تنشر (الكلمة) قصيدتين من ديوانه المخطوط «سفر الشهداء»، حيث يكتب الشاعر المصري المرموق عن أهمية تجذير مفهوم الثورة، رغم مآلاتها المجهضة، وسريان سموم الثورة المضادة في قلب الميدان منذ البداية. قصيدتان تتسمان بثراء قاموسه الشعري الفريد، وأسلوبه التهكمي اللاذع، وقدرة الشعر على الغوص في أعماق اللحظة وسبر أغوارها.

قصيدتان من «سفر الشهداء»

حسن طلب

 

1. مشوارها بدأ
الثورةُ .. الثورةُ...
؟؟؟ ؟؟؟ ؟؟؟
هل مِن خبَرٍ عند ذوِى علْمٍ لِهذا المُبتدأْ؟
بضعةُ أعوامٍ
وما مِن أحدٍ بذلك السؤالِ قد عبَأْ!
بضعةُ أعوامٍ .. وذلك السؤالُ حائرٌ
يبحثُ عن إجابةٍ شافيةٍ .. وما فَتِئْ!
****
قالوا: لقد أوشكَت الثورةُ أن تنجحَ..
شِئنا .. غيرَ أن اللهَ لم يشأْ!
ونحن لا نعلَمُ:
هل أُصيبت الثورةُ بالطاعونِ؟
أم باليرَقانِ ذلك الميدانُ قد وَبِئْ!
لكنْ صَحَوْنا .. فإذا الميدانُ كالصحراءِ..
والثوَّارُ قد طاحتْ بهمْ دوَّامةُ الأنواءِ..
والثورةُ ظلتْ وحدَها كالناقةِ الدَّبْراءِ..
ترْعَى ما تبقَّى من كَلأ!
والآن لاقتْ حَتفَها
وهذه جثتُها فى باحةِ الميدانِ..
حامتْ فوقها الغِربانُ والحِدَأْ
****
قلتُ لهم كلَّا .. فإن الداءَ فينا نحنُ
ما أتعَسَنا!
لو يعرفُ الواحدُ مِنكمْ: أىَّ جُرحٍ ناغِرٍ نكَأْ!
بضعةُ أعوامٍ .. ونحنُ بعدُ لا نُدركُ:
مَغزَى ما طرأْ!
ما كانَ للثورةِ أن تنجحَ حقٌّا
ثُم تستمرَّ في طريقِها
ما دامَ فينا المُرجفُونَ والمُنافقونَ..
والذين لم يصدِّقوا بعْدُ النبأْ!
ما دامَ في الميدانِ مَن كانَ:
على الطَّاعةِ والإذْعانِ قد نشَأْ
ما دامَ فِينا: مَن يُقدِّسُ الطُّغاةَ..
مَن يَرَى البُغاةَ أربابًا
وينحني لهم على المَلأْ!
****
لا تنجحُ الثورةُ بالعاطلِ والباطلِ..
لا تنجحُ إلا إنْ بَدأناها من الداخلِ..
كي نُطهِّرَ النفوسَ من أدرانِها
نحرِّرَ العقولَ من أوثانِها
لا نَحجُبَ الشمسَ..
لكى نُخبِّئَ النورَ عن العيونِ .. ثم نختبِئْ!
****
يا أيها السادةُ: لا تتَّهِموا الثورةَ زُورًا
لا تقولوا: إنها ماتتْ
وإن نارَها خبَتْ.. ونُورَها انطفأْ
فهي- وإنْ لم تعرفوها كلُّكمْ - تعرفُكُم
تعرفُ كلَّ مَن بها هَزَأْ
تعرفُ مَن أحبَّها .. والأبتَرَ الذى شنَأْ!
تعرفُ مَن مزَّقَ عنها ثوبَها عمْدًا .. فعرَّاها
ومَن رَفأْ
تعرفُ مَن خانَ .. ومن هانَ..
ومن ظلَّ على إيمانِهِ في صفَّها
ملوِّحًا بسيفِها
يا أيها السادةُ: لا..
لم تَمتِ الثورةُ حتْفَ أنفِها
لا والذى قد خلقَ الإنسانَ مِن حمَأْ!
****
لم يَخمُدِ البركانُ.. حتى إن بدا كأنهُ هدَأْ
ففي غدٍ: إنْ هي إلا أنْ تزولَ قِشرةُ الصدَأْ
حتى ترَوْها حيةً قد أشرقتْ
تُصلحُ مِن طريقِها ما غارَ .. أو نتَأْ
نعمْ.. غدا ترَوْنَها
قد كتبَ الشهيدُ بالدمِ على جبينِها:
يخسرُ كلُّ مَن على حريةِ الشعبِ اجترَأْ
يومئذٍ .. ليس على كلِّ مُريبٍ مُستبدٍّ
غيرَ أن يحفظَ ما قرأْ!
غدًا إذا المصري مِن سباتِهِ أفاقَ..
مِن عِلَّتِهِ برِئْ
ليصبحَ الميدانُ عن آخِرِهِ قد امتلأْ
فامتلأتْ كلُّ الميادينِ معًا
وأصبحتْ واحةَ أمْنٍ دائمٍ لكلِّ مَن لجأْ
يومئذٍ يؤمنُ بالثورةِ كلُّ مَن صبَأْ!
****
غدًا إذا عاد لنا الهدهدُ بالأنباءِ مِن سبَأْ
سيعرفُ الكافةُ:
أنَّ الثورةَ الغراءَ: بعدُ ما انتهتْ
وإنما: مِشوارُها بدأْ
... ... ...
مشوارُنا بدأْ

 


2. عقرب الميدان
[ليس الخروجُ على وُلاةِ أُمورِنا بمُسَوَّغِ]!
تلك الرسالةُ مِن قديمٍ
أُبلِغَتْ كلُّ الشعوبِ بنَصِّها
فاليومَ هل مِن مُبلِغِ!

جاء الجوابُ بدونِ مَهْلٍ..
جاء في ظلَمُوتِ ليلٍ.. فجرُهُ لم يَبزُغِ!
حمَلَ الدَّهاقِينُ الدُّهاةُ الآنَ: مضمونَ الرسالةِ..
ذاهبِينَ ورائحِينَ..
فأفْرِغِي يا عقْربَ الميدانِ سُمَّكِ.. أفرغِي
هذا شَبَاكِ ينُمُّ عنكِ.. زُبانَيَاكِ تبشِّرانِ..
كما تشائينَ امْرَغِي في ساحةِ الميدانِ.. أو فتمرَّغِي
ومِن الرَّفاغةِ.. فارفَغِي

هذا طعامُكِ.. فامضَغِي
هذا قِناعُكِ.. لَوِّنيهِ واصبُغِي!
هذا لِباسُكِ فارْتدِيهِ..
أَطْوِليهِ ما استطعْتِ.. وأسْبِغِي!
وتلصَّصِي
حتى تَحُولِي بينَ طوفانِ الشبابِ المارقينَ..
وما ابتغاهُ .. ويبْتَغِي
وتربَّصِي
حتى إذا ما أزبَدَ الميدانُ أو أرْغَى.. ارتَغِي

ولغَتْ مع الليلِ الأفاعي في دماءِ الأشقياءِ هنا
كما ولَغَتْ لَغِي!
وتفوَّقِي في فنِّ ترويعِ الضحيَّةِ .. وانبُغِي
ولتلْدَغِى كلَّ الذين بساحةِ الميدانِ..
قد ثاروا على الطُّغيانِ والبغْي .. الدَغِي
حتى يضيعَ الفرقُ بينَ الحقِّ والبُهتانِ في الميدانِ..
بين الثائرينَ وقاتِلِيهمْ
بين ما هو كائنٌ .. أو يَنبغِي!

وتردَّدِي بينَ الأدانِي والأقاصِي
بالنَّواصِي فاسفَعِي.. وخُذِي بتلكَ الأرسُغِ
لا تترُكِي الميدانَ بالسكَّانِ..
إلا وهو كالأرضِ اليَبابِ البُور ِ.. أو كالمَرْدَغِ!

ولتضْرِبِي كالريحِ إبَّانَ الهبوبِ..
أو اهرُبِي إن لم يكنْ بدٌّ هناك مِن الهروبِ!
وجرِّبِي كلَّ الأساليبِ..
العَبِي بمشاعرِ المُتعاطفينَ مع الضَّحايا في الحروبِ..
ودغْدِغِي

بالأمسِ قد نزَغَتْ شياطينُ الدُّعاةِ الدُّونِ..
باسمِ الدِّينِ..
بينَ الثائرينَ فشتَّتتْهمْ أجمعِين .. فمثلَهمْ أنتِ انزَغِي
وتذرَّعِى بالصبْرِ .. بل بالمكْرِ
ضدَّ عُصاةِ هذا العصْرِ.. ثم تفرَّغِي
فالنصرُ للمُتفرِّغِ

فإذا انتصرْتِ- وسوف تنتصرينَ لا بدَّ-
اصْعَدِي أعلَى المنابرِ في البلادِ.. وأعْلِني:
إنَّ الصِّياحَ لِطائرِ الحريَّةِ الصدَّاحِ .. لا هو بالمُباحِ ..
ولا الخروجُ على طُغاةِ بلادِنا بالسَّيِّغِ!