امرأة من زمن الحرب

الناقد الأدبي: محمد معتصم

 

تتعزز مكانة القصة القصيرة والقصة القصيرة جدا في المغرب بصدور مجموعة (بالأحمر الفاني: امرأة من زمن الحرب) للقاصة وفاء الحمري، وهي مجموعة قصصية حافلة بالعمق الإنساني والوطني والقومي، قصص لم يثنها الاهتمام باللغة العربية الفصيحة غير المشوبة بالعامية إلا ما دل على موقف أو ما كان دخيلا (معربا) وساد استعماله، عن الاهتمام بالموضوعات الكبرى التي تشغل بال الناس وولدتها التحولات المجتمعية التي عرفها العالم والعالم العربي، ومن أهم تلك التحولات، تحول القيم وانحدارها في أسواق العالم التي هرول نحو دعواتها الجميع غير عابئين بعواقبها الإنسانية وآثارها على الإنسان البسيط الذي لا يملك غير عرق جبينه وماء الوجه.

في قصص وفاء الحمري شعور بالخيبة، وكأن السارد/ القاص يفاجأ كل حين بانهيار عالمه الذي يشقى في رسم حدوده وتشييد معالمه. هذه الحالة المستشرية في اغلب نصوص المجموعة تعبير ضمني عن موقف ورؤية من العالم، عالم ينهار، عالم مهما حاولت إسناده ودعم نهوضه إلا وتراخى وتداعى نحو التلاشي. حال من الشعور بالخيبة وباللاجدوى كما هي عند الكثير من الكاتبات والكتاب العرب نهاية القرن المنصرم وبداية القرن الحالي. ولا يمكن اعتبار هذا الشعور نظرة يائس بل هي محاولة إنهاض الهمم وتنبيه الغافل المنساق وراء الدعوات والنظرات الشمولية التي لا تراعي الخصوصيات ولا تحمي الكينونة العربية من الضياع والمسخ والتحول. لأن الانسياق وراء الدعوات المغرضة بعيون مغمضة يخفي الحقيقة ويعلي من صدى الخديعة.

لذلك تصدت وفاء حمري في قصصها مدافعة عن القلاع التي تأثرت أكثر بالتحولات السريعة في القيم والكينونة، مثل القضية الفلسطينية التي باتت مجرد خبر في الإعلانات التلفزيونية ونشرات الأخبار العربية والعالمية، وبات الأطفال والنساء والشيوخ ... الفلسطينيون مجرد صور وخيالات مفرغة من الحس ومن الإنساني. وتعرضت أيضا لقضية المرأة التي ما تزال ترزح تحت نير الجهل والخرافة والشعوذة بالرغم من التحولات التي شهدها الواقع وتصور قصة (غريب في بيتي) هذه الحالة. بينما تصور قصة (هي وهو) التي جاءت في صيغة حوار باطني يسرد وقائع غريبة تسببت فيها الوضعية الخارجية المتأزمة، فأحالت الداخل خرابا وبردا وصمتا كالجلمود بلا حس أو إحساس إنساني. إنها علاقة تعايش مع الصمت والألم والفراق والاختلاف. حالة إنسانية عصيبة عصية. حالة خارجية أثرت بقوة في نفسية المشاهد الزوج إلى درجة أحالت مشاعره وشعوره بزوجته إلى الصفر.

بالإضافة إلى قضية المرأة والقضية الفلسطينية والشعور بالخيبة وانتشار الخرافة والشعوذة نجد القاصة وفاء الحمري قد استعملت كثيرا في قصصها لفظ (الصمت) وهو اختزال قوي لحركية الزمن، ويتجلى ذلك في الحذف، والسكوت عن الكلام المباح، الذي تفصح عنه الوقائع النصية ومقومات السرد القصصي. ويمكن اعتبار تدرج القصص من القصص القصيرة نحو القصص القصيرة جدا تعبيرا عن حالة الصمت هاته، أي عندما يصبح الواقع أكبر من الكلام، والواقع أوسع وأغرب من الخيال، ويقف المتلقي مشدوها عاجزا أمام سرعة تحول الأشياء، وانحدار الإنسان، وتبدل القيم العليا بالقيم الدنيا، فتضعف العبارة، ويصبح السرد والشرح والتعليق والتفسير للواضحات من المفضحات، وتصبح العبارة أضيق من سم الخياط. لم تختر وفاء الحمري مرجعيتها النصية في القصص القصيرة جدا، كما زميلاتها وزملائها، من الحكاية الشعبية أوالنكتة والحدوثة، أوالخرافة المكتوبة والمصورة، بل لجأت إلى الواقع محتمية به في عنفه واختلافه، وتشظيه، تشتكي من غرائبية وقائعه ومن قسوة أهله، لكنها لا تحيد عنه ولا تنشد غيره بديلا. إنها كاتبة تحفر في الواقع المعيش بأظافرها وتصارع ضد التيار رافضة الاستسلام بسهولة لهذه التحولات المنشدة بقوة نحو كل غريب وكل وافد. إنها كاتبة تؤمن بانتمائها العربي وبوطنيتها المغربية وبأفقها الإنساني. من هذا المنطلق قرأت القصص القصيرة والقصيرة جدا في هذه المجموعة، وقد يجد القارئ مداخل شتى فاتحة مصاريعها لكل طالب متعة أدبية ولغوية، أو طالب بحث في خصائص كتابة القصة القصيرة والقصيرة جدا.