يتناول الكاتب سيرة الشاعر التونسي، فيسلط الضوء على بداياته الشعرية، والمناخ الاجتماعي والثقافي الذي عاش في، والعوامل التي أثرت فيه وميزت شعريته خاصة القصصية الخيالية. والكيفية التي أصبح فيها جزءا من وجدان الشعب ومعبراً عن إرادته.

أبو القاسم الشابي .. نظرةٌ إلى الوجد

أحمد محمد السح

 

يحفظ العالمُ العربي بيتين له، ويتكرر هذان البيتان على ألسن الناس بكرةً وأصيلاً، وصارا جزءاً من النشيد الوطني التونسي.

إذا الشعبُ يوماً أراد الحياة * * * فلابدّ أن يستجيب القدر

ولابدّ لليل أن ينجلي * * * ولابدّ للقيد أن ينكسر

ويرتبط اسم أبي القاسم الشابي بهذين البيتين المرتبطين بالوطنية والدعوة إلى الحرية، هذا الشاب الذي ولدَ في بيتٍ تفرض الحياة الإسلاميةُّ نفسها فيه، فوالده محمد بن بلقاسم الشابي، من خريجي الأزهر، وعملَ قاضياً شرعياً في قضاء الكثير من البلدات التونسية، وهنا لنا أن نستخلص صفتين الأولى هي الفصاحة في اللسان والتربية العلمية الحريصة التي تأتي من بيتِ علمٍ ربه من خريجي الأزهر، والصفة الثانية هي التقييد والحظر على قول الشعر، والشروط الإسلامية الدقيقة والتحذيرات من غوايته، أي الشعر، عملاً بالنص القرآني «والشعراء يتبعهم الغاوون»، وبالتأكيد فإن والد أبي القاسم الشيخ محمد والقاضي الشرعي لم يكن ليسمح للشعر أن يذهب بابنه بعيداً في الغواية وخاصةً إذا ما عرفنا أنه ولدَ في زمنٍ رديءٍ عربياً، وهو يخرج من زمنٍ أردأ شعرياً، حيث كانت الصراعات بين الإصلاحيين على الطريقة الغربية –المرفوضة من أبيه– والإصلاحيين المطالبين بالعودة إلى التراث والتمسك به، حدّ التقوقع وراءه. في ذلك الزمن وسنة 1909 تحديداً يولد «بلقاسم» الشابي الذي حمّله أبوه اسم جده ثم وقّع هو بالاسم الفصيح «أبو القاسم» لا بلقاسم كما تكون اللهجة التونسية الدارجة، التي تمايزها وتعايش معها لهجةً لهجة، من البحر إلى الصحراء، نظراً لتنقل والده في عمله فكانت الأسرة مرتحلةً بين مدينةٍ وريف، تمتلئ عينا الطفل بجمال الطبيعة فيقترب منها ويتعايش معها، واللغة العربية تسكنه بمفرداتها ليسجّل لهُ أول قصيدة في عام 1923، المسماة «أيها الحب» التي تستطيع أن تجد في أبياتها القليلة التنازع الذي يدخل نفس المراهق الذي يخاطره الحب، فيتوه بين حرامه وحلاله، وهو الذي تلحقه عينا الأب الشيخ المعمّم:

أيها الحبُّ، أنتَ سرُّ بلائي * * * وهمومي، وروعتي وعنائي

فبحقِّ الجمال، يا أيها الحــ * * * ـب حنانيكَ بي! وهوِّن بلائي

تستطيع هنا أن تميّز أن الشاعر كان مراهقاً وعمره نحو أربعة عشر عاماً ومن ثم فإن لغته وأفكاره مازالت تفورُ وتتكرر، كما فورات دماء هذا الشاب الرقيق.

يثبت أحد أصدقاء الشاعر في كتابه سمةً اتصف بها الشابي فتبرز أنه شاعرٌ أصيل، فيقول صديقه فيما معناه إن أبا القاسم إذا استيقظ وكانت القصيدة على طرف لسانه، كتبها وإذا ما طاش عنه شطرٌ أو مفردةٌ ما، أثبتها بتراء كما نزلت عليه ويظلُّ يقرؤها بتراء على الأصدقاء يشرح لهم كيف نسي الشطر حتى إذا عادت له ذاكرته ليتمّ الشطر وإلا تركها كما هي، وهذا تعليلٌ لما نجده مثبتاً في ديوانه المطبوع بعد رحيله فيبدو أن الموت قد فاجأه فترك أبياتاً غير مكملة لقصائد بتراء منها قصيدة «الغاب» التي مطلعها:

بيتٌ، بنتهُ لنا الحياةُ من الشذى * * * والظلُّ والأضواء والأنغام

فيترك بيتين كتب فيهما الصدر ولم يثبت العجز في كليهما، ضمن هذه القصيدة الطويلة هما: «ومشاعري في يقظةٍ مسحورةٍ…» والآخر: «ومع الينابيع الطليقة والصدى…»، ومن الممكن أن نستنتج أن أبا القاسم لم يكن من الشعراء الذين يحشون الكلام حشواً، وإنما تكررت ألفاظه وأحياناً موضوعاته مثله مثل الشعراء الوجوديين الذين اهتموا بالطبيعة، ورأوا فيها ملاذاً من التوهان الذي يعتمر نفوسهم في وجه احتدام صراع الأفكار في البيئات التي كتبوا وعاشوا فيها، ولقد تميز شعر أبي القاسم بوجود الكثير من القصائد القصصية الخيالية، التي كان يبني فيها النص بناءً على فكرة خيالية لحكاية يتخيل شخوصها أو يستمدها من الحياة ويضفي عليها صفاتٍ خيالية ليقدّم فكرة أو وجهة نظرٍ يؤمن فيها ويعتبرها ملهمةً لقارئ أو سامع النص، ولديه الكثير من النصوص في ديوانه بهذا الاتجاه منها: «فلسفة الثعبان المقدّس، إلى عذارى أفروديت، أبناء الشيطان، الزنبقة الذاوية» وغيرها أيضاً ومن قصيدته «إلى عازفٍ أعمى» نختار:

أدركت فجر الحياة أعمى * * * وكنت لا تعرف الظلامْ

فأطبقت حولك الدياجي * * * وغام من فوقك الغمام

تشقُّ تيه الوجود فرداً * * * قد عضك الفقر والسقام

هذا الشاعر الرقيق أصيب بتضخم القلب وهو في الثانية والعشرين من عمره، وكان قد تزوج زواجاً تقليدياً وعاش يعيل أهله وزوجته بعد وفاة والده المبكرة، وابتعد عن المناصب الحكومية واكتفى بالعمل الفكري، وكان قد أوكل الشاعر أحمد زكي أبو شادي باستصدار ديوانه الأول «الينبوع»، وقبلها أصدر كتابه «الخيال الشعري عن العرب»، ومن ثم أصدر ديوانه «أبناء الحياة» وهو على فراش المرض، في السنة نفسها التي توفي فيها عام 1934، وهو لم يكمل الخامسة والعشرين بعد، ليكون رجلاً امتاز بصخب العطاء، وتستحق مسيرته الكثير من الاهتمام من كل شاعر أو مهتم بالشعر.