يسعى الناقد المصري في تحليله لتلك الرواية إلى الكشف عن الدور الذي تلعبه شاعرية اللغة في توليد الدلالات وفي انسياب السرد وهو يكشف عن مستويات المعنى المتراكبة في تلك الرواية المشتبكة بإشكاليات الواقع العربي في زمن التردي والاحتراب الداخلي.

شاعرية اللغة وانسياب السرد

في «عقيدة رقص» لميس العثمان

محمد عطية محمود

 

«كمثل إشراقة كان لقاؤنا، شيء يشبه الصعقة، الالتماعة .. الشرارة! هل يسميها الصوفيون "الشدهة؟»

 

ثمة تعانق بين شاعرية اللغة الفضفاضة المحملة بشحنات معنوية غاية في الرهافة والعمق، وبين انسيابية السرد وتدفقاته اللاهثة في متن رواية/ مرثية "ميس خالد العثمان"، الموسومة بـ "عقيدة رقص"1، وبين ما تطرحه إشكالية العنوان/ المدخل الرئيس للرواية، كوحدة سردية أولية/ افتتاحية تشارك في السرد بضخ العمل الإبداعي ببراءة إبداعه، أو العمل كمفتاح هام من مفاتيح فك شفرة النص ـ إن جاز لنا التعبيرـ ومدى التصاق المعنى بالمتن، ومن ثم بين العلاقات المتواترة والمتوترة في ذات الآن في متن العمل الذي يمتح من حالة الصراع الدائم مع الذات والزمان والمكان، من خلال إشكاليات قبول/ رفض العلاقة مع المكان أو قطعها على حد السواء، وهو الوحدة السردية الرئيسة التي تقسمها الكاتبة أو توزعها على فصول هذه العلاقات التي تتراوح بين المكان وتنوعه وإشكاليات التنقل فيه، والنوستالجيا القائمة على علاقة الحنين للماضي/ الزمان، المرتبط بالمكان/ الوطن الطارد بمعنييه: المحدد والمطلق، والمكان الجديد كملجأ/ مهرب، للساردة وما يحيط بها من شخوص، ومن ثم تحوله في مفارقة النص الروائي/ الواقع إلى سجن آخر لا يستطيع الكل الفكاك منه، فضلا عن اشتعال الذات بكل تلك العلائق/ الإحداثيات التي تربط الشخوص في هذا الحيز السردي المتشابك/ العاج بالشجن، ومعانقة حس المرثية الإنسانية لكل من عاملي المكان والزمان، لتعميق هوية الغربة والاغتراب معا، والحس بوطأة الآخر الذي تتنوع أدواره وأنماطه بتبادلية العلاقة الملتبسة، التي يطرحها النص الروائي.

ما قبل النص
تشكل الوحدة الأولى/ المدخل، وهي العنوان كعتبة، تتبعه عتبات/ ارتقاءات ثلاثة، نسيجا أوليا تربطه الكاتبة بداية من العنوان كدال من خلال تركيبته اللغوية المفارقة الباعثة على الدهشة والتوقف ربما إلى حد الصدمة، حيث تشكل العلاقة بين مفردتي العنوان هذا التلاحم بين ما هو حسي في مفردة "عقيدة"، وما هو مادي في مفردة "رقص"، وهو مما يحوِّل ـ بعملية الاقتران ـ ما هو غريزي إلى ماهية المقدس في معنى العقيدة، والذي تستلهمه الكاتبة من نزعة الاحتياج والقصور والنزوع إلى الارتقاء/ الاستيعاض في استعانتها بمقولة "كازانتزاكي"، المقتربة من المعنى الصوفي/ المتوحد/ الوجل، كعتبة تالية للنص: "لديّ أشياء كثيرة أقولها لك، لكن لساني قاصر عن ذلك. إذن سأرقصها لكِ". تبريرا واستنادا، وربما لجوءًا يحمل وجوده في متن النص، وتعمقه الكاتبة بارتقائها بالمعنى والمبنى معا، ربما التماسا لمعنى التطهر بالرقص المتواري في العقيدة أو المتمثل بها، ليصل إلى حد ذروته في تحليل معنى الرقص صوفيا/ روحانيا، من خلال مقولة "أوشو": "ما لم يخلق المرء الموسيقى في كيانه، ما لم يبدأ العيش كرقصة، فلن يتمكن من معرفة الله؛ لأن الله هو الذروة في الرقصة والأغنية والاحتفال".

ذلك المتسع الدلالي لمعنى الرقص الملتحم مع ذرات الوجود بالعالم، كمهرب/ مطهر، تلج به الكاتبة إلى معنى الوطن وتلك العلاقة الملتبسة الشائكة معه من خلال التضمينة الشعرية/ النوستالجية لبغداد/ الوطن المفتقد/ الطارد، وهو ما يفتح باب السرد على مصراعيه من خلال المكان والزمان معا ملتحفا بتلك التوليفة التي أشرنا إليها، لتحتشد من خلال الإهداء كعتبة تسلم هذه الوحدة، وتسلم القاريء معا إلى حيث المتن، عبر حس نوستالجي آخر يتضمنه الإهداء بالإشارة الرمزية الموحية إلى شخصية ما، مجهولة/ غير موجودة بالنص صراحة، ربما كانت رمزا لمعنى الوطن أو دال عليه. "لـ "غمَّازة:، آسرة/ باهرة.. أحتشد بها!!

اغتراب الوطن.. غربة الملجأ
من خلال مقاطع تحمل عناوينها في أغلبها حسا شعريا وشاعريا متوغلا بداية من المقطع الأول "تستدير إلى الأبد".. ينطلق السرد من منطقة شعورية مرتبطة بالمكان الذي يحمل الاستهلال سماته وعبقه النافذ التي تنطلق من الشعور وذاك الحس المتعلق بالماضي/ المكان، ومفرداته الدالة عليه ماديا ومعنويا: "قمرنا كان هلالا.. تتدلى منه نجمة متأرجحة، تتوارى بطفولة وراءه.. بقيت أبحلق به، لأنني كنت أن أظن أن القمر غادر سمانا.." ص17 ذلك الاستهلال الذي يفتح فضاء المكان الحسي إلى فضاء آخر، من خلال الحكايات التي ترافقه، وحديث العجوز الممثلة للتاريخ/ وجهه العاري الذي يمزق النفس معنويا من خلال الساردة / الأنثى: "في آخر ليلة لي في بلد "اللا قمر"، قالت تلك العجوز التي زارتنا كالمصادفة الثقيلة، وتفننت في تمزيق ساعاتنا الأخيرة، مع أسرتي كنا نفترش حبنا ونلوك كل الحكايات التي ترسبت في ذاكرة أعطبتها الحروب/ الألم/ الخوف/ السجن والهرب المتواصل.. بينما (عجوزنا) تهرس الوقت المتقطع من أوردتنا وهي تلهو ببطء بحبات مسبحتها النبوية.." ص 17/18

اعتمادا على صيغة سردية دالة من خلال شاعريتها على المكان/ الوطن، والبشر، والزمان في آن واحد تكشف حالة الهرب التي تعيشها الساردة من خلال عباراتها المبثوثة في متن مقاطعها الملتهبة، وهي تخرج من العام والمؤطر للحالة السائدة على أرض وطن، مفارقة له؛ فهو بحسب تعبيرها: "هرب أولي من وطني لا أعرف أين"، والذي تختزله كما تختزل تاريخها في هذا الوطن في: "حقيبة صغيرة أحملها، بتفاصيل قد لا أحتاجها، أغلاها سجادة "جدتي بهيجة الملونة". تلك السجادة /الأيقونة التي تلعب بألوانها وتحولاتها دورا هاما وبارزا ومحوريا في تحولات الساردة، في متن العمل الروائي، بحيث تتجمع حولها الدوال على الوطن بكل معانيه الحسية والمادية من خلال تلك المفردات الدالة عليه، بداية من مسبحة العجوز/ (عجوزنا) التي ربما رمزت بها للوطن الذي شاخ، وسجادة الجدة التي ربما رمزت لتاريخه وعبقه وأصالته برغم ذلك.. ومن خلال تصريح الساردة في حوارها مع السائق/ وسيلة الهرب الأولية التي نقلتها من أرض اغتراب/ وطن، سجن معنوي قبل أن يكون سجنا ماديا، إلى نقطة أخرى فاصلة/ برزخ جديد، نحو أرض غربة، تتحول في ضمير السرد والساردة فيما بعد إلى أرض اغتراب، وسجن معنوي آخر قبل أن يتحول إلى حصار/ سجن مادي مطبق. "وأكرم لا يكف يسألني: بعد الحرب تتركين العراق؟ أي مولو كان قبلها أحسن؟" (ص21) "بما أرد على تساؤلات أكرم التي لا تنتهي؟ أصارحه بأن هذا الوطن اللعين لم يمنحني سببا واحدا لأحبه بجنون؟! لا تصدقني .. ربما كل ما حدث ويحدث لي لأنني أحبه بطريقتي الخاصة جدا، تلك التي لم يفهمها حتى أقرب الناس لروحي!" (ص22)

ربما أتت الساردة بهذا البوح من خلال السؤال المُر، كتلويحة تفتح بابا لرياح الذكريات المؤلمة على أرض هذا الوطن المادي بغرائبية علاقاته التي ربما جسدتها واختزلتها من خلال تداعيات رحلتها الصعبة/ مرحلتها الانتقالية إلى أرض مهجر، مهرب/ وطن جديد من واقعها المؤلم المحمل بشرعية هروبها/ انتقالها، في قولها: "كنت أتصور أن وطني يضيق .. وأن المعتقلات السرية الـ تحتضنها الأرض برحابة وبطبقات عدة في أغلبها صارت تتوسع ذاتيا وتتمدد مساحاتها كلما ازداد عدد نزلائها مع أحكام كماشة السلطة هناك، الوقت طويل دائما، رغم جدولنا المزدحم بالأذى" (ص38)

هنا يبرز نموذج من تعاطي الساردة/ الكاتبة مع نمط السرد الذي يتناوب بين ضميرين حميمين للتعبير عن آلية الكتابة بالنص، فهي تواجه ذاتها من الداخل بضمير المخاطب، بذلك الرنين الذي يتردد بداخلها ليفجِّر فضاء السرد؛ كي تواصل حكيها بضمير المتكلم الذي ربما التحم بالخارج في سياق تشابكه مع الوقائع والتفاصيل المختلطة بين المادي والمعنوي؛ ليصل الإيجاز والتكثيف إلى حالة مجسدة لهذا الواقع الذي يلج به السرد إلى تفاصيل جديدة لاغتراب في وطن آخر بديل يفرض سماته النفسية قبل المكانية من خلال مجموعة من العلاقات الإنسانية المشوهة برغم حميمية وجودها الظاهر، وهو مما يعكس البرودة التي تكتنف الأجواء لتجسد معاناة الاغتراب للساردة ومن حولها من الشخوص، والتي تقدمها بفاصل حي مما يعتلج بالنفس ويرتبط بالمكان العام ربما روحانيا ووجدانيا في بوحها. (هذه الكويت تقاسمك ضياعك برفق غريب، بحرها يشبه صرختك) (ص45).

ربما تمهيدا للولوج في هذه الحالة من عدم الاتزان التي تصاحب الساردة وهي في طريقها لمحاولة إماطة اللثام عن تفاصيل هذا الإحساس بالضياع، الذي تجسده الساردة بقولها: "كل شيء كان كثيفا/ ممتلئا، الهواء متخم بالروائح المتداخلة، قلوب مفعمة بأحاسيس متباينة، متوثبة لكل جديد آت. صوت انتشلني من قلقي: ـ ما دمنا سوية راح تكونين بأمان. سألتها أطمئن: ـ راح أسكن وياج؟" (ص49)

تنعكس هنا حالة التوتر/ القلق التي تنتاب الساردة/ فضاء السرد، على نحو ولوجها هذا العالم الجديد، الذي يفرض أسئلة وجودها من خلاله، بعد (رحلة هرب)، ثم استقرار مرجو في ظل عدم شرعية وجود .. تلك العلاقة الملتبسة التي يشعل النص وجودها من خلال عدة علاقات مع النماذج الأخرى الواقعة تحت سطوة الاغتراب، تعاني من زوايا مختلفة، وإن كانت تصب وتنصهر في بوتقته، كما في نموذج علاقة الساردة بشخصية "شوق": "اعتذرت لـ "شوق" عن نفاد صبري بكلمتين ربما كانتا أكثر قسوة مما دحرجته في حضنها من ضيق، لكن خفقة الحنين في حضنها الذي لملم ارتباكي، جعلنا نتقاسم بحب حقيقي قلقنا المحفور على جباهنا مثل نقش سومري".. (ص52)

حيث يأتي الاستدعاء للجذور المطبوعة بالنفس مقترنا بكل حس نزق يطفو على سطح العلاقات؛ فالتماس حضن الوطن والطمأنينة المرتجاة أو استعاضة كل ذلك تأتي هنا من خلال التوحد في المشاعر والمأساة التي قد تجمع الساردة بالشخصيات المرتبطة بها، حيث يأتي احتواء صدر الصديقة هنا، ربما، نوعا من الاستعاضة عن حضن الوطن المرجو، برغم ما يبثه من أساه، ويستدعي بالطبع ملامحَ من ملامح الوطن، مما يعمق الشعور بالاغتراب مع ذلك التوحد، وتلك التي تحيل إلى سمة من سمات المقارنة والحس النوستالجي الاستدعائي: "كانت الصباحات رائقة، ازدحام خفيف بدأت أعتاده يشبه "السالمية" بعماراتها المتلاصقة، كأزرق البحر يحوطها بجمال أخافه، وكنت أتذكر "الصوبين" في بغداد وضفتي "دجلة" وشكل الشوارع أول ساعات الصباح" (ص52)

هنا يتماهى الحس بالمكان بين أرضي الغربة والاغتراب اللتين تتشتت بينهما الساردة، وربما على نحو من قيمة الاستيعاض، الذي يتمدد في ثنايا النص/ السرد/ البوح، ليسيطر على ذات الساردة، وما تطرحه من شجون يلتف ليتعانق مع كل الرموز التي ترتع في مخيلتها بألوانها وعلائقها المرتبطة بها: "وحيدة كنتُ في الشقة الصغيرة بهدوئها.. أستلذ بالظلمة حينما لا تكون "شوق" هنا، أفتح قلبي على الشباك الكبير الـ يحتضن الشرفة والبحر، طبيعة جديدة أمارس صلاتي عبرها، الإنارة البعيدة والقمر يتركان لونين مختلفين/ مختلطين من الضياء على أرضية الشرفة والصالة، أهرع إلى سجادة "بيبي بهيجة" الملفوفة منذ أسابيع، متكئة على الجدار، أفكها، أتشمم رائحة "بغداد" فيها، أفردها بمنتصف الصالة والضياء، تلبسها لونا متخيلا، أدير قرص جنوني، وأخطو رقصا!.. هكذا، كلما استغلقت علىّ الحياة، أرقص" (ص58)

حيث تطفو كل الرموز وكل المشاعر بكل استدعاءاتها اللونية والشمّية التي تستعيد بها طقوس الحياة الماضية؛ لتشكل إحداثيات وجود الساردة على أرض غربتها/ وحدتها، حيث تقفز الجدة ـ مرة أخرى ـ بمعادلها الموضوعي/ السجادة، التي تستدعي بالضرورة وبرائحتها معادلا حسيا للوطن المتمثل في مفردة "بغداد" بكل اتساعها على فضاء التاريخ والحياة معا، لتدفع إلى حالة من حالات التوحد مع الدال والمضمون الذي يثيره، ليعطي "الرقصة" ـ مرة أخرى ـ مشروعيتها وجديتها كمتنفس/ انفتاح/ ارتحال تواجه به الساردة استغلاق الحياة عليها، لتحول "الوحدة" إلى "توحد".. ذلك التوحد الانتقالي/ المؤقت الذي يستغرق الساردة نحو توحد من نوع جديد مع ذات من الذوات التي تدور في فلك الغربة والاغتراب..

محاولات تلوين الذاكرة/ الواقع
(كنتِ تذوبين في سكرة بهاء افتقدتها طويلا). ص60 تلك الإفاضة الشاعرية الحسية التي تشعل علاقة الساردة بشخصية "ياسر"، بهذا الألق في نفسها المجبولة على الوحدة والضجر والتائقة للانفتاح على فضاء جديد ينعش وجودها القسري والمتاح في ذات الآن في هذا الحيز/ الفضاء، وهو ما يفسح فضاء السرد بهذا التمدد الذي يحيل العلاقة في بدايتها إلى ما من شأنه تلوين وجه الحياة بتحولات لون "سجادة الجدة"/ الأيقونة الروائية المتمركزة في صلب الرواية/ حياة الساردة: "عند المصعد، أنتظرك دوما، تقتلني الوحدة، يهلكني التفكير بالغربة، مشاهد الموت القاسية عابرة جدا وسخيفة جدا تفسد أيامي بإتقان مرير، يُفتح باب المصعد، تبزغ العينان العسليتان والـ "مرحبا" باتساع الابتسامة الـ "غير شِكل"... " ص63

تلك العلاقة التي تمتح من مخزون الرغبة في الهرب من هذا التوحد/ الغربة التى لامست حدود الاغتراب ومن ثم الوقوع في براثنه، لتخرج من حيز البوح المعتاد بضمير سرد المتكلم الذي تعتمده الكاتبة/ الساردة في جُل السرد، إلى حيز ضمير المخاطب الذي تخترق به الساردة وتنفرد بصوتها الخاص وحسها الملتهب الموجه إلى تلك الذات الأخرى الذكورية التي اخترقت شرنقتها لتدخل فيها بدلا من أن تخرجها معها إلى حيز الضوء؛ فالرقص المقترن هنا بالحالة هو رقص كما تقول الساردة، بحس الهاتف التي يهتف بها ناشدا إحداث الفتنة والفوران: "أرقصي.. فرقصك يدس الفتنة في قميصي وجوربي.. هيا ارقصي" مما يدفع العلاقة نحو اقتران من نوع جديد هو اقتران الساردة بتلك الشخصية/ "ياسر" التي تتحول نحوها بضمير المخاطب لتقول: "كُنا أنتَ وأنا، ندرب الشك بيننا، نتمرن على بعض عناق قد يظهر اليباس من حولنا، أتعرف بأنني بقيت أرقب النجمة التي حرست أول "مرحبا"؟ كُنتَ تحفر بأعماقي بعد أعوام من الشرود، تسحب من زمني الجميل/ دفاتري السرية العتيقة وكل ما ظننتني بارعة في مراراته لأقتات عليه ولتشاركني الدمع. ترى، لماذا كنت تُحشر "بيني وبيني" بهذه الثقة والسلام حتى ننتهي ناضجين بالكوارث؟ مثقلة بالحناء كنت، لكن من دون أمي هذه المرة، فكيف سأكون دون "محروزة" لتشاركني أيام الياسمين؟.." ص77/78

تدفع علامات الاستفهام في هذه التلويحة التأثيرية للساردة/ المخاطبة هذه المرة، بحس مراوغ يستبطن الذات ويدفعها خارج إطارها القديم نفسيا، ويزج بها في ذات الوقت نحو مخبوء من مخبوءات القدر الذي ربما استشعرت حواسها/ حدسها بخطره المحدق. ذلك الحدس الذي يتغلغل في النفس حال وجودها/ غرقها السديمي في معادلات حيرتها حتى في قمة إحساسها وولوجها مناطق الشعور التي كانت تفتقد السبيل إليها.. لكنه يجعل الساردة ترتد إلى ذكريات أمها بامتياز، الأم/ المعادل الآخر لمعنى الوطن الآني ( بخلاف الجدة كمعادل للتاريخ والأصالة المفتقدة في هذا المقام)، حيث تتداخل الشجون ويتداخل السرد كمعادل آخر للشجون، أو ربما كان السرد هو الشجون نفسه، ذلك الذي يرد الساردة دوما إلى منطقة شعورها بالافتقاد الحميم لمعنى الوطن وقيمته المتمثلة هنا في رمز/ أيقونة جديدة، هي أيقونة الأم "محروزة" تلك التي تستدعيها أيضا عبر صورة نصية توغل في الشاعرية والأسى والحس بالغياب، ومن ثم تعميق الشعور بالاغتراب، فأين هي من رحم أمها/ وطنها، الذي لا يشاركها الآن حسها بحبها الجارف أو علاقتها الناشئة الموغلة في ذاتها: "عينا أمي عبر الصور تكون دائما بنصف ابتسامة، تواري خجلها الموغل بالعمق، ثقة لا يخطئها "إنسان"، ظلت "محروزة" ناقصة الفرحة منذ فقدت "وسامها ووئامها" بغمضة زمن. أترانا استلبنا بقية رضاها حين حلّق "صباح" وغبت أنا؟" (ص79)

هنا يصبح الماضي/ الوطن شبحا يؤرق الساردة، يحيل لحظات انتشائها إلى لحظات من جلد الذات والتلذذ (غصبا) بالضغط على أوتارها، مما يقلل بهجة الوصل والتوحد الجديد، ذلك الذي يدفع الساردة إلى مواجهة ذاتها، وبذات الالتباس الذي يشعل حيرتها حتى يتحقق ما يمكن وسمه بـارتقاء المعنى والمبنى معا بهذا الحس الصوفي الذي ربما أطر العلاقة التي تغالب حيرتها؛ كنوع آخر من الاستعاضة عن قسوة الأمل وقسوة الغربة واستفحال الشعور المتوالد بالاغتراب. "كمثل إشراقة كان لقاؤنا، شيء يشبه الصعقة، الالتماعة. الشرارة! هل يسميها الصوفيون "الشدهة"؟ كنتُ أرى أن الرزانة التي طالت رسوماتك تشبه حزني النبيل، وصرت أصدق أنك أحببت "البورتريهات" التي خربشتها لتطفيء بذكائك "زعلا" نسائيا أربكك، حتى أنني من محبتك/ تعلقي .. صرت أتلذذ بتعبئة أنفي برائحة الأصباغ التي تحتل شقتك." (ص101)

ذلك التسلل/ التسلسل الذي يشعل أغوار العلاقة/ الاستعاضة، ويملك كل الحواس التي تتحول في ضمير الساردة إلى حالة من حالات الرقص، ربما لحفظ الاتزان أو لإزالة التوتر، أو الانفلات نحو عالم أثيري متخيل متوحد مع ذات أعلى لا تستطيع تحديد سطوة وهيمنة وجودها، ولكنها تدفعها حتما نحو العروج فوق أنات النفس وندوب الذاكرة، وربما وصولا إلى اللذة المادية التي ترتقي عبر اللذة الروحانية التي تقيم عنفوانها في الجسد ليعطي ملمحا إيروسيا متناميا في ثنايا السرد/ العلاقة، التي تبدو من خلال هذه الترنيمة الموجهة إلى "ياسر"، بعمقها وانفجارها: "حينما يستفزك حيث، اعتدت أن أسحب تعبك كله. ساخنة شفتاك كأطراف الرغيف حينما أقبلك"؛ فهي نفس الرغبة التي يحولها "ياسر"/ المخاطب دائما، إلى رقصة يتحول فيها مفهومها، ويتنامى أيضا لتعبر عن مدلول جنسي بحس إيروسي متغلغل، حيث تصير الرقصة نوعا من الممارسة الحسية للإيروسية: "زفرت بوضوح، دفعت حزني العميق، سألتك بنزق: "فيم سنقضي ليل الذكريات"؟.. أجبتني باستعدادك التام: ـ هاتِ يدك لأقسم لكِ رقصا بأنني أحبك، فالرقص يا نبضي لغة من أعلى مقامات الصمت وأدنى آيات السكون" (ص103)

تقاطعات الغياب
يتجلى عبر مساحات السرد وتغوراته المستمرة في الذات، ذلك التراوح المستمر بين ما هو كائن في الحالة التي تطرحها تفاصيل السرد/ الآنية، أو صانعة الأزمة الجديدة المتجددة، وبين الحالة التي يستدعيها الشعور بالوحشة والاغتراب، لتقفز التواريخ على الحدث الآني بقوة دفع الذكريات التي تعود لتقتحم حياة الساردة مرارا وتكرارا من خلال أنماط تلك الشخوص المطلة من الماضي/ الغيب، من وعي الساردة المجبولة عليه ذاتها، إلى لا وعيها المنشده دوما مع الغائب الجديد/ ياسر، الذي أشعل في قلبها البارد، النار وأغوار العلاقة المشتهاة، ثم غابـ،؛ فما بين الغياب والتغييب، يأتي الاستدعاء مرات ليعقد هذه العلاقات الشائكة مع كل ما هو غائب، باختلاف دواعي غيابه: "عروس من قش من تسقط ستائرها". على طرف السرير، أحمل الـ سبعة وثلاثين عاما، وبعد سنوات على رحيل جدتي صاحبة السجادة والحكم الأنيقة، أستحضرها خوفا وتعلقا.. أتُرانا أشهى حينما نتمنع؟! وأغيب هربا في تفاصيلها. تلك السيدة الجبارة، لماذا أوصت بدهن جسدها بزيت الزيتون عند موتها الذي استنزف أرواحنا تعبا/ انتظارا؟" ص109

بذلك الإيغال في تفاصيل الماضي تعلقا واستجلابا لتفاصيل الذكريات، ربما هربا أو التذاذا بذلك الحس الرثائي الذي يعمل على غمس الذات في عدمية علاقتها بالماضي بانقطاع أسباب وجوده، ومن ثم الولوج في حيز التماس ما لا يُرجى تحقيقه، وربما كان ذلك من مفردات/ حيثيات التعامل مع الحالة الآنية بكل قسوتها ووطأتها على النفس التي تعيش همي الاغتراب والالتياع معا؛ تشوقا لتلك العلاقة/ القشة التي تعلقت بها في وجه الرياح التي تجمعت عليها من كل تلك الافتقادات والخسارات المستمرة، والغيابات، ومرور الزمن/ العمر الخاص بها كعنصر ضغط قاهر على نفسيتها، بما يحمله من ثقل، دون ارتواء أو التقاء مع من يشبع هذا النهم ويحيي فيها الوجود. إلا أن التضفيرة النفسية التي تلعب عليها الساردة تتراوح كما أسلفنا بين كل تلك العناصر، وعنصر التسرية/ البهجة المتاحة من خلال المكان الذي يفرض تجلياته برغم كل ذلك: "شباط أحلى شهور السنة في الكويت، سماء زرقاء ودفء نبيل تبدده نسمات بحرية ما غادرتها البرودة، شهر احتفالي تستضيفه بلاد النعيم، وما زلت أدفن جسمي في المزيد من الرمال، ورأسي للشمس." ص111

هنا يطفو المكان على سطح السرد ليعطي له مؤشرا على سطوة حضوره، وبيان تضارب الحالة النفسية التي تعانيها الساردة من خلال إشكالية وجودها الغريب والمغترب والقسري على هذه الأرض من خلال تلك الظروف التي تدفع بالحالة كي تستقر في خانة القدرية الصرفة أو كـ "عروس القش" التي تسقط عنها غلالتها أو ما يسترها، بحسب تعبير الساردة الدال على الحالة، من خلال تلك الإشارة الدالة، السابقة، من الكاتبة/ الساردة، التي يوقظها السرد/ الحياة مرة أخرى على معادل للذكرى، وربما الاستدعاء الذي يلح عليها، ولكن هذه المرة من خلال رائحة الاحتراق التي تقتحمها على نحو ما تقول: "هي رائحة الاحتراق القديمة.. هي ذاتها!.. قفزا على أطراف أصابعي، نهضت من فراشي.. واستقبلت "شوق" بقايا النوم في هيئتي، ومزيج من دهشة واستفهام نثرتهما بلا وعي.. "شيء يحترق"!.. بابتسامة أم أرهقتني عاجلتني حضنا واسعا: "صباح الخير، ريحة الخبز خلتك تصحين؟ يالله، الريوق جاهز" (ص115)

تأتي هنا جملة الاستدعاءات التي تسوقها رائحة الاحتراق على نحو ما تحمله هواجس الساردة من أوجاع تتناوب عليها من خلال تلك الإطلالات الوامضة من ماضيها/ تاريخها الموشوم بالقلق والهرب والانتظار، كما يطل الحنين المفتقد من قبل الأم/ الوطن، ليحل محله الاستيعاض من حضن الصديقة المتوحدة معها في الألم/ الغربة، ليمثل حضنها هنا، مرة أخرى، بديلا استعاريا لحضن الأم وحنانها، ولكنه مرهق ومؤلب للمشاعر المنغصة بالفقد والاغتراب، برغم الاحتواء، ليطفو ياسر ووجعه مع تلك الشجون التي يطرحها المعادل الشمي النفسي الذي تثيره رائحة الاحتراق، ليبرز سبب لغيابه القسري عنها، حين تخاطب المعنى الآني بأزمتها: "كمثل غيابك كان حضورك، مفاجئا. وكنتَ مصابا بحمى الصمت، وفي صوتي تستقر كل الأسئلة! أترانا تلاقينا بغير مصادفة، تعصرنا الحياة قبل حكوماتنا؟ تذهب أنت دون كلمة، لتدفن شقيقك بصمت يشبه موته، تعود تحمل أنت حنقك/ حزنك ألمه البعيد إرثا! مثلما اعتدنا أن ننخرط برمادية الأيام تشاركنا في النحيب. كأنك كنت تشاركنا نهار "الاحتراق" رددت بعينين تمتلئان دمعا: "موتا رخيصا وسهلا" (ص116)

إشارات دالة
تبرز هنا الساردة المتماهية مع الكاتبة بتقنية ضمير المخاطب الحاني، والمؤنب، والجالد للذوات المتحولة هنا من ذاتها هي إلى الصيغة الجمعية الدالة على الوقوع الجماعي في خانة الحزن والاغتراب والانتهاك، وربما الوصول إلى حالة الموت النفسي والمعنوي من خلال اطراد سير الأحداث نحو حافة نهايتها التي ربما أشارت لها الكاتبة بذات الضمير المخاطب الموجه لذاتها في ذات المقطع السردي المثير مع عودة أيقونة الرواية الأثيرة "سجادة الجدة"، التي تلعب هذا الدور التأثيري المحوري فيها، وترتبط فيها بشدة عملية الارتباط بين الرقص/ الصلاة، وماهية الشعور بهذه الحالة من الانعدام والتلاشي: (ص116) "كنتِ تصلين/ ترقصين مثل شمعة، وسجادتك غامت بحثا عن لون كان يضيع أكثر" تلك الإشارة التي ربما مهدت إلى نهاية النص/ الحدث/ اللا حدث الروائي، الذي تنجذب الساردة في فلكه بحس يكاد يلتصق بالتجربة الصوفية التي تقترب من الانطلاق من إسار عالمها المحدود إلى اللا محدود برغم تأرجح هذه المشاعر واضطرابها وتشتتها بين عشقها للماضي في صورة هروبها منه، وعشقها للحاضر في صورة ياسر، وللمكان في صورة المهرب والملاذ، وهي التركيبة المعقدة التي تصل إليها حد التماهي والاندماج والانصهار معها في قولها مخاطبة لذاتها: "كنتِ تسبحين في فلك العشق/ الرقص/ مثل مريد ينشد التحليق" (ص122) ولوجا إلى الانغماس الكامل في العلاقة التي تستأثر بجُل المخاطبة السردية التي توجهها الساردة/ الكاتبة إلى ذاتها، والتي تفضي إلى إطباق المكان بحيثيات وجوده وأحواله على الزمان النفسي الذي تعيشه الساردة مع "ياسر" واشتعال جذوة العلاقة بينهما، والتي تأتي عليها النهاية مفاجئة كما كل شيء، ليتحول الاغتراب هنا إلى سجن من خلال احتلال العراق للكويت/ بلاد النعيم كما صورتها الساردة، ربما إمعانا في المعنى، وربما إحالة متهكمة على ما سوف ستؤول إليه أحوالها بها، وما صار على حيز الواقع حيث انقلب النعيم إلى جحيم مطبق: (كنتِ مثل قشة على سطح ماء يدفعك التيار نحو دهليز بعيد)..

تقاطع صوت رنين الهاتف وعلامات مبهمة من حلم الفجر. ظلٌ أسود يُعتم الأشياء وصوت جهاز التكييف الرتيب. الهاتف لا ينفك يرن، تحسست في الظلام فردة خفي البيتي، فتحت الستارة تلمسا للنور. مشبعا بالانزعاج أطلقت صوتي: "ألو"؟.. على الطرف الآخر كان صوتك فزعا: "رجاء! صار لازم نهرب"! أغلقت السماعة" (ص144) هنا توحد الصوتان المخاطبان للذات وللآخر، على نحو الالتحام الذي يجمع في المصير/ النهاية التي تفرض حصارها/ سجنها الأكبر/ موتها المحقق ماديا ومعنويا في ظل قبضة صراع بين موطنين للساردة في ذات الآن: موطن الجذر، وموطن الإقامة، وفيها مفارقة يضع إحداثياتها الصراع الدائم الدائر بين وطنها/ العراق، ووطنها/ بلاد النعيم التي آوتها/ الكويت.

تلك النهاية التي تجعلها تصل إلى حد الانشطار بين الاسمين الدالين على شخصيتها المزدوجة (رجاء/ نرد)، وما بين ميت/ حي في هذا الحيز/ السجن الجديد، الذي تتحرك دلالاته عبر إشارة أخيرة، ودلالة مشعة ينفصل فيها صوت الساردة وحيدا كما بدأ في بداية السرد، لتنفرد بذاتها في مشهدية دالة ختمت بها الساردة/ الكاتبة نصها الراثي لذاتها ولمواطنيتها: "نقلت بصري الزائغ إلى حوض السمك البللوري، منبع الصوت/ فقاعات الماء.. كانت "نرد" طافية بهدوء.. "(ص145)

 

قاص وناقد مصري

mohammadattia68@gmail.com

 

1 عقيدة رقص ـ رواية ـ ميس خالد العثمان ـ طبعة أولى ـ 2008ـ المؤسسة العربية للدراسات والنشر ـ بيروت