يبني القاص السوري قصة على فكرة حيوية وجوهرية إلا وهي عبثية التضحية بالنفس في حروب باتت غير وطنية أنما دفاعاً عن مصالح الحكام والقوى الدولية المتصارعة بأجساد أبناء الوطن الواحد من خلال فكرة فنطازية يبعثها شهيد يدرك كونه غبيا وهو في السماء.

رسالة من شهيد غبي

سفيان توفيق

 

الملاك الكبير ينادي على الحضور بأسمائهم الثلاثية : مالك.س.م . صوت يصيح من الجمع الواقف : حاضر . الملاك الكبير : نور داوود .و.و . الواقف أمامي : حاضر . أسعد خرشوف . صحت مباشرة : حاضر ، نعم ، أنا اسعد ، أنا أسعد خرشوف . التفت الجميع إلي ، لكني أهملتهم تحت انطلاق ابتساماتي وضحكاتي لا بل وقهقهاتي التي علت انطلاقا من الفرحة التي عشتها ، وانطلقت مباشرة لإستلام شهادة التقدير التي باشر الملاك الكبير بإعدادها لقائمة الشهداء الذين ارتقوا دفاعا عن الوطن تعبيرا عن جهودهم وتضحياتهم ، اضافة الى درع الشجاعة الذهبي . سرت بسرعة حتى وصلت إليه ، لكني حين أخذت شهادة التقدير الخاصة بي قرأت على أعلاها مكتوبا : شهيد غبي . ولم اعلم ذلك إلا حين انفجرت الضحكات والقهقهات من الجمع الواقف أمامي ثمّ من خلفي إلى أن وقفوا فوق رأسي لحظة أيقظوني من الغيبوبة التي نشدتها لإنقاذي .

حين تمت جنازتي ، حمّلت على الأكتاف ولأول مرة ، لأول مرة كنت قد حمّلت على الأكتاف وسط مسيرة حاشدة بالآلاف من الناس التي قدمت من مختلف المناطق لتشاهد هذا البطل المغوار الذي دفع روحه في سبيل قضايا أبدية إعتاد الإنسان منذ الأزل أن يتنازل عن روحه في سبيلها ، وعندما حان موعد تجربتي الأولى لم أتوانَ عن خوض التجربة وتقدمة روحي على طبق من ذهب لكل ما يستحق ان تقدم الروح لأجله تحت أنغام أغنية : لالي لالي لالي ، يا علمنا لالي بالعالي .

أمي ، أبي ، أخي ، أختي ، ممممم ، وطني ، ديني ، عقيدتي مذهبي عرقي حارتي شارعي ،، تحية لكم مني هاهنا ، في الأعلى ، من المكان الذي صعدت اليه بعد قيامي بعملي المشرّف والذي ذهبت لأجله شهيدا في سبيل كل ما ذكرت ، تحية لكم من هنا ، وتحية لكل ما ذكرت سابقا ، وهنيئا لكم بعملي ، وهنيئا لكم بمكانتي ،هنيئا هنيئا هنيئا .

حدثت هذه التجربة حين كنت في الكتيبة التي كنت فيها ، اعتراني نعاس شديد بعد مهمة قمت بها لإثني عشرة ساعة تحت سطوة الليل المخيف في منطقة"أم العواصف" ، الاسم الذي اكتسبته هذه المنطقة الحدودية لارتفاعها وعصف الرياح بها ، والبرد القارص جدا أيضا الذي لسع دمائي وجمّدها ليلتها ، فلم أملك إلا أن استعمل قدّاحتي وسيجارتي التي كانت أكثر من ملجأ لي ، كانت الأم و الأب والوطن ، نعم كانت هي الوطن ، علمتني الكثير ، لكنني كنت أخونها أكثر ، بمقدار ما كانت تعلمني بمقدار ما كنت أخونها فأحرقها لتضحي بنفسها من أجلي . المهم أنها آنذاك ساعدتني بتدفئة جسمي مع كل نفثة منها ، فضلا عن الولاّعة التي لم تتوانى هي أيضا عن مساعدتي لمقاومة هذا الهجوم الغاشم من البرد القارص . أمضيت اثني عشرة ساعة ، من الساعة الثالثة عصرا وحتى الساعة الثالثة فجرا ، بعدها جاء صديقي الذي سيأخذ مكاني أيضا لفترة اثنا عشرة ساعة سيقضيها أيضا برفقة سيجارته التي أعطيته إياها ، فحال وصوله سألني : هل معك سجائر ؟ ، فكان ردي بسؤال : لماذا لم تشتري ؟ فكانت إجابته : للأسف ، لم يعد لدي أي شيء من الراتب الذي تقاضيته . فرددت عليه بأن قمت بإعطائه علبة سجائري ، لكني أبقيت واحدة معي وضعتها خلف أذني حتى أتناولها قبل أن ارقد إلى النوم مع فنجان قهوة هو ونيس جديد لي .

عدت بالسيارة مع رفاقي الذين أنهو أيضا وظيفتهم وهم الآن عائدون إلى النوم ، ولكننا حالما وصلنا وقمنا بتهيئة الفراش إلى النوم ، صاحت صفارات الإنذار أن هنالك واجبا مستعجلا علينا القيام به ، فإحدى الخلايا الإرهابية تمت معرفة مكانها ويجب مهاجمتها قبل فوات الأوان ، حملت عتادي من أسلحة وغيرها ، ووضعت سيجارتي فوق أذني مرة ثانية وهرعت إلى السيارة التي نقلتني و أصدقائي إلى مكان الخلية الإرهابية المقصودة ، وهنالك ارتقيت كما أسموني، ارتقيت "شهيدا".

صعدت إلى الأعلى مباشرة ، وتحت تصفيق الجميع ، جلت.. ذهبت وجئت وتناولت طعامي واسترحت وخلدت إلى النوم ، لكن التقرير الذي استلمته والذي قال لي : أنت شهيد ، نعم شهيد ، ولكنك شهيد غبي . لا أعلم اهو العنوان كان أم كان نص الرسالة هكذا . هذا العنوان دمر كل ما بنيته، أو بالأحرى كل ما قالو لي أنهم بنوه .

سارعت عند استيقاظي بالسؤال والاستفسار عما حصل ، أنا من قدم روحه فداء لكل ما ذكرت في البداية - لن أعيد ذكرهن ففي ذلك مشقة - المهم أنا من قدّم روحه و أسرع بحماية وطنه وقدّم أغلى ما يملك باسلا شجاعا مقداما ، وأنا من يستحق الاحترام والإجلال والتعظيم بدل ما قدمت ، أنا و أنا وأنا وأنا ... أتتم إهانتي بهذه الطريقة ، أأنا الغبي ؟ غبي ، بالفعل قد تم نعتي بذلك .

آآآه آآه ، آه يا رب ، ماذا حصل ، الم تقل فرحين بما آتاهم من فضله ، أين الفرح و لصاقة الغباء قد ألصقت على جبيني ، أين شرف ما قدمت وما أخرت ، أين المجد والعزة والجبروت الذي جبلته في الأسفل حين انطلقت مغوارا في ساحات الوغى . أنت تعلم يا رب ، أنت تعلم أنني كنت في الأرض اغفر لمن حولي كل شيء ، اغفر لهم ما استطعت إلى ذلك سبيلا، إلاّ أن يكونوا أغبياء ،، آآه آه ، لكني الآن قد القي على وجهي وسأسقط حزنا ، سأعود إلى ارضي ، فلم اعد أطيق البقاء .

ذلك حدث ، حينما عدنا إلى مكان نومنا و إنهائنا لوظائفنا ، حيث صدر قرار زائف يوحي بتعليمات زائفة بوجود عصابة إرهابية زائفة تنوي القيام بعمليات زائفة لترويع مواطنين زائفين داخل وطن زائف لحماية قائد زائف . وبالفعل قد صدر هذا القرار بناء على توصيات خارجية من دول عظمى غربية أصدرت تعليمات وخططا ومشاريع ينوي عملها في منطقتنا ، ولإبعاد الانتباه عنهم و إشغال المواطنين بأشياء أخرى زائفة تحت ذرائع زائفة ، وفي النهاية كنا نحن فقط الحقائق ، عندما أصبحنا ضحايا حقيقية.

جاءت هذه التوصيات لإمرار مشروع غربي كبير في منطقة الشرق الأوسط كاملة ، و جاءت التوصيات إلى كل الدول هناك ، توصيات وتعليمات مختلفة ، لخلق حالة ذعر بين المواطنين يتبعها حالة خوف على الدين والوطن والعرق واللغة وغيرها من المقدسات ، لتحل الدول الغربية محل الداعي للسلام واحترام حقوق الإنسان وغيرها من الترهات ، إضافة إلى تمرير مشاريع كبرى لن تمر إلا في حالة إشغال العوام بأحداث مأساوية يذهب في سبيلها أشخاص مأساويون ، ومرة أخرى : في النهاية كنت أنا الضحية .

لن أطيل عليكم ما أكتب ، وسأختصر أفكاري واحذف كثيرا منها ، ولكن في خاطري يجول طيف حرب لو عدت إليكم لن أتوانى عن إخراجه ، هذا الطيف سيصيح بالجميع أن ثوروا واقتلوا ودمروا والعبوا والعنوا وكلوا واشربوا ، ومارسوا الجنس ، نعم مارسوا الجنس ، وحذار ثم حذار ، حذار في ان تتقدم وتصبح غبيا مثلي مهما كانت القضية التي تحملها ،مهما كانت المشاعر التي تتكبدها ، مهما كانت الظروف التي تمر بها ، حذار من أن تخدع مثلي وتقدم روحك هدية مجانية بصورة سريعة ، بل عش وقاتل وكافح ، فالزهرة الباقية بساقها شامخة حتى وان كانت على رؤوس البراكين ، ستبقى زهرة حية ، مهما كان لونها ومهما كان شكلها وان كانت لا تسر الناظرين ، ، أفضل من مائة زهرة نرجس ميتة ، حذار من أن يتم قطافك ، حذار من أن تكون ضعيفا غبيا ، بل عش وسر ، قاتل وحارب ،وكن الفائز دائما ، حتى هنا ليس لك مكان إن كنت ضعيفا ، ستسحق تحت تأثير الغباء وستشاركني غيبويتي التي نشدتها ، وتذكر أن لكل حرب ضحايا ، فليغدو ما تقاتل من اجله هو الضحية وليس أنت ، فليذهب ما يذهب ، فلطالما فيّ فم يشرب وعين ترى و أذن تسمع ، وعضو يقاتل بضراوة على حسناء جميلة ، عندها تجاوز الدقائق والساعات وعش لحظات الخلود و أنت حي ، عشها لأجل الوجود ، أوجدها لأجل الخلود .

عدت بصورة سريعة إلى الملاك الكبير ، نظرت إليه باحترام ، ثم ناولته الجائزة التقديرية التي حزتها عطفا وشفقة فقط ، مكتوب على رأسها : شهادة تقدير لي ، للطالب . طالب ماذا ؟ هاه ؟ طالب ماذا ؟ . تنفست الصعداء أمامه ثم مددت الشهادة اليه لأقول له : خذها واعدني إلى الأسفل ، خذها وسأعود لأقتل ما مت لأجله ، سأعيش أنا ، أنا وفقط ، وليذهب كل ما يذهب إلى الجحيم ، خذها وسأعود ، سأعود والعود أحمر .

 

Sofianbaniamer56@gmail.com