يعتبر الفيلسوف الألماني الكبير شلايرماخر من رواد نظرية التأويل في العصر الحديث، فهو الذي بذر البذرة الأولى لفكرة "الهِرْمِنيوطيقيا" في نهاية القرن الثامن عشر. في نصه يقارب الباحث أفكار الفيلسوف من خلال دفاعه عن التجربة الدينية، ورؤيته لجوهر الدين، والبعد الاجتماعي للدين، وتعددية الدين وفهمه.

فلسفة الدين عند اللاهوتي فريدريك شلايرماخر

محسن اعـريوة

 

"نستطيع أن نقول: إن الحياة الدينية من الوجهة العامة يمكن أن تنقسم إلى ثلاثة أطوار: يمكن وصفها بطور "الإيمان" وطور "الفكر" وطور "الاستكشاف"، والحياة الدينية تبدو في الطور الأول صورة من نظام يجب على الفرد أو الأمة بتمامها أن تخضع لأمره خضوعاً مطلقاً، ومن غير تحكيم العقل في تفهّم مراميه البعيدة، أو غايته القصوى" (تجديد التفكير الديني في الإسلام، محمد إقبال، ص: 214)

مقدمة:
يعتبر الفيلسوف الألماني الكبير فريدريك شلايرماخر (1768-1834) من رواد نظرية التأويل في العصر الحديث، فهو الذي بذر البذرة الأولى لفكرة "الهِرْمِنيوطيقيا" في نهاية القرن الثامن عشر من خلال كتابه الماتع "عن الدين: خطابات لمحتقريه من المثقفين"(1) الذي هو بصدد الدراسة والتحليل، وتطور المفهوم مع وليام دلتاي ومارتن هايدغر، ثم نضج مع هانز جورج غادامير تلميذ هايدغر، ولم يصل إلى العربية إلا بعد عشرات السنين؛ مع الشيخ أمين الخولي في مصر، وفي إيران مع الشيخ محمد مجتهد شبستري(2).

فشلايرماخر مصلح لاهوتي بروتستانتي عاش في عصر تم انتقاد الدين فيه نقدا لاذعاً، وأصبح لتفسير الكتاب المقدّس تفسيرا عقليا محضا، وهذا ما عبّر عنه إيمانويل كانط في تمهيده للطبعة الأولى لنقد العقل الخالص: "إنّ قرنَنا الحالي هو بالخصوص قرن النقد الذي ينبغي أن يخضع له كل شيء. عبثا يحاول الدين بقدسيته، والشريعة بجلالها، التملص منه؛ إنهما بمحاولتهما تلك إنما يقومان بإثارة مزيد من الشكوك المشروعة ضدهما، ويحرمهما من التطلع إلى نيل التقدير الصادق من قِبَل العقل الذي لا يمنحه إلا لمن استطاع أن يصمد أمام امتحانه الحر والعلني"(3). وفي هذا السياق انبرى شلايرماخر في كتابه "عن الدين" لإعادة صياغة فهم جديد للدين؛ فهمٌ مُتعال عن المساجلات العقلية والمنطقية، فهم يكتسي صبغة الإيمان والتّسليم والتّصديق للحقائق الدينية التي نسفها العلم الحديث بعقلانيته المفرطة. يقول: "مهمتنا هنا هي ترسيخ معنى الدين وتلخيصه مما التصق به"(4).

وهو كما في العنوان –أي الكتاب- "خطاباتٌ لمحتقريه من المثقّفين" موجّه إلى تلك النخبة المثقفة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر التي احتقرت الدين ورأت فيه عاملا للتّخلف يكرّس العبودية، بينما قدّست العقل وبجّلت الاستدلالات المنطقية وجعلتها ملاذا للانعتاق والفهم الحرّ.. فهذا الكتاب مدخلٌ للفكر الديني الغربي، وفيه -إن شاء الله- سنكشف عن نقاط التلاقي بينه وبين الفكر الديني في الإسلام.

"عن الدين: خطاباتٌ لمحتقريه من المثقّفين" إنه كتاب للروح، يكتنه أسرارها ويسبر أغوارها، وتجربة باطنة وقوة كامنة تُشعر القارئ بالوجود كما أشعرت الكاتب. "إن الجوهر الذي يقوم عليه فهمكم لهوية الدين ومركزيته يجب ألا ينتمي لا للفكر ولا للمعالجة الفلسفية، وإنما يقترب من قيم الحدس والشعور. الحدس بوصفه علاقة فطرية ترتبط بالكون، وما له من مظاهر لا يمكن عقلنتها"(5) وإذا كانت التجربة الدينية في عمقها عند شلايرماخر هي جوهر الدين فإنّ الدين عند محمد إقبال –الذي أعاد بناء اللاهوت الإسلامي- هو في جوهره تجربة، لأنّ الدين سعي صادق صحيح يستهدف توضيح الشعور الإنساني. خمسة خطابات شكّلت رؤية وجدانية إشراقية للدّين، فصّلها الكاتب في:

الخطاب الأول: دفاعاً عن التجربة الدينية.

الخطاب الثاني: عن جوهر الدين.

الخطاب الثالث: عن التثقيف للدين.

الخطاب الرابع: البعد الاجتماعي للدين.

الخطاب الخامس: حول الأديان.

* * *

1- التجربة الدينية: من الإيمان إلى الاستكشاف.
إنّ الحديث عن الدين لا يقف فقط عند ما تقوله النصوص الدينية، بل يتجاوز ذلك إلى اعتبار الدين يشتمل على مجموعة من التجارب الإنسانية التي تفاعلت مع الذّات الإلهية وتماهت معها، وهنا يمكننا الحديث عن التجارب التي عاشها الأنبياء والأولياء والعارفون... في غمرة الدين، بحيث تعتبر تجارب عميقة مثّلت حقيقة الأديان في الإنسان. والحق أن القرآن يعد الأنفس والآفاق مصدرا من مصادر المعرفة الدينية(6)، فالذات الإلهية ترينا آياتها في أنفسنا وفي العالم الخارجي على السواء. ولهذا وجب على الإنسان أن يحكم على كفاية كل ناحية من نواحي التجربة في إفادة العلم(7) الدين في جوهره حال من أحوال الحياة الواقعية، فهو الطريقة الجدية الوحيدة للبحث عن الحقيقة(8)، وشلايرماخر ليس بمعزل عن هؤلاء العارفين الذين تذوّقوا الأسرار المقدسة وباحوا لنا بها بلغة شاعرية ونافحوا عنها بكل استماتة. لهذا اعتبر الدين مشاعر فردية.

لعلّ الخطاب هنا كان موجها بصفة مباشرة إلى أولائك المتهكمين الذين سخروا من الدين والمعارف الدينية، فنجد الكاتب يخاطبهم بـ"أيها المثقفون.. إنكم تعتقدون.. أتوجه لكم بالسؤال.." وكأنّه يحاور ويخاطب شرذمة من الناس أمامه، ما يشي بحرارة النّقاش آنذاك. ويواجههم قائلا: "لقد فاتكم أن محاولة زحزحة الإحساسات والتجارب الدينية عما تحتله من مواقع فكرية واجتماعية في حقل الوجود الإنساني أمرٌ غير مسوَّغ، ومحض ازدراء رخيص. ولعلي لا أجد ضيراً في أن أعترف أمامكم بأني أنا أيضا من حاملي ثقافة هذا العصر المنشَدّين لمنطقه المثالي القابع وراء ما أنتجه من نصوص، وقد أجرؤ هنا على المخاطرة بوضع منظومة كبيرة من الأجهزة المفاهيمية والتعاليم العقلية تحت مسمّى من المسميات، إذا أصبحتم خارج الجمهور الكوني للدين، واستمعتم لما أقدمه من طابع خلّاق للدين بما لا يتفادى سوء الفهم"(9). فالمسألة مع هؤلاء إذن هيَ مسألة دينية بالأساس، غايتها إقبار الجانب الديني في الإنسان، رغم اختلاف مسميات هذه العملية الإجرائية. وعليه فالكاتب يفنّد تلك الدعاوى التي تكرّس ابتذال الدين، وتدهوره وأفوله، بحيث أنّه لا يوجد عصر من العصور كان فيه الدين أفضل مما هو عليه، فخصوم الدّين وأتباعه أمرٌ ضروري في كل مرحلة من مراحل الإنسان وفي كل دين من الأديان.

وفي هذا الإطار نجد شلايرماخر يعتبر أن المثقّف الحقّ المتزن "هو الذي يكشف بعينية المتّقدة المنفردة لحظة انبلاج المعنى في لب الدين، فيدرك ذاته والذات الواقعة على النقيض منها"(10)، وهنا تكمن وظيفة المثقف -عند هذا الفيلسوف الكبير- بحيث أن معرفته لا تنحصر فيما عنده وما يملكه، بل تتجاوز ذلك وتمتدّ إلى فهم واستيعاب العالم الأخروي النقيض وميتافيزيقيته. وفي نفس الآن نجده ينفي وجود مثل هذا الإنسان كثيرا، في حين يحيل إلى الأنبياء والوسطاء باعتبارهم دعائم الإفهام، وظيفتهم الربط بين الحقائق العقلية وسواها الأنطولوجية، حيث تتجلّى مشاهدة ومكاشفة العالم غير المرئي وما وراء الطبيعة.

2- فلسفة الدين: من الإيمان إلى العقل.
التفكير الفلسفي في الدين وعقلنة المعتقد الديني بدءا منذ القرن الثامن عشر في أوروبا وذلك للإجابة عن الأسئلة المتعلقة بالإله والمقدس والتضحية والحب والشر.. التي شغلت الفكر الديني، وكل هذا للتبرير العقلي للدين. ويمكن اعتباره اليوم علم كلام جديد يمارس التأمل الفلسفي في الدين. والذي يقرأ هذا الكتاب "عن الدين" قراءة سطحية سيتبدى له أنه كُتب بلغة وعظية خطابية تُخاطب الوجدان، لكن من تعمّق فيه سيجده لا محالة يخاطب روحه وعقله، وإن أكّد شلايرماخر أن الدين ابتداءً ليس بحاجة للاستدلالات المنطقية، ولكنه في نفس الوقت لا يدعو إلى إقصاء المضامين العقلية، ويقول: "ما أجمل أن تتعرفوا على الدين من دون الحاجة لاستفتاء العقل ومدونة الفلسفة، أن تتلمّسوا مدى ارتباطه بالأفق الإنساني"(11).

ولعلني هنا أتساءل حقيقةً سؤالاً استنكاريا، لا استفاهميا كما فعل إقبال: هل من الممكن أن نستخدم في مباحث الدين المنهج العقلي البحت للفلسفة؟ في حين نعدّ "روح الفلسفة هي روح البحث الحر، تضع كل سند موضع شك...أما جوهر الدين فهو الإيمان. والإيمان؛ كالطائر يعرف طريقه الخالي من المعالم غير مسترشد بالعقل"(12) لكي أتساءل ثانية عن وظيفة العقل داخل منظومة المعرفة الإيمانية؟ وهل الإيمان في حاجة إلى التّفكير في الوجود؟

يأتي محمد إقبال فيجيب: "النظر العقلي في الإيمان ليس معناه التسليم بتعالي الفلسفة على الدين. فللفلسفة من غير شك حق الحكم على الديّن، ولكن طبيعة ما يراد الحكم عليه لن تذعن لحكم الفلسفة، إلا إذا كان هذا الحكم قائما على أساس ما يضعه من شرائط. وعندما تتهيّأ الفلسفة للحكم على الدين لا تستطيع أن تفرد له مرتبة دنيا بين الموضوعات التي تتناولها. فالدين ليس أمرا جزئيا، ليس فكرا مجردا فحسب، ولا شعورا مجردا، ولهذا يجب على الفلسفة، عند تقديرها للدّين، أن تعترف بوضعه الأساسي، ولا مناص لها عن التسليم بأن له شأناً جوهريا في التأليف بين ذلك تلقائيا يقوم على التّفكير"(13).

وفي هذا السياق يستسمح شلايرمايخر السؤال من مخاطبيه كي يخبروه عن ميتافيزيقيتهم وفلسفتهم العقلية حيال الغيب، حيث اعتبر الميتافيزيقيا تُقسم الكون وترتّبه بشكل أو بآخر، وتبحث في مبادئ وأسباب الوجود؛ تحاول تفسيره لاستنتاج ضرورة مثول الحقيقة، وما يتمخّض عنها كواقع الحياة. ليخلص في الأخير أن مثل هذه المنعرجات لا ينبغي للدين أن يخوض غمارها، ويجب عليه ألا يظهر ميلا لتحديد وضع الكائنات بمواجهة الطبيعة، لئلا يتخبّط في تعقيد شروحات لأسباب وعلل تبدو لا نهائية. في حين نجد إقبال يرى أن الدين بوصفه نوعا من رياضة عالية رفيعة يصحح أفكارنا في فلسفة الإلهيات، أو يجعلنا على الأقل نشك في الحركة العقلية البحتة التي تكوّن هذه الأفكار(14).

للدين عند شلايرماخر تعاريف عديدة تنم عن شموليته ومدى أهميته في حياة الإنسان، وهنا تتحق المقولة الشائعة باعتبار كثرة المسميات والتعريفات تدل على عظم المسمى. فالدين هو الرحم الأمومي الذي احتضنت ظلمته المقدّسة سنوات شباب الكاتب وتمضخت منه تجربته، وهو عنده؛ "رهبة قداسة، حقل لا نهائي للعقل ينشأ بالضرورة من داخل كل روح طاهرة"(15) وهو أيضا "نقطة مركزية لدوران وجودنا، إنه نقطة التلاحم والتماهي بين الفاني والأبدي، وجلّ مكوّناته تعبّر عن عمق ارتباط الإنسان بوجود لا تنفصل أجزاؤه عن بعضها، وإن اختلفت الألوان"(16) وهنا نستشف العلاقة الوطيدة بين الدين والإنسان حيث اعتبَر أنّ الدين هو الإنسان في أبهى صوره، لأن الغاية من الدين وهدفه الأسمى صنع الإنسان السّوي، ولهذا فـ"إنّ امتداد الإنسانية وتطوّرها مرهون بالتّطوّر الحر للدين داخل الوعي الفردي، الفرد هو الدين، ولا شرعية للساسي أو الفلسفي أن يرسم حدوده للفرد، أو أن يتكلم له، أو أن يفكّر له، الفرد هو البعد الديني السحيق الذي لا قدم لآخر عليه، إنه لا نهائية الدين، ولذا فإن تجاهل الدين هو في نظري تجاهل لفردية الإنسان وقدرته على التّجلي بالحياة والاصتمرار بذاته"(17). والدين عموما عند شلايرماخر ليس مجرد فكرة خسرت رهانها في الحاضر ولم يتبق لها غير الاستحواذ على الماضي القديم (التراث) بدعوى أنه منزلها الحقيقي، وإنما هي فكرة قادرة على الانعطاف بنفسها نحو الجديد لأنها لا تخافه ولا ترتابه.. فالدين أفضل طرق الاتصال بالحياة.

3- تعددية الدين وتعددية الفهم.
يَعُدُّ شلايرماخر الدين كلّا متكاملا تضيع داخل نسيجه الخطوط الفاصلة، وتختفي جميع المحددات والعقائد.. ويتساءل: "أليس من الضروري على المرء أن يبقى على علم بأن الدين رباط واسع ومرن لا شكل نهائياً له؟ أليس من المغني أن يتلمّس كل منا طباع وأنماط التديّن في جهات أخرى لم يعهدها؟"(18) وعليه، ففي نظرته الراهنة لمسيرة الوعي الديني قد نفى ذاك الارتباط الوثيق الذي تم إلصاق الدين فيه بالكنيسة فقط، رغم التقاء مواقف الكنائس والأديان في أكثر من مكان. وحسب رأيه فـ"تعدّد الكنائس لا يعبرّ بالضرورة عن تجذّر الدين وعمقه في الوجدان العام بقدر تعبيره عن تعدد الطوائف والمعتقدات"(19) فللدين عند شلايرماخر كونية أرحب مما تدّعي الكنيسة.

(أستاذ وباحث بماستر الحوار الديني والحضاري وقضايا الاجتهاد والتجديد في الثقافة الإسلامية، جامعة السلطان مولاي سليمان، بني ملال)

* * *

الهوامش

(1) الكتاب تم إصداره سنة 1799، وترجمه عن الألمانية أسامة الشحماني، سنة 2017.

(2) انظر: رائد الدرس الهرمنيوطيقي بالعربية الشيخ أمين الخولي، عبد الجبار الرفاعي، موسوعة فلسفة الدين4: الهرمنيوطيقا والتفسير الديني للعالم، دار التنوير، ط2، ص:22.

(3) نقد العقل الخالص، كانط، تمهيد، ص6، من ترجمة:

- Critiquede la raison pure, E. kant, trad; A. Tremessaygues et B. Pacaud, 6e, Ed; paris, Puf, 1968, p6.

(4) عن الدين: خطابات لمحتقريه من المثقفين، شلايرماخر، ص66.

(5) نفسه، ص68.

(6) (سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِم) سورة فصلت53.

(7) تجديد التفكير الديني في الإسلام، محمد إقبال، ص150.

(8) نفسه، ص217.

(9) عن الدين: خطابات لمحتقريه من المثقفين، ص28.

(10) نفسه ص33.

(11) نفسه، ص191.

(12) تجديد التفكير الديني في الإسلام، محمد إقبال، ترجمة: عباس محمود، (دار الهداية، ط2، 2000، ص7).

(13) نفسه، ص9.

(14) انظر: تجديد التفكير الديني في الإسلام، محمد إقبال، ص217.

(15) ص53.

(16) ص197.

(17) ص199.

(18) ص183.

(19) ص 182.