يغوص بنا الكاتب العراقي بأعماق شخصيته الروائية المحورية الموشكة على الموت في مستشفى بلندن، فيعود بنا إلى طفولته والنشأة محللا البيئة والقيم الأجتماعية والعلاقات وأثرها في تكوين الفرد من خلال أحداث يسردها بلغة سلسلة متماسكة تمتزج النوستالجيا بأسئلة الوجود الفلسفية من خلال شواهد من مفكري الإنسانية.

كاموك (رواية العدد)

وديـع العبـيـدي

 

الى: ايغور كركجورديان كاموك،

المناضل والانسان والشاعر..!

 

لا تكَلي أحبك

عيب..

بعيونك بعدني ازغير..

واستعجل عليه الشيب.. (شعر خليجي)

 

That’s a funny joke!

Said the duck

That men should always love witout cause!

Where’s the logic or sense in that?

Geoffrey Chaucer

 

(1)

دكتور ديث؟..

يس. دكتور ديث!..

آي مين. آي آسكنغ أباوت دكتور انجكشن..

آي وونت تو داي!..

آي دونت اندرستاند يو..

وات يور سيينغ..

دو يو نيد انتربريتر؟..

وج لانغ وج يو سبيك؟..

آي وونت تو داي

جاست داي.. فيد آب!.

(مركز فرانسس بيكون للصحة الحديثة)

ـــــــــــــــــــــــــــ

  • في هذا المقطع حوار انجليزي مكتوب بحروف عربية، والحوار يجري في مركز صحي بين مراجع وطبيب!.

 

(2)

ألفان وخمسة لم تكن، سنة عادية. ليس لفقدان أصدقائي في تلك السنة، بدء بأعزهم في الثالث عشر من يناير الى اكبرهم سنا، في الثالث عشر من نوفمبر نفس العام.

وليسها لالتقائي بكل من مارتا ومريم وتحولنا الى ثالوث، يبلسم جراح غربتي وعزائي.. بل ليس لوصولي إلى هنا في تلك السنة المشؤومة..

ولكن.. لفقداني عشرين كغم من وزني مرة واحدة، فلم يعد يعرفني أحد، ممن كان يعرفني.

تلك المناسبة.. أعني فقدان الوزن، كانت سبب علاقتي الوثيقة بوكالة الصحة الوطنية، وبعد عامين فقط.. من تلك الصلة.. وصلتني أوراق الترشيح لبرلمان الصحة.

لم يكن الأمر كذلك بالضبط. في بدء وصلتني أوراق التصويت على ترشيح عضو جديد، محل عضو منسحب، فخطر لي التقدم لترشيح نفسي. وبعد موافقة الوكالة، على لأي، بدأت في اعداد مسودة برنامجي الصحي.. هكذا.

أوصت الطبيبة فورا بادخالي ردهة الطوارئ في المستشفى، وانا أؤكد لكلّ من يراني، وعيناه تفيضان بالقلق والعطف، كأنني سأموت بعد ثلاثة عشر دقيقة.. [نو ووري.. أي أم أوكي!].

بالنسبة لهم، كنت مجرد (ميت) يمشي الى قبره.. وبالنسبة لي، كنت أولد من جديد، لا غير!

تردّدت تلك الجملة كثيرا في المستشفى.. وأثار وضعي فضول كثيرين.. ربما لحسن حظ المتدربين في تلك السنة.. وكان بينهم ملتحون سعوديون، أو شباب صينيون، يشبهون رواد الفضاء.

قرأ أحدهم لوحة البيانات المعلقة بجانب السرير، وأعاد قراءة الاسم بصوت مسموع.. (ايغور كركجورديان كاموك).. كان ذلك تصرفا طفوليا، فابتسمت. قال لي: تعرف كاموك؟..

- جدّي!

- عفوا.. أعني الفرنسي.. ألبيرت كاموك(*)..

- الفيلسوف، نعم!..

- تاريخ ولادتك يطابق تاريخ وفاته!..

- العكس صحيح أيضا!

ابتسم المطبق الصيني، وأنا ابتسمت، كالعادة. فقال:

- طبعا.. ممكن!..

- ليس ممكن، أكيد!..

قلت له بحزم وأنا أنظر في عينيه، ووجوه زملائه..

  • بعد ولادتي بأيام متّ. ولأن أمي لم يكن لها أولاد، وقد طلبتني بعد أدعية كثيرة وصلوات سنين طويلة، رفضت تسليمي للدفن. احتفظت بي في حضنها، وكأنني ما زلت أعيش. الجارات اعتقدن انها جنّت. وكانت تكرر طيلة الوقت جملة واحدة: (لالا.. الله لا يخدعني.. لقد طلبت منه ابنا، وقد اعطاني.. لا يمكن أن يأخذه مني ثانية!)..

احدى الجارات كانت تصرّ على دفن الطفل.. دفني أنا.. فذهبت الى (الدايه) لكونها الوحيدة صاحبة الأمر، والقادرة أن تؤثر على أمي.. كانوا يخافون عليها من الجنون.. وهي الخياطة الوحيدة عندهم.. فكانت المفاجأة الكبرى، عندما قالت الداية: صبيحة معها حق.. هذا الطفل لم يولد للموت!.. فقامت بتغيير اسمي القديم، وبعدها بثلاثة أيام، فارقتني الزرقة وشحوب العينين، وصرت أنمو بسرعة.. بالروح والجسد.. لذلك أعرف أنني هو!..

نظر اليّ المطبقون ببلاهة، وانسحبوا مختفين مرة، والى الأبد!.

ــــــــــــــــــــــــــــــ

• البير كامو [1913- 1960م] فيلسوف وروائي وجودي جزائري، تخرج في جامعة الجزائر عام (1936م)، شارك في المقاومة الشعبية ضد الاحتلال الالماني لفرنسا وأصدر باسم مستعار/ (بوغارد) نشرة [كومبات/ كفاح] التي شارك فيها جان بول سارتر [1905- 1980م]. اعتبر كامو الوجود عبثا عديم الغاية/ (اسطورة سيزيف)/(1942م)، وان وظيفة الانسان التمرد/ (المتمرد) (1951م) على عبث الوجود وعدم الانسياق او الاستسلام له، على شاكلة سرن كركجورد [1813- 1855م]، رفض كامو وسارتر صلتهما بالفلسفة أو نسبتهما للوجودية. ومع التوجه الفكري لكامو الى العبث، ألا انه لم يكن متشائما، واختار التوجه الافلاطوني للايمان بالسمو الخلقي بدل الانتحار لمواجهة الوجود العبثي. في العام (1957م) منح جائزة نوبل للأداب. وفي (4 يناير 1960م) توفي في حادث سيارة.

 

(3)

الفلج الذي أخذ من جدّي نصف العام وأحاله كومة عظام لا تزن خمسة وعشرين كغم في أيامه الأخير.. أخذ من والدتي آخر عشر سنين حياتها، بالكاد تتحرك أو تنطق شيئا بسهولة.. كان ذلك في أيام الحرب والحصار.. ولم تفقد من وزنها الكثير.. وعندما رأتني خارجا، رفعت ذراعها وبقيت عيناها تنظرانني، فتأخرت في الحركة، لسماع كلماتها الاخيرة.

حتى تلك اللحظة، اعتقدت أنها لم تلحظني وأنا اغادر. قد تكون نائمة، أو ساهية، ولن تتذكرني.

بعد مدة من ارتجاف يدها ودمدمة شفاهها المرتعشة، وعيناها جامدتان نحوي، لا تتحركان.. ندّت عنها تلك الجملة الأخيرة: أنت ميت!.. تذهب بغير رضاي.. أنت أيضا ميت، مثل أخيك!.

كان أخي قد مات قبل ست سنوات. أعني أنه اختفى، أو فقد، في الحرب. ولم يأتِ ثانية. والناس قالوا أنه مات، اجتمعوا وأقاموا جنازة ومأتم.. وأمي على حالها، مفلوجة، منذ وفاة شقيقها الأصغر، الذي كان يناديها: (ننه!). فقد كانت تكبره اثنين وعشرين سنة.. وذلك هو عمر شقيقي المفقود.. وكذلك هو عمر سلمان العبيدي سبارتكوس مانشسترستي..

كان ينام في حضنها ويقول لها: غني لي يا (ننه!).. وكانت دموعها تسيل وهي تغني. ثم يعانقها ويبكيان سوية. كان اسمه (طارق!). وقيل سمّوه طارقا لأنه جاء في الليل.. وكلّنا جئنا في الليل.. ليس هو فقط..

وعندما تطوع في الـ(بيش مركَه)* كان يزور البيت في الليل فقط، ويختفي قبل خيط الصباح. وعندما مات، لم يكمل عامه الثلاثين.. مات في الصباح.. للمفارقة.. عكس معنى اسمه..

كان الشخص الثالث في رحلة موت العائلة، والأول عقب والديه. لم نستطع بعدها رؤية بيت جدي القديم الذي يقال أنه تهالك، وصار تلة من تراب في وادي العوسج ذاك.

لسنوات بقيت أمي المفلوجة محور اهتمام العائلة الجديد، ولكن كثيرين ماتوا، وهي في مكانها، كما هي.

جدّي هو الآخر مات مفلوجا. جدي الذي هو أبوها. ولكنه لم يتأخر ستة أشهر في حالته الأخيرة. كان ذلك قبل حرب اكتوبر الاخيرة بسنة.

أول من مات بعد خالي، كان أخي الأصغر، وكان في الثانية والعشرين من عمره. وبعده مات ابن خالي الاكبر.. أعني ابنه الأوسط، لأن الأكبر غادر البلد قبل الحرب.. صار الموت يقرض الجيل الثالث من العائلة، أمام أنظار الجيل الثاني.

كان جدي يقول: الشخص الملعون يموت أبناؤه قبله!.

إذا كان عدد ضحايا الحرب مليون شاب عراقي.. فما أتعس ذويهم إذن..

كلّ قصص موت العائلة ارتبطت بالحرب.. جدّي قبل حرب فلسطين الأخيرة (*).. قبل عام من موت طه حسين(*).. جدّتي بعد عامين من نهاية حرب الكرد الأخيرة(*).. خالي بعد عامين من بدء حرب ايران الأخيرة(*).. شقيقي مات في الحرب بعد أربع سنوات من موت خالي.. ابن خالي بعد عام من موت شقيقي وكان جنديا في الحرب.. والدتي في العام الثاني للحصار.. بعد عام من وقف حرب الخليج الثانية(*).. والدي بعدها بعامين..

عندما قالت لي أمي: أنت ميت!، كنت في الحادية والثلاثين، خارجا من حربين.. وتقول لي: أنت ميّت!.

تجاهلت تلك اللحظة والجملة، وابتلعت الموقف وأنا أستقل السيارة الواقفة أمام الباب. استحضرت ابتسامة مصطنعة ، لمواجهة السائق، لكنه كان أكثر ذكاء من النظر إليّ. أطلق عبرة محسورة: (توكلنا على الله!)، وترك السيارة تنساب على الاسفلت. تمنيت حينها أن أنام او أدخل في غيبوبة، ولا أصحو الا وأنا خارج الوطن.

أنا لا أكون مثل أخي. لأن أخي مات في الحرب. وأنا لم أمت في الحرب. اللوحة البرونزية التي سلّمها الحزب لأهلي، تقول أن أخي – شهيد- ضحى بنفسه دفاعا عن الوطن والكرامة. وأنا انهزمت وتركت الوطن يلعق جراحه لوحده.. ولأنني لم أمت في الحرب، أخذت الحرب مني كلّ شئ.

في تلك السنوات، كان الناس يقولون: الله يجمع إليه أحباءه. من يحبّه الله يأخذه من هذا العالم.. وكانت الحرب بورصة موت رائجة.. الموت أشرف من حياة هذه الأيام!. إذن.. لو كان الله يحبني، لما خرجت من حربين استمرتا عشر سنوات، من غير عمل ولا راتب ولا وجه يستقبلني.

أمي قالت: أنت ميت!. ولم أقل لها، أنا أموت كل يوم ثلاثين ميتة. كلّ نظرة من نظرات الناس ونظراتكم في البيت، هي موت. الميّت يموت مرّة واحدة. أما انا فقد متّ ملايين المرّات. منذ نهاية الحرب وانا أموت كل يوم وكل ساعة. وما زلت أتنفس. يا ريتني متّ وارتحت!. لم أقل لها ذلك.

يا ريتني قلتها وخرجت. (درب الصدّ ما ردّ!).

ــــــــــــــــــــــــــــ

  • سلمان رمضان العبيدي [1995- 2017م] شاب ليبي متهم في تفجير أرينا مانشستر بتاريخ (22 مايو 2017م)، الساعة العاشرة والنصف في ختام حفل المغنية اريانا غراندي [مواليد فلوريدا الامريكية 26 يونيو 1993م] الأميركية من أصل ايطالي واليهودية من فرقة كابالا الصوفية. بعد الحادث قامت اريانا بحفل غنائي خيري على أرواح الضحايا، وبلغت مشاهدات اغانيها تسع مليارات مشاهدة.
  • (بيش مركَه): عبارة كردية عرف بها الجيش الشعبي الكردي الذي قاده الملا مصطفى البرزاني [ 1903-1979] في العراق خلال [1961- 1975م] من أجل استحصال الحقوق القومية الثقافية والسياسية للكرد، وقد ضمّ بجانب الكرد غير قليل من العراقيين المؤيدين لهم.
  • اكتوبر 1973م حرب الايام الستة، بين العرب ودولة اسرائيل، وهي آخر حرب بينهما في القرن العشرين، فتحت الطريق لمفاوضات التسوية بين الطرفين.
  • طه حسين [1889- 1973م] أديب مجدد وأكاديمي عربي، لقب بعميد الأدب العربي. كان عميدا لكلية الاداب ووزير المعارف، وعضوا في حزب الوفد/ الجناح اليساري. له أعمال سردية: (المعذبون في الأرض) ومنها سيرته الذاتية: (الأيام) وكتابات تاريخية وفكرية: في الشعر الجاهلي (1926م)، مستقبل الثقافة في مصر/(1938م).
  • (1975م): نهاية الحرب الأهلية في العراق بين القوات المسلحة الكردية والحكومة، وذلك عقب اتفاقية الجزائر بين الرئيس العراقي صدام حسين [1937/ 1979- 2003/ 2006م] وشاه ايران محمد رضا بهلوي [1919/ 1941م- 1979/ 1980م] ورعاية الرئيس الجزائري الهواري بومدين [1932/ 1965- 1978م] البلد المضيف للاتفاقية على هامش المؤتمر الاسلامي.
  • حرب ايران الأخيرة [1980- 1988م].
  • حرب الخليج الثانية [يناير- فبراير 1991م] وهي الغزو الأنجلوميركي للعراق، على خلفية الغزو العسكري العراقي للكويت في (2 اوغست 1990- 17 يناير 1991م).

 

(4)

بيت جدّي الذي عرفته ونشأت فيه يتكون من قسمين، أحدهما يدعى البيت القديم، وهو في عمق المنزل.. يتكوّن من باحة تطل على حجرتين نحو الخلف، يلتصق بهما مطبخ وحمام صغيران بشكل جانبي؛ والآخر هو البيت الحديث، ويضم حجرتين من الطابوق الأصفر، أحداهما داخل دهليز الباب، والأخرى جانبي على امتداد المطبخ والحمام، وفي وسطهما حجرة ضيقة طولية تستخدم لقضاء الحاجة.

يفصل بين البيتين مساحة خضراء تشغل نصف مساحة البيت، مزروعة بشجيرات توت ورمان وخوخ ومشمش وفسيلة نخلة صبية، لا تكاد تكبر، فهي كما هي مذ رأيتها أوّل مرة. وفي الأرضية بين أقدام الأشجار بسط خضراء من خضرة السلطة التي يسميها جدي (أوتلاغ) أي: عشب، وعندما تقدم له صينية الطعام ولا يجد الخضرة، يتجه نظره نحو الحديقة ويوجد كلامه للمرأة: حفنة من ذلك العشب.

تلك الحديقة أو (البغجة)* كانت تحتمل كل مستلزمات العائلة، يتولى جدّي زراعتها وتقوم جدّتي برعايتها.. وعندما يستلقي جدّي على فراشه للقيلولة، في الباحة المسقوفة، أو عند المساء على سريره، المجاور للبغجة من جهة الباب الخارجية، تراقب عيناه صور الشجيرات والأعشاب المنتشرة بين سيقانها، وجماعات الدجاج المتجولة بينها.. حتى يأخذه النوم..

لا يتكلّم جدي كثيرا.. ولا يدور حوار حقيقي في بيت الجدّ المسكون بصمت متوتر بلا نهاية.. تسلقه حرارة الشمس طيلة أشهر الصيف، وتتعاصفه نبال المطر الساقطة بشكل عمودي أو مائل، فترشق رشفاتها عتبات بعض الحجرات، وتغسل الباحة الكونكريتية التي هي مضافة جدّي عند اعتدال الجوّ.

في المساحة بين تلك الباحة والبغجة من جهة الداخل، جلس جدّي على كرسي خشبي تفوح منه رائحة التاريخ، بينما وقف أمامه عطا بربر يحلق شعر رأسه ووجهه، ويشذب شعرات شنبه، ويلقط له شعيرات أذنه وأنفه وحاجبه، المتدلية خارج حدودها..

هو أيضا كان يقضي ساعات طويلة في تشذيب أغصان الشجيرات والأعشاب المستطيلة من وقت لآخر..

في الطرف الآخر، في باحة البيت الحديث جلس خالي الأوسط على كرسي بلاستك أحمر اللون يمسك بين يديه كتابا، ويراقب جدّي من وقت لآخر ببهجة ظاهرة.. يوم الخميس الأخير من كل شهر، هو تقليد ثابت من سنوات طويلة، يحلق ويتحمم ويتخلّص من كل تبعات الشهر المنصرم، ليدخل الشهر الجديد كمولود جديد..

كم تقدر عمره؟..

قال خالي الأوسط موجها كلامه لي:

أنت أعرف مني.. بما مكتوب في بطاقته الشخصية..

ليست لجدّك بطاقة شخصية..

كيف.... لكلّ شخص بطاقة.

إلا جدّك.

وماذا تخمن أنت عمره..

قرن.. ربما..

ماذا يعني قرن.. أنت تمزح..

لا أمزح.. أنه قديم.. ولا يتغير..

ألم تسأله..

لا يجيب.. وربما هو نفسه لا يعرف..

ثم التفت لوالدته الجالسة على عتبة الدرج الأولى وسألها:

كم هو عمر زوجك؟

ضحكت بغير صوت ورفعت يدها بالفوطة تغطي شفاهها..

أنت لا بد تعرفين عمر زوحك بعد كلّ هذه السنين..

الرجل يسأل عن عمر المرأة، لكن المرأة لا تسأل عن عمر الرجل يا بني.

عندما تزوجتما لا بدّ سمعت بطريقة ما شيئا عن عمره.. شاب، كهل، عجوز؟

أبوك هو هكذا دائما منذ رأيته.. ولم يتغير..

ألم يكبر؟..

صدق عندما أقول لك هذا الرجل لا يكبر.. لقد كان كبيرا منذ أول رؤيتي له..

صورته في بداية الجمهورية لا تختلف عن صورته الآن..

اخفض صوتك.. أحداث تلك الأيام جعلته يبدو أكبر.. لكنه لم يتغير..

أبي اسطورة تستحق التوثيق.

هل تسخر من أبيك؟

أنا لا أسخر يا أمي.. أنه اسطورة فعلا.

البركة فيكم يا ولدي.

الدّجاجات هي شاغل جدّتي الرئيسي في نهارها الطويل.. والبغجة هي ما يشغل جدّي عندما يكون في الييت. البغجة تعني حديقة، وهي صيغة تصغير من (باغ) التي تعني بستان. هي كل ما تبقى من تاريخ جدّي وحياته الطويلة. وعندما يتأملها ويعمل يديه فيها يعمل بنفس الهمة والرغبة التي كان يعمل بها في شبابه، عندما كانت أراضيه تمتد على أعالى حوض ديالى الذي كان يسمى نهر جالولا.

ــــــــــــ

  • (بغجه): كلمة تركية تعني بستان صغير، أو بستان منزلي.

 

(5)

أمي كانت الوحيدة التي تقول أن أباها كان فلاحا، وأنها كانت تعمل معه في الأرض، وكان لجدّي قطيع من الماشية يتولى الاعتناء به صبي اسمه "هسين".. عند المساء بعدما تعود الماشية.. يجلس هسين على التيغة ويغني.. وكانت أمي الصبيّة يومذاك تحبّ غناءه، وتغني معه..

هسين ليس اسمه الحقيقي.. وانما دعاه جدّي هكذا رديف اسمه.. لأن اسم جدّي هو (حسن)، ويدعونه (الحسني) للتفخيم.. أما هسين فهو طفل أرمني فقد أبويه في ذلك الزمان.. وتبناه جدّي ابنا له، لأن بكره كان فتاة، التي هي أمّي.. وكان يعاملها مثل (صبي) لحاجته لأحد في الزراعة والرعي.. وكان هسين يرعى وأمي تزرع.. في ذلك الزمان طبعا..

وعندما احتل الانجليز البلاد مرة بعد مرة وانتشر العساكر الأجانب ذهبت الأرض.. وطما الغرباء على الأهلين القليلين جدا يومذاك.. فأخذ جدّي الصبي معه في القطار الصاعد إلى الموصل.. لا تعرف أمي إلى أين أخذه.. ربما أعاده للناس الذين أخذه منهم.. هسين كان جميلا في كل شيء.. وكان مهذبا جدّا.. على ما تصفه أمي..

ثم عاد جدّي لوحده عند المساء.. منذئذ وجدّي لا يتكلم.. ولا يجيب على سؤال.. وكل رجال أيام زمان لا يتكلمون.. لا يتكلمون مع النساء.. وفي حلقات الرجال يتلكمون لوحدهم.. يتركون الاطفال والنساء خارجا..أنا فقط كنت أحضر أحاديث جدّي القليلة مع خليل تتار.. صديقه الوحيد في السوق..

في نهاية كل شهر.. عندما يجتمع الناس في بيتنا.. للاستماع للروزخون الذي يأتي من خارج المدينة.. الروزخون وحده يتكلم.. وأمامه يجتمع الرجال والنساء والأطفال.. الرجال في الأمام على البسط، والنساء وراءهم على الأرض، وفي الأخير الأطفال.. جدّي لا يتكلم.. وفي موعده يذهب للنوم.. تاركا السهرة لما بعد منتصف الليل.. القريبون يعودون لدورهم، والبعيدون يبيتون معنا لليوم التالي.. وهو في العادة نهاية الاسبوع..

أنا أحببت جدّي.. الوحيد في العائلة أحببته أنا وتقربت منه.. لا أدري كيف ولماذا.. هو صارم لا يتكلم.. حادّ المزاج.. يحاسب على كل حركة.. وياما وبخني على ابتسامة ثغري.. وهي ليست ابتسامة.. مجرد بشاشة غبية ورثتها لا أدري من أين.. فلم يكن في وجوه عائلتنا تلك البشاشة..

مع الوقت صرنا صديقين.. منذ الصباح يفتقدني.. في وقت الطعام يفتقدني.. كلما أراد أن يفعل شيئا أو يذهب لمكان يأخذني معه.. صرت دائما في محيط نظراته.. ولم يعد يوبخني.. يراقبني كجزء من حديقته، ودجاجات جدّتي، والقطّ الذي يتسلق السلم الى السطح في ذهابه وإيابه..

قبل المساء يسأل جدّتي.. هل وضعت له العشاء.. متى تضعين فراشه.. هكذا يتكلم بلغة الغائب.. حتى عندما أكون أمامه.. لكنه لا يتحدث معي مباشرة.. عندما يريد شيئا يستخدم عينيه.. نظراته أوامر ورغبات.. يخرج أتبعه.. هذه هي ايضا لغة الكلاب..

في الطريق.. في السوق.. عندما نكون لوحدنا.. يتكلم معي مباشرة.. يسألني عن المدرسة.. عن مستواي في الدراسة.. لا أدري لماذا اقتنع بذكائي وتفوقي.. هذا ما قاله هو.. صرنا أصدقاء.. أصدقاء دون أي أحد.. ولم يعرف أحد بذلك.. ولم يسأل أيضا..

ربما أحببته لأنه لا يحبّ الكلام.. وربما لا أحبّ الكلام أنا لأجله.. لكن صداقتنا كانت قصيرة العمر.. ربما لذلك كانت جميلة.. تمنيت لو كنت أنا ابنه.. ابنه البكر.. ربما لذلك كرهتني أمي.. كرهتني أمي أكثر.. ابنه البكر بعد أمي أيضا كان يكرهني..

لماذا يكره الكبار صبيا لا شأن له بهم.. لقد أخذت منهم أباهم.. هل يغارون لأنه يحبّني.. هل كان ثمة شيء من ورائي لا أعرفه.. لكني جدّي لم يترك لي ارثا.. ترك بيتين، سجل كلا منهما باسم ولديه الأصغر والأوسط.. وأنا أورثني عاداته وآلامه.. كراهة الذين يغتاظون منه..

كان صارما.. قوي الشكيمة.. يقف في وسط السوق.. ويوبخ كل باعة الخضر وأصحاب المحلات.. بسبب امرأة وبخ كل عمّال القطارات.. صوته جهوري.. قسماته حادة.. بشرته بيضاء تميل للاحمرار عندما يسخن.. ليس كبير الحجم جدّي.. أنه في طولي الآن.. ربما أقل.. ليس بدينا.. ولا نحيفا جدّا..

أضع كرسيا وراءه.. أصعد عليه وألف له عمامته حول رأسه، أو أقطع شعيرات أذنه.. آه يا ذلك الرجل.. لكم أحببته وأحبّه حتى الآن.. ربما أورثني أول شعور بالحبّ.. لكن فقدانه ألهب عواطفي نحوه أكثر.. هو كان يرعاني..

رعاني عندما طردتني أمي من البيت.. ولا أدري لماذا مات بسرعة.. كنت أنتظره قرب البنك مرة في الشهر عندما يحضر لاستلام راتبه التقاعدي.. لماذا كنت أنتظره وليس أخي الأكبر.. أبلغه رسالة أمي.. يعطيني مبلغا لأمي.. ولا يسمح لي بمرافقته.. يقول لي أرجع لأمك.. انها تنتظرك..

مرتين فقط رافقني للبيت ولم يدخل.. وقف عند الباب.. مرة واحدة وافق على تناول قدح ماء.. ولكنه لم يدخل تحت سقف أحد من أولاده.. ولا مرّة.. لا يضع رجله على العتبة.. ولا يتأخر بضعة دقائق.. يسأل أو يجيب أو يوصي ويذهب..

عندما يذهب تنفرط أمي في البكاء.. وأنا أدخل في الحجرة.. جدّي لا يسمح لأحد بدعوته أو مرافقته.. الستة أشهر الأخيرة كان أمام عيني كل يوم.. طيلة اليوم.. أفرش كتب المدرسة.. وأجلس أمامه أقرأ وأعمل الواجب.. يراقبني وأرقبه.. كان يذبل مثل شجرة كبيرة.. حتى تضاءل وصار مثل عشبة..

كان والدي طبيبه وخادمه.. يناوله الطعام والدواء.. يأخده للحمام ويبدل ثيابه.. والدي هو صهره.. أما أبناؤه وبناته فكانوا غرباء عنه.. هل أحبّ والدي كما أحبني.. جارنا خزعل المضمد كان يزرقه ابرتين يوميا.. تقلصت إلى أبرة لأنه جسمه لم يعد يحتمل.. ثم ألغيت الأبرة عندما فقد الوعي.. في اليوم الثالث كان صرة عظام..

أنا الوحيد من أحفاده وقفت استلم التعازي مع أحد أخوالي غالبا، ونادرا يكون الجميع حاضرين.. لوحدي حضرت الأيام السبعة قياما وقعودا مع كل قادم ورائح.. أجرع القهوة المرّة كالكبار في جرعة أو جرعتين.. دائما القهوة الساخنة أول طهيها أتناولها أنا في المقدمة..

في ذلك العزاء اكتشفت أن له بنت عم وأبن عم.. لم أعرفهما في حياته ولا ذكرهم أحد لي.. كان لابن عمه بنتان جميلتان رأيتهما مرتين.. تمنيت يومها الارتباط بتلك العائلة.. بنات عمومة أمي.. وعندما مات خالي الأصغر بعد عقد منه.. عرفنا أن لجدّي أخوة في الغربية.. زعلا كثيرا لعدم معرفتهما بموته.. حضروا كل أيام العزاء.. وبعدها انقطع الإتصال أيضا..

بعد موته تعلّقت بجدّتي.. وهي تعلّقت بي أيضا.. وعاشت معنا في نفس البيت حتى ماتت.. هي الأخرى ماتت بقربي.. كنت أقرا في الرياضيات التحليلية.. وهي تقول لي تكلم معي.. اقرأ بصوت لأسمعك.. وفي ذلك المساء ماتت.. كانت الساعة الرابعة بعد الظهر.. لم تكن مريضة.. ولا متعبة.. كانت عمياء فقط.. أرادت أن تغفو القيلولة.. ولم تستيقظ بعدها حتى اليوم..

بي من جدّي وجدّتي أكثر مما من أمي وأبي.. هناك تحت روحي شيء قديم ما يزال ساخنا.. كأنه الان.. ما يزالان أمام عيني.. أعني في داخلي بكلّ طراوة الماضي وجمالية البيت القديم.. ذلك الصمت والصرامة والخوف والنظام .. الذي ينطوي على عاطفة ورعاية وحبّ كبير.. كيف تجرّأت وأنا طفل صغير أن أمسك المقص وأقربه من شحمة أذن جدّي.. أو ألف ذراعي الصغيرة حول رأسه وأنا على الكرسي.. لأن ذراعه لا تطاوعه على لف العمامة من الخلف..

عندما أرى أحدا ما زال أبواه أو أجداده أحياء.. تزيد الغربة داخل روحي.. مايا هي الوحيدة التي قالت لي: لا تتحرك!.. ومرّتين أو ثلاثة.. قطفت شعرات طويلة من جانب أذني اليسرى.. مايا هي الوحيدة التي كانت تحضن كفي بين أصابعها وتدلكها مثل طفل صغير.. بعد ذلك صرت أقول لها: مايا.. أنت نقطة ضعفي!..

ولكنها تزعل حين أقول لها ذلك!..

 

(6)

ليس في حياتي غير النكد.. ليس مطلوبا منك استكمال القراءة.. ليس عندي شيء أقوله.. ماذا لدى المنكود غير النكد.. ومن نكد الدنيا على المرء أن يرى.. كلام نكد.. الأفضل هو السكوت.. اذا تكلمت لا يحتمل الناس سماعك.. هذا ما حدث أول وصولي للنمسا.. أول امرأة عرفتها.. قالت أن لها أصدقاء يودّون التعرف عليّ..

كان من بينهم رسام أكاديمي يقاربني في السنّ.. هو الرجل الوحيد في المجموعة.. عندما أطلعته مرّة على موضوع عن بلدي.. رفع رأسه نحوي بشكل جانبي وقال: لماذا تريدنا أن نعرف هذه القصص البروتالية.. هذا جارح.. أكتب فقط ما عشته.. ومددت يدي أسحب الورقة منه..

حتى اذا لم تتكلم.. حتى اذا سكت.. يفضحك صمتك.. ملامح وجهك وقسماته تقول ما يكفي.. انسان منكود.. ماذا تفعل هنا.. من دعاك الى الحفلة ومن وضعك في هذا المكان.. العالم بحاجة للفرح والمسرات.. بحاجة للكذب والتمثيل.. للنكت والضحكات والنعومة والفرفشة.. العالم تعبان ويحتاج راحة ونعومة.. وأنت تزيد نكد الدنيا.. الاوربيون نسوا كامو وكافكا وسارتر(*) وقصص الحروب والمحارق.. وأنت تعيد أسماءهم لأسماع العالم.. ألا تفهم.. العالم يكفيه ما فيه من نكد.. ابحث لنفسك عن مكان آخر.. فرفش أضحك.. طنش.. لماذا تشيل الدنيا على راسك.. طنش وفرفش.. (انما الدنيا طناجر)*.. دعنا نضحك.. ملعون أبو الدنيا..

أولئك حربهم انتهت.. طووا كوارث الحروب وأدب ما بعد الحرب.. ولكن حربنا ما زالت ساخنة الجراح.. وضحاياها على قيد الحياة.. نحن احترقنا بحروبهم.. وهم لا يريدون أن يعرفوا عن ضحايا حروبهم وآلامنا.. هل يعملون على مسح حروبنا من الكالندر.. أم يمسحون اسم العراق أساسا من الخريطة والتاريخ.. ولا يبقى ما يخدّش مشاعرهم وضمائرهم.. ملحمة جلجامش خرافة.. وما نكتبه ليس غير خرافة.. ملاحم خرافية لذاكرة مريضة في طريقها للزوال..

كثرة الفهم تجلب الهمّ..

حكمة الانسان حماقة..

شخص ذو رأيين لا يصل الى نتيجة..

انسان متذبذب لا يستقرّ على حال..

الانسان ذئب.. ذئب بأنياب شرهة في جلد خروف أو أسد..

واذا لم يقدر أن يكون ذئبا مفترسا، عليه أن يقنع بدور الخروف.. العبد.. الأبله..

فلا مكان في المجتمع لطبقة ثالثة من البشر..

غالب أو مغلوب.. ذئب أو خروف.. فوق أو تحت..

على فكرة.. يوجد حلّ وسط.. تعمل سمسار بين الفوق والتحت..

وهكذا تكسب الطرفين وتستفيد، وتتحرر من هزيمتك..

بغير ذلك ما نفع العقل والفهم..

يا أخي.. العقل والفهم والثقافة والحضارة والعلم في خدمة الانسان وليس العكس..

ما معنى الحكمة.. تضيّع نفسك ووقتك من أجل حكمة..

لا حكمة غير سيدوري*.. كلْ واشربْ واستمتعْ واشبعْ بالجسديات والحسيّات، قبل أن يذوي وينتهي كلّ شيء..

ماذا تفعل امرأة بالحكيم والمثقف.. تنظر الى طوله.. تشبع منه شوف!.. اصحَ..

خلّي عقلك ينفعك..

البصل أيضا رأسه كبير..

المرأة المصرية نظرت للعراقي ضاحكة وقالت.. أنتم تقولون شبير.. وعملت بأصابعها حركة غير جميلة..

الجسد يذوي.. والذاكرة تتوهج..

قبل عشرين سنة اكتشفت أن تضييع العمر من أجل مبدأ أو موقف هو محض حماقة!.. يومها كنت خسرت ثلث عمرك.. كتبت ذلك في مجلة تصدر في هولنده.. واليوم تركت المبدأ وصرت تتحدث عن الحكمة والكرامة.. الشاطر من ينفع ضرسه.. ها لقد عافك الجميع.. لا زوجة ولا أطفال ولا أهل ولا أصدقاء.. ولا حتى صياع الشارع يدنون منك..

عندك (موني) تعال.. مفيش لا تضيع وقتي..

جاي تنيك ولا تتفلسف.. خلصنا!..

خللي عقلك ينفعك..

خذ لك فرد كلب.. حيوان صغير.. واقعد تكلم معو.. شكلك صعب!..

ذهبت الى دائرة البلدية فأحالتني الى جمعية رعاية أو تجارة الحيوانات الأليفة.. هناك نظروا إلي مليّا وتركوني أنتظر ساعات وساعات.. ثم أعطتني إحداهن ملف داخل مظروف وقالت: اقرأ التعليمات!.. واذا توفرت فيك الشروط إتصل بنا لتحديد موعد، واجلب معك كل المستمسكات الأصلية في المقابلة.. وبالمناسبة.. هل تحبّ الحيوانات؟..

تحدّثنا في موضوعات كثيرة.. قلت كلاما لم يكن في خاطري.. وشعرت لأول مرّة أن هذه الأفكار لا بدّ لها أن تخرج.. ولا تموت في داخلي..

ــــــــــــــــــ

  • فرانتز كافكا [1883- 1924م]، البير كامو[1913- 1960م]، جان بول سارتر [1905- 1980م]، من أدباء الوجودية وتيار العبث في الأدب الأوربي.
  • أصل البيت: (اترك الدنيا وهاجر.. انما الدنيا طناجر) للشاعر اللبناني سعيد عقل[1911- 2014م].
  • سيدوري: هي المرأة صاحبة الحانة في ملحمة جلجامش، وهي تمنح جلجامش الباحث عن الخلود تلك الحكمة!.

 

(7)

أمي تغني لوحدها في البيت.. أغانيها حزينة مبللة بالدموع.. والدي يبتسم عندما يسمع غناءها وهو يدخل البيت خلسة.. لم تكن أمي تغني أمام والدي.. وعندما يفاتحها بالموضوع تنكر بشدّة.. تتهمه أنه يفتري عليها.. ثم تقول له معاتبة.. هل تركت في قلبي مكانا للفرح لأغني.. وكنت أنا أستمع إليها وأسألها عن معنى الأغنية .. فتتهرب قائلة: هي أغنية وبس.. هكذا يقولونها.. ليس لها معنى..

ما زلت أحفظ كثيرا من أغانيها التركية.. يسمّونها خوريات*.. تشعر أمي بالراحة عندما تنشد تلك الخوريات التي تعلّمتها من هسين الراعي الذي كان يجلس على (تيغه)*.. وينشد غربته ويستدعي أهله البعيدين.. وهي عموما تتحدث عن لواعج الحنين وعذابات الغربة..

أمي هي التي حدّثتني عن الراعي وأغانيه وغربته.. وقد نشأ معا في ذلك البيت.. وعندما اختفى.. بقي خياله وصوته يعيش معها.. تستحضره هي الأخرى للهروب من مرارة الواقع.. تلك المرارات الداخلية التي لا يجد المرء أحدا يبثه أياها، أو يخفف عنه لواعجها.. بل يخشى افشاء أسرارها في مجتمع بوليسي يتصيد التهمة والفضيحة.. لذلك تحاول ابعادي خارج البيت لتنفرد ببث لوعجها..

أمسك ورقة وقلما وألاحق تسجيل كلمات الأغنية حسب تكراراتها وحروفها الزائدة.. وأحاول تجربتها لوحدي.. ورغم كوني قليل الكلام والاختلاط يومها.. إلا أنني تعلّمت الغناء التركي من أمي.. ثم تعلّمت أغنيات حديثة لمطربي التركمان في العراق ومنهم اكرم توزلو (*)..

لم اعرف أن والدي وشى بي بين أصدقائه.. ومنهم بعض المعلمين في المدرسة.. ذلك أننا في امتحان النشيد في الصف الثاني، طلب مني المعلم حسيب أن أغني له أغنية تركمانية.. وهو من أقارب الأسرة.. فأنكرت معرفتي بالغناء.. وألحّ علي..

وعندما فشلت محاولاته قال لي مقسما: أنه سيضع لي صفرا في النتيجة إذا لم أغنِ له بالتركمانية.. وسيفرض علي أن أعيد السنة كلّها.. فرضخت وأنشدت بخجل مقطعا عن عصافير تطير في المطر وتسقط على الأرض..

ياغمور يغر.. يير ياش اولر..

قوشلر اوتشر.. سرخوش أولر..

ذلك هو حال السكران العاشق مثل شارب الخمر.. فانتعش الاستاذ حسيب وهذا هو اسمه.. وأعطاني درجة كاملة.. لكنه طلب مني اكمال الاغنية.. ومن يومها.. انفتح لساني أمام الناس..

والدي كان موظفا عند الحكومة.. وكذلك خالي.. وخالي الآخر كان في الجامعة في بغداد.. والبقية كانوا تلاميذ في المدرسة.. يحلمون بوظيفة الحكومة.. مثلي أنا أنا..

كلّ الأطفال سمعوا باسم (جالولا)* من كتب التاريخ في المدرسة.. حيث وقعت معركة بهذا الاسم بقيادة القعقاع ابن عمرو التميمي.. قال جدّي أن جثث القتلى غطت الأرض.. والبقية انهزموا.. لذلك سمّوها: (جلّى/ جلّو).. لم أقل له أن (جالولا) تقع على ضفاف السند.. ومثلها اليوم على الأتلانتك.. لكن الغزاة لم يجلوا عن المدينة.. وهذا معنى اسمها الذي يتكون جملة سؤال وجواب نفي:[جلوا؟.. لاء!].. ما يزال الناس يتدفقون على المدينة من الشرق.. كما كانوا منذ أيام سومر وبابل.. لا تمنعهم جبال ولا ثلوج.. ولا.... وضع ضابط الجوازات الباكستاني في مطار فرانكفورت.. اصبعه على تلك الكلمة وسألني:

  • ما هذه؟
  • جالولا..
  • ما هي
  • مكان ولادتي.. تاون صغيرة
  • اين تقع؟..
  • في ارض النهرين!

ابتسم.. وانا ابتسمت ايضا.. عرفت انه يعني مدينة بنفس الاسم في بلده!.. ناولني الجواز بحفاوة خاصة.. متقدما اصحاب الحفاوة في التقدم نحو طائرة لوفتهانزا.. مشيعا بنظراته عن بعد..

أهل المدينة بسطاء.. كادحون.. وجوههم كالحة.. أيديهم يابسة وبطونهم كشحاء.. ظهورهم منحنية من تسلق الجبال.. لا يعرفون القعقاع ولا يحبّون المعارك.. يتحدثون أكثر من لغة.. لكنهم بالكاد يعرفون العربية.. العربية كانت في المدرسة ومراجعة دوائر الحكومة.. الكتب والسجلات والمجلات كانت بالعربية.. أما الموظفون والشرطة فيتحدثون التركمانية.. تعلّمنا العربية في المدرسة.. وصرنا نعرف ما لا يعرفه أهلنا.

الأذان أيضا بالعربية والصلاة.. كيف كانوا يصلون إذن.. في الجامع الخطبة ليست بالعربية والمحادثات بين الناس بلغات أخرى.. انتظر جدّي ريثما ينتهي من صلاته.. يلتفت لي ويقول.. اسبقني.. سألحق بك..

الحياة في المدينة كانت رتيبة.. لا يوجد فيها شيء جديد.. وأي حدث.. عرس أو زيارة أو جنازة أو مشاجرة تعتبر حدثا سعيدا.. يستغرق الناس فيه كلّ النهار.. ثم يردّدونه اسبوعا حتى تعود الرتابة.. وعندما لا يحدث شيء يختلقون مناسبة وينشغلون بانتظارها..

من تلك المناسبات.. انتظار زيارة عدنان القيسي بطل المصارعة العالمي للمدينة.. انتظرناه أكثر من شهر.. عرفنا كلّ أخباره وسيرته وجمعنا كلّ صوره.. وتحلقنا حول التلفزيون أماسي طويلة لنحفظ ملامحه ونمتدح عضلاته القوية، وصورة ذراعه المشهورة بضربة (العكسية)*.. وأخيرا جاء..

لا أدري بعد كم من الانتظار.. وأنا لم أره.. قيل أنه جاء.. وانشغل به أهل المدينة كيف جاء وكيف عاد.. قيل أنه مرّ بالشارع الرئيسي الذي يمرّ على جانب المدينة ولا يمرّ وسطها.. قيل أنه كان ضخما وعظيم الجثة.. وكان واقفا كالتمثال في حوض السيارة الخلفي.. وهو يحيّي الجماهير على جانبي الشارع.. لأنه لا يستطيع دخول السيارة لعظمته..

وكان العيد بالنسبة لنا مناسبة محبّبة.. حيث تتعطل المدارس ونرتدي ثيابا جديدة ونحصل على النقود والطعام الجيد ونذهب إلى التسلية.. كنا ننتظر العيد قبل شهر أو أكثر.. وترتبط كلّ الأشياء بالعيد.. علينا أن ننام مبكرا لكي يرضى علينا العيد.. علينا طاعة أهلينا لكي لا يزعل العيد.. علينا عدم المساس بثيابنا الجديدة حتى يأتي يوم العيد بلا تأخير.. وهكذا جعلنا من العيد شخصا ننتظره ونطيعه ونخاف منه لكي لا يزعل ويتأخر أو يذهب إلى مدينة أخرى ويحرمنا من رؤيته هذا العام..

وعندما انتشرت أخبار (أبو طبر)* الذي يدخل البيوت في الليل دون أن يكسر الباب ويقتل أفراد العائلة دون أن يسرق شيئا أو يترك أثرا على جريمته، وأحيانا يأخذ كنزا عزيزا من البيت يعرف مكانه وأهل البيت نيام لا يعرفون.. وقصص كثيرة عنه مثل السوالف والخرافات التي يتبادلها الناس بالهمس ووجوههم يابسة صفراء من الخوف..

صرنا ننتظر وصوله إلى مدينتنا.. قيل أن أبو طبر مثل العيد يتقدم مدينة مدينة.. والبعض قال أنه وصل شهربان.. أو شخصا رأى خيالا غريبا عند جبال (تلي عباس)*.. وهكذا ينسحب الناس ويختفون داخل جلودهم بعد صلاة العصر.. وتقفل الأسواق مبكرا.. والمحلات تخلو من الأطفال ويخيم السكون فلا تكاد تسمع نأمة.. وكان السكون المطبق وقت المساء، يبعث من الرعب أكثر من حالة الخوف أو الكارثة عندما تقع..

صار بعض الناس يصرح بمعلومات جديدة مفادها أن عصابة ابو طبر يأتون قبل نزول الليل، وينتظرون متربصين في مكان ما يراقبون منه الناس، ليختاروا البيت الذي يقصدونه في الليل.. ومن الأفضل أن يعود الناس مبكرين لبيوتهم ويناموا مبكرين.. ويمكنهم عمل حراسات.. أو الأفضل التظاهر بالنوم.. لكي لا يتعرضوا للقتل.. فجرائم ابو طبر غريبة وقد لا يكون فيها قتل أو سرقة..

انتظار أبو طبر كان أطول المناسبات التي عاشتها المدينة.. وأخيرا أشيع أن المدعو ابو طبر غيّر برنامجه وصار ينفذ جرائمه في وضح النهار.. في الصباح أو الظهيرة أو قبل المساء.. وهكذا سادت حالة من الهدوء والنظام المطبق في المدينة..

الناس يقومون بأعمالهم وهم يتلفتون أو يسرعون مطأطئين رؤوسهم.. وقلّ الكلام، وحتى التحيات بينهم تتم بحركات سريعة بالأيدي دون اخراج صوت.. كأن أبو طبر نوع من الجنّ الذي يختفي داخل الزمن ويتحفز بالصوت والحركة..

الوديان والأماكن المظلمة والأبنية المهجورة، وعربات القطار النائمة في المحطة، كلّها صارت أمكنة موبوءة واحتمالات مفتوحة لخروج جنّ أبو طبر منها في أي لحظة.. نذهب للمدرسة زرافات زرافات مسرعين.. ركضة واحدة من باب البيت لباب المدرسة وبالعكس..

لا نتأخر لوقوع قلم أو كتاب.. وكلّ فرد يخشى على نفسه.. انقطع اللعب والحركة في تلك الأيام.. صارت الأضوية تبقى مضاءة طيلة الليل وكذلك يترك الناس أضوية الببوت مضاءة في ردهة البيت أو الحجرة الخارجية، ليعرف الضيف أن أهل البيت في بيوتهم يشاهدون الأفلام، أو يقرأون الكتب التي تبعد عنهم السوء والفأل السيء..

ــــــــــــــــــ

  • (خوريات): نوع من الشعر الغنائي التركي على غرار (أبوذيه): أو رباعية، يتكون من ثلاثة اشطر بقافية موحدة وقفلة بقافية مفتوحة. ونسبة إليها حمل بعض شعراء الشام لقب (الخوري)، تجوزا من نظم (الزجل). وهذا النظم موجود في كثير من اللغات بما فيها الأوربية، كالألمانية والانجليزية ويقال لها: (Lyrik) بالألمانية، و (rymen) بالانجليزية.
  • التركمانية: (لغة) تتحدث بها قبائل المغول الذين منهم جنكيز خان وتيمورلنك الذين اجتاحوا بغداد والشام في أواسط القرن الثالث عشر، واستقرت جماعات كبيرة منهم في المنطقة. وأصلهم من أواسط أسيا شرقي الصين، ويوصفون ببدو السهوب، مهنتهم الرعي والغزو، اشتهروا بخيلهم القصيرة الأرجل، والفروسية والتنظيم الدقيق، وفنون قتالية مميزة، يبنون بيوتهم من الجلود بشكل خيام دائرية متعددة الأوتاد، خلاف الخيمة العربية الي اعتمدت أساسا للخيمة الحديثة المعتمدة في الجيوش ذات الوتد الواحد أو الوتدين. وقد سيطروا لقرنين من الزمان على الصين وتكونت منهم سلسلة أباطرة، والحدّ من هجماتهم كان الدافع لبناء سور الصين العظيم. ولكنهم أقل مستوى حضاريا من أهل الصين وفي كتاب (تاريخ البشرية) لتوينبي [1889- 1975م] تفاصيل وافية عنهم. والتركمانية من اللغات المقطعية، أكثر تطورا موسيقيا من ناحية الايقاع اللفظي من اللغة الصينية، ولها لهجات كثيرة ومتنوعة بحسب قبائل المغول الكثيرة، التي توزعت انحاء العالم بما فيها أوربا الغربية خلال موجات الهجرة الثلاثة من مواطنها غربا وجنوبا وشمالا حسب تصنيف توينبي. وهي لغة العثمانيين سكان الاناضول الذين ورثوا امبراطورية بيزنطه في شرق أوربا والامبراطورية العباسية في بغداد. وهي الأصل الأم التي تطورت منها اللغة التركية الحديثة في باكورة الجمهورية التركية ضمن مشروع كمال مصطفى اتاتورك [1881- 1938م] لتحديث تركيا. وينتشر التركمان بلغتهم وثقافتهم اليوم فضلا عن الجمهوريات الخمسة في وسط أسيا، في كل من ايران والعراق والشام وألبانيا ومقدونيا، ومصر خلال حكم اسرة محمد علي باشا [1805- 1952م].
  • اكرم جعفر توزلو [1933- ] شاعر ومغني تركماني عراقي، من مواليد توزخاورماتو/ محلة أورتا، معلم على الملاك الابتدائي. كان يساعد والده محل لأعمال النجارة والزخرفة لصناعة الأبواب والأثاث. وعندما توفي والده عام (1949م) خلفه في ادارة المحل، وفي عام (1954م) افتتح محلا خاصا به في مدينة دربندخان، وبقي هناك لعشرين عاما. عرف بحسه وحماسه الوطني، طاردته الحكومات العراقية الملكية والجمهورية منذ الخمسينيات، دون أن يتناول عن موقفه وانتمائه ولغته، وفي ذلك يقول في رباعية من العام (1954م): [بن بو ديلدن واز كيجمه م/ كيسلجه م ديلم ديلم/ لن أترك هذا اللسان حتى لو تم تقطيعي إلى ألسنة!]. في عام 1986م حكم عليه عواد البندر في محكمة الثورة بالسجن المؤبد/(عشرين عاما). يعتبر اكرم توزلو عميد الغناء التركماني في القرن العشرين، من مجددي الأغنية العراقية والفلكلور التركماني، وثمة تشابه كبير بين رباعياته وألحانه والحان ناصر حكيم وداخل حسن. ورغم المنع الرسمي لأغانيه، فقد انتشرت بين السكان عن طريق الكاسيت، وشكلت وسيلة اعتزاز التركمان بهوياتهم، فضلا عن ترجمة الالام الفردية ولوعة العشق والفقدان.
  • (تيغه): مفردة عامية عراقية معناها حائط قصير أو سياج مبني من اللبن/(clay): وهو الطين المشوي بالشمس، أو (الطابوق) الطين المفخور بالفرن.
  • (المعلم حسيب): هو شقيق كل من [مالك، نجيب] وهم ثلاثة أخوة لأبوين من أصل تركماني، من أهالي مدينة الوجيهية من اعمال محافظة ديالى، على مسافة نصف ساعة من بعقوبة مركز المحافظة، ونرتبط بم بصلة وزيارات عائلية. كان حسيب معلما للموسيقى والنشيد، وهو من الشباب الماركسيين يومذاك، التقيته ثانية في مدينة جالولا بداية السعينيات، وقد أعدم لاحقا.
  • مدينة عراقية في اعالي حوض نهر ديالى ويدعى أيضا نهر جلولاء، شرقي دجلة شمال شرقي بغداد. جرت فيها أحداث معركة بنفس الأسم بقيادة القعقاع بن عمرو التميمي في تاريخ معارك الفتح الاسلامي.
  • (العكسية): نسبة لمرفق الذراع بالعامية العراقية، وهي حركة اشتهر بها المصارع المذكور وهو أمريكي من أصل عراقي، وله قرابة عائلية بالمعلق الرياضي المعروف مؤيد البدري، الذي كان وراء تنظيم دعوته للعراق مع فريق المصارعة الأمريكي أوائل السبعينيات.
  • (أبو طبر): (طبر) سكين عريضة قصيرة يستخدمها جزار اللحوم لتقطيع العظام، اشتهرت هذه الكنية في النصف الأول من سبعينيات العراق في القران العشرين، حول جرائم سرية ذات أجواء غرائبية حدثت باستخدام تلك الآلة، وكان التلفزيون العراقي ينقل أخبار تلك الجرائم في أفلام مصورة عن ماقع الجريمة الحية، وكان الفاعل مجهولا ولا يترك أثرا. وهو نوع من الجرائم الذكية وأول في مستواها يومها، فانتشرت حالة من الرعب في انحاء العراق، وسيما المناطق المحيطة بالعاصمة. وبعد حوالي عامين، بدأ خيوط تتجمع من خلال رصد سيارات مخطوفة يعثر عليها في مناطق متفرقة، اشيع ان المجرم يستبدل أكثر من سيارة في حركته. وفي أواسط السعبنيات أذاع التلفزيون العراقي عن نبأ هام سوف يتم زفه للمواطنين، وكان ذلك خبر القاء القبض على عصابة الجريمة المعروفة بأبي طبر، واعتبر ذلك حسب لغة البيان، أنتصارا تاريخيا لقوى الامن والشرطة العراقية التي تتبعت خيوط الأحداث التي أوصلتها لوكر الجريمة. والوكر هو بيت يقع في حي البياع شمالي بغداد، تسكنه عائلة عراقية تتكون من أب كان يعمل مفوض أمن [اسمه حاتم كاظم الهضم من اهالي المسيب/ بابل/1932- 1976م] مع زوجته وبناتهم. واعتبرت زوجته شريكة له في جرائمه. وبحسب البيان تلقى المفوض المفصول من وظيفته عدة دورات أمنية في ألمانيا حول الطرق الحديثة في كشف الجرائم. ومعظم ضحايا تلك الجرائم كانوا من كبار الأطباء والشخصيات الأكاديمية الرفيعة في مجتمع بغداد انذاك.
  • تلي عباس أو (دلي عباس) كما يلفظها العامة.. الاسم القديم لمدينة الخالص من أعمال ديالى شمالي بغداد على الطريق إلى كركوك، عاصمة تركمان العراق. والتصحيف بين التاء والدال وارد في العامية العراقية، علما ان (دللي) مفردة تركمانية معناها (مختل العقل/ مجنون). أما التل: فهو مقطع صوتيVorsilbe/prefix)، تدخل في بعض أسماء المواقع القديمة ومنها تل كيف وتل عفر وتل محمد.

 

(8)

خالي الأوسط لا يعيش معنا في البيت. أنه يدرس في الجامعة في بغداد، ويأتي للبيت للزيارة فقط. حجرته هي الأولى قرب البوابة الخارجية في الدهيلز، في قاع حجرته خزانة كبيرة ملأى بالكتب مختلفة الأحجام والألوان.. لكن الكتب الجديدة والمجلات لا مكان لها في الخزانة، تتجمع على الطاولة المنخفضة في وسط الحجرة. وعلى الدوام توجد كتب متناثرة على الأرض ومنزوية تحت السرير.. وبين أرجل الكراسي القليلة المخصصة لضيوفه.. عندما أحاول رفع الكتب عن الأرض أو توضيبها يمنعني بشدّة.. ويطلب مني مغادرة الحجرة..

الكتب هي كلّ شيء في حياة خالي وأغلى ما لديه.. انها امتيازه الكبير الذي يفصل ما بينه وبين المحيطين به، ويربطه بعالم آخر لا نراه.. عندما يغادر.. يغلق عليها بالمفتاح، ليس الخزانة، انما الحجرة كلها.. باب حجرته من الحديد ذي الطلاء الأزرق، ولحجرته نافدة حديدية مغلقة دائما ومسدولة الستائر.. تلك هي الحجرة الوحيدة التي لا تكاد حتى الشمس تستطيع دخولها براحتها. عندما يأتي من بغداد يحمل معه بعض الكتب، وعندما يغادر يتركها في الحجرة التي فاضت خزانتها وطاولتها وصارت تندلق على الأرض.

جدّتي تقول أنها كتب الدراسة.. وأنا أقول أن كتب الجامعة لا تكون كثيرة هكذا.. لو كانت الكتب كثيرة لهذا الحدّ في الجامعة لما ذهب أحد اليها يا جدتي.. اعتقدت أنني سأفحمها بهدا المنطق، لكنها ردّت بكل برود..

  • ومن يذهب إليها غير خالك.. لا أحد في الجامعة غيره.. كل زملائه أكملوا دراستهم وحصلوا على وظائف.. وحده خالك يدرس في بغداد من سنوات ولا يكمل دراسته..
  • خالي يعيش في بغداد يا جدّتي..
  • أعرف أنه يعيش هناك ليدرس.. دراسته صعبة ومن الأفضل أن لا تفعل مثله..
  • الدراسة ليست صعبة يا جدّتي.. الدراسة حلوة..
  • أنت تقول هذا لأنك شاطر..
  • خالي أيضا شاطر.. أنه شاطر كثيرا ويعرف كلّ شيء..
  • لو فقط يتزوج ويجد له وظيفة!..

تلك الحجرة الموصدة بالقفل دائما.. الحجرة الوحيدة الممنوع عليّ دخولها.. كانت مثار فضولي الأكبر.. وفكّ ألغازها كان هدف حياتي يومها.. من هناك تكونت شهيتي في قراءة الكتب.. كتب صعبة لا أفهمها ولكني رغم ذلك أواصل قراءتها حتى الغلاف الأخير..

القراءة بالنسبة لي لم تكن تعني الفهم.. انما تفحص الكلمات والعبارات وأسرار كلّ صفحة.. هناك قرأت خليل مطران وتوما الخوري وكارل ماركس .. جدتي لا تعرف أن ابنها ماركسي ويعمل في بغداد أشياء لا يستطيع عملها هنا.. جدّي لم يكن راضيا عن أحدهم.. وأنا كنت أعجب بما أقرأه.. خفية عن الجميع..

خالي يلبس ثياب الأفندية.. في داخل المنزل يرتدي البيجاما.. هو الوحيد الذي يرتدي بيجاما مثل البنطال داخل البيت.. ربما تعلم ذلك من عوائل موظفي السكك.. نحن كنا نرتدي دشاديش مقلمة ذكورا وإناثا.. لا نخلعها إلا عند الذهاب للمدرسة.. خالي اختلف عنا ولم يشبه أحدنا.. خالي إسطورة!.

 

(9)

همزة الوصل بين (الآن) و(الآن) القديم قبل أربعين عاما، هي الرقم ثمانية. الثامنة صباحا والثامنة مساء.. اليوم الثامن في الاسبوع والثامن والعشرون من الشهر والعام الثمانون والثمانية والثمانون.. وما أدراك ما الثمانون وملحقاتها..

لم أرغب في دراسة الاقتصاد ولا نظرياته وتطبيقاته الاشتراكية والعربية.. الاقتصاد درس مشوّه لا هو من الانسانيات التي تعتمد على الشرح والوصف، ولا من العلميات.. رغم أن الرياضيات والمعادلات والنسب والحسابات تحتل معظمه.

في الاقتصاد تعلّمت الرياضيات الحديثة باللغة الانجليزية وحسابات المالية العامة التي كان مدرسها يقيم نتائج الامتحانات ثمانية تحت الصفر.. في البدء أعتقدنا أنه سهو، باعتبار أننا أذكى من الاستاذ.. لكننا اكتشفنا نفس السهو على أكثر الأوراق.. وأفضلنا كان تحصيله واحد تحت الصفر. كلنا كنا تحت الصفر.. رغم أن حرارة الجو تتعدى الثمانية والخمسين في ساعة الزوال..

في الرقم ثمانية حدثت كلّ هزائمنا ومعاركنا الخائبة.. فيه سقطت بغداد بيد المغول القدماء.. وفيه دخل المغول الجدد بغداد.. في الرقم ثمانية حدثت أول حروبنا في القدس، وفي عقده كانت حرب الأغبياء التي كان لي شرف المشاركة فيها.. وفي اليوم الثامن من الشهر الثامن من العام الثامن من العقد الثامن، ولكن ليس من القرن الثامن وقبل بلوغ الألفية الثامنة.. شرب خامون كأس سقراط مفضلا نهاية حياته على نهاية الحرب.

في الشهر الثامن من العقد الثامن اجتاح شامير جنوبي لبنان* وانتحر صديقي الشاعر خليل حاوي، ويومها حصل حصار بيوت برا وبحر وجوّا، وحوصرت المقاومة الثورية، واضطرارها للخروج إلى برّ تونس.. ويومها كتب محمود درويش* مرثية الظل العالي.. [هي هجرة أخرى.. فلا تكتب وصيتك الأخيرة والسلاما.. سقط السقوط وأنت تعلو.. فكرة ويدا و.. شاما.. ويقول أيضا: وحدي. أراود نفسي الثكلى فتأبى أن تساعدني على نفسي، ووحدي كنت وحدي، عندما قاومت وحدي، وحدة الروح الأخيرة!].

و.. وفي العام الثامن والثمانين وافقت منظمة فتح على قرارات عصبة الأمم الامبريالية حول فلسطين، وفي الشهر الثامن بعد عامين ولدت الحرب حربا كان لي شرف المشاركة فيها أيضا.. وكلّ ذلك بفضل شهادتي الجامعية، وازدراء أختي لمهنة التعليم.

لمناسبة الرقم الثامن قبل ثلاثين عاما.. أعلنت قصيدتي الثانية للملأ.. وعندما جرى تصنيف الشعراء حسب العقود، وجدت اسمي في عقد الثمانينات.. قصيدتي الأولى كانت في رثاء شقيقتي التي لم أرها، [إلى شقيقتي (وديعة) التي غمرت طفولتي بالحبّ والجمال.. وأفعمت صباي بالأنغام والرؤى.. ورافقت شبابي بالعزيمة والاختبار.. الى الحياة التي ما انفلتت من دائرة الجسد الضيقة.. واحتجبت عن عيني.. حتى تسربت كالحلم الى أعماقي.. وأصبحت كالطفل، ملازمة لنفسي.. عندما كنا نسير معا.. في عالم من أثير.. وملء نفسينا اكتفاء وجمال ومحبة.. وأول ألم أحسسنا به.. عندما ألقت بنا الأقدار في هذا العالم.. حيث تبتدئ تعاسة الانسان في الرّحم.. وتنتهي في القبر.. وهكذا يا أختاه.. ابتدأت طفولتنا بين الخمائل.. وكانت طفولتنا مفعمة بالغبطة والحبّ الساذج.. وذلك لأنها كانت قريبة العهد.. من ذلك العالم الروحي الذي يدعونه خلودا..]*..

وقصيدتي الثانية كانت في رثاء أخي الذي ذهب للحرب ولم يعد.. وقصيدتي الثالثة والثلاثون لابدّ ستكون في رثاء نفسي.. لكلّ ثمانية مناسبة.. والنجمة السومرية كان لها ثمانية رؤوس.. لذلك لازم النحس سومر حتى قرضهم من الوجود، وصاروا عبرة وذكرى لمن لا يعتبر.. (مثلي).

في الرقم ثمانية وقفت على باب الخوارزمي ورفضتني ثانويات بغداد لعدم ارتيادي الرياضيات الحديثة.. فعطف عليّ ابن رشد وقبلني في مدرسته(*).. مجرد استراحة أو هدنة محارب أو ربما خداع بصري.. فللفور بعد مدرسة ابن رشد وقعت في دراسة الاقتصاد ولحقتني عقدة الرياضيات الحديثة في الجامعة وباللغة الانجليزية هذه المرّة.. رضخت للاقتصاد الرياضي والاحصاء الرياضي والرياضيات المالية وأنا طفران من اسم الاقتصاد.. الاقتصاد عندي هو الاقتصاد المنزلي لا غير.. وماركس* عندي شاعر رومانسي وناثر اجتماعي كلامه حلو.. كان يمكن أن يكون روائيا وأديبا كبيرا، لكنه باع روحه للسياسة التي ما وراها غير النكد ولا يفوز فيها غير الأكروبات.. لكن أحلى ما فيه خصلاته البيض في شعره الأسود.. لأنني أنا أيضا ولدت وفي مقدمة شعري الأسود خصلات بيض.. كانت دالتي بين الناس.. وكذلك كان شعر خالي الذي أورثني لعنة الاقتصاد والكتب.. (ليل يصيح بجانبه نهار).. وكلما كبرت زاد البياض حتى اختفى السواد من رأسي، ونزل على نسيج ثيابي وحياتي، وأنا في عزّ شبابي.. كلّ من يراني يقول لي: (أشنو هاي.. والله انك لسّه زغير.. اصبغ اصبغ.. عندي صبغة مليحة أنا اطرشهه لك!)..

أحاول تجميع كل مشتقات الرقم ثمانية ومضاعفاتها.. وقراءة نحسها السومري على نسيج حياتي لعلّي أنتهي منها قبل العقد الثامن.. فمعدل عمر الانسان هذه الأيام والعياذ بالله.. تجاوز التسعين ويقارب المائة.. (لذة فكَر).. زيادة في النكد والفواتير ومن حظ الرأسمالية.. لو كانت الحياة حلوة وبسيطة.. لبقي الناس يموتون قبل الشيخوخة..

ــــــــــــــــــــــــــ

  • (6 يونيو 1982م) حصل اجتياح الجيش الاسرائيلي لجنوب لبنان، واستمر عمليا حتى (31 مايو 1985م)، وكان من نتائجه ابعاد المقاتلين الفلسطينيين الى تونس تحت ضغوط دولية.
  • اسحق شامير [1915- 2012م] سياسي وعسكري في دولة اسرائيل، قائد الاجتياح الاسرائيلي في لبنان [1982- 1985م].
  • خليل حاوي [31 ديسمبر 1919- 6 يونيو 1982م] شاعر لبناني بارز في القرن العشرين.
  • محمود درويش [1941- 2008م] ابرز شاعر فلسطيني في القرن العشرين، ارخت حياته وقصائده لحركة النضال الفلسطيني ضد المشروع الصهيوني الكولونيالي الامبريالي.
  • وديع رشيد الخوري [1898- 1977م] - ص58- 59 - هكذا عرفتهم - جعفر الخليلي- ج7- وزارة الثقافة الاردنية- 1993م).
  • اعدادية ابن رشد في بغداد الجديدة. ابن رشد فيلسوف عربي أندلسي [1126- 1198م] يعتبر آخر فلاسفة العرب، نقل توما الأكويني [1225- 1274م] كتبه للاتينية ومنها تم استخلاص فلسفة الاغريق وتداولها في عصر النهضة.
  • كارل ماركس [1818- 1883م] مفكر اقتصادي وفيلسوف الماني، يعتبر منظر الاقتصاد السياسي الحديث ومن اعلام علم الاجتماع السياسي. الاب الروحي للاشتراكية العلمية، ووكان له دور رئيس في شق الفكر الغربي الى [راسمالي واشتراكي]، والمجتمع الغربي الى اقلوية مالكة متحكمة واغلبية شعبية غير مالكة/(بروليتاريا). وهو أول من استخدم ديالكتيكه في انتهاء التطور الاقتصادي الصناعي الى سيادة البروليتاريا/(القوة المحركة للتاريخ)، وبدء مرحلة جديدة في التاريخ الانساني تنعدم فيها الملكية والتفاوت والبرقراطية وتسودها مبادئ المساواة والتعاون والمؤاخاة، اي ان الانسان/ المجتمع ييديرون ويحكمون انفسهم بأنفسهم، خارج الاطر التقليدية والمحدثة للحكم والبيرقراطية وتحكم الاقوياء والاغنياء بالضعفاء والفقراء. وما تزال طروحات ماركس وما بعد الماركسية الامل الوحيد لمستقبل الانسان والنبل الانساني غير المادي.

 

 

(10)

عندما أفكر الآن في طفولتي.. أبحث عن خيط من خيوط العائلة.. فأنا أنوء تحت أثقال الماضي.. أشعر بأغلاله تحاصرني من داخل وخارج.. تحاصر طرقي ورغباتي وتستبدّ بعاطفتي.. لكني لا أجد ما يسندني فيه.. يسند روحي أو كياني..

ولأني لم أعرف عائلة أبي.. فقد بقيت عائلة والدتي هي التاريخ الوحيد الذي أفكك رموزه.. لكن علاقتي ببيت الجدّ كانت شخصية ونفسيّة تخصّني وحدي.. عايشتها لمفردي.. وأحسست بتفاصيلها دون غيري.. فعلت ذلك رغما عن الجميع.. رغم عن والدتي ووالدي.. ورغما عن الآخرين..

في سنوات المدرسة الأولى.. حيث نتعلم فيها لغة مختلفة عن لغة البيت والعائلة.. ونتعلم ثقافة وتاريخا لا نرتبط به أو يرتبط بأسلافنا حقا.. كانت شخصية جدّي دالة تاريخنا الحقيقي.. التاريخ المرتبط بعائلتنا وتكويننا النفسي والفكري..

لقب (خالدي) الملحق باسمه، كانت أمي تنسبه لخالد ابن الوليد ابن المغيرة المخزومي(*).. وكان جدّي يتحدث باعتداد عن معركة (جالولا) كما لو كان شاهد عيانها.. ومنذ أربعة عشر قرنا يقيم جدّي هنا.. يراقب السفوح الغربية لمرتفعات زاكروس العالية جدّا حتى تكاد تحجب الشمس أحيانا..

وادي العوسج ينحدر مباشرة من وديان زاكروس العميقة.. تتجمع مياهه من ذوبان الثلوج مع ارتفاع سخونة الشمس في أول الربيع.. بداية العام القمري.. كان لابدّ من نثر البذور في أواخر الخريف.. قبل فصل الشتاء.. ليشتدّ الانبات قبل مجيء الأمطار العنيفة.. وقبل موسم السيول الربيعية..

لكن خالد ابن الوليد لم يستأثر باهتمامي.. لم تناسب سيرته عواطفي.. طريقة موته على فراشه مغدورا تنتقص من صيت بطولاته.. كما أن كتب المدرسة لم تتضمن صورة له تقربه من ذهني.. لذلك وجدت ضالتي في صورة صلاح الدين الأيوبي.. رغم أنه لا يدخل في تاريخ مدينتي فعلا..

على حيطان بيتنا القديم.. على سطوح الاسمنت.. وفي صفحات الدفاتر والكتب المدرسية.. انتشرت صورته البطولية كما لو كان يعيش معي.. كنت أرسمه خلال دقائق قليلة.. أبدأ بكوفية الرأس.. أضع كمثرى التاج في وسط جبهته.. بين الحاجبين.. أجمل ما فيه الكوفية والتاج ونظرة عينيه..

لم أقل لجدّي عن صلاح الدين.. ولم يسألني.. لكنه ربما لحظ صوره في كل مكان أكون فيه.. صور كبيرة على سطح الأرض.. سوف تبهت في الشمس أو تمسحها مزنة.. ربما تغسلها جدّتي وهي ترشّ الحديقة بمياه الإسالة.. وكنت أعاود رسمها مرّة بعد مرّة.. حتى تركنا تلك المدينة..

هل كان خالد ابن الوليد عنيدا.. نعم كان صارما.. جدّي كان كذلك.. لكنه كان عنيدا.. ربما متمردا أيضا.. ذلك التمرد الذي ورثناه جميعا.. أو سرى في نسغ عروقا رغما عنا.. لم يكن فينا اثنان يتفقان في رأي.. لابدّ من خلاف واختلاف.. اختلاف في شخص القائل وليس في القول أو الفكرة..

الايجاب عند الكلام دالة خضوع.. خضوع السامع للمتكلم.. لذلك يكون الخلاف دالة الحصانة والاناركية.. ولأجل الاختلاف لا بدّ من نثر الشكّ وادعاء عدم القناعة.. الاجتهاد في الجدل لتغيير الفكرة وحرفها عن سياقها.. أو فصلها عن شخص المتكلم ونسبتها لشخصية تاريخية غير راهنية..

الشك والجدل والمناقشة والاجتهاد والتهميش والاتهام.. كلها قطع غيار للكناية عن فلسفة التمرد.. الرفض القديم.. أي شيء ضدّ القبول والخضوع والانسجام مع منطق الواقع المفروض قهرا.. الايجاب عجز.. القبول ضعف.. الاتباع مذلة.. الصمت سيّد الاحكام..

الصمت حكمة جدّي التي ورثناها في نسغ العائلة.. صمت طويل وعميق امتدّ عبر ثلاثة أجيال.. أمي هي الوحيدة التي كانت تقول خوريْات.. وأنا أحاول كتابتها وحفظها منها.. لكنني لا أعرف كلّ الخوريْات.. ولا أذكر الآن كلّ ما أعرفه..

الصمت كان سلاح جدّي في وجه الأجانب الذين دخلوا المدينة بالاسلحة والكاكي.. أنشأوا معسكرا لهم في أعالي نهر جالولا.. وصارت روح غريبة تتنفس في فضائها.. ترك جدّي الزراعة وتخلى عن الماشية وانقطع عن حلقة الذكر التي ارتبط بها منذ سني يفاعته..

نشأت أحياء جديدة تحت عناوين حي الضباط وحي ضباط الصف، حي موظفي السكك وحي عمال السكك.. بيوت يجمعها اللون الأصفر والبلوكات المستقيمية والمتقابلة.. بيوت الوافدين المبنية من الطابوق الأصفر كانت أفضل من بيوت الأهلين الطينية أو الحجرية..

في بيت جدّي القديم كانت قطع (الآجر) العريضة هي مادة الحيطان العريضة جدا.. ومادة تبليط الأرضية القديمة .. بعد دخول الجيش المدينة تغيرت المعالم والمعاملات.. انتشرت معامل الطابوق والاسمنت.. وجرى صبّ أرضية البيت بالاسمنت فوق قطع الآجر العثماني.. كل ما بقي من تاريخ جدّي هو حديقة صغيرة مربعة المساحة (2× 2) ودجاجتان تتسلى بهما جدّتي..

الحيطان بقيت عريضة.. الأبواب استبدلت بالحديد.. وطليت بلون أخضر أو أزرق.. البيت القديم: حجرة وطارمة .. بقي هو أصل البيت.. أضيفت له حجرة عارضة كبيرة وجميلة للضيوف اسمها -الديوان-.. لم يزره أحد سوى خالي الأصغر وصديقه..

بقي مكان جدّي في حجرته القديمة حيث ينام ليلا.. وفرشته في الطارمة خلال النهار.. الشمس تشرق على الطارمة مقابل البيت القديم.. وبعد الظهر تبدأ بالميلان والانسحاب.. في مكان فرشة جدّي على الحائط كان خالي وصديقه يعلقان لافتات الخطّ والشعارات التي يملآنها في المناسبات..

والمناسبات كانت كثيرة يومها.. الأخوة العربية الكردية.. الوحدة البرزانية الطالبانية(*).. المنظمات الجماهيرية ترفع برقيات الولاء للحكومة.. عيد الاستقلال وعيد الثورة وعيد المولد.. عندما يكون العمل كثيرا.. تمتلئ كل حيطان البيت المقابلة للشمس بصور اللافتات.. أنا نفسي صرت أساعدهم في ملء الخطوط..

عندما فكر خالي وصديقه في تحويل الخط إلى مهنة دائمة.. ظهر في السوق محل جديد يحمل عنوان (خط- رسم- زخرفة: مستعدون لخط اللافتات والبوسترات لمختلف المناسبات الوطنية والعائلية).. كان موقع المحل قريبا من دكان جدّي.. هو الركن تماما والأول عند الخروج من الزقاق الضيق.. رشيد كان اسم الخطاط..

انصرف خالي الأصغر لاكمال دراسته المسائية وحصل على وظيفة في بغداد ولم يعد للمدينة.. بدأت العائلة تترك المدينة ولم يبق غير جدّي وجدّتي.. الأجانب في المدينة صاروا أكثر من الأهلين.. لغات جديدة دخلت المدينة.. انتشرت المدارس وزادت أعداد الصبيان والبنات الذاهبين يوميا للمدارس..

أفراد الجيش وموظفي الحكومة هم مجتمع السوق وحركة التبضع وسكان المقاهي.. زادت المقاهي.. بدأ ظهور مطاعم.. زاد عدد الأفران.. ظهرت مهن ودكاكين جديدة.. مع زيادة المهاجرين.. بدأ بعض الأهلين يغادر المدينة الى العاصمة والمدن الكبيرة..

هكذا انتهت حياة جدّي.. وصلت نهايتها غير السارّة.. ذهبت الأرض.. ذهبت البيوت.. توزعت العائلة.. تغربت المدينة.. والأخلاق والطبائع تبدلت.. عندما ذهب لاستلام راتبه التقاعدي مثل أول كل شهر.. اصيب بجلطة في الطريق.. نقل إلى المستشفى ولم يعد ثانية إلى مدينته.. مات في مدينة أخرى..

لم يمت جدّي في فراشه ميتة خالد ابن الوليد.. ولم تكن ثمة معركة يقاتل فيها مع انتشار التمدن والاستيطان.. لكنه مات غريبا وهو يجول على قدميه.. في مدينة غريبة.. انتقل من الألفة إلى الغربة.. ومن الغربة بين أهله ومدينته.. إلى غربة بين الغرباء ومدن الغربة..

بيت جدّي القديم والكبير تحول إلى ذكرى.. قبل أن يتحول إلى أنقاض.. لم يحظ باهتمام أو صيانة أو متابعة.. ذلك الذي كان – ربما- أول بيت يبنى على هضبة وادي العوسج.. ولا أحد من قدماء المدينة يذكر شيئا عن البيت أو صاحبه.. ربما لم يبق أحد من القدماء هناك.. المدن أيضا تغير جلودها مع الوقت.. والبشر كذلك..!

ــــــــــــــــــــــــــ

  • الوليد بن المغيرة المخزومي [557- 622م] من اعلام العرب قبل الاسلام، والد القائد والصحابي خالد بن الوليد.
  • خالد بن الوليد [592- 642م] قائد عربي اسلامي من الحجاز، من الطبقة الأولى من أمراء الجيش في صدر الاسلام، انجز فتوحات العراق والشام ومعظم أسيا.
  • البرزانية والطالبانية: تعبير شائع في الاشارة لاتباع اكبر حزبين كرديين في العراق، أولهما الحزب الدمقراطي الكردستاني بقيادة الملا مصطفى البارزاني [1903- 1979م]/(يعود تاسيسه لعام 1945م)، وثانيهما الاتحاد الوطني الكردستاني/(تأسس 1975م) بقيادة جلال الطالباني [1933- 2017م]، رئيس الدولة العراقية بعد خلع نظام البعث [2005- 2014م].

 

(11)

ولدتني أمي في عزّ الظهر.. كعصفور أسقط من شجر للذات وحيدا.. كنت الرابع في جدول ترتيب الأخوة.. لكن الأول مات شقيا فتقدمت.. فوق الحائط صورة ابرهة الحجاج*.. وفوق الوجه دموع.. لا تمسحها.. أتحسس قاع الحزن اللازق في حبلي السرّي المقطوع بسكين صدئة.. والمدفون بتربة منزلنا في جالولا تحت الشجرة.. قالت أمي..

  • غدا أخذك إلى السجن.. سيفرح أبوك حين يراك..
  • لماذا لا يأتي هو لأفرح حين أراه..

سحّت دمعتها الفيّاضة قالت..

  • يا ويلي.. زمن ملعون.. ممنوع أن يخرج..
  • أبدا؟..
  • حتى يأتي زمن الخير..
  • فلماذا لم تنتظري زمن الخير حتى تلديني يا أمي.. وأبي حاضر..

وضعت بقجتها البلدية فوق الزند ووضعتني فوق البقجة.. عصفورا.. يتعلم كيف يطير.. دفعوني في نفق القلّق*.. كان الضوء قليلا.. لكني.. تحسست الأعضاء البشرية فتمددت.. رأسي في الأرض.. واطرافي تتوزع بين الأجساد.. قالت أمي..

  • كلّ يقول يا روحي.. إلا محمد يوم القيامة.. فهو يقول يا أمتي!..
  • لماذا ولدتيني يا أمي في يوم القيامة..
  • حشر مع الناس عيد..

فتسلل فرح في قلبي..

  • اني لست وحيد..

قالت..

  • لا تلعب بالنار..

قلت..

  • لست أدخن يا أمي..

قالت..

  • لا تتدخل فيما لا يعنيك.. فهذا الغول عنيد..
  • هذا الغول عنيد..

وأشارت نحو الحائط!.

ـــــــــــ

  • الحجاج ابن يوسف ابن الحكم ابن عقيل الثقفي [661- 714م] فقيه وسياسي وقائد عسكري من الجيل الثاني في الحكم العربي، من مواليد الحجاز انتقل للشام وخدم الحكم الاموي، وحكم العراق في مفاصل تاريخية حرجة. وفي الرواية تداخل بين شخصية ابرهة النجاشي [] من ملوك الحبشة الذي امتد| نفوذه شرقي البحر الاحمر، والمشهور ذكره في قصة (الفيل).
  • القلّق: بضم القاف وتشديد اللام: تركية معربة بمعنى (الحبس) ولفظتها التركية (قلّجخانه). (23 اكتوبر 1998م)

 

(12)

منذ صغري وأنا أحبّ كتب السير الذاتية والشخصية.. أميل إلى الشخصيات التي تعتد بذاتها وتستمدّ منها قوتها لعمل شيء عظيم.. مثل تغيير العالم أو انقاذ الناس.. وكلما اطلعت على واحدة.. أشعر بأشياء مشتركة بيننا.. أشياء منهم فيّ.. وأشياء مني فيهم..

حين أتعرف اليهم أعيش مقاطع من حياتهم.. أشعر بظروف زمنهم وطبيعة العلاقات والأحداث التي سادت يومئذ.. مع الوقت صار لديّ شعور أو اعتقاد أو قناعة، أنني كنت أعيش قبل أن أولد.. قبل أن أتخذ هذه الهيئة وهذا الاسم وهذه العائلة.. أشعر أنني سبارتكوس داخل أغلال وهمية..

هذا الشعور يجعلني أعيش غريبا وسط عائلتي التي هي ليست حتما عائلتي.. ربما كانت عائلة غلط.. مثل بطاقة سفر غلط.. وقد تكون البطاقة صحيحة.. ولكنني في القطار أو الاتجاه الغلط.. ربما نزلت في المحطة الغلط.. ولذلك لا أشعر بتوافق مع المدينة المولود فيها.. ولا مع العائلة المولود فيها.. وكلمة (أب أو أم) لا تكاد تخرج من شفاهي بسهولة.. ولا أشعر براحة أو كيمياء عندما أنطقها.. أو أسمع أحدهما يدعوني..

تركت بيت أمي وعشت في بيت جدّي.. عندما عدت لبيت أمي حاولت الانتحار ثلاث مرات.. حاولت الذهاب للوظيفة للاعتماد على نفسي والتخلص من جوّ البيت.. أخيرا ذهبت للجامعة في أبعد مدينة في البلاد.. بعدما حاولت وفشلت طبعا.. في السفر للخارج للدراسة..

عندما حصلت على فرصة سفر.. كان الوقت متأخرا.. وانتهت فترة التقديم.. يومها كانت احد ثلاث مدن.. المنامة أو الاسكندرية أو ليفربول.. بعض الزملاء التحقوا بها ورأيتهم في زياراتهم للكلية لاحقا.. شعرت بألفة في المدينة التي أدرس فيها ولكنني لم أجد أهلا.. عندما أذهب مع أصدقاء الكلية وأبيت في بيوتهم.. أجدهم طيبين.. ولكن في داخلي غربة.. كنت بحاجة إلى عائلة.. جوّ عائلي.. شيء أكثر وأكبر وأعمق من عائلة.. لم أجده..

نصف مدة خدمتي العسكرية عشتها في تلك المدينة.. وكان في بالي.. بعد الجيش سأعيش هناك.. ساعمل هناك.. ستكون لي عائلة هناك.. في فترة الحرب تعرضت المدينة للدمار.. نزلت أسعار البيوت في المدينة.. كثيرون غادروها.. لم يخطر لي شراء بيت هناك يومها.. مجرد بيت لاحتمال ما.. كان ذلك سينفعني لاحقا..

لكنني ذهبت أبعد.. غادرت البلاد كلّها.. بغير تخطيط.. ومن غير خاطر سابق.. في داخلي كانت الطرق مفتوحة.. والجغرافيا بلا حدود.. كل شارع يسلمني للتالي.. وكل مدينة لأخرى.. وكل بلد لغيره.. وبعد ربع قرن.. لم أجد مدينتي ولا بلدي ولا بيتي ولا عائلتي الحقيقية.. مجرد روح هائمة وأجساد أثيرية حائمة.. لكنها بلا أحد.. ليست من هذا العالم.. ولا هي في عالم آخر..

أشعر أنني حيّ ميت.. موجود في هذا العالم.. وأعيش في العالم الآخر.. أتعامل مع أهل هذا العالم ولا أشعر بالانتساب إليهم.. لكنني أشعر بانتماء لعالم آخر أعيشه خلال الحلم.. أصدقائي من الموتى من كلّ الأزمنة.. ومن الناس البعيدين ولكنهم في هذا العالم.. أعيش معهم أكثر من الحقيقة.. وعندما أصحو أشعر بالغربة..

في العالم الآخر لا توجد دول ولا مدن ولا بيوت ولا عوائل ولا لغات.. يوجد فضاء لا نهائي وجغرافيا مفتوحة وتواصل روحي ونفسي وجسدي.. نتحدث ولا نتحدث.. نتفاهم ولا نتكلم.. نشعر ونريد أن نكون معا.. ونكون عندما نريد..

كانت أمي تقول.. الدم في الحلم يفسد الرؤية.. في عالم الحلم لا يوجد صوت ولا تناول ماء ولا طعام ولا تعاطي الجنس.. ولكن كل ذلك لا ينطبق عندي.. نأكل ونشرب ونتحرك وننام ونصرخ ونبكي وكلّ شيء.. أعرف الناس في الحلم بأسمائهم.. وأعرف النساء بأسمائهن وهيئاتهن والكلمات التي يقلنها خلال ذلك.. بعض الكلمات بلغات غريبة.. لكن في الحلم كلّ اللغات مفهومة.. يوغسلافية وآرامية وألمانية وأنجليزية..

أتذكر الأحداث والأرقام.. ما يتعلق بماض أو مقبل.. أرى أناسا لا تربطني صلة بهم.. وأحداثا ستقع لهم لا شأن لي بها.. لكني أراها في الحلم.. ولا أدري لماذا أراها.. لا علاقة لي بذلك ولا ينفعني في شيء.. هذا أمر محير.. لماذا اعرف أشياء لا تخصني ولا تنفعني..

قبل عشر سنوات ألغيت فكرة الانتحار من حياتي.. لأن موتي ليس بيدي.. حاولت أصعب الطرق وفشلت.. بل لم يحدث أي شيء.. وما زلت على استعداد لتناول سطل سمّ.. وكلي ثقة بعدم تأثيره فيّ.. أمر تعس فعلا عندما لا يستطيع المرء أن يمتلك قرار موته بيده.. هذا قاله أحد الفلاسفة أيضا.. أننا نولد رغما عنا.. لكنا نستطيع انهاء حياتنا بيدنا.. هذا الاحتمال أيضا لا ينطبق عليّ..

عندما راقبت بعض شخصيات عائلتنا الأقدم مني.. وجدت أشياء مشتركة كثيرة منهم في حياتي.. منذ الطفولة وأنا اجترّ أحداث ومواقف تخصّ حياتهم.. خيبات عاشوها وتتكرر عندي.. طموحات وأحلام تخصهم تلبست في كياني.. أشياء قالوها وسمعتها منهم.. تحوّلت إلى قدر في حياتي.. لا أستطيع الخروج منه أو تغييره..

هل أنا هم.. أم هم أنا.. هل أنا قطع غيار مستعارة من هذا وذاك تم تجميعها وتلبيسها في شخص يحمل اسمي.. حتى الأمراض التي أصابتهم.. أصابتني.. كلّ ما عشته.. بكلمة واحدة.. لا يخصني.. يخص الآخرين.. سواء عرفتهم أو لم أعرفهم للآن.. أين هي حياتي.. أين أنا.. بلغت الستين وما زلت لم أكن..

مثل كافل خسار أدفع فواتير غيري(*).. صرت ضحية وفريسة أحقاد وثارات وخلافات لا تخصني.. أكثر من امرأة زعمت أنني زوجها.. أكثر من امرأة وفتاة طلبتني للزواج بالحاح وأنا لا أعرفها ولا أعرف من أين ظهرت أو عرفتني.. أكثر من طفل يضحك مني ويمدّ ذراعه نحوي ويقول لي بابا.. وأنظر إلى أمه التي تبتسم.. ولا أعرفها أو أذكر انني رأيتها في حلم..

ناس لا أعرفهم يحيونني بحرارة.. ناس أعرفهم لا يهتمون بي.. أشخاص بالتلفون يسألون: ألست فلان وكنت مع فلان ونحن كنا سوية.. اسمي فلان هل تعرفني.. ذاكرتي لا تحتمل كلّ ما يحدث.. ولا نجاة لي إلا في الحلم.. ولكن حتى الحلم.. فيه أشياء غريبة..

الطفل يحتاج أما وعائلة ليشعر بطمأنينة.. يمنحونه اسما ويحمل اسمهم.. ولكن ماذا لو كانت أمه غريبة عنه.. ماذا عن الشعور.. الشعور لا يتصل بالبيولوجيا وجينات الوراثة.. أحدهم قال ان لا وعي المرء فيه معلومات قديمة لا تتصل به وبعائلته.. كيف يولد طفل ذكي في عائلة شبه متخلفة.. أو طفل مشوّه في عائلة سليمة..

أول وصولي إلى النمسا وتعلمي لغتهم.. وقع في يدي كتاب يحمل صورة شخص يشبه يلتسن(*).. لم يكن يلتسن يومها قد ظهر في الأخبار ولا الاتحاد السوفيتي كان مرشحا للانهيار.. المهم ان عنوان الكتاب يقول: الحياة تبدأ في الستين..

يومها كان عمري بالكاد يبلغ نصف الستين.. وكان مجرد الخاطر مضحكا.. حياة تبدأ في الستين.. الستين هي موعد الموت وتصفية حسابات العالم وترقين سجلات القيد.. الآن لا يبدو ذلك مضحكا.. رغم أنه لم يحدث.. ولا أعرف كيف سيحدث ومتى وأين..

الحياة التي تحدث غربية أم شرقية.. هناك أم هناك.. وما معنى الحياة.. هل هي اللذة.. العائلة.. الزواج.. العمل.. أم الجاه.. لا اعرف ما المقصود بالحياة الجديدة.. لم أقرا ذلك الكتاب الذي ما زال مركونا في المكتبة.. ولا أعتقد انني سأقرأه.. وإذا قرأته فلن أقتنع به.. ولكن القراءة والقناعة الشخصية لا تتوقف على شخصي.. فالأشياء تحدث رغما عني وعن كلّ شيء..

عندما قرأت في التوراة وصف حياة ابراهيم وتغرّبه في أرض الأحياء.. لمستني العبارة.. لمستني مفردة (الغربة) التي تعيش في أعماقي.. وعندما مات ودفن مع آبائه في أرض غربتهم.. شعرت أنني أعرف هؤلاء الناس.. أعرفهم بطريقة ما ومن زمن ما..

عندما قرأت عن فولتير الفرنسي* وكان له أخ يكبره متدين ويكتب الشعر أيضا.. تذكرت أخي الذي يكبرني وقد تدين لاحقا وكان فنانا مسرحيا.. الاهتمامات كانت متحركة.. ففولتير كان مسرحيا وأخوه الأكبر كان شاعرا.. وأنا كنت شاعرا.. وأخي الأكبر مسرحيا وقد هجره وتدين.. وقد قتله تدينه كما قتل (ارماند)..

خشيتي المريعة أن تطول حياتي مثل فولتير.. أم فولتير ماتت عند ولادته.. أمي لم تمت، انا متّ.. لكنني احتييت ثانية.. الداية توقعت أن لا يعيش الطفل فولتير لليوم التالي.. لكن فولتير عاش أربعة وثمانين عاما.. عاش مناكدا سلطات زمانه.. نصيرا للفقراء وداعية للحرية والمساواة..

لم يصادق أحدا.. لكن الملوك والأغنياء والفلاسفة كاتبوه وسعوا اليه.. في زمنه وبسببه غير المباشر تهاوت عروش وسقطت أنظمة وتعرض للمطاردة والنفي من بلده.. وعاش سنيه الأخيرة في بيت قديم اشتراه في سويسره عند الحدود الفرنسية.. لكنه في العام الأخير وهو يحس باقتراب أجله.. ذهب ليزور صديقا له في باريس ومات هناك.. مات في بلده.. وسط حفاوة شعبه..

كلّ تلك المشخصات وظلالها حصلت معي وتنطبق إلى حدّ ما.. وأنا أقيم في بيت قديم اشتريته لدرء مخاطر الشيخوخة ونكد الزمان.. أعمل في الحديقة وأقطع ما فيها من حشائش وأشجار.. عكس فولتير الذي زرع أربعة آلاف شجرة في بيته في فيرني.. ودعاه (Les Delices).. يبدو أننا الاثنان نشعر بتحسن في الصحة..

ربما زرع جدّي أربعة آلاف شجرة بدلا مني.. ولكن لا أحد في عائلتنا بلغ السبعين.. وأنا لا أريد أن أستثنى في هذا.. بل أنني أكثر شوقا للخروج من خيمة الجسد.. فولتير عاش يكتب ويفكر ويكافح كلّ حياته.. وقد جمعت أعماله في تسعة وتسعين مجلدا.. وهو أكبر رقم قياسي لانتاج فكري فردي..

أما أنا فلا أدخل أية لائحة أرقام قياسية.. وأعاني من مشاكل في الطبع.. وليست لي سكرتاريا أو مديرة منزل تقوم على خدمتي.. وبالكاد تصلني رسالة بريدية.. ورغم تفكيري في العودة إلى باريس نهرين.. فلا أعرف أن ساعتي ستحين هناك.. وأن نصف الجماهير التي خرجت في جنازة فولتير ستتتبع جنازتي..

يهمّني اكمال هذه الرواية.. قول كلّ ما يمكن قوله أو ينبغي.. لتكون شهادة اعتراف ووصية لشخص عاش أكثر من حياة ومات بلا أحد.. شهادتي أنني لم أخسر ذاتي.. ولم أبدل مبادئي ولا أخلاقي.. ولا أنفقت فكري أو جسدي أو مالي في خدمة حكومة أو جماعة.. لكني أيضا لم أنتفع من الدنيا ولا مما تعلمته في حياتي من شيء.. شهادتي وثقافتي وعلاقاتي لم تسعف معيشتي..

تعجبني فكرة ايليا (*) مع أرملة صرفه.. ولذلك أحتفظ بصلة جيدة مع ايليا ومع الطبيعة.. ربما حصل في أيامه ما حصل في ايامنا من انقلاب عجلات الزمان التي جعلت غوته يحمد ربّه على حدوث ذلك وهو في شيخوخته.. راثيا للأجيال التي ستعيش كلّ حياتها في وضع مقلوب..

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

  • الاشارة هنا الى سفر اشعياء بن اموص (أش53: 5)، المتعلقة بالحاجة الدورية للانسان/(الجماعة البشرية) لشخص يحمل على عاتقه/(مسؤوليته) تبعات وفواتير أخطاء وخطايا الاخرين، فيكون قربانا وأضحية عن المجموعة، بدل ان تتعرض الجماعة لعقوبة/ كارثة جماعية، لتنفيذ مبدأ العدل/ المنطق الوجودي/ (يوصف دينيا بالشريعة، وفي التعليم اليهمسيحي: (اجرة الخطية موت)و (لا كفارة بغير دم)). والعامة تتداولها بطريقة النذور والصدقات، لكن تأثيرها يتجاوز المادة والحيوان الى حياة الانسان، كما تمثلت في قول قيافا ريس السنهدريم(يو11: 50): "خير لنا ان يموت انسان واحد عن الشعب ولا تهلك الامة كلها!". وقد تم تنفيذ المبدأ في شخص/ جسد يسوع الطاهر البار. ومن أمثلته السابقة تاريخيا/ ميثولوجيا/ هي قصة (عروس النيل)حيث يتم اختيار الفتاة الباكر توا والاجمل لحمل خطايا الشعب واسترضاء غضب النيل الثائر/ ومنه كذلك/ ثيران عزازيل.
  • بوريتس يلتسن [1931/ 1991- 1999/ 2007م] اول رئيس لروسيا الفدرالية بعد انهيار النظام الاشتراكي. كان يحظى بدعم غربي كامل، ولم يقدم دعما وحماية للعراق في مواجهة التجاوزات الانجلوميركية.
  • فولتير [1694- 1778م] فيلسوف ومسرحي فرنسي، طبع القرن الثامن عشر بفلسفته وأفكاره.
  • غوته [1749- 1832م] شاعر وفيلسوف الماني، تقول عبارته: [I thank God, that I am not young in so thorougly finished a world.].
  • ايليا التشبي [875- 848 ق. م.]، هو باكورة انبياء عصر ما بعد القضاة في التاريخ العبراني، رفض الحكم الملكي لآخاب بن عمري بن بعشا[874- 853 ق. م.] وزوجته اللبنانية ايزابيل/(اميرة صور). وتتماهي/(تتناص) سيرة ايليا مع يوحنا المعمدان في الانجيل (مت11: 10- 14).

 

(13)

جاءت جدّتي وجلست على (قنفه) بجوار الحائط في يمين الباحة الكبيرة.. وعلى الفور اتجهت حركة الكامره باتجاهها.. كما يحصل في الحفاوة بكلّ زائر أو غائب يعود.. أنا كنت جالسا في عمق الدار.. الضلع الآخر من الباحة المربعة .. جدّتي هي هي.. كما كانت دائما.. لا تكاد تشعر بوجودها.. لا تكاد تقول أو تطلب شيئا.. ربما لا تكاد تنطق كلمات التحية والوداع مثل الناس..

ورغم حرارة الصيف القائظة فقد نزل مطر مفاجئ.. دوش سريع كما يقال.. بقيت جدّتي جالسة كما هي تحت المطر.. لكن اهتمامها صار يتركز في عباءتها اللماعة الجديدة.. في تلك اللحظة فقط انتبهت إلى عباءتها.. لولا المطر لما فطن أحد أنها ترتدي عباءة جديدة مقشبة بخيوط حرير وذهب.. مثل أميرة امبراطورية قديمة..

عندما رأيتها في حيرتها تلك.. سارعت لمساعدتها.. على الفور توقف المطر.. وبدأنا في تنشيف العباءة من البلل.. طلبت منها الانتقال إلى جانبي.. حيث تفصلنا سقيفة واسعة عن السماء..

  • عندما تصلين إلى مكان.. أول شيء تفعلينه هو توظيب العباءة ولفها جيدا قبل الجلوس.. ذلك يضمن نظافتها وعدم تعرضها لماء أو ضرر..

هذا ما قلته لها.. هي لم ترد.. كانت سعيدة بتنشيف عباءتها وكونها موضع عناية الآن..

عباءة جدّتي هي أهم شيء في حياتها.. وخصوصا عباءة القشيب هذه.. ولها مثل كلّ نساء زمانها من ربات البيوت ثلاثة أصناف من العباءات.. عباءة منزلية يومية.. ترتديها داخل البيت.. تلتف بها.. تتغطى بها عند النوم.. تفرشها على الأرض وتجلس عليها حين تلتقي جاراتها.. وتهرع بها إلى الجيران وقضاء الأشغال اليومية السريعة .. فهي أقرب إليها من حبل الوريد.. هذه العباءة تجدها في كلّ مكان.. على الأرض.. في المطبخ.. في الباحة.. على الدرج.. قرب الباب.. وهي بالمناسبة قد لا تكون وحيدة.. فيصدف أن تشتري عباءة منزلية جديدة أو تصلها على سبيل الهدية.. وتستمرّ محتفظة بالأقدم منها..

كما أن العباءة الثانية التي تستخدمها لزيارات عادية عندما يمضي عليها الزمن ويبهت لونها.. ينزل مستواها للاستعمال اليومي.. خاصة إذا اختفت العباءة الأقدم من أمام عينيها ذات حين.. الزيارات العادية هي زيارات الأقارب في محيط العائلة والجيران.. أو زيارات الواجب والمناسبات أو مراجعة مريض وكذلك الزيارات المتبادلة.. وهي على العموم الأكثر شيوعا واستخداما..

أما الزيارات التي تقتضي ارتداء أفضل الثياب والحلي الغالية إذا توفرت فهي زيارات نادرة شبه سنوية.. وقد لا تحصل غير مرات قليلة خلال أعوام.. زيارة مدينة ثانية.. شخص تراه مرة أو مرّتين في العمر.. زيجة ذات مستوى.. مناسبة لا تتكرّر.. ولا تحصل غير مرّات قليلة في العمر..

وبينما تخيط المرأة عديد عباءات النوع الثاني.. فتكون محظوظة لو امتلكت ثلاث عباءات قشيب في كلّ حياتها.. وأين هي المناسبات والعلاقات النادرة في ذلك الزمان.. عندما يولد أحدهم ويتزوج ويموت دون مغادرة حدود المدينة أو الخروج من محيط العائلة والقرابة..

لهذا كانت زيارتها اليوم بعباءة القشيب نادرة جدّا ومن مستوى عال.. كلّ جدّتي تبدو محتفية ومتألقة اليوم على غير المعتاد.. عندما يكبر المرء.. ويتحرّر من مسؤولية العائلة والخدمة والواجبات يتحوّل إلى شخص فوق العادة.. يتحول إلى موضع عناية وتوقير.. يقوم بزيارات حفاوة وافتقاد مرة أو مرّتين في عام لأحد ما.. وربما كانت هذه هي الأولى من نوعها.. زيارة غير عادية وعلى مستوى خاص.. كانت أميرة سومرية حقا.. كما رأينا صورتها في كتب المدرسة..

عندما جلست إلى جانبي.. وتأكدت من توظيب عباءتها بخير وسلام.. نادت أحد الأطفال.. وأخرجت قطعة نقد ورقية بيدها ليشتري لها ماء.. التفت إليها وقلت ان الماء موجود.. ويمكنها الحصول على حاجتها مني.. كنت ما أزال أحتفظ بصندوق من علب الماء الجاهز.. سحبت يدها ولم تعترض.. هذا يعني أنها تشعر بالعطش.. أو أنها ستبقى فترة أطول..

جدّتي هي بنت عمّ والدي من جهة النسب.. أي أنها بنت عمّي أيضا.. كانت صغيرة جدّا عندما تزوّجت من جدّي .. صبية في أول عمرها.. وأنا لا أجد فارقا كبيرا بين عمرها وعمر والدتي.. وهذا ينعكس على العلاقة بينهما التي تخلو من احترام أو عاطفة.. علاقة ندّية محكومة بالتحدي والتنافر..

لم تتقبل والدتي أي رأي أو مشورة من جدّتي.. ورغم محاولات جدّتي المشاركة بكلمة أو عاطفة عائلية.. كانت والدتي ترفع حائطا عاليا في وجهها.. وعندما تبكي جدّتي وتتألم من قسوة أمي.. وتغادرنا أحيانا بغير تأخير.. لا يظهر أي تأثر أو عاطفة من جانب أمي.. بل أنها تزداد قسوة.. فزيارتها مفروضة فرضا ولم تبعث في طلبها.. هل كانت تفعل ذلك لأنها بنت عمّ والدي.. الذي هو زوجها الذي لا تنسجم معه.. أم ثمة شيء آخر.. أولئك الناس لا يتكلمون كثيرا ويدفنون أسرارهم حتى الموت..

أمي هي البكر بالنسبة لجدّي.. وشقيقها التالي يصغرها بعام أو عامين.. لكنه يعاملها باحترام كبير.. باعتبارها أخته الكبرى.. وأمي مثل كثير من أقران زمانها تحبّ أخوتها فوق كلّ شيء في حياتها.. لذلك يبدو الزوج طارئا في حياتها.. طارئا مثل فريضة اجتماعية غير مرغوبة..

بين عمر والدتي وخالي الأكبر.. وعمر شقيقتها والخالين المتوسط والأصغر ما يزيد عن عقد إلى عقدين من السنين.. بل أن أمي تبدو في سنّ الوالدة لخالتي وخالي الأصغر.. وفيما كانت تحبّ خالي الأصغر كثيرا.. كانت تغار من خالتي وتعتبرها ندّا لها..

في حياة والدتي قبل زواجها حقبة، كانت خلالها ذات سطوة ومكانة عائلية واجتماعية.. كانت بكر عائلتها وكانت تعمل في الخياطة في شبابها.. بما جعلها مركز نساء المحلة والمدينة.. وقد التقيت بضعة من أقران صباها الفائت ذلك.. وهن يمتدحنها مديحا بلا مثيل.. يمتدحنها في كلّ شيء.. بما فيه جمالها وحكمتها ومعارفها وشخصيتها وشعرها الطويل الذي يصل أسفل الظهر.. لا أدري أهمية الشعر والظفائر الطويلة عند نساء أيام زمان..

أكثرهن مديحا وتعلقا بوالدتي كانت (غزالة) التي تزوجت شخصا غريبا يومها.. لكنه اغتنى وصار مقاولا كبيرا.. أول وأكبر مقاول في تلك المدينة. بسببها كانت أمي تلوم حظها العاثر الذي هوى بها من عليين ورفع سواها إلى عليين..

عزاء والدتي الوحيد هو غناؤها الحزين ودموعها وشكواها من الزمان.. وعندما توفي جدّي بقيت جدّتي وحيدة.. تقضي بضعة أشهر في بيت خالي الأكبر.. ثم تأتي عندنا لبضعة أشهر.. وماذا كانت تفعل.. تدخن.. وتدخن فقط.. لا تتكلم.. لا تفعل شيئا.. تبقى صامتة.. تدخن..

نادرا ما تجد أحدا من الأطفال تكلّمه أو يقول لها كلمة.. ضعف نظرها كثيرا.. وهي الوحيدة التي كانت ترتدي نظارة في العائلة.. أول من ارتدى نظارة لتقوية نظرها من الجيل الأول.. لكنها فقدت نظرها في النهاية.. لا ترى غير شبح أو بصيص تستدل به في حركتها القليلة..

وعندما ماتت.. كان ذلك في بيتنا أيضا.. كانت مثل نسمة.. نعم مثل نسمة.. تمرّ فلا يشعر بها أحد.. لا تؤذي.. لا تتسلط.. لا تتدخل في شيء ولا حتى بكلمة.. كانت أرقى وعيا بكثير من أبناء هذا الزمان.. الذي يتكلمون في كلّ شيء.. ولا يهتمون بالمهم والضروري.. وما يتركونهم من جراح في غيرهم..

في الموت فقط تبرأ النفوس.. عند الموت تنسحب الكراهة وفواتير الثأر.. إذا لم تجد أحدا آخر من نفس الجيل أو العقب تنتقل إليه.. ربّما تغيّرت مشاعر والدتي قليلا بعدها تجاه والدي.. فقد صار كلّ منهما الهدف اللاحق المرشح للموت الآن..

إذا كان الموت مخيفا أو لاغيا لكلّ شيء سواه.. فلماذا تحتقن الحياة بكل المطامح والمطامع والمشاعر والأحقاد.. أليس من الحكمة عدم تحميل الحياة فوق طاقتها.. ليكون غياب الانسان سهلا وخفيفا على نفسه وغيره.. كم من الكراهة تجعل الناس يتمنون موت فلان أو علان.. وكم يتكرر ذلك الشعور ويكون متبادلا عند الآخرين تجاهه أيضا.. فنحن نعيش في بحر كراهية.. وننتظر الموت لتحريرنا من أنفسنا ومن الآخرين..

قال أحد الوعاظ مرة.. عليك أن تحبّ الشخص الواقف بجنبك.. أن تقبله كما هو.. لأنك ستعيش معه أبديتك في العالم الآخر.. فإذا كنت لا تحتمله في سني عمرك القليلة.. ستكون مجبرا على احتماله طيلة الأبدية.. لكن الأرض يا سيّد.. الأرض تفيض بالكراهة والشرور أكثر وأكثر مع الأيام.. والانسان يفرغ مشاعره وخيبته في أخيه الإنسان.. فماذا سيحصل تحت التراب..

هنا في الغرب يقولون ان المشاعر والضمير والعقل أمور دنيوية تتعلق بالحياة.. وستموت كلّها وتضمحلّ وتختفي .. ويتحول كلّ كيان المرء إلى تراب ودود.. لن يواجه عذابا ولا حسابا بعد الموت.. لن يكون ثمة ضمير أو وخزة أو ندم.. الغرب اخترع كلّ شيء يسعد به نفسه في الحياة والموت.. ولم يتورع أن ينسب نفسه للحيوان والتراب ليشبع غرائزه التدميرية وموت الحكمة عنده..

لو كان لذلك صحة.. كيف يقول الانسان بعد الموت: يا ليتني كنت ترابا(*).. فالتراب لا يتمنى أن يكون ترابا.. كما هو في ذاته.. ثمة شيء آخر في الانسان سيصرخ.. ويصرخ.. ويهرب منه الناس في الحياة.. ولن يجدوا منه مفرا عندما يصبح حقيقيا.. بل الحقيقة المطلقة في الوجود!..

ــــــــــــــــــــــ

  • القرآن/ النازعات (78: 40): "انا انذرناكم عذابا قريبا، يوم ينظر المرء ما قدّمت يداه، ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا".

 

(14)

تسافيتا هي آخر ممرضة دخلت ردهتنا.. يميزها صغر حجمها الذي يجعلها أصغر من عمرها.. ربما كانت هي صغيرة العمر فعلا.. لكن صغر الحجم ليس غريبا في طاقم التمريض الأسيوي والهندي في أغلبه.. لكنه بياض بشرتها وجنسيتها البرازيلية..

لا أعرف لماذا لم أقتنع بشخصيتها.. في البدء أعتبرتها مبتدئة.. أو في دور التطبيق.. رغم أن حالة التطبيق الوحيدة في القسم كانت صاحبتها الأكبر حجما وسنا.. كانت فتاة مغربية تدرس الطب.. وتقتضي لذلك اكمال مدة تمريض قرابة العام..

المغربية كان اسمها (زهرة).. وهذا هو معنى كلمة (تسافيتا) التي تقابل اسم (سارة) الشائع في كل اللغات.. (زهرة) المغربية جرّبت أول زرقة ابرة في بطني.. وكانت هي فرصتي الوحيدة للتحدث بالعربية.. والشعور بشيء من الوطن في غربة الغرب..

بين كلّ طاقم التمريض كانت تسافيتا مميّزة.. بشكلها.. بحجمها.. بلون بشرتها.. بحيويتها الظاهرة واعتدادها الكبير بذاتها.. بكثرة متابعتها لسيرورة العمل.. بكونها تأتي مبكرة لعملها وتتركه متأخرة.. بكثرة الأقلام وأدوات العمل والفحص في جيبوبها وحول رقبتها.. بالقلم الذي تضعه وراء أذنها.. وباستجابتها السريعة لكل صوت.. بحيث لا يكاد يفوتها شيء في فضاء حجرتنا يغيب عن ملاحظتها واهتمامها.. ذلك كلّه هو تسافيتا.. وكلّما لاحظتها.. أحاول تجاهلها وأتمنى أن لا تقترب مني أو من جسمي..

ولغير حسن حظي.. فقد أضيف بجانبي مريض طارئ كان في رحلة جماعية بالباص حول أوربا عندما تعرض لحادث في غابات ألمانيا وبقي اسبوعا في مستشفى هامبورغ.. لا أدري لماذا دخل المستشفى هنا مجددا.. ربما للحصول على أدوية أو استكمال كورس العلاج..

كان يريد المغادرة من اليوم الأول.. ربما أرغمته صديقته البرازيلية على التأكيد على صحته أو سلامة ساقه.. يبدو متذمرا منها خلال زياراتها اليومية له.. يرسلها لشراء جريدة رياضية.. ولا يجيب أو يتجاوب مع كثير من كلامها ومحاولتها التعاطف معه..

اهتم المستشفى الانجليزي به عندما عرف أنه كان في مستشفى ألماني.. نزعوا منه كلّ المعلومات والأدوية والعلاجات ولماذا كان هناك لاسبوع ولم يستمر عندهم.. بل لماذا دخل المستشفى هنا إذا كان قد تعالج في ألمانيا.. تحدثت معه بالألمانية معتقدا أنه عاش في ألمانيا.. تشاركنا في الرأي حول امتداح العناية الطبية في مستشفيات ألمانيا والنظافة وكلّ شيء.. وكان يقول لطاقم المستشفى هنا أن المعاملة والعلاج في ألمانيا أفضل..

ورغم أن طاقم المستشفى الانجليزي ليس فيهم انجليزي واحد غير الطبيب المقيم المطبق وهو يحضر في الصباح فقط لمراجعة الملفات وادخالها في الكمبيوتر.. فقد كان الطاقم يتصرف بعقلية وغيرة انجليزية أمام ذكر اسم ألمانيا .. بما فيهم الطبيب الجزائري المسلم وهو المسؤول الثاني عن القسم.. لم يناقشه أحد.. لم يعترض عليه أحد.. ولكنهم رفضوا السماح له بالمغادرة كما دخل..

بقي في ثيابه المدنية ورفض ارتداء ثياب المستشفى حتى اليوم الثاني.. رفض استلام العلاج وزرق الأبر.. بعد يومين أجبروه على استلام أدوية المستشفى وربطوا الاسلاك بذراعه وصدره ونقلوا له الأمصال الانجليزية.. رغما عنه وهو في غاية التذمر..

هنا ظهرت تسافيتا.. كانت تلك أول مرة أراها تزرق أبرة في ردهتنا.. أحضرت كل العدّة باهتمام وحرفية زائدة.. وضعت لنفسها كرسيا بعلو مناسب.. ورتبت مكان الذراع الذي يستلم الزرقة.. استمرت العملية نصف ساعة بغير توفيق.. غيّرت مكان الزراقة أربعة مرّات بغير طائل..

كانت تزرق الأبرة داخل الجلد وتدوّرها هناك في كلّ اتجاه دون أن تعثر على الوريد.. لم أكن استطيع مراقبة وجه جاري.. لكي لا أتحسس بما يجري هناك.. بينما تواظب هي البحث عن مجرى الدم باصرار وعبث..

لم يتكلم جاري بشيء خلالها.. لكنني أنا تذمرت بوضوح.. بعد نصف ساعة كانت الممرضات خلالها يراقبن عن بعد.. بعضهن يأتي ويذهب.. في النهاية قامت.. جاء شاب هندي نصف ممرض.. وظيفته الأصلية تبديل الأفرشة وتنظيف الردهة والمساعدة في توزيع وجبات الطعام.. خلال دقيقة انجز الشاب الزرقة وبان الانشراح على وجه جاري الذي نطق عندها بتذمره..

لم تكن مجرد زرقة.. كانت المثلث الذي ينقل المغذي داخل الجسم.. وكانت ابرة الكوندول كما يسمونه طويلة تحت الجلد وتبقى لعدة أيام هناك لا تزيد على أربعة بحسب التوصيات الصحية.. كانت مخاوفي وشكوكي تجاه تسافيتا في موضعها إذن..

لمدة ثمانية أيام بقي جاري في المستشفى بغير لزمة.. غير كونه مريض ألماني سابق.. كان مهندس بناء.. عمل أثني عشر عاما في السعودية وشارك في بناء سلسلة مستشفيات فيها بينها المستشفى الجامعي الكبير في الرياض.. في حرب الخليج الثانية أنهت شركته أعمالها مثل غيرها.. وبعد ربع قرن ألتقيته في لندن..

استغرق اكمال أوراق المستشفى يومين.. أعطوه عدة ملفات وظروف كبيرة.. وقدموا له كارت خاص للمراجعة في أي وقت أو الاتصال بهم من الخارج إذا لزمه أمر.. كانت تلك أغرب حالة سلوكية لاحظتها من المستشفى الانجليزي..

عند مغادرة المهندس صرت أنا أقدم مريض في الردهة.. ولأنّ تسافيتا تكون هي مسؤولة طاقم التمريض في وجبتها.. والطاقم يتكون من أربعة عناصر.. فقد أصبحت متابعة حالتي من مسؤوليتها.. وهي بالمناسبة تخدم في النهار فقط.. من الثامنة صباحا حتى الثامنة مساءا.. ولا تبقى خلال الليل حيث يستلم طاقم آخر.. صرت أنا آخر مريض تتفقده قبل المغادرة.. وتسرع إليه في الصباح.. حيث تسبق موعد عملها بنصف ساعة دائما..

ولأنني أعاني من هبوط سريع في الضغط والسكر خلال النوم.. صرت موضع اهتمام خاص.. بالطبع منها هي التي صارت شبه مسؤولة عن ردهتنا باستمرار خلال الأيام الأخيرة.. اقترابها مني لم يكن له صلة بزرق الأبر.. اقتصر على متابعة الأدوية ومراقبة الطعام والفحوصات..

الطبيب الجزائري شبه المسؤول عن القسم اقترح تقليص حبوب الضغط وتغييرها إلى عيار أقل.. لملاحظة حركة الضغط.. وهنا حصل تحسن نسبي في الضغط.. بقي السكر.. وبقيت تسافيتا تفكر في موضوع السكر.. كانت طريقة المستشفى معالجة الانخفاض بحقنات كلوكوز وجيل تحت اللسان.. وكان ذلك مقززا.. الطريقة الأخرى تعويض نقص السكر من خلال الطعام.. إضافة الشاي والحليب للقهوة والشاي رغما عني.. زيادة وجبات الطعام وتقديم مزيد من شرائح الزبدة والمربى وعصير الفاكهة..

فكرة تسافيتا الجديدة هي تناول شرائح زبدة ومربى مع الشاي قبل النوم.. وجبة إضافية بعد العشاء.. أو عشاء ثاني.. وكانت هي التي تقوم باعداد تلك الوجبة ووضعها على المنضدة مع تأكيد.. لا تنم قبل تناولها.. كانت الفحوصات تجرى ثلاث مرات خلال الليل.. عند منتصف الليل وفي الصباح المبكر وما بينهما.. أي بمعدل مرة كل ساعتين أو ساعتين ونصف..

أتناول وجبة العشاء الثانية مع القهوة وأنام.. وفي الساعة السادسة.. بعد موعد الفحص الأخير خلال الليل.. وضع (ريزا) الممرض الباكستاني وجبة زبدة ومربى مع الشاي المحلي بالسكر والحليب على منضدتي.. نظرت إليه بتساؤل.. طأطا برأسه كأنه يقول تناولها.. وأضاف.. لرفع السكر..

هكذا أضافت لي تسافيتا وجبتين فطور على المعتاد.. بالأحرى.. صرت أتناول ثلاثة وجبات فطور.. واحدة قبل النوم وأثنين بعد النوم وهكذا بدأ معدل السكر الانتظام في جسدي.. في اليوم الأخير قبل المغادرة جاءت تسافيتا للوداع وتقديم أطيب التمنيات.. وهي تقول بابتسامة طفلية تختلج لها جفون عينيها..

- لا تنس.. تناول وجبة فطور قبل النوم!..

 

(15)

لم يترك جدّي مالا ولا ملكا.. ولم يرثه أحد في خصلة أو مكانة.. فلاحا كان.. ولم يمتهن أحد الفلاحة.. غاية منية أحدهم حديقة منزلية يستذكر فيها مجدا غابرا.. حاولت أمي تربية دجاج غير مرّة.. وفي كلّ مرة ينحل الدجاج ويموت.. أخي الأصغر هو الوحيد الذي تخصص في البستنة.. وكان على وشك اكمال دراسته العليا.. لولا أن الموت كان له بالمرصاد..

صنع في البيت ماكنة نسج يدوية.. زرع زهورا.. أحضر دجاجا وعصافير ملونة.. لا الزهور أزهرت ولا الدجاج عاش.. عصافير الحب وحدها عاشت وكان يحضر لها حبوبا خاصة.. ولأنه كان قليل المكوث في البيت أيام العطلة.. فقد بقيت ماكنة النسج في منتصف الطريق..

كانت أمي ترعى العصافير.. وتسكت عن موت الدجاج.. وتنصحه بعدم تكرار التجربة.. بعد شهر من موته.. شهر واحد تماما.. بدأت العصافير تذبل وتنحل.. انتبه لها أخي الأكبر.. كان بعضها ميتا فعلا.. فتح باب القفص.. وسمح للبقية بالعودة للفضاء.. بقي القفص فارغا.. بقيت أكياس الدخن لوحدها.. مجرد ذكريات يتيمة لأيام وأشياء لا تتكرر..

والدي كان موظفا.. ينتقل كلّ عامين لمدينة أخرى.. بقينا بلا بيت ولا أرض ولا بستان.. كلّ فرد في العائلة انشغل في هواية أو مهنة يميل إليها.. أنا وقعت قرعتي في الكتب.. وقعت قرعتي في الحرب.. وقعت قرعتي في الغربة.. كتاب يسلمني لكتاب.. وحرب تسلمني لحرب.. وغربة تسلمني لغربة.. لا بيت ولا عائلة ولا وطن.. العقود تعتلج عمري مثل بكرة عمياء.. عندما بدأ اليأس يفترس حافات سنيني انسحبت داخل ذاكرتي.. اعتكفت داخل عقلي.. لم يبق لي أحد في الخارج.. الذاكرة تدور مثل ثور الناعور.. من آخر أيامي عودا نحو الطفولة.. العائلة القديمة التي لم يبق كثير من شهودها..

جدّي هو رأس ذكرياتي.. جدّي الذي مات قبل نصف قرن.. لكنه بالنسبة لي ما زال يعيش في مكان ما.. هناك.. في ذاكرتي.. منذ عشرين عاما وأنا أعاقره ويعاقرني.. إذا انشغلت عنه مدّة.. يزورني في حلم.. مرّات أجده يعرج بقدمه اليمنى.. لم يكن يعرج في حياته.. ربما لم ألحظه يومذاك..

قليلون يذكرون جدّي في العائلة.. وأكثرهم لا يحبّه.. لا يحبّ صرامته وطبيعته الخالية من الابتسام والكلام والمجاملة .. هذا يعطيني امتياز حبّه والانفراد به.. السنوات الأخيرة من حياته ترافقنا جيّدا.. وكنا شبه أصدقاء.. في الأشهر القليلة الأخيرة من حياته كنت الوحيد أشاركه الحجرة.. أضع كتب المدرسة وأراقبه من حين لآخر.. رغم أنه لم يكن يتكلم.. بالكاد كان ينظر لي.. أو يشعر بما يدور في العالم..

في لحظة ما طلب مني والدي مغادرة الحجرة.. كنت أريد أن أسأله لماذا.. طلب مني دعوة جارنا المضمد خزعل الذي كان يزرقه مرّتين في اليوم بدل الطعام الذي توقف عن ابتلاعه.. دخل خزعل الحجرة مع والدي وأغلقا الباب فورا.. بعد قليل انفتحت الباب.. قام والدي بغلق جفني جدّي المفتوحتين وسحب الغطاء على رأسه تماما.. تلك هي شارة الموت.. حضرت أمي للحجرة وبدأت تبكي وتنوح وتصرخ.. لم يأتِ أحد.. أراد والدي أن يجد أحدا يشاركه الرأي عما ينبغي عمله.. صار الرأي تنفيذ وصيته.. دفنه في مدينة أجداده.. لم تكن الأمور سهلة.. في وقت متأخر بعد الدفن.. تحدد مكان مراسيم قبول العزاء.. الرجال في خيمة وسط الحارة.. والنساء في منزل بعيد عن مكان الخيمة.. بعد اسبوع من الدفن اهتم والدي ببناء القبر.. بعد شهر ذهب وخط رقعة باسم صاحبه..

بعد عشر سنوات تم حفر قبر خالي الصغير بجواره.. لكن زيارتهما تبعث على الغربة.. بالكاد كنت أصدق وجودهما هناك.. كان حضورهما في ذاكرتي وحياتي أقوى من أي مكان.. لذلك أنصرف بسرعة.. لا تخالجني أيما عاطفة.. ربما كان قلبي قاسيا يومها.. كنت شخصا آخر.. لكنني أيضا لم أعترف بالموت كمبرر للنسيان أو الانفصال.. العاطفة والذاكرة لا تعرفان الموت والزمن يزيدهما أوارا.. كما يحدث الآن..

في حياة جدّي كانت العوائل تجمتع مرة أو مرتين في العام في بيت الجدّ.. الفرصة الوحيدة التي يلتقي بها الجيل الثالث ويتعارفون.. بعد موت جدّي أبطلت تلك المناسبة.. ولم يظهر أحد يتنكب عمادة العائلة.. لا أحد يسمح بتحويل منزله إلى فندق اجتماع عوائل.. عوائل يتوزعها التنابز والحساسيات أكثر من المحبة.. الحساسيات تبدأ من النسوان ويختفي الرجال من المسرح.. وتنتهي الزيارة بالزعل والقطيعة..

خالي الأصغر كان يحضر من بغداد في العيد.. أمي هي كبيرة العائلة الآن.. يضع رأسه على صدرها.. يقبلها من جانبي وجهها وجبينها.. ويغني في أحضانها مستذكرا تلك الأيام.. كان صوته جميلا.. وكانت أمي تبكي قبل ان يبدأ الغناء..

كل العائلة تدخل في كورس بكاء.. النساء أولا.. الاطفال تاليا.. عندما يتحول العيد إلى مأتم.. يتوقف خالي عن الغناء ويكركر ضاحكا ساخرا منهم.. الانسان يغني ليفرح وأنتم تقلبونها مناحة.. خالي لا يبكي.. هكذا يبدو.. في الواقع أنه أكثر تأثر منهم .. لكنه يريد تغيير الجوّ..

بدل اكمال الجلسة يتجه نحو الباب.. ألحق به.. ونخرج من البيت.. يبدأ خالي جولته على بيوت الأقارب بيتا بيتا على القدمين.. حتى لا يكاد يمرّ ببيت لا يطرق بابه أو يرفع صوته مناديا من الخارج فيخرجون إليه.. يحتضنون رأسه ويخضبون شعره بدموعهم.. الدموع حاضرة في الفرح والترح غالبا.. أحيانا يدخل لتناول الشاي وتبادل حديث قصير ثم يعتذر لاكمال الجولة على الباقين.. أحيانا يتناول قطعة شوكولاته.. وأحيانا يبعث التهانئ من الباب.. في ذلك اليوم الواحد كان يهنئ نصف المدينة تقريبا.. لا أعرف كيف يحفظ وجوههم وأسماءهم وعناوين دورهم.. رافقته مرتين أو ثلاثة..

كان خالي الأصغر محبوبا جدا.. من النساء على الأكثر.. كان اسمه الأصغر.. فهو أصغر العائلة وبقية رائحة الأبوين.. لا يعود عادة للبيت الذي خرج منه.. يذهب الى مدينة أخرى لاكمال التهاني.. قبل أن يعود إلى بيته.. لم يكن قد تزوج يومها.. فقد مات بعد عام من الزواج..

لا أحد يملأ الفراغ الذي تركه ذلك الجيل القديم.. العائلة فقدت رائحتها ودفئها الأصيل.. والحنين والحنان العائلي سحقته الحضارة والتكنولوجيا والمادة.. لا أدري إذا كانت وجبة العيد تحظى باهتمام العوائل هناك.. غالبا لا.. كلّ شيء صار يخضع للحسابات والميزانية.. في زمن الخير والطيبة كان يعيب على أحد التكلم بالفلوس والحسابات.. انقرضت القيم الانسانية تحت سرفات التسليع وبورصة الدولار اللعين.. ليس في عائلتنا ثري ولا فقير.. لم نعرف البحبوحة والترف ولا رأينا الشظف..

في تلك الأيام.. كانت تتكرر مقولة.. ابن الأصول لا يتغير مع الزمن.. لا يبدل أخلاقه مع التغيرات.. أين هي الأصول اليوم.. أين الذين لم يتبدلوا ولم يهصر الحصار أمعاءهم وأخلاقهم.. أكيد ثمة بيئات أكثر محافظة على تقاليدها عبر الزمن..

لكن عائلتنا تغيرت.. وأقول هذا للأسف.. الجيل الثاني يتمرد على الأب ولا يريد أن يعرف الجدّ أو يعترف به.. ابناء الخال والعم لا يميلون للتعارف رغم أن آباءهم وأمهاتهم أخوة ويجمعهم جدّ واحد.. يخرجون من بيت واحد وبطن واحدة ولا يعودون لينظروا في وجوه بعضهم.. أتمنى أن أكون هناك وأقول لهم ذلك.. أتمنى أن تتحوّل العائلة إلى عشيرة متضامنة ويسند بعضها بعضا..

والدي الذي لم يتكلم كثيرا هو الآخر.. قص علينا قصة عصيان الأعواد المشدودة مع بعضها على الكسر.. وسهولة تكسيرها متفرقة.. قصة كانت تتردد كثيرا.. لكننا جميعا نسيناها عند الكبر وأهملناها عند الحاجة.. العائلة بلا رأس.. والعشيرة تفرقت إلى أجنحة وزعامات وخلافات في الرأي.. البلد كلّه تفرق وافترق.. ولم يبق منه غير الذكريات.. الوطن مثل الطفولة.. صندوق ذكريات.. وأغانينا شكوى ونواح وعواطف يتيمة..

الكبار من جيل جدّي لم يكونوا يتدخلون في الصغيرة والكبيرة.. كانت لهم سياساتهم الثابتة والمعروفة للجميع.. ويعرف الجميع أهمية اتباعها والمحافظة عليها لمصلحة العائلة.. عندما يخالف أحدهم وصية.. يختفي من المشهد عاما أو عامين أو ربما للأبد.. ربما ينتهز فرصة العيد للاعتذار والعودة للشمل.. مخالفة الوصايا تعني أيضا الحرمان من المكانة والدور..

الجيل التالي لم يحافظ على مفهوم العمادة والزعامة.. تحولت لديهم إلى وصاية وعبودية.. يتدخلون في أصغر الصغائر.. ويجردون الفرد من رأيه وكرامته.. ومع المدّ الديني في السبعينيات تحولوا إلى دعوتية داخل العائلة وحلقة الأقارب.. يفرضون الحجاب والحشمة وتطبيق الفروض الدينية جبرا وقهرا.. ولا يتوانون عن توبيخ الأكبر منهم بذريعة تطبيق الشرع.. هكذا فقدت العلاقة العائلية دفئها وحضانتها لتتحول إلى مجتمع عبودي.. العلاقات العائلية تحولت إلى منظومة أمنية يخشى أحدهم من وشاية الاخر.. خوف ورياء ورفض داخلي.. هذا الدور تنكبه أخي الأكبر.. تحول البيت إلى جامع ليس فيه غير الفروض الدينية والقراءات والمواعظ.. الكلمة والضحكة والنكتة محظورة.. الحجاب والثياب الشرعية مثل زيّ عسكري داخل وخارج البيت.. يبدأ من الطفولة ولا ينتهي.. في اتصال أخير مع أخي.. صار الحديث عن نزعته الدينية والتيار السائد.. قال هذا غير صحيح.. هؤلاء لا علاقة لهم بالدين الصحيح.. صار الفساد يطبع كلّ شيء.. والحلّ.. ما العمل.. قال ان الحل عند الله.. لكنه قرر الاعتكاف والانقطاع عن الخارج.. أتعبه التفكير والاحباط وأمراض الوراثة.. ولأنه كان محظوظا فقد مات بعد أشهر.. وانتهى من تبعات الفساد..

لم أسمع جدّي يتكلّم في الدّين والأخلاق.. لم يحاسب أحدا على كلمة أو ثياب أو سلوك.. شخص آخر من جيله كان واعظا وعالما.. يزوره الناس في البيت ويسألونه.. ولكن غير قليلين يخرجون من عنده بلا كلمة.. كان ينظر للشخص إذا كان ينتفع بالكلمة أو يستخدمها للمحاججة والمنابزة والتسلط على الناس..

أحيانا يبقى ساكتا أمام السؤال.. لا يهتم إذا كان بعضهم لا يشرب الشاي قبل ايجاب الطلب.. أولئك كانوا يميزون الناس بحسب طبائعهم وتواريخهم.. ويعرفون الشرّير والانتهازي والطماع والملتوي.. من قال أن الشرّ غاب في زمن.. لكن الشرّ يحد بأهل البصيرة..

اليوم يضحك الكلّ على الكلّ.. والشرّير يسود أهل الخير.. والعملة الرديئة تطرد الجيّدة.. الشرّ يعمّ وينتشر.. أما الخير فيضيق وأهل الخير تحاك ضدهم الدسائس والألاعيب.. أبعد عن الشر ولا تجلس في مجلس الأشرار.. هل الزعيم شرّير أم المجتمع.. أم حاشية الحكم وقادة الدين.. الزمان لم يتغير.. لكن العمى زاد وطما الجبن والجهل.. ويقال.. ان الأشياء السيئة تحدث بالجملة.. بعضها يفسح المجال للبعض الآخر.. وهذا ما حصل.. أحيانا يأخذ الفساد مفتاحا ملوّنا وتبريرات منطقية.. كلّ مجتمع يقوم على التبرير، ينتهي للفساد.. التبرير كذب على الذات وهروب من الحقيقة.. وخوف من المسؤولية الانسانية..

ونحن.. منذ دخول الانجليز في بلادنا وحياتنا.. صارت مجتمعاتنا وبلداننا حديقة خلفية لتصريف أمراض الغرب الأخلاقية والاجتماعية.. وليس حاجاته الاقتصادية وهيمنته السياسية غير المبرّرة.. الانجليز بدأوا بمناهج التعليم التي أوصى بها ساستهم وفلاسفتهم.. والأميركان بدأوا بالثياب والمطاعم.. ووصلوا لتغير عقول الناس وأخلاقهم بالانترنت والفيس بوك والهواتف.. التي زادت التحلل والجريمة والفساد داخل البيوت والبلدان..

ونحن هربنا من مدن أجدادنا للمدن الكبيرة ثم العاصمة.. ومن العاصمة إلى الغرب.. فوجدنا الكوارث والفساد الذي هربنا منه في بلداننا.. ينتظرنا في الغرب.. لأن الذي أدخل الفساد والكوارث في بلداننا.. هو الغرب نفسه الذي التجأنا إليه.. كثيرون ينهمكون في التجارة وعبادة المادة والمال والذات..

التفكير يتعب القلب والعقل.. ولا أحد يريد أن يغير العالم أو يعترض عليه.. حكمة الكلّ هي الاستفادة من التغيرات واللعب مع الزمن.. ولا بأس أن يجمع أحدهم كل النقائض في شخصه بغير شعور بالتناقض أو الحرج.. التحلل والطمع والدين..

نصف قرن ليس زمنا طويلا لينقلب فيه العالم على رأسه.. نصف قرن.. لا تساوي عمر انسان.. فلاسفة الغرب يعرفون أن الأمل مات والحضارة سقطت واليأس سيد العالم والطريق مسدود.. وأن السياسة والاعلام والدين تجارة كذب.. العلاقات بين البشر في كلّ أنواعها استبدّ بها الطمع والانانية وعقلية الافتراس..

التكرار قاتل في الغرب.. حتى جمع المال والاستمرار في جمع المال.. ومعالجة الازمات المالية بالأزمات وتوجيه التهم للاجانب والغرباء صارت تكرار في تكرار.. ارنو غروين يقول ان اليهود كانوا علكة تصريف الأحقاد والتهم في الغرب.. واليوم تستخدم الرأسمالية الأجانب واللاجئين في محل اليهود لتصريف أزماتهم وتحميلهم مسؤولية الجريمة والفساد..

لماذا لا تفهم بلداننا هذه الحقائق وتعالجها من الداخل.. لوقف هدر البشر وعدم تصدير أبنائها لأرصفة الغرب المهينة.. علينا أن نعود إلى بلدننا ومدننا وعوائلنا.. والذين لم يخرجوا عليهم التعلّق ببلدانهم وبنائها من الداخل.. بدل خدمة مكائن الرأسمالية والجريمة اليومية.. لا بدّ.. ولكن.. متى..

 

(16)

أختى هي التي اكتشفت قصيدتي الأولى التي كتبتها وأنا في العاشرة.. عندما كانت تنبش في حاجاتي الخاصة.. لم أكن أعرف أنها تتجسسني في غيابي.. وقبلها لم يخالجني فيها شكّ.. كانت الثقة بالنسبة لي أمرا طبيعيا.. وأن الأشياء بين الناس تجري مجراها في الطبيعة.. فهل يشكّ العصفور في غصن الشجرة.. أم الشجرة تشك في النهر، وأحدهما يتجسس الثاني ويتلصص من ورائه..

هي أكبر مني.. وما زالت هي أكبر مني، بل وأفضل مني.. لكني لم أعرف ثيمة الشكّ والتجسس فيها.. فهي أكثر مني تطوّرا في ميدان الذكاء، رغم أن لي موهبة الشعر وهي بلا موهبة.. بدأت أتردد وأتكتم في أموري أكثر.. لكني لم أهتم بالشكّ والثقة كثيرا. لذلك احتفظت بطبيعتي الفطرية.. وبقيت أخضع لها بلا جدل أو تردد.. فهي لا تفعل السوء ولا تريد بي سوء.. وهكذا بقيت حتى يومي هذا.. لأكتشف خداع الحياة.. وكم كنت مغرّرا به منذ البدء.. أي بدء.. لا أدري.. ربما قبل البدء.. فهكذا تبدأ كلّ الأشياء قبلما نعرف.. وربما قبلما نكون.. وعندما نكتشف.. يكون الماء قد طما علينا ونحن نحاول التعلق بالقشّ.. قصة القشّ هذه ستأتي لاحقا.. وهي مكتوبة في مكان آخر.. الكتابة أيضا هي (قشّ).. والذي يستطيع أن يفعل شيئا لا يحتاج أن يكتب ويفكر ويحلم ويخطط.. أنه يفعل مباشرة..

أختي لا تكتب ولا تهتم بالخط وقواعد اللغة، لكنها تنفذ إرادتها دون مشورة أحد.. تخرج من البيت وتفعل ما برأسها.. ثم تعود منشرحة الأسارير وكأن شيئا لم يكن.. ويمكن للعالم أن يحترق وتنقلب الكرة الأرضية عشر مرّات، أما هي فتبقى طبيعية ولا تفصح شيئا عن نفسها.. وهذه ليست أختي..

أنها لغز المرأة.. المرأة التي اكتشفت متأخرا.. أنها أقوى من الرجل.. وهي الأذكى بالفطرة وهي الأفضل والأبقى حسب دارون.. وليس لنا نحن الرجال غير القشّ والقشور.. غرور الأفكار والتصوّرات والمكافآت اللاحقة لنياتنا الحسنة.. رجال مخدوعين ومغرّر بهم..

كانت قد قرأت سطور القصيدة الأولى لوحدها.. رغم أنني شخصيا كتبتها في العتمة بخط ملتبك غير متأكد من فكّ طلسمه.. ثم قفزت إلى الصالة وأخبرت أمها.. لم تخبر أمها.. وانما وقفت في وسط الصالة وبيدها دفتري المدرسي وتقرأ بصوت خطابي كأنها ميرابو أو القيس بن ساعدة.. تعلّمت هذا من كتب الأدب والبلاغة التي كنا نقراها معا..

في تلك اللحظات عدت أنا من الخارج.. وأحسست مباشرة أن تلك الكلمات تخرج مني وتنزع أحشائي انتزاعا.. حاولت انتزاع الدفتر من يدها فلم أستطع.. ولم تنقطع عن القراءة.. قلت لها أن تسكت فلم تسكت.. فدخلت الحجرة ودفنت وجهي في الوسادة وبكيت..

بكيت ولم يهتم لي أحد.. فيما هي تضحك ساخرة.. ربما ما زال ذلك الطفل في داخلي يبكي حتى الان.. ولا يهتم به أحد.. وسوف يبقى كذلك يبكي حتى الأبدية.. بعدما أموت.. سيبقى هو في مكان ما ينشج لوحده يائسا من كلّ شيء.. لمجرد أنه اعتاد ذلك.. ولأن البكاء فعل وجودي باطني.. فهو آخر دلالة على حياة انسان..!

قبل أربعين عاما كنت أستقل قطار الجنوب، وحيدا، غريبا، مرتبكا، للدراسة في الجامعة. لم أكن أحبّ الجامعة، ولا التخصص المعيّن لي، ولكن المضطرّ قطع أرضا..

تلك كانت أول مرة أترك فيها البيت وأبتعد عن العائلة.. وأنا مضطرّ.. لم أكن قد بلغت العشرين.. لا أفكر في مستقبل، ولكني أهرب من الماضي.. ولا يشغلني غير اللحظة.. الآن.. ما يضطرني في ذلك الموقف..

رغم تعلّقي بالدراسة لسوء حظي.. فهي الشيء الوحيد الذي تعلّمته وتعلقت به.. نهاية المراحل الدراسية الاساسية الثلاثة جرت بسرعة.. ولم يعد غير أحد طريقين: الجامعة أو الجيش. وكلاهما يبتدئان بحرف الجيم، وينتهيان بالمجهول.

في وسط سنّ المراهقة، عدت للبيت وفي ذهني جملة: أعدادية المعلّمين. وكانت اعدادية المعلّمين الجديدة تقع قبالة بيتنا بالضبط، لا يفصلني عنها غير الشارع. أما المدرسة الثانوية المركزية التي أدوام فيها فتبعد نصف ساعة عن البيت. ولكن الموضوع لا يتعلق بالمسافة على الأرض، انما بمسافة الزمن، وما بعد الزمن. كان مصير اعدادية المعلمين قريبا جاهزا ومضمونا، ومصير الثانوية بعيدا ومجهولا بكل الحسابات.

والدي كان ديمقراطيا، لم يتدخل في الأمر.. والدتي تعرف مهنة التعليم وتقديرها الاجتماعي.. لكن المعثرة كانت في مكان آخر، مكان كان يحتل موضع اعتزازي، ولا أقول نقطة ضعفي.. أقولها بأسف الآن.. تلك كانت أختي.. هي الوحيدة التي اعترضت.. لم تعترض على شقيقي الذي ترك البيت والمدرسة وذهب إلى معهد الفنون الجميلة، اعترضت عليّ أنا.. أنا الوحيد الذي كنت أسمعها.. كلمة الجامعة لم تفارق لسانها، وعلى الفور أقنعت معها والدتي ، وهكذا أحبطت أول رغبة وأول قرار شخصي، اتخذته في حياتي..

لم يكن عليّ مطاوعتها، ولا حتى أخذ رأيها أو إعلامها بالأمر.. الأمر يخصني وتلك حياتي.. أنا هو الحمار الذي سيحمل (العليجة) وليس غيري.. لماذا أحمل عليجة غيري.. لا أدري.. هل كان عليّ أن أكون مطيعا ومهذبا، للمحافظة على تلك الصورة البلاستيكية الفاقعة..

نعم.. هذا ما كنت أفكر فيه.. صورتي العائلية والاجتماعية، ولا يقل أحد عني كلمة غير مناسبة..

في كل حياتي كنت أكتم تمرّدي في داخلي، لتبقى صورتي الخارجية (خوش ولد، مؤدب، مطيع)..

ولقد أطعت.. وأطعت وأطعت كلّ حياتي.. أطعت حتى الموت.. حتى كدت أصير مسيحا آخر.. لكني مسيح بلا رسالة.. مخدوع بالرياء الاجتماعي.. مخدوع بخمير الفرّيسيين.. وكانت أختي فريسية.. هي وكلّ من معها..

هل كان للنعمان بن المنذر(*) أن ينوء بخطواتنا الصغيرة ونحن نذهب للمدرسة كلّ يوم، مربكين هدوءه بوشوشاتنا الناعمة وضحكاتنا البريئة.. أم استغفل عمر بن عبد العزيز(*) زرافاتنا المتدحرجة في المسيات الحزينة وأيام العطل المترفة بالكآبة.. ما سرّ الاصرار الغريب على مرافقة النعمان إلى المدرسة ذهابا ومجيئا وعدم مقاربة الخليفة الخامس.. هل كان الخوف أم الكره المبكر للسلطات.. يجعلنا قريبين من الناس.. بين ضجيج مطارق الحدادة ومسدسات الاوكسجين.. ورائحة الخبز المتصاعدة من الأفران..

مسحت صورة دار المعلمين الاعدادية من مشهد الشارع المقابل لبيتنا.. أخرج أعمى من البيت كلّ صباح متوجها للمدرسة الثانوية البعيدة.. أخرج أعمى في طريقي إلى السوق.. وعندما أتمشى مع أصدقائي، ترتسم بقعة سوداء أمام ناظري عندما نحاذي ذلك المكان.. وحتى لا أرى ذلك المكان الأسود، قررت الذهاب الى أبعد جامعة في البلاد.. مدينة بعيدة تبتلعني فلا أرى هذه المدينة ولا البيت ولا تلك البقعة السوداء..

ــــــــــــــــــــــــــــ

* من أسماء الشوارع المؤدية للمدرسة والسوق في مدينة بعقوبا/ العراق.

* النعمان بن المنذر بن امرئ القيس اللخمي الملقب (ابي قابوس) [582- 609م] ملك العراق وعاصمته (الحيرة)، مسيحي نسطوري، ابرش احمر الشعر، ادنى الى القصر في هيئته، وأمه يهودية من خيبر. وهو مقدام ممدوح، باني مدينة (النعمانية) على ضفة دجلة اليمنى. جاء في (صحاح الجوهري): [ان العرب كانت تسمي كلا من ملوك المناذرة بالنعمان، لأنه كان أخرهم.] النعمان بن المنذر من حكام العراق قبل الاسلام، وقد عرفت دولته بالمناذرة وعاصمتها الحيرة/(بمحاذاة الكوفة لاحقا التي اتخذها علي بن ابي طالب [595- 661م] عاصمة له [657- 661م]).وكان الحكم فيهم وراثة، وفي سيرة ابن اسحق النوفلي زيادة في المعلومات عن الموضوع.

* عمر بن عبد العزيز [682/ 717- 720م] ثامن خلفاء العهد الأموي [661- 750م]: دعا للعناية بالعلوم الشرعية وتدوين الحديث. عمر بن عبد العزيز من خلفاء العهد الأموي، اتخذ اجراءات وقرارات اصلاحية للعودة بالحكم إلى صفائه الأول.

 

(17)

(توفيق) هو إسم جدّي.. ولكنّ أيّا من ذريته لم يشمله معناه، ولا هو نفسه.

أنّ (توفيق) ليس صفة، وإنما هو إسم مصدر.. والمصدر لكي يكتسب فاعلية، يلزمه أن يتشخصن، شخصنة المصدر هي النعت.. الثروة والغني لا قيمة عملية لها دون تنعيتها ونسبتها لشخص أو ذات..

الثري هو الذي يمتلك الثروة، والغني هو صاحب الغنى، والناجح هو صاحب النجاح، والموفق هو صاحب التوفيق. أما الكلمة والمصدر فلا قيمة عملية لها، من غير تخصيص.

ربما كان جدّي ضحية إسمه.. مجرد إسم من غير هوية.. ربما أدرك ذلك متأخرا.. جعل أسماء بناته وأبنائه على إسم الفاعل.. حتى اسم جدّتي صيغ حسب إسم الفاعل، صاحب الشيء، ولكن الدالة المجردة غير المنسوبة.. بقيت في جدّي.. وانعكست نسبيا على الجميع.. أولئك الذين ولدوا داخل السجن.. بقوا محكومين بتعاليمه..

جدّي الذي لم يكن الابن البكر ولا الوحيد.. وربما ليس أصغر أخوته.. لكنه انفرد عن الجميع.. والوحيد الذي أعفي من السفربر.. كان رجل العائلة الوحيد في يومه.. كان عميد العائلة والعشيرة والبلدة.. لكنه لم يجعل لنفسه سلطة ولا حاشية.. لم يتزوج نساء ولا خلف ذرية بلا عدد ..

وجد نفسه منذورا لفكرة غيبية.. وسخر كل وجدانه ليخلص للفكرة.. فكرة الغوث/ المدد(*).. الذي لا يضاهيه ولا يوازيه فيض أو أحد.. لكنه لم يخلص الاخلاص الذي يخلصه من قدر محيطه..

بقيت عربة العائلة مربوطة بكتفيه مثل النير.. يجرّها بعضلات صدره التي تستلب طاقة قلبه.. بقي قلبه مؤرجحا بين الغوث والعائلة.. العائلة لم تكن له عونا.. ولا الغوث أيّده.. الغوث انتظره.. والعائلة لم تطلقه ولم تخلص له.. لا العائلة أحبته وسندته.. ولا الغوث أجاره.. رغما عنه صار جدّي بطلا على جبهتين.. كلّ ما لديه هو ايمانه بذاته واعتداده بنفسه.. معلقا بين الأرض والسماء..

كم هم الذين يدركون مشيئتهم وأسطورتهم الشخصية حسب تعبير باولو كويلهو(*).. ليتركوا كلّ شيء ويتبعوها.. جدّي أدرك اسطورته وأمسك بخناق قدر مشيئته.. ولكنه لم يستطع الاخلاص له.. ولا تخلص من كلّ ما يقف في طريقه إليه..

تعليقة جدّي أنه كان ولم يكن.. اسمه توفيق ولكن من غير معناه.. لديه كلّ شيء ولا يملك منها شيئا.. بقي جدّي ينتظر ما/ من يخلصه من حالة التعليق تلك.. حالة المابين.. حالة الفتور والفجاجة.. حال لا حار ولا بارد.. لا قوي ولا ضعيف.. لا بار ولا شرير.. لا غني ولا فقير.. لا في الأرض ولا في السماء..

لكي تدخل التاريخ لابد من قرار.. ولا قرار بلا جرأة.. ولا جرأة بلا مجازفة.. ولا مجازفة بلا خسائر.. لا خسائر بلا تضحية.. ولا تضحية بلا وعي.. وعي الضحية بذاتها.. أو وعي البطل بتبعات بطولته.. هل كان ضعيفا.. هل كان تمسكه بالتقاليد الاجتماعية نقطة ضعفه.. كان يلزمه قرار شخصي ينزعه من حالة التعليق.. تغيير القدر يحتاج إلى ثورة.. ثورة تغيّر كلّ شيء.. وتجازف بكلّ شيء..

ليست وظيفة الثورة تأمين النجاح والتحكم بالنتائج.. وانما كسر المحظورات.. وتقويض العوائق التقليدية.. التي تسجن الفرد والمجتمع.. في سياقات الذلّ والجمود.. أنت يا جدّي لم تكن ثوريا.. وبقيت تجاهد داخل نفسك.. دون أن تتحول إلى مناضل.. بل لم تتطور من الجهاد الأكبر إلى الجهاد الأصغر..

ابنك الصغير.. الغرّ الذي كان في سن المراهقة.. كان ثوريا ومجازفا أكثر منك.. حمل السلاح وتمرد على النظام والحكومة.. وضع روحه وحياته التي لم يدرك قيمتها يومها على كفّ عفريت.. لكنه كان يناضل في اتجاه آخر.. وعندما نكص عن الثورة وأسلم السلاح.. عندما خضع لتقاليد المجتمع وتكوين عائلة عادية مات.. مات ميتة عادية.. مات على قارعة طريق.. وعلقوا على صدره يافطة: (مجهول هوية)!..

هذا الاسم الاشاري المعلق.. غير الحار وغير البارد.. هو سبب عذابك وسبب عذابنا جميعا من بعدك.. أنه سبب عذابي أنا الذي أدفع فاتورة غيابك.. التي لم تستطع تسديدها بحضورك.. نكصت أمام المجتمع.. نكصت أمام الانجليز.. نكصت أمام الحكومة.. صرت تستلم راتبا من الدولة.. أدرت قفاك لكل الماضي وقرار المشيئة والاسطورة .. وبينما أنت في طريق استلامك راتب الحكومة.. مفترحا بالدراهم والدنانير.. جاءت نهايتك.. سقطت في الشارع ولم تبلغ بيتا ولا هدفا.. لا نفعتك عائلة ولا مجتمع ولا حكومة..

لم تستفد من الوقت الضائع.. دورة السنوات التكرارية الجامدة التي انتظرت منك قرارا.. كونت عائلة وهمية.. أنتجت صبية وبنات.. كونت ثروة وهمية واستلمت راتبا وهميا.. وكأنك ما فعلت.. كلّ ما فعلته ألتقمته الريح.. العائلة والبيت والأرض والصيت والأولاد وو.. ماذا.. هل نسيت شيئا.. هل تذكرني بشيء.. ربما أنا.. أنا الوحيد الذي لم أنفصل عنك..

لا أحاول الخروج منك.. ولا أريدك أن تتركني.. لكنك لا تفعل شيئا من أجل خلاصنا.. تلك الفاتورة المعلقة في عاتق ذريتك.. أحملها أنا مثل صخرة سيزيف.. الخروج من حالة الوسطية والتوفيق السلبي.. لا حار ولا بارد.. أريدك أن تسخن يا جدّي وتذيب قيود القدر التي تمنعنا من الانطلاق.. أو تبرد برود الموت.. ونخرج من دائرة الكارما إلى الأبد..

اصعد إلى السماء أو أنزل تحت الأرض.. لكي تزلزلها.. أين أنت!..

ألم تسمع المغني وهو يغني.. دكَـ راسك بكَاع الحبس واصعد امراجَف للدفّ/ أيّام المزبّن كَضن.. تكَضن يا ايام اللفّ(*)..

نحن ما زلنا في أيام اللفّ والتكرار يا جدّي.. ما زلنا بغير قرار ولا.... مجرد خرزات عمياء في مسبحة الأيام والسنين.. التي تلف وتلف ولا تتعب.. الخرزة أيضا تتعب عندما تشعر أنها مجرد خرزة.. لا تستطيع أن تفلت من المسبحة..

كلّ هذا بسببك يا من لا حار ولا بارد/(*).. لم تبق في البيت ولا ذهبت للحرب.. لا صرت مع الناس ولا ركضت مع الحكومة.. حرّمت على نفسك وعلينا السياسة والتجارة والعسكرية والمقاولات.. لا صرنا فلاحين وناسا عاديين.. ولا كنا ضباطا وتجارا وشيوخا..

بقيت في حلقتك البكتاشية(*) لا تصعد مع الدفّ ولا تنزل للأرض.. لماذا لم تسخن.. باحة بيتك كانت كبيرة جدا.. لكن الحلقة تجتمع في الباحة الخارجية أمام المنزل.. تأتلق الأضوية وتتلامع الشعل وتتبارى الرماح والسيوف والنبال وصيحات المدد.. كثيرون يصعدون وكثيرون ينزلون.. وأنت لا صاعد ولا نازل.. لا حار ولا بارد.. فاتر.. وما زلت فاترا رغم كلّ السنين الطويلة.. ماذا يخرجنا من فتورك..

أنا نفسي صرت فاترا مثلك.. لسنين طويلة كنت أعتبرك.. مثالي وطريقي الذي أنهج عليه.. اعتبرت فتورك فلسفة، ووسطيتك حكمة.. كرهت الجيش والسياسة والجهاد والمقاومة ورفعت عيني إلى ما بعد السماء أنتظر المدد..

حاربت عشر سنين بلا قضية.. ورفضت أن أصير ضابطا لأحفظ ضميري من التلوث.. وعندما خرجت من الحرب.. أو الحرب هي التي طردتني منها.. رفضني الجميع.. الجميع يا جدّي.. حتى أنت.. هل تذكر!..

أنا نادم يا جدّي.. هل تسمعني.. أقول أنني نادم على كلّ شيء فعلته حسب طريقتك.. ونادم على كل ما لم أفعله.. كنت أعتقد أن رفضي بطولة.. الآن أكتشف أن رفضي أن أكون مثلهم كان جبنا.. كثيرون وقفوا على بابي.. كثيرون مدّوا لي أيديهم.. كل الفرص جاءتني ورفضت.. وأزاء كلّ منها كنت جبانا أو غبيا.. لكنها لم تكن بطولة ولا نزاهة.. لقد ضاع كلّ شيء.. وها أنا الآن أوّل المتهمين.. تهمتي أنني لم أفعل.. تهمتي هي رفضي لكلّ فرصة..

ماذا أقول لك.. حتى هنا.. في أرض الخلاص الوهمي.. جاءتني الفرصة.. بل الفرص.. قبل أن تذهب الفرصة لأحد .. جاءت بين يديّ.. فرصة الذهاب قبل الآخرين.. بلوغ الشوط والهدف قبل أن يبدأ الكلام في أي شيء.. لكنني كنت غبيا أولا.. وجبانا أيضا.. وهذا كلّ ما حملته معي للمنفى.. المنفى الذي انتقل من الخارج إلى الداخل.. من الجغرافيا إلى الذات.. أنا الآن منفي خارج نفسي.. لا أعرف طريق العودة إلى ذاتي..

وقد بلغت الستين من بعدك أنتظر المدد.. ولا مدد.. ستون عاما من الفتور ولم أبلغ الدرجة الحرجة.. هل تعتقد أنني أقاتل أفضل منك.. لماذا تنكص عن حربك وتبيع قضيتك وتنتظر من ذريتك أن يكملوا الجهاد الذي لم تكمله.. أنت تركت حياتك ناقصة.. ووسمت كل أقدار حيواتنا بالنقص والتهميش.. أريد أن أسخن الآن.. ولا أقع في الطريق ملعونا براتب الحكومة يا جدّي..

تنقلت في أربعة بلدان حتى الآن.. بلدان لا تتشابه ولا تختلف.. لا يجمعها شيء ولا يميزها شيء.. الناس هم الناس والوجوه غير القلوب.. والقلوب غير الوجوه.. وكثيرون منهم اختاروا أن يكونوا بلا قلوب.. أتكلم مع طرشان وأسير مع عميان.. معهم أنا وحيد وبغيرهم أنا وحيد..

أعيش داخل ذاكرتي وأتحاور مع ذاتي.. أهرب من بلد لغيره.. ومن ناس لناس.. وكأني أقلب أوراق عملة رديئة.. تلك العملة التي صارت تحكم كلّ شيء.. وأنت استلمت العملة وسقطت في الشارع.. كيف يمكني أن لا أتحول مثلهم.. عملة رديئة ممسوحة الملامح.. عملة يصادق البنك على صلاحيتها.. ماذا تبقى أيضا ولم يمسخه الصمت والفتور..

لكن.. إذا كنت أنت لم تعرف كيف تسخن.. فكيف أسألك العون.. إذا كنت تبادلني نظرات صامتة عندما نلتقي فكيف تمدّ لي يد العون.. علّمني الخروج من سجن قدرك.. أو الخروج منك.. أو الخروج عليك.. لا أريد أن أتركك.. ولكنني أكره البقاء على ما أنت عليه.. تعال معي لنخرج من سجن الأيام والسنين ونحترف الثورة.. نحترف أو نحترق سيّان..

أنت متّ وبقيت ذكرى.. وأنا على وشك الموت والتحول إلى ذكرى.. دع الذكرى تتحول إلى نار ونور.. دع الغيث يتحوّل إلى لهب واللهب إلى صعد.. اكسر المصاريع ليأتي المدد.. كلانا سنكون أقوى.. ثمة جيل ثالث ورابع ينظر إلينا ببلاهة ولا يعرف.. لا يعرف قصتنا.. لا يعرف ما هو فيه.. ولا يعرف ما يأتي عليه.. أنا وأنت نعرف ونرى ونقدر..

اخرج من صمتك.. لا تترك وصيّة.. ولكن قل كلمة.. أمنح بركتك لمن يعقبك..

أنا خلافك لم أصمت.. تكلمت.. كلامي ذهب بعيدا.. لكن القريبين لم يسمعوه..

أنا ما زلت أتكلم حتى اليوم. والقريبون لا يسمعون.. ولا يريدون أن يسمعوا.. والبعيدون يسمعون ولا يسخنون..

البعيد صار قريبا والقريب صار بعيدا.. والأدوار تتبادل.. الشرق في مكان الغرب.. والغرب في مكان الشرق.. الأهل في مكان الغرباء.. والغرباء في مكان الأهل.. المعادلة لم يتغير طرفاها.. الحال هي الحال..

متى يسخن الهواء.. متى يسخن ظهر العالم.. متى تتزحرح أسوار أريحا.. ويخرج الناس إلى البرية.. تخرج الروح من محدودية الجسد..

ليتني أجد خلاصا لروحي.. ليكون خلاصك فيّ.. أنت الذي لم تقدر أن تكون لي خلاصا!..

ـــــــــــــــــــــــــ

  • (غوث، مدد، فيض).. من الاصطلاحات الصوفية.
  • (لا حار ولا بارد).. عبارة انذارية وردت في رؤيا يوحنا (رؤ3: 15- 17) الى كنيسة لاودكيا في الاناضول: "أنا عارف أعمالك، لست حارا ولا باردا، ليتك كنت حارا أو باردا، هك\ا، لأنك فاتر، ولست حارا ولا باردا، أنا مزمع أن أتقيأك من فمي. لأنك تقول اني انا غني وقد استغنيت، ولا حاجة لي الى شيء، ولست تعلم أنك الشقي والبائس، فقير وأعمى وعريان!".
  • باولو كويلهو مواليد البرازيل (1947م) قضى سنوات في دير رهبان قبل أن يهجره وينطلق للكتابة الروائية، أشهر أعماله (الخيميائي)/(1988م) التي ترجمت الى ثمانين لغة. روائي وكسب منها صيتا عالميا. أقام دور عناية بالاطفال المشردين في البرازيل من عمر الحضانة حتى السادسة عشرة، يتلقون فيها الرعاية الكاملة والتأهيل المهني لتكفل حياتهم العملية الخاصة، ويتم تمويلها من ريع اصداراته.
  • البكتاشية نسبة إلى حاج بكتاش ولي [1209- 1271م]/(ثمة رأي يررجح موته في 1337م) درس المولوية والنقشبندية وقام بمزج الحنفية بالافلاطونية المحدثة والتصوف الفلسفي الاوغسطيني الذي شكل منطلقا لتياري الفراشسكان والبندكت في القرن العاشر الميلادي في الاندلس الاسبانية وسادت في فرنسا وايطاليا ومنهم توما الاكويني. وصل تركيا في عهد السلطان العثماني الثاني اورخان بن عثمان بن ارطغرل [1281- 1362م] مؤسس الجيش العثماني والقوات الانكشارية. وكان لحاج بكتاش دور في رسم سياسة التعليم والتربية والتأهيل العقائدي لمنتسبي الجيش، وبشكل تحول إلى ثقافة اجتماعية عامة وفرقة صوفية. وقد ارتبطت الطريقة البكتاشية بالجيش العثماني أساسا، وانتشرت من خلاله.
  • من قصيدة للشاعر مظفر النواب- مجموعة الريل وحمد.

 

(18)

بين وادي العوسج وإسمي أكثر من تشابه لفظ.. والعوسج الذي لا أعرف معناه هو لقبي المحذوف.. فاتخذت بدلا عنه لقبا لا أعرفه أيضا.. في وسط قيظ ظهيرة صيف في ساحة الميدان ترددا أكثر من مرّة.. حتى أخبرت والدي بصدور كتابي الأول.. حسبت أن تكون مفاجأة سارة له.. لم تكن مفاجأة ولا سارّة.. ولا أعرف كيف كان يعرف كلّ شيء.. سألني: لماذا تقول لي ذلك؟..

  • ألا يهمّك أن أصدر كتابا.. أول كتاب في تاريخ العائلة والعشيرة..
  • من يعرفك حتى يعرف كتابك؟..
  • كيف من يعرفني....
  • كيف أقدم كتابك للناس ومن أين يعرفون أنك أبني؟..
  • لكني اخترت هذا الاسم.. ربما مصادفة..
  • لا قيمة لاسم بغير اسم الأب والعائلة..
  • ألا تأخذ نسخ من الكتاب..
  • لا تلزمني....

خلال ذلك كلّه لم ينظر نحوي.. كان العرق الداكن يسيل على أصداغنا.. والباصات المتحركة ذات الطابقين كأنها صناديق جحيم متحركة.. أزيز محركاتها يبعث على التقيؤ..

ليس والدي فقط.. عيون الجميع تفرستني بقنوط يابس كأنني أتيت فريا.. الابتسامات نشفت.. العيون تصحرت.. الكلمات تخرج مثل الدبابيس.. كيف اتفق الجميع في هذا الأمر.. لماذا الشرّ يوحّد القلوب بسرعة البرق.. كتمت أمري في نفسي.. وأعددت كتابا ثانيا للنشر.. كتابا آخر لا يحظى بابتسامة أو تهنئة أو فرحة صغيرة.. اليتيم أنجب طفلا.. فخرج يتيما مثل أبيه.. بعد أربعين عاما يقول أحدهم أنه يتابع كتاباتي.. أحد من الجيل الثاني أو الثالث.. أما الجيل الأول فما زال يخزن دبابيسه تحت لسانه..

لا أعرف إذا كانت ساحة الميدان دائرية أو مربّعة.. لكن المؤكد أنها ليست مستطيلة.. لا أعرف إذا كانت كذلك أيضا في أيام الملك عندما قامت الحكومة بتأميم المباغي وأنشأت في الميدان دائرة المبغى العام.. يقف على بابها البوليس.. ويتفحصون هوية الزبون.. وشهادة السلامة الصحية.. أين كان مكانه بالضبط.. ولماذا لا أراه هنا بدل باصات الجحيم الحمراء هذه..

[لا تنظروا لي لكوني سوداء.. لأنّ الشمس لوّحتني.. بنو أمي غضبوا عليّ.. جعلوني ناطورة العوسج.. أنا سوداء لكني جميلة.. في الليل على فراشي طلبت من تحبّه نفسي.. طلبته فما وجدته.. وجدني الحرس الطائف في المدينة .. فقلت أرأيتم من تحبّه نفسي.. فما جاوزتهم إلا قليلا حتى وجدته.. وجدت من تحبّه نفسي فأمسكته.. أمسكته ولم أرخه.. حتى أدخلته بيت أمي وحجرة من حبلت بي.. اسيقظي يا ريح الشمال.. وتعالي يا ريح الجنوب.. هبّي على جنّتي فتقطر أطيابها.. ليأت حبيبي إلى جنته.. ويأكل ثمره النفيس]-(*)..

لم أسأل والدي يومها.. والحرب مشتعلة على الحدود.. لماذا أعطاني هذا الاسم.. ولم يتركني على اسم أمي.. لم أقلْ له أن التأليف مهنة أكثر صعوبة من الغناء.. صيت المؤلف غير صيت المغني.. لم أفصح له ان الغناء هو الغناء.. في مصر كما في لبنان.. فلماذا يكون إسمي مشكلة سياسية أو قومية.. كنت أتمنى أن يقول لي أحد ذلك ويجيبني عن كل الأسئلة التي حملتها لوحدي.. وأضع لها أجوبة من نفسي بعد مضيعة السنين.. هل هذا عمر أم عربة يجرّها حصان أعور.. لماذا أنا العوسجة الوحيدة التي قذفتها أمواج العائلة وتنكر لها الجميع.. الجميع من كلّ الأطراف.. كأنني نزلت من سفح بعيد.. أنا الآن أيضا في بلاد بعيدة.. غريب عن كلّ شيء وعن نفسي.. ولكني أعود قريبا لأحتضن موتي.. موتي سيكون مناسبة سعيدة لعودة الاجتماع القديم.. هكذا نحن لا نجتمع إلا في مناسبات الموت.. ولا تظهر عواطفنا إلا في مسابقات العزاء.. لقد حاربت في كلّ حروبكم.. ودفعت فواتير كلّ هزائمكم.. وأنتظر لحظة الحكم الأخيرة لاعلان هزيمتي على الملأ..

ما من تحرير أقسى من تحرير اللفظ من المعنى.. وتحرير الشخص من ذاته.. التحرير الذي يحيل كلّ منتجات الحضارة إلى سوق خرده وسكراب على قارعة الزمن.. ليس ثمة عبودية أجمل من عبودية العائلة.. أفراد العائلة قطع غيار ملونة في فاترينة المنزل.. ها نحن عبيد وسعداء.. انظروا إلينا يا يتامى واغتاظوا.. لأنكم لا تعرفون ما نحن فيه من هناء..

أخرج من ردهة عقلي.. وأمدّ رأسي من شباك الطابق الأول منتظرا رشحة هواء بارد.. أو صوت محرك سيارة صغيرة.. تندفع مع ارتفاع مستوى الشارع.. أنا أعيش رهين أفكاري.. وأفكاري أسيرة النكد الذي لم يترك بلدا أو لغة.. أبحث عن تحرير ينتشلني من عقلي وذاتي.. إذا كانت الذات تصنع الحدود فالذوبان يلغيها..

قبل أن يموت أخي الذي لم أعرف بموته إلا متأخرا.. أفصح لي عن رغبة نفسه.. تلفوناته الأخيرة هي الوحيدة التي لم يتحدث فيها في الدين.. طلب مني أن أبحث له عن زوجة تقية تكون له سكنا ووطنا.. جاء ذلك بعد انقطاع طويل كالعادة.. كان الأمر مفاجئا لي.. كثرت اتصالاته وتكرر طلبه.. نفس الطلب..

تكرر الطلب .. تكررالاتصال.. أقلعت عن رفع التلفون.. لم أخدعه بكلمة جميلة أو أمل كاذب.. لم أستطع مراوغته .. بقي التلفون يرنّ.. يرنّ.. أنظر إلى الرقم.. أغادر الحجرة إلى الحديقة.. أترك البيت إلى الشارع.. أفكر في طريقة لمساعدته أو تحقيق حلمه من غير كلام كثير.. هل أفهم فعلا ما يقوله..

في تلك السنة.. ربما في الصيف أو الخريف.. كان قد مات.. هل كان ذلك حلم والدي أيضا.. الحلم الأخير والمتأخر بعد فوات الأوان.. حلم يتسلى به المرء وهو يتقدم من عتبة الانتقال من الوجود.. حلم يراودني أنا أيضا منذ زمن.. مجرد حلم مستحيل.. لكنه جميل..

مسكين هو الانسان.. يولد رغما عنه من امرأة.. وعندما يصل خط النهاية.. يريد أن يتسلح بامرأة تحمله إليه.. هل تعرف المرأة معنى هذا.. هل تدرك سرّ مأساة الرجل.. الطفل الذي لا يريد فقدان طفولته.. ولا الخروج من حضن أمه.. تأخذ المرأة رجلها إلى بيت أمها والحجرة التي حبلت أمها بها.. لكنها لا تمنح الرجل ما تراه من حقها.. وللنكاية في الموضوع.. جعل الغرب للمرأة حقوقا مضاعفة.. لتأكيد هزيمة الرجل.. رجل بلا امرأة لا يصنع ثورة.. والعولمة عالم بلا ثوار.. عالم أسواق ونساء.. بين ألف رجل وجدت واحدا.. وبين كلّ النساء لم أجد امرأة.. امرأة فاضلة من يجدها.. إذا كان سليمان ابن بتشبع الحورية ضحية هذا السؤال.. فعبث هو البحث من بعد سليمان.. أية امرأة تستحقك يا أخي بعد هذا العمر.. ثمة امرأة واحدة فقط تأتي مع الحلم.. لكنها لا تتجسد.. أنا وانت وأبي وسليمان وجدّي وكل الأنبياء واليتامى ضحايا من لون واحد.. أيوب أيضا كان ضحيّة.. ولكن وعي الجلاد أقوى من وعي الضحيّة.. لا قيمة لوعي بلا فعل.. وشكرا للموت.. لأنه فعل..

ـــــــــــــــــــ

* من سفر نشيد سليمان/(أكثر من موضع)..

 

(19)

ع م، بين نونين.. عين من العمى وميم من الماء.. خسفت بهما الأرض وارتفعت السماء.. عم وعمر.. يلتقيان.. في ساحة الأمين.. عم وعمر وأمين.. وزحمة البساتين.. تحملها أمّ النوى.. مدرسة تصدّرت مرابع السنين.. تخرج الجميع من صفوفها، ولم يعد يشدّهم منها سوى الرنين.. رنين هاتيك السنين.. يهرب من أمامها أبناؤها.. ويركض الرقاع في أعقابها.. أمّ النوى، أرملة جائعة.. حافية عارية.. وكلّ من ينظرها يشيح عنها وجهه..

قد أكل الزمن من إهابها.. وانتشر الأغراب في أحيائها.. وكلّ من يسألها.. عنها وعن أيامها.. تشدّ شعر رأسها في الأرض.. والكلام... يخونها.. جميع من يعرفها.. أوّلهم أبناؤها.. أمّ النوى.. تمدّ للكلاب ثديها وتعلف أبناءها الكلام والحجر../(13 فبراير 2005م)

ركبت القطار.. محتشدا بمشاعر وآلام.. مثل شخص مطرود.. مخدوع.. مغرّر به.. وهذه الكلمة الأخيرة كانت تتردد كثيرا في وسائل الاعلام يومذاك.. نعم.. مغرّر به.. أتمنى أن تدبّ الحياة في سكك الحديد فترتفع للأعلى وتشق الفضاء وتخرج عن خطوطها الجامدة التي رسمها الأنجليز.. بعد نسفهم الخطوط التي رسمها الألمان من قبلهم، وذلك قبل ولادة جيلنا المنحوس.. أعني جيلنا المغرّر به..

يومها نسيت أختى تلك القصة.. وانشغلت بنفسها والعناية بشبابها، وملاحظة الشباب الذين يسيرون وراءها أو يلقون كلمات غير بريئة.. ما أن تدخل البيت وتلقي حقيبتها، حتى تعود تتلصص من شقوق الباب أو الستارة.. من كان يتبعها وأين ينتهي به المطاف.

أما أنا فكنت مستودع أسرارها، وذراعها اليمنى في كلّ شيء تخطط له.. حتى عندما تكذب، تستخدمني شاهد زور عند الحاجة.. وكنت أؤيدها دون معرفة بالأمر أحيانا، ما أن أدخل البيت، حتى تستنجد بي.. إذا لم تصدقوني اسألوه، فهو يعرفني ويعرف كلّ شيء عني.. وكنت أبصم مغمض العينين.. فعلا كنت أعمى.. أعمى ومغرّر به.. لماذا كنت منحازا لها لذلك الحدّ.. لا أدري.. لكنه ليس أمرا طبيعيا.. ولكم كنت مخطئا.. وضعت نفسي تحت وزر الكذب والذنب والاثم من أجلها.. ولأمور لا تستحق الذكر..

كانت هي شقيقتي الوحيدة.. لم يكن لها أخت.. وكانت تبكي وتقول ليس لي أخت.. ليس لي صديقة أتحدث إليها.. وهكذا، قررت أن أكون (أختا) لها.. أقاسمها همومها وانشغالاتها وأقرأ معها دروسها وأشاركها واجباتها المدرسية وامتحاناتها، أمسك لها الكتاب أو القصيدة لتتأكد من حفظها، أوجه لها الأسئلة لكي تتأكد وتستوثق من إجاباتها، وهي للعلم تقرأ بصوت.. فأسمعها رغما عني، ويومها لم تكن في بيتنا غير حجرتين، ونقضي طيلة النهار في الصالة..

عندما تحتاج كتابا من احدى صديقاتها أكون أنا السفير حامل الرسائل.. عندما تذهب لاستلام نتائج الامتحان، أنا الذي أرافقها، وعندما تقصد محلات البوتيك لشراء حاجات خاصة.. أكون انا المرافق لها فوق العادة..كلّ ذلك كان لا بدّ أن ينتهي وأغيب من أفق البيت العائلي.. والألم الذي يهتصر أحشائي..

بدأ أخي يشترك في مسرحيات وتمثيليات تلفزيونية، وانا أواصل دراستي.. أنا الابن المطيع.. لم يعترض أحد على تمرّد أخي ودراسته للفنون.. لم يستأذن أحدا في تمثيله أدوار الجنون أو العوق.. وإطالة شعر رأسه متشبها بالفنانين العالميين.. وفي كل ما أراد لم يستأذن أحدا.. ولم يعترض عليه أحد.. فعل كلّ ما أراده..

وأنا لم أفعل شيئا أردته ذات يوم. كنت أستأذن، فيصدر الفيتو، وبقيت طفل العائلة، ليس في الجامعة، ما بعد ذلك.. وما خفي كان أعظم..

قضيت الفصل الأول كلّه دون مراجعة البيت.. بدأت أحترف الوحدة والغربة.. في نهاية الاسبوع تتعطل الدراسة، والزملاء يسافرون.. وأنا أبدأ في قياس أبعاد الشوارع، وتحديد نقطة الحرارة القصوى خلال النهار، وانتقاء أرخص المطاعم وأقربها إلى طبخ أمي.. أقرأ كتب الدراسة من أول العام لقضاء للوقت.. أراقب الناس والطيور والساحات والشبابيك، بشكل شبه يومي، لأخلق علاقة شخصية نفسية مع المكان وأحرق بجاحة الغربة..

هناك أحببت الناس.. أحببت المطاعم الشعبية والباصات الخشبية والطبقات الشعبية، وبائعات الألبان والخبز الريفيّات أو البدويّات.. لكنه بقي حبا طفوليا.. وطيلة الجامعة بقيت طفلا ولم أكبر.. ولا أدري لماذا لم تغرّر بي واحدة من بائعات الخبز واللبن والسمك.. لماذا لم يحدث شيء يغير قدري، ويوقظني من براءة الطفولة التي بقيت موصولة بالأم والأخت.

 

(20)

عندما فتحت اللابتوب قابلني تاريخ التاسع عشر من مايس، رغم أن تاريخ اليوم يتجاوزه بيومين.. ماذا يهم.. كلاهما رقم فردي.. اليوم فردي والشهر فردي.. فردي على فردي تكون النتيجة زوجي.. وهذه هي بالضبط معادلة ميلادي.. أعني شهادة ميلادي التي بقيت بدون معادلة.. مثل شهادتي الاكاديمية التي لم تنفعني في شيء.. حتى لم تحظ بالتعليق على جدار في بيت أهلي.. وبقيت من غير صورة جامعية واحتفال خريجين، يباركنا فيه ممثل عن رئيس الجمهورية..

أعني الحكومة جعلت احتفال خريجينا على الساتر الامامي.. أعرف انك – ربما- لا تدرك معنى الساتر الأمامي.. لكن لا يهم.. اعتبره كلمة أجنبية أو لغة سومرية قديمة.. رغم أن السومريين لم يخوضوا حربا.. جمعوا حروبهم ودفعوها لقائد ضرورة دفعها لهم من اعمارنا.. هنيئا للموتى.. فقد سجّلوا أسماءهم في سجلات سومر.. اما (ولد الخايبه) أمثالي فقد عبروا البحار والتلال وأكملوا مشوارهم لدفع بقية فواتير العولمة..

أعني الرأسمالية التي انتصرت على الاشتراكية بنتيجة (10-0) في مباراة ودّية كان فيها الفريق الروسي مخمورا بقيادة المخمور الرقم (1)، وكان حامل الرقم (13) هو حامي الهدف غوربي. وكان غوربي يخاف على خريطة العراق المرسومة على جبينه الأيمن، فيزيحها كلما رأى الكرة.. فتدخل بسلام في المرمى الموسكوفي بسلام..

قمت بتسديد حصتي من فواتير أبي ناجي وأم ناجي وأولادهم فردا فردا حتى الذين لم يولدوا بعد، وعندما وجدت بقية دم في عروقي.. وأنا طبعا.. شخص صاحب دم وعلى خلق.. كما يقول عادل امام في المسرحية(*).. وأنا ايضا حياتي مسرحية ولكن من غير مستقبل..

سجّلت في جمعية (اس او اس) لأتبرع بالدم في كل فرصة وألبي كل نداء إغاثة وغير إغاثة.. حتى جمعيات الرفق بالحيوان تبرّعت لها بالدم.. وملأت استمارة في مصحة الأرملة فيكتوريا للتبرّع فيها بكلّ اعضائي الصالحة للتداول لمن لديه رغبة في اللحم العربي..

سجلت اسمي أيضا في مشروع الموت المنظم.. لكني لم أستلم ردّا للآن.. مع ذلك فأنا عضو في منظمة البيوهيلث ومرتين في السنة.. أملأ استمارة الكترونية لتقديم كلّ ما يرونه من معلومات عن شخصي، فأنا موثق بشكل جيد في منظمة الصحة الدولية، وهم يكرّرون انهم حافظو أسرار درجة أولى، ولا يطلع عليها غير شركائهم وجمعيات الصحة والأدوية المعنية بتطوير الأمراض والأبحاث البيولوجية.. وهذا أيضا لا يهم.. أنا يهمني أنا أبقى مطيع وخوش ولد حتى الموت.. لان اسمي له علاقة باسم المسيح.. وأنا وهو ولدنا في يوم فردي وشهر فردي.. الاختلاف بيننا فقط في العام.. ولو كان العام عندي فردي لذهبت مبكرا فوق السحاب.. ولم أتأخر لأرى كرنفال نيويورك ولا احتفالات المغول في بغداد.. المهم أن عندي هوية تبرع بالدم ووثائق عضويتي في وكالة الصحة القومية ومنظمة الصحة العالمية.. وهذه أفضل من جمعية سومر وأرض نهرين والمحاربين القدماء من ولد الخايبه..

التاسع عشر من الشهر الخامس الذي مرّ قبل يومين كان يوما مضطربا.. ويبدو أن ابولو الذي يدير بيده قرص الشمس كلّ يوم.. اضطرب هو نفسه او ربّما كان مخمورا جرّاء ليلة ماجنة أو أي شيء آخر.. ابتدأ من منتصف الليل بمطر وعواصف شديدة.. وأبولو ليس من اختصاصه المطر ولا العاصفة.. والفجر تأخر بشكل ملحوظ.. وأنا لم أنم تلك الليلة بسبب ألم ضايقني في صدري.. وكانت الكبسولة التي زرعها المستشفى الفيكتوري قرب ثديي الايسر بارزة بشكل مقزز فوق سطح الجلد.. والألم داخل الحنجرة.. الهواء لا يمرّ بسلام.. فاضطررت لمراقبة النافذة.. واعتقدت أن العاصفة هي مركبة ايليا التي ستحملني بين لحظة واخرى.. وكان مجرد هذا التفكير يمنحني سعادة لا توصف.. سعادة المركبة السماوية.. قد يكون هذا سبب تأخر ابولو في الذهاب إلى عمله.. لأن العربة التي يستقلها للصعود الى قرص الشمس تم استعارتها لغرض اخر.. ربما من غير أذنه.. الليلة التي سبقتها كنت أقود طائرة.. نعم طائرة واحدة.. كنت واقفا على شاطي بحر.. واقفا وأنظر كما يقف جميع الناس وينظرون سباق قوارب أو أي سباق.. المهم ينظرون.. وأنا أيضا كنت أنظر ولا أعرف أي شيء.. كانت روحي تخرج وأنا واقف وأنظر.. تخرج روحي وتأخذ هيئة طائر.. لا أرى الطائر.. أرى طائرة تغوص في البحر غير بعيد من الساحل الذي أنا واقف عليه.. تغور وتغور وتغور.. وأنا أنظر وأقول هذا سباق طائرات وليس سباق قوارب.. لكن الطائرة في الماء تصير طائرتين ولم أفكر في تلك اللحظة.. في عزازيل.. لكني أعتقد أن الطائرة الثانية كانت لايليا الذي يعلمني على الغوص العميق.. فكرة الغوص هذه لها علاقة بأمي وقد شغلتني قبل يومين منه.. المهم أن الطائرة غاصت وارتفعت.. ربما لم يكن ثقب في قاع البحر تعبر منه كطريق أقصر.. في المرة الثانية تكرر نفس الشيء.. كنت أنظر وقلت أن الموضوع عادي.. ولكن في منتصف الطريق حدث شيء.. توقف قلب الطائرة التي فيها أنا.. أقصد روحي.. أصبحت الطائرة من غير وزن ولا اتجاه.. قلت في هذه الحالة سترتد الطائرة نحو الأعلى.. لكن الطائرة المترنحة في وسف المسافة داخل الماء سقطت نحو القاع.. بقيت تغور وتغور.. والطائرة الثانية اختفت.. ولا أعرف بعدها أي شيء..

المطر العنيف توقف أخيرا.. لكن العاصفة استمرت بشكل متقطع.. وأنا أعرف العاصفة من أصوات الصفائح التي تخرج عويلا مرعبا خلال الليل عند مرور الريح خلالها.. ربما بسببه أيضا لم أجد هواء كافيا يمرّ داخل حنجرتي.. عندما ظهرت الشمس.. لم تظهر شمس.. أقصد النهار كان خجولا كما يقال في القصص.. نهار خجول.. وأنا اعتقدت أن النهار ما لم يبدأ بعد.. فبقيت في الفراش.. ولكن رقاص الساعة هذه المرّة كان يشير للتاسعة.. وهذا لا يناسب كمية الضوء التي تراها عيوني.. طيلة نهار التاسع عشر من مايس كان النهار خجولا مضطربا.. والنور منحسرا الا بقدر يجعل الناس يذهبون للعمل والطلبة للمدارس..

في مثل هذا النهار الخجول المضطرب كان وصولي إلى العالم.. ولنفس السبب لم تكن كمية كافية من الهواء في حنجرتي فازرقّ لون جلدي وصار قراري العودة من حيث أتيت.. ولكن لأسباب قاهرة لم تنجح الخطة فتوقفت عن التنفس واستمرت زرقة جلدي.. هذا ما قالته لي امي.. وهو ما نقلته للدكتور الصيني المطبق.. بقيت اسبوعا أحلق في العدم.. لا الأرض تمنح تأشيرة دخول.. ولا السماء تسمح بعودتي لبيتي السماوي.. هكذا هو الآن.. وهكذا عشت كل حياتي.. أي المدة التي أعيشها على الارض.. وأتنفس الهواء الذي لا أراه..

لا أعتقد ولم أشعر يوما.. أنني أنتمي للمكان الذي أنا فيه.. ولا الناس المحيطين بي.. حتى أهلي لم أشعر أنهم أهلي.. ولا أذكر مرة فيها عانقني أحد من أهلي.. العناق الوحيد الذي عايشته عندما كنت أغادر البيت أيام الحرب.. ولم أستطع تفسير ذلك.. ولكنه مجرد طقس تقليدي.. حتى العدو يعانقك في تلك اللحظة.. مثل أي سفر قد لا تعقبه عودة.. لكني في كلّ مرة خذلت الجميع وعدت كما أنا.. المرّة الوحيدة استغربت العناق عندما فتحت عيني ووجدت نفسي في حضن أمي وأختي ولا اعرف كيف حصلَ ذلك..

كان الاثنان يضعان ذراعيهما تحت راسي وكل يسحبني نحوي ويتأرجحان وهما يبكيان.. أنا كنت في مكان أبيض.. أبيض في كلّ شيء.. فوق وتحت وكلّ ما يحيطني أبيض وأنا أحلق بسعادة وأنظر حوالي رغم أنه لا شيء غير البياض.. عندما فتحت عيني بعد مرور زمن طويل.. كنت ملقيا على أرضية الحمام والباب مفتوحة.. والبخار الساخن يملأ خياشيمي.. منشفة ملقية على نصفي الأسفل ورأسي مرفوع بين أختي وأمي وهما تبكيان وتنوحان..

ربما كان والدي وأخي قد ذهبا لتحضير مراسيم الدفن أو الجنازة.. ونحن يومها في بلد غريب.. لا أدري أين يدفنوني.. وهذا أيضا كما الآن.. حيث أنا في بلد غريب.. ولن تخصص أي حكومة عولمية طائرة خاصة لنقل جثماني الى البلد الذي سقطت فيه..

عندما فتحت عيني ضحكت ساخرا منهما.. قالت لي أختي معاتبة: لماذا فعلت بنا هكذا.. ألا تعرف أننا نحبك وانهمكت في بكاء أشد.. أنا زعلت.. حقا زعلت.. ليس لأني عريان.. ولا بسبب البرد والباب المفتوح.. وهو في بيت باكوف الدائري ملاصق لباب الخارج..

زعلت لاني عدت للحياة وتنفست الهواء الذي لا أراه ولا أحبه.. وكانت تلك المرة الثالثة التي يتكرر فيها ذلك الشيء.. أنا أعرف.. أنني مرفوض من تاريخ الأرض.. وأنا لا مكان عندي هنا.. ولكني كلما أخرج من الأرض أجد الباب الثانية نحو العدم مغلقة.. فأبقى أحلق وأحلق وأنتظر وأنتظر وأعود مثل ابن خايبه للأرض..

وأنا يؤسفني إزعاج عالم الأرض.. ولكن أنا نفسي بلا إرادة.. لذلك أحاول ترك بعض المعلومات لمن يعاني حالتي ولا يجد علاجا.. لأنني مزمع ايجاد علاج قبل إنهاء روايتي هذه.. والمنفعة هي كلّ ما يسعني أن أفعله طالما فشلت في عمل الشرّ..

هذا تعلمته من زرادشت المحظوظ أكثر مني لمرتين.. أولا أنه مات مبكرا.. وثانيا لأنه وجد من يقتله من بين أعز أقاربه.. وهذه نعمة لا تقع بيد غير الأنبياء والصالحين.. فعندما يكون البرزخ مسدودا والطالع خائبا تحتاج لطالع مختلف يدخل على الخط ويد تدفعك في البرزخ حتى ينفتح وتعبر للجانب الثاني..

حالتي الوسطية البين-بينية هذه لها علاقة بكثرة الأحلام التي تدهمني في الليل.. وأحيانا حتى خلال النهار.. وأنا رأيت وأرى أشياء كثيرة لا يخطر لكثيرين رؤيتها أو تصورها.. ومن ذلك أني رأيت كلّ أهلي الموتى.. وعشت معهم وتحدثنا وحدثوني عن أشياء كثيرة كما لو كانوا ما زالوا في الارض.. وأحيانا نتحدث وأنا أدرك أننا موتى وأنا معهم..

وذات مرة أخذني والدي إلى المكان الذي هو قبري.. وأنا دخلت القبر وهو بقي خارجا مثل مرشد سياحي.. ولكنني عندما وضعت قدمي داخل القبر أعطاني نضدة قماش من نوع فاخر وجميل.. لم أمسكه بيدي.. فوضعه على التراب.. وكان لون التراب مثل هذا الذي في الارض.. تماما.. فقلت له.. لن أبقى هنا.. لابدّ من تعمير المكان وتحسينه..

في نفس اللحظة خطرت لي فكرة أن بناء مكان جديد أفضل من إعمار مكان خرب قديم.. وبسبب هذه الجملة أنا ما أزال هنا حتى ينتهي بناء مكاني الجديد.. فلا يعقل بعد كلّ هذه الحياة أن أنام في تراب بليد بارد.. وأترك الثلج.. أقصد الورد الأبيض الذي أراه دائما في أحلامي.. وأنا أحلق ولا أشعر بشي غير التحليق والنظر في البياض.... بطارية اللابتوب تتخافت بسرعة وأخشى أن ينطفئ فجأة قبل حفظ العبارة الاخيرة.. ومصدر الكهرباء غير قريب.. الأفضل أن أعود بعد قليل.. وبعد قليل لن تروني أيضا..

ــــــــــــــــــــــــــ

  • عادل امام (مواليد 1940م- المنصوره/ مصر)، من مسرحيته الشهيرة (شاهد ما شفش حاجه/1976م)، وهي ابرز حدث ثقافي الى جانب (مدرسة المشاغبين/1973م) و(الزعيم/1993م)، قدمت قراءة عميقة للمرحلة التي مهدت لمشروع الالفية الامريكاني الساري.

 

(21)

أحسست بحرقة في الزاوية الخارجية للعين اليمنى، حرقة عمودية، مثل ينبوع يغلي ويبدأ يتدفق نحو الخارج.. خيط من ألم يسحّ.. لم أمد يدي لأمسحه أو أفركه.. بقيت أنظر باستقامة للأمام لأنسى الألم.. ومن غير شعور أغمضت عيني بسرعة.. مرة واحدة واختفى الألم.. لماذا العين اليمنى.. هل تختلف فسيولوجيا احداهما عن الأخرى.. هل هو مجرد عرض عصبي.. ما علاقته بالعوامل النفسية.. أية عوامل تؤثر في اليمنى.. وأية عوامل تنعكس في الجانب الأيسر.. هل كان القدماء على حق في طريقة تفسير انفعالات كل عين على حدة؟.. لماذا كانت معلومات أسلافنا التراثية أفضل من معلومات أطباء زمننا..

أستطيع أن أقول أنني حزين.. وبحاجة لبكاء عميق أو حضن حميم.. ولكني وحيد.. وحيد.. وأقرب الناس إليّ.. هم مجرد ذكريات أو أحلام تحضرني في النوم.. مايا حبيبة فعلا.. وأنا أحبها وأحنّ اليها كلّ يوم.. كلما أشعر بالوحدة.. لكنها نرجسية جدا.. ومزاجية جدا.. والحبّ عندما يكون درجة ثانية أو ثالثة.. يفقد مفعوله..

ان الطرف المستقبل يحتاج الحبّ أو الحنان بنفس القوة الأولية التي يحتاجها الطرف المعطي.. هي لديها أكثر من أحد.. وأنا بالنسبة لها –لاعب- احتياط، أو قطعة غيار عند الحاجة.. أنا ليس عندي أحد.. شخص وحيد.. وعندما تتعامل معي أو تحتاجني أعطيها كلّ الأوّلوية.. ولكنها لا تعاملني بالمثل.. أنها تعطيني من فضلة الحب..

عندما تتمشكل مع أحد تلجأ إليّ.. هذا يجرحني.. وصار يؤذيني.. حتى الأكل الذي تتذكرني به أحيانا.. من بقايا عشاء البارحة أو فطور الصباح.. عندما تغيب تمنح نفسها عشرين عذرا.. أما أنا فتعاتبني بشدّة.. لمجرّد أنني بلا مشغوليات..

لم أعد أهتم في التقرب من أحد.. فلا أحد يعطيني الأولوية.. كثيرون مصابون بالنرجسية.. سيما المرأة التي تهتم بشكلها ورشاقتها ولون بشرتها وتسريحتها أكثر من حياة انسان.. الحبّ الذي كنا نسمع ونقرأ عنه.. هو أدنى للخرافة اليوم.. تطور مفهوم الحبّ من حاجة إلى سلعة إلى وسيلة لاستغلال المحتاجين/(سديوز أند أبيوز).. مدخل سهل للدخول في حياة انسان وسرقته من الداخل..

تعجبت مؤخرا عندما قرأت كتابا عن الـ[siduce]، وأسفت أن تنتهي (العواطف الانسانية) بتلك السهولة ولأغراض تافهة.. ان الخجل عامل مهم ليكون المرء انسانا.. بدون الخجل لن يتورع عن شرعنة كلّ شيء، حتى لو كان لمجرد التسلية أو تمضية الوقت.. هذا ما لا يفعله الحيوان..

[الزمن صاير بغي.. واحنه نرجع قهقري.. تكيّف وسايس الدنيه.. لا تكَللي وطني.. شوف لك حد بالطريق.. وكَول أنك تعرفه.. ولو سأل أصلك وفصلك.. كَول سابق معرفة.. غير اسمك.. حرّفه.. كَول اسمك مصطفى.. بدل اصلك.. زيّفه.. كَول عيسى ابن هشام.. عاد يذرع أرصفه..!

ولا تكَول اصلك وفي.. هاي ما عادت صفه.. يرد منك يشتفي.. كَول اصلك فهلوي.. تضحك وتطعن كَوي.. ولو يلاويك الزمن.. ذراع غيرك يلتوي..

وانته من اهل المدارس.. وكَول اوكي.. مثقفه.. تمسكن بساعة الحيلة.. وكَلب غيرك عطفه.. هاي لندن موش دلهي.. تدري لندن معرفه.. اليقع محد يشيله.. ولو طلع صار اجنبي.. الفلس امك وابوك.. بغيره تصبح منشفه.. تكيف وسايس الوادم.. ولا تكَلي وطني!.. صير عيسى ابن هشام..]

 

(22)

اليوم حصل شيء لا أدري إذا كان سبق حدوثه.. كان ذلك بعيد الظهر.. وهذا يعني بعد الثالثة.. كنت مستغرقا في نفسي.. ولحظت أن النهار تناهى وتناهى.. عرفت أن استغراقي استغرق اليوم بكامله.. وها أنا في المساء ووقت الفطور قد فات.. فنحن الآن في الشهر الكريم.. الذي يصادف في مايس..

النافذة وراء ظهري وأنا مستغرق في زاوية الحجرة.. الهواء صار ثقيلا وزنه.. صار كثيفا حجمه.. يبدو أن سيارة حمل هائلة حجمها أكبر من سعة الشارع الذي هو خلف ظهري أيضا.. تقتحم الشارع وتمتصّ كل مسامات الهواء وتضغطه ضغطا لتفسح لنفسها مجالا أوسع.. الهواء يضغط والتنفس يضيق وصوت المحرك الهائل يحاصر المكان من كل ثانية..

ما يسعدني في ذلك هو نهاية النهار.. فالمهم في الحياة هو النهاية.. النهايات هي أجدر شيء في الوجود.. حسن الأشياء في خواتيمها.. هكذا يقال.. ولكن الخاتم في اللغة ليس النهاية، وانما الحلاوة.. والمعنى قيمة الاشياء في حلاوتها.. ما يبقى من حلاوتها في قاع الذاكرة..

فجاة حدث انهيار شامل.. أشياء تسقط بقوة محدثة ضجيجا وصدى مثل يوم القيامة.. أشياء ثقيلة تسقط بقوة على زجاج النوافذ.. تضرب الحيطان من الخارج بقوة.. ضحكت داخل نفسي.. وقلت.. هذا هو اليوم الأغبر الذي عاشه مارتن لوثر(*) قبلي.. ونقله من الأرض إلى السماء.. ومن الدنيا إلى القيامة.. هذه هي الكلمة الصائبة.. القيامة.. ولكنه ما زال مبكرا أيضا.. ثمة وقت قصير للتوبة.. للاستغفار.. الذي على السطح لا ينزل، والذي في الحقل لا يعود إلى البيت.. والأم لا تلحق برضيعها.. وأنا على السطح.. على السطح أقرب إلى السحاب من الأرض..

لكني مع ذلك خرجت من الخلوة.. لم يبق مكان داخل ذهني.. نزلت درجات السلم الخشبي وعيناي للأعلى.. نظرت للخارج عبر زجاج الباب الخلفي للبلكون.. برد خشن مصحوب بمطر وريح صرصر عاتية.. هو أو هي تماما.. رددت الصلاة وأنا أنظر بفرح كينوني لعلامات الساعة..

عدت للحجرة ورأيت رقاص الساعة على الثالثة والنصف.. اقتربت.. كانت العتمة كثيفة.. قلت أن الساعة واقفة على الثالثة والنصف.. لا بدّ أنها السابعة مساء الآن.. في الساعة الثالثة أطلق صرخته الأخيرة ولفظ الروح.. في يديك أستودع روحي..

أنا لم أقل هذا.. لأني أنتظر عودته.. لم أشعر في داخلي بذلك.. أعرف أنها ساعة وهي الآن.. ولكنه ما زال لا يأتي.. فقريبا يأتي الآتي ولا يتمهل.. قريبا يأتي الآتي ولا يتمهل.. لكن السحب لم تتجمع الآن.. السحب تظهر عندما تنجلي السماء.. والسماء الآن سوداء مثل قعر تنور..

حتى المطر لونه أسود.. والبرد أسود مثل قطع فحم أو بلورات فحمية.. تطرق الأرض وتلوث الحيطان.. الأراضي سوداء ووسخ العشب والنفايات تلتصق بالسطوح.. رأيت جارتي تنظر من بلكونها وقد غطت نصف جسمها بالستارة.. تأكدت من دوران رقاص الساعة.. والساعة حقا هي الثالثة والنصف.. وليس الغروب بعد.. ألقيت نفسي على الكرسي واستغرقت في العاصفة البردية.. صليت من أجل نهايتها.. فتراجعت.. خفتت وانتهت.. وعاد النهار يتكشف ثانية ويستعيد ضوءه.. أوساخ ونفايات في كل مكان مثل ميدان معركة سماوية.. هذا ما حصل تماما عندما خرجت الرّوح من خيمة جسده الترابي..

الأرض زلزلت.. البيوت اهتزت.. الستائر انشقت من الأعلى للأسفل.. القبور انفتحت والنائمون خرجوا إلى الشوارع والساحات.. لكن السّاعة لما تزل لم تحن بعد..

تذكرت أن ميلادي الحقيقي هو يوم التاسع من مايو وليس التاسع عشر.. وما بينهما هو موتي عقب الولادة.. قبل عودتي للحياة مرّة أخرى.. كان على أمي أو والدي تسجيل يوم التاسع من الشهر الخامس وهذا هو برجي الشمسي.. في وسط البرج وليس طرفه الأخير.. ولكن لمن تقول أمي ذلك وليس أبي هناك.. وعندما التقيا ثانية كان الوقت متأخرا.. وموضوعي صار قديما.. والناس أخذوا بالأخبار الأخيرة وتناسوا جملتها.. عنوا بالأخبار السارة وأهملوا ما قبلها..

لو كان تسجيلي في اليوم التاسع من الشهر الخامس لعشت حياتي الحقيقية.. من غير تورية أو مجاز أو تصحيف.. من غير استعارة أو قناع أو رموز.. لكن غلطة أحدهم تغير أشياء كثيرة.. لا أحد يعي أن تغيير حرف أو صوت أو حركة غير لازمة تخرج بالدائرة من مدارها.. والحرف يقتل.. لماذا أنا روح هائمة لا تعرف الاستقرار ولا تنتهي إلى قرار.. أنت تعرفين الأرقام الرومانية وتقرأين الساعات جيدا.. وأما ساعتي فلم تعرفيها..

 

ملاحظة: تكررت نفس العاصفة اليوم التالي وفي نفس الوقت وبنفس العنف، ولكن زمنها كان أقصر.. ربما لأنني انتبهت لها باكرا واستلمتها بالصلاة.. لكن تعجبت كيف ينقلب المناخ بسرعة، ثم يعود وكأن شيئا لم يكن.. ما عدا الاوساخ واللون الداكن في كل مكان.. [صادف ذلك يومي الخميس/(25) والجمعة/(26) من الاسبوع الأخير من مايس 2018م؛ تكررت في أوقات متفرقة ودائما بعيد الظهر حوال الساعة الثالثة، تلك التي أسلم فيها الروح.. اخر تسجيل كان يوم الخميس الثاني من اوغست 2018م، وهو غير مصادفة!].. لم تتكرر اليوم الثالث الذي هو السبت، لكن رؤيا ليلة السبت، كشفت لي خلاصة حياتي السابقة، وفي الليلة ما بعدها، كشفت لي ناسا سابقين.. وأذكر ان مثل هذه العاصفة المكررة حصلت في الايام الأخيرة من لندره.. ربما ارتبطت بتغيير مناخي..

ــــــــــــــــــــــــــــ

* مارتن لوثر [1483- 1546م] لاهوتي ألماني قاد حركة تصحيحية ضد سلطة البابا في روما وعارض حركة بيع صكوك الغفران سيئة الصيت. جمع انتقاداته للكنيسة في خمس وتسعين نقطة وعلقها على باب كنيسة، ومنها شاعت بين الناس ونسخت بالاف وعمّت كل أوربا. وقد نجح في حركته وصار له أتباع وشركاء مثل جون كلفن [1509- 1564م]في سويسرا مؤسس الكنيسة المشيخية، وجون وسلي [1703- 1793م] في انجلتره مؤسس الكنيسة الاصلاحية الوسلية/ (ميثوديست). كان مارتن لوثر كاثوليكيا مؤمنا جدا. وذات يوم، بعد انتهائه من اختبار الحصول على شهادة القانون لممارسة المحاماة، حصلت عاصفة شديدة وغريبة خلال عودته للبيت، شبهها خياله بعاصفة القيامة، وفكر للحظة في مصيره، لو مات في تلك اللحظة. عندها اعتوره الشك في قدرة الطقوس والأدعية والصلوات في تخليصه، فاعتزل الحياة وانضم للدير، وأعاد دراسة الانجيل مجددا لمعرفة الايمان الصحيح فوجد ضالته في رسالة رومية التي تعرض للصراع بين الروح والجسد، والفارق بين الايمان والطقوس/(رو8: 1).

 

(23)

بعد ربع قرن التقيت صديقي.. أعني صديق طفولتي المدرسية.. تماما ربع قرن منذ افتراقنا.. ولا أعرف لماذا هذا التحديد.. ولماذا كتب ذلك في رسالته الأولى إليّ عام (2001م).. ما معنى الزمن.. ربما انتظر مثلي نهاية الزمان التي انتظرناها منذ ولادتنا.. عند جدار مدرسة الأمين اتفق كلانا على موت مبكر إسوة بعظماء التاريخ.. موت قبل الثلاثين أو قبل الأربعين.. وبذلك لا نشهد انقلاب الألفية أو العالم.. لكننا لم نتغير.. ما زلنا نحن قبل ربع قرن تماما.. وتماما عقب انقلاب الألفية كنت هناك..

تلك المدينة المدينة.. ألفة المكان الأولى التي اكتشفتها أقدامي قبل حواسي الخمس خلاف ما قاله أرستوتل.. في تلك المدينة، شأن كلّ المدن التي عبرت في حياتي.. كان الماء واليابسة.. البيوت والسكان.. الهواء والمطر.. الطيور والأشجار.. كلّ شيء هناك كان هكذا.. (قدّته الطبيعة هكذا).. لم تلعب به يد انسان.. ذلك ما يجمع مدن حياتي.. مثل أطفال من عائلة واحدة.. في كلّ منها دخل الانجليز.. ومن كلّها خرجوا مدحورين مطرودين..

لماذا يسمونه (أبو ناجي).. من هو أول من أطلق عليه ذلك.. أم انه من منتجاته الدعائية/(أبو النجاة/ الفرقة الناجية).. يعني أنه يستطيع النجاة بجلده دائما.. أم أنه الوحيد الذي ينجو عندما يغرق الجميع.. أبو ناجي كنية مديح وليس ذمّ ولا يعرفه بها غير أهل العراق..

(الفرقة الناجية) من بين أثنين وسبعين فرقة.. هل هذا هو عدد الأعداء.. أم أكثر.. ربما هذا زائدا الصفر.. وبقسمة المجموع على أثنين وأضافة النتيجة للمجموع يحصل العدد المطلوب(*).. ربما.. ولكن من استطاع أن يعدّهم لكي يميز الفرقة الناجية..

(أبو ناجي الورد.. هسّه يوصلنا ويردّ).. سائق باصنا الأعمى وقائد نهضتنا المقدام.. تفتخر نساؤنا بعينيه الزرقاوين وشعره الأشقر وابتسامته الموناليزية.. في أيام الانجليز صار الأطفال يولدون بعيون زرق وشعر أشقر وبشرة حنطية.. جميعهم من الذكور.. لم أر فتاة بعينين زرقاوين أو شعر أشقر.. ذلك غير استخدام صبغة الحناء والميش.. هم يحلمون بالنجاة.. يتعلقون بالناجي.. غير (ناجي السويدي) طبعا..

هناك كتبت قصيدتي الأولى.. حاولت الانتحار مرتين.. متّ مرّتين مختنقا بالبخار.. عرفت صديقين من المدرسة.. وبقينا نحن الثالوث نتحرك ونعيش مثل شخص واحد حتى افترقت بنا الطرق والحروب والدول.. طرق الحداثة.. ويا ليتها لم تكن!.

للمرة الأولى خرجت للملأ معلنا قصائدي.. في ساحات المدارس.. اتحاد الطلبة والشباب.. مراكز التربية.. ساحات المدينة.. مقاهيها.. قرى السادة الصغيرة والكبيرة.. في الأماسي المتأخرة وفي الصباحات.. هناك عرفت العمل الفلسطيني والعمل القومي والجبهة الشعبية.. ومن هناك نشرت قصائدي في دوريات فلسطين الثورة والوطن العربي والتضامن.. هناك أحسست بنزيف لبنان في داخلي.. ومن خلال رسالة قديمة لفيدور ديستوفسكي اكتشفت الدوائر التي تدور على بيروت.. وما زالت تدور وتتسع حتى شملت كل البقاع..

هناك اكتشفت الخيط الأبيض والأسود.. السيجارة والخمرة.. الجنة والجحيم.. الديالكتيك والميتافيزيق.. هناك عرفت أصدقاء روحي والعالم الصغير.. أما نفسي فلم أعرفها.. ولم أعرف أنني موجود حتى فقدت كلّ شيء.. كلّ شيء إلا نفسي.. وأنا أكتب عن أشياء لا توجد.. أما الأشياء الموجودة فلا تعرفها حياتي.. الأشياء غير الموجودة هي الوجود الوحيد.. أما الأشياء التي تنوجد فهي مجرد أشياء.. ولكن بلا وجود.. وكما قال كركجورد.. الموجود لا يوجد.. لأنه كائن.. وأما الذي يوجد فهو الوهم..

في تلك المدينة بدأت علاقتي بالماء.. عندما تتعب قدماي من وطء التراب أنتهي إلى الماء.. أقف على الحافة.. أنظر في وسط النهر.. في داخل الماء.. أحاول تركيز ذهني هل هو يتحرك أم واقف.. كلما أمعن النظر أغوص فيه.. نقطة تتجوف مثل (ماسوره) وتبلعني نحو الداخل وصوتي يبقى فوق.. صوتي لا يخرج..

منذئذ أصبت برهاب الماء.. كلما أفكر في الانتحار أذهب إلى القنطرة وأنظر في وسط الماء.. ويبدأ الصراع.. (أقفز.. لا..) السياج ليس عاليا.. ولكن الشلل يسيح قوتي.. مسافة بين الفكرة والفعل.. خوف أقوى من الرغبة.. رغبة قوية وإرادة ضعيفة.

لماذا مشيت إذن حتى هنا بتلك النيّة.. والآن تتراجع.. كن رجلا وافعلها.. فعل بمستوى القول وقول بمستوى الفعل.. أشعر بالأسى وأرثي لحالي.. هل أنا جبان.. تعذبني تلك الفكرة.. لا يجوز أن أكون جبانا.. الحياة لا تساوي (عفظة عنزة) ولكني عاجز عن الانتحار.. الانتحار نعم.. ولكن ليس الماء..

أتصوّر جثتي تنهشها أسماك المحيط الهندي.. ربما التصق بالثلج القطبي ولا أموت.. وفي نهاية العالم عندما تذوب الثلوج أعود للحياة.. لا.. ليس الماء..

قراءة الماء تبدأ بالتمييز بين الحركة والسكون.. عندها أنسى المدينة والعائلة والحياة.. وأغيب هناك في عمق الماء الذي لا يبان له قرار.. القرار في الماء وهم.. في ذلك المكان بدأت علاقتي بالماء.. كلما تعبت من اليابسة والبشر.. أذهب إلى الماء.. أنظر إلى الماء.. أنظر وأنظر حتى أغيب عن النظر.. الماء هو الكائن الوحيد الذي لا يتكلم.. الذي يتكلم هو الذي يوجد.. أما الذي لا يوجد فهو كائن.. أزلي.. أزلية القبل والبعد..

بعد زمن من ذلك التجوال العبثي اكتشفت الماء الأكبر.. سخرت من نفسي عندما عرفت أن كل ما سبق كان مجرد جدول ماء من أعمال نجيب باشا لا غير.. ولا ضفاف للماء الآخر.. أنه ماء فقط.. ليس له وسط لأنه بلا نهاية.. وفي عام (1976م) فاض الماء الكبير وطما اليابسة والبيوت والمدن والبساتين.. في ذلك العام كما في (1954م) وكما قبل ستة الاف عام.. ماء من فوق وماء من تحت وبينهما اليابسة.. مثل ذلك الحلم الذي دهم تشارلز دارون(*) في سواحل اميركا الجنوبية.. وأربعين يوما طما الماء الأرض..

في تلك الأيام كان النهار أسود.. الشمس قرص أسود.. لأول مرّة تساوى الليل والنهار.. وربما تعطلت العيون عن الرؤية.. هذا أذكره جيّدا.. والناس يحملون أكياس خيش ليصنعوا ساترا وسط الماء.. كلّهم في حركة واحدة واتجاه واحد ومن غير كلام.. يومها فقط بدا الناس مثل شخص واحد.. نجحت الطبيعة الأم في إعادة الانسان إلى أصله.. بعد أربعين يوما بدأت اليابسة تظهر أيضا.. معفرة بالطين منكوشة الشعر مدحورة مكسورة الكبرياء.. الماء ينتقم من اليابسة.. واليابسة تقاوم وتنتفض.. عندها ماتت المدينة في داخلي..

ـــــــــــــــــــــــ

  • الرقم (72) من مضاعفات الرقم (12) قياسا على الجذر الستيني الذي وضعه السومريون أساسا لحساب الأيام ودوران الأفلاك. وهو من الأرقام والأسرار المقدسة في العقائد والميثولوجيات القديمة. اضافة نصف القيمة للعدد الأخير ينتج الرقم (1003م)، (مارس 2003م) الغزو الأميركي لبغداد.
  • تشارلز دارون [1809- 1882م] عالم بيولوجي انجليزي، في عام (1959م) نشر كتابه (نظرية النشوء وأصل الانواع) الذي اعتبر عنوانا واعلانا رسميا عن فكرة تطور انواع المخلوقات عن بعضها بحسب جداول تراتبية، بدء من خلية عضوية بسيطة ومن أحادية الخلية.

 

(24)

لم أتصور يوما أني سأعيش حتى اليوم.. فعندما خرجت من حرب العشر سنوات حيا.. كانت لدي قناعة اني لن أتجاوز الأربعين.. كان هذا أمرا عاديا لشخص ارتبط ميلاده بانقلاب دموي جعل أساسات الحياة الملكية بيد زعارنة الجمهورية.

الجمهورية ارتبط اسمها بيوليوس(*) قيصر روما، أول دكتاتور في التاريخ، ولم يدم حكمه.. والدي كان مؤيدا للجمهوريين.. وعلى صلة بأبرز قادتهم.. وطالما حدثني عن الزعيم وبساطته وعن رفيق دربه وغير قليل من كبار جنرالات الملكية..

والدي لم يصفهم من علاقاته الملكية والجمهورية، لكان لي شأن آخر اليوم.. وربما حظوت بمركز حكومي أسوة بأحفاد خونة أيام زمان.. شعوري بمصاعب المعيشة وحياة الكفاف التي وعيتها في سن مبكرة.. كان يقتل ردود فعلي ونشوة والدي التي كان يتوقعها مني مقابل كبريائه الجريحة..

في ذلك البيت المستأجر.. البيت الدائري الركن في (ام النوى) من أحياء بعقوبا القديمة.. ما كان ثمة من يستمع لوالدي أو يجالسه ليبثه همومه وآراءه.. أو حتى مجرد محادثة بريئة.. كان الماضي يجثم على حياتنا كصخرة سيزيف.. ماضي معقد سخيف، تختلط خيوطه العائلية بمهاترات السياسة المتقلبة.. ولا أدري كيف انشقت العائلة سياسيا بين مؤيدي الجمهورية ومؤيدي الملكية.. شيوعيين وقوميين لاحقا..

جدّي من طرف الأم لم يكن سياسيا من قريب أو بعيد.. ولكن موقفه اللاسياسي والمناوئ لزعارنة العسكر الذين كان يعرفهم بحكم الحامية العسكرية في مناطق (قره غان) ودلي عباس.. جدي كان متصوفا مريدا في احدى الفرق البكتاشية المشهورة من ايام العثمانيين، ولم يحد عنها في العهد الملكي..

فجأة وجدوا أنفسهم ضحية عنف كتائب الجمهورية بوصفهم اليمين الديني الرجعي.. تعرض جدّي لمهانة شخصية وتعذيب وحشي على مرأى الملأ.. يومها كان والدي من أنصار الجمهورية..

كل ما فعله الانجليز واتباعهم في بداية العشرينيات بمؤيدي الحكم العثماني والرافضين للاحتلال الغربي، تكرر في بداية الجمهورية مع من اعتبروا أنصار الملكية.. العراق دولاب(*).. وطالما اعتبر الجمهوريون أنفسهم معادين للملكية، فأنصارها أعداء لهم.. وهكذا ينكل أتباع كل عهد جديد بأتباع سابقيهم.. ثم يكررون نفس أخطائهم السياسية ومهاترات مراهقتهم..

ـــــــــــــــــــــــــــــ

  • يوليوس قيصر [100- 44 ق. م.] من ملوك روما، اول من لقب نفسه بالامبراطور.
  • جاء هذا الوصف في قصيدة (وتريات ليلية) لمظفر النواب بعبارة [الدولاب الدموي ببغداد..].

 

(25)

عندما كنا أطفالا ولا نجد لعبة نتسلى بها.. ننقسم فرقتين.. عسكر وحراميه.. وكلّ جماعة تلاحق الثانية.. ونحن نهرب من بعضنا ونتخفى في العتمة.. ومن يقع بيد الفريق المقابل يجتمع عليه الجميع ضربا وركلا وشتائم وسخة.. كما يجري بين الأمن والمعارضة.. ونبقى لأيام نتألم جراء تلك اللعبة القاتلة.. هكذا تعلمنا الخبث والمراوغة.. والشتائم التي ليس لها قاموس.. ومن يومها كرهت الشرطة والمعارضة واللصوص..

لو كانوا على قدر من الحكمة لجمعوا أبناء الوطن بدل تقسيمهم وتوزيعهم فريسة للاتهامات والخيانات ونشر العنف والثارات والدمار.. انتهت الملكية وانتهت الجمهورية الاولى والثانية والثالثة ولم تبرأ عائلتي من تبعات الماضي المريض..

مات جدي وأحيل والدي على التقاعد، ولكن حياته الزوجية استمرت مكسورة تعاني من الانقسام الجمهوري والحزبي، والدتي هي الاخرى ليس لها في السياسة ولا تقرا أو تكتب.. لكنها لعبت دورها جيدا.. عانت عائلتنا من تبعات داحس والغبراء العراقية المعاصرة.. واستمرت تشظيات داحس تلك تنتقل من جيل الى جيل الى..

عندما كبرت.. كنت في حالة ربما لا أستطيع تفسيرها الآن.. بين اللاأبالية والغرور.. لا أعترف بالتقاليد والعلاقات القرابية.. اؤمن بنفسي وثقافتي الغربية بشكل كبير.. يصفني شقيقي دائما بالمغرور والمعقد.. وأعتبره جاهلا وسطحيا ولا أهتم له..

ذلك الجاهل والسطحي رفض مبدأ الزواج حتى نهاية عمره.. وأنا لم استطع النفاذ.. ذهبت ثقافتي وغروري تحت الاقدام.. بعدها طردني من البيت.. وكانت معاناة الحرب على أشدها..

هكذا ورثنا ثقافة الانقسام والاصطراع الداخلي.. أخي يكره والدي أسوة ببقية العائلة.. ميلي لوالدي كان تهمة.. تلك كانت قناعة والدتي بحيث بدت صورتي أمام العائلة والأقارب وكأني خائن.. مقترف جريمة غير عادية.

عاش والدي خارج بيت العائلة.. يتنقل بين الأقارب .. ثم استأجر حجرة قديمة في (الفضل) أزوره فيها ويسألني عدّة مرات ان كنت جائعا أو أشرب شايا.. كان يشعر بسعادة عندما أجيبه بالموافقة.. يقلي لي بيضا بزيت الزيتون الذي صار يستعمله بعد إصابته بالقلب.. يجلس على الحصيرة وهو ينظر نحو الخارج من باب الحجرة العتيقة وينفث دخانه..

أصعب امتحان تعرض له والدي في مستشفى القلب، عندما أجبر على ترك التدخين.. دخل والدي المستشفى ثلاث مرات على ما أعرف.. وربما أكثر.. زرته مرة واحدة فقط بالحاح من اختي.. لانهم تصورا أنه سيموت في العملية..

كان منهكا نحيفا لا يقوى على الكلام.. لم أستطع النظر إليه.. لكنه احتضنني بنظراته التي أعادت كلّ حنانه الأبوي في ذاكرتي.. تركت الحجرة فورا.. لأنهم منعوا الكلام معه.. لم أكن أعرف أنني سأمر بنفس حالته وسوف أقع في الشارع وأنقل للمستشفى وأخضع لأكثر من عملية..

تمنيت لو كانت عمليتي في بلدي لأشعر بعطف الناس.. واجتماع الأهل والعشيرة حولي.. مثل شخص يترك الدنيا .. وقفت أمام المستشفى وأنا انظر في العدم لأتناسى تلك اللحظة.. عندما جاءت أختي لم نتكلم طيلة الطريق..

عندما أجادل والدتي لماذا تزوجت من شخص ترينه عدوّا، تنفعل أكثر ويطيش جنونها.. بحيث تكاد ترميني بأي شيء قريب منها.. لا يحق للخزف أن يسائل جابله: لماذا جبلتني!.. نعم كانوا يدفعونني خارج البيت.. على الضدّ منّي.. حتى أخرجوني من حياتهم وحياتي..

 

(26)

بعد شهرين من سفري ماتت امي. ظلت تردد اسمي بين شفاهها، وتقول أنني ميت. هل عدت. لا كيف تعود وأنت ميت. أنا أعرف أنك ميّت. يقولون أنك ستعود. لا لن تعود. الميّت لا يعود!..

ماتت. لا أعرف كيف ماتت.. ولا توجد لدي أية تفاصيل.. بعد خمس سنوات من ذلك، وصلتني رسالة تقول أنها ماتت، بعد سفري مباشرة.. وأنهم أخفوا ذلك لكي لا أقطع سفري، وأعود..

يا ريتني قطعت سفري وعدت.. يا ريتني لم أسافر ألبتة.. ولم تحضرني تلك الفكرة المجنونة.. فالموت بين الأهل أفضل من حياة الغربة. زراية الاهل، ولا شماتة الغربة. حتى هنا أموت.. أموت كل يوم، ولا أجد رصيفا يحملني!..

الموت في الوطن مضمون.. ولا يخلو من ألفة.. أما الموت في الغربة.. فهو موت في البريد.. موت موحش.. وحشي.. بين موت في مستشفى يرفض الأبناء استلام الجثة.. حتى يستلمها الدفان مباشرة وتقام جلسة فاتحة خجولة لبضع ساعات في مسجد مشهور وينتهي الأمر.. أو موت وحيد في شقة.. يتم الكشف عنه بعد أكثر من شهر بشكوى من الجيران.. يتم نقله للتشريح الطبي ومنها للدفن بلا تشييع.. مجرد نكرة.. هكذا مات أدباء عراقيون.. لو كانوا في بلادهم لتبعهم كثير من الأدباء..

لم أمت أو بالأحرى، ما زلت أنتظر الموت.. بعد تجاوزي الاربعين قرّعتني مبروكه بصورة قاسية ذات يوم بغير مناسبة وذلك لعدم موتي .. عشت ثلاثين عاما أخرى خارج الوطن، ولم أمت.. لا أدري إن كنت سأموت حقا.. لقد تراجع أملي حتى في الموت..

واذا مت.. هل سيكون لي قبر.. طبعا لا.. لا قبر ولا عزاء ولا هم يحزنون.. فالميت لا يموت..

مغرور!.. قالت لي مبروكه..

مغرور!.. قال لي صاحبي الذي كان يريد ان يصبح أديبا مشهورا..

كنت أفترش الأرض.. نصف عريان.. وثيابي الداخلية مقطعة..

قال لي مغرور!..

تصورت أنه يقصد شخصا آخر.. شخصا آخر يجلس في مكاني..

سألت الشخص.. هل أنت مغرور.. لم يجب.. إذن أنت مغرور..

قلت له.. هذا الشخص وصفك بالغرور.. وأنت لا تتكلم..

في يوم 24 من اوغست الماضي قالت لي: اذهب.. اتركني لوحدي.. لا أريدك معي..

ومنذئذ أنا لوحدي.. من غير غرور..

سحبت الاستمارة الطبية التي تعلوها أكداس من الأوراق.. استمارة التبرع بأعضاء بشرية.. وبدأت أمليها فقرة فقرة.. في خانة الملاحظات أوصيت بإحراق جثتي تماما والقاء رمادي في البحر.. ولم أطلب الاحتفاظ بدماغي في المختبر، مثل انشتاين..

نظرت إلى أنبوبة المغذي المنحدرة من حامل ألمنيوم جميل، وفي ذهني فكرة فصل الأبرة، والخروج من المستشفى فورا.. تذكرت المشهد الأخير من مسرحية (تاج على ميتة).. وغفوت..

عيش في ظل من تحبه.. عيش..

هنيئا لك.. هنيئا..

يا من خنت حبي..

أنا عندي بالدنيا قناعة

ألمّ جرحي ولا أطلب شفاعة..

ولا أشكو.. دمعي عيب أهلّه..

ترى الشكوى لغير الله مذلة..

أنا ما خنت عهدي..

وبعدي بعدي.. لكن خنتني..

عيش في ظل من تحبّه..

هنيئا لك (*)..

ـــــــــــــــــــــــــــ

  • أغنية كويتية مشهورة من كلمات عبداللطيف البناي، وألحان سليمان الملا، غناء المطربة رباب.

 

(27)

في الجامعة اخترت أبعد نقطة في البلاد.. لكي لا أزعجهم بوجودي.. بعد الحرب سلّمت قدمي للريح.. أقصد للحدود.. لم يجيبوا على رسائلي.. ولم يصلني منهم شيء كنت أحوج إليه يومها.. رسائل والدي فقط كانت تصلني وهي على عدد الاصابع.. وفي كل رسالة ينقل لي تحيات وأشواق إخوتي.. تلك كانت ديباجته المكرّرة..

آخر رسالة منه وصلت بعد أربعة أشهر من وفاته.. لان عنواني كان قد تغير خلال ذلك.. رسالة مدعوكة مكتوبة بخط الرقعة، وفيها صورته بقميص صيفي.. بعد خمس سنوات منها.. وصلتني رسالة من أخي يريد فيها الهجرة.. وكان موقفي ضد الهجرة يومها.. عرضت عليه المال والبقاء في بلده.. في رسالته التالية انفعل وقال أنهم أخفوا عني خبر وفاة والدي.. وكان ذلك طعنا مزدوجا.. تسبب في أول أزمة لم أخرج منها للآن..

ماتت أمي ومات والدي.. وما زالت آثار خلافاتها لدى الأبناء.. ما زلت متهما ومستعدى من الجميع.. وما زالوا يجترّون نفس الكلمات والاتهامات.. عبارة (حبيب والده) ما زالت تهمة خيانة عظمى، يرفعها أخ وأخت ضدّ شقيقهم.. كيف يتبرؤون من أبيهم ويتهمون شقيقا لهم بمعاداة أمهم.. قضية إشكالية..

بالنسبة لي والدي لم يمت.. أراه باستمرار في الحلم.. أعيش معه تلك اللحظات الغالية من الماضي .. أحيانا أراه ونحن موتى.. يزورني في قبري ويتأكد من مكاني ثم يختفي.. أعرف أنه سيعود.. ويعرف أنني سأذهب اليه.. أشياء كثيرة أنجزتها كما أنجزها هو.. ومواقف كثيرة مرّ بها تكرّرت معي ولم يبق غير قليل.. أقل من قليل.. في الاسبوع الماضي رأيته مرّتين.. دخلت حجرة خالية فوجدته يتناول طعاما على طاولة.. قال لي مباشرة.. اجلب كرسيا وكلْ معي.. في المرة الثانية كان جالسا.. ربما في نفس الجانب من الحجرة.. يتحدث بصوت عال وربما يتشاجر معهم.. أحسست أن الأمر يتعلق بي.. لا أرى الذين يكلمهم.. لكنني قلت لهم.. أعطوا والدي ما يريده.. لا تتركوه يزعل.. لكنه كان يريدني معه.. قريبا منه.. في الخارج على تلة تشرق عليها شمس.. كان مكاني.. شاب يبدو مثل ممرض.. عدل من شكل جلستي كأنه يريد أن يصورني.. ثم مضى.. نزل التلة وهو يعدو.. سيارة بلدية صغيرة زجاجها الامامي غير موجود.. استقلها ومضى.. كان طريقه يمتد شمالا للامام.. اختفي.. لكنه عاد وظهر من ورائي.. من جهة اليسار ومضى للامام وأنا اراقبه.. كان بجانبه شخص آخر..

أحسه معي رغم أنه لم يكن سعيدا ولا غنيا ولا صاحب نفوذ.. أورثني كبرياءه واعتداده بذاته وحكمته وصبره في النكايات.. لم أسمعه مرة يشكو أو يتألم أو يبكي أمامي.. كان يغني بحزن.. أنا لست مثله.. أتعب وأشكو وأنفعل وأبكي ولا أجد معينا..

عاش والدي ومات بين أهله وعشيرته.. أما أنا فقد عشت وأموت وحيدا في بلاد غريبة.. ومثل أي غريب يموت في شارع أو شقته.. ستمرّ عدة أيام أو أسابيع قبل أن يفطن احد لتلك الرائحة التي تدعو الناس لافتقاد انسان- مثلهم-..

صرت طرفا في مثله على طريقة اجترار الأخطاء.. أنا ما زلت في دور والدي.... كل شيء انتهى بقرار يتكون من كلمة واحدة.. هذا ليس مكانك.. لا مكان لك هنا.. لا أحد يريد أن يراك هنا.. لا مبرر أن تأتي!..

السماء الآن أكثر صفاء.. لونها أزرق غامق ولا أثر للقمر.. الأشجار العالية تحول خطرتها نحو الدكنة أيضا.. حجرتي غارقة في الظلام لولا ضوء السكرين.. في ذهني صفاء وسلام لا أعرف مصدره.. رغم أني وحيد ومسكين وبائس.

هل تستوي الحياة عفطة عنزة؟..

إذا كانت كذلك – وهي كذلك- ما يمنع المرأة من ادراك ذلك؟..

في الماضي كان يتم تعليل الأخطاء بالتخلف والجهل، فكيف يتم تعليلها اليوم وهي تنتشر في المهجر الأوربي أكثر مما في المشرق.. الغرب دعم حركة استرجال النساء وقتل دور الأب في حياة العائلة والثقافة العامة..

هذا الغرب خارج عن طوره وعاجز عن تطوير الحياة للأمام.. لذلك لجأ إلى التدمير ليحتفظ بالسلطة مدة أطول.. والعالم كله يتخبط اليوم وينحدر في الجريمة والفساد وقلب المفاهيم والأنظمة.. لم يمض على الغرب بضعة قرون.. جعلته يستعجل نهايته.. فلا حياة ولا مستقبل لبشرية بلا اخلاق وأنظمة مستقرة..

هذه الليلة لم تمر زعاقات الازعاج الحكومي اليومي المتمثلة بسيارات البوليس والاسعاف التي صارت تستخدم الزعاقات الوحشية.. أسمع الآن واحدة منها.. في أواخر القرن الماضي.. كانت الفكرة العصرية تميل لالغاء منبهات السيارات والمعاقبة على استخدامها في المدن.. فإذا بالتطور يجعلها سمة اجبارية لسيارات الاسعاف والبوليس.. بمعنى ان [النجدة والاسعاف] من الخطورة بحيث تقوم بمزيد من التدمير والازعاج والارهاب.

فمن أجل اسعاف و نجدة وهمية غالبا، يدفع آلاف السكان عقوبة نفسية وذهنية ومهانة مرفوضة، جراء وحشية الاسلوب وقباحة الاصوات المستخدمة في الزعاقات.. فشعار الرأسمالية اليوم: كلّ شيء من أجل دمار الانسان؟..

لم لا.. أليس الانسان هو الذي يتمرّد ويثور ويرفض الخضوع للسطات الأرستقراطية.. دعهم يحطموه ويذلوه ليجبروه على حال من العبودية والاسر فلا يفتح فاه ضدّهم!

 

(28)

كنت أنتعش وأنا أستمع لإطراء الناس لهدوئي وخنوعي وتذللي.. عدم اعتراضي على تدخلهم في حياتي.. وفي قرارة ذاتي كنت أضحك من اهتمامهم الزائد بأنفسهم.. كما لو أنها تعني شيئا.. بينما أدرك أنا.. الأكثر منهم حكمة وعمقا.. تفاهة فكرة الحياة.. الجوع والشبع، الانسان والحيوان، الغني والفقير، البخس والنبيل، سينتهون جميعا لنفس الحفرة التي يتوقف عليها الجمل ويتبول..

لكن تلك الحكمة السليمانية لا تلغي موضوع المعاناة التي قوّضت ذهن بوذا وزرادشت وسليمان دون ايجاد حلّ مرضي لمشكلة النساء أو الألم.. للمرأة غريزة مريضة في الانجاب لتأكيد ذاتها واستنساخ نفسها من خلال ايجاد مخلوق آخر يجترّ آلامها ويقدم لها عزاء ومعونة..

الطفل يعاني ليمنح أمه شيئا من المعنى بقيمة الذات.. بينما المرأة لا تكترث.. ولا تعي مسؤولية ما تسبّبه للمولود من آلام.. تنقل اليه قدرها.. منتظرة منه تحريرها من ألمها الخاص بالعدمية والفراغ.. لذلك تتجدد المرأة مع كلّ ولادة.. وتمنح نفسها فرصة حظ جديدة..

لكن الرجل ليست له هذه الامكانية.. أنه يعاني قدره لوحده.. بالأحرى.. القدر الذي وضعته أمه في دمه وعاتقه.. المرأة بطبيعتها سادّية في داخلها، لكنها تبدو غير ذلك من الخارج.. وهكذا امتدت سلسلة مخاط ابليس عبر العصور بلا معنى سوى اجترارات سادية عمياء..

ألمي يهون عندما يوجد شخص آخر يفوقني في الألم.. فكرة مرضية.. أفضل تطبيق لها في المستشفيات.. لذلك ينسى المريض نفسه هناك، لوجود حالات أكثر خطورة منه.. لكن الأكثر نجاحا في ذلك هو التجمعات النسوية.. فالمرأة أسهل في التعارف والارتباط مع النساء ..

تشكيل علاقات كلام وخبرة وتبضّع.. وفي تلك الاجتماعات يهيمن النمّ والنميمية والغيرة والحسد والدس والتآمر والتحالف مع وضدّ.. فتجد العون من جهة، وتجد لها هوية وقضية من جهة ثانية.. ولا تشعر بالوحدة من جهة ثالثة..

لكن غلطة ايغور ليست وحيدة وانما متعددة.. لذلك يجتر سنيه في جملة مخاط متداخل.. منها أنه ليس بكرا.. وإنما إبنا ثانيا.. أخوه البكر كان متسلطا عليه.. الأم تنحاز لبكرها ضدّه.. فكان مقتلعا من العائلة وموضع لعنات أمّه..

الانسان لا يتبارك بلعنات الام والوالدين مهما تقدّمت به السنوات.. والناس المباركون يكتسبون بركاتهم من ذويهم.. هذا أمر لم يتح له.. بينما كان أخوه أكثر حظا منه.. رغم كونه أدنى تعليما وثقافة..

ذات يوم عندما قرأ سفر أشعياء بن آموص وجد نفسه: [رجل آلام ومختبر الحزن.. مخذول كمن حجب الناس وجوههم عنه.. لكنه حمل آلامنا، ونحن حسبنا أن الرّبّ قد عاقبه وأذلّه..] .. منحه ذلك بعض العزاء.. باعتباره على شاكلة المسيح الذي بعذابه يمنح خلاصا لسواه.. لكن المسيح لم يعش طويلا.. ولم يتعذّب غير إسبوع واحد انتهى بموته..

بقي ايغور يمني نفسه بموت مفاجئ قبل بلوغه الثلاثين.. كان يومها في الحرب التي خرج منها بلا إصابة.. واعتقد أنه سيموت قبل الأربعين.. عندما تدحرجت سيارته من سفح جبل حتى بطن الوادي وانقلبت العجلة أكثر من مرّة حتى تحطمت تماما، لكنه خرج منها ولم يصب بخدش.. وقف ينظر إلى السيارة الخردة كارها نفسه كأبله.. وهو لا يعرف كيف خرج من تلك العلبة المحترقة حيا..

وقبل بلوغه الخمسين نقل إلى المستشفى أثر انهيار مفاجئ.. كان يشعر بالسعادة وهو في سيارة الاسعاف لأنها ستكون رحلته الاخيرة.. ولكنه بعد أيام كان يتمشى في شارع المستشفى عائدا لمنزله وكأن شيئا لم يحدث..

والآن.. ها هو على عتبة الستين.. لقد عاش ضعف سني عمر المسيح..

لكنه يشعر أن أعضاءه تتجدّد في داخله.. أنسجته تكاد تشفى من أسقامه الكثيرة.. توقف عن تناول أدويته المعتادة دون تدهور صحته.. والغريب في الأمر.. اقتناعه الذاتي بأنه يولد من جديد ويصبح خليقة جديدة.. لذلك يعتقد في ذهنه أنه غادر..

عليه أن يغادر كلّ ما يتعلّق بماضيه.. وينسى كلّ تاريخه وارتباطاته الاجتماعية.. بما فيها عائلته الخاصة.. لأنها ستموت مع الشخص العتيق الذي مات في داخله.. عليه أن يتهيأ لحياة جديدة بالكامل بما فيها الارتباط بعائلة جديدة ومكان جديدة ووظيفة جديدة..

تلك المرحلة الانتقالية التي يعيشها الان.. غير قابلة للحصر.. وليست في إرادته هي الأخرى .. أنه يترك نفسه في حالة تسليم سلبية.. متجرّدا من أية مشاعر أو أفكار منفعلة أو ضدّية جرّاء ردود أفعال أو كلام غير لائق..

عليه أن يسكت ويتقبّل.. ويعتبر كلّ شيء جزء من إجراءات المصالحة والاستحالة.. ومحاولات ابليس لإفشال ولادته الجديدة..

لا يدري هل سينتقل إلى عالم السماء.. أم يبقى على الأرض.. هل يصبح كائنا أثيريا أم يبقى له جسد وأعضاء.. يتناول بها الطعام ويكسيها بالثياب ويضاجع النساء.. هل مرّ ايليا التشبي والمسيح الناصري بتلك التجربة.. هل كانت طويلة عليهم كما يشعر هو الان.. ولكن أولئك لم يكتبوا ما يكتبه هو.. ولم يتركوا أثرا مدوّنا لتلك الاستحالة ..

نعم.. قصة حياة الإنسان هي اجترار لما سبق له من أعمال وأقوال.. وما سبق لذويه ومحيطه الاجتماعي اقترافه.. يقول الجامعة أن غلطة واحدة تنتج شرورا كثيرة.. أو شبكة من الشرّ في المجتمع.. تمتدّ الى زمن آخر.. فكيف يمكن السيطرة على الشرّ في الطبيعة ومنع انتشاره.. طالما يوجد هذا العدد من النساء والمهابيل الذين لا يعرفون معنى المسؤولية..

 

(29)

(نماز أرمني)*..

"انتظارا انتظرت الربّ، فمال إليّ وسمع صراخي.. وأصعدني من جبّ الهلاك.. من طين الحمأة.. وأقام على صخرة رجليّ.. ثبّت خطواتي.. جعل في فمي ترنيمة جديدة تسبيحة إلهنا.. كثيرون يرون ويخافون ويتوكلون على الربّ..

طوبى للرجل الذي جعل الربّ متكلّه.. ولم يلتفت إلى الغطاريس.. والمنحرفين إلى الكذب.. كثيرا ما جعلت أيّها الربّ إلهي.. عجائبك وأفكارك من جهتنا.. لا تقوّم لديك.. لأخبرنّ وأتكلمنّ بها.. زادت عن أن تعدّ.. بذبيحة وتقدمة لم تسرّ.. أذنيّ فتحت.. حينئذ قلت ها أنا ذا جئت..

بدرج الكتاب مكتوب عني.. أن أفعل مشيئتك يا إلهي سررت.. وشريعتك في وسط أحشائي.. بشرت ببرّ في وسط جماعة عظيمة.. شفتاي لم أمنعهما.. أنت يا ربّ علمت.. لم أكتم عدلك في قلبي.. تكلمت بأمانتك وخلاصك.. لم أخف رحمتك.. وحقّك عن الجماعة العظيمة..

يا ربّ لا تمنع رأفتك عني.. تنصرني رحمتك وحقك دائما.. لأنّ شرورا لا تحصى قد اكتنفتني.. حاقت بي آثامي ولا أستطيع أن أبصر.. كثرت أكثر من شعر رأسي.. وقلبي قد تركني.. ارتض يا ربّ بأن تنجّيني.. يا ربّ إلى معونتي أسرع..

ليخزَ وليخجلْ الذين يطلبون هلاك نفسي.. ليرتدّ إلى الوراء.. وليخزَ المسرورون بأذيتي.. ليستوحش من أجل خزيهم القائلون لي هه هه..

ليبتهج ويفرح بك جميع طالبيك.. ليقل محبّو خلاصك يتعظم الربّ.. أما أنا فمسكين وبائس.. الربّ يهتمّ بي.. عوني ومنقذي أنت.. يا إلهي لا تبطيء.."

ــــــــــــــــــــــ

* صلاة أرمنية- مز 40.

 

(30)

فجأة وجدت الناس غير الناس.. والحياة مقلوبة .. عندما خلعت ثيابي العسكرية لآخر مرة في نهاية فبراير واحد وتسعين.. ليس في نهايته تماما.. ما يزال أمامه يومان، أو يوم ونصف، لكي يختفي.. بدا كأنني أخلع كلّ وجودي وأتركه ورائي.. أبي هو الوحيد الذي لم يتغير معي.. رغم أنه لم يقدّم لي شيئا غير صمته.. حتى العواطف وكلمات اللياقة غابت من التداول..

كان عقلي عاجزا عن التفكير.. غير قادر على تقبل الصدمة ولا تجاوزها.. لم أتوقع أن تتركنا الحكومة في العراء .. بعد بذخ الوعود الاشتراكية والامتيازات العسكرية.. تحمّلت لوحدي آثار الهزيمة والعودة من الحرب بلا غنائم ..

الغنائم التي ينتظرها الذين لم يذهبوا للحرب.. الجندي الذي كان أبو خليل وأبو التحرير.. صار شخصا مرذولا.. صعلوكا وخائنا.. تضيق بي جدران المنزل فأخرج للشارع.. أشعر بالهواء جامدا والفضاء مختنقا بروائح مؤكسدة نتنة.. لا تطيق رؤية وجه إنسان أو حيوان.. ولا يطيق أحد رؤيتك إلا لغرض السخرية..

غيابي عن البيت مدة أثني عشرة عاما.. لم يعنِ شيئا لأهلي.. كانوا يفكرون بأفكار الناس.. وليس بحياة العائلة التي كانت قبل الحرب.. وأنا تركت البيت قبل الحرب وأنا في الثامنة عشرة.. فإذا بأولئك الذين لم تلفحهم نار الحرب ولا رمال البصرة.. يصادرون مكانك في العائلة.. كان ذلك طبعا في قمة الكارثة والحصار والتوحش الذي تخذه الناس ضالة للتعبير عن أطماعهم وكلّ ما اختزن من عنف جوّاهم..

منذ فبراير واحد وتسعين صار أفراد الجيش المعدمون ضحية المرحلة حتى اليوم.. مضطهدين بين لا مبالاة الحكومة وقساوة تعامل العائلة التي انتهت في تلك النقطة.. انتهى مفهومها واستبدلت تقاليدها وديانتها بالمال والطمع..

تلك اللحظة.. لحظة وقف اطلاق النار.. نهاية حرب العشر سنوات.. كانت نهاية كلّ شيء.. نهاية العائلة والوطن والدولة والحياة الطبيعية.. نهاية العاطفة والأخوة والانسانية والعلاقات.. لا تستطيع أن تطرق باب أحد ولا تتصل بأحد.. متهم قبل أن تنطق.. أين هم الأصدقاء.. أين هم الأهل.. أين هو الوطن وال...

في كل مكان أخبار الهجرة والسفر.. بيع البيوت وبيع الأثاث وبيع المكتبات.. أخبار التهريب وتزوير تاشيرات السفر.. من كان وراء تلك الإشاعات والأخبار السوداء والقنوط الذي شمل كلّ شيء.. كيف أصدّق كلّ ذلك..

لماذا لم تضع الحكومة برامج لاستيعاب الجنود العاطلين بعد الحرب.. في تلك اللحظة فقط.. اتفق الناس مع الحكومة.. والداخل مع الخارج.. الصديق مع العدو.. ضدّ شيء اسمه الجندي العراقي.

ينظر لي زملاء والدي في المقهى ويسألونه: هل وجد عملا؟.. أصحابه يهاجرون للخارج.. أفضل له أن يسافر..

أتمعن في وجوههم الطافحة باللاأبالية والانتهازية.. وأترك المقهى مشيعا بنظرات الشماتة.. في رواية (الدكتور ابراهيم) تحدث ذنون ايوب عن (الشعليّه) العراقية.. قبل أن يولد جيلنا بكثير..

وأنا وحدي أحتمل ثمن وجودي الغلط في المكان الغلط والزمان الغلط.. أنا وحدي والوحيد الذي ينتظر الجميع موته واندثاره، ليندثر معه أي أثر للحرب.. والكلّ يتظاهر بالبراءة، بما فيهم كلاب النظام وتجار الحرب!..

ابتسم لي والدي عبر زجاج باص العكَيلي.. وعندما ارتفعت ذراعه للتلويح آخر مرة.. سقطت دمعة من عينه!.. انطلاق الباص هو ما كان يريده الجميع.. الباص هو صورة للتابوت، التابوت زمن مجهول يندفع فيه.. هو حفرة القبر التي تخترق أعماق الأرض بلا قرار..

تلك العائلة التقليدية، بدل أن تتماسك وتجتمع وتعيد تنظيم أمورها وحياتها بعد الحرب.. صار كلّ همها التخلص من بعضها الذي كان غائبا على نفقة الحرب، كلّ تلك السنين، يزورون البيت برواتبهم الدسمة..

بخروج الجندي العائد من الحرب.. بخروجه من عتبة البيت كان البيت يتنفس الصعداء.. وكأنهم يتخلّصون من شيطان رجيم.. ولذلك أيضا.. لا تصلني رسائل منذ المغادرة وحتى اليوم.. رسائلهم الوحيدة ارتبطت بالطلبات، وعندما انتهت انقطعوا عن السؤال.. وا أسفي عليك يا بلدي.. وا أسفي على مساكينك وضحايا قسوتك..!..

عندما تحرّك الباص.. لم أنظر من النافذة.. شعرت بمياه ثقيلة تحيط بالباص وهو يخوض خلالها بصعوبة.. صوت اندفاع الباص خلال المياه مثل سفينة وسط محيط هائج.. لم يختفِ ذلك الشعور والصوت.. الا عندما خرجنا إلى صحراء طريبيل.. الصحراء وطننا الأول.. وفجأة بدأنا نتنفس هواء طلقا..

ـــــــــــــــــــــــــ

  • ذنون ايوب [1908- 1996م] أديب وسياسي عراقي، ولد في الموصل ومات في فيننا. غادر العراق في بداية الخمسينيات الى بلاد الغرب. بعد (1958م) عين قنصلا ثقافيا في السفارة العراقية في فيننا. بعد تقاعده بقي في النمسا حتى موته. له أعمال أدبية وروائية لم تجمع. روايته (الدكتور ابراهيم) من الاعمال الرائدة في السرد والفكر الاجتماعي العراقي، ظهرت في ثلاثينيات القرن العشرين، وفيها يؤرخ الكاتب لمصطلح (الشعليّه) العراقي.

 

(31)

الرسالة التي وصلتني ليس عليها اسم أو عنوان.. وجدتها هكذا في صندوق بريدي.. عندما حدثت جاري عن الرسالة، قال: لا يوجد في النزل صندوق رسائل.. ثم دار ومضى واضعا احدى يديه في جيب بنطاله كالعادة..

ماذا يهمّني أنا من النزل وصندوق الرسائل.. ما يهمّني هو الرسالة.. وهي موجهة لي شخصيا.. ربما انتزع الظرف الأصلي، ووضعته خدمة البريد في مظروف جديد.. ونسيت كتابة العنوان مجددا.. وهذا ما لم اخبر به الجار.. هذا يحدث عادة.. لقد حدث من قبل..

قسمت البريد الى أقسام، الطرود والرسائل العادية، ثم الظروف الكبيرة والصغيرة.. وبدأت في قراءة الرسالة المفتوحة.. والمرسلة من غير عنوان..

لم أعتد من أخي.. أن يخاطبني كشخص غريب، ويعاملني بصفة المتطفل والمتجاوز عليه.. هل يمكن ان يكون هذا أخي؟.. أم أنه تغيّر الى هذا الحدّ؟.. إذا كانت هذه حالة أخي الذي يحبّني.. فماذا عن الاخرين؟.. لابد أن ما حدث هناك يفوق العقل!...

ولكن.. لماذا الاستغراب.. يبدو أنني أنا الذي تغيرت.. أعيش في أوربا وأتظاهر بالثقافة والتحضر.. وأفترض أن يتعامل أخي معي بطرق بروتوكولية.. أنا لا أذكر أنه كانت عندنا في البيت بروتوكولات أيام الوالدين.. لماذا تظهر البروتوكولات اليوم في عصر الأبناء..

ثم.. إذا لم يكلمني أخي بهذه الطريقة، فمع من يسري عن أفكاره ومشاعره.. أليس من حقه أن ينفعل.. وأين يذهب بالانفعال.. ألست أنا اقرب الناس إليه.. وهل لديه سواي "حبيبي"؟.. لابد أنه يمرّ بظروف صعبة.. ولا يجد تفهما من أحد هناك..

قال أنه يريد أن يكمل دراسته في الكومبيوتر سوفت وير.. أرسل لي كلّ شهاداته الجامعية موقعة ومصادقة من وزارة الخارجية.. أنا الذي كنت أشجعه على التخصص وإكمال الدراسة.. كان من المتفوقين والمتميزين في أرشفة السي دي روم.. ماذا حدث الآن..

لا شكّ أن رسالتي الجوابية له كانت سخيفة.. سألته عن معدل أسعار السيارات، لأرسل له مبلغا من المال لشراء واحدة والعمل سائق تاكسي.. والتاكسي يكسبه خبرة وعلاقات وفلوس!..

من حقّه أن ينفعل.. يثور.. يتمرد.. يشتمني.. يمسحني بالأرض.. ليكن.. لولا أنه يحبني لا يفعل ذلك.. ألست أقرب الناس إليه.. لا بأس..

لسنا إخوة.. بل أصدقاء أيضا.. بل أنا في موضع الوالد بالنسبة له.. أنا أكبر منه.. وضعي مستقر.. وعلي أن أرعاه .. بالمال والمشاعر وكلّ شيء.. ولكنه منفعل أكثر من اللازم.. ولا أعرف كيف أتعامل معه؟..

القاعد بالفيْ، غير القاعد بالشمس!

هذا ما يقال.. ولا يغيره أي جدال مهما طال!.. ففي الجعبة أحكام وصياغات جاهزة.. مثل ذهب العروس تصلح لكلّ المناسبات.. ولا يهمّ أن تكون مستعارة، أو مملوكة.. المهم أن تؤدي الغرض منها في لحظتها.. كيفما يكن، وحيثما كنت.. هذه هي نظرتهم..

وأنا الان لست في أفضل حالاتي.. أحتاج وقت للتفكير.. ربما يهدأ قليلا.. ربما ينسى.. أنا أيضا أنسى!..

دفعت الرسالة تحت رزمة الرسائل وقررت الخروج..

 

(32)

بدت روزا مستنفرة.. لم يكن ذلك غريبا عليها.. تلك طريقتها كلما صورت حلقة جديدة من البرنامج.. وكالعادة.. اعتبرت الامر عاديا.. ولم أسألها عن شيء.. كانت تقف هناك في وسط ساحة كبيرة.. وراءها بيت ضخم.. ثمة حركة أرجل غير عادية.. توقفت عجلة كبيرة.. وخلال دقائق تحرّكت ثانية..

الآن عرفت أن روزا تنقل سكنها من هنا.. سوف أفتقد جوارها بغير سابق انذار.. تستيقظ صباحا لاستنشاق الهواء.. فتجد جارك ينتقل.. أو قد انتقل.. من غير كلمة ولا إشارة.. لن نتبادل التحية إذن.. لن نتناول القهوة سوية.. لن أدخل مطبخها ولن تسعفني بآخر الأخبار.. روزا جارتي الاعلامية.. جميلة ومثقفة وفي غاية التهذيب.. ولكنا عشنا هنا مثل عائلة.. أكثر من أصدقاء.. تحدّثني في كلّ شيء.. وأقول رأيي بعفوية.. لم تعاتبني مرة ولا زعلت.. ولا نقلت لي خبرا سيئا.. رغم أن العالم يفيض بالأخبار السيئة.. عالم الاعلام طبعا.. بغتة.. تريد أن تختفي.. على غير العادة ومن غير كلمة.. لا.. شيء غير معقول..

هممت بالتقدم والتطفل.. نحن جيران.. بل عائلة واحدة.. لن أبقى أتفرج.. ربما أستطيع المساعدة.. هذا ما انتهى إليه قراري.. بعد تفكير.. ومن غير عفوية هاته المرة.. وجدت نفسي أتحدث مع شخص آخر... ربما أراه للمرّة الأولى.. هذا لا يهمّ.. لكني أعرفه.. أعني نعرف بعضنا.. سألته كيف جرى الامر.. قال أن الوضع طبيعي.. وكلّ شيء سيكون على ما يرام.. سألته عن حاله وهل من جديد.. لم يكن مكترثا لشيء.. ينتظر لحظات محدودة للعودة لعمله..

رغم أن فادي هو زوج روزا لكننا لم نلتقِ من قبل.. لأول وهلة تعتقد أنهما مختلفان.. لكن كلّ شيء طبيعي في كلّ شيء.. ورغم أنه يعمل في قطاع النقل، فهو ليس كثير الكلام.. وليس عبوسا بالمرة.. ولا متكبرا.. ولكنه العمل.. يعني الوقت.. المواعيد.. يكاد يعمل طيلة الوقت.. كلّ الوقت وهو في الخارج.. وهي في العمل..

عندما تحضر للبيت.. تزورني وتقول ما يشغلها.. عندما يكون عليها أخذ شيء من البيت تدعوني عندها.. هي تجوس خلال البيت وتتحدّث بصوت عال.. وأنا أتواصل معها وأخمن من أي حجرة تتكلم.. أو أنها ذهبت للطابق الأعلى..

كلّ هذا ينتهي مثل حلم.. روزا مثل ابنتي.. هي تقول صديقتي.. لا يهمّ.. لكننا كنا عائلة.. الآن ستختفي روزا ويقوم جدار من هنا.. هذا القصر والساحة الحيوية تتحول الى صحراء قاحلة تبعث الفحيح.. ما هو الفحيح.. اه يا روزا.. ليت الأمر يكون مجرّد تصوير مشهد..

كان الأطفال في البيت.. قمت بنقل أحدهما عندي.. كانت سيارة الاسعاف واقفة.. والحركة بلا توقف.. كان في العاشرة من عمره لكنه لا يبدو كذلك.. متقوقع على نفسه كأنه في الخامسة.. لا يهمّ.. لم يستطع النهوض ويمد ذراعيه نحوي.. فأخذته مثل الطفل بين ذراعي ونقلته للسيارة.. سارع أحدهم دون أن أنظر إليه.. وأزاح ذراعي من تحت إسته.. لم أجد الطفل الثاني.. ولا أعرف عنه شيئا في الواقع.. كلّ ما أعرفه هو معلومات.. كلام فقط.. سمعتها غير مرة تتحدّث عن طفل.. عن طفلين.. طفل في العاشرة.. قال لها وقالت له.. يحب كذا ويقترح هكذا.. ولكني لم أسأل مرّة ولا رأيته.. أفترض أنه هو طفلها.. ولكنها لم تقل أنه ذو احتياجات خاصة.. والطفل الآخر ليس هنا.. كيف أخفت عني كلّ ذلك.. اعتقدت أنها تقول لي كلّ شيء.. هذا كلّ ما في الأمر.. أعني الجيران والعائلة والصداقة وشاي الحديقة وروزا..

روزا اختفت.. فادي مضى.. الاسعاف نقلت الطفل.. سيارة الحمل.. لا أدري.. حركة الأرجل تخف.. تختفي.. لو سألتها فقط إن كانت ما زالت تعمل في التلفزيون..

في البيت الآخر اجتمع آخرون.. عندما دخلت كان الطعام جاهزا.. الوليمة جاهزة.. لم يتقدم أحد حتى الآن.. كنت أنا مع امرأتين.. احداهما أمامي والأخرى خلفي.. والسلّم كان ضيقا.. كان عموديا نوعا ما.. وكان عليّ أن أمسك الحاجز الجانبي وأنظر للأعلى تماما.. كما لو أنظر نحو السماء.. وكان ذلك يوجه ناظري الى عجيزة المرأة المتسلقة أمامي..

انتهينا إلى الباحة.. على الأرض كانت رزمة رسائل.. يبدو أنها كانت مدفوعة من فتحة البريد في الباب.. قالت إحداهنّ.. هاته رسائل جدّك.. فيها رسالة سيئة.. كان جدّي يتصدّر الحجرة منذ زمن لا أعرفه.. ولكن الظرف ليس كما هو.. كانوا بانتظار خالي الأصغر.. خالي الأصغر هو صاحب الرسالة.. أو هو الذي يفتح الرسائل.. أعرف.. أن جدي متقدّم في السن جدا.. ولن يكترث لهاته الامور..

الطعام على الطاولة منذ زمن.. كأنهم ينتظرون أحدا ما.. ولكن لا يوجد أي جوّ لتناول الطعام.. الجميع في انتظار شيء لا يحدث.. أعتقد أن خالي جاء.. بل كان حاضرا.. ولم يفعل أي شيء.. لا أدري ما عليه أن يفعل.. وربما هو مثلي.. لا يرى أن عليه عمل شيء.. هذا ليس كلّ الأمر.. سوف نتكلم لاحقا..

عندما كنا في سيارة الجيب كان يهجس لي بما لديه.. كان ذاهبا في طريقه.. كنت معه بالصدفة.. هكذا بغير اتفاق.. ولكنه كالعادة كان سعيدا.. وكلّ شيء.. كلّ شيء.. كالعادة..!..

الإذاعة مستمرة في بث أغانيها بلا توقف.. أغاني وتعليقات ونكات وأمثال وحكم.. أغاني الأيام الخوالي والزمن السعيد.. الذي لم يكن سعيدا بالمرّة.. إلا من منظور ما حدث مؤخرا..

 

(33)

داتشو.. معلمة اليوغا الهندية التي تجلس قريبة منّي جدّا.. وأفكر في الارتباط بها.. قالت لي: هل عندك غسالة.. ضع ثيابك في الغسالة مرّة في الاسبوع واغسلها.. بدّل جواربك كلّ يوم.. لا ترتدي الجورب مرتين.. إشترِ قمصانا جديدة.. هل تغتسل مرّتين يوميا.. في الصباح وقبل النوم..

استمعت إلى قائمة نصائحها كتلميذ.. ونظراتي تتنقل بين صفحة وجهها اللامعة بالدهون.. ولحمها المكشوف من خلال الساري.. داتشو.. لمعت أمامي فجأة.. وأنا أخرج من محطة مترو هارو.. تردّدت لحظات في التقاط ميدالية إسمها الموضوعة على جانب العارضة.. التفت.. كان شاب آخر يلتقطها ويضعها في جيبه.. ومن يومها.. انتهت داتشو.. في جيب شخص آخر..

أنا الآن شخص آخر..

لم يتعب كيركجورد تعب ايغور كاموك في محاولة فك ألغاز حياته المتداخلة.. لعبة النرد أو الشطرنج.. سواء.. حركة واحدة خاطئة يمكن أن تترتب عليها جملة كوارث.. والحياة في لعبة الكارما هي فلسفة نرد.. أعني.. أن الحياة في فلسفة الكارما هي مجرّد كونسكونز.. خطأ يجرّ خطأ.. لعبة شطرنج أو نرد أو ربّما كرة قدم أو قرعة يانصيب.. من لا يعمل يخطئ أيضا..

يحاول ايغور الحفر في تفاصيل طفولته ويفاعته وكهولته وشيخوخته مستذكرا ومترصدا ومقتنصا.. أين يمكن أن تكون تلك الغلطة القاتلة.. الغلطة الجهنّمية الشاملة.. أو الغلطة التدميرية باصطلاح اريك فروم.. التي ما زال يكابد انعكاساتها ونتائجها..

ألا يوجد (أوت وي) من لعبة الكونسكونز.. يوجد!.. تدمير اللعبة الأصلية.. بداية لعبة جديدة وفق شروط مختلفة، تخالف شروط الأولى وتعالج الأخطاء السابقة..

الإطار العام لتلك الغلطة هو التنازل.. التنازل عن الإرادة الفردية والقرار.. التسليم الذاتي لقرارات الآخرين..

لا أنكر أني كنت سلبيا.. بمعنى (سالب)/ باسف.. ولم أهتم لإدارة حياتي بنفسي.. معتقدا أن عناية الآخرين بي نوع من الدلال.. بل أن الحباة نفسها من التفاهة بحيث لا تستحق الجهد الذاتي..

لقد ولدت بلا رغبات ولا أهداف ولا إرادة.. ربّما لم يكن لي وجود حقيقي باستثناء هذا الجسد الذي لا يعني شيئا على الإطلاق..

قال لي خالي: الزواج الناجح يجعل الرجل سعيدا، والزواج الفاشل يجعل الرجل فيلسوفا..!

أعجبني المنطق في فكرته.. لكني لم أسأله عن تجربته في الزواج.. هل هو سعيد أم فيلسوف.. ما زالت صورته مع عائلته أمامي.. أعرف أنه ليس سعيدا تماما.. ولا فيلسوفا.. ربّما بين بين..

 

(34)

دخلت الحرب وعمري عشرون عاما، وخرجت منها وأنا في الواحدة والثلاثين. خرجت منها ومن البلد والعالم، حالما بالهدوء والصفاء والخير.. أجدادنا كرهوا العثمانيين بسبب الحروب ونحن كرهنا الدولة بسبب التجنيد.. حروب العثمانيين نقلت الناس للقفقاس والبوسنة.. ونحن قادتنا الحروب إلى ماكنة الرأسمالية.. أهلونا اتهمونا بالموت وغسلوا ضمائرهم من ذكرنا.. ونحن بقينا منسيين ما بين بين.. لا في الغرب ولا في الشرق.. لا في الجنة ولا في النار.. نحجل ولا نسير.. مكروهين ومرفوضين من كلّ الأطراف.. نعيش بالقناع والمجاملات.. فإذا ذكرنا أنفسنا افرنقعوا عنا..

لم تكن بلدان العالم غير ذئاب جائعة، لا قيمة مقدسة عندها لغير البزنس اس يوج ول، الانسان مجرد سلعة رخيصة للمتاجرة والمقايضة.. في بورصة دولية تحت عناوين اللجوء والهجرة والاقامة وحقوق الانسان وحماية الطفل والمرأة..

الحياة التي كانت في بلدي قبل الحرب، لم أجد مثيلا لها في أي بلد في العالم.

لكن الكوارث كانت تترادف على بلدي، وتدفعه للأسفل على الخط السريع في أكثر من اتجاه.. خرجت ولم أعد.. صرت أنتقل من بلد إلى بلد، ومن ثقافة إلى ثقافة. كلما انتقل بلدي من جرح إلى جرح، ومن مأساة إلى كارثة.. ليس الانسان سوى اللحظة التي هو فيها، أما الماضي والمستقبل، فلا اعتبار لها.

منساقا بقدر أعمى، أحمق الخطى تبعت بوصلة الزمن، وفي داخلي يقين أن ساعة سنيني ستتوقف في الأربعين.. وفي بقية السنوات التسع تنقلت في خمسة بلدان. لم أحتفل بعيد ميلادي قطّ، ولم أرد على تهنئة لمناسبة حياة كانت مجرد عبء لم أتكيف معه.. عامي الأخير كان احتفالا بالموبقات.. حاولت أن أسرق من الزمن ما حرمني وما انتظرته وحلمت بتحققه، سعيت إليه بأظافري وألتهمته بنواجذي، مثل أسير حرب يساق إلى منصة الإعدام.. لكن اتباع الهوى والانحراف عن سيرورة القدر ما كان يعني التوفيق تماما.. لم تفلح، حتى الموبقات والآثام والخطايا، في عتقي من عبودية القدر الذي ركبني قبل أن أعي نفسي. أنا مسيّر، غير مخيّر. محكوم ولست حرا، عاجز حتى عن اختيار الموت أو ممارسة الخطأ..

لا أصدق أن قطرات الدم اللزجة واندفاعها الموجي مثل جلد الأفعى، هو ما يبقيني حيا.. تركت الطعام والشراب أياما، ولو أمكنني التوقف عن التنفس لفعلت، فلم يحدث شيء.. لم تتناقص طاقتي الحركية، والأهم منه، لم يتوقف تفكيري وهواجسي لحظة.. فمتى وكيف تتوقف دقات القلب والنبض والفكر والاحساس بالوجود.. وما الضامن، أن يتوقف الفكر أو يموت الدماغ.. أو تتوقف الرؤى والأحلام عند الموت.. حتى الآن، أيقن الأطباء أن الدماغ لا يموت مع الجسد، وأنه يستمر ساعات أو أياما، وفي حالتي ربما سنوات أو للأبد.. فأنا موجود لأفكر، لا لأعيش.. وأنا لا أفكر في الحياة والوجود والبشر، وانما بأشياء خارج الوجود، ليست من اختياري أنا.. التفكير ليس عملية إرادية، حتى التفكير ليس بإرادتي!..

ليست الحياة غير وهم، والانسان دودة.. مجرد اخطبوط من الدود والبكتريا والكائنات المجهرية التي يسمونها انزيمات وهورمونات.. هل رأيت هورمون بشكل دودة، خيط له رأس مثلث كالأفعى.. لماذا لا يصارح علماء التشريح الناس بحقيقتهم.. لماذا لا يفترضون خلع كيس الجلد الناعم الغشاش.. ليروا أنفسهم على حقيقتها الدودية.. عندما أمر كسرى بسلخ جلد قائده شاهين المكسور أمام جيش هرقل، أما عينيه، شك شهود العيان أن ما يظهر أمامهم بشر، وأن كسرى يمتلك قواه العقلية..

في رواية إسم الوردة(*)، يكتشف المعلم أن أحد رهبان المطبخ مغرم بساحرة تأتيه في الليل من القرية المجاورة، تغويه بسحرها فيعطيها وجبات لحوم وأطعمة.. ويعترف الراهب بقوة سحر الفتاة عليه وضعف مشاعره أمامها.. فيخبره الراعي أن لا يهدر طاقته في الجمال الزائل الذي لا يتجاوز طبقة الجلد الخفيفة.. وما يتركه من تكورات وانحناءات بين فراغات الهيكل العظمي..

أما طريقة تحرير نفسه من كبوة المشاعر فهي بالنظر لما يختفي تحت الجلد من حبيبات دموية ولزوجة لمف تشمئز منه النفس ولا تطيق العين تصوره.. أليس هذا هو الانسان الذي دوده لا يموت وناره لا تطفأ.

إن لم يكن الانسان دودة غبية، فكيف يمكن تفسير الضياع والفوضى والخراب الذي يستغرق البشرية.. حياة غير مأسوف عليها، وعالم غير مأسوف عليه.. ومستقبل بلا ملامح او جدارة، لا في هاته الحياة ولا بعدها.. إذا كان الناس يفترسون بعضهم بعضا، فلماذا يستكثرون على الهواء أن يسخن، وعلى الماء أن يغلي، وباطن الأرض أن تقذف حممها ولافاتها، والسماء تتهاوى شهبا ونيازك، والشمس كسفا..

إذا كان دخول الشعاع في المادة غلطة.. كما يقول اسحق لوريا، فأن الانسان على رأس مخلوقات الطبيعة يدفع فاتورة غلط لم يكن له فيه يد.. بدل النزيف واللهاث العبثي.. فبداية العقل هي نهاية العبث.

ــــــــــــــــــ

  • اسم الوردة: رواية الايطالي امبرتو ايكو[1932- 2016م] صدرت العام (1980م)، تتناول جريمة في دير في شرق النمسا في القرون الوسطى. في العام (1986م) تم تحويلها الى فيلم بنفس الاسم.

 

(35)

في داخلي صوت يلازمني.. جزيرة أو جزائر.. جزيرة أو جزائر.. الجزيرة في الشرق والجزائر في الغرب.. في الشرق رمل وفي الغرب ماء.. لكن الاختيار ليس لي.. وليس لك.. الاختيار له وحده.. وأنا انتظرت.. انتظرت أن يحدث أو يأتي.. أو يقول لي شيئا..

في قرار مفاجئ حجزت على الطائرة النمساوية الى الجنوب التونسي في خطة لاعودة.. لكن حرس الحدود المرابطين كانوا على درجة من البياخة.. وكان المدعو ابن علي ما يزال في الحكم يومها.. تابعت ملفاته في حقوق الانسان وعناية الهيئات الغربية بوسامته وعنايته بمظهره الخارجي.. لكنني صدمت من أخلاق المرابطين..

تفقدت دارة المجاهد التونسي الحبيب بورقيبة(*) في المنستير.. أمر يوميّا في شارع الكورنيش من أمام البيت الذي ولد فيه.. وأنا أنزل في فندق الكورنيش القريب منه.. رغم أنه لا كورنيش هناك ولا هم يحزنون..

ليس سوى البحر المتوسط الذي أراقبه بشعور غامض.. متوقعا ظهور القراصنة من جهة ما.. لا أدري لماذا وجدت القراصنة لا يشبهون البشر ويختلفون عن الناس..

في شاطئ مارينا راقبت بعض الوافدين في قوارب شراعية.. مارينز.. نصف عراة وهم يصلحون أشرعتهم.. ابتعدت مسافة كافية.. لأتفادى مجرد التحية مع هؤلاء الشذاذ.. الشمس هناك ساطعة.. تقهر قشرة الرأس.. بعد ساعات غادرت.. وكأني أخرج من نفق زمن ميت..

كورنيش البصرة قبل الحرب أرقى من كورنيش مارينا على المتوسط بكثير.. تذكّرت ذلك عندما أردت أن أسكر ذات مرّة.. فذهبت الى فندق خاص بالغرابوه في خليج مارينا.. كان ذلك فظيعا..

وعندما حصلت تياترو الانتفاضة بقيادة برنار لويس اعتقدت ان التوانسة سئموا الرياء الأخلاقي وقرّروا أن يقولوا للغلط غلط.. فإذا الرياء يصبح منهج حكم ومجتمع..

لحسن الحظّ مررت مرّتين على قصر بورقيبه الجديد.. وفيه رفاته ورفات عائلته باعتبارهم آخر رموز عهد مضى وانقضى من فراعنة قرطاجنه!..

هكذا ودّع بورقيبة تونسه أيام الخير والاستقرار باهي، والأغاني والثقافة المحترمة.. قبل دخول الألفية الجديدة وانقلاب الخير والأغاني والثقافة والبشر، إلى اميركان روبوتس يتحركون بأجهزة التخابر الفضائي الخلوي -بلاك بيري- الذي يسجل مناطق حركتهم وكلّ أحاديثهم ونشاطاتهم...

ومرة اخرى لا أدري ما صلة ذلك بوصولي إلى لندره.. التي كنت أرفض زيارتها.. لانها احتلت بلادي وجعلتها في نفق الخراب..

لا أعرف كيف تناسيت ذلك.. واستجبت لدعوة شاعر من زبانية الجنرال السابقين.. جاء هو الآخر من بلد سكندنافي الى لندره.. قال أن كلّ عراقيي المهجر والمثقفين سنجتمع هناك.. من أجل غاية في نفس ابن اسحق..

ثمة أمور لا يمكن التحادث بها في التلفون..

زرت لندره ثلاث مرات وفي كلّ مرة ينتظرني في محطة فيكتوريا.. ومن هناك نفترق.. ولم نتحادث ابدا في امور لا يمكن التحادث بها في التلفون.. في المرّة الثالثة تركز الحديث على كيفية ترتيب الإقامة وتسوية الأمر بمبلغ من المال..

هكذا تمت الأمور وانتهت للاستقرار في لندره.. من غير تخطيط أو تفكير حقيقي.. ولم أسمع شيئا عن اجتماع المهجر.. واقع لندره لا يسمح بالتفكير في شيء جادّ.. أنها أفضل مكان لقتل الوقت وعدم التفكير وتوزيع السآمة..

منظر العرب والأفارقة والهنود والصينين.. البشرية من كل صنف ولون وكثرة المقاهي والمطاعم والمتاجر الشرقية والعربية.. أمر يجعلك تنسى نفسك وتعود نوستالجيا لتلك السنين التي أكلها الجراد..

الفكرة أن بعض القرارات الكبيرة تتنفذ بسهولة غريبة.. وكأن كلّ الظروف تتعاون في العمل باتجاهها.. بينما قرارات أسهل منها تستعصي التطبيق.. ولا تتحقق..

ـــــــــــــــــــــــ

  • الحبيب بورقيبة [1903/ 1957- 1987/ 2000م] محامي وسياسي تونسي، من مواليد مدينة المنستير الجنوبية على ساحل المتوسط، وفيها بنى مقبرة عائلية داخل قصر فخم بعد خلعه من الحكم، جمع فيه كل قبور العائلة. قاد حركة الجهاد ضد الاحتلال الفرنسي، مؤسس الجمهورية التونسية وأول رئيس لها. شخصية لبرالية تنويرية رائدة، حاول ترويج مشروع ثورة ثقافية عربية، في زمن كارزما عبد الناصر والحركة القومية. تعرض لانقلاب قصر من قبل حرسه الشخصي زين العابدين بن علي [1936/ 1987م 2011م/ ؟] من مواليد مدينة سوسة الساحلية جنوبي تونس.

 

(36)

في سكون الليالي الموحشة تصدر أصوات متقطعة من نقاط متحركة في الحجرة.. روح تجوس خلال المكان.. شيء يتناغم مع وجودي الداخلي.. صوت يتفاعل مع أصوات في داخلي.. أصحو في منتصفات الليالي وأراقبه.. أشعر به في مكان ما من الحجرة..

وجوده لا يرتبط بوجودي.. كلامه لا صلة له بكلامي.. أتكلم فلا يجيب.. أحادثه فلا يستمع لي.. هو هنا من أجلي.. ولكنه ليس مرتبطا بي.. أجلس في وسط الفراش.. أراقب ضوءه المتحرك هنا وهناك.. نيزك صغير يضيء وينطفئ مثل طائرة حربية في ليل.. نحن في ليل..

أتحرك.. يرفع ذراعه باستقامة نحوي قائلا دون أن ينطق: لا.. ابقَ مكانك!.. أنا أقوم بعملي فقط.. أنظر إلى شاشة الساعة التي تضيء وتنطفي.. وأستعجل طلوع النهار.. سكون الليل يخترقني مثل سكين.. تقطعه أصوات زجاج يتكسر.. أقداح تتفطر في المطبخ.. ليس في المطبخ.. في مكان ما في داخلي..

مهما يكن.. عليك أن تطمئن!..

يردّد عليّ جملته القديمة..

ولكن!..

(يختفي)..

أنظر ولا أرى..

أرى ولا أنظر..

هو هنا قبلي.. يرى كلّ شيء.. يعرف كلّ شيء دون أن أقول له..

كلّ ما كان يكون.. كلّ ما كان هو كائن قبل أن أوجد.. ولا شيء جديد غير دهشة الاكتشاف.. اكتشاف جهلي بالأشياء.. الأشياء الموجودة قبل أن أوجد.. اكتشاف وعيي الكائن قبل أن أعي.. وعيي الكائن من دوني.. أنا أولد داخل وعيي..

أبي وحده يعرف وعيي لأنه قبلي.. وهو يبقى من بعدي.. وأنا مجرد نسمة في أفقه.. مجرد فكرة في خاطره.. فكرة لم تستقر ولم تتحول إلى مشروع أب.. فكرة لم تتكيّف في المكان.. ولم تنسجم مع الآخرين.. لم تتفاعل مع فكرة أخرى لتنتج اطفالا..

هل الفكرة عاقلة.. هل الفكرة والعقل واحد.. أم العقل خارج الفكرة..

لماذا الفكرة تسيطر عليّ.. ولا أسيطر عليها؟..

عندما يطلع النهار تختفي الأصوات.. تختفي النيازك.. يكفّ خشب الأرضية عن الطقطقة.. وتطغى جلبة الخارج على الداخل.. أدفن وجهي في الوسادة.. يصطدم أنفي بخيط شعر لامرأة عبرت مصادفة.. تاركة غابة شعر تظلل وجهي.. وأغفو..

عندما لم أجده في الحجرة.. وقفت.. أجلت ناظري على السطح.. اكتشفت وجها جديدا للمدينة.. وجها مختلفا.. باب حجرة أبي الخشبي مربوط بقفل أصفر صغير.. باب حجرة رفيقه الموارب بلا قفل.. يمكن النظر خلال الفراغ في عتمة الداخل.. ثمة حضارة قابعة هنا.. لن أفكك أسرارها.. وسوف أمضي وتبقى هي.. ولن يفكك لغزها من يأتي بعدي.. سوف تبقى تلك الحجرة.. ذلك النزل المهترئ.. رغم كلّ ضجيج الطائرات الحربية التي ما زالت تخترق سماء بغداد منذ ثلاثين عاما.. وسوف يبقى دكان العجوز في أول الزقاق.. شاهدا على ذاكرة المكان.. ويبقى العجوز يبتسم حين يراني، ويخبرني بعفوية آخر أخبار والدي..

بجوار باب حجرته المجاور بضعة أطباق طعام وقدر ومقلاة مغسولة بعناية.. وإلى جانبها بضعة أخشاب مركونة منذ زمن.. صامدة أمام الريح والمطر وحرارة الهجير.. غبت عن نفسي لحظة.. تعلقت نظراتي في مكان ما واقتربت خطواتي بتؤدة..

هذا هو!..

هو نفسه!..

ببنطاله القصير وجوربه الطويل ووقفته العسكرية..

أمعنت النظر في الصورة.. كأني أحاول استنطاقها.. أو الدخول في عالمها.. لماذا لا تنطق الصورة.. أليست كائنا حيا.. كيف تمنحنا هذا الشعور والعاطفة ولا تكون حيّة.. ما هي الحياة..

شارك والدي في حركة رشيد عالي(*) في أول شبابه وعمل في قسم المخابرة.. وفيها تعرف على عبد السلام(*) وبعض الوجوه التي سيحدّثني عنها من وقت لآخر..

عندما صفيت الحركة نقل والدي إلى وظيفة مدنية.. وبقي في سلك البريد والاتصالات حتى سن التقاعد.. وفي حجرته الخشبية الرثة تلك في منطقة الفضل.. يجلس على السطح وهو يدخن.. يرقب برج اتصالات السنك(*) الذي ضربته الطائرات الغربية أكثر من مرّة، وأعيد تصليحه في كلّ مرّة.

هناك عمل والدي في نهاية خدمته.. وبعد تقاعده لم ينقطع عن زيارة البرج.. ولم ينقطع عنه زملاء العمل في مقهى الكندي.. عندما لا يخرج للمقهى.. يجلس والدي على سطح النزل.. يدخن وينظر نحو بغداد من فوق.. عندما تشتدّ حرارة الظهيرة يجلس داخل حجرته ويترك الباب مفتوحا.. هكذا تقع عيني عليه مع درجة السلم الأخيرة.

يستقبلني ببرود.. لا ينشّ ولا يبشّ.. ولكن بعد تبادل الحديث.. تروق تغضنات وجهه وتفوح حرارة كلماته ومشاعره..

نظراته الصامتة تقول: لقد تأخرت!..

أعرف أني تأخرت.. وأعرف أني لن أستطيع اللحاق بالوقت مهما أسرعت.. ولن أستطيع أن أكون كما تريدني مهما اجتهدت.. أعرف هذا وأعرف أن زيارتي هاته.. جلساتنا الصوفية هذه لن تقدّم أو تؤخّر..

لن يتغيّر شيء من مجرى حياتنا ولا حركة التاريخ المعاكسة لنا.. بعد حرب الواحد وتسعين(*) كنا أشدّ قربا من بعضنا.. من أي وقت آخر.. رغم أننا بالكاد كنا نقول شيئا.. أو حتى ننظر نحو بعضنا مباشرة..

بعد وصولي يقوم بعمل الشاي.. جزء من البروتوكول.. أحيانا يدعوني لتناول طعام أو تناول فطور مع الشاي.. ولا يأبه لي عندما أشكره أو أرفض تناول الطعام.. لطعام والدي نكهة خاصة.. تختلف عن غيره.. رغم أن ذلك حدث مرات قليلة.. وفي الغالب كان شيئا بسيطا.. حتى البيض المقلي طعمه مختلف.. أشعر أنني تناولته عنده كلّ عمري!..

كان يشعر بسعادة وهو يقدّم لي شيئا.. يحضر البيض بزيت الزيتون بأبهة.. مع رغيف خبز يحرص على تسخينه.. ولا يشاركني الطعام.. وعندما يراني أستعدّ للمغادرة.. يقول كلمته الروتينية.. ها تروح!.. كأنه لا يريدني أفارقه.. وليته ما كان..

في حرجه وهو يستقبلني شعور.. أنه يتمنى أن يقدم لي أهم شيء عنده.. لا يتورع عن تقديم حياته لو كانت بيده.. من أجل سعادتي أو تسديد حاجتي.. لكنه قصير اليد.. يشعر بالعجز ويحبطه الواقع عن اسعاد ابنه.. يدرك وضعي وظروفي.. ويدرك أن المشكلة أكبر منه ومني.. يصمت..

الوضع الجديد بعد الحرب جعل الناس يبدون أصغر من حجمهم الطبيعي.. كانت المشكلة محلية والظروف محلية.. الآن صار المشكلة المحلية قضية دولية.. رغيف الخبز تحتاج إلى قرار دولي.. كل شخص معلق بخيط من ياقته.. مصيره مرتبط بفيتو مجلس الأمن..

والدي الذي تعودت منه الصمت.. بقي صامتا.. بقيت هواجسه وأفكاره في داخله.. لا أدري كيف سألته في الأيام الأخيرة عن الأشياء التي كان يحبها في حياته.. أحلام والدي كانت بسيطة وجميلة.. ولكنها بقيت أحلام.. وبقيت حياته مشروع انتظار.. لكنني أيضا قصرت في حقه.. لقد كنت سلبيا أكثر من اللزوم.. ربما كان علي التفكير بعمل مشروع أو الذهاب إلى مدينة أخرى.. نجتمع فيها ونتعاون على دفع فواتير الحياة.. بدل أن يعاني لوحده.. وينتهي لوحده..

المرة الوحيدة التي أحسست بفرحه.. عندما عرف أنني سأهاجر.. كلهم يعتقدون أن الهجرة باب فردوس.. عندما يكون الواقع عقيما.. ينسى الانسان صعوبات المجهول.. يصبح المجهول خلاصا..

أن ما يخطر لي الان.. يعذبني أكثر.. لقد أخطأت في حقك يا أبي.. وأخطأت في حقّ نفسي.. فسامحني.. ليت الزمن يعود فنعيد تشكيله.. أحيانا يكون أكثر ودّية فيقول: وين رايح؟.. بعد وكت!.. ابق بعد شوية!..

لم أقدّر يومها حاجاته النفسية والعاطفية.. لم اعتبر وحدته وخسارته العائلية التي كنت قادرا على تعويضها.. بل ترميمها أيضا يومذاك.. أنا أيضا كنت بليدا في تلك الأيام.. لا أرى غير نفسي.. ولا أتبع غير نقطة كائنة في نهاية دماغي.. عندما أشعر بحاجتي الانسانية والأبوية.. أستذكر تقصيري وبلادتي مع والدي الذي أحبني وأحببته فعلا.. ولكن بصمت!..

أستمرّ في البقاء، لكنه لا يقول شيئا.. وأنا لا أقول شيئا.. وعندما أقوم مرة ثانية وأتركه.. أجدني مرغما على تركه.. رغم أن المكان الذي أذهب إليه هشّ ومهزوز.. أبدو مثل دخيل أو مستأجر بين أخوتي.. وعندما أصل البيت أجد الفراغ يفغر فاه في وجهي..

أجدني بين فراغين.. ورائي وأمامي.. أتمنى العودة فلا أستطيع.. وأدخل الفراغ لأضيع فيه.. لتكتمل دوامة الحياة .. أشعر أنني أترك شيئا مني ورائي.. أتمنى أن يعود الزمن وأكون ذلك الطفل الذي يتعلق بأصبع أبيه الصغير وهو يسحبني خلفه..

ذات مرة.. عندما كانت السيارة تنزل من الطريق السريع عند مفرق ام الطبول.. نظرت الى والدي الجالس بقربي وسألته: ما هي السيارة التي كنت تحبّ امتلاكها؟..

كان الشارع يعج بسيارات كثيرة مختلفة الماركات، عندما أشار بيده لسيارة صغيرة تمرق فجأة بالقرب منا، نظرت اليها، وقلت: (فولكس واكن)!.. فقال: أحسن سيارة!..

واستغرقت على اثرها داخل افكاري وميول والدي الوطنية القديمة من أيام رشيد عالي..

أشعر بالهزيمة لأني لم أفكر أن أعمل شيئا في تلك الأيام.. لم يخطر لي أن أغير من صورة العائلة.. والمساعدة لنعيش حياة شبه عاديّة.. كان هو مشرّدا في حجرته تلك.. وانا خارجا من الحرب من غير مستقبل.. لا بيت ولا وظيفة.. جميعنا كنا معلقين في بلد بلا مصير..

كان هو قد تعوّد حياته تلك.. أما انا فلم أستطع تعوّد شيء بعد عشر سنوات الحرب.. ولم أجد أمامي شيئا عاديا..

ـــــــــــــــــــــــــــــ

  • تعود جذور حركة رشيد عالي الكيلاني إلى ظروف الاحتلال الانجليزي للعراق وملابساته السياسية المهينة للبلاد. ففي ظرف غامض جرى اغتيال الملك غازي [1912/ 1933-4 ابريل 1939م] الشخصية العراقية الوطنية والمناوئة للانجليز، ونصب بعده ابنه فيصل الثاني [1935- 1958م] وهو في الرابعة من عمره، تحت وصاية امه وخاله عبد الاله بن علي [1913- 1958م] الذي يصبح وصيا على العرش [ابريل 1939- مايو 1953م] وفي ظل تحالف وثيق مع نوري السعيد [1888- 1958م]. وعندما دخلت انجلتره الحرب ضد ألمانيا في (3 سبتمبر 1939م) طلبت من العراق تأييده وقطع علاقاته مع المانيا. وفي (5 سبتمبر 1939م) قطعت حكومة نوري السعيد والوضي عبد الاله علاقات العراق مع المانيا، ووضع البلاد في حالة نفير عام، متعهدا بالدعم الكامل لحكومة لندن، في وقت لم تتعد العمليات الالمانية حدود بولنده. ومن اجراءات الوصي والسعيد تلك: فرض حظر التجوال، قانون الحصة التموينية، فرض الرقابة على الصحف ووسائل الاعلام، مصادرة ممتلكات عائدة لدول المحور وأتباعها. وقد استغل ثنائي الوصي والسعيد اجراءات الاحكام العرفية بذريعة طلب انجلتره للحد من تطور نشاطات المعارضة والانتفاضة الشعبية لكشف اسرار اغتيال غازي والمسؤولين عنه، وكانت اصابع الكثيرين تشير لمسؤولية الثنائي عبد الاله/ نوري عن الاغتيال، وتوجيه الاوضاع لخدمة أطماعهما الشخصية. ورغم الملابسات والمعارضات الضارية للساحة السياسية المطالبة بالاستقلال والتحرر، وعدم تجديد معاهدات (1930م، 1936م)، فقد اعاد الثنائي العراق الى ظروف معاهدة (1930م). على الطرف المقابل الرافض لاجراءات الحكومة، كان رئيس الاركان العامة الفريق حسين فوزي [1889/1937- 1940م]، ورئيس الديوان الملكي رشيد عالي على رأس حركة معارضة عسكرية وحزبية وشعبية، رأت في قرارات الحكومة خطرا على استقلال العراق وابقائه في فلك التبعية الأجنبية. وكان من اثر الصراع الداخلي استقالة حكومة نوري السعيد، وتشكيل رشيد عالي حكومة جديدة، لتستمر طاحونة الصراع الداخلي ونوري سعيد خارج السلطة، مما دفع انجلتره لاستغلال نفوذها والتدخل لصالح أعوانها، سيما بعد هرب الوصي والسعيد خارج بغداد. وفي نفس الوقت، استغلت انجلتره تلك الظروف لاعادة احتلال العراق عسكريا تحت غطاء الحرب الأوربية، في تكرار تاريخي لما حصل في عام 1914م.
  • رشيد عالي الكيلاني [1892- 1965م] محامي وسياسي عراقي، من الرموز السياسية للعهد الملكي، من مواليد بعقوبا/ العراق. كان مقربا من البيت الهاشمي ومن الشيخ عبد الرحمن النقيب [1841- 1927م] رئيس أول حكومة عراقية عقب ثورة العشرين/(1920- 1922م).
  • عبد السلام عارف [1921/ 1963- 1966م] من مواليد بغداد، تعود أصوله العائلية الى مدينة الفلوجة، شارك في حركة رشيد عالي الوطنية التحررية من اجل الاستقلال، وكان له دور ريادي في حركة الضباط الأحرار واعلان الجمهورية الاولى في العراق/(يوليو 1958م)، وقيادة حركة التصحيح في الجمهورية الثانية/(فبراير 1963م).
  • حرب (1991م): بدأت في منتصف ليلة 17 يناير 1991م بهجوم جوي أميركي استهدف المراكز الحيوية والستراتيجية ومفاصل الاتصالات والمواصلات في بغداد وعموم العراق، واستمرت الطلعات والهجمات الجوية المكثفة طيلة اربعة اسابيع، اعقبها ما يوصف بالهجوم البري المحدود والملتبسة تفاصيله ووقائعه حتى اليوم. كانت بغداد تتعرض يوميا لطلعات جوية أميركية واطلاق صواريخ (جو- أرض) على مواقع التاجي شمالي بغداد ومؤسسة الاتصالات الهاتفية وشبكة الجسور على نهر دجلة، فضلا عن شبكات الكهرباء والاسالة التي تم تعطيلها من بداية المعركة. علما ان الدولة أغلقت كل مؤسساتها منذ الايام الأولى للحرب، وانسحبت الكوادر الحكومية من العمل، ومنهم المؤسسات الأمنية والحزبية التابعة للبعث. وعاشت بغداد حالة من الفراغ السياسي والامني والعسكري، مع مفارقة ان وحدات من الانضباط العسكري استمرت في مراكزها، ومنها مراكز طوارئ في مناطق الكراجات والاسواق، معظم كوادرها من محافظات شمالية وجنوبية، يقومون باعتقال الجنود وتجميعهم في باصات كبيرة لنقلهم الى (حفر الباطن) أو معتقلات عسكرية، دون متابعة او اجراءات رسمية. هذا الفراغ الحكومي والامني المخطط هو مقدمة ما دعي لاحقا بانتفاضة شعبية، وبحسب رأي الكاتب، كان الأمر كله ضمن صفقة شاملة بين الطرفين، وعلى العموم كان الاداء العراقي العسكري والامني ضد العدوان شبه غائب أو رمزيا بتعبير أدق، وذلك بالمقارنة مع ضراوة الموقف العراقي في مواجهة ايران أو الكويت قبل تدخل الأميركان. المفارقة الوحيدة خلال ذلك هو جدية الكادر الهندسي العراقي في اصلاح برج الاتصالات خلال زمن قياسي وإعادته للعمل المحلي. وهناك تفاصيل وملفات مطوية لليوم في هذا المجال.
  • مبنى برج الاتصالات الدولية في بغداد مجاور لمكتب بدالة المأمون يبلغ ارتفاعه (205م)، تعرض لقصف جوي مدمر أميركي في حرب الخليج الثانية في (يناير 1991م) وأعيد اصلاحه وقصفه بشكل متعاقب، حتى عام (1994م) حيث أعيد تشغيله مجددا، ودعي اسمه (برج صدام الدولي). وفي العام (2003م) خلال العمليات الأميركية لغزو العراق عادت لقصفه وتدميره مجددا، وفي العام (2007- 2010م) اعيد بناؤه بطاقم هندسي عراقي وأفتتح باسم بغداد أو برج المأمون. في العام (2016م) أغلق لأغراض الصيانة والتطوير وأفتتح مع نهاية العام.

 

(37)

بتردد ومحاولة للسيطرة على قلقه، خطواته تتقدم نحو النزل، تتناوشه مشاعر متناقضة، بل أنّ أدنى شعور مفاجئ يمكن أن يعكس اتجاه خطواته إلى وراء تماما. ألقى تحية عابرة على البورتر الجالس وراء زجاج مغلق، عيناه الصفراوان تركتا شاشة التلفاز المعلقة أمامه لتفحصه.

وهو يرتقي السلّم الملتوي ذي المائة وثمانية وخمسين درجة حتى الطابق الثاني. سأل نفسه على حين بغتة: هل من مفاجأة اليوم؟.. لكنه تدارك نفسه وحاول التخلص من شعوره متقدما نحو الكليدور حيث باب الحجرة.

قبل أن يدفع باب الكليدور أرسل نظره عبر زجاجة الباب الوسطية متوقعا أن يجد الباب مفتوحا أو أي أثر لحركة غير عادية هناك.. كانت الساعة قد تعدت الثانية والعشرين ليلاً.. وضع المفتاح وأداره فانفتحت الباب بهدوء على حجرة غارقة في الضوء.. وقف مكانه ليتأكد مما يراه..

وجد الأرضية كأنها تم تنظيفها للتوّ.. رائحة النفتالين النفاثة تفح من كلّ شيء.. السرير تمّ توظيبه جيداً.. كأنه يستقبل زائراً جديداً.. بنفس الطريقة المعهودة في الفنادق والمستشفيات.. اختفت الوسادتان اللتان كانتا هنا.. وحلّت محلّها وسادة واحدة منتفخة.

مكان الرأس انتقل من قرب الباب إلى الجهة المقابلة.. البراد تحرك من مكانه تماماً والتصق بجنب الكرسي الوحيد الموضوع الى الجدار قرب الطاولة.. آثار تنظيف الأرضية واضحة في كلّ مكان، تنظيف بالآلة الكهربائية تماما..

نعلاي ارتفعا قليلاً وجلسا في حضن الكرسي.. كما لو أنها طريقة جديدة للعرض بدون فاترينة.. الصور والخطوط التي كانت معلّقة حوالي المرآة فوق المغسلة.. تم انتزاعها من مكانها وجمعت مع صندوق الأدوية على سطح البراد..

المنشفة التي كانت تغطي الوسادة تم طيّها ووضعت مع الصور والأدوية.. بحثت جيداً، لأجد ورقة صغيرة عليها بضعة كلمات.. (غادر رجاء).. (أترك المكان فورا).. (انتهت الزيارة) (أنت غير مرغوب بك هنا).. سؤال مثل (ماذا تنتظر؟..) (هل لديك احساس؟..).. (سنقلعك من هنا.. سنقلعك!)..

تفقدت حاجاتي التي كانت في النافذة.. ها هي على البراد.. الحجرة نظيفة ولا يشوّشها غير وجودي .. وقفت أراقب مكونات الحجرة الصغيرة التي لا تزيد مساحتها عن مترين ونصف في الكثير، بضمنها مساحة السرير الحديدي المفرد، والطاولة الخشبية المربعة والكرسي الحديدي، والبراد المستهلك والمغسلة ورفوف المكتبة المعلقة بجانب المغسلة..

هذه هي الحجرة رقم 207 في لانكسترغيت التي تستخدمها الويست ايند منستر لايواء المشرّدين في إطار اجراء روتين أداري.. قبل تخصيص سكن مستقل مؤقت للشخص.. وذلك بعد سلسلة معاملات إدارية ملتوية للتخلص من الزبون.. رفضان وفي الثالثة قبول.. هذه هي نصيحة المحامي التي استنتجها من عمله المستمرّ مع البلدية طيلة سنوات..

أمضيت أربعة أشهر في تلك الحجرة قبل استلام الرفض الأول.. كانت الموظفة قد أخبرتني بالرفض منذ أول شهر في مراجعة خاصة.. وعندما اتصلت بالمحامي قال أنه لم يصدر قرار حتى الآن.. وأنهم طلبوا تأخير القرار حتى موعد معين..

تأخر القرار شهرا آخر بعد الموعد المعين من قبلهم.. ووصل أخيرا في الثاني من نوفمبر كما هو.. رفض بحسب الأصول.. سلّمني البورتر ورقة نوت لمغادرة الفندق (يسمونه هوستل وهي حاصل جمع كلمتين –househotel= hostel-) يوم الثالث من نوفمبر، تعلن أن الساعة الحادية عشر من يوم السادس عشر موعد لتنظيف الحجرة من أثر الأسير الأخير.

في وقت لاحق وصلتني رسالة من المحامي بتمديد الإقامة لمدة أسبوع لغرض اكمال الأوراق بموافقة البلدية على التمديد.

ما رأيته أمس هو ثالث مرة أرصد دخولهم الحجرة وتلاعبهم بحاجاتي، في المرة الثانية قاموا بتنظيف البراد نهائيا وفتحوا النافذة على آخرها للتهوية.. وعلى الفور اشتكيتهم وأنكروا في البدء، ثم قالوا أنهم سيخبرون الادارة ولن يدخلوا الحجرة بدون ورقة نوت، ولكن الاستفزازات استمرت وبشكل متعمد ومن غير إذن أو ورقة نوت.. وبشكل أكثر تجاوزا وعدوانا..

ورقة النوت تخبر أن موعد تنظيف الحجرة هو الساعة كذا من تاريخ كذا، ولكنهم قبل أن يحين التاريخ فعلوا ذلك كذا مرة وبشكل يتجاوز على الخصوصية الفردية وتدمير الحاجيات الخاصة.. مستغلين سلطاتهم تجاه شخص مهاجر.. لا يستطيع مواجهة سلطات الحكومة واستحصال حقه حسب القانون..

 

(38)

قطيع من أغنام تسرح في المنزل.. أطفال ينتظرون العلف.. تحت النافذة اثنان يتحادثان بجدية.. أحدهما يضحك بغرور. المرأة ذهبت إلى السوق في ساعة متأخرة من المساء..

لا أريد أن أبقى في البيت.. روحي ستنفجر!

يطلعلك!

أنت أبوهم.. ساعدني.. كل الحمل علي..

المرأة تخرج.. الظلام شديد.. أضوية مهلهلة.. الباب تصطفق.

الجميع يدورون حول البيت في ما يشبه هرولة خفيفة.. الرجل يقول: طالع للك..

والأطفال يجيبون: يا عدوي طالع! العتمة شديدة والنور خفيف..

أنا أفكر في أشياء كثيرة، وتفكيري يأخذ صورة جدية.. تفكير ملتزم، كما لو كانت لي أهمية ومسؤولية في أشياء العالم وحدوثها.. رغم أنني في واقع الأمر شخص هامشي، ليست لي أية أهمية أو تأثير في أدنى حلقة بشرية، وجودي يتساوى مع عدمي.. بل أقل بكثير من ذلك الذي وصف نفسه بالدودة والنفاية..

أفكر رغما عني.. أخطط لأفكار أبدو مرغما عليها.. عدم اهتمامي بتلك الأفكار يجعلني مسؤولا ومشاركا في فساد العالم والنكاية به..

لا أستطيع السيطرة على نفسي، عقلي ليس تحت سيطرتي أو متناول يدي.. تفكيري يقودني إلى مزيد من التوزع والتشظي والاستلاب.. فكرة تقود إلى فكرة، عالم يدفعني لعالم، أفق يحيل إلى أفق آخر.. أنا قليل الكلام.. شخص معقد.. أجد صعوبة في الانسجام مع الواقع.. أي واقع، بما فيه العائلة، وأقرب الناس إلي.

عدم التكيف يجعلني جافيا، شرسا وعدوانيا.. بل حتى حقيرا ونذلا.. لكنني غير قادر على وقف تفكيري أو الخروج من حياتي الجوانية.. ليس بوسعي إفهام أي شخص قريب مني.. أنني أعيش في داخلي الفكري والنفسي .. وجودي في المحيط الاجتماعي ليس غير ظاهرة فيزيائية عارضة لا شأن لي بها، ولا تأثير لها علي..

دائم الكلام مع نفسي، لا أنقطع عن الاجتهاد في أفكاري، مما يشغلني عن التطلع والتعامل مع المحيط الخارجي.. هذا الكابوس الفكري النفسي يعيشني ويقودني تلقائيا ومن غير توقف في أي مكان أو زمان.. وعندما أخلد للنوم تجد الأفكار فضاء للتجسد.. في صور أحلام وكوابيس مثيرة ومتسلسلة..

حين يخلد الناس للنوم أجدني أعدو وأطير وأخطب، كأنني الحاكم بأمره؛ لا أجد راحة للنفس أو الجسد أو العقل.. طيلة النوم أصارع في عوالم وسيناريوهات مجهولة المؤلف والمخرج.. تنقلني من عالم إلى عالم، ومن بلد إلى بلد، ومن زمن إلى زمن.. ولا أبالغ إن قلت أنني قابلت كثيرا من مشاهير البشرية عبر التاريخ، ورأيت بأم عيني ما يفعله أجدادي في الحياة الثانية، حتى تساوى عندي الميت مع الحي، والواقع مع الغيب، ولي أناس لا أعرفهم، لكنهم حميمون لي في العالم الآخر..

ازاء ذلك يزداد شعوري اليوم، وأنا أسجل كلماتي هذه بوجود خطأ في داخلي، ليس حياتي فقط.. وأن الخطأ الذي يمثله قدري هو حكم أشغال شاقة، تحرمني من أي دور اجتماعي أو لذة في حياتي اليومية، وتحجب عني رؤية المستقبل كانسان عادي.

أحيانا أعتقد أن وجودي الفيزياوي مجرد غلطة.. وأن وجودي الحقيقي خارج هذا العالم، عالم أتواصل معه في أفكاري وأحلامي وهواجسي، وأن ما أفكر وأحلم به يجد استجابة في أماكن وخلائق أخرى، غير ملموسة لأهل هذا العالم..

الموت يهيمن على تفكيري.. أشعر به يسير معي.. لكنني أبقى موزعا بين عالمين.. في الحرب كان القتلى يتساقطون أمامي.. القنابل المتفجرة تطير في الهواء وتنشر شظاياها حوالي.. الموت يتنفس، بينما أنا أتلمس جسدي وأتلفت.. وقد اختلطت علي الرؤية بين الميت والحي..

انتقلت من حرب إلى حرب.. ومن بلد إلى بلد وقارة إلى قارة.. وما زلت أتمنى الموت.. كنت أضحك من النساء وبعض كبار السن وهم يتطيرون من ذكر الموت.. أجد صعوبة في فهم خوفهم من الانتقال من عالم زائف إلى عالم حقيقي خالٍ من الشرّ.

يمكن أن يعتبرني البعض مجنونا أو معقدا.. عالما فريدا ستبهر العالم يوما أفكاره ونظراته.. لكنني مع نفسي شخص عدمي، محبط، قانط.. عاجز عن مسايرة العالم.. غير مقتنع بمشاركة الناس لهوهم وانشغالاتهم.. أنا من نفسي لم أرد أن أكون عالما أو نبيا أو حكيما حسب وصف البعض..

أكره الزهد والتعفف والنبل.. أتمنى الانغماس في الرجس والدونية.. لو أكون قائد فرق الدونية والابتذال.. لكنه مجرد حلم مستحيل، أعرف أكثر من غيري أنه مستحيل.. لأنني محكوم بقدر أحاول التملص منه.. ومخالفته دون جدوى.. قدري هو أنا.. وأنا لا شيء.

صيانتي القدرية من أي سوء أو عطل فيزياوي، رغم الحروب والظروف المضطربة، هي لضمان استمرار وجودي في هذا الكابوس الشقي المدمر ليل نهار.. أنا لست أنا.. وهنا ليس هنا..

 

(39)

ما بين الساعة العاشرة والثانية عشرة تضيء الشبابيك وتنطفئ لأكثر من مرة.. قبل أن تنطفئ تماما.. شباك واحد يبقى مضاء طيلة الليل يبدو أنه طالب يقرأ ليلا.. ولأني لا أجد أو أجيد شيئا أعمله.. أنظر من نافذة حجرتي الوحيدة نحو الخارج.. تلتقط عيناي كلّ هدف متحرك.. أو ضوء يشتعل في وقت تريد الطبيعة فيه أن تنام...

أحيانا تمرّ خمس طائرات متشابهة على خط واحد.. بين الواحدة والأخرى خمس دقائق.. تتقدمها أضوية حمراء وبيضاء.. وفي نهايتها أضوية حمراء ضعيفة.. في أحيان أخرى تمرّ طائرات منفردة سريعة.. في ممرّ يتقاطع مع الأول.. له ضوء أبيض فقط من الأمام..

في تلك النافذة العالية.. وهي أوسع النوافذ.. امرأة تمشط شعرها في الساعة الحادية عشرة والنصف ليلا.. ربما تحل رباط شعرها.. يبدو شعرها طويلا وكثيفا جدا.. ترفع شعرها للأعلى عدّة مرات بذراعين عاريتين.. فيبدو شعرها بارتفاعهما.. في الساعة الثانية عشرة الا ربع تتمدد الستارة من جهة اليمين.. ثم الستارة من جهة اليسار.. تاركة بينهما فراغا مستطيلا.. من خلال الفراغ يبدو رأس جالس يتحرك.. كأنه ينظر إلي.. من خلال ضوء المونتور المنعكس على وجهي.. في الساعة الثانية عشرة تماما ينطفئ النور ويختفي اثر الحركة.

تحت النافذة العلوية نافذة طولية مسدلة الستائر.. يضاء داخل الحجرة وينعكس النور من حافات الستائر.. الستائر قاتمة ولا أثر لحركة من خلالها.. لكن النور يبقى مضاء..

لا أثر لطائرات.. لا حركة جوية في الممر القريب قبالة نافذتي.. ثمة أنوار حمراء عالية لرافعات قوالب جاهزة.. تزداد أعدادها يوما بعد يوم منذ استفحال البركست.. لبناء مزيد من أبراج الفنادق والعمارات السكنية.. الحكومة تريد تحويل العاصمة المتروبوليتان إلى بازار سياحة وتجارة حرّة..

في داخلي رغبة في التقيؤ.. هواء فاسد في المعدة.. ضجيج العمل والسيارات في النهار.. أضواء الرافعات العالية في الليل.. تحل محلّ النجوم.. أما القمر.. فلا أثر له في هذه المدينة الميتة.. لا أدري ماذا تفعل الآن تلك المرأة ذات الشعر الطويل.. لحسن حظها.. لا شباك لها من الجانب الآخر..

 

(40)

ما زلت أحلم كثيرا.. تضطهدني كوابيس مثل أفلام هتشكوك(*).. الموتى يحاصرونني ويعيشون معي في الليل.. ليسوا موتى على الإطلاق.. كيف يتكلم الميت ويفكر.. أنهم يعرفون كلّ شيء.. ويقولون أشياء كأنهم فعلا هنا..

الآن أكثر من أي وقت مضى.. أحفظ صورهم وحكاياتهم.. تخلصوا أخيرا من خلافاتهم وأحقادهم التي لم يفارقوها في حياتهم.. أخيرا هم أشخاص طبيعيون ويعرفون قيمة الغفران..

إذا عادوا للعالم هل سيعاودون خلافاتهم وثاراتهم.. أغلب الظن أن الناس يتسلون بالأحقاد ومشاريع الانتقام الشخصي لتنفيس شعورهم بالملل.. طريقة للتخلص من الفراغ.. وعدم التفكير في الوجود والموت.. ماذا كسبوا من تلك الأحقاد غير تدمير كلّ شيء.. وبشاعة صورهم وهم يتشاجرون ويعتصرون أعصابهم..

هل تنتبه المرأة لصورتها وهي تتشاجر وتلوي شفاهها..!

بغير وعي أحيانا.. أدعو والدتي كما لو كانت معي!.. في البداية كنت أتضايق منها.. لا أريد أن أتذكرها.. لم تترك لي ذكرى طيبة أستعيدها.. أفضل تذكر والدي فهو يهتم بي أكثر.. وكلامه رصين وموزون.. أحتفظ لوالدي بصور كثيرة جميلة..

أول مرة جلست في المقهى كانت بصحبة والدي.. أول مرة ركبت الدراجة.. كانت معه.. الشاي الحامض وعصير البرتقال.. أول رؤيتي للمصعد الكهربائي وأنا طفل.. كيف كانت في بغداد مصاعد كهربائية أيام الملك.. يقول الناس أنني أشبهه كثيرا.. كلّما تقدّمت في السنّ صرت أشبهه أكثر.. حتى شعري يشبهه.. ربّما لهذا كرهتني أمي.. أمي لم تحب والدي أبدا.. ولم تقل عنه كلمة جيدة مرة.. لكن والدي لم يذكرها بسوء.. لا أدري لماذا.. عندما أصيبت بالشلل آخر سنواتها كان يسأل عنها كثيرا.. وللمرة الأولى كان يسترق النظر إليها في زياراته القليلة للبيت..

هل هو التقدّم في السن؟.. هي لم تكن تطيق رؤيته.. لكن عندما هدأت ولم تعد تنفعل .. كان يسألها بصوت مؤثر كيف تشعر.. ومرّتين رأيته يناولها قدح ماء.. أخذت منه القدح.. شربت وأعادت إليه القدح بغير كلام.. في عيونها استكانة وهدوء.. اختفت الانفعالات.. هم الآن هناك أكثر من أصدقاء.. بعد أن ورّثونا نحن أسوأ ما عندهم..

أراهم كثيرا في أحلامي.. ومعهم ناس غرباء.. المنزل في الحلم واسع.. حجراته كبيرة مثل قاعات.. ويوجد طعام دائما.. لكن لا أحد يأكل.. مكانهم هناك أفضل من هنا.. لا يتذكروننا ولا نهمهم في شيء.. لولا أني أعرف صورهم.. لقلت أنهم ناس آخرون.. والدي فقط يقترب مني ويسير معي أحيانا.. مثل أصدقاء.. أنا أقول له والدي.. لكنه يناديني باسمي.. مثل صديق!..

ـــــــــــــــــــــــــ

  • الفريد هبشكوك [1899- 1980م] مخرج ومنتج افلام درامية يغلب عليها طابع الرعب الملغز مجهول الاسباب.

 

(41)

أنا الآن في سنّ والدي عندما كان يستأجر حجرة في درابين الفضل.. أنا الآن أيضا في سنّه عندما انكسرت مرآة حياته بعد زيجة ثلاثين عاما والتحق أبناؤه الكبار في العمل.. وربما أشبهه في مقامه الاجتماعي ونجاحه الوظيفي .. مكانته الوظيفية لا تناسب وضعه العائلي..

كان يومها أحد ثلاثة كبار مفتشي الحسابات في دائرة حسابات التوفير.. يسافر الى جنوب البلاد لتدقيق السجلات الحسابية .. يعود منها إلى أقصى الشمال.. لم يتنازل والدي عن أناقته وحلاقة ذقنه الصباحية حتى وداعنا الأخير في ساحة كراج العكَيلي في الصالحية.. لكنني لا أستطيع أن أعرف إن كانت مشاعره وأفكاره التي لا يعلنها كما هي عندي..

أنا أيضا لا أعرف إذا كانت مشاعري وأفكاري طبيعية في موضوع العائلة.. لكنني استنفدت آخر الإحتمالات والإمكانات.. وربما كنت مثل والدي في المقدرة اللانهائية على احتمال المعاناة والمهانات.. وكنت في كل مرّة أقمع كرامتي بمقولة لا أعرف مصدرها: بين الأحباب تسقط الآداب!..

يبدو أن سعة الاحتمال وعدم الرد المناسب.. يغري المقابل بالتمادي.. أو اكتساب طاقة إضافية للتجاوز وفقدان العقل.. لكن هذا ما حدث.. لم يكن للسان أمي حدود.. كان والدي يخرج صافقا الباب وراءه.. ثم يعود في المساء المتاخر من المقهى ويذهب للنوم مباشرة من غير عشاء.. وإذا واصلت والدتي الشجار يترك البيت لإسبوع.. يغيب عندها عند أحد أختيه..

أما أنا فلا يوجد مقهى ولا أصدقاء في غربتي.. كما أفتقد القرابة أو أي أحد أذهب إليه.. أستقل السيارة عند نفاذ قدرتي الإحتمالية.. أقودها في طريق خارجي بأقصى سرعة.. تاركا بقية السابلة يلوحون ويشتمون..

عندما أنتبه لنفسي ويتقدم الليل أفكر في وجهتي العمياء.. أقف عند أوتيل على الطريق.. أتناول العشاء والشراب وأتصرف مثل سائح متأخر.. ولكني نادرا ما استطيع النوم في فندق.. لا أدري إذا كان السبب هو السّكر أو التخمة أو الجنس.. الذي أرغم نفسي عليه للانتقام من نفسي..

لقد كان الاستمرار في الخطأ خطأ.. هذا ما تعلمته بعد فوات الأوان..لا تمنح الخطا فرصة ثانية تحت عنوان التفاؤل أو التقدمية.. القطع أفضل العلاج.. لأي غرض تمتلئ الأرض بالبشر، اذا كان المرء يقضي حياته في سجن من حجرة واحدة حتى الموت!..

لم تخل حياتي من نساء وفتيات وعيون تضحك بالوعود والرغبات.. وقد أخطأت.. عليّ أن أعترف.. عندما تظاهرت بالتحفظ والعفاف ولم أعرهنّ اهتماما.. لقد ضاع كلّ شيء الآن.. اليوم حيث تفترسني الوحشة واليأس والحاجة.. لا أجد أحدا يبادلني كلمة.. فما قيمة التزاماتي ومواقفي الرصينة..

أنا غبي بالمحصلة.. غبي أكثر مما أنا فاشل.. لست فاشلا.. ولكني حكمت على نفسي بالفشل.. لأني كنت أعبد إلها أخلاقيا لوحدي.. أنفق جهدي في بناء بيت لا يعود إلي..

عندما وصلت إلى هذا البلد.. رأيت صبيانا لبنانيين في العاشرة يضربون شيخا صينيا في عمر جدّهم في شارع أجورد.. لم يتوقف أحد المارّة لينقذهم من عبثهم.. كانوا يضحكون ويتسلون به.. وهو عاجز عن حماية نفسه.. وغير مسموح له بردعهم أو استخدام يده.. حيث يعتبره القانون الانجليزي معتديا على قاصر.. لم يخطر لي يومها كما اليوم.. أن المدنية تلفظ أنفاسها الأخيرة.. وأن آخر نفثات الأخلاق والانسانية دخلت متحف التاريخ إلى جانب آثار بابل وأشور والحضارات القديمة..

الحضارة عجزت عن تمدين الناس.. إذن لتعمل على تجحيشهم وتهميجهم.. وهذا هو شعار العولمة.. إلى اين يمضي العالم؟.. كثيرون يعرفون أن المدنية اختفت من مجتمعاتهم.. لكنهم يبتلعون ألسنتهم.. المدنية ليست سيارات وتلفونات وإلكترونيات لا ضرورة حقيقية لها لكثيرين.. الحضارة وعي وأخلاق.. ولكن.. حتى الكلمات فقدت معانيها الحقيقية..

الشارع الرئيس في ويمبلي سنترال ازدحم بالشحاذين في الأيام الأخيرة.. شحاذون من مختلف الألوان والأشكال واللغات.. يكرّرون نفس الحركات والكلمات كلّ مرّة.. ويفتقدون للاقناع.. لماذا يهاجر المرء من بلده ليشحذ في بلد آخر.. لماذا أهملت البلدية منع الظاهرة في الفترة الأخيرة.. هل يقصدون إثارة الراي العام ضدّ المهاجرين.. وتحميلهم مسؤولية ازدياد مظاهر الجريمة..

أحيانا يخطر لي التحدث لبعض الشحاذين وتسجيل قصصهم.. ولكنهم لا يبدون حقيقيين..

ما هو الحقيقي؟.. هل بقي شيء حقيقي اليوم؟.. الأكاذيب تتناثر من كلّ صوب.. الصحف.. الراديو.. المحلات.. الانترنت.. ترامب (*) يدعوها: فايك نيوز!.. أزمات الاقتصاد والحروب والاجتماعات الكثيرة.. وشكاوى الحكومات والساسة من المجتمع وارتفاع التكاليف.. فايك نيوز!.. يصحكون على الناس ليسرقوهم... لصوص وشحاذون.. هل هذا هو الفردوس الغربي!..

ـــــــــــــــــــــــ

  • دونالد جون ترامب [مواليد 1946م] الرئيس الخامس والأربعون للولايات المتحدة الاميركية، مهندس أميركي سياسي جمهوري متطرف ومهووس بالظهور واجتذاب الاهتمام، ثري تنيف ثروته على ثلاثة مليارات، رجل أعمال مضارب في مجال الاعلام والاعلان والسياحة. متزوج ومنفصل لأكثر من مرة، وزوجته الاخيرة ميلاني كناوس ترامب يوغسلافية سلوفينية الاصل [مواليد 1970م]، عارضة أزياء وملكة جمال أميركا، هاجرت الى اميركا العام (1996م) وبعد عامين التقت رجل الاعمال ترامب، الذي تزوجته العام (2005م). وغالبا برنامج ترامب يتضمن ثلاث أجندات رئيسة على مستوى العالم: [الانترنت، العنصرية، الحرب الكونية الثالثة]. ترامب قدم نفسه في انتخابات الرئاسة الاميركية كشخص مستقل، رغم كونه جمهوري الاتجاه، وهو يمارس السلطة كشخص عفوي عادي غير سياسي/(تقليدي)، يقود انقلابا جذريا في المفاهيم والتقاليد السياسية، ولكنه بالمقابل يؤكد كارزماه الشخصية في حياة المستقبل، ومن رموز هذا الاتجاه المحدث بيرلسكوني الايطالي، والكسندر دي بوريس جونسون [مواليد نيويورك في 1964م] العامل في مجال الاعلام وعمدة لندن [2008- 2016م] ووزير خارجية حكومة المحافظين [2016- 2018م] بعد انسحاب ندّه ديفيد كاميرون [1964/ 2010- 2016/ ؟]. حاول جونسون في ممارسته السياسية ان يكون تلقائيا متقربا من الناس، لا يتورع عن انتقاد زملائه الساسة وممارسات الحكومة، والخروج عن سياسة الدولة، وبشكل يجتذب الاهتمام لشخصه، ويصنع منه شخصية شعبية، وكان هدفه الاساس زعامة الحزب والفوز برئاسة الحكومة، الأمران اللذان كمن لهما كاميرون وتعمد تسليم السلطة لامرأة لاحباط احلام جونسون السياسية، واخيرا ازاحته المرأة من وزارة الخارجية، لكن الامر لن ينتهي عند جونسون بسهولة. يذكر ان جونسون ونايجل فاراج (مواليد 1964م) من أصدقاء ترامب في لندن.

 

(42)

استغرقت العاصفة عدة أيام من أول عشرينيات فبراير.. بقيت الريح تعوي خلالها مثل ذئاب متوحّدة أو أرواح جائعة لموتى منسيّين.. بعد انتشار موجات الموت المجاني.. وانقلاع السكان من قراهم وأوطانهم.. بحثا عن مكان أمان ولقمة أمينة.. ربما كانت تشبه أشياء أخرى.. وربما كانت أسباب مختلفة وراء اندفاعها وعويلها.. مثل قصة البوق الذي يلعب به صبي عزرييل..

شكرا للخيمة التي عرفت نفسي فيها على يفاعتها.. وامتداد صحارى الرمل وهي تضمخ سمعي وبصري بموسيقى الخواء.. ورذاذ السليكون الخام.. الخيمة توحدني بالطبيعة في لحظات تصوف تملك عليّ كل حواسي..

كلّ هذا استعدته أمس مع عويل الريح على نافذتي وهديرها المحيط بحجرتي العلوية من كل جانب، حتى كأنها ستنقلع من أركانها بين لحظة وأخرى..

  • كيف كانت الايام الماضية؟..
  • ماضية!..

أجبت وكيل العقار الباكستاني الذي كانت يتفقد الأضرار التي خلّفتها العاصفة على المبنى.. النزلاء يحيطون به وهو يسجل ملاحظاته عن الاصلاحات والترميمات الضرورية..

ضرورية لأنها تخصّ المبنى ومصالح اللاندلورد.. والضرورات غير المطلوبة تخص النزلاء وحاجاتهم.. هؤلاء لديهم خيارات مفتوحة للبحث عن نزل آخر أو بلد آخر.. وظيفة اللاند لورد ليست تبذير أمواله لإرضاء من هبّ ودبّ..

لو اجتهدوا مثله لكانت لهم عقاراتهم الخاصة.. لو كانوا محظوظين لكانوا تجار عقارات.. من يدري.. لكنه غير مسؤول عن حظوظهم.. ولا ظروف بلدانهم.. لقد كان مثلهم ذات يوم.. ولكنه عرف كيف يصنع نفسه..

إذن.. أنت يا بائع المثل.. انتفع بمثلك!.. وأنت يا زاهد زهدي.. لينفعك زهدك.. ولنرَ من يذهب إلى النار أو الجنة أولا!..

كان يقف إلى يميني.. الكتف بالكتف.. ويحدجني بين لحظة وأخرى وهو يسجل إملاءات السكان.. منتبها لعدم متابعة عيني مساقط قلم حبره..

  • وأنت ليست لك طلبات..؟
  • كلّ شيء جيد!..

يعرف أنها إجابة أخرى.. ولكنه سعيد لسماعها.. قال قبل أن ينصرف..

  • أنا حريص على راحتك معنا!..

وهو يحدجني بقلق.. ثم نظر للجميع وقال قبل الانصراف..

- أنا حريص على راحتكم جميعا هنا.. بليز لا تتأخروا في الاتصال بي لأي شيء!..

 

(43)

كل الحجرات التي سكنتها بعد مغادرة العائلة كانت فوق السطوح.. حتى حجرة القسم الداخلي والفندق أيام الكلية كانت فوق السطح أنتهي إليها بسلّم ضيّق، مثل برج كنيسة.. وأنا الآن أكتب وأنا جالس في الطابق العلوي.. وهكذا كتبت كلّ ما كتبت وأنا فوق.. أنظر للعالم من نافذة مغبرة..

وعندما تصفو السماء أنتظر مجيء أحد فوق السحاب.. أنا لا أختار.. وليست لي قدرة الاختيار.. يقودك اللاند لورد أو عمال المكتب أو خدام الفندق مثل عنزة عمياء إلى ما يخطر لهم.. وإذا طلبت تغيير الخيار أقسموا أغلظ الايمان أنها الحجرة الوحيدة الشاغرة.. وهناك من يدفع فيها اجرا أعلى إذا كنت لا تبقى هنا..

الحجرة تتحول إلى حجرات.. ولم يبق للناس غير التجارة بالتراب والحجر.. عندما وقع نظري على الحجرة أول مرة.. تذكرت والدي.. أعني.. تذكرت الحجرة التي عاش فيها والدي.. وربما قضى نحبه فيها.. أنا أيضا في عمره الآن.. أدمن حياة عزوبية متأخرة..

حجرة صفيح في الطابق العلوي من منزل خرب من بيوت الفضل.. يرتجف كلّ شيء فيه وأنت تصعد السلم.. لكنه نزل بكل معنى الكلمة.. يشتمل على سبع حجرات.. أربعة في الطابق الأرضي، وثلاثة في الطابق العلوي.. وهو الأفضل من حيث الإنارة وحرارة الشمس.. أما الطابق الأرضي فهو شبه معتم.. ولا تفارقه الرطوبة.. وبالنسبة لشخص مسن ومريض مثل والدي.. فأن البرد يفاقم أمراضه.. عندما كنت أمضي اليه.. أجده جالسا عند باب حجرته.. وهو ينفث دخان سيجارته.. ويحادث جاره العجوز في الجهة الاخرى.. جاره هو صاحب الدكان في أول الزقاق.. لكنه يبقى يوم الجمعة في النزل.. يغسل ثيابه أو يصلح جهاز راديو بيده..

مع الوقت.. صرت رفيقا له.. أسأله عن والدي.. وأحيانا يجيبني قبل سؤاله اذا رآني متجها للنزل.. حتى في ذلك النزل يجد المرء رفيقا له.. هجرته عائلته هو الآخر مع الكبر.. ولم يعد أبناؤه الكبار يتفقدونه..

صغير الحجم.. طاوي الجسم.. عظم وجلد.. لكنه قوي في حركته.. أجمل ما في ذلك النزل، هو نهاية الاسبوع.. عندما يشتهي أحدهما أكلة ما ويقومان بتحضيرها.. بشكل مشترك..

في المرّات التي أكون ثالثا لهما.. لا أسمعهما يأتيان على ذكر النساء أو العائلة أو السياسة ولا الدّين.. كتابهما المفتوح هو الماضي وأيام الخير والألفة والمحبة..

والدي كان يدخن، ورفيقه يلومه أحيانا ويحذره من الدخان.. كان يدخن عشرة سجائر في اليوم.. يقتل به وقت فراغه ويتخلص من التفكير..

عندما يخرج الأب من بيته ويفارق عائلته.. يصبح غريبا عنهم تماما.. يصبح ثقيل الظل والدم في زيارته.. كأنه في مهمة عسكرية.. لذلك انقطع والدي عن الزيارة.. وعندما أزوره لا يكاد يسأل عن أحد..

في البداية كان قاسيا معي.. وطلب مني عدم زيارته ثانية.. ربّما يريد أن ينسى تماما.. وربّما يخشى عليّ من ردود أفعال.. لكني واصلت الزيارة والسؤال.. سيما من رفيقه صاحب الدكان.. أحيانا أزوره في مقهى الكندي القريبة في شارع الجمهورية.. أجده مع زملاء المقهى يلعب الدومينو أو النرد أو يراجعان قوائم حسابية لأحدهم.. وعندما يتفرغ من انشغاله يدعوني للجلوس قربه ويفرض عليّ أن أتناول زجاجة ببسي..

تعلمت منه أن لا أتحدث ولا أتذكر أحدا أمامه.. ولا أذكره لأحد في البيت.. مرة أو مرتين جاء لزيارتي في مقهى الزّهاوي في ساحة الميدان..

كتب لي ثلاث مرّات بعد سفري.. وكانت كلماته تبعث في داخلي الدفء والأمان.. حروفه المكتوبة بخط الرقعة المتقن، وكلماته القليلة كانت كافية لتفصح عن حجم الحب والمشاعر التي يضغط بها أبرة القلم الحبر على الورقة..

بقي والدي يستخدم القلم الحبر حتى بعد تقاعده.. موظفا أقدم في وزارة المواصلات.. مهتما بهندامه وحلاقة ذقنه يوميا.. لم تفارقه عاداته واهتماماته.. رغم أن حياته العائلية كانت مضطربة وشبه معدومة.. لكنه كان قويا.. قليل الكلام..

أصيب بمرض القلب في أربعينياته.. وأجريت له عمليتان.. خرج بعدها كما هو.. كان المنظر مؤثرا ومزحما بالزيارات أمام المستشفى.. ربّما توقعوا أن يموت في العملية.. أغلب الأقارب زاروه قبل العملية.. وأنا دعيت أيضا بطلب منه كما قيل.. كانوا قلقين أكثر منه.. وكان هو منزعجا لحظر الدخان عليه في المستشفى..

كان مشهدا مؤثرا.. لكنني لم أتأخر كثيرا في المستشفى.. بعضهم كان هناك ينظم الزيارات ولا يسمح لأحد بالتأخر أو إزعاج المريض.. بعد مغادرته نسيت الأمر.. زحمة السيارات ومشاكل المرور تساعد في تجاوز الأمور الشخصية..

ربما كنت بلا عاطفة.. أسبغت علي الحرب الطويلة قسوتها.. ولم يكن الموت عاديا فحسب.. وإنما كان رحمة.. والآن أكثر من أي وقت.. بكلّ معنى الكلمة.

في حياة مطبوعة بالتشرّد ورفض العائلة.. يكون الموت أفضل.. هذا ما يلحّ عليّ الآن أكثر.. فلا معنى لحياة تجترّ الآلام والندم.. ان لم تكن الحياة سعيدة ومستقرة فلا معنى لها.. لا معنى لزواج ينتهي بالهجران والتشرد..

عندما أستذكره الآن.. لا أعرف كيف يعيش المرء من غير كلام.. ومن غير صديق.. أعني شريكة حياة تأخذ مكان الأم.. ولكن.. الحظ لا يمكن شراؤه بالمال.. كما يقال.. والنكد.. وراثة في العائلة..

في نهاية إجازتي العسكرية، كان يصرّ على مرافقتي للمحطة.. أحيانا نذهب هناك مبكرا لغرض ضمان الحجز أيام الزحمة.. يبقى جالسا معي.. حتى لحظة يصفر القطار.. تلك الساعات كانت جميلة حقا بوجوده.. لو بقيت هناك.. واستمرت الحياة طبيعية.. كنا سنعيش سوية.. ونقضي وقتا كافيا معا.. فأنا لم أعرف والدي جيدا.. لا في سنوات طفولتي الاولى.. ولا سنوات الحرب الأخيرة..

في سني الطفولة لم أكن أفكر.. وفي سني الحرب كنت بلا عاطفة.. وكان الأمر معاكسا معه.. لذلك لم نتواصل.. لا بالفكر ولا بالشعور..

أحاول الآن أن أستعيد الأشياء بالذاكرة.. ولوحدي.. بعض المرّات يزورني في الحلم.. ولكن كشخص غريب.. لا عواطف في الحلم.. تمثيل جامد..

لو كنا معا في سنوات الحرب أو من قبلها.. لكان وضعنا أفضل.. لكننا عشنا الحرب في كلّ صعيد.. حرب خارج البيت وحرب داخل البيت.. حرب خارج البلد وحرب داخل البلد.. وفي كلها كنا خاسرين.. لا أدري من ربح الحرب.. لكن.. ليس أنا.. ولا والدي.. ولا أحد من أهلي!.. الرابح في الحرب هو من يقف خارجها ويتربّص بأهلها الدوائر..

عندما أردت مغادرة البلد امتدح والدي قراري وقال: لا يوجد مستقبل في البلاد!..

والآن بعد ثلاثين سنة في الغربة.. أريد أن أقول له.. لا يوجد مستقبل في البلاد!.. لا البلاد الاولى ولا هذه!.. أحد الذين يحبّون حفظ المقولات الأجنبية.. قال لي هنا، عند وصولي لندره: من يهرب من كارثة.. فحيثما يذهب يجد الكارثة في انتظاره!..

ربما تجاوزنا مدّة صلاحيتنا..(expired).. هكذا أشعر.. أما الآخرون.. فكل شيء عادي لهم.. لماذا لم يفطن زملاء هنتنغتون الى انتاج يافطات مطبوعة بعبارة (ئيكسبايرد) تربط حول العضد أو الجبين.. لكل من لا يساير عجلة العولمة والمنتجات الاميركية.. كما كان اليهود يجبرون على ربط امثالها ايام النازية، أو يربطها المتقاعدون والمعوقون اليوم في البلدان الرأسمالية.. نحن أيضا معوقون ومتقاعدون من الحياة ويهود من جنس البشر.. صعود اليهود منصة نيويورك لا يمنع ان نجملها بدلا عنهم.. فنحن أيضا (يهود التاريخ)*..

لولا الذاكرة لما كان هناك شيء.. ولكن.. إذا كان شركاؤنا في الحياة لا يحترمون ذكرياتنا المشتركة.. فأية قيمة للذكريات.. وأي معنى لهذه الكلمات..

والدي لن يقرأها.. ولا الذين أعرفهم من دونه.. لا قيمة لذكريات لا تلين من قسوة إنسان تجاه أخوته!.. ما قيمة الذكريات التي لا تهذب قسوة الزوجين تجاه أحدهما الآخر..

ــــــــــــــــــــــــ

  • مظفر النواب [مواليد بغداد 1934م] يقول في قصيدة له: سنكون نحن يهود التاريخ.. ونضرب في الصحراء/(العالم الجافي) بلا مأوى!.. وهي احدى نبوءات النواب التي تحققت فعلا خلال ربع قرن!.

 

(44)

بعد ربع قرن عندما ذهبت إلى هناك.. رأيت صديق طفولتي القديمة.. لم يتغير فيه شيء.. ما زال منتصب القامة رافع الرأس وعيناه تنظران للأمام.. في نقطة خارج المكان.. (مهر يصهل في مؤخرة الكون وحيدا).. أخذني إلى البيت.. بيته.. الجديد.. مكانه تغير وشكله تغير.. ومن الداخل لا أعرفه.. لم أشعر أني في بيت.. قلت له:

  • نخرج..
  • تعال اجلس.. عندي كلام كثير..
  • هذا ليس بيتا..
  • (نظر للأرض وقال).. تعال اجلس.. انس المكان.. أريد أن أخبرك بأشياء كثيرة حدثت منذ ربع قرن..
  • أين الحمام؟..
  • هو يدلك على نفسه!..

وذهبت.. كنت أفكر في طريقة للخروج.. قلت له:

  • أنت لست وحدك هنا..
  • أنا أمامك..
  • ولكن.. ثمة شخص آخر..
  • لا تفكر بالشخص الآخر..
  • يا ايغور.. (وهذا هو اسمه أيضا!).. يجب أن أعرفك أولا.. قبل ان أعرف أي شيء..
  • يجب أن يكون شخص آخر..
  • لا أفهم..
  • (نحن تحت السيطرة).. الأشياء التي تعرفها تغيّرت..

كان ينظر للأرض ويتكلم.. قلت له..

  • ارفع رأسك يا صديقي.. أنظر في عيني.. دعني أرى قرنيتك الشهلاء ونظراتك المشرقة.. لا أستطيع أن أسمعك ولا أراك..
  • بعدك حدثت أشياء كثيرة.. والطوفان قلب كلّ شيء..
  • وأنت..
  • وأنا..
  • ولكن..
  • من غير لكن.. هذا ما حصل..
  • هذا منطقي..
  • انس المنطق.. كان يجب أن يحصل هكذا..
  • هذا ليس ايغور الذي أعرفه..
  • لقد كنا في وهم.. مرحلة مراهقة ثورية أو فكرية.. صراع طواحين.. الآن عدنا للواقع.. بالأحرى اكتشفنا الواقع.. الطوفان جعل الناس يولدون من جديد.. جعلهم يكبرون ويعيشون الحقيقة..
  • هذا تسميه (حقيقة)..
  • الرومانسية والديالكتيك والميتافيزيك واليوتوبيا انتهت.. الآن بدأت الواقعية..
  • واقعية أم براغماتية..
  • براغماتية.. حتمية.. وضعية.. إنس الفلسفة..
  • يا حبيبي.. كثير هذا الذي تقوله.. كثير عليّ.. لا يمكن أن أسمعه منك..
  • أنا الشخص الوحيد الذي يقول لك ذلك.. لا أحد هنا يريد أن يعرف.. ولا أحد يريد أن يتكلم.. قبل أن يتكلم يخرج حاملا سيفه..
  • سيفه..
  • الجوع غريزة قاتلة.. ولا أحد يريد أن يموت جوعا..
  • لكن الموت أكثر شيوعا اليوم..
  • (اضرب الراعي تتشتت الغنم)..
  • وماذا عن (قتل الأب)..
  • الأب وهم.. كنا نتبع وهما..
  • هذا تسميه (وهما)..
  • أنت ما زلت أنت.. لكن الواقع الجديد مختلف.. الكلام مختلف..
  • ولهذا تركت الثقافة وصرت سياسيا..
  • أنا لست سياسيا.. رشحوني لمجلس الحكم ولم أعترض..
  • من رشحك.. الاحتلال..
  • الناس..
  • وأنت تصدّق هؤلاء.. أين كان الناس.. ومتى صار لهم رأي..
  • (......)...
  • ألفين سنة والناس على سنة أجدادها.. وفي يوم واحد تغيّروا وصاروا يفكرون كالغرب..
  • ما أريده هو مساعدة الناس..
  • أليس الكلّ يقولون هذا.. كلام للاعلام..
  • أنا مسؤول الاعلام ورئيس تحرير الجريدة..
  • هل تتحمل وزر كل ما يحدث.. سيمضي هؤلاء ويبقى اسمك في الجريدة..
  • لا يهمّني ما يقال.. يهمّني عملي..
  • لم تكن بيكونيا..
  • لماذا لا تقول غرامشيا*.. (يبتسم)..
  • ليست ايطاليا التي تحكمنا..
  • القوة هي الفيصل*..
  • (غابة الغابة)*..
  • الغابة هي اليوتوبيا*..
  • اليوتوبيا هي الأرض.. والأرض هي البستان.. الاختلاف بالمنظور..
  • هل التوراة جزء من المنهاج الاعلامي للمرحلة..
  • فعلا.. كانت بلادنا بستانا.. حديقة عدن.. لكننا لم نعطها حقها.. ربما لم نكن لها أهلا.. فضيعناها..
  • أليس الناس الذين ضيّعوها وفسقوا فيها.. الناس الذين رشحوك..
  • اليد تدمر الطبيعة.. والبستان يستحيل إلى غابة..
  • والانسان..
  • هذا دور الغرامشية..
  • المثقف لا ينحني للواقع.. عليه أن يغيره..
  • التغيير يكون من الأسفل وليس من فوق.. من الداخل و..
  • و....
  • ليس كل ما نريده نستطيعه..
  • ومتى أردنا واستطعنا.. ربما أردنا نعم.. أحلام شعراء.. رغبة بلا إرادة..
  • كان لا بدّ من التغيير.. بأي طريقة..
  • طيلة ألفي عام لم تكن (لابدّ).. إلا مع الألفية..
  • توفرت الفرصة والناس تلقفوها..
  • لكن الطوفان لم يكن من..
  • الواقع صعب لمن يعيشه.. لقد عشنا ظروفا صعبة.. من أجل الخبز..
  • (الحاجة ام الاختراع).. الضرورة تلد الابداع..
  • العراق ليس الصين والعراقيون ليسوا يابانيين..
  • والتاريخ والمدينة وسومر و..
  • دعني أقول لك.. (التاريخ وهم).. انشائيات رومانسية.. التاريخ هو الذي قتلنا.. نحلم بالتاريخ وجنة الخلد.. ونحن نفترس بعضنا.. التاريخ والدين لم ينجح في توحيد الناس وتحويلنا إلى شعب ذي هوية..
  • المفاهيم ترتبط بمستوى الوعي السياسي.. وليست المشكلة في التاريخ أو الدين أو الحاكم..
  • التأسيس كان مفقودا..
  • ولكن لا بناء من غير تأسيس.. لماذا لا تعمل بالتأسيس أفضل من المضيعة..
  • تعرف أني لا أقبل كلمات من هذا القبيل.. ربما لا أستطيع أن أقنعك تماما.. هذا يحتاج وقت.. وقت طويل.. لكنني شخصيا كنت أشعر بالاختناق.. وصلت حدّ القنوط من الأفكار والنظريات.. كدنا نموت جوعا.. أنت لا تتصور هذا.. وأنا مسؤول عن أطفال وعائلة.. لماذا أرفض فرصة سانحة.. في العهد السابق كنا نعاني ونفتخر أن لنا موقف.. نشعر بالبطولة ونحن نتعذب ونخسر.. ثلاثون عاما من الخسارة..
  • النظام لم يتغير إذن.. تفكير الناس هو الذي تغير..
  • معك حق.. تفكير الناس تغير.. وأنا أيضا كان عليّ أن أتغيّر..
  • لكنك لم تفقد روحك..
  • تعلّمت من الواقع أكثر من الكتب..
  • لو كان الواقع يعلّم.. لكان بسطاء الناس أحكم من الفلاسفة..
  • اعتبرني بين الاثنين..
  • بيكونيا..
  • تصوّر.. لو أن طبيعة الشخصية العراقية الراهنة – بعد التغيير-، كانت موجودة في الخمسينيات أو السبعينيات.. أما كانت مسيرة الاحداث اختلفت.. ولم يحصل ما حصل..
  • أنت تعرف ان مجتمعاتنا سلبية.. طفيلية.. اتكالية.. تفتقد المبادرة وتخشى المغامرة.. تريد أن تحصل على كل شيء.. بلا تعب أو مسؤولية أو ثمن.. هل تصدّق نحن بلد ثورات وانتفاضات.. ليست وراءها أطراف خارجية.. أقول لك تاريخ غير حقيقي..
  • إذن.. لا تاريخ.. ولا حاضر.. ولا مستقبل!..

ساد صمت.. لم أكن أعرف من أين كان الكلام يصدر.. ولم أعرف نبرة الهدوء المستكين في لغة صاحبي الذي أعرفه من قبل.. ولم أعرفه يعارضني بهذه الصورة.. كأننا على طرفي معادلة تفتقد المنطق.. فجأة قلت له..

  • هل ستذهب إلى السجن؟..

ابتسم بألم وهو يلتفت نحوي.. كأني نكأت جرحا خفيا في داخله.. قال..

  • نحن في سجن.. الحياة سجن.. الواقع سجن.. ما يختلف هو الجدران..
  • اختلاف الجدران يمنح فسحة للحرية..
  • الحرية يحددها السقف وليس الجدران..
  • وأين هو السقف..
  • السقف غير مرئي.. لكننا نحمله على رؤسنا.. يضغط على عقولنا وأفكارنا ويعصر كلّ وجودنا بثقله..
  • الحلّ..
  • قطع الرأس.. أو موت الجسد..
  • هل تناقض نفسك..
  • التناقض منطق الوجود..
  • التناقض يولد الصراع(*)..
  • التناقض المتصل يصير عاديا.. ألم تسمع بالتناقض المنسجم..
  • أعرف الوجود المنسجم لأوغسطين(*).. لا يوجد تناقض عادي ومنسجم..
  • كلّ شيء يوجد اليوم..
  • أنت تنفي الديالكتيك.. أين ذهب ماركس(*)..
  • الرأسمالية وجه آخر لماركس.. وتدمير الديالكتيك ديالكتيك آخر..
  • ايغور.. لقد صرت مثل قوس قزح تحمل كل الألوان.. وأنت بلا لون..
  • ماركس لم يقرأ جيّدا.. قراءتنا كانت أيديولوجية مقولبة لا علاقة لها بفكره..
  • هل كان ماركسا سياسيا أو اقتصاديا.. عالما أو فيلسوفا..
  • (يبتسم).. ماركس كان شاعرا قبل كلّ شيء.. السياسة قتلت شعره..
  • ما أعنيه هو فلسفة ماركس.. والفلسفة أكبر من التحديد العلمي والقولبة السياسية..
  • الأيديولوجيا.. هي التي قتلت الفلسفة..
  • ما بعد هيجل ظهرت عدة اتجاهات، واحد منها الماركسية، وما بعد ماركس ظهرت عدة اتجاهات.. تعرضت للاضطهاد من قبل موسكو.. والعرب عرفوا ماركس عبر موسكو..
  • لكن لدينا كتاب جيدون انتقدوا ماركس وقدموا أفكارا جديدة..
  • لكنهم لم يستطيعوا إعادة ماركس للحياة.. بعد السبعينيات انتهت الماركسية والشيوعية وبدأ المدّ الديني.. وغير قليل منهم عزف على الوتر الجديد..
  • اللون الرمادي سمة هذا العصر..
  • عليّ أن أذهب..
  • إلى أين تذهب.. لن نفترق ثانية..
  • لم نلتق لكي نفترق.. لقد اختلفت يا ايغوريان..
  • لكنني أريدك معي.. أحتاجك بجانبي.. لا أحد يفهمني ويحسّ بي غيرك..
  • لا أستطيع أن أكون بيكونيا لكي أسايرك..
  • لا تسايرني.. ابقَ هنا فقط.. وجودك يعطيني قوة..
  • ولكنك في مجلس الحكم..
  • هذا أفضل شيء فعلته في حياتي..
  • أليس العكس صحيحا..
  • التضحية بالنفس من أجل الناس..
  • التضحية بالنفس.. أبهة المركز والسيارة والسائق والحرس تضحية يا ايغور..
  • أعني: احتمال العار هو التضحية..

رأيته ينظر في عيني هذه المرة باستقامة وعضلات وجهه تنتفخ..

  • أوافقك جزئيا..
  • إذن سوف تبقى..
  • عندما توافقني جزئيا..
  • ها لقد صرت براغماتيا.. أنت تساومني..
  • المصطلحات عاطلة عن المعنى اليوم والمسميات غيّرت معناها..
  • يعجبني فيك أنك تفهمني..
  • المهم عندي هي الأرض.. العمل في الأرض من أجل الأرض..
  • لم نختلف.. العمل في الأرض يبدأ بتغيير الواقع..
  • البراغماتية لا تغير الواقع ولكنها تتعايش معه..
  • أنا لست براغماتيا تماما.. لكني أسايرها وأطوّرها باتجاه غرامشوي..
  • هل يستحق الناس ما تعمله.. أنت تلعب بالنار..
  • الخوف ليس من سماتك..
  • أنا أقصد الناس.. ماهية الناس..
  • الناس بسطاء.. مستضعفون.. همّهم لقمة العيش..
  • وماذا عن الأرض.. لا اعتبار للأرض عند هؤلاء.. يبيعون كلّ شيء لمن يملأ بطونهم.. وتبقى الأرض للغرباء..
  • هذا ينعكس عليك.. أنت أيضا هاجرت وتركت الوطن..
  • هذا يتوقف على الغاية من الهجرة.. لذلك أعود اليوم من أجل الوطن..
  • كثيرون جاؤوا قبلك منذ التغيير.. وعادوا عندما لم يحصلوا على مركز يناسب طموحهم.. بعض منهم كسب شيئا وما زال هنا..
  • أنت تعرف أنني جئت لأراك.. كنت أبحث عن نفسي فوجدتك.. ولا أريد أن أفقدك ثانية..
  • هذا هو شعوري الداخلي أيضا..
  • وهل تعرض علي شيئا في كلامك..
  • قد أنفعك.. ولكن ليس كثيرا..
  • وصلنا إلى عنق زجاجة..
  • علينا أن نتغير لكي نستمر في الوطن ولكني نستطيع العمل.. عالم الحرب الباردة انتهى.. وعلينا اليوم التكيف مع الغابة لتحويلها إلى بستان.. أو حتى حديقة خلفية لأنقاض منزل..
  • كم يساوي ربع قرن في مقياس الزمن..
  • في التاريخ قرون كثيرة يسمونها مظلمة وسوداء..
  • ولكن هناك ساعات أو أيام غيّرت وجه التاريخ..
  • النور ينبلج من داخل الظلمة.. إذا تم تحضير الأرضية له..
  • لم أعرف أنك تهتم بالدين..
  • الدين كنص وليس طقس..
  • ألا تشارك في الطقوس..
  • لابد من مسايرة الناس لكسبهم لجانبك..
  • أعرف أنك لن تبيع نفسك تماما للناس ولا لمجلس الحكم.. ولكن كم تطول سني عمرك لكي تنجح في تغير الأشياء كما تريد..
  • أعمل اليوم وأترك الغد لغيري..
  • ولكن غيرك يختلف عنك..
  • لا يهمّ.. يكفي وضع حجر.. وقد يتأخر البناء.. ذلك أفضل من عدم العمل..
  • ايغور.. نحن في القرون المظلمة..
  • لذلك أريدك معي.. وسيكون العمل مضاعفا..
  • هذا كلّ ما لديك..
  • هذا كلّ ما لدينا يا ايغوران..
  • ما لدينا هو الحبّ..
  • الحبّ هو السلام والانسجام والجمال..
  • لكنني حزين يا ايغور..
  • وأنا أيضا!..

ولأول مرّة احتضنني وانفرطنا في البكاء.. كان نشيجه قاسيا في داخلي.. فندمت على كلّ ما قلته له.. أنا أحبّ هذا الانسان وأخشى أن أفقده.. ومن خلل عبراتي المختنقة قلت له..

  • سامحني يا ايغور.. أنا أحبّك!..

صهيله يملأ الكون.. ويختصره في ثانية..

ـــــــــــــــــــــ

    • فرانسس بيكون [1561- 1628م] مفكر سياسي انجليزي من موظفي البلاط اليزابيثي بالوراثة؛ يعتبر مهندس الدولة الحديثة، والقطب الأعلى لمدرسة الفكر الانجليزي [مادي، براغماتي، سياسي]. من أوائل الدعاة لاختزل المعارف العلمية والفلسفية في ما ينفع عمليا والغاء الاساليب القديمة في الشروح والمعارف الشاملة، وتطبيق ذلك في أساليب الادارة ومناهج التعليم، ومن تلاميذه اوغست كومت [1798- 1857م] وهربرت سبنسر [1820- 1903م] وجون ديوي [1859- 1952م] مصمم مناهج الدراسة وأساليب التعليم الحالية. (غابة الغابة) من مؤلفاته.
    • انتونيو غرامشي [1891- 1937م] مفكر ايطالي شيوعي، صاحب فلسفة البراكسس القائمة على الممارسة والنقد في آن. انتقد ماركس وتقاطع مع ستالين. اودعه بنيتو موسوليني [1883/ 1922- 1943/1945م] السجن لموقفه ضد الحرب، ومات تحت التعذيب، ومن أبرز آثاره (دفاتر السجن). الغرامشية هي فلسفة البراكسس، أو الارادة العملية للفرد في مواجهة الظروف المحيطة به/ [موقف اخلاقي للفرد تجاه العالم]، بما يسم قيمة وجوده. تركيز غرامشي على القيمة العملية المباشرة أو النظرية التطبيقية الانية يتكشف عن نوع من (pragmatism) المتصلة بالفكر الرأسمالي أو المادية الانجليزية، ولكن في مجال اليسار الاجتماعي أو الاشتراكي. هذا يجعل الغرامشية براغماتية يسارية، في مقابل براغماتية بيكون وكومت وجون ديوي كبراغماتية يمينية.
    • في موضوع (فيصلية القوة)، نجد ان الفكر الغربي المادي عموما والبراغماتي الرأسمالي تحديد، قد قام على قواعد الفكر الديني التوراتي أو ما يدعونه (biblic ground) بعد تلاعب واضح في اللغة والألفاظ والدلالات. وتتمثل تلك المراوغة الجدلية في اللعب على مفهومي [الحق والقوة]. فالحق هو المصدر الأعلى وجوهر المركزية المقدسة، ومنها منبع الخلق والحياة والتشريع والسلطة. وتتميز في الفلسفة الغربية تحت عنوان (مسألة بيلاطس) أو جدلية بيلاطس، في المجادلة التي تدور في محاكمة بيلاطس ليسوع الذي يحيل سلطته للحق، فيسأله الحاكم الروماني: ما هو الحق/(يو18: 38). لقد جرى قلب مبدأ (الحق هو السلطة أو القوة) في الفكر الديني المحيل على (الأله/ المطلق)، بمبدأ مادي معكوس هو (القوة هي الحق). وعلى المبدأ الأخير قامت الانظمة الغربية البلدانية أو الراسمالية المعاصرة، التي تجعل الدولة أو النظام الرأسمالي محورا الحياة والسلطون والقانون والقيم. وبديهي ان (القوة) بالمفهوم الغربي الراسمالي هي مادية وبشرية، وبتعبير وجيز، تمثل مصالح نحبة الارستقراطيا التجارية التي تتحكم بنظام اقتصادي عالمي رأسمالي، تخضع كل البلدان ومؤسساتها السياسية والاقتصادية والعسكرية والاجتماعية، وتترجم حركة القروض والمساعدات والعملة الموحدة، مدى هيمنة النخبة المالية على العالم ومدى تبعية البلدان والاطراف للمركز. ومن هذا المنظور يمكن تفسير وتأويل وفهم مجمل المعارف والاحداث والمتغيرات العالمية. المنتصر يمثل القوة، صاحب القوة هو المشرع والقانون والاله المتحكم بكل شيء.
    • يوتوبيا/(utupus): كلمة اغريقية قديمة معناها (مكان متخيل)/(فردوس ذهني) يجسد رغبات الشخص.
    • التناقض يولد الصراع الذي هو مبدأ الوجود: مبدأ فلسفي قال به أرسطو وقامت عليه الفلسفة الغربية الحديثة، صاغه هيجل [1770- 1831م] في مصطلح الديالكتيك المادي وأعتبره أساس التاريخ، الذي طوّره كارل ماركس [1818- 1883م] إلى (المادية التاريخية) وبنى عليها نظريته في التطور الرأسمالي نحو المجتمع الاشتراكي.
    • أوغسطين [354- 430م]: فيلسوف جزائري من مدرسة الافلاطونية الجديدة، كان من أتباع ماني ثم اعتنق المسيحية ورسم مطرانا في بلاده. من مؤلفاته: اعترافات أوغسطين، مدينة الله، الأشكال والعناصر. وكتابه الأخير يتضمن فكرة الوجود الهندسي المنسجم للكون.

 

(45)

خرجت من البيت العتيق في بيت جدّي ولا أذكر أن الضوء كان كافيا.. عبرت ردهة البيت الحديث دون أن أنظر حوالي ووجدت نفسي في شارع المحلة الذي يأخذ بالصعود جهة الشمال، ثم ينحدر جهة الجنوب التي تواجه المنطقة الجبلية في الشرق..

السوق والمدينة يقع في جهة الغرب فمضيت فيها.. وبدل أن أواصل طريقي كالعادة، انعقفت يسارا ثانية في أول فرع عند بيت المختار القديم.. وهو بيت كبير ذي محيط مربع، وهو أول بيت باعه جدّي للمختار عند وفوده على المنطقة، قبل اختياره فيما بعد ليكون مختارا(*) للمحلة لأسباب حزبية وقومية..

البيت الثالث في الفرع بعد بيت المختار كان بابه مفتوحا.. ظهرت فتاة شابة سمحة المحيا وقالت لي: اليوم ستبقى عندنا..

ضحكت معها وأجبتها مداعبا: وكم تدفعين..

  • أمي قالت ستبقى عندنا اليوم..

دخلت عندهم في البيت.. كان بيتا صغيرا.. حوش في المقدمة بعدها حجرتان متجاورتان بنفس القياس.. الفتاة في الصف المنتهي من الثانوية.. جميلة ملساء البشرة شعرها متوسط الطول.. ولكنها بشوشة لطيفة اللسان والقلب.. تلقائية وذكية.. نظرت إليها في مرآتي الداخلية.. وقارنتها مع والدتها التي تميل للبدانة.. وهي الأخرى في مقتبل عمرها.. حسبت أن الأمر يتعلق بمساعدتها في الدروس.. قال أمها..

  • خوخه تراسل الصحف.. تكتب وترسل للصحف.. تحب أن تكتب.. أنا لا أعرف الكتابة..
  • ماذا تكتبين.. (سألت الفتاة)..
  • كلّ ما أراه.. أشياء من المحلة والمدرسة..
  • تحب أن تعمل في الصحافة.. (قالت الأم)..
  • الكتابة شيء والعمل في الاعلام شيء.... (قلت)..
  • أنت تستطع ذلك.. (قالت الأم، كأنها لم تفهمني)..

بعدها قامت الأم لمشاغلها.. وانصرفنا أنا والفتاة نتحدث ونضحك وتطلعني على أوراقها ودفاترها.. قضينا وقتا جميلا.. لم أكن أتوقعه.. لم أتوقع كذلك أن تميل لي خوخه ولا أكتشفت ذلك من قبل.. قد يكون ميلا طارئا له صلة بالكتابة أو العمل.. لماذا تريد أن تعمل.. فتاة وتريد أن تعمل.. يمكنها اكمال الدراسة.. التمتع بالحياة البسيطة من غير نكد العمل وتعقيداته.. ربما تحتاج أمها للمال.. الوظيفة وجاهة.. فتاة ترتدي ثيابا حديثة وتخرج للعمل.. تنتقل من مدينة إلى مدينة.. هل هذا ما تحلم به خوخه.. خوخه.. ابقي على الشجرة.. أجمل!.. خوخه تبتسم.. عيون خوخه هي التي تبتسم وليس شفاهها.. تلك الخطوط الدقيقة في زاويتي عينيها الخارجيتين.. هي ابتسامة خوخه.. لكن خوخه طفلة.. عندما أضغطها على صدري.. يغيب الكون.. ونحن نتحول إلى هواء غير مرئي..

هناك جريدتان، تشغلان الطابق الأول من مبنى أصفر في سوق المدينة.. يمكن أن تجد مكانها هناك.. عمل وصحافة.. هل هذا حلم خوخه أم رغبة أمها.. انت أكبر من العمل وأكبر من الصحافة يا خوخه.. العمل مضيعة.. والصحافة اسمها كبير وصيتها كبير.. صيت أيام زمان.. أما اليوم.. أخاف عليك من الصحافة يا خوخه.. لاتذهبي وراء الشهرة والصيت والاسم الرنان.. هل تحلم خوخه بالشهرة.. محلتنا أجمل من العالم.. ولكن.. لم أنتبه من قبل أن بيوت المحلة لها أرقام.. وأن بيت خوخه يحمل الرقم (92).. كم يبلغ عدد بيوت المحلة إذن.. وما هو تسلسل بيت جدّي.. لم أرجع للخلف.. مشيت تجاه الكراج دون أن أمرّ بالمدينة..

ـــــــــــــــــــــــــ

    • في عام (1970م) اجري شبه استفتاء حول التوزيع الدمغرافي والاصول القومية والدينية لسكان جالولا، وتم احتساب الأولوية للعرب بفارق عددي ضئيل، بعد احتساب سكان الاطراف والتركمان وقوميات عدة ضمن الأصول العربية. وقد نتج عنه اناطة الادارات الحكومية والمدرسية لعناصر موالية للحكومة المركزية من أصول عربية وتركمانية.

 

(46)

حتى تلك اللحظة.. لحظة سقوط امريء القيس من جبل -أجا وسلمى- كجلمود صخر حطه السيل من عل.. كنت أعتبر نفسي محظوظا.. والحظ هو القيمة.. والقيمة هي المعنى.. بعد الايمان استبدلت لفظة الحظ المكروهة بعبارة طنانة فحواها: [الله يحبني ويرعاني في كلّ شيء..]..

كنت أقول أن الله يحبني ويرعاني مثل حدقة عينه حسب مزمور داود.. ولن يتركني أخزى أو أسقط بيد خصومي.. لا يتركني أسقط من جبل لأنه يحيطني بأجنحته ويداه ترفعاني.. لكني وقعت وتحوّلت إلى حشرة والعالم صار مجرد نقطة.. الكتاب نفسه أورد عبارة: أنا دودة لا إنسان(*)!..

أنا لم أقل أني دودة.. لكي لا تزعل المرأة التي كانت تضاجعني.. أو صديقي الذي كان يكرر في لحظات انفعاله أننا عائلة وأخوة..

من أجل كل أولئك.. لا أقول أنهم (دود) داخل مستعمرات دودية.. انما أقول انني حشرة.. تحولت الى حشرة حسب مسخ كافكا(*).. وأنا لست تشيكيا بالمناسبة.. أيضا بسبب الحرب اللاوطنية التي قرضت عقدا من سني عمري.. ومجيئي إلى لندن لا صلة له بهروب ميلان كونديرا(*) إلى باريس ليصبح كاتبا فرنسيا..

أنا لست انجليزيا ولا أود أن أكون كاتبا انجليزيا على غرار الهنود والأفارقة.. سوف أحتفظ ببقية عروبتي حتى الثمالة.. كما أن لندره هذه لا تستحق المقارنة بباريس شانزليزيه.. سارتر وكامو وروسو وفيكتور هيجو وعيون أراغون وموليير وفلوبير ونابليون وروبسبير وماري انطوانيت.. كل هذا لا تجده في لندره..

هنا عاش ماركس يتدفأ في أروقة المتحف بحجة الكتابة عندما كانت البارونة تهجره وتعود لأهلها في ألمانيا.. كولن ولسن مات مثل شحاذ وعاش كذلك.. رغم أن عقله أكبر من عقل الملكة وحكومتها.. لندره حاربت أودن ورسل (*) ولكنها احترمت ايليوت(*) عندما وصفها بأرض زبالة.. بعدما نبذ دين أجدادها واعتنق ديانة زوجته الانجليزية.. هل كانت تقرأ اسمه أيديوت وليس ايليوت.. ربما..

لا.. لا أقول أني دودة.. حتى لا تنثلم الكرامة غير الوطنية ويقول قائل: هل قواتنا المسلحة العظيمة هي قوات دودية.. أنا لا شأن لي بأي أحد.. وأنا الآن منسي في ثقب انجليزي مهجور في صحراء لندره لا يكاد أحد يتذكرني أو يسلّم علي أو يردّ على ندائي..

علامة الحياة الوحيدة لتاريخ القرن الواحد والعشرين.. هي حركة الفواتير وزيادات الاسعار الموسمية.. الخارجة على الأخلاق والمنطق الاقتصادي.. واليوم اجتمع اثنا وعشرون نائبا برلمانيا وتقدموا بوثيقة تطالب جيزابيل بحماية سبعين ألف عائلة متضررة من ارتفاعات الأسعار.. اثنان وعشرون رقم قياسي يناسب عدد سنوات سلمان العبيدي الذي حاول تحرير مانشستر من الغزاة في أول يونيو، وشكّل حكومة وطنية من أثنين وعشرين عضو، اجتمعوا في بهو الاوبرا.. ولكن جيزابيل عندما وصلها خبر الثورة الدمقراطية فتحت النار عليها وعلى أصحابها.. ومن يومها البوليس ينتشر في الشوارع ويسأل رائح الغادي إن كان من أتباع الملكة أو روبسبير وكرومويل..

يبدو أنهم عوائل الطبقة السياسية ومافيات البرلمان المعفية من تبعات سمسرة الحزب الحاكم.. المهم أنني لن أترك فاتورة غير مدفوعة ورائي أو أمامي مثل كافكا وراسكولينكوف(*).. وسوف تحصل المرأة صاحبة النزل عند موتي على كنوز وأموال تعيش بها عقدا من السنين بعد موتها..

لم يقبل صديقي الوحيد – أبو التمتم- الذي يعودني بصفة دورية ولفترات متباعدة.. هو الوحيد في أفق حياتي ممن يمنحني شيئا من وقته واهتمامه.. ولا يقبل وصفي لحياتي بأنها (غلطة)..

وكنت أقول أن ولادتي كانت غلطة.. ودراستي كانت غلطة.. وبقائي في الحياة بعد الحرب غلطة.. وتركي للبلد كان غلطة.. وعلاقتي بالمرأة غلطة.. واهتماماتي الأدبية غلطة.. واصراري على الالتزام والموقف والأخلاق أغلاط في أغلاط..

وفي النتيجة لسنا غير حشرات في النظام العالمي السائد منذ سقوط بابل.. رغم أن الحشرات لا تغلط.. الغلط صفة بشرية..

المفروض أن أعيش وأعمل وأتعب وأموت وأنفع بلدي.. فلا نفعت بلدي ولا أفدت من حياتي.. وأنا أعيش وأموت في بلد يحتل بلدي.. كلام كبير لا طائل منه.. فالحشرة ليس لها دور سياسي.. وهل تعتقد بوجود يسمح أن يقوده أو يخطط سياسته حشرة.. بلعت الموضوع وسكت..

أنا أيضا لم أقل أنا دودة لا انسان.. ولم أذكر اسم قائلها.. أنا أيضا لم أقل هذه جزيرة الدود مثلا.. على غرار حديقة الحيوان(*).. حديقة الحيوان يحكمها الخنازير.. فمن يحكم جزيرة الدود..

علينا أن نعيش الحياة ولا نحكم على شيء بلا تجربة.. لا يمكن تسمية الخروج غلطة إن لم نكن قد خرجنا.. وهي ليست كذلك لكثيرين عرفوا كيف يفيدون من الخروج .. ويرفضون العودة أو مغادرة الفردوس الغربي.. فردوس ميكافيللية المتعة..

أنا بوصفي حشرة لا أعرف المقصود بالفردوس.. والحشرة لا تميز بين جحيم وفردوس ولا بين نهار أو ليل أو غرب أو شرق.. لكن الحشرات تعيش عادة في الطبيعة.. ولا تفكر في المغادرة إلى غيرها.. واذا أجبرت على الهجرة تموت بفعل الاغتراب والتوحد وعدم التكيف والانسجام.. عندما تشعر الحشرة بالغربة أو الحزن تتثاقل حركتها.. تسكن.. وفجأة بعد مدة.. تكتشف أنها ميتة..

روح الانسان أكثر قوة من الحشرة.. وذلك هو سبب شقائه..

ـــــــــــــــ

    • (مز 22: 6)، (أنا دودة..) وردت لدى أيوب والمزامير ورسالة لبولس الطرسوسي.
    • فرانتز كافكا [1883- 1924م] قاص وروائي تشيكي من أصل يهودي، درس وتعلم كافكا باللغة الالمانية حيث كانت تشيكيا تابعة لامبراطورية الهابسبورغ حتى عام (1918م). واصل كافكا دراسته بالالمانية وحصل على درجة الدكتوراه في القانون، لكنه لم يمارس عملا مهما، وأحيل على التقاعد من شركة التأمين التي عمل فيها لاصابته بمرض السل والذي سينتهي به للموت في سن الاربعين. من أبر أعمال كافكا روايته (المسخ)/(1915م) الأكثر غرائبية في تاريخ الأدب، الى جانب روايات: القضية والقصر، وبضعة مجاميع قصصية ورسائله لأبيه.
    • ميلان كونديرا [مواليد برنو/ تشيكيا 1929م] شاعر وروائي واستاذ جامعي. كان عضوا في الحزب الشيوعي التشيكي، شارك في ربيع براغ/(1968م) وفصل من وظيفته في الاجتياح السوفيتي لتشيكيا ومنعت كتبه لمدة خمس سنوات. هاجر إلى فرنسا العام 1975م)، وعندما نشر (الضحك والنسيان)/(1978م) سحبت منه الجنسية التشيكية فقدم على الجنسية الفرنسية وحصل عليها العام (1981م). في العام (1995م) قرر ان يجعل الفرنسية لغته الرئيسة في التأليف وذلك في روايته (البطء). ويعتبر صاحب مدرسة ادبية متميزة وتيار فكري له أتباعه. وهو من أشهر الكتاب اليساريين في أواخر العشرين. من أعماله: غراميات مضحكة/ (1963م)، المزحة/(1965م)، الضحك والنسيان/(1978م)، خفة الكائن التي لا تحتمل/ (1982م)، الحياة هي في مكان آخر، فالس الوداع، الهوية.
    • د. ه. أودن [1907- 1973م]: شاعر انجليزي شيوعي، شارك في الحرب الاسبانية الاهلية في الثلاثينيات ضد الملكية، وهاجر إلى أميركا، توفي في النمسا وقبره في (Kirchstetten).
    • برتراند رسل [1872- 1970م] عالم رياضيات وفيلسوف معاصر من مواليد ويلز. سخر حياته منذ (1914م) للعمل المباشر من اجل السلام العالمي ووقف العنف والحرب، اجرى اتصالات مع كثير من حكومات وزعماء العالم، وانتقد سياسة انجلتره، فاعتقل وأهين رغم أنه حامل لقب ايرل رسل الثالث، رغم أنه من أعيان الارستقراطية الانجليزية والحكام السابقين بالوراثة، ولكنه لم يحظ بمركز وجاهي وقد فصل من الجامعة بسبب مواقفه، وعانى الضنك دون أن يتراجع عن مواقفه.
    • ت. س. ايليوت [1888- 1965م]: مواليد اميركا، (1914م) هاجر إلى انجلتره، وانتسب لكنيستها الانجليكانية، تزوج من قريبة لييتس بمساعدة من الشاعر الشيوعي المعروف عزرا باوند [1885- 1972م] الذي سانده ونقح له مسودة قصيدته (Waste Land) ونشرها في مجلته [1914- 1919م] ، قبل صدورها في كتاب عام (1922م). أما عزرا باوند الذي قدم لندن العام (1911م) وشكل ثلاثيا مع كل من هيلدا دوليتل [1886- 1961م] وريتشارد الدنجتون مؤلف كتاب (لورنس الدجال)؛ فقد هاجر إلى ايطاليا ووقف إلى جانبها في الحرب الثانية، وقد أعتقله الجيش الأمريكي وأرسل للسجن في مركز للأمراض العقلية في الولايات المتحدة الأميركية، ولم يطلق سراحه إلا بعد سنوات طويلة عقب حملة دولية ثقافية تزعمها الفيلسوف برتراند رسل.
    • راسكولينكوف: بطل رواية الجريمة والعقاب لفيدور ديستوفيسكي [1921- 1881م]، من روائع كلاسيكيات الأدب الروسي.
    • (حديقة الحيوان): رواية رمزية سياسية صدرت العام (1945م) للروائي الانجليزي الشيوعي جورج أورويل [1903- 1950م]، صاحب رواية (1984)/(1949م) التي ينتقي فيها النظام الرأسمالي ومجتمع السيبرنتيكا. وله كتاب (تحية لكتالونيا) (1938م) عن خبراته في الحرب الاسبانية الاهلية. اسم اورويل الحقيقي هو ايريك ارثر بلير ولد في ولاية بيهار الهندية.

 

(47)

في يوم الثلاثاء المصادف لليوم الثالث عشر من يناير.. كنت أشعر بالكسل.. أو قل بالتثاقل.. ولا أريد أن أعمل شيئا.. ومن غير شعور قمت وفتحت الكمبيوتر.. لم أكن أفكر في معاينة البريد لكني فعلت.. رسائل الأصدقاء.. أصدقاء النت والتعارف الالكتروني.. تمنح بعض التشجيع..

كانت تلك بدايات النت والناس لم يمتسخوا بطبائعه تماما.. لم يكن اليوتيوب والفيس بوك والتويتر* قد ولدوا بعد يومذاك.. بعض الرسائل تستسهل الردود.. كلام في كلام.. خلال ذلك كانت بعض الرسائل تتوارد.. تنحدر من قفا الأثير في حضن الشاشة..

حاولت تأخير الرسائل الجديدة، ريثما الانتهاء من سابقاتها.. بطريق الخطأ انفتحت واحدة منها.. أسودّت الشاشة فجأة.. أعدت قراءة الايميل.. قمت.. درت في الحجرة.. أحاول نسيان الكمبيوتر.. عيناني تسترقان النظر خلسة للشاشة السوداء.. خرجت من الحجرة وعدت بعد زمن.. قرأت الرسالة أيضا..

لقد اغتالوا... ماذا.. ايغوووور.. غير معقول.. ايغغغوو...... كتبت جوابية للتأكد من الخبر.. رسالة ثانية تتضمن تفاصيل أكثر.. اليوم حصل ذلك.. الآن.. هذا الصباح.. ما زالت الجثة على العتبة.. ما زال القتلة الثلاثة يهربون.. جثة.. رصاصات.. عتبة.. دم.. مراقبة.. حرس.. تحت السيطرة.. ارتديت ثيابي وخرجت عن طوري.. بلا وجهة.. لا أدري إلى أين..

أرادني أن أكون معه.. وها هو يتركني.. قلت له لا أريد أن أخسرك.. فخسرته.. أردنا أن نكون واحدا.. فقسمونا إلى أشلاء.. سألته هل يثق بالناس.. قال أن اهتمامهم ينحصر في بطونهم.. من أين تصدر الرغبة في القتل.. من البطن أو من مكان آخر..

قال أن الناس يحبونه وهو يريد أن يخدمهم ويكسبهم.. هل الحبّ يولد الوحشية.. هل الحب يقتل المحبوب.. هل القتلة من زبائنه أو من الغرباء.. البنادق أميركية.. ولكن الأشخاص هربوا باتجاه الشرق.. الشررر...ق.. ف.. فق قف.... بعد أيام دفع الأميركان (دية) القتيل.... تم غلق الملف....

بعد أشهر.. القي القبض على القتلة الثلاثة.. والملف بقي مغلقا.. (الدية) مدفوعة مقدما..

ايغور ليس أول أرمني يتعرض للقتل والاغتيال والتصفية الجسدية.. ملايين الأرمن عانوا هذا المصير.. بمباركة جنون سكان البطون والحصون.. كم من الأرمن..أرامل ويتامى.. قتلوا الرجال وسبوا النساء والأطفال.. لماذا يتحد الشرق والغرب ضدّ الدم الأرمني..

أورمية(*) البلدة المسالمة في حوض بحيرة وان.. الوحيدة التي لم تخضع لفارس ولا الاغريق أو روما وبيزنطه.. اول دولة مسيحية في القرن الثاني الميلادي تلاحقها الاضطهادات طيلة عشرين قرنا.. لكن ايغور.. بالكاد يذكر شيئا عن ذلك..

لم يذكر أحد حقيقة الجهة وراء الاغتيال.. أما القتلة فمجرد أدوات تعمل حسب الأجرة.. في بلد تسوده البطالة والجوع والفوضى.. الخبز خبز حتى لو كان أسود أو أحمر.. هل اغتالوه لشيوعيته.. بسبب غرامشي أو بيكون.. الدين أو الرأسمالية.. أم هؤلاء يتحدون مقابل عدوهم.. هذه أيضا من وصايا بيكون..

إذن مات بوتو ومات تيتو ومات ايغور.. اغتالوا الليندي وانديرا غاندي وابنها وفرج فوده.. الجريمة واحدة والدافع واحد.. الأداة واحدة والقاتل واحد.. قد تختلف الضحية لكن القاتل لا يختلف.. قد ينقسم الضحية لكن القتلة يتوحدون ويعتصمون برباط المال.. المال والبطن واحد.. وجهان لدونية الجوع.. أو وحشية البطن..

مات ايغور.. مسحوا اسمه من مجلس الحكم.. ألقوا مكتبته في ماء خراسان.. فاصطبغ بلون أحمر.. وعلى قبره طبعوا بصمة كف حمراء.. وداعا يا غرامشي.. هللويا فرانسس بيكون وفرانسس فوكوياما وكل فرانسيسه والعالم يتقدددم....

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

    • ظهر الانترنت في الخدمة العامة في أواخر التسعينيات، ومع نقلة الالفية ظهرت شركات محلية بلدانية باطنة بالوكالة للشركات الأميركية الأصلية. أما خدمات اليوتيوب والفيس بوك فقد ظهرت العام (2004م) والتويتر العام (2017م).
    • أورمية: مملكة عريقة في بلاد الأناضول شمالي بحر الخرز، أول مملكة اعتنقت المسيحية عام (150م). حافظت على استقلالها في عهود امبراطوريات فارس وروما وبيزنطه. والأرمن الى جانب اليهود من الشعوب القديمة التي حكم عليها بالتشرد والانتشار في الشرق والغرب، وما زالت محافظة على أصولها القومية الثقافية والدينية. وقد برز كثير منهم علماء ومثقفون وساسة وعسكر، في البلدان المقيمين فيها.

 

(48)

عندما استقبلت الشارع كان المساء جميلا.. الحركة مزدحمة.. الناس على الجانبين ذهابا وإيابا.. كلّهم مشغول.. يتحدثون ويضحكون.. يأكلون ويدخنون.. تسير داخل تلك الجموع وأنت لا تفكر.. لا تفكر حتى أنك وحيد أو غريب أو بلا أحد..

واصلت مسيري عبر محطة بادنغتون الرئيسة.. وأنا أتمنى مواصلة المسير هكذا.. جاء الباص الذي يمرّ عبر المكان الذي أسكنه.. صعدت للباص.. في لندره.. حركة الناس أفضل من جلسة الشقق أو الحجرات الصغيرة التي ينزلها الوحيدون/ السنغل..

وأنت في الشارع لا تفكر في العودة للبيت.. تتمنى أن يكون لك صديق أو جماعة تقضي معهم الوقت.. أين هم الذين أعرفهم أو يفترض أن نلتقي سوية.. كلهم مشغولون.. كلهم يكذبون.. لو كنت ذا مال ومركز.. لما تركوني أذهب للحمام لوحدي.. لقد جرّبت هذا وذاك..

في يوم الثلاثاء المصادف تاريخ الثالث عشر من يناير (الفين وخمسة)، اغتيل صديق طفولتي بثمانية رصاصات غادرة.. أطلقها ثلاثة ملثمين لم تورد وكالات الانباء شيئا عنهم.. في ذلك العام الخامس بعد الفين.. قررت المجئ الى لندره، بحثا عن الملثمين ومن وراءهم..

قال لي جهينة أن إطلاق النار حدث الساعة الثامنة صباحا.. موعد خروجه إلى العمل.. وأنهم كانوا ينتظرونه تحت شجرة أمام الباب.. وبعد الحادث انطلقوا في عجلة كانت تنتظرهم نحو الحدود الشرقية لمندلي..

تبين أن الشجرة تواطأت في الجريمة.. رغم أن صديقي الذي أعرفه منذ الطفولة.. ليس له عداء مع الأشجار.. أو العجلات ولا الحدود الشرقية.. كما أن الصديق الذي ياما انتظر لحظة موته من قبل، لم يكن يتشاءم من الرقم الثلاثة ومضاعفاته.. ولا حتى الأرقام الفردية..

ولا بدّ.. بناء عليه.. من وجود سهو في الموضوع.. لذلك كان الهروب نحو الشرق وليس الغرب كما هو معهود في نشرات الاخبار.. فكرة التلثم تتعارض مع مبدأ الشهرة التي يسعى إليها شباب اليوم الذي ينتظرون ظهور صورهم في وسائل الاعلام.. واهتمام الغرب بترويج تلك الصور مثل نجوم البوب في المسارح الغربية..

لا بدّ لجهة ما معاجلة تصحيح (السهو) وقبل أن يتحول القتيل أو أحد القتلة نجما في الأخبار.. وبعد أيام.. قال جهينة أن القائد الأمريكي في المنطقة تولى كافة الاجراءات.. ولكن الأخبار لم تورد شيئا عن شهامة القائد الأمريكي وكرمه العربي.. ولا نخوة قواته العابرة للبحار.. للامساك بأحد القتلة قبل الهرب.. يبدو أن الأمريكي يتجنب وسائل الاعلام والاعلان لسبب، ولا يريد الافصاح عن اسمه..

ولأن لندره فيها كلّ الأخبار ولا تخفى عنها خافية من خفايانا.. فلا بدّ أن يكون لديها الخبر الصريح.. لكنني لم أجد خبرا عن الحادث في شركة غوغل.. التي يقال أنها تعرف كلّ شيء.. لا شيء سوى ما كتبته أنا عن الحادث وعن ذكرياتي الشخصية مع صديق طفولتي الوحيد.. أما الضابط الامريكي الذي دفع فدية القتيل.. فلا أثر لاسمه أو رتبته في الأخبار..

وكيف تعرف الأخبار هناك بعد مقتل صديقي الذي كان مسؤول الجريدة.. يبدو أكثر شبابا وهو في الخمسين، كأنه في العشرين.. تلك هي آخر صوره التي أرسلها الي قبل الحادث.. نظرته الواثقة للأمام.. ولسان حاله يردد.. [مهر يعدو في الكون..]..

 

(49)

لمناسبة العام الثامن عشر من الألفية الثالثة.. أكتب الآن بعض خيبتي من هذا العالم.. في لقائي غير الأخير مع العمدة الاشتراكي حيث أقيم.. تحدث بأسف لانتكاسة العام الثامن للألفية الراهنة.. في الأوضاع السياسية للنمسا التي نعيش اليوم نتائجها..

ولأنني جئت إلى النمسا لاجئا من كوارث بلدي.. وجدت الكوارث والأزمات تتناسل في هذا البلد الذي يعرفه الآخرون عكس حقيقته وواقعه.. ولولا تلك الأغنية الدعائية لأسمهان لما عرف أحد طريقها.. تلك الأغنية التي قتلتها أيضا.. أسمهان أيضا قتلتها أغنية.. لماذا لم تغن للمتروبول والتايمز..

ليس من تلك الليالي غير موائد القمار وكازينوهات الأوتيلات الباهظة التي لا يعبر عتبتها غير أصحاب الشهادات البنكية المعتبرة.. كازينوهات المال والخمر والنساء.. التي لا يحبّ النمساويون أنفسهم أن يتذكروها..

هم يقولون إن نساء الكازينوهات من بلدان شرقية.. وعندما يدخل الأجنبي تأتيه واحدة تتكلم لكنة ألمانية مكسورة.. لكنني أعرف أن التشيك والهنغار يتكلمون المانية أفضل من الألمان.. اللكنة تظهر عند اليوغسلاف وما وراءهم.. ولكن نساء الأخيرات ليس لهن سوق في هذا المجال مثل تشيكيا وبولونيا.. وفي الألفية بدأت علب الليل تقدم الأوكرانيات والروسيات مكافأة لبلدانهم على انضمامها للناتو.. وهن أرخص الموجود..

مع بدايات الألفية زادت علب الليل زيادة كبيرة.. ووجدت لها مراكز في مدن لم تعرفها من قبل.. الحكومة لم تلتفت لاعتراضات السكان المحافظين الذي يقدمون احتجاجات تلو غيرها على زرع الأوكار بين بيوتهم البعيدة عن محلات الأسواق.. وأخيرا وجد أهل البلاد مجالا جديدا للاستثمار وكسب الأموال من البورديلز.. أعني مجال السمسرة.. أي سمسرة..

أحد أصدقائي الشعراء من أهل البلاد.. وهو مدرس ثانوي فاشل ويمارس وظيفة إدارية.. أصبح كاتبا وأصدر رواية يقلد فيها باولو كويلهو.. ولكي يشتهر ويتفوق على الأصل، أصر على توقيع نسخها الأولى في علبة بورديل عفنة.. رفض الرافضون وسخرت وسائل الاعلام من الفكرة.. لكنه أصرّ وأصرّ ولم يتراجع.. فالمقصود هو الضجيج والاثارة التي تجلب الشهرة.. وقد حصل لقاء ذلك على شهرة محدودة..

لقد دخل سوق الكتاب بعدما كان مغمورا.. وصار يرشح للمسابقات ولجان التحكيم.. لقد وجد مهنة جديدة ينشغل بها في سنوات تقاعده من التعليم.. وعندما شاركت في أمسية أدبية قبل مدّة.. كان يتقدم لجنة التنظيم.. يستقبلني بابتسامة وحفاوة وداع كبيرة.. وبعد المغادرة أرسل لي صور الأمسية بالايميل.. صرنا أصدقاء..

ربما كان عليّ اقتراف بدعة شاذة، من هذا النوع لتحقيق رواج لاسمي وكتاباتي، والخروج من سجن الحظ الذي وضعني فيه القدر.. هذا مفتاح مناسب لتغيير حياتي ونسيان الماضي واجترار مشاعر الندم والقنوط وتقريع ما حصل في العصر الحجري الثامن.. هذه الفكرة واتتني مؤخرا.. وأنا منشغل بها وأبحث لها عن مناسبة..

كان عندي صديقي.. بحسب تعريفه لهذه الكلمة.. لا يهم.. يتصل بي حسب هواه أو حاجته.. وعندما أتصل به نادرا، يعتذر أنه مشغول.. أيضا لا يهم.. في الفترة الأخيرة اشترى سيارة – على الزيرو- كما يقولون هنا.. وعندما تكون عنده مأمورية تعبانة يجدها فرصة للاتصال بي.. فيمرّ بي وأساعده في الموضوع.. ولأن السيارات الحديثة مجهزة مبدئيا بجهاز (التمتم) كما يسميه المصريون هنا.. ففي كلّ مرة يكرر علي سؤاله عن كود المنطقة وتفاصيل العنوان.. كما لو أنه يتبختر أمامي.. وأنا أقرعه بعدم الحاجة لترهات الفضائيات واعتبارها من وسائل التجسس الالكتروني.. بينما هو يسمع ويوافق ولكنه يفعل ما برأسه..

ولأنه لا يضبط مسيره حسب توجيهات الخاتون أم التمتم.. تجده يرتبك ويعيد الدوران في الساحات.. ويرجع في الفروع التي سبق مروره فيها.. وأنا مع كل دورة أزيده تقريعا وتوبيخا.. فيزداد هو عنادا وتكرار.. فيضيع في مشوار العشرة دقائق أكثر من نصف ساعة.. بل ساعة أحيانا.. بحسب عناده ومجهولية المنطقة التي يقصدها..

في المرّة الأخيرة التي التقينا فيها.. لم يعد يدقق الالتزام بتعليمات التمتم.. يدخل في أي شارع بشكل عشوائي ويقول وهو ينظر لنافذة التمتم.. (هو يصحح نفسه.. الآن يعطي خريطة جديدة).. وتنجح معه اللعبة.. هكذا صار يخرج من متاهته بدل الدوران لاتباع التمتم.. صار التمتم يتبع صاحبنا..

 

(50)

سألت صديقي الأمريكي استاذ علم النفس في جامعة لوس انجلس عن علاقة الأرقام بالأحداث..

وهل الأرقام المتجانسة أو المتكررة تقترن بأحداث متجانسة أو متكررة.. قطّب جبينه وحدّق في عيني لبعض الوقت، وقال.. لأول مرة تسألني سؤالا غريبا..

  • ليس غريبا.. أعرف أنه تخصصك..
  • ليس تماما.. ولكنه غير بعيد من تخصصي..
  • والجواب..
  • أنت هذه المرة في كامل جدّيتك..
  • أنا دائما في كامل جدّيتي..
  • دعنا الآن نجد مكانا نجلس فيه.. هل تريد أن تأكل.. أنا أشعر بجوع..
  • لا بأس.. كما تشاء..
  • أشتهي اليوم أكلا شرقيا.. هل يوجد هنا مطعم عراقي..
  • يوجد مطعم لبناني مشهور..
  • المهمّ طعامه طيّب..
  • أعتقد أنه يناسبك..

ذهبنا إلى مطعم مروش في شارع اجوردرود وكان ما يزال مزدحما في فترة الغداء.. وقفنا جانبا قليلا حتى شغرت طاولة عريضة.. جلسنا في جانب منها متقابلين.. وطلبنا الأكل.. وكان صديقي يتفحص المطعم والناس ويهزّ برأسه موافقا..

  • لم أدخل هنا من قبل.. يبدو مكانا جميلا..
  • صغير ومزدحم غالبا..
  • الكراسي المتقاربة تمنح المكان حميميّة..
  • هل الحميميّة مهمة عندكم..
  • أووو.. جدّا.. نحن عائليون وأليفون جدّا..
  • وسياستكم الخارجية..
  • أنت تتكلم في السياسة دائما.. أنا لست سياسيا.. في بلدنا كل شخص يتكلم في تخصصه..
  • لكن أميركا نظام دمقراطي.. والمواطنون يشاركون في الانتخابات والتصويت..
  • ليس تماما.. هذا هو الظاهر..
  • السياسة لها أهلها.. والحملات الانتخابية يديرها سماسرة محترفون وتجار مال أذكياء..
  • والشعب الأميركي أيضا شعب ذكي حسب رأي الفايننشيال هنا..
  • صحيح.. هذا متوقف على المقصود بكلمة (ذكاء).. الذكاء في أميركا والغرب عموما يتعلق بالقدرة على اكتساب المال وجمع الثروة..
  • ولكنك أيضا شخص ذكي.. واستاذ في جامعة مشهورة..

حضرت طلبات الكل.. نظر النادل في عيون كل منا.. وقام بتوزيع الصحون دون سؤال.. لقد صحّ تخمينه.. حمل الأمريكي طبقا ووضعه أمامي.. نظرت إليه..

  • أليس هذا طبقك..
  • الأكل كثير.. وأنا لا أكل كثيرا بسبب السكّر.. كما أني لا أتناول الكاري..
  • الأكل معك مكسب..
  • أشكرك يا صديقي..
  • ....
  • لا أخفي عليك.. راتبي الجامعي جيد وهو يكفيني للمعيشة والمصاريف.. ولكن دخلي الرئيسي من الاعارات والبعثات والمشاركات الجامعية.. فيتحقق لي مورد ثروة لا بأس بها.. وأنا أحبّ السفر والتعرف على ثقافات الشعوب..
  • لكنك سفراتك غالبا ضمن تكليف الجامعة..
  • نعم... تكليف الجامعة أو طلب انتداب من جامعات أخرى..
  • كم بلدا زرته حتى الآن..
  • حوالي مائتي بلد.. لكن اسألني كم جامعة عملت معها.. فهذه بالمئات..
  • هل تعتقد أنك ستحوز هذه الشهرة لو لم تكن أميركيا..
  • طبعا لا.. في بلدانكم أساتذة جيدون.. لكنهم مطمورون.. لا تتعدى شهرتهم حدود بلدانهم..
  • ألا ترى أن هذا جزء من السياسة الغربية في الشرق الأوسط..
  • إلى حدّ ما..
  • لماذا إلى حدّ ما.. الغرب يضع العرب في منازل دنيا في كلّ شيء.. ويعكس عنهم انطباعا غير جيد..
  • إلى حدّ ما.. نعم.. لقد ظلمنا العرب عموما.. ولكن ليس وحدنا..
  • كنتم تستطيعون تعديل الوضع..
  • هذا ما اعتقدناه.. بعد الخمسينات تغيرت تلك التصورات..
  • لماذا بعد الخمسينات.. لقد توفرت لديكم فرصة أفضل..
  • هذا هو التناقض.. في القرن العشرين.. وقبله أيضا.. كان التصور الأمريكي قائما على تغيير النظام التقليدي في السياسة الدولية الذي صنعه الانجليز.. الانجليز غيّروا اللعبة الدولية في القرن الثامن عشر.. وكانت الولايات المتحدة تجتهد لرسم خط سياسي يحجم الطموحات والرؤى الأنجليزية.. ولكنها فشلت.. لم تستطع مراوغة الانجليز.. الانجليز قبلنا في في كل مكان من العالم وأكثر منا خبرة بالشعوب وقدرة على المراوغة.. لقد اتقنوا طريقة التكتيكات الشرقية القديمة: يكرمون الأسد ليغدروا به!.. وهذا لأنهم متكتمون وغير واضحين.. نحن واضحون في سياساتنا ونتحدث عن أهدافنا في الاعلام المكشوف.. لذلك نخسر الأرض مقدما.. الانجليز ما يزال لديهم ورق.. نحن لدينا تكنولوجيا الدمار والجيش.. الانجليز ما زالوا يراوغون والشرق يميل إليهم رغم تجاربه المريرة معهم.. ونحن نخسر الأرض والبلدان بالتتابع..
  • ولكن السياسة الدولية بعد الألفين انحرفت للأسوأ.. أعني قلب اللعبة وليس تغييرها..
  • هذا مشروع جديد لم اكن أفكر في الحديث عنه.. نقطة الضعف في الشرق هي ثقافاته.. ثقافات اجتماعية غيبية سلبية.. الانسان يذهب إلى قدره أعمى.. يعيش مسلوب الارادة ويموت على أمل الفوز بالفردوس .. لكن يفتقد الارادة الشخصية.. المشروع الجديد هدفه إعادة هيكلة ثقافات الشرق، لتأخذ الشعوب بناصية القرار وليس الحكومات.. على الفرد استخدام ارادته لبناء قوة اجتماعية سياسية بعيدا عن سلطة الغيب والنزعة القدرية، وكل المفاهيم التي تجعل التمرد على الحكم ورجل الدين خطيئة..
  • ما يجري لدينا هو الهدم.. وليس إعادة الهيكلة كما تسميها..
  • أحيانا لا ينفع غير الهدم.. الثقافة العربية معقدة وسالبة جدا.. العرب لديهم أقدم وأغنى تاريخ ثقافي في العالم.. ولكن الثقافة العربية كانت دائما في مؤخرة العربة.. لم يحصل أن تصدرت الثقافة العريية مركز القرار السياسي في التاريخ.. الملوك المثقفون والفلاسفة هم الأكثر ضعفا ويموتون بالاغتيال.. لديكم ملك شاعر يسمونه امير الشعراء.. لم يعترف به شعبه.. وشعوبكم لا تحترم غير القسوة ووحشية الحكم..
  • أنت تدافع عن مشروع هننتغون..
  • لا تنس أنني أمريكي.. والأمريكان قوميون.. يحبّون بلدهم مهما كان.. وبالمناسبة أنتم لم تفهموا هذا الرجل..
  • هذه النقطة غير واضحة..
  • الدعاية الاعلامية للكتاب كانت سيئة.. كان على دار النشر تقديم ترجمة عربية من قبلها لكي لا تساء ترجمته لاحقا.. لقد اتهم الكاتب بالعنصرية.. ونحن لسنا عنصريون.. هذه كلمة خطيرة وغير مسموح بها في قاموسنا السياسي..
  • هل ترغب في تناول شيء آخر..
  • لا.. أنا فول..
  • شاي مثلا..
  • شاي أحمر.. ممكن..

أوصيت النادل بطلب شاي عربي..

  • لقد قام البرفسور هننتغون بعدة زيارات وندوات دراسية في السعودية وماليزيا وسنغافور.. وقد وضع الثقافة الاسلامية والهندوسية في كاتغوري واحد.. لكن الاعلام العربي ذكر الاسلام فقط وأهمل الهندوسية.. وقارن تابيله الكتاب بتابيله هتلر.. هذا كان خطيرا جدا..
  • وماذا تقترح..
  • لقد نشر البرفيسور هننتغون كتابا آخر أجاب فيه عن التساؤلات المترتبة عن كتابه الأول.. وفي العموم.. لقد تم تجاوز هذا الكاتب..
  • ليس كل ما يقوله ساستنا خطأ.. لكن هناك سوء في التعبير ونقص في الدبلوماسية.. نحتاج تعلم دبلوماسية الانجليز والفرانس..
  • الانجليز اعتمدوا على اليهود في الخارجية.. وأنتم كذلك..
  • (يضحك).. أنت لا تقصد شيئا طبعا..
  • طبعا..
  • اليهود الانجليز هم أنجليز أولا وبالدرجة الثانية يهود.. واليهود عندنا من حزب الصقور..
  • أليسوا يهودا..
  • اليهود السياسيون سياسيون أولا.. واليهود التجار تجار أولا.. واليهود الرابيون رابيون أولا..
  • لكن اليهودية هوية ثقافية قبل كل شيء..
  • اليهود أقليات في البلدان.. وعندما تكون ثقافة الأغلبية قوية تصبح الهوية اليهودية درجة ثانية في حياة اليهود.. ولكن عندما تكون ثقافة الأغلبية هشة.. يكون الوضع مختلفا..
  • هذا يعني اختلاف يهود الغرب عن يهود الشرق..
  • الغرب لم يسمح ببقاء اليهود الا بعد تطويعهم للثقافة الغربية.. يهود الغرب يعيشون في غيتوات لممارسة تقاليدهم.. ولكن خارج الغيتو هم مواطنون قوميون..
  • ولكن اليهود يتحكمون بالقرار السياسي في الغرب..
  • من خلال المال.. هم يتحكمون بالمال الذي يحكم السياسي..
  • ومتى يخسر اليهود هذا الامتياز..
  • هذه ورقة بيد تجار المسلمين.. ثروات المسلمين أكثر من اليهود.. ولكنهم لا يجيدون توظيفها..
  • هل هذا مرتبط بالذكاء..
  • هذا مرتبط بالثقافة الاجتماعية.. الهوية الثقافية كما دعوتها.. الهوية القومية ضعيفة عند العرب..
  • لكن الامريكان ضربوا القومية العربية..
  • الاميركان هم الذين شجعوا القوميين العرب في جامعة بيروت اليسوعية.. الانجليز اعتمدوا ورقة الدين في السياسة الخارجية.. الأمريكان ارادوا تقليص دور الدين وتهميشه لصالح العلمانية.. لذلك دعمنا التيارات القومية والثقافية ومبادئ الحوار والحرية والانفتاح.. لكن هذا المشروع صار قديما.. بعد الخمسنيات تغيرت سياستنا الخارجية بفضل المنظرين اليهود من الصقور..
  • هل ترغب في شاي آخر..
  • لا.. لا تتدخل.. الحساب عندي..
  • مثل كلّ مرّة..
  • أنا صاحب الدعوة..

جالت عيناه تحاولان اصطياد عيني النادل.. وقد أمسك كيس النقود الممتلئ بيده اليسرى..

  • دعنا نذهب إلى الصندوق..
  • انتظرني هنا..

مضى لمكتب الدفع في الزاوية المحصورة بجانب باب التواليت.. لم يتأخر كثيرا.. عندما وقفت أعدّل ثيابي.. كانت عيون الجميع تنظر نحونا.. لا بدّ أنهم استمتعوا بالحديث.. ربما العكس.. عندما صرنا خارجا قال..

  • هذا اليوم تحدثت في السياسة لأول مرة بهذه الصراحة.. تستطيع أن تعدمني..
  • لا يوجد اعدام في أميركا..
  • بالكهرباء رحمة..
  • على رأيك!..
  • ماذا تفعل هنا بقية الأيام..
  • أجول في الشوارع.. التقي بعض الناس.. بين المكتبات ومراجعات الطبيب.. ماذا عن أميركا..
  • الوقت والسلوك مرتبط بالمال.. أصحاب المال يستمتعون أفضل بالحياة..
  • ماذا عن الحركة العامة في المدن..
  • حياة عادية.. كل شيء خاضع للتنظيم..
  • أنت لم تجبني عن موضوع الأرقام..
  • لم تنسَ.... على فكرة.. عدد المتعلمين والمثقفين العرب ومستواهم جيّد..
  • لكنهم مغبونون..
  • قلت ذلك..
  • والامريكان غبنوهم أيضا..
  • العرب يلومون الأمريكان كثيرا.. لكنهم لا يلومون الانجليز.. الانجليز حكموا العرب منذ القرن الثامن عشر.. وهم الذين رسموا خريطة المنطقة وكل الوضع السائد.. وقلوب العرب متعلقة بلندن..
  • لكن الالفية الجديدة تختلف..
  • نحن حاولنا منذ الخمسنيات تعيير الخريطة السياسية.. لكن الحكومات الجديدة انقلبت علينا وعادت نحو لندن..
  • أتحدث عن الآن.. ما حدث في العراق مثلا..
  • لقد فشلنا في العراق..
  • هكذا.. بكل سهولة..
  • بكل صراحة.. أنا لست سياسيا.. لكني انسان..
  • هذا مرتبط بأفغانستان..
  • بإيران..
  • الاسلوب كان خطأ بالجملة.. وما حصل تاليا أثبت فشله..
  • تعني تسليم السلة للتيار الديني..
  • خشينا أن يحصل ما حصل في ايران..
  • ولكن هذا ما حصل أيضا..
  • حاولنا احتواء ايران وتفادي خطرها.. فخسرنا الأثنين..
  • على حساب العراق..
  • ايران لها نفوذ قوي في العراق.. قد لا تصدّق إذا قلت لك أن نفوذها في العراق أقوى من نفوذها داخل بلدها..
  • هذا يجعل التغيير الأمريكي في بغداد خطأ تاريخيا..
  • هذا ما قلته..
  • وماذا عن المثقفين والعلمانيين.. لماذا جرى تهميشهم..
  • تهميشهم لا.. لا تنس ان أداءهم السياسي ضعيف وهامشي في المجتمع.. ومع ذلك تركنا لهم نصف الكعكة .. ولكنهم انحازوا للتيار التقليدي وباعوا حقهم.. هذا كان مؤلما لنا..
  • ماذا كانوا يستطيعون أن يفعلوا في مواجهة الوضع..
  • لم يسخروا امكانياتهم في الداخل والخارج.. كان عليهم العمل المدني في الداخل.. وتدعيم دورهم اقليميا ودوليا.. وكانوا يستطيعون الانفتاح علينا وعلى مصر والروس..لقد تقوقعوا داخل أنفسهم واعتبروا ان حدودهم لا تتجاوز البرلمان أو الوزارات الهامشية..
  • من اختار التكنوقراط العلمانيين في مجلس الحكم..
  • التعبير غير دقيق.. لكن هذا كان المعروض.. وهؤلاء كانوا في الواجهة.. ولكننا انخدعنا بهم.. بالغوا في تصوير حجمهم.. وعندما صاروا في الداخل افتضح أنهم بلا حجم.. باعوا أنفسهم لايران ليحموا أنفسهم من الانتقام.. الواقع لقد خانونا..
  • ألم تكن لهم بدائل.. أفضل منهم ومقبولة في الداخل كما أعتقد.. لم يحصلوا على الفرصة..
  • بلى.. أخذوا فرصتهم وتنازلوا عنها أيضا.. انظر.. السياسة لا تنجح بالتنازلات.. السياسة تحتاج صقور.. ولم يكن هناك صقور.. كان ثمة فراغ سياسي.. شعبي وكارزماتي.. وايران ملأ الفراغ..
  • وانتم تتفرجون..
  • ليس تماما.. لكن الدور الأمريكي قبل التغيير كان سياديا.. في الداخل صار ثانويا وتابعا للعبة البيدر..
  • أنا عندي كلام كثير.. قلت لك بعضه حين الكارثة.. وحينها بقيت ساكتا..
  • أذكر ذلك.. معك حق.. ولكني أتحدث حسب حجمي.. أنا لست منظرا ولا سياسيا.. وما أقوله الآن يخص الماضي..
  • هل تعرف أن حوالي خمسة الاف مثقف عراقي علماني بين أكاديمي وأديب وفنان كانوا ضحية الاغتيالات والتصفية الجسدية المنظمة خلال عامين أو ثلاثة.. لم يصدر عنهم أي قرار دولي.. ولم تتعرض لهم جماعات حقوق الانسان الغربية.. عانوا.. ماتوا.. اهملوا.. ببساطة..
  • ملف حقوق الانسان تابع للخارجية..
  • والخارجية تتعامل حسب مصالحها وأطماعها في هذا البلد أو ذاك..
  • أتفق معك..
  • ان خسائر العراق في التغيير الأمريكي.. لا مثيل لها كما ونوعا في التاريخ المعاصر.. لقد اخترعت الخارجية كثيرا من الاكاذيب ضد النظام السابق، ولكنها أهملت كثيرا من الحقائق والمجازر والفضائح التي تتحمل مسؤوليتها المباشرة.. ضحت واشنطن بالعراق كله لتجعله جسرا لها ومفتاحا لدخول ايران.. فخسرت الاثنين معا.. ولكن خسارة العراق لا تعوّض..
  • للامريكان منظور آخر.. لكنهم قرروا رفع أيديهم من العراق عقب فشل مشروعهم ويأسهم من عمل شيء..
  • لم ييأسوا.. قرروا احراق كل المنطقة..
  • هذا يرتبط بمشروع آخر..
  • وماذا لو فشل أيضا..
  • لقد فشل هو الاخر..
  • وما ذنب العرب.. فئران تجارب أمريكية..
  • على الشعوب التغيير بنفسها من الداخل.. هذا هو جوهر موضوع هننتنغ..
  • الفشل المتكرر يؤكد عدم لياقة قيادة العالم.. فلماذا لا يعود الامريكان لحدودهم الطبيعية ويكفوا العالم من شرورهم وفواتير فشلهم الباهظة.. أم أنهم يهيئون الأرض للروس والانجليز..
  • القوة عمياء..
  • وماذا عن الارقام..
  • دعها لوقت آخر.. احتاج مزيدا من البيانات..
  • ماذا لديك غدا..
  • سوف أتصل بك..

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* صموئيل هنتنغتون [1927- 2008م] مفكر أكاديمي سياسي أميركي، عمل مستشارا سياسيا للرئاسة الأميركية منذ الخمسينيات. أسس مجلة (Foreign Policy) الأميركية عام (1970م) بالمشاركة مع وارن ديميان مانشل، ورأس تحريرها حتى عام (1977م). من ارائه ان تحديات النظام العالمي الجديد تتمحور في الاشكاليات الثقافية والدينية. وقد صنف في كتابه الرئيسي (The Crash of Civilizations)/(1993م) ثقافات العالم الرئيسة في ثلاثة أصناف، مرتبة من الأفضل حتى أكثر تصادما مع الغرب، واضعا الهندوسية والاسلام في نهاية المصنف.

 

(51)

منذ يقظتي هذا الصباح ومايا حاضرة في ذهني.. أراها تخطر أمامي.. تبتسم.. تقول أشياء.. أحاول التخلص منها والانشغال ببرنامجي الصباحي، فترافقني خطوة بخطوة..

عندما انتهيت من الفطور وكانت هي التي تدعوني دائما وتحضر لي شايا أخضر بدل القهوة التي تقول أنها مضرة بالصحة.. تجلب معها قطعة جاتوه.. ليست صغيرة في الواقع.. فأحاول دفعها للوسط، وقضم حبة منها وترك الباقي لها.. فتقول..

  • بليز أكل.. أنت تقتل نفسك.. دير بالك عله صحتك.. أنا أحتاجك!..

تتكلم مايا وأنا أرغم نفسي على الفطور الذي كنت أتجاوزه قبل رؤيتها.. وأنتظر وسط النهار لتناول وجبتي الرئيسة والوحيدة غالبا..

منذ رؤيتها وصحتي وطعامي شاغلها الرئيس.. تجلب لي طعاما في حقيبتها.. تقول أنه حصتي من فطورها أو عشائها يوم أمس.. أحاول مراوغتها وأدس الطعام في الحقيبة.. أنا أحتاجك.. تقول.. إهتم بصحتك بليز.. صحتي عندها كانت تعني الطعام.. لا أدري هل هذا صحيح.. أم أنها تستخدم الطعام لتوصيل رسالة..

ذات مرة أرادت أن تشتري لي ثيابا، بدل تلك القديمة التي أرتديها.. لم أحاول أن أخبرها أن الطعام والثياب ليسا مشكلة حياتي.. مشكلتي هي الوجود ذاته.. أنا أرفض الوجود، لذلك أهمل أسباب الوجود.. لا أبالي بصور الحياة اليومية التي ينشغل بها الآخرون..

قالت أنها تقرأ كيركجورد وجلبت معها نسخة من الكتاب ذات مرة.. لكنها لم تتحدث في الوجودية مطلقا.. ولم يعنها وجهة نظري الخاصة..

بالنسبة لها كنت طفلها بالتبني.. ومنذ لحظتها الأولى بدأت تفرض عليّ برنامجها الخاص في الطعام والثياب والتفكير.. كرش صغير يجعل الرجل مغريا.. لا بأس أن يكون لك كرش صغير.. حتى تلك اللحظة لم أكن قد قلت لها وجهة نظري في شكلها.. كانت هي التي تتحدث دائما.. كان حديثها جميلا دائما.. تسأل وتجيب لوحدها.. وتعد كثيرا.. في الليل أصفّ وعودها الواحد بعد الآخر.. وأنسب لكلّ وعد عمرا زمنيا محددا.. وجدت أنها قد حجزت خمسة عشر عاما من المستقبل.. هل صحيح سوف تفرغ من مشاغلها وتمنحني ذاك المستقبل..

  • لا تستعجل.. كلّ الأيام أمامنا..

يا لوعودها السلسة..

معها كنت أسير على أسفلت من العسل..

لابد أنها ستتصل اليوم.. ما معنى إلحاحها على ذهني بهذه الصورة..

كنت وما زلت معتقدا تماما بالباثولوجي.. ولا يمر أحد في ذهني حتى أراه أو يتصل بالهاتف.. هل تأتي مايا اليوم.. لقد أختفت من غير إنذار.. ولم يحاول أي منا كسر القطيعة..

هل تغيّر شيء.. هل ما زالت في البلاد.. هل تغيّر عنوانها الأخير..

لم يكد الظهر يتقدم حتى ارتديت ثيابي وخرجت بلا تعيين..

لا بدّ أنها ستكون في مكان ما.. إن لم تنتظرني أو تتصل.. فلا بدّ أن نلتقي مصادفة..

أعرف أين تلتقي في العادة.. محلات البوتيك والسكند هاند.. آخر مرة رأيتها عند أسواق بريمارك .. وذهبت الى الهدف..

 

(52)

عمود طويل مطروح على الأرض بشكل مستطيل.. في وسطه ممرّ طولي بعرض متر ونصف.. ويفصل صفين من حجرات متساوية المساحة متشابهة الأبواب وبقياسات ثابتة.. في الممر يلعب الأطفال بما يتاح لهم من أدوات.. تجتمع النساء للحديث والنميمة.. الرجال يذهبون ويعودون.. في نهاية الممرّ شخص أفريقي وضع فراشه على الأرض ونام.. هذا هو كمب اللجوء..

بين أولئك الصبيان كان اثنان منهم يقودون عربات كهربائية بسرعة من طرف الممرّ حتى نهايته.. يراوغان الناس بين أقدامهم.. لابدّ أنهم من عائلة ميسورة.. ما الذي جاء بهم في هكذا انبوب استخدمه النازية معتقلات للأسرى..

قالت امرأة تتصدر مجموعة نساء على يمين الممرّ.. أنهم من الكنيسة.. وهل تسمح الكنيسة بهذا التسيب.. عادت النساء لحديثهنَّ.. واستمر الأطفال والصبيان في عبثهم.. والأفريقي في نومته على الأرض.. كان هناك أيضا آخر عرفته سابقا.. وشخص ينظر ولا يتكلم.. في نهاية الممرّ كانت درجات السلّم.. تذكرت موعد توزيع الطعام.. فاتجهت نحو المطعم..

على يمين المدخل كانت صينية عليها صحن فارغ وكوب شاي مع صحنه.. أخذتهما بيدي وكان توزيع الطعام في أوله.. أحبّ تلك الصفة العمومية للأكل الشعبي.. ملأ الموزع صحني بالرز والمرق وزاد عليه.. قابلتني فتاتان تحملان الفاكهة والخضرة.. وسألتا ماذا أفضل: قلت البندورة!.. وكانت احداهما تحمل البنورة والأخرى تحمل التفاح.. فدخلتا في حديث بينهما.. يبدو أنهما لن تخرجا منه.. فقلت.. إعطني تفاحا.. فعادتا تتساءلان كم تفاحة يمكنه أن يأخذ.. طلبت أثنتين..

مضيت أبحث عن طاولة أتناول طعامي عندها.. معظم الطاولات مشغولة ببشر يأكلون أو يتحدثون أو يقرأون.. على بعضها أدوات الطعام السابقة لم يرفعها أصحابها معهم.. طلبت من أحد الشباب أن يزيح أوعية الطعام لأستطيع الجلوس.. كان يقابله شخص في مقتبل العمر يدرس في كتاب.. وأوحت عيناه بالاستجابة ايضا..

خرجت إلى جانب المدينة.. تقودني خطواتي كما يقال.. أصبح الشارع ضيقا يحاذي نهرا طويلا.. والجانب الآخر منه صف من بيوت متباعدة.. كأنها بلا سكان.. لكن المكان لا يخلو من وحشة.. السيارات تسرع في الاتجاهين.. كان معي طفلان.. بنت وولد.. البنت كبيرة والولد في عامه الثاني.. كلّ منهما يمسك بواحدة من يديّ.. زعل الولد لسبب ما فلم أتوقف معه.. كنا اقتربنا من سوق.. عندما لحق بي صبي ومعه الولد الذي بقي واقفا هناك.. شكرت الطفل الذي يسكن أحد تلك البيوت التي بدت خاوية..

قالت الفتاة أنها تريد نوعا من الحلوى أتجهت اليها مباشرة.. وأردت أن نقصد محلا آخر عرض حلوياته في الأمام.. أخذت للفتاة ما أرادته.. وعدنا لأشتري لهما (بوظة) من محل آخر.. قال رجل عجوز وهو صاحب محل على الطريق.. الاطفال لا يعرفون.. لا تتركهم يفرضون ما يريدون وما لا يريدون.. ابتسمت له شاكرا نصيحته.. وواصلنا طريقنا..

 

(53)

بسرعة الخاطر مرّت السنوات الأثنا عشرة منذ وصولي إلى لندره.. السنوات الأكثر حمقا في حياتي.. بحيث لا يضاهيها في الحمق غير ولادتي نفسها.. لا أدري كيف تشكلت صورة القدوم.. وكيف تحققت بتلك الصورة الجهنمية .. لو كانت على صلة بالصواب..

كنت أبحث عن مخرج وجودي من مأزق نفسي مع عبور الألفية.. لم أخمن إطلاقا أني سأعيش ذلك العبور القاتل .. عندما يصبح التاريخ ثلاثة أصفار متجاورة على سكرين الساعة..

وكما قال أجدادي القريبون.. أن تلك الأصفار تعني انقلاب الزمان وانطباق السموات على الأرض.. لم يصدق أحد تلك الأمور.. ولم أتصور أنا بامكانية رؤيتي ذلك يحدث.. لكنه حدث.. حدث.. وعندما حدث لم يره أحد ولم تنتبه له وسائل الإعلام وأجهزة الأرصاد وشبكات المخابرات والإستخبارات التي تملأ الأرض والسماء وما بينهما..

بقيت تلك الليلة ساهرا أمام النافذة أراقب الأفق والسماء وراءه.. كنت أنتظر حدوث شيء ما.. أو نزول شيء من السماء.. أو سقوطه على الأرض..

نعم لقد سهرت.. رغم أن النعاس هطل عليّ ليلتها كما لم يحدث أبدا من قبل.. كنت أساهر وأقاوم النعاس كجندي ينتظر هجوما وشيكا.. تحدثت مع الله تلك الليلة.. وراودتني أفكار وأوهام متنوعة .. وفي كلّ مرة أعود مقهورا للتشبث بالمجهول الفاعل وراء الغيب..

عندما بان الخيط الأحمر قلت.. أن الساعة آتية لا ريب.. لقد تناهى الليل وتناهى.. واللحظة تنفتح أبواب السموات .. وينشق جلد الأفق كما انشق حجاب الهيكل من فوق إلى تحت.. أرتفعت أصوات الجلبة والهمهمة وقرقعة المطبخ وزقزقة الأطفال.. وكانت تلك الساعة الأولى من اليوم الأول من الشهر الأول من العام (صفر) بعد الألفين..

أما أنا فقد أصبت بانقلاب أحشائي.. وبقيت أتقيأ لأيام بغير توقف رغم فراغ معدتي.. وعدم الرغبة والقدرة على تناول أي طعام.. نزل وزني خلالها عشرين كغم مرة واحدة.. عدت معها لاستخدام ثيابي القديمة جدا التي كان لونها قد بهت.. وقلت مع نفسي.. لون ثيابي مثل لون الألفية باهت وغاية في الخيابة.. واستفدت كثيرا من عدم معرفة الناس والجيران لشكلي الجديد بعد الانهيار الصحي..

عندما نهضت من مكاني أمام النافذة.. لم أجد الأرض تحت قدمي.. كانت عبارة عن عجين أو غرين سائل طيار.. لا أدري.. أدق قدمي في موضعها لأتحسس الأرض.. لكنها هربت.. ماعت.. ومن يومها.. لم تعد أرض.. ولا وطن ولا سكن ولا أمن أو أصدقاء.. هكذا وجدت نفسي في لندره..

تساوت اليابسة مع الماء.. والتراب مع الهواء.. الناس غير الناس.. المدن غير المدن.. السيارات والطائرات تشابهت.. وسكانها حشرات متشابهة.. مجرد حشرات.. حاولت تركيز سمعي لأفهم ضجيج سكان الطائرة الرخيصة التي أستقلها..

لم ألتقط منها كلمة واحدة من جملة اللغات التي أجيدها.. عندها تأكد لي ما سمعته في طفولتي أنني وسط أقوام من الجنّ.. جنّ والعياذ بالله!..

لا ادري ما علاقة ذلك بوصولي الى لندره؟..

 

(54)

آخر مرّة رأيت فيها صديقي الأمريكي كانت عام (2013م).. لم نكن التقينا من عامين.. عندما رأيت رسالته في التلفون.. أسرعت إليه بالجواب.. وهكذا اتفقنا أن نلتقي.. في باحة فندق الهلتون في أجورد رود.. في كلّ مرّة أراه.. يعرفني قبل أن أعرفه.. هل كانت صورته تتغير.. أم ملامحه تستعجل الهروب من ذاكرتي.. سألني إن كنت أرغب البقاء هنا أم الذهاب لمكان آخر.

نخرج من هنا.. قلت.. كانت معه حقيبة صغيرة، سأل هل يأخذها معه أم يتركها في الحجرة.. هذا متوقف عليك.. هل تحتاجها في الخارج.. لا.. أراد أن يتركها في الحجرة.. صعدنا سوية.. وقفت خارجا.. قال يمكنك أن تأتي.. قلت له قد احتاج الحمام.. كان في الحجرة.. دخلت الحمام.. وعندما خرجت.. استأذن هو أيضا لاستعمال الحمام.. انتظرته..

هذه أول مرّة أرى فيها الهلتون من الداخل.. فوضى وعدم نظافة.. متى يأتي التنظيف.. الأرضية والأثاث لا تستحق نصف عدد النجوم هذه.. نزلنا في المصعد الكهربائي.. هو يحبّ الطوابق العالية.. يقول أنه يرى المدينة أفضل من فوق.. المدينة تراها أفضل من تحت.. من فوق ليس غير التزويق وتبذير الطاقة..

سألته عن انقطاعه عن الزيارة.. قال أنه لم ينقطع.. أين.. هل جئت.. جئت واتصلت بك.. وأنت لم ترد.. ربما كان التلفون مغلقا.. هل كتبت بالايميل.. عرفت أنه كان زعلانا.. قال أنه أراد أن يجرّب مرة واحدة.. عند عدم الردّ لن يتصل ثانية.. لحسن الحظ رددت مباشرة.. هل تجربني أو تشكّ فيّ.. لا هذا ولا ذاك.. بعد الآن أكتب لي باسبوعين قبل وصولك.. وسنقضي كلّ الوقت معا..

كانت لديه مشاوير في لندره قضيناها سوية.. يعرف مناطق قديمة على الخريطة لا أعرفها أنا.. يضحك وهو يقودني إليها ويقول.. أنظر.. أنها هنا.. هو يحبّ الطعام الشرقي.. ذهبنا لمطعم لبناني.. في مرة قديمة ذهبنا إلى مطعم تركي في كلبرن.. ذهبنا إليها مشيا.. وعدنا مشيا..

كانت في المطعم عاملات رومانيات.. تحدث إليهن بالرومانية.. ومع الأتراك تحدث بالتركية.. ومعي يتحدث بالعربية.. انتهى من طعامه قبلي.. وذهب للحمام.. قمت لدفع الحساب، فوجدت يده تمتد من ورائي بعملة ورقية من فئة العشرين.. كان هو أطول مني.. عاتبته.. قال.. انتهينا..

في اليوم الثاني التقينا أيضا.. كان ذلك آخر يوم له.. وطائرته تنطلق في الليل.. ذهبنا إلى أوكسفورد ستريت.. نشرات الأضوية تغطي فضاء الشارع.. والمحلات تتنافس في ديكوراتها الضوئية.. كان هذا استعدادا للكرسمس.. استعداد لموسم البيع..

العام الفائت بلغت المبيعات ثلاثة مليارات.. لكن أصحاب المحلات قالوا أن الموسم كان دون الطموح.. ماذا سيقولون هذا العام.. يقول أنها جميلة بسبب الناس وكثرة القوميات والثقافات.. لكن لندره ليست أفضل مدينة.. مجرد مدينة هندية تقع على خطوط الطيران بين الشرق والغرب..

يستريح فيها بضعة أيام خلال رحلاته الطويلة بين أسيا وأميركا.. عندما عدنا للفندق كان المساء متأخرا.. ماذا ستفعل.. هل ستنام.. ليس لديك وقت كثير لموعد الطيران.. أجاب بعاديّة.. طبعا سأنام.. الفندق لديه علم.. سوف يوقظونني وينقلني التاكسي للمطار.. توادعنا وداعا شرقيا.. وألححت عليه ان يكتب لي عند الوصول.. نبقى على اتصال..

 

(55)

قلت مع نفسي هذه لعبة ذكية.. بدل أن تتبع القدر.. أجبر القدر يتبعك.. وبدل الخضوع له، أجعله يخضع لك.. هذه مشكلة عويصة أعيشها جراء معتقداتي القدرية التي تتعب نفسي.. أذكر أنني قلت له ذات مرّة قبل أكثر من عشر سنوات.. وكنت أحضر سمينارات روحية في البوذية والمسيحية.. يومها كان وضعي أفضل بكثير من اللحظة.. قلت له: لقد عرفت أشياء كثيرة في مجال الروح والأرقام وألغاز الحياة.. لكني لم أعرف أهم شيء.. كيفية تغيير القدر..

هو يرى أن يتصرف المرء حسب مجرى الحياة متبعا نصيحة سبنسر(*).. لا يفكر في أي شيء صحّ أو غلط.. وممارسات الحياة عموما مرة تصيب ومرة تخيب.. والذي يفكر ويتحذر يكون أكثر عرضة للخطأ والفشل.. وهو على حق.. لكني كنت عاجزا عن ايقاف عقلي عن التفكير..

قلت للطبيبة التي أعرفها منذ وصولي للبلاد.. جوابا على سؤالها عن مشكلتي: مشكلتي التفكير!..

  • كلنا نفكر.. كل شخص يفكر.. هذه ليست مشكلة.. هذه ميزة..
  • أنا أفكر كثيرا.. أفكر في كلّ شيء.. في أصغر شيء.. حتى الأشياء التافهة وعديمة المعنى تستغرق فكري..
  • لا يوجد شيء تافه.. يمكن أن تكون عالما أو فيلسوفا..
  • أنا تعبان من نفسي .. أريد شيئا يساعد على وقف التفكير..
  • لا يوجد مثل هذا الشيء..
  • ....
  • وقف التفكير يعني موت الدماغ.. وإذا مات الدماغ يموت الانسان..
  • وهل من إكسير يساعد في ذلك..
  • ليس لدينا ما تبحث عنه..

عندما غادرتها سلّمتني ورقة تحويل على مستشفى النفسية.. بقيت هناك لمدة ثلاث سنوات.. كلها تكرار كلام وملء استمارات ووصايا رياضية.. وفي التقرير النهائي ذكروا أن مشكلتي تتعلق بالسكن وعدم الاحساس بالأمان.. وهذه المشكلة ليست من اختصاصهم.

في تلك المستشفى تعودت تسجيل أحداث حياتي على شكل قصة.. أكتب كل ما أستذكره.. كلّ ما يخطر لي.. كلّ ما أعتقد أنه حصل.. وربما أشياء لم تحصل تبدو كأنها حصلت.. وفي كلّ مرة يزداد نبض تفكيري.. يزداد تركيزي على تفاصيل دقيقة.. ولأني مولع باللغة والقواميس من صغري.. فقد صرت أدرس كلّ كلمة وأحاول تحليل معناها ومغزاها وجذرها الأصلي..

أغفو وأنا أفكر.. أحلم وأنا أفكر.. أصحو وفكري محتشد بالأفكار.. الدفتر قرب وسادتي.. أحيانا أضعه تحت وسادتي حتى لا يرفعه أحد من قربي.. أو أتعثر فلا أجده خلال العتمة.. وقبلما أنتهي من القصة.. أعتقد أن هناك أمورا لم أكتبها.. وأمور لم تكن كما كتبت.. وهكذا أبدأ في الكتابة من جديد.. وبشكل مختلف.. وهكذا يتكرر ذلك مثل الكابوس..

كتبت حياتي أكثر من مرّة.. أكره مراجعتها من كثرة التكرار.. أكره استذكار مكان وجودها فأدفنها تحت الكتب وأكداس الجرائد.. أضع عليها ثيابا لا أحتاجها.. وعندما تصل يدي بغتة كما الآن.. أكاد أتقيأ من كثر الاجترار.. أنا لم أعش حياتي مرّة واحدة.. لقد عشتها وكررتها مثل قرص الكازينو.. يدور ويدور ويدور حتى ليبدو أنه توقف عن الدوران أو اختفى نهائيا.. وعندما أفرك عيني يمثل أمامي مرّة أخرى..

تعبت من حياتي في الواقع.. وتعبت من الناس الذي عرفتهم في حياتي.. وتعبت من ذاكرتي التي لا يغيب عنها شيء.. حتى الكلمات وملامح الوجوه والتقطيبة أو رنة الصوت والسخرية.. ما هذا.. ما قيمة ذاكرة تشتغل مثل جهاز تعذيب..

تمنيت أن تفيد الذاكرة في مجال العمل أو العلم أو الرياضيات.. لحققت شيئا من التفوق في حياتي العملية.. لو كان لي عمل لبرمجت يومي وتخلصت من الفراغ الذي يزيد تفكيري ورهقي النفسي.. لكني معوق عن كلّ ما يربطني بالمجتمع والناس.. محكوم بقدر شاذ يهدد كل ما أفعله بالفشل أو الضياع..

أنا أيضا تعبت من الوحدة التي تحرمني من رائحة الانس ومن دفء الألفة!..

أحيانا يخيل لي أنني (نبي) مثل ايليا أو يحيى يعيش في أرض مهجورة.. أو مثل بوذا جالسا تحت شجرة لوتس في برية مقطوعة.. أو زرادشت على ذروة جبل ينظر للسماء.. وينتظر أن يصدر منها صوت وتجيبه على أسئلته.. في هذه المدينة النمساوية الواقعة وسط مناطق جبلية..

لكن السماء ليست قريبة.. والغيوم لا تفارقها.. وأغصان الأشجار عالية وكثيفة.. تحجب رؤية السماء.. لا سماء زرقاء هنا غير خداع بصري.. والأنبياء ماتوا ولم يعمّروا.. كثير منهم مات قتلا. الواقع أنني لا أرى سببا ينتهي بي للقتل أو الاعدام أو حتى للسجن..

بعض الناس الذين أعرفهم هنا يمتدحونني.. وأنا لا أهتم لهم لأنهم مجاملون في الظاهر.. ويتجنبون التماحك.. تحيتهم من بعيد.. وابتسامتهم متكلفة ومجاملتهم سيناريو جامد ولا يستغرق بضعة ثوان مثل التايتل او الدعاية قبل الفيلم.

لهذا قررت أن أكتب للمرة الأخيرة.. لانهاء القصة التي مللت من امتدادها واجترارها بلا معنى.. وفي داخلي قناعة لا بأس بها.. أن البطل سيموت قبل نهاية القصة.. بمثل هذا العزاء أتشدد لأكتب. فلا تزهق سريعا مني كلماتي.. فعما قريب.. يصبح الكلّ ماضيا بالنسبة لنا نحن الأثنين.. البطل والجمهور.. وسوف تنزل الستارة وشيكا ويسود المسرح ظلام قاتم..

بعد أن يخرج الجميع.. الجميع تماما.. سوف تغرق الصالة في نور باهر.. وتنسحب الستائر الكتانية للآخر.. حتى لا يبقى لوجودها أثر.. والشبابيك والأبواب تنفتح حتى أقصاها.. فلا يبدو لوجودها أثر.. وسوف تتحد الأبدية بالواقع الذي شبع موتا.. عندها يكون كل منا في مكان مختلف.. وسوف تعود أنت لحياتك العادية..

ولتسهيل المهمة يمكنك تدخين سيجارة عابرة.. أو تناول زجاجة بيرة مثلجة.. أو محادثة امرأة تنتظر في موقف الباص.. ربما لا تنتظر.. جالسة هكذا في انتظار غودو.. غودو وحده الذي يتحمل مسؤولية كلّ ما جرى لنيتشه وشيللر(*) ويجري لنا.. وهو الذي ضحك علينا جميعا.. وسوف يستمر في استثماراته الساخرة ومطّ ضحكته التي لا يقلده فيها أحد..

نيتشه نفسه الذي نشترك معا في غواية الشعر والتفكير والفلسفة العجفاء.. كان حظه أفضل مني.. ليس لأنه عاش أكثر حياته في منتجع نفسي، ولكنه عرف أيضا أن يضع حدا لمهزلة عقوده العمرية.. مكتفيا بسنواته الخمسة والخمسين.. فضلا عن أن أخته استمرت معه وبقيت تعنى به حتى آخر أيامه.. وهي التي جمعت كتاباته وأعتنت باخراجها بعد رحيله. لقد أعطته حياتها.. ولم تحرمه من حنانها ورعايتها.. وهذا عكس ما حصل لي..

لقد تجاوزت سنواتي دوائر نيتشه، رفضت من المشفي النفسي بعد ثلاث سنوات.. ورفضت أختي أن تعرف عني أي شيء منذ نهاية الحرب.. حتى رسائلي لا ترد عليها.. لقد انتهت حاجتها لخدماتي.. وبكلمة أصح.. تريد من يخدمها.. لا شخصا تخدمه!..

رجال هذ الزمن مخدوعون.. تغرّر بهم النساء بكلمة أو بسمة أو لمسة حنو.. ومن بعدها الاستغلال والطمع والغيرة والخداع.. الرجال أيضا هم أصحاب تلك الأفكار الوهمية عن حنان المرأة وطيبتها وبراءتها وقدسيتها ومظلوميتها ووووو..

ولا نسأل لماذا نحن اليوم هنا.. ما الذي أنزلنا للأرض الصحراوية التي تبتلع كل شيء.. لماذا لم يبق آدم في فردوسه.. وكفانا شرّ البلية التي لما تزل تحتال كيف تلف ذيلها علينا ونحن نهرب منها فيها وإليها..

أنا لم أجد امرأة تمتدح رجلا بغير طمع.. بل الشائع ملامتها له.. أما المغرور والمغرّر به فهو يمتدحها.. حياء أمام الناس وطمعا في لحظة دفء.. هذه حياة لئيمة يا سيدي!.. وأنا وجدت بالغلط.... يقول شاعر نمساوي ولكنه ليس صديقي.. [هنا لا يحدث شيء.. في مكان آخر يحدث كلّ شيء.. هناك ينبغي أن يكون المرء.. من؟.. أنا؟.. لا.. مطلقا.. لقد رأيت ما يكفي.. أنا أفرك جبين.. منذ مدة طويلة أصبح صيف حياتي ماضيا]..

لماذا يحدث كلّ شيء في مكان.. وفي مكان لا يحدث شيء.. أين هي فكرة التوازن والتناسق الطبيعي إذن.. أين هي عدالة الطبيعة.. أم أن الطبيعة لا تعترف بميثاق حقوق الانسان..

كاموك أيضا قضى عمره القصير يقفز من جنوب المتوسط لشماله.. ومن شماله لجنوبه.. يجرّ سفينة عمره من الجزائر حتى ليون.. فإذا وقف عادت السفينة جنوبا مثل صخرة سيزيف.. هل هذه سفينة أم صخرة.. أقصد حياة.. وبالنتيجة.. لا هو انفصل عن أمه.. ولا التحق بأبيه.. ولا وجد امرأة تعوضه الأثنين..

نحن على الأقل تخلّصنا من الأب.. وتخلّصنا من الأم أيضا.. ومن كلّ شيء.. ولكنا لم نتخلص من الذاكرة.. كيف نتخلص من التفكير.. ونحن في وسط البحر..

ــــــــــــــــــــ

    • هربرت سبنسر [1820 – 1903م] فيلسوف انجليزي، عاش أكثر من نصف حياته مريضا عاجزا، فخصص له المجتمع الأدبي ميزانية لتغطية نفقاته لقاء انجاز موسوعية فلسفية حول علاقة الإنسان بالكون والطبيعة والحياة اليومية. لم يستطع ادراك السر وراء الديناميكا التي تحرك المادة، وفي اخر كتابه انتهى لنص الديني التقليدي. وجد أن الحياة عبث وعدم، ومن الأفضل أن يعيشها المرء دون أن يفكر أو يعرف الكثير.
    • الشاعر النمساوي رتشارد وول من مواليد شمالي النمسا/(1953م).. وهو فنان وشاعر ومؤلف، يتنقل بين النمسا وايرلنده. له عدة اصدارات عن الفيلسوف لودفيج فتجنشتاين والروائي جيمس جويس. والنص من مجموعته (Streith) الصادرة عام (2014م)- قصيدة صباح صيف راقي، والأصل بالالمانية:

Hier geschieht nichts, Woanders geschieht alles. Dort müsste man sein. Wer? Ich?Nein, nicht mehr. Genug gesehen. Ich runzle die Stirn. Mein Sommer ist längst vorüber.

    • فردريك نيتشه [1844- 1900م] شاعر وفيلسوف ألماني، صاحب كتاب (هكذا تكلم زرادشت). اصيب بعوق في شبابه وعاش كل حياته في رعاية شقيقته. وفردريك شيللر [1759- 1805م] هو الآخر شاعر ألماني رومانسي حظى بحب ورعاية زوجته وشقيقتها، ساعده غوته في تعيين مدرسا للتاريخ في جامعة يونا/ فايمار.

 

(56)

لندره تتغير.. الشوارع تتغير.. الناس يتغيرون.. لم يعدْ شيء على حاله.. أعرف أني ما زلت أنا منذ دخلتها.. لكنها هي ليست كما كانت [any more!].. لقد تغيرت وخسرت روحها.. باعت نفسها للشيطان حسب تعبير احسان عبد القدوس(*).. بل صارت هي نفسها الشيطان.. ولا أدري ماذا أكون أنا إذا بقيت هنا..

حتى وقت معين.. لا أستطيع تحديده الآن.. كانت الحياة ما زالت تعني شيئا.. أي شيء.. لكن.. عندما يقع انسان من علو مرتفع.. [كجلمودِ صخرٍ حَطّه السيلُ من عَلِ](*)..

يتحول العالم لديه إلى لحظة.. والحياة إلى نقطة.. مجرّد نقطة..

ولا تعني نفسه عندها غير حشرة.. أي حشرة بلا معنى..

أنا الآن تلك الحشرة(*)..

كلّ ما في الأمر أنني لا أعرف لماذا أنا موجود.. ولا أعرف أيضا كيف أموت!..

كم من الناس الذين يسيرون في الشارع يشعرون أنهم (حشرات)!.. حشرات لا تدرك معنى وجودها.. ولا تريد لوجودها أن يستمر هكذا.. ولا تقدر على تقرير مصيرها..

في هذه الحال يأتي دور الطبيعة.. أعني كوارث الطبيعة غير المخططة.. بما فيها حرب شاملة أو وباء سريع مثل الايبولا أو مرض الطيور.. لماذا لم يظهر وباء الحشرات في لندره.. يقال أن الحشرات أدوات ناقلة ومسببة للأوبئة.. لكن أحدا لم يمت بسبب حشرة.. ورغم كثرة الحشرات التي تتعرض للدهس والقنص والسحق والإبادة بالغازات والسوائل البشرية.. فلم تنقرض الحشرات من الوجود..

لم يهتم أحد من الرويال فاميلي بحماية جنس حشري من الانقراض.. لا أعني سكان استراليا الأصليين ولا الهنود الحمر طبعا.. الحشرة هي أكثر كائن يستحق الاهتمام والرعاية لأنه لا يعرف معنى لوجوده.. ولا يلذه شيء من الوجود.. ويقال أن غرض وجوده هو مجرد حفظ توازن العناصر الحيوية في الطبيعة..

اذا انقرض نوع معين من الحشرات.. أنا مثلا.. قد يختل توازن النظام الطبيعي.. وعندها يشح الماء أو الهواء أو يزيد أحدهما فوق المحدد.. مما يهدد حياة المافيا ونشاطاتها غير السرية..

نفسه فرانتز كافكا التشيكي لو كنت قد عرفته سابقا.. أو رايت وجهه المجدور في سوق الغزل، لم يكشف مصير نفسه (الحشرة) في قصة (المسخ)..

يبدو أنه انتظر طويلا داخل الحجرة لكي يتخلص من فواتير الايجار.. وعندما شعر باليأس من رحمة الطبيعة قرر انهاء حياته.. أعني وجود الحشرة.. بيده أو بقدمه أو بقلمه.. وعندما عرضت المرأة صاحبة النزل محتويات حجرته للنفايات.. كانت تلك الرواية في كارتون يضم أوراق ودفاتر في حال من فوضى.. لم تكن بالنسبة للمرأة الفارغة غير فواتير وكمبيالات غير مدفوعة فخشيت حضور من يطالبها بقيمة الفواتير باعتبار المدين/ المجرم الهارب نزيلا عندها..

هل لاحظت أن الرجال وحدهم يتحولون إلى حشرات.. ويموتون مثل الحشرات مدعوسين.. تحت أقدام المجتمع أو الدولة أو المافيا.. فيودور ديستويفسكي(*) كان يكتب قصصه في الجريدة مجانا.. لدفع فواتير الإيجار التي لا تعرف التوقف.. أما النساء فيرثن الأرض ومن عليها..

كلّ البيوت والفنادق منذ قصة راسكولينكوف إلى مسخ كافكا تملكها نساء.. بل أن جلجامش/(*) نفسه كان نزيلا في فندق سيدوري البغي.. ومات في طريق هروبه من عشتار التي أرادت أن تحصره بين ساقيها وتساويه مع البستاني..

جلجامش قال أنا لست بستانيا ولا أزرع لها أشجارا.. أنا جلجامش باني المدن والأسوار.. لكن المرأة لا تريد مدينة.. لا تريد سورا.. تريد أن تبقى حرّة.. تكون هي نفسها المدينة التي يدخلها الناس ويخرجون.. تحضنهم أو ترميهم للشارع أو تطردهم للصحراء..

عشتار لا تحبّ الأسوار ولكنها هي السور الذي لا تريد لأحد الخروج منه ولا البقاء خارجه.. تذكرت ذلك كلّه عندما قالت لي مايا بالتلفون أنها تحبني.. فقط بالتلفون تكون مايا طليقة.. طليقة المشاعر.. وعندما شككت في كلامها.. قالت: صدقني.. أنا دائما أدافع عنك.. وأحميك مثل (حائط).. أنا حائط لك.. أنت لا تعرف ما فعلته لأجلك..

كانت تلك معلومات جديدة بالنسبة لي.. لا أدري ان هناك ناس تهاجمني وناس تدافع عني وأنا نائم جنب الحائط ورجلي بالشمس.. الحائط هذا أعرفه.. لأنه الشيء الوحيد الحقيقي في الحجرة.. التصق بالحائط في الصيف وأمتصّ كل برودته.. لا أحد يعرف أهمية الحائط عندي..

الآن تقول مايا أنها (حائط) لي.. ولكن يا مايا.. وانقطع الصوت..

الرجل لا يملك لأنه حشرة.. حشرة تحلق في الفضاء.. يلتصق على عسلة الأنثى حتى يموت مثل ذكور النحل وتركله بعيدا عنها.. وترث الملكة عندها الأرض والمال والبيت والسلطة!..

كلّ النساء يرثن رجالا.. ومن لا يورث تتهمه باغتصابها.. وتطالبه بتعويض قضائي أو فضائي.. في الميديا قصص كثيرة منها.. أول سبعة وثلاثين شخصية في قائمة الاثرياء من النساء تحت الاربعين.. لم يرثن سنتا واحدا منها.. وانما كلّه بالعرق والجهد..

إحذر وأنت تسير في الشارع أن تدعو امرأة حشرة.. أنها ستفترسك حيا.. وفي حماية القانون والبوليس والقوات الدولية.. إنما إذا رأيت امرأة حشرية إرفع صوتك واعترف أنك الحشرة.. مجرد حشرة بلا معنى.. عندها تنجو من أنياب الأنثى.. وتخلص من دفع الفواتير..

المرأة والدولة وشركات المافيا تشترك في أمرين: السلطة وقبض الفواتير..

ــــــــــــــــــــــــــ

    • احسان عبد القدوس [1919- 1990م] روائي مصري، تخرج في كلية الحقوق/(1942م)، رأس تحرير روز اليوسف/(1946م) وأخبار اليوم [1966- 1968م] ثم رأس مجلس ادارة وتحرير اخبار اليوم/ [1971- 1974م]. وهو ابن روز اليوسف [1897- 1958م] الممثلة والكاتبة المصرية من اصل لبناني (طرابلس)، التي اصدرت مجلة (روز اليوسف) الفنية (1925م)، ثم صحيفة (روز اليوسف) السياسية (1935م)، ومجلة (صباح الخير) الفنية/(1956م). بلغ عدد سرديات احسان عبد القدوس الستمائة، من بينها سبعون عملا تحولت إلى افلام وأعمال تلفزة.
    • بيت الشعر القديم هذا للشاعر امرئ القيس خندج ابن عمرو بن اكل المرار [501- 565م] ملك كندة في نجد وأول شعراء المعلقات، ويقال أنه اول من استوقف ربعه للبكاء على الأطلال، وأنه أول من ثنى المنادى في الشعر، بعدما اعتاد الشعراء نداء المفرد، ومطلع قصيدته: قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل.. بسقط اللوى بين الدخول فحومل. ويحفل شعر باسماء المواقع الجغرافية وغلبة التوصيف.
    • (الحشرة) هنا هي كناية عن فكرة رواية (المسخ/التحول)/(1915م) للروائي التشيكي فرانتز كافكا [1883- 1924م] الذي كان يكتب بالألمانية. ولكنها وصف الانسان بالحشرة/ الدودة يرد أيضا في لغة يسوع الناصري نقلا عن سفر ايوب والمزامير.
    • فيدور ديستويفسكي [1821- 1881م] الأديب الروسي العظيم صاحب روايات: الأخوة كارمازوف، الأبله، الجريمة والعقاب، وغيرها.
    • جلجامش: هو جلجامش بن لوجالباندا وأمه (ننسون)/ (البقرة السماوية) ملك أوروك في العصر السومري، وأسم بطل اسطوري في ميثولوجيا النهرين القديمة. وباسمه دعيت الملحمة الشهيرة التي تعتبر أقدم نص أدبي شعري في العالم، تم العثور عليها حديثا في العام (1853م) في موقع أثري قديم في مكتبة اشور بانيبال [669- 627 ق. م.] في نينوى، وتقع في (12) لوحا مكتوبة باللغة الأكدية، وتوجد الالواح في المتحف البريطاني بلندن.

 

(57)

لست مجنونا بالتأكيد.. ربما كانت لي بعض صفات أو طبائع مجنون.. لكن ذلك أمر عادي.. فأنا أيضا أرفض أن أشبه الآخرين.. هؤلاء الذين لا يهمهم غير الطعام والثياب.. منذ إسبوع والراديو مشغول طيلة الوقت بوفاة كوميديان بريلانت.. جنتلمان.. انتيرتينر.. كيف ألتقى مع الملكة في عيد ميلادها الكذا بعد التسعين او المائة..

كولن ولسن(*) مات قبله ولم تنقل عنه الميديا كلمة.. أين المفكرون والفلاسفة من الميديا ويوميات الناس.. العلماء وأصحاب الرأي مدفوعين للهوامش.. الناس مشغولين بالممثلين وعارضات الأزياء وفضائح السياسيين الأخلاقية.. وبالطبع أزمات البلدان الأخرى.. العقل المفكر يهدد العقل السياسي الحاكم.. ويفتح عيون الناس على أسئلة وفضائح..

مايا تريد أن تجعلني مثلهم أهتم بالثياب والطعام وأدور معها بين المطاعم وأسواق البوتيك.. تريد أن تكون لي مكتبة أحذية من الأنواع الغالية.. وأرشيف بدلات وثياب داخلية أستبدلها ثلاث مرات في اليوم.. هذا ما قالته لي بطريقتها الخاصة.. أعطتني رزم من مواد الاستحمام لدهن الجسم والشعر وقشرة الرأس.. منها قبل الحمام ومنها بعد الحمام..

وكانت عندما تحضنني تلصق وجهها بصدري.. فأبقى جامدا حتى لا يساء رد فعلي.. ومع ذلك قرعتني كلماتها عندما قالت مرة.. أنها تحضنني كلّ مرة وأنا لا أحضنها!..

مع المرأة لا أستطيع أن أكون إلا مهزوما.. مهما فعلت لا يعجبها ومهما لم تفعل لا يعجبها.. وعندما تتخلى لها عن القيادة تقرعك وربما تحتقرك.. التلميذة صارت معلمة وركلتني بقدمها.. ماذا يهم.. فأن قدمها الصغيرة جميلة ومغرية على كلّ حال..

ضحكت بغرور عندما سمعته.. أما أنا فبقيت مهزوما.. نابليون(*) فضل الحرب على مواجهة المرأة.. وأنا فضلت الكتابة عليها.. نابليون خلدته حروبه وليس امرأة ولا ولد.. وأنا أخلد بكلماتي وليس بامرأة ولا ولد..

اما المرأة فتبحث عن أي شيء تلتصق به لاثبات نفسها.. أعني أنوثتها.. لكن حركة الفيمنست والمثلية غيّرت كل شيء.. والتكنولوجيا حلّت محلّ الطبيعة والعلائق الطبيعية..

وبالتأكيد.. مايا تخلت عن مشاعرها وعواطفها وحتى أنوثتها وأحلامها الجنسية.. لذلك كرّرت بلا وعي غير مرّة عبارة.. وهي تنظر لي بامعان: لماذا أحبك.. ما الذي يجعلني أحبك.. هل أنت غني.. هل تستطيع أن تحقق لي كلّ ما أريد؟..

ما هو الحبّ.. ماذا تعني المشاعر.. لقد كنت غبية.. تعرف.. كنت عمياء والآن فتحت عيني!.. أسمعها كالعادة بكل خضوع.. وأوافقها من غير كلام.. وهي تتكلّم كلّ الوقت.. مدّت يدها في الحقيبة وأخرجت هاتفها الخلوي الجديد –سمارت فون-..

أعتقدت أنها تلاحظ الوقت، أو تتأكد من الكالندر، أو تتصل بأحد ما.. لكنها اقتربت مني بشكل محسوس.. وصارت تطلعني على ألبوم صورها من سفرتها الاخيرة.. ربما قصدت أن تريني موديل تلفونها الجديد.. ولكني لم أعلق بشيء على الصور.. ولا التلفون ولا أي شيء.. ربما قصدت أن تلفت نظري الى ازدهارات جسدها وهي تنزل فندقا فارها في الخليج.. هذه الجدارية داخل الفندق.. وكذلك المسبح..

لا أدري لماذا احتضنتني أيضا، وملء وجهها ابتسامتها الحبّية التي أذكرها من أول تعارفنا.. ثم قالت وهي تبتعد عني.. نلتقي ها.. أهتم بنفسك.. باي!.. وذهبت..

أما أنا فقد استدرت بلا تفكير.. وعدت بالاتجاه المعاكس.. دون أن أعرف ماذا ولماذا.. وخطوة بعد خطوة كانت دموع داخلية تترسب في أعماقي وأقول مع نفسي.. لن أراها ثانية.. إذا اتصلت لن أرد عليها!..

عدت مجلّلا بكل الحزن.. أما هي فلا أعرف ماذا تفعل وأين ستذهب.. تريد ثروة وسكن وسفرات.. نمط عال من حياة البذخ.. هذه ليست مايا.. مايا التي أعرفها ليست هذه.. وعليّ أن أبقى مع نفسي.. ولا أضيع بالكلام على قارعة العالم..

ـــــــــــــــــــــــــــ

    • كولن هنري ولسن [1931- 2013م] ناقد انجليزي، وجودي وروائي، يصنف من تيار الغضب. مواليد ليستر في وسط انجلاند من عائلة عمالية فقيرة. ترك الدراسة وانصرف للعمل في سن السادسة عشرة. تشكلت ثقافته من خلال القراءة والخبرات الحياتية. في عمر الخامسة والعشرين اصدر كتابه الأول والأشهر (اللامنتمي/The Outsider)/(1956م)، ثم توالت كتبه الوجودية: الدين والتمرد/(1957م)، عصر الهزيمة/(1959م)، قوة الحلم/(1961م)، اصول الدافع الجنسي/(1963م)، ما بعد اللامنتمي/(1965م)، سقوط الحضارة/(1971م). كما أصدر روايات ذات اتجاه غرائبي تعنى بالسحر والجريمة والفصام والباراسايكولوجي، مثل: طقوس في الظلام/(1960م)، ضياع في سوهو/(1961م)، رجل بلا ظل/(1963م)، القفص الزجاجي/(1966م)، طفيليات العقل/(1967م). بالاضافة الى: الشعر والصوفية، المعقول واللامعقول في الأدب الحديث، الحاسة السادسة، الانسان وقواه الخفية، ما بعد الحياة، فكرة الزمان عبر التاريخ، الشك، الاستحواذ، وكتب أخرى تتعلق بالسيرة الذاتية، تنيف مؤلفاته على المائة. وهو من الكتاب المغضوب عليهم في بلده، بينما تتسع شهرته في الخارج.
    • نابليون بونابرت [1769- 1821م] قائد عسكري وسياسي فرنسي. واضع القانون المدني الفرنسي المعروف بالقانون الفرنسي، الذي وضع اساسا لكل النظم الادارية والمدنية في أوربا والعالم. خاض جملة حروب ومعارك ناجحة لتوحيد أوربا وحوض المتوسط تحت سلطة امبراطورية مركزية، لكن قواته تضررت في روسيا العام (1812م) وتراجعت امام الائتلاف السادس لتنهزم كلية في واترلو جنوبي لندن/(1815م)، وأودع نابليون السجن في جزيرة سانت هيلانة ليموت بعد سنوات مسموما بمادة الزرنيخ.

 

(58)

هذا الربيع تغيّرت أشياء كثيرة لم تكن تتغير من قبل.. لقد فرغت جملة بيوت بالتعاقب واختفت وجوه اعتدت ملاحظتها من نافذة المطبخ..

بالتدريج زاد عدد الشبابيك المعتمة والأبواب المغلقة.. ولم يعدْ وضع الستائر يتغير بين الصباح والمساء أو عبر الأيام.. من وقت لآخر أتذكر ملاحظة نافذة.. فتفجعني رتابة الصورة وجمودها.. ليس من السهل افتقاد مناظر تم اعتيادها في اللاوعي حتى صارت جزء من الوجود..

في الإسبوع الماضي رأيت ستارة مرفوعة في نافذة نزل قريب.. كانت الأغراض مرزومة.. من وقت لآخر ألحظ حركة أفراد.. بعد أيام رفعت الأغراض وكشفت الحيطان عن بياضها.. الستائر ارتفعت ولم تسدل.. ومنذ اسبوع لم يفتح النور هناك..

كانت تلك أقرب النوافذ.. أتشاءم شخصيا من فكرة التغيير.. حياتي نفسها شهدت تغيرات متعددة لا أعرف إلى أين تنتهي..

العامل الذي قام بتصليحات في الحمام قال في التلفون الذي يستخدمه كثيرا.. ما يحدث ليس نهاية العالم!.. لم أعرف إذا كان يقصد (البركست).. أو منطقة الباص التي يقال لها: (ورلد ايند)!..

أحيانا أعتقد بقرب نهايتي هنا.. لكن إلى أين.. أنظر إلى أثاث حجرتي المتواضع.. أحاول عدم التعلق بشيء سوف ينتهي للغياب.. طبعا لا أستطيع حمل أي شيء معي أكثر من حقيبة صغيرة تحتوي بعض ثيابي القليلة وحاجياتي الشخصية جدا وأوراقي الرسمية..

أين تنتهي صفوف الكتب ورزم المسودات التي لن أرفع شيئا منها.. وربما أعمد إلى إتلافها أو توزيعها إذا وجدت أحدا في وقت مناسب.. ليس لدي أحد أضع عنده بعض حاجاتي لفترة انتقالية.. فالعلاقات الاجتماعية ماتت وطم عليها سلام القبور.. وفكرة البيت الثابت ومنزل العائلة والعلاقات العائلية والصديق الوفي أصبحت من أخبار الماضي بالنسبة لي.. أنا الحشرة التي سرقتها وردة فاسدة..

أعرف آلاف الناس في هذا البلد.. من أصناف كثيرة ومستويات عدّة.. ولكن واحدا منهم لن يخسر نظرة أو رنة تلفون من أجلي.. يدهمه ورم لئيم في بداية الحنجرة إذا حاول محادثتي.. لا أحد يقبل هذا الكلام.. فكل منهم (دكتاتور نرجسي) منشغل بنفسه وعندياته.. ولا أحد يعترف أنه جبان أو انتهازي أو لئيم..

ما يحدث هنا جعلني أتساءل وأشكك في حقيقة وجود شخص يقبل أن يموت من أجل غيره!.. هاته فكرة مثالية مستحيلة في جنس البشر..

عموما عدد الذين يفرحون لغياب شخص.. أي شخص.. هاته الأيام أكثر بكثير ممن يمكن أن يحزنوا لأجله أو يتأثروا لما حدث له.. جلود الخنازير حلّت محل مجسات المشاعر.. إذا كان ذنون أيوب(*) دعى كتابه (الدنيا ماشية) في السبعينيات (على الدنيا السلام) حسب رغبة الناشر.. فماذا أقول انا اليوم..

وعلى الأخلاق السلام.. وعلى مبادئ الإجتماع البشري السلام.. ولا أدري كيف وصف ذنون أيوب العالم قبل رحيله.. لكن اهتمامه بالكلبة استحوذ على ما سواه..

الحشرات هي الأرقى دائما..

لأنها تستطيع التنقل من مكان لآخر..

بغير أوراق أو فواتير..

ليت لي جناحا يحملني..

لكي أختفي من أمامك..(*)

ــــــــــــــــــ

* ذنون ايوب [1908- 1996م] اديب وسياسي عراقي من جيل الرواد. له مجاميع قصصية وروايات كثيرة، صدرت أعماله الكاملة في بغداد في السبعينيات.

* من قصيدة (الآن نفكر بالجغرافيا)، مجموعة (أغنية الغبار) لوديع العبيدي- مراكش- 2000م.

 

(59)

تغيّرت كثيرا بعد تجربة المستشفى.. أتناول طعامي وأقوم بنشاطاتي اليومية بشكل شبه عادي ودون محاذير صحية.. لا قائمة ممنوعات.. لا مخاوف من ومن.. لكني أكثر إدراكا بمعاناتي المرضية.. أعرف أني مريض ولكني لن أموت بسرعة وسهولة بسبب المرض..

ورغم أن عليّ أن أنتهز ما أمكن لأعيش حياة طبيعية.. فلا ينبغي لي أن أفكر بالمرض على الدوام.. عند المسير أو القيام بجهد أشعر بألم الصدر أو أي عضلة في مكان من الجسم.. لكن لا بأس.. فأنا أدرك الآن ماهية الألم وأعرف احتمالاته ومهدئاته الطبية..

ما أزال أعاني للآن من النوم المتقطع كلّ ساعتين وعدم الحصول على الاشباع من النوم أو الراحة أو الطعام.. أكابد حالة مستمرة من الرغبة في النوم والرغبة في الطعام والرغبة في لقاء إنسان أو التعاطف..

أشعر بانتماء أعمق للبشرية.. حتى أولئك الأشقياء والمجرمين الذين لا يعرفون لحظة اصابتهم بمرض معجز أو داء يحطم غرورهم وينسف جشعهم ويلوي ارادتهم..

وأكثر من أي وقت.. أدرك أن الحياة مجرد مزحة ثقيلة وكل ما فيها زائل وباطل أباطيل.. وما من فكرة أو عمران أو جيش أو شخص ينقذ الوجود من العبث أو يمكنه تغيير سكة الكون.. وما تلك الاستمرارية البيولوجية أو العمرانية غير الهروب من العبث بالمغالاة فيه.

ذراعي الآن عادية.. لا أثر للأبر التي كانت تثقبها يوميا.. آثار التوحّمات الداكنة والتورمات الخفيفة هنا وهناك اختفت تماما.. لست متأكدا أن هذه ذراعي أنا بالتأكيد.. كما أنني أنا لست أنا تماما بعد مغادرتي المستشفى..

عندما وجدت نفسي هناك.. عانيت فترة للتاقلم مع نظام المشفى والجوّ العام.. لا تمرّ ساعتان دون زرقة أبرة أو وجبة برشوم أو نفخة سبري تحت اللسان أو حقنة جيل في جانب الفم.. ذلك فضلا عن المواعيد الدورية لفحص الضغط والسكر والحرارة والوزن.. كل ذلك جعلني أقتنع أخيرا بكوني مريضا تماما.. ولولا تلك العناية الفائقة لكنت في عداد الأموات..

في المستشفى أحسست برثاء لكل أولئك السابلة والسيارة في الشوارع والأسواق وهم لا يعرفون بالأمراض المعششة في أحشائهم.. بل أن الناس الآخرين ممن يحيطون بهم ويدفعونهم يمينا ويسارا لا يخطر لهم أن يكون أحد المدفوعين أو المكروهين مريضا بالقلب ويعاني من ذبحة صدرية.. اللحظة أو بعد قليل.., جرّاء لكمة غير مقصودة في الخاصرة أو مزاحمته في وقوف مضغوط في الباص.. لا أدري لماذا يحتشد الناس مثل ذباب المزابل في مدن الغرب.. بينما توجد صحارى هائلة من سطح الأرض لا يمر بها ظل بشر..

إقامتي في المستشفى كانت قلقة.. الأيام الأولى كانوا يخبرونني بجدول الاجراءات المزمع اجراؤها لتقرير حالتي وتشخيص الداء.. في نهاية الاسبوع لم أعد أعرف ما ينتظرني.. وعندما أسألهم ينتظرون تجربة علاج جديد او فحص آخر للتأكد من التشخيص..

حجرة المستشفى التي أقمت فيها تتكون من أربعة أسرّة.. وأسماء الذين يشغلونها هي على التوالي: شاه.. كريشنا.. خان.. شاه هو الذي يجاورني من جهة اليسار.. وهو رجل ذو هيبة.. ويبدو من أرستقراطية الهند.. عزير قوم ذلّ.. حلو الحديث.. ذو عقل كبير.. حكيم علماني.. لكنه كثير التشكي.. كثير الألم.. وجهه مضغوط بتجاعيد المعاناة.. لا يعامل زوجته جيّدا.. لا يردّ تحيتها.. لا يتركها تلمسه.. لا يتناول طعام المستشفى.. يوميا يقول: زوجته تطبخ وتجلب له طعامه من البيت.. هو هنا منذ أربعة أشهر.. يتخلص من فضلاته البيولوجية بطريقة غير طبيعية.. مربوط بالأسلاك من فوق ومن تحت.. الستارة ما بيننا.. يحب اغلاقها بيننا.. لكنه يفتحها أحيانا عندما يروق وينظر لي لنتكلم.. أنا أبتسم دائما وللجميع ما عدا الأطباء.. ينظر بشزر لمواطنه المقابل لسريره واسمه كريشنا..

كريشنا شخص صغير الحجم.. كل الهنود لا يزيد طولهم عن متر ونصف.. لو رأيت فيهم طويلا.. أفرك يدك.. لا يزيد وزن كريشنا عن اربعين كغم.. وهذا هو قياس ضغطه ونسبة الكلوكوز في دمه.. يرتدي قميص المستشفى الوردي فقط وليس تحته شيء..

مكانه قرب النافذة.. يعنى بترتيب حاجاته كثيرا.. وفي كلّ مرة يتابع وجودها في أماكنها.. يفتقدها مرة بعد مرة.. واذا غاب شيء عن نظره يصرخ سستر.. سستر.. والممرّضات يسخرن منه ويمزحن كثيرا معه.. أحيانا مزاح صعب.. يستغرق دائما مع نفسه وهو يحدق بنظرات مستقيمة.. أحيانا اجده ينظر نحوي.. لكنه لا ينظرني..

أنه مستغرق فقط.. يتفنن في اختيار الطعام.. يتفنن في طريقة جلوسه لتناول الطعام.. ويتفنن في وضع الصدرية على صدره وترتيب الشوكة والسكين.. وعندما يعيى يقول للمرضة..أريد أن أضع الصدرية كما يفعل هو.. ويشير نحوي.. يطلب العصير المحلي بسكر اضافي.. يطلب مزيدا من أوعية التبول ويصفها على افريز النافذة مثل دكان معروضات..

عندما يحضر الطعام.. يتصنع الأكل.. يقوم بحركة ويندلق الشاي أو العصير أرضا.. ويدعو السستر وهو يتعذر.. يحدث ذلك غالبا.. لكنه يراقب الطعام أمامه.. يسند ظهره للكرسي.. يمدّ يده للملعقة.. يمسك الملعقة والسكين.. يستبدل الملعقة بالشوكة.. ينظر لنفسه ويراجعها إذا كان يضبط الاتيكت.. لكنه لا يأكل.. يضع السكين والشوكة ويمدّ يده لكوب العصير.. يرفعه الى شفتيه بتؤدة.. ويبل طرف شفته وهو ينقل نظره بين الجمهور والنافذة.. يعيد الكوب..

يلقي نظرة على حاجاته.. يحب تناول طعامه وهو على الكرسي وليس على السرير.. ذلك يكلفه الكثير من الجهد والعمل.. وعندما يجمعون الصحون يجدون طعامه كما هو.. تترك السستر طعامه وتقول: كلْ كلْ.. يجب أن تأكل.. لتأخذ الدواء.. يبتسم ويفرح لاهتمام الممرضة..

يقول انه أكل كثيرا وشبع.. لا يكاد يتناول شيئا حقيقيا غير فطور الزبدة والحليب صباحا.. جسده نحيف وصغير مثل صبي لم يتعدّ العاشرة.. مضت عليه عدة شهور هنا.. سبق له أن غادر المستستشفى وعاد بعد يومين.. لا يزوره أحد وليست له عائلة..

بجانبه سرير مستر خان.. تاجر باكستاني له محل أدوات صحية في السوق.. لا يرتدي قمصان المستشفى.. يحتفظ بثيابه الرسمية كأنه في حفلة.. لا يتظاهر بالمرض.. يتحرك بنشاط.. تزوره عائلته يوميا صباحا ومساء.. يلازمه ابنه البكر يوميا.. يهندمه بدلا الممرضات.. يتكلم نيابة عنه..

ابنه هو وكيله ووريثه في الدكان.. ولكنه يترك الدكان بيد العمال ويلازم والده.. عندما أجريت له عملية قسطرة أغمي عليه.. تأخر في صالة العمليات كلّ النهار.. اكتشفوا لديه شريانا مسدودا.. فأجروا له عملية تبديل شريان استغرقت أربع ساعات.. جلس ابنه خلالها يبكي.. غادرت حجرة التلفزة حتى اضبط مشاعري ولا أبكي معه..

كلّ العائلة تناثرت في الجناح وفي حجرة التلفزة وهم يبكون.. الأم كانت في شبه انهيار.. وإثنان من بناتها تحيطان بها من كل جانب دون أن تجلسا أو تنبسا ببنت شفة..

بعد يومين استعاد شيئا من لياقته.. هو الأكثر قلقا وخوفا من الألم.. يخشى غرزة الأبرة وفي كل يصرخ.. فتبتسم الممرضة.. وتقول له.. لماذا تصرخ.. يقول من الغرزة.. فتقول له لم أفعل شيئا بعد.. ها هي بيدي.. ثم تغرزها دون أن يشعر.. وعندما تذهب يسألها.. الأبرة.. فترد عليه.. هل غرزتها.. فيقول لم أشعر..

مرة واحدة تحدث خان مع شاه.. ومرة واحدة تحدث خان مع كريشنا.. وبعدها لم يتحادثوا.. كريشنا لا يجرؤ على محادثة شاه.. شاه يحدث كريشنا موبخا أو أمرا عندما يتمادى الثاني في طلباته وشكاواه.. ولكن ذلك يحدث نادرا.. كنت أقول أنني في لندرستان.. في الشارع.. في المستشفى.. في المنزل.. في السوق.. يحيط بك الهنود.. بثيابهم وعاداتهم وبساطتهم.. ولكنهم منغلقون على أنفسهم.. يعيشون حياتهم الهندية فيما بينهم.. ومع الآخرين يتصرفون مثل الانجليز.. لكنهم أكثر بساطة وانسانية..

ذات يوم قابلني جاري في الطابق الأرضي وسلم علي بحرارة وقال أنه سيسافر لزيارة بلده لمدة شهر مع عائلته.. كان ذلك جميلا.. لديه طفلان أحدهما في السابعة والاخر أقل من عام.. عندما عاد من السفر جلب لي بعض المكسرات الهندية.. جلب لكلّ الجيران هدايا من بلده..

نبقى نتحدث كثيرا في الرواق.. يحيط به أطفاله وزوجته الشابة.. يتمنى المرء لو كان هنديا.. لو تداخل أكثر في تفاصيلهم.. داومت أربعة أشهر في مركز اليوغا.. كنت أحضر عندهم يوميا تقريبا.. قرأت كتبهم وأتقنت جلساتهم اليوغية والنظر الداخلي ما بين العينين حتى الاتحاد مع النور الأعظم الذي يسمونه كرشنا..

أكثر ممرضات المستشفى وممرضيها من الهنود.. دافئون جدا.. وأذكياء جدا.. ولا تشعر معهم بالغربة ولا الخجل ولا الشك..

في الإسبوع الثالث اعتدت نظام المشفى وأنواع أطعمته.. صارت الأشربة الساخنة والباردة والسكاكر البسيطة تعزية من كثرة الأدوية والمهدئات وزرقات الأبر في كل مكان من الجسم.. اختفى الألم تماما.. ونسينا أننا كنا نحصل على المهدئات في جدول دوري قبل انتهاء مفعول الوجبة السابقة.. وكان الطبيب يبتسم بخبث وهو يسأل : كيف أخبار الألم الأن.. هل تشعر بشيء الآن..

صار عليّ أن أكذب كلّ مرّة وأخيب انتظاره حين أفاجئه بشيء من الأم.. وبذلك يفرح الدكتور بالتوصية بعلاجات جديدة يستفرغ بها خبراته الطبية.. ونضمن بالمقابل تأجيل موعد المغادرة.. أما أخبار الامساك والاسهال فلا يكاد ينجو منها أحد..

يتكرر السؤال يوميا عن حال الخروج والبول.. فتتم التوصية بعلاج لكل حالة.. من لديه امساك يعطى أدوية مسهلة فوق العادة، فيسيل خروجه من غير كونترول.. وهو أمر عادي هنا.. ومن لديه اسهال يعطى مادة قابضة، فتمرّ أيام ولا شيء غير الغازات.. في مرّات يتم التوصية بفحص مختبري لعينة من مخرجات الجسد..

وهكذا تستمرّ المسرحية في هذه المستشفى.. والجميع سعداء بالعمل.. البيولوجيا هي الحياة.. الستاف في نظام تشغيل كامل.. حركة الأدوية في تشغيل كامل.. غالبا ترى علب الأدوية والمواد الطبية في القمامة بغير سبب.. وتسجل في قوائم الصرف..

موظفات الصيدلة صغيرات السن يتأرجحن طيلة اليوم بين غرف المرضى وأماكنهن التي لا أعرفها..

الصيدلة لا تتدخل في أمور الطبيب والفحوص.. والأطباء لا يتدخلون في شغل الممرضين.. ولا يتقرب الطبيب من مريض أو يجيبه على سؤال إلا بعد أذن ستاف التمريض في الحجرة..

صرت أعرف جميع الممرضات والممرضين وأبتسم لهم عند القدوم والمغادرة.. بعضهم يقترب مني وقت فراغه ونتحدث في لا شيء.. الممرضات الهنديات لديهن فضول عن أعمال المرضى في المدينة ومستواهم المالي.. وعندما تحصل على معلومة تنتشر تلك المعلومة بين الجميع.. تقول إحداهنّ للأخرى: رجل أعمال.. لديه المتجر الفلاني في ايلنغ.. هذا شخص مشهور.. رج مان..

الإقامة في المستشفى تؤسس لعلاقات مرضية متنوعة مع وجبات النزلاء المتحركة.. وفي حالات تنشأ علاقات مع نزلاء الغرف الأخرى عند الاجتماع في حجرة التلفزة.. فضلا عن التحدث مع الزوار والغرباء الذين يزورون معارفهم..

في الأيام الاخيرة عرفت بوجود مكتبة استعارة وأماكن للطقوس الدينية والأجواء الروحية.. وفي الطوابق السفلية وجدت أسواق ومطاعم.. وقبل خروجي بساعات زارني اثنان قالا أنهما من طاقم راديو المشفى ولهم مجلة منوعات.. أرادا تسجيل حديث او مساهمة.. لكني فوجئت بهم ولم يكن لدي راديو شخصي.. ولا يوجد بث اذاعي أو موسيقى داخل الغرف..

ربما لكون معظم الطاقم من الأجانب وعدم اهتمام الإدارة بمشروع الراديو الذي أنشأه مواطن انجليزي توفي قبل ثلاثة أشهر فقط.. بعد ربع قرن من مشروعه الذي تتكفل به مجموعة إعلاميين شباب..

 

(60)

لم يكن لي حلم سيء ليلة أمس، بل لا أذكر أني حلمت.. وفي الصباح لم أستطع النهوض .. وددت البقاء نائما.. أو الاستلقاء في السرير.. منحت نفسي ما أستطيعه من أعذار.. ثم وقفت.. مررت بالحمام.. عدت للمطبخ وغلوت إبريق الماء.. وضعت بعض القهوة في الكوب.. قطعتي خبز في المسخن.. حملت علبة الزبدة والسكينة ووضعتها على طاولة الطعام قرب النافذة..

أعددت الأوراق والرسائل التي تقتضي مراجعة رسمية في دائرة البلدية.. بعد اكمال الفطور خرجت على مضض.. كان باب الدائرة مغلقا.. نظرت عبر الزجاج فلم يكن ثمة زحمة.. دفعت الباب وتقدمت إلى أول الصف.. وراء الكاونتر الذي يرتفع حتى الصدر امرأتان.. إحداهما أفريقية مشغولة مع احد ما.. والثانية بيضاء محجبة.. بعد قليل دعتني فحييتها وشرحت لها حاجتي.. قالت أنهم لا يفعلون ذلك (اني مور).. وعليّ استخدام الشات أو التلفون.. قلت: لا أستطيع.. قالت: واي، قلت أجهل استخدامها قالت : واي، قلت لا أريد ذلك، قالت: واي.. وكلّما قلت شيئا تجيب المصعوقة: واي!..

تذكرت تصرّفات الأطفال المشاكسين أو النساء العنيدات.. أخيرا طلبت مقابلة المدير.. أنكرت أن يكون الموضوع من اختصاصها.. فسألتها عن وظيفة الطاقم الكبير في الدائرة.. اذا كانوا لا يقدمون خدمة.. خلال ذلك كنت قد بلغت ما يكفي من الاستفزاز لاستخدام (شت) بين الكلمات..

أنكرت عليّ استخدام كلمات غير لائقة.. رغم موقفها السلبي وعدم احترام الطلب.. وضع شخص يده على ذراعي اليسرى وطلب مني ترك المكان.. بدأ يدفعني.. كان شابا افريقيا نحيلا من القرن الأفريقي.. في أول عشريناته.. يرتدي بدلة سوداء انيقة كأنه طالب مدرسة..

بعدها وضعت يد أخرى على ذراعي اليمين.. كان شابا انجليزيا بدينا، اجتمعت كل سيماء البلاهة فيه.. وصارا يدفعانني خارجا.. ليس خارج الباب.. وانما واصلا دفعي كحيوان أو حشرة خلال الصالة نحو باب جانبية لا يستخدمها الناس.. وهناك فتحوا بابا أمنية ودفعوني خارجا ككلب ميت والانجليزي الأبله يقول جملته الاخيرة: لا يحق لك العودة ثانية وأغلق الباب..

لكني أطلقت صرخة عشوائية: مافيا.. وبصقت من وراء الباب بصقتين..

في الخارج كان مطر ناعم يهطل والجو غارق في الكآبة.. نظرت بعتب وغضب نحو صفحة السماء السوداء.. واندفعت بكل قوتي.. وفي داخلي أمنية أن أجد أحدا أفترسه.. بدء من ملكتهم العجوز إلى آخر بغي لا تفهم شيئا غير لغة المال..

جرى كلّ ذلك بسرعة مثل حلم.. وتذكرت بعد حين أنني كنت أحترم تلك النساء ذوات الحجاب، معتبرا أن الحجاب صار هوية ثقافية ورفضا للاغتراب والاندماج.. فكيف تحوّلت محجبة الى كلبة تحرس حكومة احتلت بلدها وأحالته الى انقاض ونفايات وخبر من الماضي..

كيف يأتي أمثال هذه ليصبحوا عبيدا ومرتزقة عند العدو.. هكذا سيتم القضاء على الاحتلال..

أين هي شعارات الحرية والنضال.. وأي مسيرات ومظاهرات تحرق فيها الاعلام..

بصقت مرّة أخرى وبصقت ثم بصقت.. تمنيت ان يتحول بصاقي دما ويفيض في الشوارع ويمتدّ إلى كلّ المدن الاخرى.. تلك هي دمقراطية المهابيل..

 

(61)

لم يتوقف المطر عن الهطول هذا اليوم.. لم تشرق شمس ولم تكشف السماء عن سماحتها.. بوب العجوز الانجليزي سخر من لندره..

- you ok

- not nice

- you mean the weather

July and august are winter’s months

- every thing changes

بوب في الثمانين من عمره.. يأتي يوميا للمقهى لشرب الشاي وتناول قطعة جاتوه.. يتناول قدحين من الشاي عادة.. لكنه اليوم طلب كوبا ثالثا.. كان صوته منخفضا فقمت إلى النادل ونقلت له الطلب..

You like football

Yes

Which team is your

Chelsie

o..

and you

Manchester united

Naja

ثم راح يعدد لاعبيه المفضلين.. سألته إذا كان قد لعب الكرة.. وكان سؤالي ساذجا.. فقد بدا لاعبا محترفا معروفا.. كان عليّ أن أعرف أيضا بوب الذي يعرفه كل عاملي المقهى وزبائنه.. هذه المرة الأولى التي أراه.. أو أجلس قريبا منه.. قال أنه يأتي يوميا.. أنا أحضر بالصدفة.. وبالصدفة كان مجلسي قريبا منه.. لكنه قليل الكلام.. قليل من جهة الموضوعات التي يمكن التداول فيها.. الجو.. كرة القدم.. قال أنه يذهب إلى مقهى اخر.. وسألني إذا كنت اذهب إلى هناك.. اعتذرت.. لم اكن أعرفه بالمرة.. فالمقهى الانجليزي إكثر محلية من المقهى العام الذي نعرفه..

إذا كان بوب منزعجا من مصادفة يوليو في فصل الشتاء فماذا أقول أنا.. وكيف انسجم من تغير لا أصل له في طبيعتي البلدانية.. يوم أمس كان ماطرا أيضا.. وكذلك اليوم الذي قبله والذي سبقه.. والواقع أن الشتاء ليس ضيفا ثقيلا.. ولكنه هنا منذ البدء ونحن الطارئون.. أعني تصوراتنا الجوية غير واقعية..

لم يبق غير الجو ليخالف تصوراتنا.. الواقع أن كل أفكارنا وتصوراتنا غريبة وخاطلة.. وإلا كيف وصلنا إلى هنا.. نيكولاس كوبرنيكوس(*) قال أن الأرض تدور.. ولأنها تدور فقدنا أمكنتنا وصرنا هنا.. لم يبق شيء في مكانه.. كلّ شيء خارج المكان وخارج التصور.. حتى الجو والشمس والمطر يسقط خارج موسمه وموضعه..

عرفت بوب أخيرا فقط.. في بوفيه وايتروز الذي يقع في الطابق الأعلى وله سلالم كهربائية ومصعد كهربائي.. يمشي بوب على عكاز رباعي وهو نحيف وفارع.. أبيض وأشقر الشعر.. دائما ينظر لمن حواليه وهو يسير أو يأكل أو يجالس نفسه.. يتحدث مع أي كان بتلقائية ويسأله أي شيء.. كل حديثه عن الجو والكرة.. لا يتحدث عن الشيخوخة ولا يتذمر.. يشرب الشاي الأصفر بمبلغ (سلوت) يضعه في جيب خاص في كيس خاص مع قطعة حلوي .. عندما يستلذ يطلب شايا ثانيا.. مرة طلب ثلاث شايات فقالت له البائعة مذكرة: هذا الشاي الثالث يا بوب!.. لم يجبها.. عندما كررت جملتها نظر إليها وقال: أعرف ذلك!.. معرفة بوب أيضا حدثت في الشهر الأخير فقط.. لم أكن أعرف أني على وشك المغادرة.. طيلة أثني عشرة سنة لم يحدث.. لماذا يحدث الآن.. أشياء كثيرة حدثت في الآونة الأخيرة.. تمنيت لو حصلت مبكرا.. كانت محبوسة في كيس الغيب، واندلقت على باب هجرة ووداع.. عفوا.. لا وداع.. لقد غادرت هكذا كما يفعل لص.. كما دخلتها.. دخلتها زائرا لاجئا.. وخرجت غير مرغوب فيه.. لكن بعض الناس كانوا لطفاء حقا.. لم أودّ مفارقتهم.. أحاول نسيانهم تماما.. لأن ذلك كلّه حصل خارج الزمن وخارج الطالع..

بوب لاعب الكرة الانجليزي السابق في مانشستر يونايتد لا يحبّ التغيرات -مثلي- ويصفها [نوت نايس].. أنا أيضا لا أحب التغيير وسيما التغيرات الأخيرة.. ربما كنا من جيل واحد.. أعني الجيل المنقرض.. كان علينا أن نموت في الطوفان الاول لكي لا تتسع مساحة الشكوى.. لا احد يريد سماع الشكوى.. رغم أنه لا أحد يبتسم أيضا..

ماذا سيقول بوب ايضا.. بيته قريب من المقهى لكنه يصله بالتاكسي.. أنا استخدم الباص وأقيم في مكان بعيد.. هو في وطنه وأنا خارجه.. بالتأكيد لديه أحد يعد له الطعام ويكوي ثيابه ويخدمه في كلّ شيء.. في المقهى يعرفه الجميع ويتسابقون لخدمته..

أما أنا فعلي أن أخدم نفسي بنفسي.. ورغم أن التنفس مهنة صعبة وكريهة في حالتي.. فأن علي أن اتنفس بمفردي.. وأعود إلى البيت بمفردي.. وأستبدل ثيابي بمفردي.. وأفتح باب الشقة بنفسي وأغلقه أيضا وأذهب إلى الحمام والمطبخ لوحدي..

ولأني أفعل كلّ ذلك بنفسي وليس لي معين أو خادم فقد استشفت الطبيبة الأغريقية أني أصلح للعمل والتصرف كشخص في العشرين.. ثم لماذا لا أعمل وأريد أن أعيش مجانا على نفقة الخواجا..

سألني عن الوقت.. كانت الخامسة والنصف.. وكنت أتوقع أن يعاود السؤال إذا كان قلقا.. لكنه لم يفعل.. في السادسة ودعته وغادرت المقهى.. كان المطر خفيفا.. واتجهت إلى المكان الذي يقدم محاضرات ثقافية مجانا كلّ أربعاء.. سوف أسير إلى هناك على قدمي وقد يستغرق الطريق نصف الساعة..

لندره جميلة للمشي أكثر من شيء آخر.. مساحة الشوارع والأزقة والساحات فيها اكثر من المساحات السكنية.. تصميم لندره شيء غريب.. رغم أن الفوضى تبدو طابعا عاما لأول مرة..

كنت أنتظر عملية لإحدى عيني في نهاية الاسبوع.. واتصلت بشخص قال أنه يمكن أن يرافقني للمستشفى.. ما زال يومان على ذلك اليوم.. لا تقلق..

الليل في الشقة ثقيل بسبب الوحدة.. الراديو لا توجد فيه قناة مناسبة.. البرامج الإنجليزية إنجليزية فقط وحسب مزاجهم وبرامج الحكومة.. كلّ ما تسمعه كذب مقنن.. إعلام كاذب بجدارة.. وعندما يخطئ أحد المتصلين ويقول الحقيقة يسرع المذيع لتصحيح كلامه وتفنيد الحقيقة.. الحقيقة هي الحكومة.. والاعلام هو السلطة.. وعلى المتصلين التزام التعليمات..

عندما يخيم الليل فأن الهدف المطلوب هو اقتناء النوم.. النوم بأي طريقة والعبور من النفق لليوم التالي..

Mornings are hard

But the great sleep shouldn’t be

الطبيبة قالت..

Even when life not worth to be lived, depending on tablets is’nt comfortable

ـــــــــــــــــ

* نيكولاس كوبرنيكوس [1473- 1543م] عالم بولوني، تعلم اللغات القديمة ومنها العبرية والعربية وقرأ علوم الأقدمين، واستنتج من كتاب عربي فكرة كروية الأرض ودورانها حول الشمس، ولكنه لم يجرؤ على نشر اكتشافه خوفا من اضطهاد الكنيسة الكاثوليكية، ولم ينشر كتابه إلا في عام (1543م) سنة موته. وقد ساعد تأييد الايطالي غاليلو [1564- 1642م] و التشيكي كيبلر [1571- 1630م] له في تغيير الرأي العام واعلان نقله حقيقية في حركة العلوم والمكتشفات الحديثة.

 

(62)

أغمضت عيني وحاولت الاسترخاء قدر ما أقدر.. كان الباص يتحرك بتؤدة خلال زحمة مواصلات نهاية الإسبوع .. كثير التوقف.. يجرّ نفسه جرّا كأنه يسحب وراءه النهار كلّه أو أيام الإسبوع جميعها.. وجدت المقعد الأول في مقدمة الباص خاليا فجلست.. بعد قليل جلست بجانبي امرأة مسنة تتوكأ على عصا.. لم ألتفت إليها.. بعد منطقتين نزلت.. بعدها قرّرت إغماض عيني ومحاولة إغفاءة سريعة للتخلص من رتابة الحركة ومراقبة حشريات الناس في نهاية الإسبوع الذي يفترض تخصيصه للراحة وليس الجولان في الأسواق والمواصلات المجانية..

نادت امرأة على طفلة حاولت التملص من قبضتها.. تردد ذلك الصوت بعض المرات.. ثم امتلأ المكان بجانبي.. المرأة تمسك الطفلة بحضنها.. والطفلة تتشبث للتملص مرسلة يدها في كل اتجاه.. ثم عم هدوء..

لمست أصابع كفّ رسغي.. وانسحبت سريعا.. استقرت ذراع على طول ذراعي اليمنى.. ارتفعت.. مرة أخرى قبضت الكف على ذراعي اليمنى بضغط محسوس.. من غير كلمة.. عيناي مغمضتان.. لم أفتحهما.. لم يخطر لي قول شيء.. او ابداء ردّ فعل.. خفت قبضة اليد وبقيت مستقرة على ذراعي..

كانت تلك الطفلة.. ربما كانت تلهو.. ربما كانت تريد قول شيء.. ربما تعاطفت معي.. ربما كانت تراقبني وتستغرب شخصا ينام في باص.. لكني لم أكن نائما بالمعنى.. كنت أتناوم.. أريح عيني فحسب..

الطفلة في حضن المرأة التي تحيطها بذراعيها هي الأخرى.. فالمرأة تراقب يد الطفلة.. لا أعتقد أني نمت حقا.. لكني لم أنشغل بالأمر.. وتركت للطفلة كامل حريتها.. بعد مسافة طويلة سمعت صوتا يقول: هاي!..

فتحت عيني كانت الطفلة تغادر ممسكة بذراع امها.. لا أعرف إذا كانت شفاهي نجحت في رسم ابتسامة سريعة.. لكنها اختفت.. نظرت عيناي لوهلة في الفراغ الممتدّ أمامي.. حاولت الإنشغال بما حصل.. مجرد حدث عفوي في موقف عام.. ليس غير.. لكن هذا الحدث العفوي لم يحصل منذ وصولي هذه المدينة قبل أثني عشر عاما.. حتى لو كانت طفلة دون العاشرة..

تبدّدت تلك الأفكار.. كان ذهني متعبا ولا جدوى من التفكير في أي شيء.. لا جدوى من استخدام العقل بالمرة في هذا الزمن.. والأفضل ترك كلّ شيء يجري كما هو.. من غير تفكير أو تخطيط أو تحليل أو كلام فارغ.. فنحن اليوم في مزرعة الحيوان المخططة حسب الأصول أو العام (1984)(*) الفردوسي السعيد..

أستطيع النظر من خلال الزجاجة الواقية المربوطة حوالي الحدقة لحماية العين من تلوث الهواء والضوء الشديد.. لم يكن ثمة ضوء شديد في مساء اوغست الشتوي.. المطر لم يتوقف منذ الظهيرة.. والغيوم ما زالت تهدد بأيام متصلة من المطر.. ومع ذلك لم تتراجع زحمة المواصلات واندفاع الناس في نهاية الإسبوع..

ثمة ألم متقطع يتنقل بين الحدقة وداخل العين.. اثر الضوء الشديد المستخدم في صالة العملية ما يزال أثره على بشرة الوجه.. همهمات الطبيب الجراح مع الممرضتين المساعدتين بجانبه.. وكلماته المتقطعة معي من حين لاخر.. ربما يريد التأكد انني ما زلت حيا.. فمن العبث أن يستمر في العملية إذا كان المريض قد مات خلال ذلك..

قال لي: إفتح فمك وتنفس جيدا.. لا تكبت أنفاسك!.. كيف عرف أني أكبت أنفاسي.. هل لاحظ انقطاعي عن التنفس أو عجز عن تحسس حركة بطني حوالي الحجاب الحاجز.. كنت قد توقفت عن التنفس فعلا للحظة.. وبقي الحجاب الحاجز ملتصقا بالرئتين لبعض الوقت.. فتحت فمي باسترخاء وتنشقت هواء قويا ثم تركت نفسي للريح..

(ويل دان).. كانت تلك جملته الأثيرة.. هنا يقولونها للكلب المطيع.. إننا على وشك الانتهاء.. سوف نقوم بإعادة توظيب كل شيء.. اندفعت أذرع النور القوية جانبا وخفضت حرارتها للنصف.. ابتعد طاقم الأجهزة الذي كان فوق صدري بالكامل.. وبحركة واحدة رفع الطبيب الغطاء البلاستك الملقى على جسمي العلوي.. ما زلت أغمض عيني.. عاد صوت الممرضة هيلينا يقول: هل تستطيع أن تجلس لوحدك أم تحتاج مساعدة..

إنتظر.. سأرفع لك الدعامتين من الجانبين للاستناد عليهما..

فتحت عيني بصعوبة واستعدت رؤية المكان.. اعتدلت على السرير.. خفضت ساقي.. وقفت والممرضتان بجانبي.. لم يكن ثمة كرسي بعجلات.. ليس ثمة ذراع ساندة.. طلبت قطعة شاش لتنظيف وجهي من آثار التعرق والمياه المستخدمة خلال العملية.. كانت ممرضة تحمل بيدها حاوية نفايات صغيرة وتقول لي.. ضعها هنا.. شكرتها.. قالت الأخرى.. من هنا الباب..

عندما اجتزتها كنت لوحدي في الممرّ.. عيني اليمنى مغطاة بزجاجة تلتصق على الصدغ والخدّ.. أستطيع الرؤية من خلالها بشكل ضبابي.. هذا ما اعتقدته.. في الواقع كنت أرى بالعين اليسرى المفتوحة..

عدت لحجرة النقاهة التي كنت فيها قبل العملية.. هناك كانت جنيفر الصبية الماليزية تعنى بالمرضى قبل وعقب العملية.. سألتني إذا كنت أرغب في شاي أو قهوة.. طلبت قهوة سوداء مع قطعة بسكت.. القهوة كانت صغيرة وكذلك قطعة البسكت.. كنت أرغب في المزيد ولكني لم أتكلم..

في الساعة الخامسة والنصف ينتهي عمل يوم السبت في نهاية الإسبوع.. بعدي تم الانتهاء من آخر أثنين لذلك اليوم.. وكنت أول الخارجين من الحجرة بعد استلام التعليمات والادوية لمتابعة العلاج داخل البيت.. هكذا خرجت من نهار العملية اليوم.. كأني عائد من نزهة أو صالة سينما..

الشارع اللاحق هو جيزموند افنيو وبعده كلفتون افنيو.. وعلى هذا الأخير تماما كانت سحب سوداء على شكل أكوام كروية أو أضواء متداخلة تاركة بينها فجوات رمادية صافية تذكر بسموات الصيف الجميلة.. إلى الجنوب من تلك الأضواء.. وبشكل يمكن أن يكون موازيا لكلفتون افنيو امتدت جادة ضيقة رمادية صافية تتضايق تارة وتنبعج حافاتها مثل طريق ميسمي في برية قاحلة.. كانت تلك هي سماء ويمبلي في آخر ليلة من شهر يوليو للعام السابع عشر..

كنت قد انتهيت للتو من إجراء تعديلات في ديكور المطبخ.. تخلصت من بعض النفايات التي كانت تجمعت خلال عام.. من مدة وأنا أتخلص من نفايات الماضي بطريقة قيسرية ممهدا كل شيء من أجل بداية جديدة تكون نقلة راديكالية لائقة بحياة على عتبة الستين بعد تراكمات خبط عشواء تحولت بمرور الزمن إلى حقول نفايات ينوء بها كاهلي، ولا أستطيع التخلص من روائحها الكريهة.. الحياة تبدأ بعد الستين.. هذا ما تعلمته من الألمان..

Es ist niemals spät für neue Anfang

Niemals spät für neue Liebe

Leben fängt am sechsig an

ـــــــــــــــــــــــــ

    • (مزرعة الحيوان) و (1984) روايتان رمزيتان للكاتب الانجليزي الشيوعي جورج أورويل [1903- 1950م]، في نقد النظام الرأسمالي الحديث ومجتمع السيبرنطيقا.

 

(63)

يقول ايغور أنه من بلد الطوفان.. وأن أهله لم يبق منهم أحد.. وقيل أيضا أنه أب سبعة أطفال، لا يعرف إذا كانوا أبناء امرأة واحدة.. ولكن أحدهم قال أنه يقصد سفر أيوب وكان يراجع سفر التكوين مع نفسه.. وفي العموم.. كان يهذي بكلام مثل ذلك وهو تحت تأثير المخدر أو الآلام أو خلال نومه حيث تراوده كوابيس كثيرة.. ترافقها أصوات ونشيج وتشنجات تنتاب أطرافه..

لم يستطع الأطباء الاستدلال على صحة بيانات ايغور.. وبعضهم لم يقتنع باسمه على البطاقة.. وكان ايغور نفسه لا يقتنع بذلك أيضا.. وتختلط احاديثه وسيرته الذاتية بقصص واساطير معروفة.. لكنه يؤكد شخصيته فيها ويزعم عند المحاججة.. أن الآخرين نقلوا عنه وليس العكس.. بما فيه أنه كان كائنا قبل أن يكون الآخرون.. وقبل هذا الوقت أيضا.. ولكن أحد لم يتهمه بأنه يهذر أو يسخر من محادثيه..

السنوات العشر التي صرمتها في عاصمة الإنجليز قلبت أشياء كثيرة في نظري.. فبعدما كنت قد سلمت نفسي لحالة اللامبالاة والعبث الوجودي.. التي نوه بها صديقي القديم كولن ولسن(*).. تغير كل شيء إلى عكس المفروض..

المدينة التي كنت أذرع شوارعها طيلة الليالي بغير هدى.. ومن دون الاستدلال بخريطة.. ولم يكن الآيباد قد ظهر يومها.. متمسكا بوصية أن كل الطرق تقود الى روما.. ولندره بالنهاية هي مستوطنة رومانية(*) على عهد فلافيوس.. فكيف تتيه خطواتي إذن..

فعلا لم يحدث ذلك مرة.. ولتلك السنوات العجفاء أدين باكتشاف الحياة السرية لمدينة لا تفتح إلغازها لأحد.. لكنني أيضا مشيت نصف خريطة لندره على ساقي هاتين اللتين تمنيت دائما أن لا تخذلاني قبل الموت.. فالساقان أهم من كل أعضاء الجسم على الإطلاق..

الساقان هما ما يميز الانسان عن النبات العاجز عن تحريك نفسه.. وعن الحيوان بالطبع.. في تلك السنوات.. أعني الليالي.. عشت حياتي كلها.. بشكل لم يتح لغيري.. ممن لا يرغبون في استخدام أقدامهم أو استبدال حياة الليل بالنهار وجولان الشوارع بدفء الدهاليز..

هذه الأيام كشرت المدينة عن ملامحها الحقيقية.. استبدلت ألفة لياليها بالوحشة.. هذا أحد جوانب الفرق بين حكم العمال وحكم اللصوص.. وطبعا الفرق بين حكم الرجال وبين حكم النسوان.. ولا يعرف أحد لم يستوزر المحافظون نساء أكثر من العمال.. هل هذا لأن النساء محافظات جدّا جدّا جدّا.. كما يقول صديقي المصري..

ربما تمادى المحافظون لهذا الحدّ ليجعلوا الناس يترحمون على أيام بلير(*) وحزب العمال.. فيجعلون أنفسهم أبشع منه.. ماذا يحدث عندما يزيد عدد من تكرههم.. وبالمقابل ينخفض عدد من تحبّهم.. وكيف يستطيع أحد أن يحب في هذه الأيام.. أعني العولمة..

الناس فواتير.. والعلاقات ديون.. الصداقة مصالح.. والابتسامات إعلانات تجارية تنتهي بكارثة.. عند كل عمود كهرباء.. كل مفترق طرق.. ليس في الحمامات فقط.. تعلق يافطة: (caution).. (be aware of thefts).. كلّ هذا من ذكريات بلير.. أما جيريمي كوربين فهو أشبه براهب فرانشسكاني منه إلى زعيم سياسي انجليزي.. لكن غناءه لا يتجاوز حيطان الحمام..

بدل الوجوه الضاحكة والنظرات المداعبة لعيون نسائها.. غلب الاسترجال على اجسام النسوان وكلما ضاقت البناطيل البلاستيكية سادت ملامح العسكرية النسائية.. نظرات لا ابالية وحياء غائب وانوثة ملغاة وتحدي واستفزازات مقززة..

ليس هذا كل شيء.. حتى اجساد الباصات اللندرية ذات الطابقين غيرت اطباعها.. وبدل صور ممثلات السينما شبه العارية التي كانت تتوزع سطوحها الخارجية صارت صور السياسيين مثل ماير المدينة التعبان او وجوه ممثلين هنود او افرومريكان من أفلام الوحش في أوضاع استفزازية.. ملحقة بها عبارات اعلانية او انتخابية أو عنصرية لا تتعلق بافلام الاكشن.. كنت عائدا للبيت ذات مساء.. فصادفني باص يحمل جسد امرأة مستلقية بشكل مائل وبجنبها عبارة على طولها تقول..

If you want you can stay

If you want you can leave

وحاولت استيعاب الرسالة التي يدور بها الباص لمدة شهر في شوارع العاصمة.. ولم اتوصل لنتيجة.. غير ان التعليق لا يتصل بالصورة.. ومع ذلك لا افهم مغزى التعليق.. وفي مساء اخر واجهني تعليق سيمائي اخر يرافقه تعليق غامض..

Go long

Or go home

لا اعتقد ان حكومة لندره انتهت مؤخرا من قراءة كتاب [اما.. او] لسيرن كيركغارد(*).. لتفهم منه ان كل شيء محصور بين احتمالين لا ثالث لهما.. تبقى او تذهب.. تنام او تشرب القهوة.. تنتخب الارنب او تنتخب الارنب.. تحب هذا البلد او تعود الى بلدك.. ترضى بالمثلية الحاكمة او ترفض الحكم المثالي..

لقد درسنا في مادة العينات الاحصائية وجود ما لا نهاية له من الاحتمالات العشوائية.. وان الحياة والنجاح والصعود والفوز هي احتمالات عشوائية اكثر انتسابا للخطأ منها الى التخطيط والتنظير..

والدليل هو خضم الكوارث والمجازر ومضاربات الضرائب والرشاوي.. التي لا يربط الاعلام بينها وبين نتائج الانتخابات.. وما تستهلكه من اموال طائلة وبرامج اعلامية.. فضلا عن جولات تعطل ملايين الناس عن حياتهم اليومية للانشغال بتعليقات المرشحين والتهويل الدعائي..

منذ فضيحة ووترغيت وايرانغيت وعراقغيت على التوالي.. والمباريات الانتخابية لم تتوقف.. والكوارث والحروب والفضائح والازمات الدولية مستمرة حتى تم تحقيق الانحطاط العام.. وزاد عدد وعاظ الفضاء وهم يتنبأون بقرب حلول الأيام الأخيرة.. وضرورة بيع الأغنياء لممتلكاتهم والانضمام للملكوت..

انتشرت الشرور واليأس والفساد بالتساوي بين الغرب والشرق فلا مفر.. تبقى في بيتك كارثة.. تهاجر الى مكان اخر كارثة ايضا.. انعدام الامن والاستقرار وشيوع الفوضى والفساد المنظم نفسه.. في الغرب المتقدم والشرق المتخلف..

Go long

Or go home

ـــــــــــــــــــــ

    • كولن ولسن [1931- 2013م] مفكر وجودي انجليزي، اشتهر بكتبه: (اللامنتمي) و(سقوط الحضارة)، لم تورد عنه وسائل الاعلام خبرا عند موته.
    • تعود نشأة العاصمة الانجليزية الحالية إلى بناء أول حامية رومانية في جنوبي التيمز وذلك في العام (43م)، وبعدها بدأ استيطان محدود للأهلين حوالي المعسكر ومقابله عبر النهر، وفي القرن الثالث الميلادي كانت بلدة صغيرة تحت رعاية الحاكم العسكري الروماني.
    • توني بلير [1953- 1997- 2007م- ؟] محامي انجليزي وآخر زعيم لحزب العمال البريطاني يصل الحكم. استلم الحكم بعد وصول سمعة المحافظين للحضيض في عهد تاتشر [1925/1975- 1990/2013م] المتهمة في بيع العراق قطع غيار غيار ما عرف (بالمدفع العظيم)، ولم يفلح جون ميجر المحافظ [1943/1990- 1997م/؟] في تعديل الصورة، فوجد صعود العمالي بلير حفاوة سياسية شعبية. كان أصغر سياسي يقود حكومة في وقته/(43عاما). صادف عهده عهد بوش الصغير [1946/ 2001- 2009م/؟] في البيت الأبيض، ولعب دورا رئيسا في الاحتلال الانجلواميركي للعراق ومضاعفاته [مارس 2003م]. انتهى حكم بلير بإقالته من الحكم وطرد من حزبه لاتهامه بجرائم سياسية في حرب العراق. ومنذ اقالته تلاحقه قضايا جرائم حرب وهو غائب عن الظهور. استلم الحكم والحزب من بعده العمالي السكتلندي جورج براون [1951/ 2007- 2010م/ ؟]، ليعود الحكم ثانية للمحافظين منذ (2010م) حتى اليوم.
    • سرن كيركغارد [1813- 1855م] فيلسوف دنماركي مؤسس الوجودية المؤمنة.

 

(64)

كنا نتمشى في أمكنة جديدة عليّ.. لم يسبق لي التعرّف إليها.. لندره هذه مدينة عجيبة.. مدينة سحرية.. تمنيت لو لم تكن عاصمة كولونيالية.. لو كانت سويسرا أو النمسا أو تشيكيا.. لا يعيبها غير تاريخها العدواني وطموحها المريض الذي ترسمه نساء مريضات.. أكثر بلد تسوده النساء وأكثر بلد غارق في الدم.. ولكنه من الداخل جميل الترتيب والتنظيم..

لو كانت قلعة الاشتراكية بدل موسكو لما سقطت أبدا.. لكنها أتبعت الطمع وغويت بالتسلط وظلمت نفسها.. ماذا كان يفعل ماركس هنا إذن.. يبحث عن الدفء في أروقة المتاحف.. لأن زوجته البارونة تهجره دائما وتهرب مع أطفالها من الفقر والشحاذة..

إذا قلت أكرهها لا أكون صادقا.. وإذا قلت أحبها لا أوافق نفسي.. مهما تصفحتها تتكشف عن أسرار ومفاجآت.. لأول مرّة كان عليّ أن لا أفكر في المكان.. لا أسأل عن اسم المنطقة وكيف أعود إليه.. كلّ ما عليّ هو الكلام والكلام والمسير والحياة على السّجية..

وفي الغالب كنت أنا وحدي أتكلم.. أقول شيئا وأتفرع منه ثم أعود وأعقب عليه وأبين ملاحظاتي عنه.. لم يكن يهمّني ماذا قال الآخرون.. ولتفادي الحرج.. صرت أسبق أفكاري المحرجة بعبارة – برأيي الخاص، حسب وجهة نظري، حسب اجتهادي، هذه هي قراءتي للموضوع- وهكذا لم أسمح لأحد بمداخلة أو إبداء رأي..

سيكون للجميع وقت كافٍ للردّ والمناقشة والاعتراض، بعد انتهاء المحاضرة..

المهم أن أقول آرائي قبل أن أموت.. وهكذا أبرئ ضميري أمام الوجود.. فالانسان مجرد رأي ، بعض فكرة.. ماذا يبقى من البشرية غير بضعة أفكار.. طبعا..

هل تعتقد بوجود وليمة لحوم وأعضاء بشرية سوف تقدم ذات يوم.. المناسبة الوحيدة للوليمة هي النار المحرقة.. لكن الفكرة لا تحترق.. من الفكرة تخرج فكرة.. والحياة فكرة.. الوجود فكرة..

الإنسان مجرد تجسيد لفكرة.. الحضارة تجسيد هندسي لمنظومة من أفكار.. مجرد اختبار لمدى نجاعة الأفكار.. وقدرة نجاح خلايا العقل في معالجة الفكر.. وظيفة الفلسفة هي إنتاج الأفكار.. إنتاج الأفكار أفضل من إنتاج شيء آخر كالأطفال مثلا.. طبع الكتب أفضل من طبع البنكنووت..نوت.. حلقات المناقشة أفضل من اجتماعات التسبيح وتبجيل الحاكم..

عندما ارتقينا التلة صارت لندره تحت.. في كل الإتجاهات ترى المدينة تحت.. العمارات والشوارع والأبراج والسيارات تحت.. السماء قريبة والأرض بعيدة.. البشر صغار مثل الذرات.. هل نلتقط صورة هنا.. قف من هذه الجهة.. طيب أنا ألتقط الصورة.. سرنا قليلا وغيّرنا الإتجاه والتقطنا صورة أخرى..

صارت لدينا مجموعة صور جميلة.. صورنا لندره من جهات مختلفة.. لكن كيف تعرف لندره.. لا يوجد شيء اسمه لندره.. الأبراج والعمارات والشوارع في كلّ مكان.. من أين جاءت تسمية لندره.. لا عليك.. لندره هي فكرة.. مجرّد فكرة.. كل فكرة افتراض.. الإنسان كله مجرد افتراض.. خاطر.. لماذا لا تكون بغداد مثل لندره.. أنت قلت لندره فكرة.. لكن بغداد تاريخ.. واقع.. أقصد.. أريد صورة مع بغداد.. هل يوجد جبل في بغداد.. أنا وأنت نأخذ صورة مع بغداد.. ضحكت.. لا أريد.. هل ضحكت من الفكرة أم من بغداد..

جلسنا على مصطبة البلدية.. كلّ مصاطب البلدية خضراء.. تماهيا مع الطبيعة.. أنا أحبّ الطبيعة.. لكن الطبيعة أيضا فكرة.. والفكرة قابلة للتطور.. هل يأتي يوم لا توجد فيه طبيعة.. محتمل مجيء يوم لا يكون فيه انسان.. ماذا يصبح الإنسان عندما يتطور.. عصفور.. عصف ريح.. كيف تتعبد العصافير.. أعني الكائنات الجديدة التي يتطوّر إليها البشر.. هل ستكون ثمة عبادة على الاطلاق.. مجرد أفكار.. بالنتيجة كلّ شيء يعود إلى أصله.. مجرّد هواء أو ضوء.. مجرّد فكرة..

جلسنا متقاربين.. وجهانا نحو قمة التلة.. طرف المدينة وراءنا.. جعلت جلستي جانبية لكي أنقل نظري بين الطرفين.. كانت الكامره تأتي من الخلف.. خلعنا معاطفنا ووضعناها على المصطبة.. الريح كانت شديدة والهواء بارد على التلة.. الشمس ساطعة ولكن الحرارة مفقودة.. في الصورة لن تظهر البرودة.. ستظهر حرارة الصيف.. الصور أفكار تتحرّك في ذهن الناظر..

لم أتصور أن أتصوّر بهذه الكثرة ذات يوم.. ما التقطته اليوم من صور أكثر مما صورته في كلّ حياتي بمئات المرّات.. قبل اثني عاما راقبت الفتاة النمساوية وهي تضع الفيلم الثالث في الكامره وتصورني من كل زاوية.. من بين ثلاثة أفلام، أكثر من مائة صورة بورتريه استخدمت واحدة فقط في كتابها.. ومن ثلاث ساعات تصورني كامره تلفزة صوتا وصورة.. كذبت علي الفتاة عندما قالت ان الكامره لا تلتقط الصوت.. وكنت أتكلم على السجية.. تكلمت في كل المحظورات.. عندما استمعنا الى جزء من التسجيل ابتسمت.. قالت انهم سيمسحون الصوت.. ثم قالت.. لا بأس.. الكلام عادي.. كلّ هذا سيبقى للتاريخ.. للتاريخ ذاكرة.. والإنسان تاريخ.. ماذا يعني إنسان بلا ذاكرة.. وبلا تاريخ.. ماذا يعني تأريخ.. جلجامش تأريخ.. ذاكرة يعني شعب!..

لقد نجحت أن أجعل لنفسي تأريخا.. يقرأه من يأتي من بعد.. صحيح ليس لي امرأة أو ذرية أو ملاعق ذهب وليالي ملوّنة.. وثياب باهظة الثمن.. لكن عندي تأريخ وذاكرة ناطقة..

لماذا تتجسس المرأة على أفكار الرجل.. عشتار أو خادمتها تجسست على أفكار جلجامش.. من قال ان ملحمة جلجامش كاتبتها امرأة.. ماذا كانت وظيفة المرأة قبل ظهور الرجل.. جميلة هي المرأة عندما تخون.. جميلة عندما تبتسم أو تغضب او تزعل.. ما يتبقى هو الجمال.. عندما يسيح الوقت..

 

(65)

اللاندلورد قال أنه سيبدل شباك المطبخ.. أمس دخل الشقة من غير أذني.. كنت في المستشفى، ولم يتصل بالتلفون!.. في هذا البلد العلاقات إخوانية وعائلية من منظور اللوردات.. إذا تكلمت سيطردني للشارع.. ولن يحاسبه قانون.. لا يوجد قانون يحاسب لاندلورد.. اللاند لورد هو القانون.. من أنت.. أقصد من أنا.. مجرد جرذ، يعتاش على جلدة الامبراطورية.. القانون لا يحمي الضعفاء..

سيكون لك شباك جديد!..

هكذا قال العامل المشرف.. يقصد أنني سأحمله في جيبي، أو أعلقه على صدري مثل صليب وأخرج للشارع.. كل من يراني سينحني لي اجلالا بسبب شباكي الجديد..

شباك جديد في بيت قديم.. شباك ألمنيوم يتيم في بيت كل شبابيكه خشبية موديل عثماني..

دونت كومبلين.. بي هابي.. يو هاف تو بي هابي.. يو ار ان انكلاند!..

أشعر بجوع دائم.. أشعر بعطش دائم.. لا أستطيع أن آكل بسبب حميّة السكر وفقدان الوزن.. القهوة أصابتني بالادمان .. أحن إلى خبز امي.. إلى تنور أمي الصباحي..

أكثر شيء أذكره من أمي هو خبز التنور.. قميصها الملطخ بالعجين.. وجهها الملفح بلهب التنور.. قبل أن أنهض من السرير أسمعها تكسر أغصان الحطب.. أحيانا أتاخر في النوم وأشمّ رائحة الخبز الحارّ.. أبلّل الخبزة بالماء البارد وأقضمها مثل التورته.. لماذا لم أبق طفلا.. لماذا نكبر ونتعذب ولا نموت..

أمي تعذبت كثيرا وماتت.. كل الذين يموتون يتعذبون.. ومن لا يموت يتعذب.. أنا أتعذب وأتعذب ولا أموت..

فريد هو إسمي الأول.. دعتني به أمي عندما ولدت.. والدي كان يومها في السجن. وعندما عاد إعتقد أن أمي سمّتني على إسم مطرب.. فاختار لي إسم مطرب آخر، لا أدري إن كان يحبّه حقا.. وعندما وعيت على نفسي صرت أغنّي مع نفسي.. عله الله تعود عله الله.. يا ضايع في ديار الله (*)..

لم أعرف أنّ مطرب أمي هو ملحّن هذه الأغنية لمطرب والدي.. وكلّما كنت أغنيها أضيع وأضيع أكثر.. وضاعت أمي وضاع أبي.. وافترقنا الواحد من الآخر، مثل خرزات سبحة فارطة.. عله الله تعود.. أمنية ضعيفة: معناها لعلك تعود.. أضعف حالات التمنّي ما اقترن بلعلّ وعسى..

أين أعود.. حتى المكان انمحى.. والبيت أصبح كومة حجار.. والغرباء عاثوا في المكان(*).. كلنا ضائعون في ديار الابالسة(*)..

أنتقل من بلد إلى بلد.. وكلّما أدخل بلدا.. ينزل الخراب فيه.. هذا ثالث بلد.. أردت الذهاب إلى الصحراء الأفريقية.. لكن الانكشاريين وحرس المرابطين أوقفوني وردّوني..

حتى الصحارى صار لها حراس وقراصنة.. أين هو الأمان يا أبي..

فقدت بشاشتي وابتسامتي الطبيعية التي ولدت بها.. تغير شكلي كثيرا.. في كل مكان يتحاشاني الناس.. وعندما أتحدث اليهم، يقولون.. لقد تغيّرت.. شكلك تغيّر كثيرا.. لم نعرفك!.. لماذا يخشى الناس التغيير.. ماذا يقصدون بالتغيير.. هل فقدان الوزن يعني تغييرا.. أم هو فقدان شيء آخر.. الناس يخافون الفقدان.. وهذا أصحّ.. هل أنا شبح ميت.. يذكرهم بيوم القيامة مثلا؟..

جلست أمام ثانوية كوبلاند وغنيت..

ضاع كلّ شيء للأبد.. ما أظن يرجع بعد..

أنا وفيت الوعد.. والزمن بيه خان!..

لا تقل لي كان كان.. ينفعك ذاك الزمان..

المكان ما عاد مكان.. عيشه بس من غير أمان!..

خلي كَلبك من حديد.. وابتدي جدّه وجديد..

غيّر اسمك العتيق.. وخلي لك اسم فريد!..

ــــــــــــــــــــــــ

    • أغنية (عله الله تعود) للشاعر ميشال طعمة، من ألحان: فريد الاطرش، وغناء: وديع الصافي: مقام البياتي. وهي الأغنية الوحيدة التي لحنها فريد الأطرش لوديع الصافي في بداية الستينيات. تقول كلماتها: على الله تعود على الله/ يا ضايع في ديار الله/ من بعدك أنت يا غالي/ ما لي أحباب غير الله/ يلي مرمرت زماني / كانك بطلت تهواني/ يا أبو الأحباب لاقيني/ من بعد غياب هنيني / حاجي من دموعي تسقيني / نشفت دموعي اي والله/ على الله تعود بهجتنا والفراح/ وتغمر دارنا البسمة والفراح / قضينا العمر ولف ضل وولف راح / وضاع العمر هجران وغياب/ لو جاني يوم مرسالك / وطمني يوم عن حالك / لطرب الفؤاد كرمالك / واسجد على أبواب الله!..
    • فريد فهد فرحان اسماعيل الأطرش [1910- 1974م] من مواليد سوريا/(السويداء)، عاش واشتهر في القاهرة، ومات في لبنان/بيروت. من عائلة الأطرش المعروفة في جبل الدروز، كانت والدته: الأميرة علياء حسين المنذر (ت 1968م) مطربة تؤدي العتابا والميجنا، أنجبت خمسة أطفال، ثلاثة ذكور وبنتين، اشتهر منهم فريد وأخته آمال/(اسمهان) [1912- 1944م] في عالم الغناء. مات والده عام (1925م): في أحداث الثورة السورية (1925- 1927م)، وهربت العائلة الى مصر/(القاهرة). في القاهرة عمل فريد موسيقيا يعزف على العود، ثم مطربا، كانت أولى أغنياته (يا ريتني طير أطير حواليك) من شعر ولحن الموسيقار الفلسطيني يحيى أحمد اللبابيدي [1900- 1941م]، التي فتحت له باب الغناء في الاذاعة مرتين في الاسبوع، قبل أن يشتهر ملحنا من الطبقة العليا الى جانب القصبجي ومحمد عبد الوهاب. شارك في تمثيل (31) فيلما، وقد كان نشاطه الفني في الفترة (1934- 1974م)، أشهر أغنياته: (الربيع)، وأشهر أفلامه (حبيب العمر).
    • وديع فرنسيس الصافي [1921- 1913م] مطرب وملحن لبناني، من ألقابه الفنية: صوت الجبل، مطرب الأرز، الصوت الصافي، عملاق الطرب، قديس الطرب، صاحب الحنجرة الذهبية، مبتكر المدرسة الصافية. بدأ مشواره الفني عام (1938م) في أغنية (يا مرسل النغم الحنون) للشاعر الأب نعمة الله حبيقة، ومن لحنه وغنائه، فازت الأولى في مسابقة ضمت اربعين مشاركة اعدتها الاذاعة اللبنانية. الى جانب مجموعة فنية تضم فيلمون وهبي والاخوين رحباني وزكي ناصيف وتوفيق الباشا، ساهم وديع الصافي في تشكيل شخصية الاغنية اللبنانية الجديدة التي تركز على مواضيع حياتية ومعيشية تتعلق بالشخصية والبيئة المحلية اللبنانية، مثل أغنيته الأولى (طل الصباح وتكتك العصفور)/(1940م) من شعر أسعد السبعلي [1910- 1998م] ولحنه وغنائه. (1944م) زار مصر والتقى محمد عبد الوهاب[1902- 1991م]، [1947- 1949م] اقامة في البرازيل ، (1950م) بعد عودته من البرازيل اطلق اغنية (عاللّوما) مطعمة بموال شرقي، وسمعه عبد الوهاب في أغنية (ولو) المأخوذة من أحد أفلامه فعلق قائلا: (غير معقول أن يملك أحد هكذا صوت). (1976م) خلال الحرب الأهلية هاجر الى مصر ومنها الى أوربا، حيث استقر في باريس/(1978م). منذ (1980م) اتجه للأنشاد والموسيقى الروحية. ترك وراءه تراثا زاخرا من الفن الغنائي الأصيل ومواويل جبال وليالي لبنان. من أقواله: ما أعز من الولد إلا البلد!.
    • ميشال ابراهيم طعمه [1933- 1976م] من مواليد لبنان/(كفرنيس)، شاعر مطبوع لقب بالشاعر الشلال، وصاحب الثلاثة الاف أغنية. حظت اشعاره باعجاب كبار الملحنين والمغنين في بين الخمسينيات والسبعينيات. بدأت مسيرته بلقائه المطربة نجاح سلام في بيروت، التي غنت له قصيدة (أنت.. أنت..) من ألحان: شفيق ابي شقرا. ثم انتشر صيته في الأرجاء. غنت له: صباح (75) أغنية، نجاح سلام (52) أغنية، احسان صادق (52) أغنية، وديع الصافي (35) أغنية، نزهة يونس (30) أغنية، هيام يونس (23) أغنية. كما غنى له كل من: فريد الأطرش، سميرة توفيق، عصام رجي، نور الهدى، فايزة أحمد، وديع عبدو، وليد توفيق، موفق بهجت، سعاد محمد، سهام شماس، جاكلين، شاديه، فهد بلان، دلال شمالي، جورجيت صايغ، نصري شمس الدين، محرم فؤاد، سمير يزبك، هناء الصافي، حياة الغصيني، ورده، حنان، نهى هاشم، نور الملاح، جوزف ناصف، ملحم بركات، محمد سلمان، طروب، حليم الرومي، عبدو ياغي، جوزف ناصف. واخرون.
    • يقول موسيقار العصر كاظم الساهر (مواليد الموصل/ 1957م) في احدى روائعه الغنائية: نفيت واستوطن الأغراب في بلدي، ودمروا كلّ أشيائي الحبيبات!.

 

(66)

سار ماريو وسرت إلى جانبه.. الواقع كنت أتبعه.. بعدما عبرنا الجسر.. سألني مبتسما..

  • هل في ذهنك مكان محدد نذهب إليه؟..
  • لا.. أنت أعرف!
  • ما رأيك في كافيه اميركاني؟..
  • أميركاني..؟!
  • هل لديك تحفظ؟..
  • لا.. لا.. أعني أننا في النمسا!
  • ألا يجوز كافيه أميركاني في النمسا؟..
  • وهل مكانه في الأورفه(*) أيضا؟..
  • أجل هو قريب.. أميركان ستايل سيعجبك حتما!

كنا قد اجتزنا الجسر، حوالي خمسين خطوة عندما احتلت الرصيف عبارة كبيرة ومميزة بشكل بارز: (كافيه ومطعم فيلادلفيا).. ودون أن ينتظرني أو يلتفت، كان ماريو قد دخل الكافيه واختفى عن ناظري..

وقفت في مكاني لأفتقده.. وأحصل على برهة من التفكير في الخطوة التالية.. طال وقوفي وانتظاري، دون أن أرى ماريو..

دخلت بتمهل.. كانت المقاعد كثيرة ومتداخلة.. مقعدين مقابل مقعدين.. بحيث يصعب الجلوس دون اشتباك مع الجالسين على اليمين والشمال والخلف.. نظرت إلى طاولة البار الطويلة والعالية.. بعض الندل يمسحون الزجاجات بمناديل بيضاء، منقوش عليها اسم المطعم..

هل هو مطعم أو كافيه أو مشرب.. شباب نحيلون في بناطيل سوداء وقمصان بيضاء.. شعرهم أسود قصير.. كنت أتحضر لسؤال أحدهم.. عندما ندّت عني لفتة جهة الواجهة الزجاجية.. وجدت ماريو جالسا في الزاوية الملاصقة للشارع.. وهو يمسك بيده قائمة الأطعمة.. دون أن يدعوني أو يعبأ..

اقتربت من المكان بتمهل، دون رغبة مسبقة بالبقاء.. ومن غير تفكير سحبت الكرسي مقابله وجلست وأنا أتلفت مستكشفا المكان.. مدّ ذراعه بلوحة كبيرة على شكل غلاف كتاب، وهو يقول: إختر ما يعجبك..

وضعت القائمة على الطاولة.. وصرت أراقبه ساهما.. لم يكن هذا ماريو الذي أعرفه.. ولكن ما يهمّ.. دعني اتعرف عليه جيدا.. هذه أول مرّة نخرج سوية.. والدعوة هي رغبته.. لا تستطيع أن تقول اليوم عن أي شخص، مهما كانت صلتك به، أنك تعرفه!.. فكل انسان يحاول أن يمضي في حريته إلى الحد الذي يعجبه، حتى لو غير شخصيته من لحظة الى لحظة.. هو حرّ.. وأنت حرّ في البقاء أو تركه في أي لحظة..

الآن أعرف أن في داخل ماريو شيء آخر.. هذه هي منفعة الهواء الطلق..

كان النادل يقف على رأسي.. وماريو يعدّد ويشرح له طلباته.. ثم التفت اليّ.. فقلت.. (كافيه!)

  • لاتيه اميركاني!..
  • لاتيه!..
  • هل من رغبة أخرى؟..
  • لا..

أجابه ماريو.. وهو يجلس منشرحا على أريكته الصغيرة.. ويقول:

  • أفضل أن أكتب قصائدي في هذا المكان.. هذا هو مكاني المفضل دائما!..
  • .....!
  • أكيد سيعجبك!..
  • أعتقد ان هذا هو المكان الأميركاني الوحيد هنا.. أم هناك مطاعم ومراكز أخرى.. أعني أميركية!..
  • هذا هو الوحيد الآن!... هل كنت في المبنى المجاور.. أعني المتحف الالكتروني.. أعتقد اننا زرناه سوية في الكوليج..
  • أجل!..

وضع النادل الطلبات على الطاولة.. ووقف في مكانه.. مدّ ماريو يده إلى جيبه، وفعلت أنا مثله.. كنت أنوي أن أعزم عليه وأمنعه من الدفع.. عندما وضع مبلغا في يد النادل وهو يشير إلى العصير أمامه.. كنت أراقب بصمت.. سأله النادل: كلّ الطاولة أو لمفردك..

  • لمفردي..

سألت النادل الذي التفت نحوي عن الحساب.. ودفعت له قيمة القهوة..

بدأ ماريو يمتدح عصير الكوكتيل الأميركاني.. الذي لا يوجد مثله.. ولا يشرب غيره كلما جاء إلى هنا.. وكنت أستمع اليه، بالأحرى أراقبه وأتابعه بصمت.. ثم سألني..

  • وأنت.. أعجبتك اللاتيه؟..
  • سأتذوقها الآن!.

أخرج من حقيبته دفترا صغيرا.. ثم فتحه وأخرج من باطنه أوراقا عدة.. نثرها على الطاولة حتى ازدحمت.. وبعد أن قلبها عدة مرات ونقل نظره بينها.. دفع إليّ رزمة أوراق وهو يقول:

  • هذه.. اقرأها.. أود سماع رأيك..

وقبل أن أبدأ القراءة.. وأنا ألاحظ الرزمة.. دفع إلي بأوراق متناثرة أخرى.. وقال: لا.. إقرأ هذه!..

  • أفضل أن أقرأها بتمهّل.. هل يمكن أن اخذها معي وأعيدها إليك لاحقا..
  • لا.. أريد أن أعمل تعديلات عليها..
  • إذن.. لا فائدة من الاطلاع عليها الان.. قبل أن تنتهي منها..

جمع أوراقه ثانية.. وبدأ يتحدث عن نفسه وعائلته.. صعوبة ظروفه، ولكنه كان مسرورا ويتحدث بمعنويات عالية.. قال أنه أراد الانتقال إلى المانيا.. لو كان في ألمانيا لكانت الظروف أفضل.. بالكاد يشعر بالتقدم هنا.. ثم عاد ليسألني عن نفسي وهل أجد الوضع أفضل هنا بعدما تركت بلدي.. قلت له..

  • أنا لم أترك بلدي.. ولم أستطع الخروج منه..

سحب رشفة من العصير بقصبة طويلة.. وعيناه تتابعانني..

  • بالنسبة لي.. المشكلة كانت الحرب.. وعندما خرجت.. بقيت الحرب معي.. أنا لا أوجد الآن من غير الحرب.. ولا أستطيع نزع الحرب من ذاكرتي ووجداني.. آثار الحرب وذكرياتها تعيش في داخلي وتفصلني عن العالم.. أنا أكتب لأنزع الحرب على الورقة..
  • جيد أن تكون لك قضية تنطلق منها في كتاباتك..
  • كل إنسان أو كاتب له قضية.. لكن الحرب ليست قضية.. تعرف.. أنها حالة غير طبيعية.. مثل مرض أو جريمة.. وحربنا غير مفهومة.. الحرب الأوربية الثانية حدثت بسبب التضخم والكساد.. لكن حروبنا غامضة ومجهولة السبب.. خرجنا من الحرب سهوا أو خطأ.. كثيرون ماتوا وتضرروا.. دون أن يعرفوا لماذا حصل ما حصل.. تعرف.. هذا هو السؤال!..

ــــــــــــــــــ

    • الأورفه/(Urfahraner Platz): كلمة (أورفه) معناها (ضفة) في الألمانية. وهي الجانب الشمالي من نهر الدانوب/(Donau) الذي يمرّ من وسط مدينة لنز/(Linz)، عاصمة مقاطعة النمسا العليا. بعد خسارة ألمانيا والمحور لحرب (1939- 1945م)، وضعت ألمانيا والنمسا لمدة عشر سنوات تحت إدارة قوات الحلفاء. وكان نفوذ الجيش الروسي في منطقة الاورفة من لنز، والجيش الأمريكي الضفة المقابلة التي تضم القلعة والمدينة القديمة. وكان موقع الكافيه الأمريكي في الأورفه، للمفارقة!.

 

(67)

عندما فقدت وزني بتلك الطريقة، لم أكن أريد أن أموت.. بل كنت أتحول بيولوجيا من حال إلى حال، ومن شخصية لأخرى.. دون المرور بحادث سيارة أو الإصطدام بشجرة في منعطف.. فتلك من قصص المخابرات..

أعني.. أن حوادث السيارات والإصطدام بالأشجار، ليست للموت.. فلا كاموك(*) مات، ولا الملك غازي (*) مات، ولا لورنس (*) ملك المثليين، ولا أنا طبعا!..

صحوت وأنا أشعر بصداع يفتك برأسي.. أشعر بجوع داخلي.. الساعة الآن الرابعة والنصف فجرا.. الضباب شديد على العمارة المقابلة.. ضوء شاحب عبر النافذة.. أريد أن أذهب للحمام ولا أستطيع.. أستطيع الذهاب للحمام ولا أريد..

طيلة الوقت وأنا متوزع بين طريق الحمام وباب المطبخ.. أي قرف أن أكون محبوسا بين مطبخ وحمام.. طعام وفضلات.. فم ومخرج.. مدخلات ومخرجات.. هل هذه هي حياة الفردوس.. أم أن النياندرتال(*) لم يكتشف أفضل منها لاستمرار جنسه..

عقلي لم يقتنع بطعام الأمس.. كثرة في السلطة.. في أوراق الخضرة.. كثرة في الهشاشة.. خيوط السباغيتي الطويلة بلا طعم ولا وزن ولا كتلة.. لا تشعر بأي امتلاء.. كأن الطعام مأدبة مرسومة على الورق.. الأكل صور على ورق..

نحن لا نأكل بل نمثل الأكل.. كما في مسرحية.. نمثل صورة عائلة ونحن غرباء.. نحتمي من بعضنا البعض بأسلاك مكهربة من الخوف وعدم الثقة.. وعندما يتحدث أحد ما.. ننشدّ إليه بعيوننا وأذهاننا لنبدو مشغولين معه..

في الواقع هو يتحدّث لوحده.. ونحن لا نفهم ما يقوله.. ولا نشاركه أي شعور.. هكذا تعلم الغربيون أن يمثلوا مظاهر سعادتهم المدنية.. يتظاهرون بالسعادة والأناقة والاكتفاء والقناعة.. يتكلفون الكلام من طرف الشفة.. مثل طريقة مسكهم الشوكة والسكين.. لوضع حبة طعام في أفواههم.. لا تكفي منقار عصفور..

لا تكفّ عيون الغربي عن مراقبة جلسائه خلال الطعام.. معتقدا أن ذلك يزيد أجواء الحميمية.. ربما بسبب الخوف أيضا.. وبين وقت وآخر يذيع تقريرا من استنتاجاته عنك.. يبدو أنك لا تحبّ المادة الفلانية.. أنت لا تأكل غير المادة الفلانية.. يبدو أن الشيء الفلاني لم يعجبك..

هكذا تستمرّ المحاكمة خلال الأكل.. بعد الأكل.. بسبب الأكل.. وإذا تحدثت في السياسة.. يتظاهر بعدم سماعك..

الطعام في الكنيسة مناسبة جميلة ولكنها تفقد معناها.. بروتوكولية أكثر من اللازم.. تحوّلت لنوع من الواجب.. أكثر من كونها فعل محبة وتطوع.. في كل مرّة يصرح أحدهم أنه لا يأكل اللحم والآخر يتبع حمية وهذا لا يريد الرزّ.. وأن المسكرات لا مكان لها على المائدة.. مجرد كلام.. مجرد كلام..

بعضهم يمسح الصحون.. ويستمرّ في الطعام بعد أن يكون غيره تركوا المائدة.. طعام النساء عكس المطلوب.. رخيص قليل الكلفة وخال من الدسم.. يقابله كلام كثير.. وشغل كثير واستهلاك صحون وقدور أكثر من ضعف المطلوب..

أمس.. بادرت إلى غسل الأواني والصحون .. يحدث هذا لأني أنتهي من الطعام قبلهم ولا أتشاغل بالحديث أو مراقبة الآخرين.. جمعت بعض الصحون الفارغة إلى صحني وذهبت إلى المجلى.. ولم أخرج منه الا والقاعة قد خلت.. لا أعرف متى غادروا..

عندما تناولت قهوتي بعد انتهائي من الجلي.. كنت لوحدي.. كما لو أنني في حجرتي كالعادة بلا رفقة ولا ألفة..

بعد الطعام أود البقاء في مكاني لربع ساعة أو نصف ساعة لو أمكن.. طقس اعتاده جسدي.. وكان هذا يسبب لي مشكلة في المطاعم الحديثة التي لا تريد للزبون أن يجلس أكثر من وقت طعامه..

بمجرّد التوقف عن الأكل يداهمك الجرسون ويمدّ يديه أمامك أحيانا بغير استئذان..

البزنس يتطلب وقاحة.. هذا ليس دار استراحة.. يصرح أحدهم من الجانب الآخر للمطعم.. حتى الطعام بزنس.. مثل أي شيء آخر هذه الايام.. حتى الزواج والغرام والجنس والمجاملات التافهة بزنس وصفقات ونصب.. تفوه على الحضارة.. تفوه على الفلوس التي سمّمت كلّ شيء ودخلت في كلّ شيء ومسخت البشر وغير البشر..

إعلانات الأكل باذخة.. ولكنها رخيصة التكلفة وعديمة القيمة الغذائية.. كثيرة البهرج ومن غير طعم.. بدأت أغيّر رأيي في ماريا عندما إنتبهت لتصرفاتها.. في كل أول شهر يكون دورها في الطعام.. وفي كلّ مرة تكرّر نفس الأكلة.. سلطة خضرة وسباغيتي وحساء لحم.. وفي كلّ مرّة، تستمرّ هي في الدّوران بيننا حتى نهاية الاكل.. حتى لا يبقى أحد لا يقول لها: أنت لم تأكلي.. اجلسي وتناولي طعامك بليز!.. تمثيل وتكلف أكثر من اللازم.. هل هذه هي المدنية الحديثة!..

الأجواء الاجتماعية بعد العظة جميلة ومطلوبة.. سيما وأكثرنا غرباء بلا أقارب أو علاقات اجتماعية في هذه البلاد.. لكن الخوف وكوابيس الرأسمالية تضطهد جوهر العلاقات الانسانية.. عندما أتصرف أحيانا بشكل مختلف ولا أعير أهمية للمال أو الكلف.. يعتقدني البعض ساذجا ولا أعرف حياة اليوم.. يحدث هذا من أقرب شخص اليك.. ربما لأنك تحرجه باختلافك عنه!..

المجاملات المفرطة تفسد العلاقة.. حتى في حجرة النوم.. عندما تلحّ المرأة في امتداح نفسها تفسد المشاعر.. وتتراجع لذة العلاقة وبراءتها.. الحياة فارغة بشكل لا يحتاج لتأكيد تفاهتها.. عندما يصر الآخر على تعظيم ما يقوم به.. اشتريت المادة الفلانية من السوق الفلاني بالسعر الفلاني.. لأنّ بضاعة السوق القريبة من منطقتنا ليست طرية وليست بيو...

ــــــــــــــــــــــــــ

    • غازي بن فيصل بن الحسين بن علي [1912- 1939م] ثاني ملوك العراق، عرف بتوجهه الوطني ونفوره من الانجليز، توفي في حادث سيارة غامض في (4 ابريل 1939م)، مما أفرز مضاعفات واحتجاجات جماهيرية، تطورت إلى ثورة (1941م) التحررية، الذي ردت عليه انجلتره بالاحتلال العسكري الثاني، وأفرزت صعود شخصيات نوري السعيد [1888- 1958م] وعبد الاله [1913- 1958م] للفترة اللاحقة.
    • توماس ادوارد لورنس [1888- 1935م] جاسوس انجليزي خدم في المشرق العربي وحرض عرب الحجاز ضد الحكم العثماني، وصف تجربته في كتاب (اعمدة الحكمة السبعة). توفي حادث دراجة نارية وهو يقود بسرعة في منعطف (19 مايو 1935م).
    • هومو نياندرتال: من القردة العليا، احد مراحل تطور السلف البشري، وجدت آثاره في أوربا/ جنوب فرنسا للفترة قبل [350000- 24000] خلال العصر الجليدي، اكتشفه كنغ العام (1864م). ويشبه العلماء أوربا تلك الحقبة بأفريقيا التي لا يفصلها عنها غير مياه المتوسط، من حيث الغابات والحيوانات المتوحشة كالماموث والنمور والاسود والضباع ووحيد القرن الصوفي. ومن أحد أجداد هومو نياندرتال ولد هوموسابينز في أفريقيا وقبل (45000) سنة بدأ انتشاره في العالم.

 

(68)

تسعل المرأة التي في الطابق الأسفل.. هي المرأة الأجمل في النزل.. وتسعل كثيرا في الليل.. رأيتها عدّة مرات وهي خارجة تدفع عربة طفل باهظة.. تسعل سعلتين.. تتوقف.. سعلة ثالثة.. يقول كتاب النمل(*) ان مفردات : تسعل وتعسل وتلسع مترادفة المعاني، وهي من آيات الاعجاز.. السعلة واللسعة تجتمع مع عسلة وعسلية.. يخرج من الجافي حلاوة..

في بداية نزولي هناك رأيت امرأة في الحلم، كان رداؤها جميلا.. وبقي الحلم معي حتى الصباح.. عندما خرجت ذلك اليوم.. سمعت صوتا من ورائي.. لم أكن أعرف المرأة.. لكني رأيت الرداء الذي كان في الحلم.. لقد كانت هي نفسها.. امرأة الحلم.. نظرت إليها ونظرت.. انتظرت أن يصدر شيء منها أو تنتبه لي.. لم يحصل.. إذن.. ما معنى الحلم.. لا شيء..

لا أريد أن أتناول شيئا الآن لكي لا أستعجل بداية اليوم .. لا أريد أن أشرب القهوة الآن لكي لا أفقد لذة الفطور.. لابدّ من طريقة تحفظ تقسيمات اليوم والنهار.. حتى ولو بالأكل.. بالجوع.. بالشوق لشيء أو أحد لا يفكر بك.. وربما يفكر بك وتمنعه تعليمات المادية الحديثة من الحب والثقة والاتصال.. وربّما حتى الاحترام لكي لا يبدو ساذجا..

كانت روزا تدعو نفسها حمارة لمجرد أنها تشعر بعاطفة نحوي.. ولا تحصل على ما تريده مني.. وفي كل مرّة أسمع تلك الكلمة أشعر بالابتزاز والتقيؤ.. كأنها تتصور في نظري كما تقول.. وهكذا ماتت مشاعري نحوها ولا أريد أن أعرف عنها شيئا..

تثقيف المرأة وخروجها من البيت ومقاصير الجهل كان جناية شاملة على كيانها.. لقد فقدت براءتها وأنوثتها وقدرتها على الإدهاش.. وصارت مادة عادية مبتذلة لكثرة انتشارها في الأسواق.. وصورها الداخلة في كل شيء بشكل دعائي..

بدء من اعلانات فرشات الأسنان ودعايات غرف النوم والسيارات.. إلى الحملات الدعائية للساسة والمبشرين والوعاظ.. برامج الفضائيات ومواقع النت مليئة بالنساء الرخيصات وايحاءاتهن الجنسية المبتذلة..

أمس وقفت لدقائق أتأمل امرأة تبيع اكسسوارات تافهة في عربة.. وقد وقفت بشكل ملتوي دافعة عجيزتها بشكل استفزازي.. لو واتتني جرأة أو وقاحة لالتقطت لها صورة نادرة.. لم أكن أراقب عجيزتها.. كنت أدرس ملامح وجهها خلال تلك الحركة.. وأحاول تكهّن ما يدور في ذهنها.. وهي تفعل ذلك بلا حراك لمدة طويلة.. دعاية لاجتذاب المستهلكين.. أم هي مندهشة بشكل انعكس على ردفيها، بدل ملامح وجهها.. عندما خرجت من المكتبة بحثت عنها نظراتي.. كانت الساحة خالية من أثر عربة..

الليل وقت والنهار وقت والعمر وقت والعمل وقت.. ولا طريقة مبررة أو مقنعة لقتل الوقت.. ومن غير أفكار جميلة ومشاعر جميلة وعواطف مشتركة.. يكون الوقت مجرد عقوبة إجبارية مسبقة لذنب مؤجل بجريرة الوقت!.

ــــــــــــــــــــــ

    • كتاب الحيوان لأبي عثمان عمرو الكناني البصري المشهور بالجاحظ [776- 868م] وهو أديب معتزلي من تلاميذ ابراهيم النظام [777- 835م]، ومن المتأثرين بأرسطو [384- 322 ق. م.]، من كبار مثقفي زمانه، من أعماله ايضا: البيان والتبيين، البخلاء، وغيرها.

 

(69)

كنت قد عبرت الشارعين إلى الرصيف الآخر، متسلحا بقبعتي ومعطفي المزرر مثل شارلي شابلن (*)، عندما سمعت أحدا ينادي باسمي.. هذه المرّة لم يكن الصوت من داخل عقلي، ولا هلواسا، ولكنه صوت حميم فالتفتّ.. لم أتوقع أو يخطر لي يوما، أن ماريا ستخرج إلى الشارع وتتبعني خطوات.. لتثنيني عن المغادرة..

  • كيف تذهب دون أن تودعني، أنت حتى لم تسلم عليّ.. كيف تذهب هكذا!.. تعال ابق معنا..
  • لدي شغل.. وخرجت مسرعا..
  • ستذهب بعد ذلك.. ابق معنا اليوم!..

ماريا هي الأقرب إليّ في المجموعة.. عند طاولة الطعام تجلس بجانبي دائما وتملأ لي الصحن.. وترعى احتياجاتي .. في أول لقائنا قدمت لي كأس شاي مع ثلاثة أقراص بسكوت.. وجلست تراقبني بينما كنت أتحدث مع القس.. منذئذ أشعر بكهرباء سريرية تجاهها أو من جانبها.. أشعر باهتمامها ولكن من غير خصوصية.. فهي بركة الكنيسة، وتتولى الخدمة العامة.. أشعر بأسئلتها الشخصية.. أستمع لتوصياتها.. وأعتبر ذلك من باب الأخوة.. الإسبوع الماضي، بعد وجبة الطعام.. وضعت تلفونها في يدي وطلبت مني أن أسجل رقم تلفوني، ففعلت.. قالت أنها تريد أن ترسل لي عظة أعجبتها..

عندما ألحّت علي بالبقاء.. قلت لها، ما سبق حدثتها عنه..

  • إذن.. دعينا نشتري بعض اللوازم للمائدة!..
  • ماذا تشتري؟..
  • عصير أو فاكهة؟..
  • لا نحتاج شيئا اليوم.. كلّ شيء موجود!.. تعال..

كنت قد غادرت مرتين.. من قبل.. وأعادتني أخوية الكنيسة.. في المرّة الاولى.. اتجهت للباب بعد انتهاء حديثي مع القس.. ومن غير توديع أحد لتجنب الإحراج.. بينما كنت أدفع الباب.. ارتفع صوت جون قائلا: لا تنهزم.. ارجع!..

التفتّ، لأرى الجميع ينظرون نحوي.. فقلت..

- أردت أن أتسلل هاربا..

قالت كارمن: أين تذهب.. هذا يوم قدس للربّ!.. ابق معنا كل اليوم..

وبقينا نتحدث.. وعندما اقتنعت بأعذاري.. قالت: سامحتك، تستطيع أن تذهب الآن!..

تشجّعت للمغادرة.. ألقيت نظرة على الجميع.. وهم يتحادثون في جماعات.. كانت ماريا تقف مع القس.. نظرت نحوها لتحيتها، ولم أرد ازعاجهم.. فرفعت صوتي بالتحية وخرجت بقوة هذه المرّة..

عند الباب كان القس خارجا فابتسم أو ضحك بغير صوت.. وهو يراني عائدا بيد ماريا.. فيما كان توني يضحك ضحكات مجلجلة.. وهو يشير نحوي.. إشارة لها معنى.. فقلت للقس بعفوية..

- I have to obby, isn’t this what you want

استمر في إبتسامته الصامتة.. ومسح بيده اليمنى على كتفي وهو يخرج.. بينما كانت ماريا تقودني نحو المطبخ..

قلت للقس في نهاية المحادثة.. وأنا اخبره عن اختباري الروحي..

We have to trust Him!

We need to obey Him, because we always trusting Him!

I think both concluded together

عندما أخبرته بمسألة الطاعة، كنت أذكره بوصيته الأخيرة.

أنا أتحدث عن الثقة، وهو يعني الطاعة.

انتهينا من إعداد الطاولتين.. قام شباب صغار بتوزيع الصحون ولوازم الأكل.. بانتظار تسخين الطعام الذي يجلبه معه في كل مرّة أحد أفراد المجموعة بعد إعداده في البيت. وجدتها واقفة على الجانب الآخر من الطاولة.. كان المكان بجانبي مشغولا من الجانبين .. فسألتها بعفوية: أين تجلسين؟..

فأشارت إلى كرسي قبالتي على الجانب الآخر، وجلست.. ومن مكانها، كانت تقوم بخدمة المائدة وتوزيع الطعام على الجميع ، مبتدئة بصحني وصحنها..

انتهيت من الأكل قبل غيري.. سألتني: هل أكملت، قلت لها نعم.. ثم قمت بتنظيف صحني.. وجمعت الصحون التي انتهى اصحابها من الأكل، ومضيت بها إلى المطبخ.. وبعد إلقاء فضلات الطعام في القمامة.. خطر لي غسل الصحون.. أكمل البقية طعامهم وجلوا صحونهم للمطبخ.. قبل الانتهاء من الغسيل جاءت ماريا وصاحت بي:

  • ماذا تفعل.. هل تجيد غسل الصحون؟..
  • أحاول ذلك..

كانت تعرف شعوري بالحرج لعدم القيام بشيء للمشاركة معهم.. وقفت إلى جانبي، وأخذت منشفة لتنشيف الصحون المغسولة.. ثم قالت أخيرا..

- شكرا لك.. اغسل يديك واجلس.. سأكمل الباقي!..

ـــــــــــــــــــ

    • شارلي شابلن [1889- 1977م] ممثل كوميدي انجليزي اشتهر بأفلامه الصامتة، ومنها: الصبي، الدكتاتور، أضواء المدينة، الأزمنة الحديثة.

 

(70)

من نافذتي الوحيدة أراقب قوس قزح ويمبلي ستاديوم(*).. سألت موظف المكتبة العامة عن مهندس التصميم فقال مومئا بيده: أنظر في غوغل.. قلت له: شكرا.. سألني إن كان عليه أن يحجز جهازا.. شكرته قائلا: إني سأعود في وقت آخر..

كنت أقصد فكرة صدفة المحارة المفتوحة، والقريبة من نصب الشهيد العراقي في الثمانينيات.. المحارة لدينا ترتبط بالموت.. نفق نحو العالم الآخر.. وهنا ترتبط المحارة بكرة القدم.. لكن أيا منهما لا تشير للأكل، ولا الماسة وخاتم الزواج المحفوظة فيها.. قال باول أن ألوان القزح المرتبة فيها عددها ستة وليس سبعة، وذلك رمزا للمثليين.. تشتعل الأضوية من اليسار نحو اليمين.. حسب الأبجدية اللاتينية.. القوس عالٍ ينحني فوق القرص المفتوح.. فتبدو ثلاثة صحون.. يمكن رؤيتها على بعد نصف ساعة من كلّ الجوانب..

أحاول حفظ تسلسل الألوان وتمييز اللون الناقص بلا طائل..

تذكرني ألوان القوس بصديقي أيام الجامعة الذي كان يعمل في وقت فراغه في مدّ خطوط الكهرباء.. ورغم كونه خريج القسم الأدبي، ويعاني من قصر شديد في النظر بحيث تم أعفاؤه من الجيش.. فهو يشرح لي الفرق بين التيار المربوط على التوالي والتيار المربوط على التوازي.. أحاول استذكار الفكرة فتخذلني الذاكرة.

فكرة الأضوية جميلة في الليل.. تحيلني إلى صورة النهر في المدينة.. أول مرّة رأيت فيها انعكاس الأضوية في ماء دجلة.. في أول زيارة لي لبغداد.. رافقت والدي في معاملة إضافة الخدمة في وزارة المالية.. صعدنا السلّم الكهربائي العمودي لأول مرّة.. وفي تلك الزيارة الأولية أخذني والدي لمطعم جلسنا في الطابق الثاني وتناولنا الشاورمه.. كانت تلك أول مرة أجلس في مطعم وأول مرة أتذوق الشاورمه..

كلّ شيء في تلك الزيارة كان يحدث لأول مرة في حياتي وما زلت أحنّ إليه.. وأحنّ للأضواء المنعكسة في ماء النهر.. كنت أتمنى السكن على ضفاف التايمز لمراقبة النهر في الليل.. حيث أبراج العمارات هناك لها واجهات زجاجية وشرفات عريضة تقابل الشاطئ..

مع بداية الشتاء جاء عاملان وقطعا أغصان الأشجار العالية في البارك المقابل لنافذتي.. خفتت صور الأشباح التي كانت تتراقص ليلا.. عندما يقع نظري على الزجاج.. لكن منظر البيوت المتراصة على الجانب الآخر صار عاريا من أية لمسة جمالية.. في الليالي المظلمة تبدو لي البيوت مثل عربات قطار طويل.. يزحف بعيدا عن الملعب بلا هوادة.. تزيده أشباح الأشجار وحشة، مثل مسافرين من الهنود الحمر..

شحذت دارينا نهايات الأسهم.. بقطعة الرصاص الخاصة لهذا الغرض.. ثم أعادتها الى صندوق العدة.. قبل أن تقف على البقعة المحددة بجسم منتصب وذراعين ممدودتين.. وجهت نظرة مستقيمة نحو صندوق الكارتون.. انحنت بشكل بروتوكولي وتناولت القوس..

أمسكتها باليد اليمين.. وضعت سهما واحدا في منتصفها بدقة متناهية.. كلتا الذراعين في مستوى النظر وللأمام.. بعد دقيقة من التركيز التام.. إذا كنت محافظا على الهدف إرمِ!.. انطلق السهم واستقر عند جنب الكارتون.. في وسط بقعة الإرجوان الملطخة تماما..

تناولت السهم الثاني وأعادت الكرة.. مثل كل مرّة.. وعندما انتهت السهام الخمسة.. خمسة و خميسة.. تقدّمت بخطوات مستقيمة نحو الكارتون.. درست جيدا مساقط الأسهم.. قاستها من الجانبين.. من الأمام.. عدلت وضعية الكارتون.. وعادت تكمل تدريباتها اليومية..

دارينا جارتي اليسارية.. في الحادي والعشرين من مارس التالي سوف تكمل عامها العشرين.. وهي تحبّ الرياضة.. أعني الرّماية.. دارينا مسالمة جدا.. ورقيقة جدا.. تحبّ الغناء وتقرض الشعر وتتدرب على الرماية.. تقيم في المبنى المجاور في الطابق الأرضي.. وحجرتها الأخيرة من الخلف.. حيث تستطيع استخدام الحديقة الخلفية لتدريباتها لا غير..

ـــــــــــــــــــــ

    • ويمبلي ستاديوم: صممه موت مكدونالد، واستغرق بناؤه اربع سنوات [2003- 2007م] مساحته (105 × 69 م)، ويسع تسعين الف مشاهد، وهو الملعب الرئيس في انجلتره لمباريات كرة القدم، والثاني في سعته في كل أوربا. يغطي فضاء الملعب من الجانب كتلتان من نصف صحن بشكل مائل، مما يوحي بالشبه مع نصب الشهيد العراقي الذي افتتح العام (1983م) من تصميم النحات العراقي البصري محمد فتاح الترك [1934- 2004م].

 

(71)

في الكنيسة نحن مجموعة متماثلة.. آباء فقدوا عوائلهم.. أمهات فقدن أزواجهن.. رجال آخرون لم يتزوّجوا بالمرّة.. ومثلهم نساء بلا زواج.. رجال ما زالوا يعيشون مع أمهاتهم.. في البداية حدث تعارف وترددت أسئلة مزعجة.. ثم انتهى كلّ شيء.. لم يعد أحد يسأل أو يتطفل.. في ساعة المشاركة تجري مناقشات عامة حول الحياة.. الفضاء.. التكنولوجيا الرقمية.. من غير دخول في الخصوصيات.. نعاني.. نكبت.. نتظاهر بأن كل شيء على ما يرام..

راعي الكنيسة هو الوحيد المحتفظ بعائلته التي تحضر معه في الخدمة.. الزوجة والابن.. أنا شخصيا زرتهم في البيت وتناولنا وليمة عيد الميلاد سوية..

رأيت خلالها صور العائلة المعلقة على الحائط.. صور تعود لأيام الشباب وسنوات الماضي.. القس بشعره الطويل في شبابه عندما كان لاعب كرة قدم في أحد النوادي.. ثمة أشخاص في تلك الصور لا يعيشون معهم في البيت.. ولا يحضرون في كنيسة الاحد..

بعد نهاية الخدمة ذات يوم.. أغمي على الزوجة.. وخلالها كانت تهذي بكلمات.. تردّد فيها أسماء أشخاص لا أعرفهم.. تذكرت أنهم بعض الموجودين في صور الماضي..

قالت أنها تريد أن تراهم.. تتكلم معهم.. تريدهم جنبها قبل أن تموت.. أحاط بها افراد الكنيسة.. واتصل أفراد أسرتها بالتلفون أكثر من مرّة.. يريدون حضور أولئك الأشخاص..

الجميع كانوا متفهمين لما يجري.. الجميع هم جزء من تلك التجربة.. كل حسب قياسه.. أنا أيضا جزء من تلك التجربة.. إذا ضعفت مرّة.. عادني السؤال مرة أخرى.. عن الضرورة التي تجعل عائلة تتفكك.. إلى متى يعاني إنسان بسبب أنانية شخص آخر.. جمعه القدر به عن طريق الخطأ؟.. وكيف يمكن معالجة الخطأ من غير آثار..

حياة انسان لا يمكن أن تكون مجرد عود ثقاب يستخدمه البعض مرة واحدة ثم يدعسه بقدمه!..

لم ألتق صديقي الأمريكي ثانية.. لم يرد على رسائلي.. لم يصلني منه ايميل أو رسالة تلفونية.. بحثت عنه في غوغل فلم أجد خبرا سيئا أو مفيدا.. أتذكره دائما.. وسيما قبل أعياد الميلاد.. تراجعت نشرات الأضوية والاهتمام بالكرسمس في ولاية كاميرون الثانية.. بالكاد تجد نشرة جميلة أو مثيرة للانتباه.. قليل جدا من المحلات أو الأسواق تعلق نشرات عند المدخل.. يبدو أن هؤلاء أكثر توقيرا للميلاد.. ربما يعبرون عن مشاعرهم.. أو طمعهم.. هل لهذا صلة بحادثة قتل صاحب متجر مسلم بناء على فتوى لشيخ مصري.. هل تهتز انجلتره العظمى وتخفي احتفالها خوفا من فتوى.. زاد عدد الشحاذين والشحاذات على الأرصفة.. زاد عدد النصابين والنصابات والنشالين والنشالات في المكان العامة.. الاجراءات الأمنية الشخصية زادت بشكل ملحوظ..

لندره تفقد صورتها الكرنفالية.. حركة التسوق خالية من الفرح والحيوية.. الركض والسأم والانغلاق هو صورة الشارع.. هل هذا سبب انقطاع صديقي ومن غير خبر.. ولماذا الكرسمس بالتحديد.. المدينة تتغير.. الاقتصاد يهيمن على عقول الناس وعلى الأخلاق.. تغيرات اقتصادية.. اجراءات اقتصادية.. انقلاب أبيض في سياسة البلد.. وانقلاب أسود في أخلاق الناس..

العلاقات العامة والخاصة تتحوّل إلى مصالح وأطماع وأرباح.. السياحة تتراجع.. اللصوص يزيدون.. أبقى داخل الحجرة أسبوعا ولا أخرج.. لا شيء يحدث.. لا تلفون يرنّ.. مجرد لا أحد.. عندما يرنّ التلفون بغتة.. تلفون شخص طالما لم يردّ علي من قبل.. أتركه يرنّ.. لا اسمع اعتذارات ووعود وأكاذيب..

حتى أصدقاء الكنيسة تغيّروا وصاروا يتحسسون جيوبهم.. كل منهم يعيد جدولة علاقاته الاجتماعية ويضع سلّم أوليات.. برنامج التلفون نفسه يتضمن جداول لأرقام العائلة.. الحبيب.. العمل.. أرقام عامة.. رقم غير مهم.. شخص لا تريد أن تكلمه.. في أي جدول ترى وضعك الذين يعرفونك.. لا عائلة ولا حبيب.. ماذا تنتظر.. كلما زاد الكلام تضاعف الكذب..

ما الذي تغير خلال عشر سنوات.. أين كان الناس نائمين طيلة آلاف السنين.. هل كانوا على خطأ واليوم اكتشف هؤلاء الطريق الصحيح.. الموت والميلاد في المال والطمع.. منذ تراجع أعمار السياسيين والعالم انقلب على رأسه.. ومنذ رواج جيل الألفين في الأعمال والعموم صار العالم يسير للخلف.. وعصر الأنوار انتهى لعصر الظلمات.. والكرسمس من ضحاياها..

 

(72)

في الفترة الأخيرة مررت بانقلابات مضطربة وعنيفة.. تقلبت بين الاندفاع الشديد والتخلّي التامّ.. راودتني خلالها مشاعر مضطرمة وأفكار محمومة.. بين الحاجة والحنين والالتصاق الكامل لدرجة التماهي والتنازل عن كلّ شيء للعائلة تارة.. وبين الاستنكار والتخلي والرفض التامّ واعتبار كلّ شيء منتهيا بلا رجعة..

في كلّ حالة كان عقلي يجهد ويجتهد لدراسة الموقف والتنظير وتقعيده فكريا.. باعتباري.. اعتدت بناء حياتي على أسس نظرية مبدأية.. ورؤية كلّ حياتي في إطار فلسفي ذي منطق وسبب ونتيجة..

لم يعن لي.. وأنا اتقلب مع نفسي بين القطبين.. الارتفاع والانخفاض.. القبول والرفض.. الحنين والازدراء.. كيف يبقى تفكيري منسجما وتتفق الفرضيات والأسس والنتائج.. وفي كلّ موقف وحالة كنت في غاية اليقين والقناعة .. وعلى استعداد لمنتهى التضحية لأجل موقفي الذي أدعوه قناعتي الكاملة والعميقة..

لم يكن من السهل انقلاب الأسود إلى أبيض.. والذئب الى حمل.. في لحظة تتخلل الشعور والفكر، لتعود في لحظة مقابلة لقلب الصورة، يتحول فيها الأبيض الى أسود.. والحمل إلى ذئب..

أنا الذي رسمت لنفسي صورة الرصانة والاتزان.. أكتشف نفسي الآن.. أكتشف أنني متذبذب ومهزوز من الداخل .. وليست لي قواعد فكرية أو عاطفية راسخة.. ولا شيء في حياتي يمنحني طمانينة.. لم أكن لأسمح لأي أحد قبل اليوم التوجه نحوي بنقد.. أو التقليل من شأني.. بل أن التقليل من شأني أهون علي من الشك في فكرة لي أو موقف من مواقفي أو شعور من مشاعري .. أو التقليل من شأني..

ما يبدو قويا من خارج، هش من داخله.. ما يبدو هشا من خارج، أكثر متانة في جوهره..

أفكاري ومشاعري هي أنا.. الإنسان موقف.. كنت أردّد على الدوام هاته اللازمة.. فموقفي أكثر أهمية من ذاتي التي هي جسد فارغ.. لا يمتاز عن الآخرين.. وهو ما لا يتاح لكثيرين اكتشافه أو فهمه أو تبنيه..

الغرور.. كلمة أمقتها.. لكنني في الواقع كنت في داخلي شبه إله وشبه قديس.. لا يرقى أحد لي، ولا يجوز لأحد الشك أو الاشتباه أو ببخس أفكاري ومواقفي!..

مع الوقت.. لم يعد لشكلي وجسدي أيما أهمية عندي.. لا أهتم مطلقا بشكلي وجسدي.. الثياب والطعام.. لا أتأثر لمن ينظر لي بسوء أو يهينني أو يضربني أو يدفعني عن طريقه.. فجسدي جهاز حيواني.. وأنا عقل وفكر وشعور مغترب بين هؤلاء الدّهماء..

الاهتمام بالجسد والثياب والطعام دالة خواء داخلي وتفاهة.. الانسان مضمون.. الحياة معنى.. الوجود جوهر.. ما قيمة اللغة من غير معاني.. ما قيمة الانسان من غير جوهر.. مجرد تمثال أو أيقونة جامدة وفارغة.. جميلة- ربما- من الخارج.. ولكنها بلا جوهر ولا حياة.. الجوهر هو الحياة..

هذه هي معركتي مع نفسي منذ طفولتي.. بل قل منذ وعيت نفسي.. أنا لست أنا.. أنا عقل.. أنا أفكر.. إذن أنا موجود(*)..

قالت المرأة.. الثياب أهمّ من الطعام.. لأن المجتمع يقيمني حسب ثيابي ومظهري الخارجي.. ولكنه لن يعرف ولا يهتم أذا كنت تناولت طعاما تافها أو فاخرا..

هذه كانت الإشكالية.. إشكالية الوجود.. من أنا.. أين أنا في الصورة.. من الذي يحكم أنا أم الآخرون.. بالنتيجة كلنا ضحايا الآخرون.. ونحن بالجملة مجتمع مريض وأطفال مشوهون..

لكم هو تعيس أن يكون المرء مريضا ولا يدري..

يعرف المرء أنه جائع بالغريزة.. ويشعر بالبرد أحيانا والحرارة أحيانا والخوف والشوق.. ولكنه لا يشعر بأنه مريض أو مختلف..

يبدو أن المرض والاختلاف هو معرفة وليس شعورا..

لكن الأنسب عند الضرورة.. أن يعيش المريض المختلف مع شخص بدائي ساذج ليست لديه فكرة عن الثقافة غير التلقين السطحي من المجتمع.. ربما يمكن أن يفيد كلّ الآخر ويستفيد.. لكن التقاء الجبلين ينتج العاصفة..

سوف يرفض كلّ منهما الآخر حتى يصلا لحالة الصدام والرفض.. في البدء يعتقدان أنهما متماثلان ومتقاربان إلى درجة الذوبان في الآخر.. مع المعاشرة والتواصل يبدأ كل طرف باكتشاف المختلف في صاحبه.. حتى يعتبر كلّ طرف نفسه هو الافضل والاصح.. ويحاول توجيه الثاني وتصويبه ومساعدته ورفع مستواه.. كلّ منهما يؤدي الدور نفسه تجاه صاحبه.. مع الوقت تتحول علاقتهما إلى استاذ وتلميذ.. ثم إلى طبيب ومريض.. والمريض يخدع الطبيب.. والخادم يتحكم بالملك..

كلّ طرف يعتبر نفسه الأفضل والأصح والأكثر رقيا وثقافة.. وأن عليه مسؤولية أخلاقية وعاطفية لعدم ترك الثاني يتهاوى أمام عينيه ويتمرغ في لوثة أخطائه..

لكم عشت يا إلهي هذا الصراع الذي ظهر انه صراع ديكة.. ونزاع جزارين لا غير!..

الآن أشعر بالقرف من حضور المرأة.. أشعر بالقرف من الكذب.. كأن المرأة لا تعيش بغير الكذب .. لقد فقدت الثقة بكل وعودها.. والمرأة لا تتكلم من غير وعود.. الوعود هي تجارة المرأة!..

ما زالت البلدية تسند النساء أكثر من الرجال.. مرّة بذريعة الأطفال أو سهولة انصياعهن للتعليمات.. تسند المراكز للنساء أكثر من الذكور.. ولا تنس غلبة النساء في كلّ الدوائر والمؤسسات.. حتى المؤسسة الصحية مؤنثة من السكرتاريا حتى الممرضات والطبيبات.. وعلى حائط الاعلانات علقت لوحة تهدد بتدخل البوليس كل من يزعج الاوأنس.. باستثناء المراجعات الصحية، لابدّ من إهمال المرأة مرّة وإلى الأبد!..

صحيح أني أشعر بالضعف والشفقة على أطفال اليوم الذين يكبرون بغير نسمة أبوية.. يشعرون بإخصاء وخناثة وهم يرون علاقات مشوّهة للأم مع رجال انتهازيين غرباء.. فينشأ الطفل بكرامة مجروحة وضمير ينزف.. ولا مهرب.. آه..

طالما سخرنا من رجال – تربات نسوان-.. يعدّون على الأصابع.. فكيف ورجال الأيام التالية أغلبهم أبناء نسوان مسترجلات!.. عندما يصل تفكيري هنا أشعر بألم وتأنيب الضمير.. ليتني لو لم أكن أبا أبدا........ يا ليت....

فالمرء لا يشعر مباشرة ولا بعد وقت .. أن الآخر ينظر إليه ويعامله بنفس نظرته ومعاملته.. هي تحبني وتعتقد أنني مريض وهي تستطيع مساعدتي وانقاذي.. وأنا أعتقد أنني أنا فقط الجدير بهذا الدور.. وأنها أقل من وعي أخطائها..

هكذا تحوّلت كلّ علاقاتي إلى جحيم.. وصلت درجة الغرور المطلق والمنزلة التي لا يطالها غير المستنيرين وصفوة الأنبياء والفلاسفة.. البعض امتدحني.. وصفني بالحكيم والكامل.. وربما سخروا مني وأشفقوا عليّ في ذات الوقت..

هل كان موقفي هذا هو رصاصة الحسم التي دمّرت علاقتي بالبشر.. الجراثيم.. الحشرات.. البراغيث.. مجتمع الطاعون والغثيان والمسخ والتقيؤ واللامعقول هذا..

ــــــــــــــــــــــــ

    • سرن كيركجورد [1813- 1855م] قال (أنا فكر محض، أنا لم أعش، كنت أفكر فقط). وقال ديكارت [1596- 1650م] قولته المشهورة: (أنا أفكر، إذن أنا موجود)!. الصواب ان الفكر أرقى من الوجود، الفكر سامي والوجود فاسد. والأصل ان الوجود فكرة، كما جاء في عنوان اطروحة شوبنهار [1788- 1860م]: العالم فكرة وارادة. الارادة هي تجسيد لفكرة، لكن تجسيد الفكرة يفسدها، وكل كيان مادي يفسد ويتفسخ، ويستحيل الى شرّ. فالمادة دالة فساد حسب القدماء. ومن عيوب العولمة ومن قبلها الحداثة، انحيازها للمادية أولا والنفعية، وهو الاتجاه الانجلوفرنسي اميركي، ضد المثالية والجمالية الالمانية. فالانحطاط المادي النفعي الاناني الاستهلاكي المبتذل لعصر ما بعد الحداثة، والالغاء الفعلي للأخلاق والدين والقيم النبيلة، تحت يافطة الحرية الرأسمالية أو الدين الطبيعي، وضع عالم اليوم بقيادته الانجلوميركية في زاوية ميتة، لا مخرج لها غير السقوط الشامل للنظام الرأسمالي، كما أشرته الماركسية. ولكي تتفادى مصيرها المحتوم، فأنه تدفعه نحو الشرق في مخطط الحرب/ الحروب الأسيوية بتوجيه وتدعيم غربي، كما هو الحال منذ مسلسل حروب التسعينيات التي لم تتوقف، حتى طبول الحرب العالمية الثالثة التي يقرعها ترامب وزمرته. والحرب، كما هو معروف، هو مصدر انتعاش الارستقراطيا التجارية ومفتاح تشريع نظام عالمي جديد!.

 

(73)

خطوات تقترب.. تقترب من حجرتك.. لكنها تدخل في باب مجاور.. أصوات في نهاية الممرّ.. لغة أنت تعرفها والمتحدثون تعرفهم.. ولكن الكلام لا يخصك.. أنت لست مركز كلامهم.. الأنوار تشتعل.. تنطفئ.. تسمع هدير بروانة مفرغة الهواء في الحمام.. تسكت المفرغة ويعود صمت..

تختفي أصوات الخطوات.. تخطر لك مغادرة الحجرة والذهاب اليهم.. تمر من وسطهم.. تقف وتنظر اليهم.. ولكن قد لا يلتفت اليك أحد.. لا أحد يحتاجك.. لا أحد له شأن بك..

أنت خرجت من العالم.. لم تعد في البؤرة.. ولا في المحيط.. لا أحد يسأل عنك أو يحتاجك.. لست أيضا على الهامش.. أنت غير موجود.. مجرد جثة.. ولكن لا تعيق أحدا.. ولا أحد يكترث لها.. تساوى وجودك وعدمك.. تساوى كلامك وصمتك.. أفكارك لا ضرورة لها.. ومشاعرك لا يحتاجها أحد.. ربما تقلقهم أو تثير سخريتهم..

تتذكر عبارة المدرس راينر لك: You 're too humble!

لم تنتبه للوقع السلبي لاستخدام (توو) هذه.. ابتسمت وسكت.. ممرضة المسّاج اليهودية دانييلا هي التي قالت لك ذلك وهي تمسح قدميك.. عندما قلت لها: You're too kind

أدركت أنك تقصد أمرا جيدا فصحّحت لك العبارة، وانت اعتذرت لها!..

مرشد الحياصات أيضا انتبه لوضعك.. وقال لك غير مرّة..

أستاذ انت ليش هامل نفسك.. أديب محترم وشاب مثقف والمجتمع يحتاجك.. لكنك مش عارف قيمة نفسك.. اهتم بشكلك ولبسك وعيش وفرفش مع هالحلوات.. محدش واخذ حاجة من الدنيا يلعن ابوهه.. أحب أشوفك الأستاذ الكبير في نظر الناس.. ولو احتجت أي شيء عندك أخوك!..

مؤلما كان كلامه.. ومفحما.. بقي يكرره على مسمعي حتى يئس مني..

ماذا يريد مني أن أفعل.. لماذا يريد مني شيئا.. لا أريده ولا أفكر فيه.. هل له غاية معينة من وراء ذلك.. يكفيني ما أنا فيه..

هل ما أفعله هو تواضع العلماء.. هل أريد أن يعرف الناس أن قيمتي ليست بثيابي ومظهري.. ولكن داخل نفسي وعقلي.. وماذا يغير ذلك من الأمر.. المكانة الاجتماعية تصنعها الثياب أو البرستيج والتظاهر بالعظمة.. حتى لو كان في عقلي شيء مفيد.. فأنني أعيش كالصعاليك.. الحياة اليوم ولاءات ومراكز اقتصادية.. وأنا لا أبيع نفسي لأحد من أجل مكسب اجتماعي رخيص..

في داخلي شيء مكسور.. لا أحد يحتمل أن يراه.. لا أحد يعترف به.. ولذلك يريدون أن تهتم بنفسك.. ربما.. لكي تهتم بهم أيضا وتوليهم إهتماما أكثر..

حتى أصدقاؤك المترنجسون.. أقصد أدعياء الثقافة والأدب لا يريدونك أن تتميز عنهم أو عليهم.. رغم أنك لم تقل ذلك ولم تطلبه لنفسك..

رفضك مسايرتهم استعلاء.. عدم مشاركتهم في اللهو وأحاديث النساء إزدراء بهم.. هكذا يجري تفسير الأمور.. لماذا لا تنساق معهم.. تتقبل نكاتهم وتصرفاتهم البذيئة حتى لو سخروا منك.. عندها فقط لن يقلقوا من وجودك ويحترسوا أمامك.. كلنا أولاد جورة..

هل يقلقهم وجودك هكذا حتى يعتزلوك ويعملوا على إلغائك.. هل هذه هي الثقافة الجديدة.. أنا لست مثقفا إذن..

مغرور.. كلمة أخرى سمعتها منهم.. لمجرد أنني لست من الشلة.. لمجرد أنني لم أدخل العصابة.. أدخل الشلة والعصابة والمنظمة وأفعل مثلهم.. يكون لك قيمة وإحترام.. معادلة قاسية لبداوة معاصرة أنتجت نفسها داخل أوربا.. نحن مغضوب علينا بالتخلف والبداوة حتى لو صعدنا للقمر.. حتى الجنة قرف مع هذه العقليات..

 

(74)

امسودن..

غيمة كبيرة بيضاء شاحبة تأتي من جهة الجنوب وتتمطى.. تتمطى حتى يشحب نور الشمس ويغيم وجه لندره.. حركة الناس تستمر وضوضاء السيارات التي تسير وتقف عند كلّ إشارة.. أفواج من الناس والعباءات السود تعبر بين جانبي الشارع.. وأنا لا أعبر..

أراقب المارة باهتمام.. وأنتظر أن يرنّ الجوال في جيب قميصي.. ولا يرنّ..

تعود السيارات للمسير.. تتوقف حركة العبور.. أمام المحلات تصطف صفوف من كراسي ومناضد صغيرة تجتمع عليها مدخنات الشيشة ومدخنوها.. تتلألأ أقداح الشاي الأحمر وأكواب النسكافا.. تتعالى الضحكات والكلمات العربية وعيونهم تراقب حركة المارة.. أواصل المسير حتى زاوية سينما الأوديون ..

أراقب قامات الناس المزدحمة في الممرات.. يعن لي أن أتسلى بمراقبة عروض الأفلام الجديدة.. شيء يعتصرني من الداخل.. لا أعرف هل هو الجوع أم ذكرى أليمة.. أبتعد عن المكان مسرعا.. منذ ثلاثين عاما لم أدخل سينما.. منذ ما قبل الحرب.. لا أحتمل التحديق في الظلمة.. لا أحتمل رؤية الظلام..

يستزيدني العم أبو غايب لأتحدث عن بيت جدّي..

أنا لا أعرف تماما.. جدّي لم يكن كثير الكلام.. كان صموتا أكثر الوقت..

جدّك كان زلمة حق.. زلمة الحق ما يطلع الكلام بغير لزمة.. مع الأسف ما صار لي أشوفه.. أقول لك.. ليش أحنه عراقيين ما عرفنا بعضنا ببلدنا..

أنا أتعلم منك يا عمي أبو غايب.. أنت عراقي قبل أن أولد أنا.. كيف تسألني..

أنتم أولاد المدارس تعرفون أكثر..

نعرف أشياء لا تنفع ولا تقدم..

لالا.. احكينا هسّه عن جدّك..

كما قلت لك.. كلّ ما أعرفه سمعته من أمي.. وأمي كانت أميّة.. لا تقرأ ولا تكتب.. ولكنها كانت تقرأ الساعة ذات الأرقام الرومانية..

شوف أمك كيف كانت ذكية.. أحسن من بنات المدارس والكليات اليوم..

أمي كانت زعلانة من جدّي لأنه لم يرسلها للمدرسة لتصبح معلمة.. بقيت تعمل بالبيت خياطة تعين أهلها..

شريفة.. شريفة وأصيلة.. أمك لسّه عايشة يا ابني..

ماتت بعد ما سافرت بسنة.. عندك البقية..

سامحني يا ابني.. مو قصدي أزعجك..

لا عمي ما كو ازعاج.. الموضوع صار عادي..

يعينك الله ابني عالدنيه.. انته لوحدك اهنا ما عندك عائلة؟..

هيه ظل بيها عائلة النوب.. عمي أني أنام بالشارع.. تعرف..

لالا.. اليوم تجي ويايه.. بالأقل تسليني..

لا عمي لا.. ما أحب أكون ثقيل على أحد..

شنو ثقيل ابني.. لا تزعلني عليك..

بس انته تريدني أحكي لك عن أهلي.. وأنا ما اريد أتذكر..

أنا اليوم مقطوع من شجرة..

أنت من هاليوم ما تفارقني.. لا تزعل نفسك.. الله موجود..

...

آني وصلت حمرين بالاربعينيات.. اهناك كان مركز تموين الجيش.. صار عدنا نقص بالطحين وكملنا من هناك..

قديم معكسر المنصورية..

ايه.. ما كان مثل ما تقول.. لكن كان معسكر وبيه مركز تدريب..

أيام حركة رشيد عالي..

أيامها.. وين كنت يوميها..

كنت لسّه بالجنه وما نزلت الأرض..

ايه والله كنت بالجنة.. يعجبني هالحجي!..

 

(75)

كان جدّي يبدو سعيدا.. السماحة لا تفارق وجهه.. شخص في غاية التوازن.. لكنه على أهبة التوتر.. يثور في لحظة.. أحيانا يكون غضبه مكتوما.. باطنيا.. يتربص أي شيء ينفجر فيه.. من يعرف ذلك منه يتجنب إثارته أو الوجود في محيطه.. الأفضل تأجيل كلّ شيء عند ذلك.. أياما كاملة كنت أجلس في الدكان على بعد متر منه دون أن أنبس بنأمة ولا حركة..

عندما يخرج من تأملاته ويفطن لي.. يرسل يده إلى كيس النقود المعلق بنطاقه.. يمدّ لي قطعة نقدية دون أن يلتفت أو يتكلم.. ولأني كنت خجولا مؤدبا زيادة عن اللزوم.. كنت أرفض استلامها في البداية وأقول له شكرا.. كما لو كان شخصا غريبا.. ربما حصل مرّة.. أن أعاد القطعة للكيس والكيس إلى نطاقه.. واستمرّ السّكون على حاله كما لو لم يحدث شيء.. لكن تلك ليست النهاية..

بعد وقت.. ساعة أو أكثر.. يوم أو أكثر.. سوف يتكرّر نفس الشيء.. نفس الحركة.. عندما تكرّر ردّ فعلي تجاهه.. لم يسترجع يده.. تكلّم.. كانت كلمته أمرا جازما بصوت سلطوي يابس.. لم نكن تعارفنا جيّدا يومها.. كنت أحس به غريبا.. فشكرته.. تكرّر طلبه بقسوة أكبر.. كان يأمرني بالوقوف واستلام ما بيده وعدم تركها ممدودة.. مرّة طردني إلى البيت..

لقد كان غريبا.. وصعبا.. كانت أمي تخافه.. الجميع يخافونه.. لم أسمع خالي يبادله كلمة.. مجرد تبليغات.. نادرا يتحدّثان وفي ضرورات قصوى.. كذلك هو أمره مع جدّتي.. كلام من جانب واحد.. استماع على مضض.. قبول على مضض.. في حلات قليلة يظهر انشراح..

جدّي لا يريد تغيير أي شيء.. كلّ ما كان، يبقى كما هو.. لا شيء يحدث.. لا أحد يجيء.. عندما يظهر أحد يكون سؤاله الوحيد: ماذا يريد.. هل هو على ما يرام.. كلّ شيء في مكانه.. كلّ شخص في مكانه.. الحجر في مكانه ثقيل..

لجدّي فلسفته الخاصة في الحياة.. أعني في الكون .. لا الحياة جنة.. ولا الانسان حرّ.. الكون مخلوق لأجل غاية في نفس الخالق.. وكل المخلوقات رهن الغاية والحكمة، العصيّة على عقل مخلوق.. كما تخرج النبتة من شق التربة وتزهر وتسمق ثم تذبل وتجفّ.. كذلك كلّ شيء..

كما يولد طفل الحيوان ويتشبث بالحركة والحياة.. والحيوان الأم يتعذب ويتمرغ.. رغم أنه لا يحس ويشعر تماما بمعنى العذاب.. لا يفكر الحيوان بطعام أو مأوى أو ثياب.. لا يردعه خوف أو شوق أو كره أو رغبة.. حتى يأتي يوم، تهرب الحرارة من أعضائه وتبرد حركته.. يبدو ذابلا ساكنا واقفا في مكانه ينظر في جهة ما غير مقصودة.. ثم تعرف أنه مات.. مات في مكان مجهول.. عندما يموت الحيوان ينتفخ وينقلب على ظهره..

لا يعرف الحيوان شيئا، عن السؤال والغاية والكيفية.. هكذا كان أسلافنا.. هكذا حاول أجدادنا المحافظة على نهجهم .. ليس جهلا ولا خبثا.. ولكن إيمانا بحكمة الصمت.. وقبول ما لا مفرّ منه.. مبدأ الضعيف أمام القوي.. حكم القوي على الضعيف..

جدّي لا يتكلم.. لكنه يفكر.. لا يسأل ولا يجيب.. لكنه يراقب و يحضر بالقلب واليد، حين يكون أحد في حاجة.. أحيانا يسأل عن شخص غير موجود.. بعيد.. يسأل عن أخباره.. لا أدري كيف يستذكره.. لا يقول أنه رآه في حلم .. لكنه يسأل.. أحيانا يلحّ في السؤال..

يصدر أمره بتعقب السؤال، ممن يعرف عنه أكثر.. يبدو أن فلان في حاجة أو ضيق.. يرسل له جدّي هدية أو شخصا.. يقول لجدّتي أن تذهب وتبقى عند فلانة ثلاثة أيام.. هذا في حالات المساعدة.. في حالات السؤال تتحدد المدة بثلاث ساعات..

كلّ شيء خاضع للتحديد والنظام عند جدّي.. مع الأيام.. لم يعد يهتم بالحساب عند تأخر جدّتي في مهمة أو غياب.. يسألها عن المطبخ.. عن أفراد العائلة.. الوجود ليس الفردوس.. لكنه أمر واقع.. الحكيم هو من يخضع للمشيئة ولا يعترض.. من يجاري الزمن ولا يجري وراءه .. من يقوم بالواجب ولا يخسر ذاته.. فالدنيا غاوية والحياة خداع.. والمؤمن لا يعرض نفسه للدغ مرتين.. لا أدري متى كانت المرة الأولى..

علاقة جدّي بالمرأة لغز.. لا يبدو محتفيا بها.. لا.. لم تكن قطعة أثاث.. لكنها أكثر من ضرورة في الحياة.. أنها روح البيت والوجود.. غيابها عن البيت يدفعه للسؤال.. السؤال افتقاد.. الافتقاد شعور بالنقص.. النقص حاجة..

لم أسمعه يذكر امرأة أو يتحدث عنها.. لم يرد أن يسمع عن أحد.. خاصة النساء.. حكمته القديمة عنهن هي ان القبر هو مكان المرأة.. ملخص سيرة المرأة.. من بيت أبيها لبيت زوجها.. ومن بيت زوجها للقبر..

علاقة الرجل خارج البيت هي العمل وتوفير الطعام لا غير.. المرأة مكانها البيت.. حتى كهولته كان جدّي فلاحا.. الحقل والبيت واحد في حياته.. عندما ذهبت الأرض صار له متجر في السوق.. ذهب الحقل وبقي البيت.. العائلة تفرقت وبقيت الزوجة.. بقيت الزيارات العائلية ومناسبات الأعياد والعطل الدراسية..

لحسن حظه مات مبكرا.. لم يشهد سياسة تأنيث التعليم.. تأنيث الادارة والاقتصاد.. حتى تأنيث الدين وكل شيء.. تأنيث السياسة والسوق.. اليوم إذا ضيعت المرأة تجدها في السوق.. البيت عدو المرأة.. المطبخ دالة تمييز عنصري..

في تلك المدينة كانت له أخت واحدة تزوره.. تجلس إلى جانبه.. تنظر إليه بحب وفرح وقلق.. وتؤكد عليه: هل يشعر بارتياح.. هل كلّ شيء على ما يرام في نفسه وجسده.. عندما تذهب تقول له: (آبيه.. نحن نحبك.. أنت رأسنا يا آبيه!).. تقول ذلك من كلّ قلبها.. من كل كيانها..

أنه الرجل الوحيد المتبقي من العائلة القديمة.. لا يمضي اسبوع دون أن تزوره.. ولا تتأخر عنه شهرا.. أحيانا لا تراه.. لا تنتظر عودته من الخارج.. تجلس عند جدّتي.. تجلس قرب مكان جلوسه.. كما لو كان موجودا معها.. تنظر إلى المكان كما لو كانت تنظر إليه.. تخنق دمعاتها ولهفتها وقلقها.. تقوم وتجلس ثانية عند جدّتي التي تدخن ولا تتكلم.. تنظر أحداهما للأخرى.. وعيون جدّتي تراقب مدخل الحوش..

يومها لم أعرف أن لجدّي أختان أخريان في مدينة مجاورة.. لم تحضر إحداهن مرة لزيارة أو سؤال.. رغم أن المسافة لا تزيد عن عشرة كيلومترات.. لم أعرف أن لديه ابناء وبنات أخوات.. عرفت ذلك بعد موته.. سمعتهم يذكرونه بلقب (الخال).. وأنه كان (آبيه).. لم أحبّ ذلك منهم.. لأنهم لم يزوروه في حياته.. مثل عمتي التي تأتي كل إسبوع..

عمّتي أيضا كانت تحبني.. كنت أشعر بحبّها مثل (أمي).. أحسّها من نظراتها.. عندما تنظر إلي.. أحسّ نفسي داخل عينيها.. نظرة مفعمة بفرح وأمل.. آه.. تذكّر ذلك صعب.. بعد موت جدّي زارتنا في باكوفا.. أحبّتنا.. تحدثت عن بناتها القريبات من أعمارنا .. تحدثت عن توثيق العلائق العائلية والتقارب وتبادل الزيارة..

كنا أصدقاء في تلك الطفولة.. أذهب الى بيتهم ونلعب في الحديقة.. أرافق جدّتي لزيارتهم.. جدّتي تتحدث مع العمّة وأنا ألهو من البنات.. جدّي لم يتكلم.. عيناه واسعتان.. سمحتان.. فيهما طمأنينة وحكمة عميقة.. لكنه لا يوصي ولا يرسم قدر أحد..

النساء يرسمن الأقدار.. يخططن للزيجات.. تقريب العلائق.. أو ترسيخ الأحقاد.. لم ترد أمي على عمّتها.. لم تظهر اهتماما بالفكرة.. لماذا أذكر هذا الآن.. بنتها تلك الصغيرة تزوّجت قبلي.. انتقلت كل العائلة إلى بغداد.. سكنوا عند جانب القناة من جهة الرصافة.. تزوّجت قبل بلوغها العشرين.. لكن ذلك كان بعد زيارات أمها الميئوسة لدارنا.. أشياء عمرها أربعة عقود وتقترب من الخامس.. أين يجد المرء تربة أولئك القدماء ليتبرك بهم الآن أين.. أين أنت يا بلد!..

 

(76)

لا أتحدث عن أملاك أو أموال.. أتحدث عن مشاعر وأفكار وبشر.. ما قيمة انسان بلا عاطفة يقول هولباخ(*).. ما يجعل الانسان إنسانا ليس اليد والقدم واللسان.. لكن العاطفة والشعور.. تبادل العاطفة وتبادل الشعور.. أقول هذا وأنا منفي داخل نفسي.. مسجون داخل عقلي.. معتقل داخل بيتي.. ميت على قيد التنفّس..

جدّي كان غنيا جدا.. يوم لم يعرف الكثيرون معنى الغنى.. وكان مقتدرا جدّا يوم لم يكن الاقتدار ملتمسا.. لكنه لم يعتبر الغنى والقدرة من باب التملك والتسلط كما حصل اليوم.. كلّ شيء متاح في غياب التملك والتسلط.. وكلّ شيء غائب في هيمنة التملك والتسلط..

النباتات تملأ الأرض والطبيعة.. والحيوانات تسود العالم وتحتكر الطبيعة.. ولكنها لا تتقن اللغة ولا تدّعي السلطة أو ملكية.. متى زعم الأسد أنه ملك.. الأسد لا يتكلم.. الإنسان زعم.. لكي يبرّر شروره باتهامه للحيوان.. ارنو غروين(*) يقول أن الانسان الشرير يحتاج للآخر لتحميله شروره.. يتخلص من شروره بنسبتها لغيره..

لماذا لا يحيد الانسان عن الشرّ.. ولا يمعن في الاتهام وممارسة الشرور.. لماذا يبالغ ارنو غروين في تأثير المرض والعقدة الشعورية ليجعل منها محرك التأريخ.. كيف يكون الانسان المعاصر سيّدا وهو عبد مسيّر لغريزة وهمية.. لورنتز(*) نفسه كان رأس الأفعى في تأسيس فلسفة الشرّ..

يؤسفني أن أعيش في أوربا التي يفتضح اليوم خواؤها ووحشيتها أكثر فأكثر.. أوربا التي انتقلت من وحشية وثنية إلى وحشية بروتستانتية.. من وحشية عسكرية إلى وحشية راسمالية.. نظام شمولي دقيق لتدجين الانسان والحيوان وترويض الغرائز والمشاعر وفق مدارس التحليل النفسي.. والسايكوباث وفق عقيدة (المخلص).. و(التطهير) على حساب عدو خارجي..

العقل الذي وضع تكنولوجيا الفضاء حوّل الانسان إلى كلب حاجته.. كلب برتبة ميكافيللية وهوية براغماتية وشهادة كولونيالية بتوقيع فرانسس بيكون(*).. حكومات مافوية تختبئ في قميص بيرقراطية ماكس فيبر(*).. لماذا يحتاج الغرب كل هذا التقنين والعقلنة لتحويل الناس إلى مجتمعات غريزية.. لمجرد هدف واحد.. هو تأمين استمرار الحكومات وسياسة سدّ ذرائع التمرد والثورات..

منذ الثورة الفرنسية لم تحدث في أوربا ثورة أو حركة احتجاج أو تغيير حكومي بفعل قوة الجماهير وإرادة الشعوب.. الثورة الفرنسية لم تحدث خارج فرنسا.. وجرى تحميل مسؤوليتها للفلاسفة وأهل العقل..

ومنذئذ يتخذ اتحاد السلطة والصناعة والعسكر المجتمعات رهائن، يتم تربيتها على مذهب بافلوف(*) بالعصا والجزرة.. والقانون والأنظمة ترسم وتتدخل في كل شيء من حياة الأفراد والتجمعات.. حتى علاقة الرجل والمرأة في حجرة النوم..

في أي لحظة يمكن المرأة اتهام شريكها باغتصابها وهي نائمة او سكرانة.. يمكن للزوجة اتهام زوجها باستخدام العنف.. مجتمع يعيش فيه الجميع تحت سلطة الخوف والحذر والذئبية المتربصة..

مجتمع لا مكان فيه للضمير والعاطفة والمشاعر والإنسانية.. الأخلاق مرض.. والإنسانية ضعف وتخلف.. وعدم الإهتمام بالطمع والجشع عقدة تقتضي مراجعة طبيب نفسي..

ـــــــــــــ

    • بارون دي هولباح [1723- 1784م] فيلسوف فرنسي، واضع النظام الطبيعي.
    • (Arno Gruen) [1923- 2015م]: مواليد برلين، هاجر إلى الولايات المتحدة الأميركية عام (1936م). (1961م) عمل محللا نفسيا في عيادة تيودور رايك، عمل استاذا في جامعة روتجر في نيوجيرسي. منذ (1971م) عاش في سويسرا حتى وفاته. له عدة مؤلفات علمية تتضمن اختباراته وتحليلاته للسلوك البشري ودوافعه النفسية من عهد الطفولة أو جنود الحرب السابقين، من كتبه: خيانة الذات/ (1986)، جنون العادية/ الواقعية كمرض/ (1987م)، الوداع المبكر/ موت الأطفال/(1988م)، الالهة المزيفة/(1991م).
    • كونراد زكرياس لورنتز [1903- 1989م] عالم بيولوجيا نمساوي، له تجارب معروفة حول العدوانية في طبيعة الأسماك والطيور، وهو رائد المذهب الغريزي في علم نفس السلوك.
    • فرانسس بيكون [1561- 1628م] مفكر انجليزي مادي، رائد تيار البراغماتية، من موظفي بلاط اليزابيث الأولى، الأب الروحي للسياسات الحكومية الانجليزية، بتأثير من كتاب الأمير لمياقيللي.
    • ماكس فيبر [1864- 1920م] عالم اجتماع ألماني عمل في خدمة بلاط بروسيا، وهو مؤسس نظام الادارة الحكومية على أساس هرم بيروقراطي.
    • ايفان بتروفتش بافلوف [1849- 1936م] عالم اعصاب روسي، اجرى تجارب في علم النفس المادي، اشتق منها ضوابط التحكم في السلوك الاجتماعي والمعروف بالانعكاسات الشرطية.

 

(77)

أيام الصوم قضيتها أعمل في الحديقة.. في البدء ألقي نظرة على الخارج.. ثم يخطر لي أن أخطو.. يتعلق نظري بشيء على الأرض.. أفكر في رفعه.. أزيحه عن الطريق.. أي طريق في حديقة.. لكن هذا ما يدور بذهني.. كأن تلك القشة.. هي التي كسرت ظهر العالم.. تلك القشة هي أنا لا غير..

بعد خطوات.. أجد أن إزاحة بعض الحشائش يحسن من حال الحديقة.. أنحني وأقطف الحشائش والنباتات التي يصل ارتفاعها طول ساقي.. كلما رفعت شتلة.. أندفع للتي بجانبها معتقدا أن الصورة تحسنت فعلا.. يمكن أن تكون أفضل بكثير.. من غير تخطيط أو تحضير.. من غير حذاء عمل ولا كفوف واقية أو مقص..

أنجزت ربع مساحة الحديقة.. أعني المساحة أمام الباب الخلفية.. في اليوم الثاني خطر لي أن ألقي نظرة.. مجرد نظرة.. وجدت أن الحشة بجانب المساحة النظيفة تستحق التنظيف.. فقط تلك المساحة.. انتقلت من مكان لأخر.. وهكذا مرّت أربعة أيام دون أن أشعر بشيء.. دون أن أرتدي حذاء عمل أو كفوف شغل أو استخدام أداة قص.. ودون أن أشعر بألم أو ندبة في جلدي.. هذه الأشياء سيبدأ الشعور بها لاحقا..

يبدأ الشعور بالأصبع الصغير من يدي اليمنى.. الجزء الخارجي من الأصبع كان مقرّحا بشكل كبير.. كامل الجلد كان منزوعا.. والأحشاء الداخلية كأنها تعرضت لعضة حيوان مفترس.. ليس ثمة ألم.. لكن الأصبع متيبس.. وفي داخل الجرح طعم حرق عند اللمس..

عثرت في حاجات البيت القديمة على مرهم للاطفال لدهن جلودهم بعد الحمام.. ملأت فراغ الجرح بالمرهم.. مسحت جلدة الأصبع الباقية.. المرهم ناعم وبارد.. يبعث انتعاشة في الجسم.. رائحته ما زالت لطيفة.. أشعر أنني طفل.. أستلقي ولا أترك يدي اليمنى تتحرك.. رغم الألم الذي ينتشر من الأصبع للكف إلى كلّ الذراع.. أحاول التلذذ بالألم.. أتلذذ برائحة الكريم/(cream) وأنسى الجرح.. أشعر أنني طفل في حضن أمه..

لم يسبق لي فعلا العمل في الأرض.. فلم تكن لعائلتي حديقة أو بستان.. قالت أمي أن لوالدها أراضي زراعية كبيرة ومثمرة في وادي العوسج.. وأنها كانت تساعده في الأرض لأنها البكر..

لكنني عندما ولدت لم أر لجدي بستانا ولا أراضٍ.. ولا هم يحزنون.. كان له متجر صغير ذو بوابة واحدة.. كنت أرافقه إليه.. لو كانت له أرض أو بستان.. لبقيت فيها حتى اليوم.. ولم أرتكب غلطة آدم..

لهذا أيضا لا أعرف شيئا عن الزراعة.. في حصة الزراعة المدرسية.. كانت أمي تزرع بذور باقلاء في أصص.. وتسقيها.. وفي يوم المعاينة والامتحان، أحملها للمدرسة.. وأحصل على درجة كاملة.. هذه هي كلّ معلوماتي في الزراعة.. في حديقة هذا البيت لا أعرف أن أعمل شيئا..

صديق قديم من السويد.. تحمّس وقال أنه سيبعث لي تشكيلة خضر.. شهية للنظر والأكل.. وهي تنمو وحدها.. وتحتاج سقي قليل.. قال أنه مستعد أن يأتي للزيارة وزراعتها.. بعد اسبوع استلمت بالبريد باكيت كبير خفيف الوزن.. من السويد..

ما يزال ذلك الباكيت على كتف المكتبة في حجرتي.. لم يفتح ولم أنظر ما فيه.. مجرد فكرة قديمة لشخص كسول يعيش في هذا العالم بسبب قلة الموت، كما يقول المثل..

عند عودتي الأخيرة، وقع نظري على الباكيت غير مرّة.. في البدء كان ذلك جارحا.. عودة للماضي واستثارة للذكريات.. حتى ذلك الصديق انقطع عن التواصل لعدم وجود فايبر أو واتس اب في هاتفي.. لا أعرف شيئا داخل الباكيت.. رغم مرور سنوات طويلة..

لكن الباكيت الأبيض.. يشبه باكيت كيكة الميلاد.. ما زال هناك على حافة المكتبة.. بارز من الركن.. ولن يخطر لي لمسه أو فتحه.. ربما يعود لشخص آخر.. ربما يأتي يوم.. ولا يأتي..

الأرض دافئة.. باردة.. أقضي كلّ وقتي داخل البيت.. معتكفا في حجرة ركن في الطابق الأول.. أتمشى في الطابق العلوي مرسلا نظري عبر زجاج النافذة إلى القرية من علوّ.. لكن وقتي في الحديقة يبعث على الجمال ويلغي عنصر الزمن..

ما هي العلاقة بين التربة والحميمية وموت الزمن.. سؤال يخص آدم أكثر مني..

في الأيام اللاحقة كنت مستعدا للجلوس على الأرض العارية.. بجسدي نصف العاري.. ونزع النباتات الطارئة من بتلاتها.. في الأرض بدأت أتعود أشياء جديدة.. أتعلم الحياة من أصولها.. من بدايتها..

كان الدود يختلط بالتراب.. لا تميز بينه وبين ذرة التربة.. يلتصق على ساق العشب..

لا تكاد تميزه.. لا تكاد تميزه من الثمرة التي تساويه في الحجم وتشبهه في الشكل..

هذه اللعبة المراوغة في الخليقة.. تماهي الأشياء في الشكل واللون..

يعني لو كنت ولدت في الطبيعة لكان لوني أخضر..

ولو كنت ولدت في الماء لكان لوني رماديا.. مثل صدف السمك.. وأنا عانيت من داء الصدفية، بالمناسبة..

مع الوقت.. بلْ من التوّ.. أحسست بحميمية مع التربة والأرض والدود والحشرات..

بالمناسبة، التربة هي هي.. في الشرق أو الغرب.. اختلاف القارات والبلدان واللغات والارتفاع والانخفاض لا أثر له في التربة ولونها ورائحتها ..

نفس رائحة الروث التي تنبعث عقب المطر من التراب.. هي هي في أوربا والعراق.. هذه أيضا اختبرتها.. في تلك اللحظة..

وأنا خارج الزمن.. وخارج الجغرافية السياسية.. شعرت أنني انسان قديم.. إذا جلت بنظري مليّا.. يمكن أن أرى جدّي ما زال يعمل في وادي العوسج.. ولولا بناية الكاراج التي تأخذ جانبا من جانب الحديقة، ربما لأمكنني إرسال نظري أبعد.. حيث أرى آدم وهو يزرع بذوره للآن.. ولا غرابة أن أكون وآدم وجدّي في عمر واحد.. فليس الزمن سوى كذبة.. وليس الموت غير لعبة مثل (غميضة)، يخرج الواحد من باب ويدخل في باب ثانية كما في كواليس المسرح..

وفي النتيجة.. عندما نموت جميعا.. سنجد أنفسنا مرة أخرى كما نحن.. بلا تغيير.. نفس الوجوه ونفس الأشكال.. ولكن من غير أظافر أو أنياب.. وسنكون كلنا في عمر واحد.. وانا وأبي وأمي وجدّي وآدم..

وسنكتشف أن الزمن كان كذبة، والعمر كذبة، والبلدان كذبة، والهويات كذبة، واللغات كذبة، والجرائم والحروب كذبة..

سنكون جميعا معا هناك.. نسير أو نعمل أو نتحادث.. ولن نتذكر شيئا من هذا العالم الذي ما زلت أكتب فيه.. أكتب لتثبيت دعواي ضد الوجود.. ورفع اتهاماتي في وجه العالم..

ففي العالم الثاني.. الذي هو الأصلي والحقيقي لا كتابة ولا دراسة ولا لغات ولا هم يحزنون..

كلّ هذه من ترهات عالم الأرض الذي يفترس البشر أنفسهم للسيطرة عليها، ولا يدركون أنها كذبة..

كذبة أقوى من الحقيقة.. ولكن ما الحقيقة.. ها.. الحقيقة أيضا كذبة.. كلّ هذه الأشياء تنكشف وتتعرّى حقيقتها هناك، خلف الحاجب الهلامي الذي يسمّونه الزمن.. الحاجز بين المرئي وغير المنظور..

في البدء لم أشعر بشيء.. أعني الدود.. كانت يسبح على جلدي.. والدود يطير بالمناسبة دون أن يظهر عليه ذلك.. بدأت أكتشف أن النظر ليس حالة مستمرّة.. وانما هو حالة متعاقبة.. فعندما أرى شيئا وأنقل نظري عنه، ثم أعاود النظر اليه لا أجده في مكانه.. أجد مكانه خاليا.. بعد لحظة وأنا أمعن النظر وأقول مع نفسي.. لقد كان هنا.. تتكون صورته ثانية في المكان.. وأراه أيضا.. الواقع أنه غير موجود.. ولا وجود للمكان.. والصورة إنما تتكون في الذهن.. ثم تظهر أمام العين كما لو كانت في الخارج..

كلّ هذه المواهب والقدرات بدأت تتشكل عندي في الحديقة.. وما ذكرته هو غيض من فيض.. لكنّ المهم أنّ نفسي لم تعد تمتعض من الدود.. نظرتنا للدود وللحشرات فظيعة.. مزيج من خوف وكره واحتقار..

صور الحشرات في لاوعينا يجعلها ديناصورات قاتلة..

والدود كأنه لا شيء.. كائن مجهري.. لا تعرف أين يكون مكان الروح والقلب والمعدة فيه..

تدخل الدودة في الجلد ولا نشعر.. وتمشي الدودة تحت الجلد، وكأنها في شارع الرشيد أو أوكسفورد ستريت أو ماريا هلفه شتراسا.. كيف تختبئ الدودة داخل الجلد.. لا أدري.. لكنها أيضا تسير مع الدم..

كيف تعرف أن الدودة نافعة أو مؤذية أو محايدة للجسم والدّم.. أيضا لا أدري..

لكن المؤكد أن ملايين الدود والبكتريا تعيش داخل الجسم ولا نشعر بها.. بل أن الانسان مستعمرة دودية.. لا وجود في الحياة دون جيوش الدود والبكتريا التي تعمل ليل نهار على تمشية معاملاتنا الداخلية ونحن لا ندري.. دود يمتص،ّ ودود يصفي، ودود يغربل، ودود لمختلف أنواع العمليات.. دود يدعونه أنزيمات أو هورمونات.. أنسجة الجسم تفرز انواعا من الدود له وظائف حامضية أو قاعدية أو بكتريا تنظم تصليح تلف الخلايا او ديمومة التكاثر.. دود يحمل تخصصات عالية أكثر من الدكاترة الذي ينفقون أعمارهم في حفظ المصطلحات ولصقها بالصور.. وكلّ الخليقة جعلت لأجل الدود.. الدود هو سيد الوجود وليس الانسان.. الانسان من أجل الدود الذي يفترسه ويعتاش عليه في الحياة والموت.. الدود هو الابدي والخالد.. دودهم لا يموت!..

كلّ ما بقي من الحديقة هو أقل من ربع المساحة.. انتهى وقت الصّوم.. والقروح في كلتا اليدين.. كلّ جسدي مخرط بالجروح الطولية.. في اليوم الثالث كنت أقعي وأعمل.. عندما انسحبت من بين ساقي دودة طولية حوالي عشرة سنتيمات.. انسحبت وهي تتلوي وتتموج بغنج..

في البداية لم ينتبه ذهني.. بعد قليل انتبهت أنها ليست دودة.. أنها أفعى.. أفعي صغيرة.. فرخة أفعى.. أين كانت قبل الآن.. لقد كانت حتما تحت الحشائش التي اقتلعتها.. ها هي تختفي في زحمة حشائش غير مقتلعة.. هل حدث ولمستها أصابعي.. هل تكون قد عضّت جانب كفي المقرحة منذ أسابيع ثلاثة.. هل هي أفعي سامة..

لقد كانت شفافة جدا.. لو وضعت داخل سندويتش.. فلن يشعر بها أحد خلال المضغ.. من بين كلّ حكاية العمل.. بقيت صورة الأفعى المتموّجة محتفظة بمكانتها في ذهني.. ربما كانت نفس أفعى حواء التي تجلت في ذهنها وتصورتها أمامها..

 

(78)

ذبابة ميتة على افريز النافذة منذ اسبوع .. لما تعدْ إليها الحياة.. هكذا تركتها لأعرف أين يذهب الذباب عندما يموت.. هل يقوم ويطير ثانية.. هل يتحوّل إلى كائن آخر.. هل يتبخر أو يتفتت أو ماذا.. سوف أتركه اسبوعا آخر أو شهرا، لأعطيه فرصة أطول..

عندما تموت نملة.. تجتمع عائلة النمل.. يحملون الجثمان مترنّحين ذات اليمين وذات الشمال.. إلى مغارتهم.. ماذا يحصل هناك.. لم أعرف.. فمغارة النمل عصية على عين الانسان.. ربما يدفنونه.. ربما يلتهمونه ليعيش من خلالهم.. ربّما يغنّون ويرقصون ويدورون حوله حتى تدبّ فيه الحياة.. ربما يتحوّل إلى طوطم ويعبدونه.. أو يضمّونه إلى أكربول آلهتهم في جبل مقدّس خاص بهم..

لكن الذباب ليس له عائلة ولا قبيلة.. ولا شيء يجمعهم مع بعضهم.. ربما كان هذا الذباب من عصر العولمة.. أو له أصل في جنس البشر.. لكن الاستعجال في الحكم ليس من الصواب.. يبدو أن حال الذباب بين الطوائر، يشبه حال الحمير بين الدواب.. حسب ما ترويه الحكايات عن الحمير طبعا..

أولا.. أن صوته مزعج.. لكن حسنة الصوت تفضح وجوده في المكان.. أما عندما يسير على أقدامه الأربعة فهو لا يحدث صوتا.. وقد تقف الذبابة من غير صوت أيضا.. ولكن عندما يطير الذباب فهو مفضوح.. وللذباب أربعة أجنحة أيضا.. فيكون مجموع القوائم والاجنحة ثمانية.. ولمناسبة الرقم، فأن للعنكبوت ثمانية أرجل، أربعة على كل جانب..

نبقى في الذباب الطائر.. أنه يطير بشكل دائري.. توجد الآن ذبابة متلبسة في الستارة ولا تستطيع الخروج.. أسمع أزيزها واصطدامها كلّ مرّة.. لأن الذباب أعمى.. لم أكن أعرف أنه أعمى.. من الصعب ملاحظة ذلك.. لكن دورانه المستمر في حلقات صغيرة يشبه عصا الأعمى في الاستدلال..

والأزيز المزعج له هو تأكيد عماه.. فهو يستدلّ بالصوت.. ولابدّ أن سمعه من أقوى حواسه.. يتجمع مثل معظم الحشرات حول الضوء.. ويعشق النوافذ التي لا يعرف ماهية الزجاج الذي يجوسه بأجنحته ولوامسه ثمّ يسقط على الافريز..

والذباب غير مرحّب به عند ربّات البيوت، لكثرة فضلاته التي تتجمع على الافريز والأثاث كنقاط سوداء.. لكنها تلتصق بشكل تصير معه جزء من الزجاج أو الافريز أو الحائط.. ومرة أخرى.. ثمة حسنة في اللون.. فلولا كونه أسود.. أعني فضلاته.. لما أمكن ملاحظتها..

لغز الذباب أنه أسود.. لم أر ذبابة بيضاء ولا شقراء ولا صفراء.. أحيانا يميل لونه للسّمرة أو لمعة حمراء.. خاصة في صدفة الرأس أو الظهر.. والذباب كبير الحجم يشبه هيلوكوبتر.. لا أدري أيّهم مصنوع على هيئة الآخر..

والهيلو كوبتر له صوت مزعج.. ويطير بشكل دائري.. فلا ترى غير ذيلها وهو يدور.. والهيلوكوبتر بين الطائرات بمثابة الحمير بين الدّواب.. والهيلوكوبتر أول طائرة مصنعة.. تم تطويرها من المنطاد الفرنسي.. ثم أضيف لها المحرّك.. ذي الصوت المزعج مثل ساحبة زراعية.. ولم يتطور عن أصله بعد.. وهو في هذا أيضا يشبه الذباب العاجز عن التطور..

دالة السواد ليست امتياز الذباب الوحيد.. انما سمته الأخرى هي عشقه للسكّر.. وهو لغز محير.. فالبشر أيضا يعشقون السكر.. وسيما الاناث.. انما السرّ في لون السكر.. الذبابة سوداء سواد الليل.. والسكر أبيض بياض النهار.. وكيف يجتمع الأثنان في واحد..

هذا لغز ذباب فلسفي لا يمكن تفسيره بغير علم تشريح الذباب.. ولا أدري ماذا كتب أرسطو أو الجاحظ أو دارون في هذا الجانب.. لكنّ المؤكد أن الحل موجود.. وقد يكتشفه غيري..

هذه الملاحظات تتجمّع عندي للتغلب على معضلة الوحدة.. ولا أحد يعرف عمق الألفة مع الحشرات والحيوانات غير الذي يعيشها بجدّ.. ومن يضطر لمعاشرة الذباب إذا وجد بجانبه شيئا أكثر حيوية وأكثر بياضا ودفئا.. صحيح أنه قد لا يطير .. وهذه نعمة العبد في رجواه.. ولكن الكلام نصف المعاشرة.. والمجرّب حكيم..

كلّ وجود الذباب متعلق بالطعام.. كلّ عمله متعلق بالتصيد والتشبث.. الالتصاق بكلّ شيء يجد فيه ما يمتصّه.. فالذباب ليس له فم.. ولذلك لا يعرف الابتسام.. وطبعا لا يعرف شيئا عن القبلة.. ربما يسمع صوتها في الهواء.. فيحسبها حشرة أكبر منه.. لكن لا تنتظر منه قبلة بالمقابل..

تطوّرت علاقتي مع الذباب.. حتى صرت أتناول طعامي وهو يحوم حولي.. يتمشى على الطاولة دون أن يلمس شيئا.. لكن أكثر ما شدّ انتباهي لهذا الحيوان اللمّاع في الضوء.. أني وجدته واقفا ذات مرة على مسافة أصبع من مكان الأكل.. وجرّبت كالعادة أن أتركه وشأنه.. لأرى سلوكه..

لقد بقي واقفا هناك.. ولا أدري إذا كان ينظرني أو يشمّ.. أو يتحسّس بلوامس خاصة.. قمت لأملأ كوب قهوة مجددا وعدت.. فوجدته في مكانه لا يتحرك.. قرّرت مع نفسي التشاغل عنه.. وعدم التفكير فيه حتى لا يكون للتليباث أثر عليه..

انتهيت من الطعام.. وأنا أتناول الطعام والقهوة ببطء.. ولا أحبّ التسرّع في شيء.. بدأت في تنظيف المنضدة.. وحملت أوعية الطعام.. بدأت الذبابة تتمشى ببطء مبتعدة.. فإذا صارت على بعد، أطلقت أجنحتها للرّيح، وعادت تئز.. ومن يومها صرت أحترم الذباب.. وأعرف أنه ينطوي على عقل وحكمة.. وليس متهوّرا أو بلا طائل..

لابدّ أن البعض سمع أو قرأ عن أهمية الذباب في الوجود.. يعني في الطبيعة.. وذلك لدوره الستراتيجي في المحافظة على نسبة الأوكسجين في الطبيعة.. فلولا وجود الذباب لما عاش البشر.. وهؤلاء الذين يكرهون الذباب ويلاحقونه بالمقشات طوال النهار.. مثل واجب عسكري.. لا يعرفون أنه سبب حياتهم.. فليس بالخبز وحده يحيا الانسان..

والغريب أن الذين يسمونهم علماء فضاء وبيولوجيا.. يبحثون في المريخ عن وجود الثلج والماء ويعتبرونه دليلا على احتمال وجود الحياة.. أعني أن الدليل على الوجود ليس الثلج وانما الذباب.. وربما يكون لونه في المريخ مختلفا عن طبيعة الأرض.. لكن الأكيد.. أنه الدليل الوحيد على وجود الحياة..

يبدو أن أشياء كثيرة ذات شكل وصوت ورائحة غير مناسبة عند الناس.. لها أهمية وفائدة أضعاف الشكل والرائحة .. لكن الذباب حسب ملاحظتي من الكائنات البدائية جدّا.. فدورة حياته قصيرة جدّا.. وهذا منبع سعادته وأزيزه الدائم..

أنه لا يعرف الهرم والسأم والألم.. ولا يعاني طبعا من تبعات المكان والمطاردة والمنافسة غير الشريفة أو مشاكل الأوراق والفواتير.. ولم أجد ذبابتين تتصارعان على الطعام.. ولا تخزر الواحدة الأخرى كما يحصل بين بعض فقاريات الغابة.. ويصدر أحدها زئيرا كالأسد.. أعني كالقطط..

وأنا أتناول الطعام.. وقع نظري على الأرض خلف الباب.. بقي ذهني مشدودا هناك.. ألتفت نحوه بلا وعي.. قبل المغادرة عاودت الملاحظة.. ثمة نقطة سوداء غير معقولة على الأرض.. نقطة لا تتحرك.. تأكدت منها.. كانت ذبابة أخرى ميتة..

ذبابة في الشباك.. وذبابة خلف الباب.. لا هذه خرجت من النافذة.. ولا أخرى عبرت من الباب.. بقيت تدور حول الباب ولم تجد الثقب.. حاولت التفكير فيها هي الأخرى.. لكن الشمس مالت للمغيب.. فتركتها في مكانها.. وغادرت الحجرة..

 

(79)

في سنّ المراهقة.. يكون كلّ قرار سهلا.. كلّ تفكير سطحيا وقصير المدى.. دون أن يشعر المرء أن تفكيره سطحي وقصير.. يومذاك كنت أشعر بطاقة كونية عالية في داخلي.. طاقة خام غير مقولبة أو مقننة.. تعطيني قوة لعمل أي شيء، ومجازفة أي شيء..

وكالعادة.. لا أعتبره مجازفة أو نزوة.. على الدّوام كنت أصف نفسي بالحكمة والعمق والتردد.. لكنني تصرفت بالعكس.. قرار الفراق اتخذته بإرادتي.. لم يكن قدرا من الخارج.. فكرة الهروب من البيت والعائلة كانت تسكنني من البدء.. ربّما كانت في جيناتي..

شعوري بالوالدة والأخ والأخت يراكم في داخلي الغربة.. عشت داخل نفسي أكثر من الواقع.. في بيت جدّي أحسست بالراحة والانسجام.. لكنني هناك كنت لوحدي في الواقع.. لم يكن ثمة غير عجوزين.. بالكاد يتكلمان أو يفعلان شيئا.. يعيشان حياة روتينية، ويتداولان أياما متشابهة..

ربما كان ذلك أعظم شيء في الوجود.. التكرار من غير تغيير.. الاستقرار والطمأنينة المستمرة التي تأخذ صورة العادي والمضمون.. ذلك أجده في سكان القرية التي أعيش بينهم الآن.. لكني لا أعيش مثلهم.. غريب ومنعزل ومنفصل.. في فكري أكثر مما في الواقع..

تركت البيت قبل العاشرة إلى بيت جدّي.. وتركت العائلة قبل العشرين إلى الجامعة.. على مسافة ستمائة ميل.. وليس ستة ميل في البصرة.. بعد الجامعة اختفيت في الحرب لعشرة سنوات.. بعد الحرب ضعت في المهجر ثلاثة عقود..

فجأة التقيت نفسي ثانية.. عدت إلى طفولتي الأولى.. هل هي النوستالجيا.. هل هو التغير البيولوجي والنفسي لمن يتقدم في السنّ.. مراهقة ثانية.. أم اغتراب عن الواقع والمجتمع.. وأي واقع خارج محيطك الاجتماعي.. أي مجتمع عندما يخذلك الأهل والأصدقاء..

المجتمع وحش.. إذا لم تسايره.. يدمّرك.. يدوس على وجودك وإنسانيتك.. الذين يهجرونك.. يهجرونك بلا ألم وبلا خجل وبلا تردد.. لماذا.. يقولون.. أنت تريد ذلك.. هذا قرارك.. أنت تتركنا.. أنت لا تريدنا.. أنت تكرهنا.. أنت مغرور.. تريد أن تتخلص منا..

حتى عندما تذهب إلى الموت.. يردّدون نفس الكلمات.. يبقون أبرياء وضحايا في عين أنفسهم.. ذنبك أنك لا تعايشهم .. لا تجاري واقعهم.. لا تنحني كما ينحنون.. لا تتلون كما يتلونون.. لا تكذب بعادية كما يكذبون.. ما تزال تحمل القاموس في جيبك.. تكيل لهم الاتهامات مثل شرطي أخلاق..

يا أخي دع الناس تعيش.. قال لي مدير تحرير جريدة ذات مرّة.. لماذا تريد أن تقرر للناس ما يفعلون وما لا يجب أن يفعلوه!.. (أنا.. أنا).. كان ذلك مرعبا لي حقا!..

أنا أعبّر عن رأيي فقط.. هل من حقي التعبير عن رأيي.. المشكلة ان رأيي مخالف للأغلبية.. هل أنا مسؤول عن رأيي.. هل أنا صنعت عقلي.. هل أنا صغت طبيعتي المفطور عليها.. ها أنا أعاني وأمرّ بمرحلة انقراض مثل ديناصور تجاوزه الزمن.. هل أنا ديناصور..

من كلّ الرسائل التي كتبها منذ وصولي.. عادت عليّ رسالة واحدة فقط، لتغيّر عنوان المرسل إليه.. ورسالة واحدة جوابية.. تلك كانت من أختي.. أختي الوحيدة وأول من قرأ أول قصيدة لي.. كان ذلك قبل خمسين عاما.. كلّ رسالة تأتي من البيت بعد قطيعة طويلة تحمل خبر موت..

أولها كانت موت الوالدين قبل ثلاثين عاما.. موت صديق طفولتي قبل خمسة عشر عاما.. والآن موت شقيقي وأخي.. الإبن البكر.. نعم.. مات.. لا أعرف كيف..

لم يتزوج.. لم يخلف.. لم يترك البيت.. لم يغادر البلد.. لم يصنع مشاريع.. لم يلاحق أوهاما.. لم يحلم بتغيير مجتمع .. لم ولم ولم.. عاش حياة روتينية.. رتابة يومية.. بين البيت والمحلّة.. بين الوظيفة والعائلة.. لم يبلغ السنّ التي أبلغها الآن.. آه ما أجمل الوطن.. ما أدفأ العائلة..

كنت أتذكر والدي الذي عاش متنقلا بين أخواته وأقاربه.. كان والدي خارج البيت.. لكن داخل العائلة.. أخي بقي داخل البيت وداخل العائلة.. وأنا خارج الاثنين.. كتبت لأختي بلغة الحب القديم.. بلهفة الشوق القديم.. وبكل وجع الغربة كتبت.. أريد أن أعود.. أعود.. نعم.. ولكن إلى أين.. لا أدري..

ماذا بقي من العائلة القديمة.. ماذا بقي من الطمأنينة القديمة.. هل ما زالت الحيطان تحتضن حرارة.. لكني سأعود .. حرمت من الحياة العادية طويلا.. فلماذا أحرم من الموت العادي.. ليس الموت هو المقصود.. لكن انتظار الموت وأنت بين أحبابك.. أعني في نوستالجيا طفولتك.. أختي هي كلّ ما بقي من البيت القديم.. هي الآن (أمي) .. قد لا يمكن نطق هذه الكلمة بصراحة.. ولكن هذا هو الأمر الواقع..

في داخلي حاجة لشخص يكبرني سنا.. يحتضن غربتي وعقوقي.. أختي الآن ربما تغيّرت.. هي الآن أمّ وجدّة.. في سن التقاعد.. تنظر للحياة في عيون أحفادها.. الانسان شعور ووعي باطن.. ماذا تقول عني.. هل تنظر لي بوصفي شيئا من الماضي.. هل تفتقد الماضي كما أفعل.. هل تعيش نوستالجيا.. طبعا.. لا.. من يجد نفسه في أحفاده لا يعاني من اغتراب.. لكن الوحيد والمهجور يبحث عن شيء يتعلق به.. يأخذه للماضي أو يهرب به للمستقبل.. أين هو هذا الشيء.. من هو ذلك الشخص..

عودتي للنمسا كانت جزء من نوستالجيا.. لكن النمسا تغيّرت في غيابي.. أصدقائي القدامى اختفوا.. الرسالة العائدة في البريد.. تخبر عن غياب أحدهم.. والعلاقات في الغرب تفتقد الحميمية والعاطفة الشرقية..

ماذا لو كانت البلاد غير البلاد.. والناس هناك تغيروا أيضا.. صاروا غربيين أكثر من الغرب.. هذا الصراع في ذاتي ينقضّ علي ولا يترك لي مفرق طرق.. نفق مسدود.. نفق أسود وشمس سوداء.. ولكن داخل النفق ثمة بصيص.. داخل سواد الشمس نقطة مضيئة..

من أجل تلك النقطة.. أنا أمضي.. مندفعا.. مجبرا.. مضطرا.. بحكم بقائي في الجسد.. ليس إلا.. تبقى الشجرة واقفة حتى ينقطع عنها النسغ.. تموت من داخلها وتبقى صورتها من الخارج.. هل الإنسان شجرة.. هل هو شجرة طبيعية أم صناعية.. شجرة شرقية أم رأسمالية.. في رمضان المقبل سأكون هناك..

سأكون معهم.. أعود لأعيش مثلهم.. أفعل ما يفعلون.. أريد أن أشبه أحدا.. إذا كان لا أحد يشبهني.... حلمت دائما.. بالتقاء من يشبهني.. من يريدني.. من يكون تلميذا أو مريدا.. في لندره عثرت على أكثر من شخص.. أكثر من امرأة.. إلتقوني ولا أعرفهم.. طلبوني ولم أطلبهم.. لكنني لم أخذ أحدهم على محمل الجدّ.. اعتبرتهم أصدقاء.. كانوا يصغرونني في السن.. جميلين.. أنقياء.. لكننا لم نتحدث في الموضوع..

في البدء انسحب الأصدقاء.. بقيت الصديقات.. نعم.. الصديقات.. واحدة كانت تفكر في الزواج فعلا.. الزواج مباشرة ومن غير كلام ولا شيء غير الزواج أو قبله.. كنت أشعر بالاستفزاز.. استمرّت على ذلك خمس سنوات..

خمس سنوات تكرّر ذلك.. أحيانا كانت تبكي على التلفون.. توسّلتني بأكثر من طريقة.. جعلتني أشك في نفسي أو عقلي.. داهمتني في الصباح والمساء.. أمطرتني وأغرقتني بالورد والحبّ والدموع.. وفي داخلي صخرة عناد توازي عناد صخرتها.. لا صخرتها ذابت في صخرتي.. ولا صخرتي ذابت في صخرتها.. قوتان متوازيتان متساويتان لا تلتقيان..

عندما أبلغتني بقرارها الأخير.. اتهمتني كالعادة بالغرور واللامبالاة.. اهتزت قواعدي.. ندمت.. عصفت بي الرّيح.. تعوّدتها لخمس سنوات.. ثم اختفت.. فجأة.. عندما عاودت الكتابة إليها.. لم تردّ.. فعلا كانت أكثر عنادا مني.. أكثر قوة.. وأكثر إرادة.. وإلا.. كيف إنتظرت خمس سنوات.. تدقّ بابا موصدة..

المرأة الثانية كانت تلمح بغير وضوح.. لا تفكر بالارتباط.. لا تفكر بالحبّ.. تداعب جبيني.. تلعب بشعر رأسي القصير.. تتلمس ذراعي مثل طفلة تكتشف ساعد أبيها.. تجلس جنبي بالباص.. لكن بالعرض.. أنا أنظر للأمام.. أرقب الشارع من الزجاج.. لمساعدة السائق في حركة المرور.. وهي تراقبني مثل تمثال أبي الهول..

على شفاهها ابتسامة الاكتشاف أو الإعجاب أو أي شيء لا تقوله شفاهها.. تأخذني من يدي وتنتقل من مطعم إلى كافيه.. تختار المطاعم والأكلات ومحلات الكافيه.. وهي وحدها تتكلم.. جرّبت على مسمعي كلّ أنواع القصص والخبريات و التجارب الشخصية و.. و..

أنا بقيت أنا.. لم أستسغها أساسا.. لم يكن في قاموسي مداهنة شخص يقودني إلى غرضه.. ربما لو لم تعلن ذلك صراحة.. لاختلفت النتيجة.. كنت أسايرها شكليا.. من غير شعور متبادل ولا توارد أفكار.. في آخر لقاء في كافيه قالت: تعال اجلس جنبي.. كنت أسحب الكرسي المقابل لها بعد احضار الطلب.. أجبتها بتلقائية وفظاظة عارية: هل هناك (بوس)؟..

سكتت.. تجاهلت الأمر.. وجلست تحكي لي قصة أخرى.. وفجأة سكتت.. قال: ها.. أنا قلت ما لديّ.. قلْ لي أنت ما لديك.. ما رأيك فيما قلته.. ويا ليتني لم أقل.. فنّدت كلّ كلامها.. ورسمت لها خارطة طريق حسب طريقتي.. وخلاف كلّ ما تريده، وما تنتظره مني ومن نفسها..

قالت: دعنا نخرج.. أريد أن أتمشى.. هذا يعني أنها اغتاظت.. أو تشعر بالسأم.. تبعتها.. تدخل محلات المواد المنزلية وأدخل وراءها.. أحيانا أنتظرها أمام المحل.. وعندما تتأخر.. أضطر للبحث عنها.. تنتقي سكاكين.. تقلبها.. تقرأ ماركتها.. أقول لها: لديك مشروع جريمة..

أبحث عن سكين كبيرة وقوية.. تقول.. بعد عدّة جولات.. اشترت فعلا سكينا كبيرة وقوية من صنع صيني.. هذه هديّة مناسبة.. المهمّ لمن تقدمينها.. إنتهى ذلك اليوم.. تعرفت إلى شخص عن طريق شفره في النت.. أعجبتها مواصفاته.. تعارفا.. ذهبت تعيش معه..

بقيت واحدة.. هي أقرب وأجمل وأدفأ.. وهي الأكلة التي منعت أكلات.. جاءت قبل الجميع وبقيت بعد ذهاب الجميع .. وكانت تلك (حلمي).. ذهبت معها وذهبت معي.. كانت جزء مني وكنت جزء منها.. وكانت وكنت وكنت وكانت.. ومرّت السنون.. مرّت عشرة سنوات.. اتصلت بها.. تعالي نحتفل.. بمرور عشر سنين على تعارفنا..

يوم اللقاء أمطرت.. لقاؤنا كان في محطة.. مثل كلّ لقاءاتنا السابقة.. التقينا أول مرّة في محطة.. كنت أنظر يمينا وشمالا.. أنتظرها وأتهمها بالتأخر تارة وبالكذب تارة.. توقفت حركة السيارات وزعق أحدها بالصفير في وسط الشارع.. لم أهتم.. كانت عيوني بين الشمال واليمين..

قال لي أحد المارة: تلك المرأة تناديك!.. نظرت فإذا هي.. تقود سيارة في وسط الشارع.. وتدعوني للركوب بجانبها .. هرعت اليها وهي تقول.. استعجل.. قطعت الطريق.. نعم.. قطعت الطريق.. وبقيت مقطوع الأنفاس.. دخلت بالسيارة في زقاق جانبي.. تبحث عن بارك تترك فيه السيارة..

لم أعرف أنها بعد عشر سنوات صارت تقود سيّارة.. لم أسألها كثيرا.. جلسنا في كافيه.. ماذا تشرب.. أو: ماذا تحبّ أن تشرب.. وكان جوابي الرتيب: أي شيء!.. المرأة لا تفضل جوابا غير واضح.. لاتيه.. قامت لتجلب الطلب.. عادت لتخرج شيئا من حقيبتها..

كنت أجلس مضغوطا .. مثل طفل محشور.. أنظر للمطر عبر الزجاج.. لا أشعر بها معي.. مجرد مجاملة خارجية لا غير.. تتظاهر لتقديم نفسها بشكل آخر.. لا.. ليست تلك الحبيبة أو الباحثة عن الحبّ .. على الطاولة المجاورة رجل متقدم في السن بجانبه عصاه بتوكأ عليها.. وبيده جريدة.. وأمامه كوب قهوة.. قالت لي أنظر نحوي .. كان بيدها تلفون سمارتفون والتقطت صورا لي.. هوووه.. تغير شكلك كثيرا..

أنت السبب.. أجبتها.. لم تهتم لجوابي كالعادة.. التفت هنا.. انظر هناك.. قم واجلس من هذا الجانب.. كن طبيعيا.. ايه.. هكذا.. نادتها عاملة المقهى لاستلام الطلب.. التقطت صورا أخرى.. تلفت.. قلت.. اسالي العاملة لتلتقط لنا صورة مشتركة.. جلبت الطلب وتجاهلت طلبي..

قالت: أخبرني عن أخبارك.. كل مرّة أنا أتحدث.. هذه المرّة.. أنت تتحدث.. مشتاقة لك..!

كانت تؤلمني.. كل كلمة منها تؤلمني.. تستخدم كلمات تخترقني.. تتحدث دائما عن الألم.. دائما تعيش حالة اضطهاد وملاحقة.. جميلة.. كلّها جميلة.. ملامح وجهها تعيدني إلى زمن الكلية.. حدقة عينيها تعيدني إلى أيام المراهقة.. خفة دمها تعلكني فلا أرغب في مفارقة ريقها..

وضعت أمامي سلّة من الوعود.. أكثر من مرّة وضعت تلفونها بيدي وقالت: هاك.. تكلم مع فلان أنه يسأل عنك دائما.. خابر فلان وخذ منه موعدا.. ربما أحضر معكم.. والنتيجة.. نظرت إلى الساعة.. وقالت.. عندي موعد مع الطبيب ولا أستطيع التأخر.. ثلاثة أشهر وأنا أنتظر هذا الموعد.. يجب أن أمضي..

قامت مستعجلة كالعادة.. تبعتها.. ماذا.. هل تذهبين من هنا أم.. تعال معي الآن.. ذهبت معها للسيّارة.. مكان السيارة بعيد داخل الأزقة.. كيف تعرفين كلّ هذه الأزقة.. كنا نسكن هنا.. قالت.. صعدنا للسيّارة.. كانت مرتبكة.. عند الشارع الرئيسي تساءلت هل تمضي يمينا أم شمالا..

سارت يمينا.. قالت أن طريقها نحو الشمال.. بعد قليل دارت بالسيّارة.. وقفت ونظرت نحوي مرتبكة كالعادة.. لا أستطيع أن أوصلك الآن.. أعذرني.. تأخرت على الطبيب.. أراك قريبا.. إنزل بسرعة.. لأني وقوفي مخالفة!.. ومن غير وداع ولا كلام افترقنا.. لا طعم للقهوة ولا احتفال بالمناسبة..

نفس حالة الارتباك والمطاردة التي تعيشها منذ أول لقاء.. تقول أشياء كثيرة وتعمل ضدّها.. تطلب أشياء وترفضها في وقت آخر.. هل تمثل.. هل تستلذ بإحراج الآخرين.. هل هي ساديّة.. مازوخية.. تعاني من حالة نفسية وتبحث عن شخص تسقط عليه حالتها.. هي التي قالت لي مرّة بلغة لا تخلو من شماتة.. أنا الذي أخرجتك من عزلتك.. هل تستطيع العودة لعزلتك مجددا..

بقي ذلك السؤال عشرة سنوات.. لا أستطيع استعادة عزلتي السعيدة.. ولا أجد من يشاركني فيها.. قبل المغادرة بعشرة أيام.. رنّ الهاتف.. كانت هي.. بعد قطيعة أخرى ترنّ.. هل التي اختارت القطيعة.. كنت في أصعب الظروف.. وهي الآن ترنّ.. بقي الهاتف يرنّ..

 

(80)

صحوت من النوم.. اليوم الثاني من الإسبوع.. خطر لي تبديل ستارة الحجرة.. كلّ ستائر هذه الجهة من نسق واحد إلا هذه.. تفحصت إمكانية عمل ذلك بغير مشقة.. وجدتها مناسبة.. صعدت على القنفة(*) وبدأت في نزع الستارة القديمة.. تم ذلك بسرعة.. بقي تركيب الجديدة..

وجود القنفة في هذه الجهة يسهل الأمر كثيرا.. أفضل من الجهة الثانية التي تقتضي وضع كرسي يفصل مسافة عن الحائط.. القسم الأول جرى بسهولة نسبية.. القسم الثاني واجه بعض الصعوبة واستغرق وقتا.. لكنه أنجز أخيرا..

قبل صرف نظري عن الموضوع، اهتممت بتوظيف الستارة الشفافة أيضا.. لحظت أن قاعدة النافذة تحتاج تنظيف .. أزحت الستائر.. وبالمرّة.. وجدتني أنظف زجاج النافذة والقاعدة.. تذكرت وجود منظفات خاصة للزجاج والنوافذ .. أحضرتها من الحمام..

لأول مرّة أنظف النوافذ بالكامل.. من الداخل والخارج.. نافذة غرفة الجلوس التي أستخدمها للطعام، كبيرة.. تكفي لإدخال سرير لشخصين عبرها.. هذا خطر في فكري.. أفضل من الباب الضيّق..

فتحت جارتي باب السيارة الخلفي وأنزلت شتلات زهور جديدة.. عادت وأخرجت كيس تربة زراعية.. تبادنا التحية .. تبادنا كلاما عابرا.. أنا لا أهتم بالزهور والشتلات الطرية التي تباع في المحلات تحت يافطة.. حوّل بيتك إلى حديقة.. اجعل بيتك ربيعا دائما..

تحدّثت عن زوجها المريض دائما.. الخميس الماضي كانوا في المستشفى.. هناك فقرات صناعية مزروعة في ظهره تعاني من ارتخاء.. سوف يعاد فحصه مجددا بجهاز اللازر (MRI) للتأكد من التشخيص.. ماذا كان الناس والأطباء يفعلون قبل تزايد أجهزة الفحص والتشخيص والعلاج..

البيرقراطية أمر جيد.. استخدام التكنولوجيا الحديثة يمنح الناس كبرياء التفوق والتطور.. الدولة أيضا تتباهى بالخدمات المتطورة.. والأحزاب تسجلها في دعايتها الانتخابية..

رجل في السبعين.. قضى حياته في معمل طابوق.. وهو مريض بالسكر أيضا.. مفاصل وفقرات.. سيعيش للثمانين .. ولكن معدّل العمر هنا يتجاوز التسعين.. لا بأس أن يجني حصيلة التقاعد والضمان الاجتماعي.. عمل أربعين عاما.. ويعيش بالتقاعد أكثر من ثلاثين عاما.. ليس الأمر سيئا..

الآن رفعوا عمر التقاعد للسبعين.. هو من جماعة القانون القديم.. من أواخر الذين شملهم القانون القديم.. قال لي مرّة.. بعد إسبوعين أتقاعد.. خلاص.. أنجزت المعاملة.. نعم بعد إسبوعين.. وكان قلقا.. حريصا أن لا يمرض أو يحصل أي شيء يعيقه عن إكمال ساعات عمل الإسبوعين الأخيرين....

عندما تقاعد إشترى سيارة جديدة.. ما زالت معه منذ ثلاثة عشر عاما.. يذهب مع زوجته للتبضع من السوق القريب ويعود خلال عشرة دقائق.. يوميا يتبضعون.. لملء وقت الفراغ.. هو لا يتحدث كثيرا.. زوجته تحب الكلام.. تكرّر دائما.. يوميا نفس الشيء.. دائما نفس الأشياء.. المطر والشمس هو التغير الوحيد في حياتهم.. هي تهتم بالزهور.. تمسح النوافذ أحيانا.. تقف خارجا لتجد أحدا تحادثه.. خرجت جارة ثانية لتدخن أمام الباب.. اعتذرت وراحت تتكلم معها..

انقلبت علبة تنظيف الزجاج على أرضية الحجرة.. لحقت بها على النصف.. خطر لي تنظيف نوافد أخرى بالمناسبة .. ما زال الوقت صباحا.. انتقلت لشبابيك الحمام.. التواليت.. أترك النوافذ مفتوحة بعد تنظيفها لتبديل الهواء بالمرة..

الوقت يجري ببطء.. هذا اليوم هو التاسع والعشرين من مايس.. في الشهر ثلاثة تسعات.. ولادتي تصادف الوسطى.. قبل مدّة تبين لي أنني ولدت لأول مرة في أول تسعة.. وولدت للمرة الثانية بعدما تناهيت للموت في التسعة الثانية.. فهل يصادف موتي التسعة الثالثة..

تذكرت أن مبريخا لا تحبّ التنظيف.. لا تحبّ التغيير.. وكنا نتجادل ونختلف.. كلما فعلت شيئا تنزعج وتنهاني.. إعتقدت أنها لا تحبّ التنظيف.. كيف لا تحبّ التنظيف.. طيلة السنين كان عقلي لا يتعدّى ذلك.. أستعجل الحكم عليها دون بحث عن السبب..

مؤخرا تذكرت أن أمي أيضا كانت كذلك.. تنظف البيت مرة واحدة في نهاية الإسبوع.. ولا تسمح لغيرها بعمل ذلك.. أمي أيضا لم أفهمها.. ولأنني لا أغادر البيت.. أنشغل بتغيير مواضع الأثاث وتبديل الغرف من وقت لآخر.. مبريخو تنهاني دائما.. وعندما تعجز تتركني.. فأنا أيضا شخص عنيد..

جدّي أيضا كان يحبّ التنظيف.. إذا لمح شيئا على الأرض يرفع صوته مناديا أحدهم.. يوبخ لوجود شيء على الأرض.. ماذا تفعلون في البيت.. النظافة والنظام وقلة الكلام.. هي ثالوث جدّي الدائم.. وهذه الثلاثة هي شعار سكان القرية التي أوجد فيها..

حياة رتيبة لا يتحرك فيها غير رقاص الساعة.. مغيب الشمس وشروق الشمس.. الفطور والغداء والعشاء والنوم.. التلفاز رتيب.. الأشياء في السوق هي نفسها.. الوجوه نفسها.. الأسعار هي نفسها.. ترتفع ولكن لا تنخفض .. كلّ شيء في ارتفاع.. ارتفاع يزيد الرتابة واللامعنى..

الغريب أن الرشاقة هي سمة عامة هنا.. الرشاقة نتيجة الملل والسأم.. فلا شيء جديد في حياتهم.. الطعام هو نفسه بلا تغيير.. نفس الفطور.. نفس الغداء.. نفس العشاء.. مثل أنظمة السجون.. طعام المستشفى أفضل قليلا.. لأنه يتغير إسبوعيا..

هنا لا يوجد طبخ.. الغداء شطائر لحم وجبنة/(سندويتش)/(jause).. حصة كل شخص ثابتة.. لا تزيد.. يشترون كلّ شيء بالعدد.. لكل شخص قطعة خبز.. لكلّ شخص قطعة موز.. قطعة تفاح.. اللحم يتمّ شراؤه مقطعا.. لكلّ شخص كذا قطعة مصحوبة بشطائر الجبنة..

عمل المطبخ هو التسخين وإعداد الشاي أو القهوة.. القرية تعيش وفق نظام ثابت.. النظام يعني تثبيت الإنفاق.. النظام الغذائي مهم أيضا لتفادي المرض واستعمال العلاجات.. فالعلاج والدواء بثمن..

بعد إعداد الفطائر لزوجها تخرج الجارة من البيت.. في البدء تنظر أحدا في الخارج، هنا أو هناك.. إذ لا تجد أحدا تتسلى بالتنظيف.. ترى غبرة على الأرض.. تجلب المكنسة والمكرفة وتنفق وقتا لرفع آخر ذرة من الأرض.. تنظف الشباك.. تحمل قطعة القماش بيدها وتذهب من نافذة لأخرى.. مرة رفعت كلسونا بين ذراعيها، ووضعته أمام عيوني: أنظر قالت.. لم أقل شيئا.. ابتسمت.. قالت وهي تبتسم: لقد أصبح صغيرا.. أستعمله للمسح.. لا بأس قلت.. أفضل الاحتفاظ بها ولا أرميها .. مفيدة للمسح.. لم أستطع أن أطلب منها شيئا للمسح..

النفايات هنا لها سعر وصرفيات.. لذلك يعيد الناس تدوير النفايات داخل العائلة للاقتصاد.. ثيابهم محدودة بقطعتين للتبديل في الحياة اليومية.. ثياب الخروج والزيارات شيء آخر.. ثياب العمل شيء آخر..

النساء العاملات مريضات بالثياب والتبديل.. لابدّ من قطعة جديدة كلّ يوم.. حتى لو كانت قطعة شال أو منديل أو بودرة تتحدث عنها مع زميلات العمل.. الأناقة في العمل مرض نسائي.. جارتي لا تعرف النحس..

المهمّ هنا لا يوجد نحس.. ربما كان يوجد.. لكنهم ألغوا الدّين من حياتهم.. وحوّلوه إلى مناسبة اجتماعية.. مناسبة تراثية تقليدية.. يرتدون فيها ثيابا تقليدية.. يتناولون أطعمة تقليدية تراثية.. الكنيسة في القرية مركز اجتماعي تعقد فيها اجتماعات عائلية ومؤتمرات وإلقاء المحاضرات أو تقديم موسيقى..

لم يخطر لي أبدا فكرة النحس.. تشاؤم البعض من التغيير.. عدم تحريك الأشياء من مواضعها.. التنظيف أيضا نوع من التغيير.. رفع الغبار وتعديل الأشياء ينطوي على تغيير.. أيام زمان كنت أكرّر عبارة (الحركة بركة).. الحركة تقود للتطور.. اليوم صار التطور يقود للضياع والدّمار.. أمي ومبريخا أكثر فهما مني..

في الأشهر الأخيرة لوجودي في لندره.. حدثت تحسينات كثيرة في شقتي.. اللاند لورد أصلح الحمام وأضاف جهاز تدفئة.. صديقي جلب طقم طعام وجلوس وفرش وأشياء تؤثث نصف بيت.. عندما كنت أرى ذلك يتسلل فرح في داخلي.. أن وضعي يتطور للاستقرار.. أنّ الايام المقبلة تشهد تحسنا.. عندما أنظر للشقة أشعر بما يشبه سعادة.. لكني لم أدرك أن بداية التغييرات.. تنتهي بانقلاع أشخاص..

عندما تصلني رسائل الحكومة يضطرب كلّ شيء.. حتى اللحظة الأخيرة كنت أصارع الأمل.. رسالة واحدة أنهت كلّ شيء.. هذه هي حياة الانسان.. تتقرر بكلمة.. برسالة.. بقرار.. مثل حشرة.. إنتهى. هكذا غاردت الشقة كأني ذاهب لزيارة.. غاردتها كما هي.. بكلّ التحسينات والتطويرات والأثاث الذي تبرّع به صديقي.. اللاند لورد قال يومها.. وهو يتحدث عن فتح ثقب جديد في الحائط لتمرير أنابيب السخان.. لن تكون نهاية العالم..

الانجليز يستخدمون عبارة نهاية العالم من باب التهوين.. نوت ذا وورلد اند.. في لندره توجد منطقة اسمها (وورلد اند).. وأنا كنت أسكن في (ويست اند).. بالنسبة لهم وورلد اند هي استراليا أو نيوزيلانده..

عندما تبدو الأشياء كأنها تتقترب من الاكتمال والبلوغ.. يكون الوداع والفراق والفقدان.. هكذا إذن.. عندما بقي لأخي شهران على تمام الخدمة في الجيش لكي يتسرح.. كنا فرحين.. مطمئنين للمستقبل.. بعد إسبوع أعيد في تابوت.. قبل شهرين من التسريح والانصراف لاكمال دراساته العليا..

أحيانا خطوة للأمام أو اقتراب من الهدف.. تعني نهاية كلّ شيء.. خسارة كلّ شيء.. مبريخو لم تفصح عن ذلك.. لم تقل.. لأن مجرد النطق بذلك يجعله حقيقة.. الحديث عن النحس يجلب النحس.. التفكير بالنحس يجلب النحس.. الخوف من النحس يجلب النحس.. ما هو النحس.. من هو النحس.. من أين يأتي.. من يصنعه.. كيف دخل هنا.. كيف نتخلص منه..

مبريخو معها حق.. كلّهم معهم حق.. وأنا أيضا أحتاج أين يكون لي حق.. هل أنا تاجر خسار.. لابد أن أجد طريقا بين المجرّات وحركات النجوم.. أمس رأيت البدر كاملا.. بدر منتصف الشهر العربي.. نحن الآن في شهر رمضان .. واليوم هو الرابع عشر من رمضان.. ليس التاسع والعشرين من مايس الفرنجي..

الشهور الفرنجية صنعها غريغوريوس في القرون الوسطي، وجرى تعديلها غير مرّة.. وما زالت فيها فرق ثلاثة عشر يوم وثلاثة عشر ساعة وثلاثة عشر دقيقة.. كلّ ثلاثة عشر عام ينبغي تعديل الكالندر الفرنجي.. نحن نتبع الكالندر القمري.. اليوم هي ليلة القدر إذن.. منذ يومين يفارقني النوم وأغفو متأخرا.. هل ساعتي البيولوجية مربوطة على توقيت فضائي..

ـــــــــــــــــــ

* (قنفه)- كلّها بالفتح-، لغة عراقية: بالمصرية تدعى (كنبه) – كلّها بالفتح-: وهي لفظة أجنبية معرّبة، وهي مكان جلوس لأكثر من شخص: كرسي عريض.

 

(81)

عندما نظرت من النافذة نحو الأفق.. في الطابق التاسع من مبنى المستشفى الإنجليزي.. وقعت عيني على منظر حميم.. كنت أفتقده من زمن.. حقول خضراء ممتدّة.. ترتفع وترتفع حنى نهاية الافق.. تذكرت مرتفعات النمسا الممتدّة على مدى البصر.. حتى لا تتصوّر مكانا للتراب العاري في تلك البلاد..

لماذا يهزني هذا المنظر.. لا أدري.. هل لأن طغيان الخضرة يذكرني بمقابر أوربا.. أم يذكرني بصحارى بلادنا التي تكتوي بقيظ صيفها الطويل.. أم تعيدني لطفولة بعيدة عندما أرفع عيني لسفوح زاكَروس المتشاهقة حتى عنان السماء.. ربما وربما لا..

لكنني في كلّ ذلك لم يخطر لي أن تلك المشاهد الحميمة.. تعني تذكرة عودة سريعة لتلك البلاد التي قدمت منها قبل أثني عشر عاما.. (go home!).. تلك الاعلانات التي كانت تروّجها باصات لندره الحمراء وهي تجوب الشوارع والأحياء البعيدة..

تذكّرت ذلك اليوم.. عندما دفعتني الحاجة للوقوف وراء باب البلكون، والنظر نحو الأفق.. ها أنا مباشرة أزاء السفوح المتصاعدة تصاعد أشواق الدّرويش إلى عتبات التجلّي.. مدد.. مدد.... وعادت بي الذاكرة للمستشفى.. وكلّ الأشياء الأخيرة التي حصلت معي للمرة الاولى.. وكأنني كنت أنتظرها، منذ سنوات طويلة.. تذكرة انتقال للمستقبل والاستقرار..

فإذا بها صفارة النهاية.. صفارة الرّحيل.. من موانئ بلا وداع.. نهاية عمر لم يكن غير مضيعة على قارعة الغربة .. أو الخيبة.. أو الندم.. وهذا طبعا ليس منّي.. أنها العبارة التي وجدتها على قصاصة ورق صغيرة مطوية بعناية .. ناولني إياها والدي في أيام الدراسة المتوسطة.. أول وآخر ورقة يناولني إياها والدي.. ليس فيها غير تلك العبارة.. شارة طريق.. نظرت إليه باستغراب.. وهو يراقب ردّ فعلي.. ما هذه.. ابتسم وهو يقول.. عنوان موضوع إنشاء.. اكتب أحسن ما عندك.. إنشاء ماذا يا أبي.. أنه يخص مصير إنسان.. فريدة.. الموظفة معي في قسم الحسابات لديها امتحان بكالوريا هذا العام.. وتريد منك درجة كاملة في الإنشاء.. ترفع معدّلها النهائي.. أحاول.. في اليوم الثاني.. ناولته الموضوع.. وضع الورقة مطوية في جيبه.. وهو يقول.. سآخذك معي لتتعرف عليها.. أنها فتاة مهذبة جدّا..

فعلا ذهبت معه بعد مدّة.. كانت فتاة جالسة على طاولة في حجرة الحسابات.. وبصوت مسموع قال والدي.. هذا هو فريد.. رفعت فريدة عينيها نحوي بابتسامة.. قامت ووضعت يدا خجولة في يدي.. وبصوت خفيض شكرتني على الموضوع.. امتدحته.. زميلاتها في المدرسة امتدحنه أيضا..

ناولني والدي سجلا عريضا فتحه أمامي ودعا لي بكوب شاي.. جلست على جانب من طاولته.. وبدأت أفعل مثلهم.. مراجعة الحسابات الشهرية لرواتب الموظفين والحسابات الختامية.. في الأسبوع الأول من كلّ شهر.. يأخذني والدي معه للدائرة للمساعدة في مراجعة الحسابات.. كان والدي مدير حسابات الدائرة..

عندما أستذكر تلك الايام.. والسنوات التي مرّت من بعدها.. أحاول تحديد بداية (المضيعة) في حياتي.. هل كانت في سنّ المتوسطة.. الاعدادية.. الابتدائية.. الجامعية.. الجندية.. الحربية.. أم بدء من تلك الطفولة المنحوسة والجسد الأزرق.. أنا أعمى فمن يبصرني.. من يعطيني يديه ويقودني عبر ظلمة الطريق.. قارعة الطريق.. قارعة طريق.. يتقاطع فيه الشرق مع الغرب.. والشمال مع الجنوب.. الاشتراكية مع الرأسمالية، والإسلام مع المسيحية.. واللغات.. ماذا أفعل بثلاث لغات لا تساوي نصف رغيف لإنسان جائع لا يبيع نفسه.. هل كان والدي يعرف معنى تلك الورقة.. يعرف بالتأكيد أن (فريدة) هو اسم على إسمي القديم الذي أسمتني به أمي.. وأصرّ على هو تغييره..

أحسست بذلك من عينيه وهو يقول.. سآخذك لترى فريدة.. كأنه يقول نصفك المفقود.. العائم.. ولماذا يمتدحها أمامي.. كأنها بنته.. أعني كأنه يمتدحني أنا.. لا أعرف ما حلّ بفريدة بعد ذلك.. عرفت أنها نجحت وبتفوق.. وانتقلت إلى بغداد للدراسة في الجامعة..

لم تسأل عني.. لم أردها.. لماذا لم تطلب زميلاتها منها التوسط لكتابة موضوعات إنشاء لهنّ.. هكذا.. مجرد مضيعة.. في العام التالي انتقل والدي إلى العاصمة.. حصل على وظيفة أعلى.. لم أعد أرافقه للعمل.. ولا يطلب مساعدتي في المكتب..

عمر المرء مهما كان طويلا أو سعيدا، فهو يأخذ صورة يوم.. يبدأ من عتمة الفجر.. يتجه لذروة الظهيرة.. عند البعض تكون الظهيرة المجد والذروة العليا.. عند غيره تكون شقاء وذروة دنيا.. ثم تتجه للمغيب.. قد يأتي المساء سريعا وسهلا.. وقد يستغرق أطول..

حياة الانسان لا تقاس بالساعات والأميال.. ولكن بالمشاعر والعواطف.. قد يشعر الفقير نفسه سعيدا.. وقد يحسّ الغني والعظيم بالتعاسة والجفاف العاطفي.. ولكن لا أحد.. لا أحد يجد جوابا لأسئلة زرادشت.. الاسئلة التي قرضت سبعة أعوام من حياته بلا طائل..

في أي يوم نحن اليوم.. وما هو التاريخ.. ما هي الأيام التي شابهت هذا اليوم عبر الزمان.. وما طبيعة السّعداء والأشقياء فيه.. كم كان عددهم.. وكم أضيف لذلك العدد مع انتهاء هذا اليوم.. يوم السعد الخميس.. ترى.. هل كان سعيدا فعلا..

عيش في ظل من تحبه.. عيش!..

هنيئا لك.. هنيئا....

 

(82)

هل أنا طفل نحس.. في أوربا يقال: طفل حبّ.. لكني لم أكن طفل حبّ.. في ذلك البيت لا وجود لحبّ.. الحبّ عيب.. حرام.. زَعْرَنهْ*.. أي شيء.. ولكن: (لاحبّ)!.. خمس سنوات بعد الزواج لم تحمل أمي.. اضطربت الأمور .. تم تجربة كل الطرق والأساليب وأنواع الشفاعات والكرامات..

الشخص الذي رأيته في الحجرة الكبيرة وهو يشعل النار ويوقد البخور ويطالب أمي بقميص وشعر ودجاجة.. قال لها: يكون عندك خمسة.. أمامك خمسة نذور.. أو تقومين أنت بحقّ كلّ واحد منهم.. أخذ القميص والدجاج ومبلغا من المال يطالب كلّ مرة بزيادته وذهب..

أنجبت أمي بنتين.. البنت الأولى عاشت.. البنت الثانية بلغت السابعة وماتت.. ثم أنجبت ولدين.. الأول عاش.. الثاني مات بعد إسبوع.. يومها لم تفهم أمي الدرس.. لأن بنتها الثانية ما زالت لم تبلغ السابعة.. فرفضت تسليم ولدها الثاني للدفن.. رغم أنه لا يرضع ولا يتنفس..

بخبرة الداية صار الطفل يتنفس ويرضع.. وهذا الطفل هو أنا.. الطفل الثالث كان صبيا أيضا.. لكنه مات فورا.. ولم تنفع معه أية طرق.. الطفل الرابع كان صبيا.. عاش.. بلغ الثانية والعشرين ومات..

أما الطفل الثاني الذي هو أنا فقد نشأت خارج العائلة.. وعندما بلغت الحادية والثلاثين قالت لي أمي بنفسها: (أنت ميت!).. عندي أبناء ماتوا وأنت واحد منهم!.. بعد واحد وثلاثين عاما أدركت أن ما فعلته كان ضدّ القدر.. في الحادية الثلاثين هجرت البلد.. وبعد عام ماتت هي..

قبل ثلاثين عاما من اليوم ماتت.. وأنا لست حيا ولا ميتا.. الرسالة القديمة التي وصلتني من أخي يومها.. تقول أن إسمي كان على شفاهها وهي تلفظ آخر أنفاسها.. ولكن بأي معنى.. فأنا الآن عاجز عن الحياة.. وعاجز عن الموت ..

الناس يهربون مني.. أخوتي.. مبريخا نفسها وجدت راحة في التخلص مني.. أقصد التخلص من النحس.. رغم أن قلبها معي.. ولكنها أيضا تقول مثل قيافا: أن دمار شخص أفضل من دمار عائلة!..

لكنني أنا لست نحسا.. النحس هو ما يحيط بي أو يلاحقني.. لقد كنت روحا خيرة للجميع.. وكلّ من عرفني تبارك بي.. وما يزال يتبارك.. لكن الذي يتبارك بي لا يباركني.. أن أحتاج البركة أيضا.. من يعطي يأخذ.. لكنّ الذين أخذوا لم يعودوا.. مثل البرصان التسعة..

ــــــــــــــــــــــــ

* زَعْرَنَهْ: صيغة مصدر من لفظة [زعْر/ أزعَرْ]: دالة نقص الفهم أو عدمه، وتطلق على الأطفال: (زُعْران).

 

(83)

عندما أخرج للشارع.. لا يكون معي غير قلبي.. يقودني في سحابة الزمن ومفترقات الوجوه.. قلبي هو الوحيد الذي أئتمنه على نفسي وفي أحضانه أختبئ.. فمنذ غاب الأخوة صار هو كلّ شيء لدي.. منذ عميت (الديار تلفتّ القلب)*.. قلبي لا يتكلم ولا يتحرك.. لكنه يعرف كيف يقودني.. مثل أب حنون يمسك بيدي ويسير معي..

لكن قلبي الذي عرفته مذ فتحت عيني.. تنقصه البصيرة.. نصف أعمى.. يرى الأشياء بعين واحدة.. وبعين واحدة يقودني.. دائما نسير على جانب الطريق.. جانب واحد من الطريق.. ولا نعرف ما يجري في الجانب الآخر.. قلبي لا يهمه معرفة ما في الجانب الآخر.. أنه معني بجانب واحد يريده هو..

هكذا اتبعت قلبي ستين عاما.. بعين واحدة.. بنصف عين.. وفي جانب واحد من الطريق.. دائما بمحاذاة الجانب.. لا نشارك في كرنفال.. ولا نعرف معنى الرقص والضحك والركض مع الناس.. دائما لوحدنا.. ومثل غريبين أعميين.. لا أعرف من منا يمسك بيد الثاني ومن الذي يقود.. لكن المؤكد ليس أنا.. أنا الذي لم أكن.. وكان هو قبلي..

يبقى القلب قلبي.. هو ذاتي وطريقي وأغلى شيء في كياني.. قلبي دليلي.. وماذا أفعل أنا في عالم فوضى تختلط فيه الألوان.. أتبع دليلي وهو يجد لي الطريق..

لا يتكلم القلب لغات.. لكنه يفهم العالم.. هكذا أفترض أنا طبعا.. حتى الآن وقعنا في كوارث كثيرة.. وارتكبنا خسائر فظيعة.. لكنه لا مفرّ.. بعينه الواحدة ينظر للنساء والمدن واللغات والمنافع.. بحركة اصبعه الصغير يجرّ خطا.. يلغي فيه الشيء في لحظة.. في أول لحظة..

لا أكاد أعرف أحدا أو شيئا.. يغيره أو حتى يشطبه.. وما لم يشطب لم أكسب منه غير الندم.. الندم يجعلني اثق فيه أكثر من نفسي.. فالحياد أفضل من الألم.. معاناة الوحدة والوحشة والغربةّ.. أفضل من أصدقاء السوء ونساء الشرّ.. حياد في عالم يتنفس الشرّ.. ويمتص الدماء.. شيء لغز..

قلبي وأنا والعالم ثلاثة.. من المخطئ فينا وأين يقع الصواب.. أنا أتبع قلبي ولا أتبع العالم.. يبقى اثنان.. أنا والعالم.. أنا لا أتبع العالم والعالم لا يتبعني.. لا أنسجم معه ولا ينسجم معي.. لا يشبهني ولا أشبهه.. لا أعرف كيف عشت في عالم.. لا يربطني به شيء..

لا أعرف إذا كان العالم كما هو.. أو تغير مؤخرا.. هل كان وجود بعض الناس حوالي.. يشغلني عن رؤية حقيقة الصورة.. وإذ اختفى أولئك صرت وجها لوجه مع البشاعة.. لكن العالم كبير.. أقوى مني.. هو كل شيء.. حتى الهواء بيده.. أين أذهب منه ولا مفرّ.. كيف أخرج من العالم.. هنا سكت قلبي ولم يعد يتجاوب معي..

كيف أسأل قلبا أعمى عن مفتاح.. كيف أسلم وجودي لشيء.. لا يزيد حجمه عن راحة كفي.. هذا السؤال أيضا يشغلني.. إذا لم أستعن بقلبي فكيف أتنفس.. وأنا أتنفس رغما عني.. سلمت لقلبي عندما خذلني عقلي.. وعقلي مغرور وأعمى.. عشت معه نصف عمري.. نصف عمري عشت في غوايته.. تلك هي أجمل أيام عمري.. ذلك هو عمري الحقيقي.. الذي لم يكن غير غير خدعة.. كيف خدعني عقلي..

أشبّه عقلي بشخص حكيم ذي سلطة ومال.. ولا حدود لحكمته وسلطته وماله.. طيلة وجودي مع عقلي لم أعتبر العالم شيئا.. ولا وضعت نظري على شيء.. لا مال ولا سلطة ولا امرأة.. في كل ما يشغل الناس كنت أطمئن لخزانة عقلي.. الذي يعطيني كلّ شيء في ساعة طلبي.. ويضع في متناولي أغلى ما يحلم به احد.. عقلي يعرفني ويعرف الزمن.. يعرف ما يلزمني وما لا يناسبني.. وفي الوقت المناسب يؤمن لي حاجتي..

مع عقلي كنت ممتلئا.. غنيا.. قويا.. صاحب جبروت.. هكذا أشعر.. كبرياء ذاتي تسحق العالم.. أنا والعالم.. أنا لست مع العالم.. أنا فوقه.. العالم سوف يمضي.. ولذته تنقضي.. وأنا أبقى.. تلك كانت أجمل أحلامي.. ذروة وجودي.. حتى جدّي وأهلي والآخرون.. لم يكونوا شيئا كما الآن.. عندما كان لي عقلي..

لكن عقلي لا يريد أن يكبر.. لا يتخلى عن سن الشباب.. ولا يعترف بقصص الأيام.. عندما بلغت العشرين.. صار يبتعد عني.. كلّ ما فعلته بعد العشرين نزعه مني.. صارت الخرافة تصغر.. الواقع يكبر.. كان عليّ فعل أشياء لا يقبلها عقلي.. الخروج من ذاتي.. وتلبس أدوار لا تنسجم مع ميثاق الشرف المعتمد بيننا.. لا ألومه.. لا أستيطع البقاء معه أو اللحاق به.. كنت أحتاج لقوة مضاهية للعالم.. تحررني منه لأهرب مع عقلي..

هكذا ذهبت إلى الحرب.. والحرب بلا عقل ولا منطق.. وحدي ذهبت إلى الحرب بلا عقل.. كل المحسوبين عليّ من عائلة وأهل تواروا.. بعضهم كان يزفني مثل عريس إلى الحرب.. نكاية بالعقل.. عندما انتهت الحرب كنت بلا عقل ولا أهل ولا حياة.. مجرد بوصلة عمياء في ساحة زمن بلا عقل..

عقلي لم يخدعني ولا فارقني.. أنا فارقته.. وخدعت نفسي بلعبة أخرى.. خرجت منه ودخلت في العالم.. ولكني فعلت ذلك في غيبة من عقلي ورشد من ذاتي.. لم أعرف أني أحتاج شجاعة كبيرة للبقاء مع عقلي.. وأحتاج شجاعة كبيرة للذهاب مع العالم.. كنت بلا شجاعة.. فخسرت الأثنين..

ذهبت عني نشوة الشباب ولذة المغامرة.. حياتي ضاعت بلا بطولة.. عشت كلّ سنيني تحت وصاية عقلي ولم يخطر لي أن أقترف شيئا.. حتى ولا قتل ذبابة.. أو تضييع ساعة من الزمن.. سمعت أن الياباني يغمض عينيه حين لا يكون شيء يستحق الرؤية.. فأغمضت وجودي على كثير من العالم.. عشت داخل دهليز عقلي مثل دهليز بلاتو.. وعندما خرجت منه.. كنت مثل سمكة بلا ماء..

قصتي إذن هي الشجاعة.. قصة الخوف.. الحذر أكثر من اللزوم جعلني جبانا.. أبرر الضرورة بالعجز عن المغامرة.. الخوف من المجازفة.. لم أعرف امرأة ولا حزبا ولا دخلت في تجارة أو دين.. ليس لي اليوم شيء ألتفت إليه.. ولا خيمة تظللني.. التقدم في السن.. لم يمنحني شجاعة.. بل سلبني القناعة بأي شيء..

ـــــــــــــــــــــــــ

    • البيت للشريف الرضي: محمد بن الحسين الموسوي [970- 1015م] وأصله: ولقد مررت على ديارهمو/ وطلولها بيد البلى نهبُ/ فوقفت حتى ضجّ من لغب/ نضوي، ولجّ بعذلي الركبُ/ وتلفتت عيني، فمذ خفيت/ عنها الطلول تلفت القلبُ!.

 

(84)

أنظر من نافذة الطابق الأول.. لحركة السيارات في الشارع.. أحلم يقظة.. بامرأة تقود سيارة تلوح لي.. من نافذة بيت.. لا يعرف أحد ربما بوجود نفس تتحرك فيه.. تنتظر امرأة لا تأتي.. فالخرافة تصنع حلما ولا تصنع امرأة.. أمرأة ياما احتقرتها ونظرتها شزرا.. تريدها أن تأتي الآن وتتبناك طفلا.. بكلّ ما في التبني والطفولة من معنى وألم..

ولم يطل الأمر كثيرا.. ودون أن أعرف كيف وأين.. وجدتها بجانبي.. نسير كلانا في شارع طويل من شوارع الماضي الجميل.. تزيدني طولا.. وطبعا أكثر مني جمالا.. ترتدي جبة أزهرية رصاصية تغطي أصابع قدميها.. تغطي رأسها بشال جميل ملوّن.. تزن الكلمات بالذهب.. كأننا كنا كذلك منذ الأزل..

حدث ذلك صباحا.. تلك الهنيهة بين وقت الصباح وقبيل الظهيرة.. قبل أن ينتهي الشارع الواسع في شارع مستعرض واسع مثله.. سألتني عن اليمين والشمال.. على الشمال كانت المدينة.. وعلى اليمين كانت الحديقة.. هي كانت الى يميني في الشارع.. وأنا أسير إلى يسارها.. هي أطول مني.. بيننا مسافة تكفي لمرور الهواء.. كلانا ينظر للأمام.. ولكن أيدينا حرة..

قبل ذلك سألتني أيضا عن رأيي في شيء.. قلت لها أي شخص تعنين في سؤالك.. عليك تحديد هوية الشخص.. الذي تودين أن يجيبك من خلالي.. فأنا كما تعلمين لست شخصا واحدا.. لم تردّ.. جاء سؤال مفترق الطريق.. واختلفنا نسبيا..

هي مشغولة ببنتها التي وضعتها في الحضانة.. تريد أن تضبط طريق الوصول إليها.. وكم يستغرق الطريق.. الباص الذي يصل هناك.. الحضانة تقع في السوق.. ولكننا ذهبنا في اتجاه الحديقة.. هناك يمكننا التحدث بحرية أكثر..

صرت أهتم بها أكثر.. أعني أفسح لها الطريق أمامي.. أتأخر حتى تمرّ هي.. نعبر من باب لباب.. ننزل ونصعد درجات وعتبات.. أبواب زجاج وحركة ناس.. في كلّ ذلك لم أعرف أنها عمياء.. صرت أهتم بها أكثر.. أحاول تنبيهها لعدد الدرجات.. أو انخفاض واحدة منها أو ارتفاعها قبل وقت مناسب..

كانت تفعل ذلك لوحدها.. وكان معونتي تصل متأخرة دائما.. تأخر معونتي يصيبني بالألم.. عندما تتعثر أشعر بالذنب.. وصلنا الحديقة.. لكننا نسينا عندها تماما لماذا نحن هنا.. الباص والحضانة كلّ ما يشغلها.. وهي كلّ ما يشغلني..

لم أنتبه إلى وجود ساقية على يمين الحديقة.. عندما اختارت الجلوس.. جلست على وتد معلق بين ضفتي الساقية.. ساقاها تتدليان للأسفل كما في ارجوحة.. عندما انتبهت لحركة الماء من تحت قدميها.. لم أعرف كيف أنبهها للحذر .. عندما عرفت ان الماء تحتها.. حاولت الوقوف.. دفعت قدميها للأسفل.. ونزلت في الماء..

بالكاد استطعت أن أصرخ.. تناولت ذراعها الشمال.. هكذا صارت تسير في الماء وأنا أنحني ممسكا بذراعها لأسحبها للخارج.. هنا ظهرت امرأة تتقدم نحونا في طريقها للسوق.. طلبت مساعدتها.. عندما تجاوزنا الموقف.. كان وقت الحضانة قد أزف..

عرفنا الباص الذي يصل الى الحضانة.. لكنه يدور خلال المدينة.. قبل أن يذهب إلى هناك.. ويستغرق ذلك مسيرة ساعة ونصف.. لا أذكر الآن رقم الباص.. ولكننا عرفنا نقطة نهاية الخط.. والباصات التي تنطلق من جديد.. في مشوارها من نهاية الخط حتى الجهة الثانية منه..

اكتشفنا أيضا.. وهذا بحذق مني.. أن مسافة نصف ساعة، يستغرقها الباص في حي سكني وسط المدينة.. إذا يمكن الالتحاق بالباص من وسط المدينة.. عندما انتهينا من كل تلك الجهود وتجميع المعلومات.. ترتبت طريقة بلوغ الحضانة واحضار الطفلة..

لم تقل أن معها سيارة صغيرة.. لكنها تعرف طريقا أفضل لبلوغ الحضانة.. ومن خلال وسط المدينة.. نسينا موضوع المقابلة.. لم نقل كلمة عن ذلك.. الوصول إلى الحضانة واحضار الطفلة كان شاغلنا الرئيس.. وكل موضوع حديثنا هذا اليوم..

كنا سعداء جدا لأننا اكتشفنا وسط المدينة (حراشوه/ جدارين).. وما علينا غير الذهاب بالسيارة الصغيرة، خلال شارع المحيط والاتجاه منه للحضانة.. صار هذا يشغلني الآن.. لكي تكون دلالتي صحيحة..

لندره مدينة كبيرة.. شوارعها كثيرة.. وخريطتها محيرة.. والحياة في مدينة كبيرة تحتاج مواهب خاصة.. لا أعتقد أنها تتوفر فيك.. هل تعرف لماذا؟.. لأنه لو كانت عندك موهبة واحدة.. لما وصلت إلى هنا.. ولا ضيّعت نفسك.. كلامي لا يعجبك.. ها.. ولكن ماذا تسمي وضعك هذا.. شحاذ.. متشرّد.. ليس لك مكان تبيت فيه.. ولا مكان تتناول فيه طعامك.. والنقود التي في جيبك.. لا تعرف متى تنفذ.. عندها لا تستطيع تعبئة الجوال الذي معك.. للاتصال بناس يؤمنون لك المبيت تحت سقف..

هل أنا الوحيد في هذه الحال.. ألوف الناس خرجوا قبلي.. وألوف يخرجون.. وكثيرون مرّوا بظروفي.. ولا بدّ من فرج!..

لا تظلمه ابروح ابوك.. تراهي ما بيهه..

يتمشى في شارع أجور رود جيئة وذهابا.. يمرّ من أمام البنك الاسلامي البريطاني.. بابه مقفولة على الدوام.. وليس فيه حتى مكان شباك.. قبل أن يصل سينما الأوديون مقابل الهايد بارك يعود ثانية.. يسير الهوينا.. عيناه مرهفتان لسماعة هاتفه الجوال في جيب قميصه الأعلى.. عيناه تجوسان في فضاء الشارع وزحمة الرصيف.. دون أن تقعا على شيء.. هواجسه وقلقه يطفران من محجري عينيه..

لماذا لندره.. لماذا لم تختر بلدا عربيا تعيش فيه.. على الأقل..

اسكت اسكت.. على الأقل.. على الأقل لو كانت رحمة.. كان بقيت بالبلد..

هناك من تجي تجي ومن تجفي تجفي..

لمن تجي.. الكل يصير وياك..

ولمن تجفي.. الكل يصير عليك..

لا ينفع بيها عرب ولا كرد.. كلها سوه..

واحنه خلاص.. الدنيا قلبت ضدنا.. وفلوسنا صارت خشب..

كل حاله ولهه حل.. عليش السمه وجهها للكاع..

ما تظل هيجي.. خللي عندك شوية ايمان..

هي ضاجت.. بس ما عافني.. وما راح يعوفني..

يمكن تطلع لي موهبة صدكَـ.. لو معجزة.. كلشي يصير

لا أني أول غريب ولا آخر يتيم..

اللي ما له أب. لابد إله رب.. آمنت بالله!..

*

- أيامنا مشدودة خلفنا.. نتبعها من دون أن ندري!..

- أنا لم آتِ بنفسي إلى هنا.. ولكن القدر..

- وافرض انها ما انحلت.. ما صار فرج..

- اموت هنا.. ميتة لندره أحسن من ميتة هناك..

- واذا ما متت..

- اذا ما متت هم أنتحر واخلص.. ما ورايا شي اخاف عليه..

- على الأقل ينقال.. مات ابلندره.. أكو نظافة واكو اسعاف..

- مو مثل اهنا.. تشيلهم البلدية يالبيك اب..

- والله ضحكتني..

- أضحكك بالموت..

- أيه..

- ويكتبون اسمك بالانجليزي..

وادي..!

 

(انتهت)

يوليو 2018م

 

صدر له:

  1. كركجور العراقي- رواية..
  2. سنكسارا- رواية..
  3. كاموك- رواية..

له:

  • في علم اجتماع الفرد- خمسون حديثا في اللغة واللامعقول والواقع..
  • في علم اجتماع الجماعة- خمسون حديثا عن الانسان والانتماء والابداع.