يرى الناقد أن مشبال في كتابه "في بلاغة الحجاج" يعمل على استثمار المعرفة البلاغية في تحليل مختلف أنواع الخطاب، وكيفية تشَكُّل الخطاب جماليا وإقناعيا، وخصائص الصنوف الأسلوبية، والنقاشات حول قضايا بلاغية مثل الانزياح والتأثير وأجزاء الخطاب.

المشروع البلاغي لمحمد مشبال

الملامح العامة

حسن الطويل

 

تقوم تجربة التأليف العلمي عند د.محمد مشبال على استثمار المعرفة البلاغية في تحليل مختلف أنواع الخطاب. والأمر الذي اُشتهرت به البلاغة، في شتى أنواع النظريات التي تعاقبت عليها، أنها معرفة بتشَكُّل الخطاب جماليا وإقناعيا، أو إنها مجموعة أبواب تترتب فيه صنوف الوجوه الأسلوبية، أو هي جملة من النقاشات النظرية التي تتناول قضايا البلاغة المعروفة، مثل الانزياح والتأثير وأجزاء الخطاب.. والصلة غير مقطوعة بين محمد مشبال وبين هذه الواجهات البلاغية المذكورة. غير أن قيمة التجربة التي يخوضها الباحث تتمثل في السعي الدؤوب إلى تطويع المعرفة البلاغية، بكل ما تنطوي عليه من مفاهيم وإجراءات، في مجال الممارسة التحليلية، وهو بذلك يضيف جهدا مهما إلى ما قام به مجموعة من الدارسين الغربيين المحدثين (كبيدي فارغا، أولفيي روبول، روث آموسي ...) الذين حملوا على عاتقهم تحقيق الاستفادة من البلاغة في مجالات تحليل الخطاب.

وفي كتابه "في بلاغة الحجاج -نحو مقاربة بلاغية حجاجية لتحليل الخطابات-" (دار كنوز المعرفة، الطبعة الأولى، 2016) يبسط مشبال تصوره الدقيق لتحليل الخطاب بلاغيا، وهو التصور الذي يحمل صفة المشروع، بحكم مروره من محطات متعاقبة، صاحب فيها الباحثُ البلاغةَ بأسئلة طموحة، من قبيل: كيف نصطفي من البلاغة منهجا لتحليل الخطاب؟ ما هي الإجراءات التي تساعد على تفعيل مقولات البلاغة الكبرى ( الإيتوس، الباتوس، اللوغوس، الأسلوب..) تحليليا؟ كيف ندمج بين التحليل الأسلوبي ورصد بنيات الحجاج الإقناعي داخل النصوص؟ ما الحدود الفاصلة بين التحليل البلاغي الجمالي والتحليل البلاغي الحجاحي؟

يوضح محمد مشبال في هذا الكتاب أن التحليل البلاغي للنصوص يتكئ على أسس مرجعية متعددة، مثل بلاغة أرسطو، وإجراءات البلاغة الجديدة، والاجتهادات المعاصرة في مجال البحث الحجاجي. بل إن التحليل البلاغي عند الباحث لا يجد حرجا في الانفتاح على مختلف المفاهيم والإجراءات المنتمية إلى الحقول المعرفية المجاورة، مثل التداوليات وحوارية باختين؛ لأن هدف التحليل البلاغي (الحجاجي) يتمثل في إضاءة الأبعاد الحجاجية داخل النصوص، وكل ما ساعد على ذلك يمكن دمجه في إجراءات التحليل. ولعل هذا الفهم العملي الموسع للتحليل البلاغي قريب من مصطلح "العلم الكلي" الذي يسمي به حازم القرطاجني البلاغةَ، على أساس أن مقاربة الخطاب بتناول الجزئيات (التحليل اللساني أو الإيقاعي أو الدلالي...) يعود في النهاية إلى المعرفة الكلية بالخطاب (البلاغة).

ولأن الكتاب يروم تقديم تصوره على نحو منهجي مضبوط، فقد جعله الباحث قسمين كبيرين:

القسم الأول يتحدث فيه عن النظرية البلاغية، المفاهيم الخاصة بها، والمبادئ والمرتكزات التي يقوم عليها التحليل البلاغي الحجاجي. وهنا نجد حديثا مفصلا ودقيقا عن جناحي البلاغة (على حد تعبير محمد العمري)؛ الحجاج والتخييل، ما بينهما من تقاطعات وتقابلات، وموضوع كل منهما، وكيف ينظر التحليل الحجاجي إلى السرد والصور الأسلوبية؟ وكيف نميز بين التأثير الجمالي والتأثير الحجاجي؟

والواقع أن معالجة مثل هذه الإشكالات المهمة، يساعد القارئ على تبين هوية التحليل الذي يقترحه الباحث، ويفيده في تكوين صورة كلية عن تطور البلاغة، كما يضعه في قلب الانشغالات التي تعرفها النظرية البلاغة في السياقين العربي والغربي.

وبخصوص مبادئ التحليل البلاغي ومرتكزاته، ينطلق الباحث من مبدأ يرى أن انخراط البلاغة في تحليل النصوص يفرض عليها التقيد بجملة من الضوابط النصية والسياقية والنظرية. وذلك ما دفعه إلى عرض هذه الضوابط ومناقشتها كما نجدها في عدد القراءات البلاغية للنصوص والخطابات (كبيدي فارغا، جيل ديكلرك، أولفيي روبول، ميكاييل ليف، روث آموسي). يقول الباحث في خلاصة هذا العرض: " لا شك أن ردم الهوة بين الأدب والخطابة في الوعي النظري لمجموعة من الباحثين، وتراجع المناهج النقدية ذات المنزع الشكلاني والبنيوي، وانفجار وسائل التواصل الحديثة التي أتاحت ظهورا متزايدا لأنواع متعددة من الخطابات غير المعهودة مثل خطابات الحياة اليومية وخطابات الصالونات والشارع ومواقع التواصل الاجتماعي، عوامل أسهمت في إيجاد المناخ الملائم للحديث عن تحليل بلاغي للنصوص؛ تحليل يستفيد من مفهومات البلاغة القديمة (الإيجاد والمواضع والإيتوس والباتوس والصور البلاغية...) وينفتح على تحليل الخطاب بمناهجه المختلفة المنغرسة في التحليل اللساني للنصوص؛ فقد كان لانفتاح البلاغة على أنواع خطابية جديدة خارج حدود الخطابات العمومية التقليدية، أثر في تطوير تقنياتها وطرقها في الوصف، كما أثبتت ذلك عديد من الدراسات البلاغية التي استفادت من مناهج تحليل الخطاب في منحها الأهمية القصوى للتحليل الدقيق والصارم للغة". (ص: 67-68).

أما القسم الثاني من الكتاب فقد خصصه مشبال لمقاربة عدد من الخطابات (القرآن الكريم، الخطاب الوعظي، الرسالة، الرواية، الخطبة...) انطلاقا من الاستراتيجية المعتمدة من قبل المتكلم؛ أي المسلك الحجاجي الذي يسير وفقه انطلاقا من طبيعة السياق التواصلي واختياراته في الإقناع والتأثير (اللوجوس أو الإيتوس أو الباتوس). وهذا الاختيار المنهجي أتاح الوصول إلى خصوصية البناء الحجاجي داخل النصوص، كما سمح بقراءة جديدة لعدد من التوظيفات اللغوية والخطابية، مثل السرد والأسلوب.

والقيمة الكبرى للتحليل المقدم من قِبَل الباحث تتحدد في تحويل إجراءات البلاغة ومقولاتها إلى جهاز توصيفي خِطابي لا يُرى فيه النزوع إلى النمذجة وتحويل نصوص التطبيق إلى تمارين مملة وصارمة؛ إنما أساسه الإبداع في بناء النص حجاجيا. والحق أن القراءات البلاغية أو النقدية من هذا النوع الحاجة إليها شديدة وملحة في السياق الثقافي العربي. فالبلاغة والنقد، على تطورهما وانفتاحهما في الفترة الأخيرة، ما زالا يشكوان من مشاكل التطبيق المتمثلة في إلغاء خصوصية النصوص وإبداعها لصالح التنزيل الفج لإجراءت المنهج التحليلي.

هذه بعض من الملامح المميزة لمشروع محمد مشبال البلاغي كما تمثلت في كتابه الأخير. وجدير بالذكر أن الرجل يترأس في كلية الآداب بتطوان (المغرب) فرقة بحثية (فرقة البلاغة وتحليل الخطاب) لا تكف عن العطاء والبذل في مجال تخصصها بإصدارات علمية بالغة القيمة.