حضن مصر.
تخويخ المعاني وابتذال الكلمات
في صبانا الأول، قيل لنا إن من يردد قولاً دينياً بعينه مائة مرة، يدخلُ الجنة بلا حساب!
وقد فعلتُ، ورحتُ أبغبغُ القول مئات المرات، حرصاً على الجنة، التي لم أكن قد ارتكبتُ، بعدُ، سيئاتي العديدة الكفيلة بأن تبعدني عنها!
إننا نبقر بطون معانٍ حلوة في حياتنا، ونفرغها من أحشائها، لنحل محلها قطناً مشبعاً بالفورمالين، عندما نبتذل الكلمات الدالة عليها بترديدها آلياً على نحو يذبح روحها !.
إن أحداً لا يمكن إلا أن يحب وطنه، وهو ليس بحاجة لأن يقول له آخر: أحبب وطنك .. قل تحيا بلادي!.
إنني، كواحد من عشرات أو ربما مئات الآلاف، مريض بالحنين للوطن (Home Sickness)، ولا أطيق فراقه شهوراً، مع أن أحداً لم يزرع فيَّ فيروس هذا الحنين، الذي لا يمكن أن يعبر إلا عن الحب !
وحتى إن كان قد أصبح يكره وطنه، لسبب أو لآخر، فلن يمنعه أحد من ذلك، ولن يثنيه ترديد (باحبك .. باحبك .. باحبك) - ظاهرياً - عن كرهه جوانياً، فهو لم يصل إلى هذه الدرجة إلا لأسباب قاهرة، كأن يشعر أن الوطن قد أصبح وطن آخرين، لا وطنه هو.
لقد قال المصريون (تحيا مصر)، دون صوت، ودون أن يأمرهم أحد بأن يقولوها، في زمن الاحتشاد بعد النكسة، وقبل أكتوبر 73. كان ثمة محك حقيقي يتطلب العمل من أجل أن تحيا مصر، فعمل الناس، لتعود مصر للحياة.
وبعد أن عملوا من أجل أن تحيا بلادهم، فرَّغَ الساداتُ بنيانهم الذي شيدوه، حباً في مصر، وهو (نصر أكتوبر)، فكفروا بالحب الذي عاشوه، وانصرفوا، يبحث كل منهم عن حبل نجاة شخصي، وقد خاب ظنهم في وطن قدموا له الحب، والدماء، والسنين الغالية، بل وأرواح الأقارب والأصدقاء، فقابلهم بالإعراض، ولم يقدم لهم حباً وإنما جفوة.
إن مصر لن تحيا إلا إن رُدَّت الروح للغالبية العظمى من أبنائها الذين يكابدون الحياة حول خط الفقر. فأنت لا تستطيع أن تطلب من (شبه ميت) أن يُحيي وطناً!
للدكتور أحمد زويل فضل كبير عليَّ
أهملتُ، في السنة الثالثة من الدراسة في كلية العلوم، وقل عدد مرات حضوري محاضرات الكيمياء، خصوصاً الكيمياء غير العضوية، وكان من يدرسها لنا لا يجيد التدريس. وكانت النتيجة أن الامتحانات قد اقترب موعدها وأنا (ميح) تماماً في هذا الفرع من الكيمياء.
ولم أكن وحدي في ذلك، إذ كان هذا هو حال أصدقاء وزملاء كثيرين، منهم أخي وحبيبي (سمير صقر)، وكان رئيس اتحاد طلاب الكلية، وقد تعهد بأن يطلب من (المعيد) أحمد زويل أن يساعدنا في حل رموز الكيمياء غير العضوية.
وقبل زويل، والتزم بعدة جلسات مع مجموعتنا المحدودة، واكتشفت معه أن الألغاز التي كان يطرحها أمامنا الأستاذ الكبير، مدرس المادة، قد صارت حقائق واضحة جداً، وأصبحت أتذكر دروس الكيمياء غير العضوية حتى الآن، بل إنني استفدت من مساعدة زويل في تدريس جانب من الكيمياء لطلاب الصف الثاني الثانوي عند عملي مدرساً في مصرتة بليبيا، عام 1980 ونجحت في الكيمياء، ولم أكن لأنجح لولا مساعدة زويل، الذي أكن له محبة خالصة، اقر في كل وقت بالعرفان له. أعانه الله على المرض، وجزاه عني، وعن الإنسانية التي خدمها بعلمه، كل خير، في الدنيا والآخرة.
لعبة التخمينات ..
إعتدنا، صديقي القاص السكندري، وأنا، أن نفكر معاً بصوت مسموع، إزاء ما نراه من ظواهر وأحوال في أوساط المثقفين والأدباء.
ورحنا، على سبيل التفكه، نخمن ونتنبأ بمسارات أدباء بعينهم، حققوا قفزات، ليس في مجالات الإبداع والثقافة، ولكن في مجالات حصد المناصب الجالبة لما يحسبونه جاهاً، والوظائف التي تدر البترودولار ..
من هؤلاء، شاعران سكندريان، لنرمز لهما (1) و(2)، وشاعر - ربما كان قاهرياً - ولنرمز له بـ (3) ..
والشعراء الثلاثة ذوو موهبة محدودة في الإبداع، وغير محدودة في السعي من أجل احتلال مواقع يظنون أنها ترفع من قيمتهم كمبدعين.
فأما (1)، فبائسٌ، بمعنى الكلمة، ولم ينفعه مقعده شبه الدائم في مجلس إدارة اتحاد كتاب مصر في أن يكسبه احترام الوسط الأدبي كمبدع، بل إن انشغاله بالمقعد قد قضى تماماً على أي قدرة لديه على أن يستمر في إنتاج المادة الإبداعية. وكنت، أنا وصديقي، نتذكر قولاً له في مناسبة قديمة (خلينا نقب فوق وش القفص)!
وأما (2)، فيشترك مع (1) في القدرة الفائقة على وضع الذات في خدمة آخرين، ليترفعوا معهم .. فقد أدركا أن وجودهما في الإسكندرية لن يساعدهما على إدراك ما يسعيان إليه، فعرفا الطريق إلى (اللوبيات) القاهرية، وأظهرا الولاء لغيلان هذه اللوبيات في عمليات اختيار أعضاء مكتب الاتحاد، ورئيسه، لدرجة أنهما تآمرا أكثر من مرة ضد سكندري آخر طمح أكثر من مرة إلى احتلال مقعد رئاسة الاتحاد.
ولم يكتف (2) باتحاد كتاب مصر، فتشبث بمنصب في اتحاد كتاب من نوع آخر، وهمي بطبعه، وراح يروج له، حتى لف النسيان والخذلان ذلك الكيان الوهمي، الذي صاحبت نشأته موجة الانبهار بتكنولوجيا المعلومات وتطبيقاتها، في العقد الأخير من القرن العشرين، والأول من القرن الحالي.
ونجح (2) في استثمار هذا الجهد الكبير، لا في تجويد إبداعه وزيادة إنتاجه، وإنما في (إقتناص) وظائف بترودولارية.
ونتوقع، أنا وصديقي، في تخميناتنا، أن يكون (2) في حالة (كمون)، وأنه سوف يفاجئ الجميع بقفزة ضد قانون الجاذبية الأرضية، تسقطه في مقعد رئاسة اتحاد كتاب مصر، وهو الأعلم بخبايا دروبه ودهاليزه المظلمة. بل إن توقعاتنا لم تستبعد أن يفاجئنا تشكيل وزاري قادم بأن (2) هو وزير ثقافة مصر!
وأما (3)، فهو شاعر - أو هكذا يُظنُّ - وكنا نراه يتخذ ركنا قصياً في مجالس الأدباء، سواء في اتحاد الكتاب أو خارجه، وظل يـ (تدحلب)! حتى اقتنص وظيفة رسمية في مكاتب الاتحاد. ووضع نفسه في خدمة كثير ممن وردوا على مقاعد أعضاء مجلس الإدارة، وأخيراً، كان (خادماً)، بمعنى الكلمة، لأحد رؤساء اتحاد كتاب مصر، ولم يكن يجد بأساً في أن يراه الجميع وهو يهرول في اتجاه الرئيس، ويتلقف منه حقيبة أوراقه، ويسبقه بها إلى مكتبه أو إلى قاعة الاجتماعات؛ كما شوهد أكثر من مرة يحمل الحقيبة ويسبق الرئيس إلى السيارة.
إننا أما نموذج (إنحنى) كثيراً؛ ولكن تخميناتنا - أنا وصديقي - لم تستبعد أن يصبح ذلك المنحني مسئولاً عن دورية حكومية، ولا تستبعد أن يحتل مقعد من كان ينحنى وهو يتلقف حقيبة أوراقه، وثمة احتمال لأن يدعمه صاحب الحقيبة، ليستعيد من خلاله نفوذه في نقابة فسدت جداول العضوية فيها، ودخلها عديد ممن لا يستحقون عضويتها، وممن تشبه ملامحهم كثيراً ملامح (1) و(2) و(3)!
ولله الأمر من قبل ومن بعد ....
مــاذا لـــو ..... ؟
لو لم أكن كاتباً، لاخترتُ لنفسي وظيفةً بديلةً، غير بؤس الكاتب وفقره ..
- قد أختارُ أن أكون وسيطاً في سوق السلاح العالمي، حيث العمولات تجعلني مواطناً عالمياً، ترمي الدولُ وثائق سفرها تحت قدميَّ، وتفتح لطائرتي الخاصة سماواتها، لأحطَّ حيث ووقتما أشاء. الخائبون فقط هم من يرون في هذه المهنة ارتزاقاً من احتراب البشر. من دفعهم للاحتراب والاقتتال؟ ثم إن الحروب، لمن يعرف تاريخ الحياة على الأرض، كانت عاملاً أساسياً في تشكيل جغرافيتنا الطبيعية والبشرية التي نحن عليها الآن. ألا تستحق الحروب الشكرَ على ما أوصلتنا إليه الآن؟ وهل كانت الحروب لتتم بغير سلاح؟
وأحب أن أطمئن من يهمه أمري بأن نشاطي التجاري، المؤسس لحضارة البشر وجغرافياتهم، لن يُفتضَح، فمن يمتلك كل هذه التلال من أموال عمولات السلاح قادر على أن يمرر صورة ذاتية تحفظ له مكاناً بين وجهاء وطنه وعالمه.
- قد أختارُ أن أكون تاجر مخدرات، شريطة أن أكون تدربتُ جيداً على توقع المخاطر وتحملها. وهي تجارة منتشرة في العالم كله، ويقالُ إنها الأروجُ، ربما مع أو بعد تجارة السلاح. وكوني تاجر مخدرات لن يزيد عدد التجار واحداً، فهم أكثر من أن يدعي أحد معرفة عددهم. وسوف أستجيب لوازع أخلاقي قد لا أنجح في اقتلاعه، فأخصص جانباً من ثرواتي المتراكمة، والمغسولة، في شراء رضا المجتمع، وأنشئ مشروعات خيرية، وربما دور عبادة، وأطلق جائزة كبرى لأفضل الإنجازات الطبية في مقاومة الإدمان، وجائزة أخرى لأفضل أديب شاب.
- قد أختار أن أكون داعية دينياً، أمتلك محطة تلفزة فضائية، شريطة ألا أطلق لحيتي؛ وأمارس أعمالاً تمويلية نفطية دولارية، وأمتلك قصوراً أرضية، لا من أجل المتعة الدنيوية، ولكن لأعتاد سكنى القصور، تمهيداً للانتقال إلى قصري في السماء.
فُكُّوا الـ (قوايش) ..
الأومباشى حسن، المتخصص في التطهير من الغازات الحربية.
لا أنسى ملامحه، وحضور روحه، وخفة ظله.
كان ماهراً جداً في المهمة المتخصص بها، وهي تطهير الأفراد والمعدات إن وقعت (ضربة غاز) .. طبعاً غاز حربي إسرائيلي، لا غازات الأمن المركزي!
أتذكر أنه كان مدرسا بالمرحلة الابتدائية، من بني سويف، وكان شديد النحافة، دائم الابتسامة، مع فوارق مرئية بين أسنانه. وكان يعيد إلقاء النكات القديمة، ويضحك قبل أن تنتهي، فتثير ضحكته الضحك!.
وعندما يجلس لتناول الطعام مع أفراد الملجأ، أو الدشمة، كان يصيح: فكوا القوايش!
كان يبدأ بفك الحزام العسكري الغليظ، أو (القايش)، حتى لا يضغط على معدته، ليتيح لها الفرصة لتمتلئ بالطعام، الذي كان تناوله في جماعة كجماعته يعد سباقاً من سباقات السرعة.
وكنت أتعجب وأسأله: أين يذهب الطعام الذي يأكله؟.
كان أكولاً على نحو لا يتفق مع نحافة شديدة، لا تتفق بدورها مع ما يقوم به من مجهود طيلة النهار.
والمؤكد أن معدل الأيض الغذائي (التمثيل الغذائي) كان سريعاً عنده، فكان الطعام يحترق أولا بأول، ولا تختزن دهون في جسمه.
وكان الأومباشى حسن خبيراً بالنساء. وحكي لي عن تجارب عديدة غريبة خاضها، تغاضيتُ عن مبالغات كثيرة فيها.
والآن، وفي كثير من الأحيان، كلما اقتربتُ من مائدة طعام، أتذكر صيحة الحرب التي كان يطلقها إيذاناً بالهجوم على الطعام: (فكوا القوايش)!
سوق الكتب ...
الكاتب الأمريكي جيمس باترسون: له 17 كتاباً ، ستة للأطفال و11 للراشدين. بلغ عدد النسخ المبيعة منهاخلال 3 سنوات 20 مليون نسخة، قيمتها 500 مليون دولار!
كتاب (حياتي) لبيل كلينتون، جني 19 مليون دولار.
وكتاب مراته الست هيلاري (خيارات صعبة)، جني 14 مليون دولار.
"جنيت" من كتابي للأطفال (الدولفين العجيب) 300 جنيه .. أنفقت 140 جنيها في بطاقتي السفر بالديزل، و50 جنيها تاكسيات .. ودخلت البيت بكيس فاكهة .. ودمتم!
ما الفارق بين (حوار) و(خوار)؟ .. مجرد نقطة!
أذكَّرُكم ونفسي بأسلوبٍ أحبُه في الحوار:
ربما تتحسن أحوالُنا، إن نحنُ بدأنا نستخدمُ (لا أعرف)، حين تعوزُنا المعرفة، ونقول (ربما)، أو )قد)، حين نعرفُ، ونحن نعرف أنه قد يكون ثمة من يعرف أكثر.
حسن ومرقص وكوهين ..!
لو جئنا بهم، ثلاثتهم، وتركنا لهم المجال مفتوحاً تماماً للمناظرة: هل يمكن أن ينتهوا إلى تحديد إله واحد، يتفقون عليه، أم تنتهي المناظرة وقد ازداد كلٌّ منهم يقيناً بأن إلهه هو الأوحد، ودينه هو الأصح والأجدر بالاتباع؟!
الخلافات الدينية أشد قسوة من أي محاولة لاحتوائها، ولا يمكن أخفاؤها، وسيظل (حسن)، طول الوقت، ينفي مرقص وكوهين، ولن يتوقف (مرقص)، إلى الأبد، عن استبعاد حسن وكوهين، وقد يسمح كوهين بوجود حسن ومرقص، شريطة أن يظل أقوى منهما، متحكماً في حياتيهما.
قد يعترض البعض على وضعي الحال بهذه الصورة .. إذن، فكيف يكون؟!
إعتذارٌ واجبٌ ..
أنا مَدين باعتذار لكل من يفكر في إسعادي بما يرسله لي من مواد دعوية، يعتقدُ هو أنني بحاجة إليها ..
أعتذر لأنني لا أحتاجُ لهذه المواد، وربما كان غيري أكثر احتياجاً إليها ..
كما أنني لا أمرر هذه المواد لآخرين، لأفوز بالجائزة ..
إنني، ببساطة، أصاب بضيق شديد من حجم ما يصلني، وأكتفي بإزالته ..
فأنا، يا أصدقاء، أقمت علاقة وطيدة مع خالقي، ربما تكون أوثق من علاقة من أنشأوا هذه المواد في أزمنة مضت ..
كما أنني لا أريد أن أكتسب سمت (الداعية)، فرأيي أن الطريق إلى الله أيسر من أن يجرك إليه أحد ..
إذن، فأنا لا أقرأ، ولا أمرر، أيَّاً من هذه المواد التي يعتقد مرسلوها أنها هدايا ثمينة، وقد تكون، ولكنني في غنىً عنها .. فأنا أسير في طريق مضيئ بنور العقل ..
نيل هاربيسون - أول سايبورج
أيرلندي عمره 34 سنة.
وُلد لا يرى الألوان - العالم عنده (أبيض وأسود(
زرع الأطباء في رأسه هوائيا يستقبل الألوان من العالم الخارجي، ويرسلها في صورة ترددات مختلفة باختلاف الألوان، يترجمها المخ فيتعرف على الألوان في الوسط المحيط به.
للهوائي فائدة إضافية، فهو (يشعر) بما هو (تحت الأحمر) وبما هو (فوق البنفسجي)، وهما نطاقان من الألوان لا يشعر بها البشر العاديون.
للسايبورج نيل هاربيسون صديقة، قررت مشاركته الحياة السايبورجية، فزرعت في يدها هوائياً يستقبل اهتزازات الأرض (الزلازل(.
إنها تشعر بكل الهزات الأرضية، مهما بلغت ضآلتُها (وهي عديدة وتحدث كل يوم تقريباً(.
أما لماذا كان ذلك الاختيار، فلأنها مصممة رقصات، وهي تستوحي رقصاتها من (هزات) الأرض!
طفح الكيلُ ...!!!
جاءني إشعار باحتفال المجلس الأعلى للثقافة في القاهرة بتكريم سيدة مبجلة، تشتغل بتدريس التاريخ في الجامعة.
ولو كنت أقيم بالقاهرة لذهبت، فأنا مع أي احتفال بمن لهم عطاؤهم، أياً كانت ظروف الاحتفال ..
ولكني أتساءل: ألم يكن الأولى بهذا الاحتفال، وله، أن يكون في وسط أكاديمي تنتمي إليه المحتفى بها؟
كان الأولى أن يكون في مجلس الجامعة التي تعمل بها، أو يتبناه المجلس الأعلى للجامعات، فالاحتفال أخطأ طريقه ودخل مبنى المجلس الأعلى (للثقافة) ..
إن هذا يعود بنا إلى مسألة يعمل المجتمع الثقافي على (تغييبها)، وهي التمييز بين ما هو (تثقيفي) و(تدريسي) ..
إن إنتاج معظم، إن لم يكن كل المهيمنين على الساحة الثقافية هو في حقيقته إما أطروحات حصلوا بها على درجات جامعية (ماجستير ودكتوراه)، أو أوراق بحثية ذهبت إلى لجان الترقية بالمجلس الأعلى للجامعات، للحصول على الدرجات الوظيفية الأكاديمية الفاخرة ..
ونحن نحترم كل هذا (العمل) العلمي، في مكانه، في مدرجات الجامعات ومختبراتها؛ ونرى أن طرحه (في سوق) الثقافة نوع من (عدم الأمانة)، خصوصاً أن معظم البضاعة الأكاديمية المطروحة لم يتدخل صاحبها ليجعلها مستساغة للمستهلك العام
هل نقبل أن يأتي لنا أستاذ علم الأجنة في كلية طب ويطلب نشر وترويج رسالته للدكتوراه، مثلاً؟.
طبعا لا يحدث، ليس فقط لأن المادة (جافة)، ولكن قبل هذا لأن المهيمنين على المراكزوالإدارات الثقافية هم من دراسي المواد الأدبية ..
فتجدهم يحتفلون بأصدقائهم وزملائهم الذين لا تأثير لهم في (الحياة الثقافية) بأقاليم مصر كلها، مع احترامنا الشديد لأهميتهم العلمية الفائقة .. فتجد حفلات تكريم، وندوات تتناول كتبهم التي أولى بها دور النشر الجامعي .. ولا تقتصر الندوة الواحدة على صاحب الكتاب، ومتحدث مصاحب، ولكن عدة مصاحبين من ذوي الأسماء المذيلة بالألقاب العلمية المبجلة.
ولعلني لا أكون خرجت على الموضوعية كثيراً، وأنا أتحدث عن شأن تغيب فيه الموضوعية، إن أشرت إلى أنني ترجمت للمركز القومي للترجمة ستة كتب، خمسة منها علمية، في شئون البيئة والمناخ، ولم يفكر أحد في مجرد الالتفات إلى هذا المجهود، الذي أفخر به، في حين تأتيني كل شهر تقريبا دعوة لندوة عن كتاب أدبي (في الفلسفة غالباً .. لماذا؟!)، يديرها رئيس المركز، أستاذ الفلسفة، ويتحدث فيها طاقم من الألف دالات!
وسبب عدم الالتفات إلى جهدي هو أنني أنتقد ما أعتقد أنه معوج في أي جهة ..
هل يفكر المجلس الأعلى لثقافة (كل مصر) في إقامة حفل لتكريمي، مثلاً، لبلوغي السبعين، ولإصداري 63 كتاباً، حتى الآن، ولمجهودات أسهمت بها في الحياة الثقافية، عبر مؤتمر أدباء مصر في الأقاليم، وتبني الدعوة لنشر الثقافة العلمية، ورئاستي لتحرير سلسلة كتب فيها، أصدرت 24 كتاباً في 3 سنوات، وهو جهد غير مسبوق في تاريخ الثقافة المصرية؟!
معذرة .. فقد طفح الكيل وأكاد أصيح صيحة نور الشريف في نهاية فيلم سواق الأتوبيس...!!
نماذج بشرية
أعود من حين لآخر لأتأمل دفتر أحوال ثورة 25 يناير
أتوقف كثيراً أمام عامل الضعف البشري والحرص على المكاسب الشخصية، خاصة في الأيام الأولى للثورة، قبل أن تحسم الأمور بإزاحة مبارك الملعون
كثيرون ممن نراهم الآن في بؤرة الضوء كانوا في تلك الأيام، يتحسسون مواقع أقدامهم، ويترددون، وقد افتقدوا أي وسيلة للإحساس بحجم الفعل الثوري، بينما هم عائشون، حتى النخاع، في مواضعات الزمن المباركي
شاعر كبير (جداً)، سمعته يتحدث في برنامج إذاعي يقول إنه لم يكتب عن الثورة إلا بعد أن اتصل به أحد أقربائه من (قبلي)، وقال له ليه يا خال ما قلتش شعر في الثورة لغاية دلوقت؟ قال (الخال): فمسكت القلم وكتبت! أي أنه لم يكن ليكتب لولا أن ذكَّرَه قريبه بأن هناك ثورة. وجاءت قصيدته عن الميدان صورة مهزوزة من قصيدة أمل دنقل الشهيرة: أغنية الكعكة الحجرية. ومع ذلك، ظل يتنقل بها هنا وهناك، ولم يلبث أن ارتدى ثياب الثوار، بعد أن وضحت الرؤية تماماً، وهلَّ هلال الثورة !
أحد (نجوم) المثقفين، كان يعمل في مؤسسة ثقافية ضخمة، طال جلوسها في حجر الأسرة والسلطة المباركيتين، راح في الأيام الأولى للثورة ينتقد سلوكيات المشاركين بها، في استعلاء واضح، في حرص على أن يبدو خارج الصفوف، بل لقد كان في مداخلاته الفيسبوكية أقرب إلى التشكك في إمكانية نجاح الفعل الثوري. ثم تغيرت الأحوال، وخرج من المؤسسة، فعاد مرتدياَ ثياب المعارض الحكيم الذي يقرأ التاريخ ليقيس به أحوال الواقع.
هناك أفراد كثيرون كانوا واضحين مع أنفسهم، ولم يقبلوا الثورة لأنها كانت تعني احتمال ضياع مدخولات ضخمة ومكاسب عينية هائلة، ومن هؤلاء عشرات الآلاف من المستشارين الحكوميين ووكلاء الوزارات، أسهموا في إرباك الفعل الثورى وتعطيله.
لا عجب، إذن، أن تمر الثورة بما مرت به من آلام مخاض لا زالت مستمرة حتى الآن، لأن هذه النماذج البشرية لازالت متواجدة، وفاعلة.
رشا الإرهابية .. !
ليس الإرهاب وليد أيامنا السوداء هذه، وإنما ترجع بدايته إلى سنة تانيه حضانه !
قضت رشا حياتها الدراسية قبل الجامعية كلها، من رياض الأطفال إلى الثانوية العامة، في القسم الفرنسي من المدرسة التي كانت (ليسيه الحرية) .. الآن، لا هي ليسيه، ولا تعرف - لاهي ولا أي بقعة أخرى في مصر - الحرية !
قبل أن تتآلف رشا مع أترابها، كانوا يغيظونها، خاصة لأنها كانت سمينة نوعاً، وقليلة الحركة.
فقررت أن تنتقم منهم. فماذا تفعل؟
كانت تتابع حلقات تلفازية فيها قدر من العنف، فهداها تفكيرها الإرهابي إلى إعداد مسحوق ترش به كل الأولاد والبنات، فيختفون، وتبقى هي وحدها تنعم بعطف الآنسة العظيمة فايزة سنبل، مديرة القسم الفرنسي.
في فترة استراحة منتصف اليوم، حصلت رشا على بعض أصابع الطباشير، قامت بطحنها، ثم تسللت إلى سطح أحد مباني المدرسة، لتنفذ عمليتها الإرهابية الأولى، والفريدة في تاريخ الإرهاب العالمي.
عند سور السطح، أطلت على الساحة التي يجري فيها الأطفال، وأخرجت سلاحها السري، وراحت ترش طحين الطباشير، فتحمله الريح الضعيفة وتنشره ليتساقط فوق رئوس (الأعداء) بغير أن يشعروا.
إنتهت المهمة، واستدارت رشا نازلة، بسرعة تُحسد عليها، قبل أن تضبطها مباحث أمن الليسيه !
وكانت وهي تنزل الدرج تتخيل ساحة المدرسة وقد خلت لها، لكنها فوجئت بأترابها يملأون كل شبر فيها، بل إن الولد نفسه عاد يطاردها، مصراً على الإمساك بخديها، في (هزار) ثقيل !
خبير سلوكيات إجرامية معاصرة !
على الأقل، في نطاق دائرة مسكني، بمنطقة (باكوس)، التي تُكنَّى بالصين الشعبية في الإسكندرية ..
الدائرة عبارة عن (بِتري ديش) - وهو طبق زجاجي تُربى فيه الميكروبات بالمختبر - لتربية وتنشئة أحط خلق الله من البشر .. لا تعليم، لا ثقافة، لا أخلاق، لا دين (أو دين للمناسبات) وللحلفان بأنه (ح يطلع دين أمه!!!)، مع أصوات قوية عالية كريهة، لكنها تنبئ عن بنيان سليم القلب.
في كل يوم، وأحياناً عدة مرات باليوم الواحد، تتصاعد تلك النباحات، لتصك آذاننا بشتائم تلوك بتلذذ مقيت أسماء أعضاء جنسية، للأمهات خصوصاً، وكل أنواع السباب بالدين، ومنه ما يوجه للذات الإلهية بوضوح تام.
لا أعرف إن كانت تحدث تشابكات بالأيادي أم لا، فأنا لا أحاول أن أطل على ما يجري .. ولكني أظل طوال أزمنة أشواط المعارك أنتظر أن تتصاعد صيحات تعلن عن سقوط قتيل أو أكثر، أو - حتى - إصابات بجروح من السيوف المشرعة، وأن أسمع )سارينة) سيارة الإسعاف، فلا يحدث شيئ من ذلك ..
إنه نوع مستحدث من الإجرام، هو في حقيقته وحقيقة ممارسيه (ظاهرة صوتية)، يراد بها تصدير الإرهاب، وترسيخ السطوة، دون خسائر حقيقية، طال انتظاري لها!
لوطيٌّ ومُلاطٌ به ..
أرسل لي صديق شريطاً مصوراً للصف الأخير في مسجد، حيث نرى شيخاً حريصاً على أداء (الفريضة) في المسجد، برغم تهالكه، فيؤديها جالساً.
أمام الشيخ يصلي صبيان ركعات السنة.
تمتد يد الشيخ، أثناء ركوع أحد الصبيين، وترفع أصابعه طرف سترته، وتتحرك متحسسةً شرجه.
لست مندهشاً من ذلك، فأنا أعلم تماماً أن (اللواط) مكون رئيس في الحياة الاجتماعية (والاقتصادية أيضاً) في تاريخنا المجيد التليد، وأن (الغلمان( كانوا من مغانم الحروب، وهم أيضاً من هدايا الجنة.
أنا مندهش، فقط، من (توقيت) تصوير المشهد .. هل كان مصادفةً؟، أم أن من صوره كان يعلم أن تلك عادة لدي المصلي المتهالك اللواطي؟
كما أن الصبي الذي لِيطَ به لم يبدر عنه أيُّ رد فعل!. هل كان حرصه على إتمام صلاته أهم من أن يكون ثمة من يداعب فتحة شرجه؟ أم تراه لواطياً سالباَ، وربما يكون مما ملكت يدا الشيخ المصلي اللواطي؟!.
وهل اللواط ينقض وضوء اللوطي والملاط به ؟
هزمتُ السيد (C) ..!
الحمد لله. هزمتُ الفيروس (سي)، عبر رحلة علاج استمرت نحو سنة.
والصورة للتقرير النهائي، يشير إلى أن نتيجة التحليل العددي للفيروس عندي هي (سالبة)؛ وقد سبق أن تحققت هذه النتيجة نفسها في ثلاثة تقارير سابقة، خلال مدة العلاج.
أفخر بأن علاجي تم من خلال مشروع قومي عظيم لمقاومة هذا الغول المفترس، الذي لا يزال يتربص بالمصريين ويستنزف جهدهم وعافيتهم وقدرتهم على العمل والإنتاج والإبداع.
هذا المشروع لا يقل أهمية عن أي مشروع قومي عرفته مصر؛ فما قيمة أن تنشئ مؤسسات إنتاجية، مثلاً، بغير بشر مكتملي العافية يعملون بها؟!
والمشروع عصري بمعنى الكلمة، يستعين بوسائل الاتصال الحديثة، ويستجيب لأي نقاط ضعف تظهر خلال مسيرته، فيستدرك أي أخطاء أو نقص؛ وهذه علامة جيدة تحسب له.
وقد أحببتُ أن أكتب هذا المرسال (البوست)، وأرفق صورة التقرير، تواصلاً مع أصدقاء نبلاء، كانوا على علم بأزمتي، ولقيتُ منهم كل دعم.
كما أرفقه لكي يطمئن نفرٌ آخر، سامحهم الله، توقفوا، حتى، عن الاتصال بي تليفونياً، حاسبين أن الهاتف ناقل للعدوى!
كان أحدهم، وهو دائم طلب الخدمات، يستقبلني بحفاوة بالغة، أو مبالغة، في كل مرة أقابله، ولو مرتين في اليوم الواحد، و .. بالأحضان والقبلات. بعد أن علم مني بإصابتي، كان يتهرب حتى من مصافحتى، ويبتعد مدعياً أنه، هو، (بردان)!
أشكر أسرتي الصغيرة أن حدبتْ عليَّ في هذه الأزمة، التي لم تكن تهمني إلا في كونها تجعلني عاجزاً عن العمل بالمعدل الذي اعتدته.
وأعود فأكرر شكري لأصدقائي النبلاء، ولا أشكر المتباعدين عني، وليظلوا بعيداً عني.
كما أشكر (وطني) مصر، أن هيَّأ مشروعاً علاجياً قومياً على نحو يثبت أنه قادر على أن يكون وطناً مبدعاً، إن أراد ..
تداعياتُ الرحلة مع السيد (C) !
أكتب، لعل أحداً يكون بحاجة إلى ما مررتُ به من خبرة، في تجربتي مع الإصابة بفيروس الالتهاب الكبدي الوبائي، أو السيد (C)، كما أحب أن أسميه، احتراماً، فقد تعلمتُ أن أحترم عدوي، ولا أستهين به، طالما لديه قدرات هجومية فائقة، أملاً في التمكن منه وقهره. وهذا أول (درس).
لم يرد ببالي، ولا ببال كل من مررتُ بهم من أطباء أن سبب شكواي هو السيد سي. فقد كنت أشكو وهناً متزايداً.
حسبتُ أن المشكلة في إصابة قديمة بالاكتئاب، فتوجهتُ إلى طبيب للأمراض النفسية، هو من وضعني في المسار الصحيح، فقد لاحظ أن نتائج تحليل لوظائف الكبد غير طيبة، فطلب مني إجراء تحليل يثبت أو ينفي الإصابة بالفيروس، وهو تحليل كمي، ويسمى (بي-سي-آر)، فأجريتُه، وكان (إيجابياً).
وجهني الرجل إلى المشروع القومي لمقاومة وعلاج السيد (C)، وهو غير المتخصص بالأمراض الباطنة؛ بينما كان أستاذ في الأمراض الباطنة، يعمل بمستشفى الجهاز الهضمي في (فلمنج) بالإسكندرية، يرتب لنفسه رحلة تردد على عيادته الخاصة، ويعطيني رقم هاتف (سري)، لأحد سماسرة عقار العلاج!
بدأتُ بتسجيل حالتي عبر موقع المشروع في الإنترنت، وهي عملية بسيطة جداً.
تطلب الأمر بعض الانتظار (نحو 3 أشهر)، ليأتيني الرد، وتبدأ الرحلة، بالعرض على لجنة رئيسية في الإسكندرية، وإجراء تحليلات في مختبرات المشروع، ثم التحول إلى لجنة فرعية، بدأتُ أصرف عن طريقها عقارين، منهما (سوفالدي)، شهراً بشهر، لمدة ستة أشهر!
بعد شهر من بداية العلاج، أجريتُ تحليلاً للبي سي آر، كان سالباً، والحمد لله. وتحليل مماثل بعد 3 أشهر من العلاج، جاء سالباً، أيضاً؛ ثم تحليلاً في نهاية رحلة العلاج، كان سالباً بدوره، والحمد لله.
بدأت فترة علاج وقائي، بفيتامين (هـ)، ودواء آخر، لمدة ثلاثة أشهر، انتهت بتحليل أخير، جاء سالباً، لرابع مرة، وهو ما نشرتُ صورته في بوست سابق، وعليه إشارة (S.V. R.)، أو Sustained Verological Results، أي نتائج تحليل فيروسي يُرتكن إليها.
عانيتُ أحياناً من سوء تنظيم، مرده بالدرجة الأولى إلى تزايد عدد المرضى، وانزعاجهم الشديد من إصاباتهم، وضيق أماكن التعامل مع المترددين على لجان المشروع، خاصة في مستشفى جمال عبد الناصر.
لكن، بصفة عامة، كانت الأوجه السلبية الإدارية يتم تداركها وتصحيحها أولاً بأول.
أعتقد أنه من المهم جداً ألا يُترك مشروع لديه كل هذه الخبرة من (النجاح) بأن يتراجع، وينبغي أن يدعم بكل وسائل الدعم؛ وأدعو الرأسماليين المصريين الجشعين البخلاء أن يتبرعوا لمشروع مقاومة هذا الوباء الرهيب، فهو يصب أيضاً لصالحهم، فقد يكون من بين من (يستعبدونهم) من مصريين مرضى به.
طِبتَ يا وطني!
معنى أن تكون (إحترافياً) ..
وعكس الاحترافي (الفهلوي). وأنا مارست الفهلوة لتسعة أشهر، في اشتغالي بتدريس الكيمياء في مصراتة.
صحيح أنني درستُ الكيمياء، لكنني لم أمارسها إطلاقاً كعمل، وإنما كنت أعمل بالشق الثاني من التخصص، وهو علوم البحار. فلما ضاقت السبل، إندفعتُ إلى عالم الفهلوة، الذي بدأ بشراء (شهادة خبرة) مزورة، وانتهى بفشل ذريع في التعايش مع وظيفة لم أمارسها، ولم أتهيأ لها.
والحمد لله أن هذه الفهلوة التاريخية لم يكن لها خسائر كثيرة، فالفهلوة حين تصير أسلوباً تذبح الثقة.
ما رأيكم، دام فضلكم ؟!
ما دمنا جميعاً، كأشقاء عرب، تربط بيننا (وشائج) التاريخ واللغة والدين وأشياء أخرى، ولا تفرق بيننا إلا المصالح الخاصة، فإنني أقترح مشروعاً أساسه تكنولوجيا الواقع الافتراضي، التي تلغي المسافات، وتجعلك تصعد إلى سطح القمر، وتشارك رواد الفضاء الحياة في محطاتهم السابحة بعيداً عن الأرض.
لماذا نجشم أنفسنا مشقة وأخطار بناء كوبري يربطنا بالسعودية، لتسهيل حركة الحجيج ؟
إن تكنولوجيا الواقع الافتراضي يمكن أن تعطينا برامج افتراضية للسفر إلى الحجاز، وأداء مشاعر الحج، توفيراً لحركة السفر بالطيران، ونفقاته التي تتزايد عاماً بعد عام، والأولى بها خزانات الدول الفقيرة التي يخرج مواطنوها بأموالهم القليلة التي يقتطعونها من قوت يومهم، للإنفاق على الخزينة السعودية.
لقد أقام مسلمون فقراء في بعض الدول الأفريقية نماذج مادية مصغرة للمنشآت المقدسة، واستخدموها فعلاً في أداء مناسك الحج؛ وسواء كان ذلك قد تم بهذا القصد، أو على أنه (تدريب) على أداء المناسك، كما أوضح بعض المعلقين على الخبر والصور، فإن ما تم هو (إستجابة) طيبة لتسهيل الحج، وتقليل نفقاته.
والحج الافتراضي استجابة أخرى، نسخِّرُ فيها التكنولوجيا نفسها التي أعطتنا وسائل للسفر طيراناً في الفضاء، بعد أن كان (رجرجةً) فوق ظهر بعير، والتي أعطتنا كل إمكانيات إنشاء التوسعات في مواقع مناسك الحج، لاستيعاب مزيد من ملايين المتعبدين، وبلايين الدولارات.
فهل نرفضها وهي تعطينا قدرات هائلة على الحياة في تجربة الحج، دون أن نغادر فُرشنا؟!
ويمكن لعلماء دين أفاضل، متفتحين على روح العصر، ان يشاركوا في توفير كافة جوانب صحة الحج الافتراضي، بحيث يعايش (الحاج الافتراضي) التجربة كاملة، بدءاً من الإحرام، حتى العودة إلى الوطن، والسجود على أرضه يقبلها.
فإن نجح المشروع، لا بأس من أن تأخذ المملكة السعودية، وحدها، حق احتكار إعداد برامج وأدوات الحج الافتراضي، والمتاجرة بها !
(بانتظار ردود أفعال الوهابيين)!
شد حيلك يا (جوجل)!
أنا لا أستخدم (جوجل المترجم)، ولكني أحترمه.
أدرك تماماً قيمة أن يتوصل العقل البشري إلى (أتمتة) عملية صعبة، شديدة التعقيد، هي النقل من لغة إلى لغة، أو الترجمة، التي لا يزال الجهد البشري يعالجها بكثير من المشقة.
إنني أتمنى أن نتمكن نحن البشر، قبل انتصاف هذا القرن، من تطوير هذه الأتمتة، تيسيراً لعمليات الترجمة. وأعتقد أن ذلك سيتحقق، إن آجلاً أو عاجلاً، فقد بدأنا، وها هو (جوجل) يحاول أن ينقل، بالرغم من كل سوءات ما ينقل!. لكنها خطوة (طفلة) تُحسب للبشرية في مسيرتها الحضارية.
إن تحقق هذا (الحلم) بالترجمة الآلية فسوف يكون انقلاباً بكل معنى الكلمة، إذ ستنتفي الفواصل بين الشعوب تماماً، وتنتقل الأفكار والمعارف و(يقرأ) سكان الأرض بعضهم بعضاً.
لكن .. وآه من هذا الاستطراد .. هل ستتمكن الآلة من نقل (روح) اللغة، على نحو ما يفعل المترجم البشري (المُجيد)؟!.
سِتِّي (أم السيد)
هي جدة أبي، أم أبيه (السيد خليفة)، رحمهم الله.
عاشت حتى عاصرتُها وأنا طفل في سن الوعي، حتى أنني أدوِّنُ الآن ذكريات عنها. وأحسب أنها ماتت وقد قاربتْ التسعين.
كنت طول الوقت أتعجب: كيف يرضى جدي أن تعيش أمه في تلك الحجرة شبه المظلمة، في الطابق الأرضي من (بيت العائلة)، وكيف تعيش وحدها.
وبالرغم من هذا التعجب، الذي يوحي بأنني كنتُ مهتماً بها، فقد كنتُ أشارك أبناء عمي وأطفالاً من الجيران معاكستها متصايحين: أم السيد .. أم الغولة! وكانت ترد علينا بسباب غليظ ينال من أمهاتنا، وتظل وقتاً طويلاً تشكونا بكلمات مبهمة توجهها لشخص تراه ولا نراه.
ثم حدث ما جعلني أكف عن معاكستها، بل أبعد المعاكسين عنها ..
كنت أقتربُ، متلصصاً، من حجرتها، فسمعت صوت جدي.
إقتربتُ من الباب، وتيسر لي أن أنظر للداخل، فوجدتُها وجدي جالسين على الأرض. وكان (الولد السيد)، كما كانت تناديه، يُطعم أمه من لفافة يضعها في حجره.
كانت تحادثه كما لو كان طفلاً. تنهره وتنصحه بأن يفعل ولا يفعل. وكان هو يستجيب، ويقبل يديها من وقت لآخر، ويمسح فمها، ويسألها إن كانت تريد أن تشرب فيسقيها.
واكتشفتُ أن هذا المشهد يتكرر كل يوم، تقريباً.
تغيرت نظرتي لجدي، وأحببته أكثر.
وتبينتُ أن كل من في البيت على علم بما رأيتُ وأصبحوا يرونه أمراً اعتيادياً، وكان استجابة لرفض (ستي أم السيد) أن تأكل إلا من يد (الولد السيد)!
أفيــون ..
نكذب على أنفسنا حين نسمي (العداء الديني) (فتنة طائفية)!
ونحن مصرون على هذه الكذبة.
وحقيقة الأمر هي أن نصوصاً دينية، إسلامية ومسيحية، ترسِّــخُ (الإقصـــاء) !
المعتدلون يحاولون، أحياناً، تحقيق التعايش ..
المتطرفون يعيدون إنتاج هذه النصوص، على مر العصور، للتخلص من (الآخر) !
ولما كان (الدين أفيون الشعوب)، وهذه حقيقة مهما كان موقفك من قائلها، فإن هذا الصراع لن ينتهي، مهما التقى الشيوخ والقساوسة وتشابكت أياديهم أمام عدسات المصورين !
لا تكف عن التسبيح بحمدي!
نفرٌ من المبدعين، فتح الله عليهم بالشهرة والرواج، مع أن تجاربهم الإبداعية ليست عبقرية. تجدهم على الدوام لا يرضون إلا بإقحام أنفسهم في البؤرة .. أي بؤرة. وهم يعتقدون أن (من حقهم) أن يظل الضوء مسلطاً عليهم، لا يغادرهم، ويسعون إليه، بل يطلبونه ممن حولهم.
وأعتقد أن من صفات المبدع الأصيل التواضع.
إن الضوء يسعى للمبدع الحقيقي، وليس العكس.
سِكك ..
قال أبوه لأبي: خليه يدخل مع (زيزو) المدرسة الأزهرية .. التعليم الديني يفتح سكك أكتر ..!
وكنت وقتها منبهراً برفيق الطفولة زيزو، الذي كانت لديه جرأة فائقة لاقتحام أي مجال، خاصة مجال (معابثة) البنات!
كنت أوشك أن أصاحبه رحلة التعليم الفاتح لمزيد من السكك، غير أن أبي اختار لي (التعليم غير الديني).
واستمرت صلتي بزيزو قائمة بحكم الجوار، حتى نهاية المرحلة الثانوية، فسافر هو إلى القاهرة ليلتحق بكلية دار العلوم، والتحقت أنا بعلوم الإسكندرية. ثم كان التجنيد الإجباري، وذاب كلٌّ منا في أمواج بحار مختلفة.
وفجأةً، وجدته يتصل بي، عارضاً عليَّ مساعدته في (سبوبة) للدروس الخصوصية.
كان من أوائل من افتتحوا مراكز الدروس الخصوصية في الإسكندرية، حيث استأجر دكانين، أزال ما بينهما من جدران، وأعد المكان لاستقبال طلاب الثانوية العامة. ولما زرته في هذا المركز، وجدتُ لافتات ضخمة تبشر الطلاب بالدرجات النهائية في اللغة الإنجليزية، إن هم طلبوا دروس الأستاذ زيزو.
ولما قابلتُه، سألتُه كيف يدرس اللغة الإنجليزية لطلاب الثانوية العامة، وهو (الدرعمي) المتخصص في الأدب العربي. وفاجأني بأنه يعمل في التربية والتعليم مدرساً للغة الإنجليزية. وأتبع ذلك بقوله: نحن جيل المعجزات يا صديقي!
ولم يكتف زيزو الدرعمي بتدريس الإنجليزية، إذ تفرعت به (السكك)، فامتلك متجراً للأدوات الدينية، من سِبح ومباخر وغيرها، مع الكتب والشرائط الدينية؛ كما مارس (الترتيل) في سرادقات العزاء، وسمعتُ أنه أصبح مقرئاً مُعتمَداً في إذاعة محلية!
وكان فيما سبق يسعى إليَّ إن أنا تباعدتُ، وانقطعت أخباره عني تماماً منذ نحو عشرين سنة. ترى، لم تذكرتُ هذه القصة الآن؟!
- مجلس إدارة اتحاد كُتَّاب مصر ...
مجلس إدارة اتحاد كُتَّاب مصر أعضاء زملاء أجلاء محترمون.
وه أيضاً (غير ذلك)!
وغير ذلك تعود على صنن لهما ممثلون بين الأعضاء المحترمين:
الصنف الأول: سبق أن تحدثنا عنه، وأسميناه (أعضاء فوق البيعة)!
إنهم يشبهون ما يتركه لك بائع الخضروات (فوق البيعة)، أي زيادة على الميزان. وذلك لأن هؤلاء الأعضاء يدخلون المجلس من باب العيب الخطير قانون الاتحاد، المتمثل في عدد أعضائه الثلاثين، الذين يتم تجديد نصفهم سنوياً، فيكون على من يدلي بصوته في انتخابات التجديد أن يختار 15 مرشحاً. وأتحدى أن يكون ثمة ناخب يعرف 15 مرشحاً معرفة تجعله يعطي لهم صوته وهو مطمئن إلى كفاءتهم واستحقاقهم عضوية مجلس إدارة نقابة تجمع كتاب مصر. فتكون النتيجة أن يختار الناخب من يعرفهم، ولنفترض، في أفضل الحالات أن عددهم 10، ويكون عليه - لكي يصح صوته - أن يختار معهم (فوق البيعة) خمسة أعضاء لا يعرفهم. إذن، فهناك دائماً بين أعضاء مجلس الإدارة عشرة أعضاء من صنف (فوق البيعة)!
الصنف الثاني: أسميه (القمل)!
فأنا أشبهه بسمكة اسمها (قملة الدولن).
ليس لديها أي قدرات لتعيش حياة البحر .. لا حركة ولا قدرة على تحصيل الغذاء.
وإنما لديها (ممصات)، تجعلها قادرة على الالتصاق بأجسام أسماك أخرى، كالأقراش، أو بالدولنات والحيتان. ويكون التصاقُها، غالباً، قرب - لا مؤاخذة - المؤخرات، ليسهل عليها التقاط مخلفات الكيانات الضخمة التي تلتصق بها، والتي تتركها ملتصقة لتقوم بعملية تنظيفها!
مجلس إدارة اتحاد كُتاب مصر أعضاء من هذا الصنف، طفوا ملتصقين بحيتان وأقراش المجلس، الذين سمحوا لهم بالالتصاق، وطفوا بهم معهم، ليقوموا لهم بأعمال خدمية، وليظلوا في الظل، مستعدين دائماً للاستجابة لأوامر من يلتصقون بهم!.
أينما ولَّيْتَ وجهَك فثمَّ وجهُ السي آي إيه !
نشرت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، في 14 أبريل 2007، في موقعها بالإنترنت، وثيقةً هي عبارة عن عرضٍ لكتابٍ من تأليف الكاتبة البريطانية "فرانسيس ستونر سوندرز"، وعنوانه (الحرب الباردة الثقافية – المخابرات المركزية الأمريكية وعالم الفنون والآداب)، صدرت الطبعة الأولى منه عام 1999، بعنوان (من الذي دفع للزمار؟)، وقد صدرت ترجمة عربية له عام 2002، عن المركز القومي للترجمة بالقاهرة؛ ويوثق للعلاقة بين المخابرات الأمريكية ومؤسسة فورد، ويوضح بالشواهد الواقعية، والمقابلات الشخصية مع عناصر المخابرات، كيف تتخذ وكالة المخابرات المركزية الأمريكية مؤسسات التمويل كغطاء لأنشطتها السرية. كما جاء في دراسة بعنوان (مؤسسة فورد ووكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية)، للبروفيسور "بيتراس جيمس"، أستاذ الاجتماع بجامعة بنجامبتون في نيويورك : (تستخدم وكالة المخابرات المركزية الأمريكية المؤسسات الخيرية كقنوات فعالة لتوجيه مبالغ كبيرة من المال لمشروعات الوكالة، دون تنبيه المتلقين إلى مصدرها. وقد سمحت الوكالة لتلك المؤسسات أن تقوم بتمويل مجموعات من الشباب، والنقابات العمالية، والجامعات، ودور النشر، وغيرها من المؤسسات الخاصة، بما يخدم برامج العمل السري للوكالة؛ وتُعـدُّ مؤسسة فورد واحدة من أهم المؤسسات التي اضطلعت بأدوار كثيرة، متعاونة مع وكالة المخابرات المركزية الأمريكية). ويضيفُ البروفيسور جيمس: (ومن خلال التعاون الوثيق المستمر بين المخابرات الأمريكية ومؤسسة فورد، يجري تأمينُ العديدَ من فرص العمل لعملاء المخابرات المركزية داخل مؤسسة فورد؛ فمن القواعد الهيكلية الأصلية أن هناك علاقة وثيقة وتبادلاً للموظفين، على أعلى المستويات، بين وكالة المخابرات المركزية ومؤسسة فورد، وكان من ثمرة هذا التعاون الهيكلي نجاحُ عملاء المخابرات في الوصول لوسائل الإعلام، وموجِّهات الفكر، تحت الغطاء القانوني لمؤسسة فورد).
تدوير سياسي Political Recycling
التدوير، بيئياً اهتمام عالم اليوم، وهو منجاتنا من مغبات وخيمة للتلوث الذي أصبح عنواناً على كوكبنا.
والتدوير، ببساطة، هو تجميع المهملات والمخلفات من مواد استهلاكية، صلبة وسائلة وغازية، والفصل بينها، أو استخدامها مجمعة بدرجة أو بأخرى، في إنتاج موادٍ جديدة تنتمي لنفس النوع أو الأنواع الأصلية، أو تكون مغايرة. ومن أهم المواد التي تخضع للتدوير بدرجات مختلفة من النجاح: الورق والأخشاب والبلاستيك، والمياه ..
غير أن التدوير قد امتد هذه الأيام، وخاصة في مصر، إلى عالم السياسة، حيث تختنق الأجواء المصرية بمخلفات ونفايات من أفكار وأقوال، يقوم بجمعها (زبالون)، من كتَّاب وإعلاميين وسياسيين، ناهيك عن رجل الشارع، ويقومون بتدويرها، ليتهيأ لهم أنهم أنتجوا أفكاراً جديدة، وحقيقة الأمر إنما هم قد قاموا بتدوير بالات من قصاصات الأوراق المتسخة بأحبار المطابع، ومئات الأمتار المكعبة من الأقوال الركيكة والأفكار المسروقة بالأصل، فيكون الناتج من تدويرها (إفرازات) كريهة اللون والرائحة، ولا يقدر أحد على تذوق طعمها.
فاحذروا آلات التدوير المنتشرة في كل مكان ...
أنفاق التنمية ...
أعتقد أن أنفاق قناة السويس، التي يجري حفرُها الآن، هي أهم مشروع قومي عرفته مصر.
ستغير هذه الأنفاق أشياء كثيرة ..
ستُحدثُ انقلابات (جيوبوليتيكية)، وفي ظرف جيلين أو ثلاثة أجيال ستصبح سيناء منطقة جذب للسكان، بما يترتب على ذلك من انتشار أوسع للعمران وللأنشطة الاقتصادية (تجارية - صناعية - زراعية)، فسيولة حركة السكان مسألة غاية في الأهمية، وقد كانت قناة السويس تقلل من هذه السيولة إلى حد بعيد.
وأتوقع، بما لديَّ من ثقافة سياسية متواضعة، أن تنقلب نظرية الأمن الإسرائيلي رأساً على عقب، فقد كانت إسرائيل تركن إلى وجود قناة السويس كعائق يقيد حركة الجيش المصري. وكنت قبيل الحرب في 1973 أزور الخطوط الأمامية من حين لآخر، وأنظر إلى جنود الاحتلال يتمشون على الضفة الشرقية، وأقول في نفسي: لقد صنعنا القناة بأيدينا لتنفعنا، غير أنها أصبحت عائقاً يحول بيننا واجتياح جيش الاحتلال، بل واجتياح إسرائيل نفسها إن تطورت الأمور.
الآن، ستمثل الأنفاق الجديدة (دملاً) في مؤخرة إسرائيل، ولن تقف إزاءه مكتوفة الأيدي، وعلينا أن ننتظر ردود أفعال منها، وألاَّ نأمن جانبها. وأعتقد أن الجيش الإسرائيلي سيغير برامج تدريبه الآن، واضعاً في اعتباره ما تضفيه محاور الأنفاق على القدرات القتالية للجيش المصري.
وهنا، لا أملك إلا الاعتراف بأهمية ما تم من تطوير لأسلحتنا الجوية والبحرية، وأنت إن تأملتَ نوعية ما استجد في هذا المجال تجده في حقيقة الأمر رسالة إلى إسرائيل لتفكر ألف مرة قبل أن تقدم على سلوك غبي.
إن الأنفاق من الأشياء القليلة التي تبهج القلب في هذه الأيام شديدة الوطأة على حياتنا، برغم أن العمل فيها يجري في صمت، وسرية مستحبة.
إن أنفاق قناة السويس الجديدة هي التي تستحق أن تسمى (أنفاق التنمية)، وليس ذلك (الممر) المشبوه!
"عزومة" جروبي ..!
عثرتُ بين أوراقي القديمة على ملف منسيٍّ، تآكلت أوراقه بفعل الرطوبة والبكتيريا، و(سميكة) الورق .. ذلك الكائن الحي شبيه السمكة، الذي تجده بين صفحات الكتب القديمة ..
والحقيقة هي أنني عثرتُ على (قطعة من حياتي)!.
مُزيقاتٌ تحتوي على ما يشير إلى مشروع تدوين يوميات، تتناثر بها خواطر ترصد بعض الوقائع الاستثنائية التي عشتها أو عايشتها، في الشهور الأولى من عام 1973 ..
أكتفي هنا بوريقة تحمل تاريخ 6 أبريل 73!
عمرها 45 سنة ... يا ربي!!
مدون بها، بالقلم الرصاص، كلمات كتبت على عجل (تدخلت فيها بأقل ما يمكن، لأحتفظ لها بالسياق، ولأكمل من التهمته السميكات من حروف) ...
"أكتب في ضوء شحيح ..
"وصلنا الموقع منذ ساعات قليلة ..
"كانت مفاجأة رائعة .. شكراً للتوجيه المعنوي ..
"فجأة، ونحن قرب الكيلو 50 القاهرة/ السويس، صدر أمر بالتوقف ..
" إلتزمنا جانب الطريق، وقد انتاب بعضنا القلق، إذ حسبنا أن ثمة (احتمال) لإغارة مفاجئة من طيران العدو ..
"لم يدوم (آسف .. وقعت وقتها في خطأ لغوي) .. لم (يدم) القلق طويلاً، إذ فوجئنا بسيارة (صندوق)، عليها اسم (جروبي)، تمر بمركبات (القُول) متمهلة، ويمشي إلى جانبها أفراد من العاملين في جروبي، يميزهم الزي الخاص بهذا المحل الأرستقراطي المشهور، في وسط القاهرة، تسبقهم رائحة طيبة لطعام شهي ..
"كانت المفاجأة: لفافتان من خبز طيب، إحداهما محشوة بشرائح لحم مشوية!
"كان يضمهما صندوق ورقي ملون، مطبوع عليه: هدية جروبي لأبطال الجيش الثالث...
"إنتشر البِشرُ بين الأفراد، الذين كانوا ينتظرون (التعيين) التقليدي، وقد استبد بهم الجوع. إلتهموا الساندويتشان (خطأ ثانٍ .. معذرة) في دقائق قليلة ..
"قبل أن نفيق من (هول) مفاجأة جروبي، عاجلنا بواحدة أخرى .. عربة أخرى تمر بنا، توزع علينا لفافة قرطاسية: آيس كريم!
"آيس كريم جروبي على طريق مصر السويس الصحراوي!
____
تعليق أخير: أعتقد أنني مدين، منذ 45 سنة، بكلمة شكر لجروبي، الذي لم تسعدني الظروف إلا بالتلكؤ على رصيفه في وسط البلد!
وسَّـــعوا للشبكة !
اليوم. في الإسكندرية - مصر. أبريل 2016 حدث أن:
- كنت واقفاً بين جمع من أهلنا الطيبين البسطاء، في صف، للحصول على المواد التموينية التي تدعمها الحكومة، وتقدمها للشعب البائس، وأنا أحد أفراده.
- تبدأ عملية الصرف، عن طريق بطاقة ممغنطة (نفرح بتسميتها بالذكية) - ربما من كثرة ما نعاينه من غباء إداري حكومي - توضع في جهاز اتصال طرفي، هو جزء من بنك معلومات وزارة التموين (كومبيوتر صغير يدوي).
- يحدث أن يتلكأ الجهاز من شدة التحميل عليه، وضعف قدرات الشبكة كلها.
- تلكأ الجهاز كثيراً، والموظف بارد جداً، وربما يكون هو قد وجد وسيلة لتعطيله، لسرقة الوقت.
- إزداد عدد المنتظرين في الصف، وتبعثروا، كعادتنا نحن المصريين العشوائيين، ففوجِئتُ بصوت عالٍ، واثق جداً من نفسه، يقول:
- يا جماعه .. بلاش زحام .. وسَّعوا .. خللوا الهوا يدخل للشبكة !!!
واستجاب الناس على الفور، ووسعوا للشبكة !!!!!!!
وأنا: الكاتب العلمي، الذي انقطع قلبه وهو يناصر الثقافة العلمية، ويُصدر سلسلة كتب في الثقافة العلمية، ويؤلف كتباً فيها، واقف بين أهلينا الذين وجدوا الحل في (التوسيع)، ليدخل الهواء، لينعش الشبكة، ليصرفوا الزيت والسكر والأرز !!
أفكارٌ آسرة ..
لم أُقسر قلمي يوماً على كتابة فكرة عبرت بذهني، مقالاً أو قصةً.
كانت لديَّ طول الوقت قناعة بأن الأفكار التي لا تستحق الاهتمام تتطاير كفقاعات صابون، تلتمع قليلاً ولا تلبث أن تذوب في الهواء، أما تلك التي تستحق الكتابة فهي التي تأسرك، وتظل تلاحقك، حتى (تأتيها)!
رعاية الصداقة
يغفلُ بعضُ الناس عن رعاية ما يرتبطون به من علاقات الصداقة، فتترهل وتتفسَّخ ويضربها الوهن، ولا تلبث أن تسقط، كعود نبات شق سطح التربة ثم تساقطت أوراقه، فلا يلبث أن يذبل ويسقط.
ثمة صداقات (خاصة) تخرج عن هذه القاعدة، وغالباً ما تكون تاسست في سنوات التنشئة، وحالت الجغرافيا وصروفُ الدهر دون استمرارها عبر التواصل، غير أن العلاقة لا تلبث أن تتجدد ذاتياً فور أن يحدث التلاقي، كأنها كانت في حالة (سُبات).
وقد عرفتُ كل أحوال الصداقة. وذقتُ مرارة وأسف عدم تبادل رعايتها من أطراف أخرى، مما اضطرني إلى مقابلة الإهمال بإهمال، فماتت صداقات كنت أحسبها ستدوم. كما أنني أعرف أصدقاءً ينقطع حبل تواصلنا لسنين طويلة، وما إن نلتقي، أو حتى نتهاتف، حتى يجري الحديث بيننا كأنه لم ينقطع يوماً!.
إذن، فلابد أن تكون الرعاية متبادلة، كالحب. ولا يغيب عنَّا أن للصداقة كلفتُها التي يتوجب على الطرفين الاستعدادُ لتحملها، من وقت وجهد وفكر، وربما مال.
إن صداقة طيبة يمكن أن تكون حبل نجاة، أو غرفة عناية مركزة، أو ضوءاً رفيقاً مؤنساً في فضاء موحش مظلم.
في وداع صبري أبو علم ...
ذات مساء سكندري مُواتٍ، بالعام 1965، أي منذ نصف قرن تقريباً، غادر مجموعةٌ من(الصبية) قصر ثقافة الحرية، بعد انتهاء ندوة الإثنين (اللقاء الأسبوعي لنادي القصة)، واتخذوا طريقهم إلى ميدان محطة السكة الحديدية (ميدان الجمهورية)، ليتفرقوا فيه، بعد مساء حافل، كل إلى بيته. من هذه المجموعة: مصطفى نصر، ومصطفى حامد جاد الكريم، وعبد الله هاشم، وسعيد بكر، وصبري أبو علم، وأنا، وآخرون تسربوا من شقوق الزمن. وبالمصادفة البحتة، ظل صبري ومصطفي حامد يسيران معاً، يعتقد كلٌّ منهما أن زميله يجامله بالسير معه حتى يصل إلى بيته، فيتركه، حتى وصلا فعلاً إلى بيت، قال مصطفى: هنا أسكن. وقال صبري: وأنا أيضاً. وكان مصطفى إبن مالك العقار، وصبري يسكن في شقة بالطابق الأرضي، وبين الأسرتين مودة، والإبنان لا يعرفان أحدهما الآخر !
كنا نتقارب في السن، حول السادسة عشرة، وإن كان صبري يكبرنا بسنوات قليلة، وكان عاثر الحظ في الدراسة، فتعثر لسنوات، الأمر الذي دفعه إلى الالتحاق بالقوات البحرية، فانتقل مع أمه إلى الإسكندرية، بعد وفاة أبيه؛ وكانت الأسرة تقيم في طهطا.
إنها ذكريات خمسين سنة، تتلاحق وتتقافز في أركان ذاكرتي بعد انتهاء الرحلة بالنسبة لصبري، إذ رأى أن يتخذ لرحلته مساراً آخر، يذهب به إلى بعيد.
إختلفتُ مع صبري أكثر من مرة، وكنا نلتقي أثناء الخلافات، وكأننا غير مختلفين، برغم أن حدة الخلاف تكون كبيرة أحياناً. لكن الخلافات كانت موضوعية، ويتخللها حوارات حولها، مباشرةً أو بالتليفونات؛ وكانت في معظمها ترجع إلى تباين الطباع، فأنا أكثر تحفظاً، برغم ادعائي غير ذلك في ما أكتب، وهو مقبل على الحياة بلا أي حاجز (أو رادع، ربما)، كثير الحركة، وكان ذلك يمثل بعضاً من تلك الخلافات، فقد كنت أرى أنه يخسر وقته في فضاءات الإسكندرية، بلا طائل - من وجهة نظري - وأن الأفضل أن يطيل الاختلاف إلى مكتبه ومكتبته، ليقرأ ويكتب أبحاثاً وشعراً، أو على الأقل، يسجل سيرته، التي هي سيرة نصف قرن من عمر الحياة الثقافية، شهد خلاله الوطن أحدَّ تحولات مرت به، وكان هو مشاركاً بها، وشاهداً عليها، أو متابعاً لها، على الأقل. ولا زلت حزيناً لأن صبري لم يترك سوى ديوانين صغيرين، وبضع مقالات متفرقة.
وأحياناً أشعر بأنه كان على حق، فأن (تعيش) الحياة أفضل من أن تكتبها، وكان صبري أبو علم حفيَّاً بالحياة، وكان مفتاحه إلى قلبها البساطة التي تقترب من مشاعر طفل، والصراحة الشديدة، التي كانت تثير الدهشة، وربما التقلقل، في بعض الأحيان. غير أنني لم أره أو أسمعه يكذب مرةً واحدة. رجل لم يكذب لنصف قرن، على الأقل !.
كان مسكن صبري في شارع الغرياني، بمحرم بك - قرب جراج ترام المدينة - في الطابق الأرضي من البناية، تصعد إليه بنحو عشر درجات سلمية؛ ويبدأ بممر على جانبه الأيمن المطبخ، ثم دورة المياه، ويتسع الممرُّ إلى صالة شبه مربعة، يفتح فيها بابا حجرتين، واحدة لصبري، والأخرى للسيدة والدته، التي لم أرها إلا جالسة في الصالة، وبجوارها طاولة صغيرة، عليها أدوات ولوازم الشاي.
كانت تعد لنا الشاي أكثر من مرة، حسب طول السمر الليلي، ولم نكن نشعر بأنها تتعب، أو لم نفكر في ذلك، كما أنها - من ناحيتها - كانت طيبة كريمة صافية النفس، غاية ما يرضيها أن تسعد بسعادة (طفلها) الوحيد وهو بين أصدقائه الذين يحبهم ويحبونه، ويفتح لهم بيته، صالوناً أدبياً ثقافياً، سرعان ما اجتذب إليه عشرات من الأدباء والفنانين التشكيليين وعموم المثقفين. وكانت عند انتهائها من إعداد الشاي تدقُّ بالملعقة دقتين أو ثلاثة على طرف الصينية المعدنية، فيقوم صبري ويخرج من حجرته الخاصة، محل الصالون، ليعود بالصينية، وأحياناً تكون مصحوبة ببعض المخبوزات البيتية.
ولا تزال (دقات الصينية) محفورة في ذاكرتي حتى الآن، لأن الشاي والمخبوزات البيتية كانا يأتيان في وقت يكون الجوع قد تمكن منا، وقد أمضينا وقتا طويلا في حوارات حارة، (على بطن خاوية)!
كان ذلك الصالون عجيب الشأن. فنحن أمام أسرة صغيرة جداً، دخلها محدود جداً، وفضاؤها الحيوي في المسكن لا يتحمل استضافة أعداد تصل أحياناً لأكثر من خمسة في الليلة الواحدة، تقدم لهم ضرورات الضيافة، مهما كان تواضعها، أكثر من مرة. ومع ذلك لم يتوقف أحد أمام أي من هذه التفاصيل، بل كان ذلك الصالون (الذي يبدو فقيراً) غاية في الغنى، وقد ارتاده، وتفاعل معه، وتأثر به عدد لا بأس به ممن طفوا على سطح الحياة الثقافية والإبداعية في مصر، ومن السياسيين، ومن الصعاليك، أيضاً، فقد كان صبري، على نحو ما، صعلوكاً نادراً.
كان جانب كبير من رواد صالون صبري أدباء ومثقفين من الناشئة، وبعضهم حظى بخطوة في طريق النشر، كالشاعر الراحل عبد الصبور منير. لكننا كلنا كانت لنا تطلعات آخذة في التبللر والتميز، وقد وجدنا في الصالون ضالتنا لنلجأ إليه من أجل التواصل الفكرى وتبادل القراءات والآراء حول بدايات كتاباتنا.
وتخونني الذاكرة إن حاولتُ أن (أحصر) أسماء المترددين، بانتظام أو على فترات؛ ولكني أتذكر أن صبري بأسلوبه السهل الممتنع، إجتذب عدداً من زملائنا طلاب المدرسة العباسية الثانوية، وكان بعضهم من جيرانه، فانضموا إلى الصالون. وكان صبري يتصرف كأنه طالب ثانوي مثلنا، وهو كذلك، إذ كان لا يزال يكرر محاولاته للنجاح في الثانوية العامة.
وكنت أتعجب، كيف لفتىً على هذه الدرجة من الألمعية وسعة الثقافة يعجز عن تحقيق ما يحققه طالب ضيق الأفق محدود الذكاء، فيحصل على شهادة تذهب به إلى الجامعة. والحقيقة هي أن جانباً كبيرا من سبب هذه الورطة، التي كان صبري لا يعتبرها ورطة، ولا يميل للإشارة إليها، هو عدم توفير الاهتمام الكافي لتحقيقها. بدليل أنه عندما أعطاها قدراً يسيراً منه، بدافعٍ أو بآخر، حصل على الثانوية العامة، والتحق بكلية الآداب ليدرس الأنثربولوجي، وهو لما يزل بعد مشتغلاً بالقوات البحرية، برتبة رقيب أو رقيب أول.
وذات صيف، واتتنا فكرة تكوين (جمعية فلسفية)!. أقل من عشرة شبان تحت العشرين يقررون تأسيس جمعية فلسفية، بلغ بهم طموحهم، ولا أقول أبداً حماقتهم، لأن يسموها: "البحث عن الحقيقة" !. كانت الجمعية تجتمع في كافيتيريا صيفية في (لسان السلسلة)، أمام موقع مكتبة الإسكندرية الآن، كانت الجامعة تقيم سلسلة منها على امتداد الشاطئ، ويعمل فيها طلابها صيفاً، وأنا شخصياً عملت جرسوناً فيها قبيل أن أنهي دراستي الجامعية.
كان من بين الباحثين عن الحقيقة في تلك الجمعية: صبري، ومحمد السيد عيد، ومصطفى حامد جاد الكريم، ومحمد زهدي، وأسماء أخرى تغيب عن ذاكرتي الشائخة الآن، وأنا. وكان الناس من حولنا يلعقون عبوات الآيس كريم، ولا يكفون عن شرب المثلجات، ونحن منهمكون في مناقشة تقديم الدكتور بدوي لترجمة كتاب لكامي. وكانت المناقشة لا تنتهي باستنفاد طاقتنا الحرارية، والإسراع إلى منازلنا للأكل والراحة، بل كنا نتواصل بتبادل الخطابات البريدية، تحمل أفكارنا، وإبداعاتنا، وآراءنا المتبادلة.
يا واد يا بطيئ .. !
زمان، غنت سعاد حسني لحسين فهمي (يا واد يا تقيل)
الآن، المطلوب هو (البطء) !
وهذه دعوة صارخة لتوخي البطء والبحث عنه، في إعلان لطبيب عن سلعته، يتضمن صورة لسلحفاة برية، ثم رسماً كروكياً للعضو الذكري، والخصيتين الملحقتين به، يجمع بين مكونات الإعلان طبيب في ميامي بالإسكندرية، مهمته الانتصار للبطء، ليكتسب الذكر البشري سرعة السلحفاة.
ولا نستبعد أن طبيب المبطئين يذيع في عيادته نسخة من سعاد حسني تقول يا واد يا بطيئ!
أنا أحترم الطب والأطباء، شريطة أن يحترم الأطباء الذوق العام، ولا تتحول ملصقات الدعاية لنشاطهم الإبطائي إلى ما يشبه إعلانات أنشطة المشعوذين، والمطاعم من طبقة أم حسن.
وأنا لست متزمتاً، فها أنا أسهم، بصورة أو بأخرى، في الترويج لمهارة هذا (الميكانيكي) الذي يعبث بصندوق تروس حركة مشاعر الرجال فيصبحوا مبطئين صالحين.
لكن الإعلان خادش للحياء. هابط كملصق يحتل فراغاً يمتلكه كل البشر.
وأنا أشك في أن تكون لنقابة أطباء الإسكندرية صلة بإعلانات أعضائها، اللهم إلا إذا كانت صلة (جباية)؛ أما إثارة انتقاد واستنكار الرأي العام، فلكل أن يمضي في اجتهاده، ولسنا نعرف كيف يمكن للدكتور أسامة غطاس، أن يعلن عن نشاطه وماذا يضع مكان السلحفاة إن هو تحول من سرعة القذف إلى علاج الارتخاء، وصولاً إلى قوة الانتصاب !
رايح فين يا حجيجه ؟!
فجأةً، إنتبهتُ، وسألتُ جاري: محطة إيه دي؟!
رد عليَّ بسؤال أزعجني أكثر: إنتا رايح فين يا حجيجه ؟!
قفزت، واتجهتُ إلى الباب مسرعاً، ونزلت.
كانت المحطة: (سيدي بشر).
ركبتُ قطار الضواحي (خط أبي قير) من محطة (السوق) القريبة من بيتي.
كان مقصدي محطة (سيدي جابر)؛ فاتجهتُ إلى الرصيف العكسي، وركبت القطار الذي كان واقفاً بالمحطة، كأنه كان ينتظرني، وأنا غافل تماماً عن أنني (ماشي بالعكس)!
وفي سيدي بشر، ركبت القطار في الاتجاه الصحيح إلى سيدي جابر، وأنا في حالة ذهول ورعب، فها أنا أعيش حالة بينة من عرض خلط الاتجاهات !
تذكرتُ أنني كنت أجيد تماماً تدريبات (الملاحة الليلية) في صحراء دهشور !
كويس .. (تذكرت) !
حلم لن يتحقق
ظللت لأكثر من ثلاثين سنة أمرُّ، في طريقي إلى مقر عملي، في معهد علوم البحار بالأنفوشي، بجوار قلعة قايتباي، بوِرَش صناعة السفن واليخوت واللنشات، في مدخل الطريق إلى المعهد والقلعة، وأهمها ورشة (الدجيشي)، حيث ظللت أتابع بناء يخت فيها لأكثر من سنتين، حتى رأيته مكتملاً
وظل حلم يراودني أمداً طويلاً، أن أغتني وأمتلك مثل هذا اليخت، وأعيش عليه، لا أكاد اغادره إلى اليابس.
كان حلماً حقيقياً، ولكني لم أعمل على تحقيقه، فلا مهارات لديَّ تعينني على ذلك ..
خطة حكومتي للأسبوع القادم ...
طبعاً بعد (بإذن الله)، حتى لا نغضب أحداً ..
خطتي الأسبوعية التي وضعتها لدولتي التي أحكمها، والمكونة من فردين غيري، و(إمارة) استقلت حديثاً، مكونة من ابن وزوجته، وحفيدين:
غداً: الثلاثاء: زيارة صباحية لأخصائي التأمين الصحي لصرف دواء. أحجز دوري عند حوالي العاشرة صباحاً، وأتسكع في النادي حتى موعد الأخصائي عند الثالثة، فأصرف الدواء.
قبل الحجز، أمر على سوق الأسماك، وأوصي أحد أصدقائي من بائعي الأسماك الغشاشين السفلة بأن يعد لنا وجبة غداء من الأسماك المتوفرة، وأعطيه الثمن وأجرة الإعداد؛ وأمر عليه بعد صرف الدواء، في حوالي الرابعة عصراً، فآخذ الطعام، وأعود للبيت، لأكون في استقبال الإمارة في لقاء الثلاثاء الأسبوعي.
ملاحظة: تواجد الأخصائي غير مضمون. إحتمال انشغال عمرو في عمل طارئ وتأجيل اللقاء الأسبوعي.
الأربعاء: استيقاظ عند الظهر. إفطار. تكاسل وفيس بوك، ولعب (بي-جيويلد)، ومراجعة النشرات الدورية في الإيميل، والكتابة لساعة أو ساعتين. البحث عن فيلم يستحق المشاهدة، والمفضل: عبد السلام - عبد المنعم - عبد الفتاح - إسماعيل ياسين. تكاسل ثانٍ. غداء. قيلولة. تكاسل وفيس بوك. سهرة عمل بعد عشاء خفيف. زاناكس. نوم.
ملاحظة: موجة اشمئناط بلا سبب تثير الفوضى في هذا التراتب المقيت.
يا ربي .. إنني، كحاكم لهذه الدولة، لا أستطيع - حتى - أن أكمل وضع خطة (مؤكدة، بعد بإذن الله) لأكثر من يومين ..
من يكتبُ الثقافة العلمية ؟!
من تجربتي المتواضعة في التعامل مع الثقافة العلمية، كاتباً ومُحرراً، أجد أن أهم مشكلة تحول دون انتشار هذا النوع الحيوي من الثقافة، هو أن من يكتبه ليسوا كُتَّاباً.
قد يكونون أكبر المتخصصين في مجالاتهم، ولكن (موهبة) الكتابة الثقافية، غير العلمية، تنقصهم.
وبرغم ذلك، يجري وراءهم الناشرون، لأنهم جهلة، لا معلومات علمية لديهم، ويخرون سُجَّدّاً تحت أقدام اللقب العلمي، ولا يدركون أنه بلا موهبة، وأن ما يكتبه لا يختلف كثيراً عن (الأوراق) التي يلملمها من هنا وهناك، لينشرها في مجلات علمية متخصصة، ومن أجل الترقية.
وبالطبع، فإن الأمر يختلف عند اقتران موهبة الكتابة بالتقعر العلمي (أحمد زكي - عبد المحسن صالح - أحمد شوقي - محمد المخزنجي، وغيرهم).
كان نهاد شريف، رحمه الله، رائداً لأدب الخيال العلمي العربي، وهو دارس للفلسفة.
ألف الشاعر محمود الأزهري كتابا علمياً مهما، عن (حيوانات المختبر)، وكان يقرأ عنها بتركيز لأول مرة وهو يستعد للكتابة؛ وأنتج كتاباً بديعا في سلسلة الثقافة العلمية، وهو الأزهري المتخصص في الشريعة، لكنه شاعر، يعرف (فنون الكلام واللغة).
ستستمر غربة الثقافة العلمية في بلادنا بسبب سوء الفهم.
الفائقون
أعتقد أن أهم ما تثيره حكاية الشاب الصغير الذي يقول بأنه اخترع أسلوباً ييسر استعمال الإنترنت بسرعة كبيرة، وعلى نطاق واسع، وبغير الاعتماد على مصدر قوى، هو أن (الفائقين) موجودون بيننا، في كل المجالات، ووجودهم لا يشبه تواجد المعادن النفيسة مدفونة في تلال من الحجارة والرمال، فهذه سيأتي يوم وتجد من ينقب عنها ويستخلصها، وإنما هو وجود محكوم عليه بالضياع في مستنقعات الإهمال واللامبالاة.
وتثير الحكاية أيضاً - بين ما تثيره من شجون - مسألة العقول المهاجرة التي تتجه غرباً حين لا تجد من لا يؤمن بقدراتها بين بني جلدتها. وحتى في هذه الحالة فإنها لا تجد من يتصل بها ويحاول استمالتها حتى لا تقطع صلتها نهائياً بالوطن المُهمِل المُهمَل.
إن أي منصف لا يملك، إزاء هذه الأحوال المؤسفة، إلا أن يتعاطف مع خيار مغادرة الوطن إلى حيث يتوفر الاحترام والرعاية و .. الاستثمار. وهو خيار لا بديل له إلا العدم.
ناصحٌ أمينٌ !
زمان، كانت الشكاوى مجهولة المصدر، التي يجبن صاحبُها عن ذِكرِ اسمه، يوقعها بـ (ناصــح أمين) ..
وهذه كلمات ناصح أمين، شديد الالتصاق بالشارع المصري، في مدينة كانت محترمة ونظيفة، وكوزمزبوليتانية، هي الإسكندرية .. الآن أصبحت نتنة، وسخة، شوارعيه!
أعرف الأحياء الشعبية المكدسة بالبؤساء معرفةً جيدة.
أقابل في الشوارع، وعلى النواصي، وفي المقاهي والأسواق ووسائل المواصلات العامة، صبياناً وبناتاَ وشباباً، هم نماذج متكررة لملايين موزعون في جميع أنحاء (المحروسة)!!
هؤلاء جميعاً هم (مشاريع) بلاطجة ولصوص. يدهنون رؤوسهم بزيوت على هيئات مستغربة، ولا تجد في جيب الواحد منهم جنيهاً كاملاً، على تدنيه وتفاهته. وهم يسرقون، لا من أجل الطعام، ولكن لشراء المخدرات.
سوف تمتلئ الشوارع بمرضى الهلوسة والفصام.
ليست الخسارة منحصرة في ضياع هؤلاء، وهم ثروة تعاملهم أسرهم ومدارسهم وحكومتهم كالكلاب والقطط الضالة، إذ يجب أن تضيف إلى الخسارة حجم ما كان بإمكان هذه القوة العاملة العظيمة أن تنتجه، لو .. (لو) .. أنها وجدت من يجيد إدارة الموارد البشرية.
إن كان الأمر لا يهم المسئولين (إجتماعياً)، فالمؤكد أنه يهمهم (أمنياً)، فهذه ملايين من القنابل الموقوتة، والزجاجات الحارقة، لها أعين ترى ما بأيدي الآخرين، ولها بطون جائعة، ولها أحلام مهدرة.
فانتبهوا قبل أن تشتعل فتائلُهم !
"ناصح أمين"
الثقافة العلمية ..
لن ينصلح حال ثقافتنا العربية إلا إن استوت مشيتُها، على ساقين، فهي لا زالت تقف على ساق واحدة، هي ثقافة الآداب والإنسانيات؛ والساق الثانية هي الثقافة العلمية. ولن تتحرك إلا بهما معاً.
وأعتقد أن السبب في ذلك هو أن معظم من يتواردون على إدارة الشأن الثقافي في بلادنا العربية عامةً لا يؤمن بالثقافة العلمية، وضاق أفقه عن أن يتسع لغير الثقافة السائدة. بل إنني أذهبُ إلى حد أن الكثيرين منهم (يكرهون) الثقافة العلمية، لنقص في قدراتهم الذهنية يحول دون استيعابهم للثقافات الجادة، ناهيك عن أن تكون علمية.
وكنت مشاركا في الإعداد لمؤتمر نظمه الإقليم الثقافي لغرب ووسط الدلتا، في أوائل التسعينيات، وعند تقديم اقتراحات بأسماء من يستحقون التكريم من أبناء الإقليم، إقترحتُ اسم الكاتب العلمي الكبير الأستاذ الدكتور عبد المحسن صالح، رحمه الله، ففوجئتُ برئيسة الإقليم تصيح في استنكار بيِّن: (بس، دا بتاع علوم يا رجب!!(.
وخلتني سمعتها تقول:) بس، دا بتاع عيال!!!).
فضاءات جديدة
كانت الغالبية العظمى من مبدعينا، حتى الآن، مخلصة تماماً لميراث ثقيل الوطأة من أصناف إبداع لمبدعين - أباء وأجداد - لم تكن ثقافتهم الداعمة لإبداعهم لتزيد عن (ثقافة كان ياما كان)، مع إخلاص شديد، محمودٍ، لموروثنا.
إن استمرت الأجيال الجديدة على هذه الدرجة من (الإخلاص)، فسيكونون نتاج ماكينة تصوير أوراق.
لا نجاة إلا بالانطلاق إلى فضاءات جديدة، بهواء أنقى وأصح، وعيون ترى ما لم ير الآباء والأجدادُ، وثقافة (مرحباً أيها القادم .. نحن نفهمك) !
ماذا لو كنت من (المعازيم) .. ؟!
)لو)، حرف امتناع لامتناع .. لو كنت بين حبايبنا الحلوين المعازيم الاعتياديين في لقاء الرئيس السيسي بالمثقفين اليوم، لطلبت الكلمة، وقلتُ:
إن انقسامنا يا سيادة الرئيس بين حاجرين على حرية الإبداع والفكر، ودعاة مناصرين لهذه الحرية، هو انقسامٌ وهمي .. دونكيشوتي، بلغة المثقفين الذين يحبون تطعيم حديثهم بألفاظ تزعج كثيراً من المستمعين لهم.
إننا جميعا يا سيدي الرئيس أسرى تراث ثقافي، ونتعارك داخل نفس الخندق؛ ويخلق أو يختلق كلُّ طرفٍ دوراً يكلِّفُ به نفسه.
ولا مخرج لنا يا سيدي الرئيس إلاَّ بتحديث ثقافتنا. فثقافتنا يا سيدي الرئيس (عرجاء)، تسير على ساقٍ واحدة، أو (تظلع) بلغة المتقعرين، في مسار لم يتغير منذ آلاف السنين، وكلنا نمضي سادرين في إخلاصنا لهذا المسار.
راجعوا، يا سادة، ما تدور من أجله مطابعنا، تجدوه لا يخرج عن مسار العرجى، بينما ثمة مسارات أخرى من حولنا لثقافة جديدة، أنتجها أناس يعيشون معنا على سطح اليابس، لا يعرفون هذه الصراعات الضوضائية العبثية بين أناس يغترفون من الوعاء ذاته.
إسأل أياً ممن استضفتهم، يا سيادة الرئيس، عن ثقافته المناخية، أو التكنولوجية، أو قدرات الجرافين وآثاره المستقبلية القادمة، وعن أحوال أولئك الآدميين الذين يقيمون في الفضاء منذ سنة، وعن التصحر الذي يأكل الأخضر، وعن حلول غير تقليدية لمشاكل نقص المياه في العالم كله .. لن يعرفوا، لأنهم يعيشون طول الوقت في ذات المسار الذي يشاركهم فيه من يتهيأ لهم أنهم أضداد، وهم رفقاء مسيرة.
سيادة الرئيس، أعتقد أنك ستصاب بنوع من التلبك اليوم، فقد تعرضتَ لوجبة غير مأمونة من طعام معلَّب.
الأســــتاذ متَّــــــى ...
بعد أن أنهيت المرحلة الابتدائية في مدرسة (الجمعية السنية لتحفيظ القرآن الكريم)، التحقتُ بمدرسة النيــل الإعدادية، وهي من مدارس (الجمعية الخيرية الأورثوذكسية)، والمدرستان متجاورتان، في (غيط العنب)، بالإسكندرية، قريبتان من ترعة المحمودية، قبل قليل من اتصالها بالمينــاء.
كانت السفن الضخمة تأتي من الاتحاد السوفيتي محملة بمعدات السد العالي، فتفرغها في الميناء، فيعاد تحميلها على أساطيل نهرية، تسير في ترعة المحمودية، لتنتهي في النيل، ثم تمضي بها جنوباً إلى أسوان.
كان (الأستاذ مـتَّـــى)، ناظر مدرستنا، ينتهز فرصة مرور هذه المعدات في الترعة، ويفتح لنا بوابة المدرسة، لنمضي في صفوف منتظمة، مع بعض المدرسين، لنقف على (شط) الترعة، نتابع مرور التوربينات الهائلة، التي يحمل الواحد منها (صندلان)، يجرهما أكثر من قاطرة.
لا زلت أتذكر التماع معدن التوربينات تحت آشعة الشمس، والصنادل تتهادى بها، ونحن، مع غيرنا من أهالي المنطقة، نصفق ونهتف، والزغاريد تنطلق، في فرحة حقيقية.
هل كان الأستاذ متَّـى ينفذ أوامر ألزمته بما فعل؟ لا أعتقد، لأن تلاميذ المدارس الأخرى لم يكونوا يحظون بما كان يوفره لنا.
هذا هو (الأستاذ متَّـــى)، ناظر مدرسة النيل الإعدادية، التابعة للجمعية الخيرية الأورثوذكسية !
أنقل لكم من ترام الرمل ...!!
سمعتُ في الترام، منذ أيامٍ قليلة، طرفاً من حوارٍ بين رجلين متقدمين في السن، كالتالي:
- كان ثورجي .. السادات رماه ف السجن
- تدخل بيته تلاقي الكتب مرميه في كل حته ..
- كانوا بيقولوا عليه شيوعي ..
ثورجي، وكتب = شيوعي !
كانت صفة شيوعي موازية لشاذٍ جنسياً، وتكفي لأن يتوجس الناسُ ممن يوصف بها، بغير حاجةٍ لتفكير أو مراجعة.
في زمن تجنيدي، كان (ملجأي) هو الوحيدُ الذي تجد فيه كتباً ومجلات وأوراقاً وأكثر من قلم، في أي وقت. دخله قائد السرية ذات يومٍ، وأخذ يقلِّبُ في كتبي وأوراقي، متصنعاً المودة؛ وعندما طُلِبَ منه تقريرٌ عني، لألتحق بكلية ضباط الاحتياط، بعد سنة قضيتُها كجندي، علمتُ أنه قال إنني شيوعي؛ فاستُبعِدتُ.
لا يمكن أن تكون ضابطاً شيوعياً، ولكن جندي شيوعي (تمشي)!
على فكرة، لا تزال صفة شيوعي تستخدم على هذا النحو، في بعض الأحيان، بالرغم من انحسار المد الشيوعي المنظم، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي.
لص الأتيلييه
من أغرب ما صادفني في الحياة الثقافية في الإسكندرية، سرقةُ لوحات بعض الفنانين التشكيليين من مراسمهم في أتيلييه الإسكندرية.
كان اللص بمثابة المدير الحقيقي للأتيلييه، وهو عامل شاب، ورث وظيفته عن أبيه، وكان رجلاً طيباً، على صلة طيبة جداً بكل أعضاء الأتيلييه، وكانت جديته في عمله تصل أحياناً إلى درجة من الحدة.
ورث الإبن أيضاً عن أبيه مفاتيح مراسم الفنانين التشكيليين، لتسهل له مهمة متفق عليها مع هؤلاء الفنانين، وهي عرض اللوحات المختزنة في هذه المراسم، إن جاء (زبون) ليشتري منها. والحقيقة التي يسكت عنها وعليها الجميع هي أن معظم مراسم الأتيلييه ليست إلا مخازن، بمعنى الكلمة، مكدسة بأعمال الفنانين، كما تتكدس مخازن تجار البقالة بصناديق المعلبات وأجولة الحبوب!.
وهؤلاء الفنانون يمتلكون مراسم أخرى يمارسون فيها أعمالهم الفنية، لكنهم يحتفظون بمراسمهم في الأتيلييه كمخازن، لا أكثر، تتميز بأنها بلا مقابل، تقريباً، وفي فيللا بمنطقة حيوية وسط البلد، في سكة الزبائن!
ويبدو أن اللص قد استشعر أن هؤلاء الفنانين، وهو يعرف قدر سعتهم، ليسوا بحاجة إلى مزيد من الأموال، وربما