يرى الباحث أن الفن القبطي هو فن شعبي، ديني ومدني، يميل إلى رمزية تعبر عن فكر وعقيدة وإحساس الفنان. كما يتناول كيفية ودلالات رمز السمكة في هذا الفن وحمولته من القيم الروحية والدينية والثقافية والاجتماعية والبيئية.

الرموز في الفن القبطي .. السمكة

إسحق إبراهيم عجبان

 

مفتاح فهم الأيقونات والفنون المسيحية والقبطية، هو فهم الرمزية والرموز المستخدمة في الفن المسيحي والقبطي، وإذا ادركنا معاني ودلالات هذه الرموز، يصبح من اليسير فهم وإدراك قيمة ومعاني وعمق هذه الفنون ومنتجاتها الفنية الرائعة. والفن القبطي هو فن شعبي، ديني ومدني، يميل إلى الرمزية، والرمزية هي تعبير بلغة الشكل أو الرمز عن فكر وعقيدة وإحساس الفنان، والرمز هو وحدة فنية محملة بالقيم الروحية والدينية والثقافية والاجتماعية والبيئية، والتي يعبر من خلالها الفنان عن طابعه الفني والفكري والروحي. والرموز الفنية القبطية: تشمل رموزًا هندسية ونباتية وحيوانية وطبيعية وكونية إلى جانب رمزية الأعداد والألوان والحروف والمونوجرامات وغيرها.

وتعتبر السمكة من أهم وأكثر الرموز المسيحية انتشارًا في الشرق والغرب على السواء منذ عصر الكنيسة الأولى، وقد اُتّخِذَت السمكة كرمزٍ للمسيحية منذ القرن الأول الميلادي، فقد عثر على رسومات للسمكة في كهوف ومقابر المسيحيين المتواجدة تحت الأرض، كما زينت السمكة جدران الكنائس المنقوشة بالفسيفساء منذ القرن الرابع الميلادي. ومن المعروف إن صيد السمك كان الحرفة الأساسية لمعظم سكان فلسطين، أما الصيادون فكانوا يأتون بالسمك ليبيعوه في أورشليم، وكان هناك باب يدخلون منه يسمي باب السمك (أخبار أيام الثاني33: 14)، (نحميا3: 3)، (12: 39)، (صفنيا1: 10).

ومن الملاحظ أن بيت صيدا (متى11: 21)، (مرقس6: 45)، (لوقا9: 10)، (يوحنا1: 44) تعني بيت الصيد، لأن أهلها اشتغلوا بصيد السمك. ومن دواعي ربط السمكة بالمسيحية أن السيد المسيح اختار بعض الصيادين ليكونوا بين تلاميذه، لينشروا رسالته ويصطادوا الناس للإيمان برسالته. وتنشد الكنيسة البيزنطية: "مبارك أنت ايها المسيح إلهنا الذي أظهر الصيادين جزيلي الحكمة وأنزل عليهم روح القدس وبهم اصطاد المسكونة، يا محب البشر، المجد لك". وقد استخدم السيد المسيح نفسه رمز السمكة رمزًا لشعبه ورعيته، فعندما دعا تلاميذه قال لهم: "هلم ورائي فأجعلكم صيادي الناس" (متى4: 19)، (مرقس1: 17) ، واستخدم السيد المسيح رمز السمكة في) متى (13: 47) إذ قال: "يشبه ملكوت السموات شبكة مطروحة في البحر وجامعة من كل نوع، والمقصود بكل نوع هنا أنواع البشر المختلفة، وفي) لو 5: 10 (أكد السيد المسيح نفس المعنى بقوله لبطرس: "من الآن تكون تصطاد الناس". وفي هذا المعني يقول القديس كيرلس الأورشليمي (315–386م): "عن السيد المسيح يصطادنا كما بسنارة لا ليقتلنا وإنما ليقمنا أحياء بعد أن نموت".

ورمز السمكة له أهمية خاصة في العهد الجديد, حيث تُذكر كلمة سمكة بمشتقاتها حوالي سبع وعشرون مرة في البشائر الأربعة فقط (متى، مرقص، لوقا، يوحنا)، وعلى سبيل المثال، معجزة الخمس أرغفة والسمكتين التي أشبعت خمسة آلاف رجل بغير النساء والأطفال، وتبقى منها بعدما شبعوا إثني عشر قفة مملوة (مرقس34:6-44). ومعجزة السبع خبزات والقليل من السمك التي أشبعت أربعة آلاف شخص، وما تبقى بعدما شبعوا كان سبع سلال (مرقس1:8-10). وفي العهد القديم كانت فكرة أن المسيح يسوع هو "يشوع الجديد"، وأن "يشوع بن نون" رمز للمسيح يسوع، فالاسم هو ذاته، ويسوع المسيح جعلنا نعبر نهر الأردن إلى أرض الميعاد. وبما أن لفظة "نون" في العبرية تعني "سمكة" فاسم يشوع بن نون يعني أنه "ابن السمكة" وهو رمز ليسوع المسيح، وقد قام يسوع المسيح باصطياد الناس وأولهم الرسل صيادي الناس وقام بإشباع الجموع بالسمك مع الخبز.

والخدمة نفسها قد شبهت بالصيد، وكما أن صيد السمك له طريقتان في عملية الصيد نفسها، فقد تمسكه صنارة، وقد تقتنصه شبكة، إنما يشير إلى عمل المسيح الكرازي في جذب النفوس، فكثيرًا ما يجذبهم عن طريق العمل الفردي (الصنارة)، أو عن طريق العمل الجماعي (الشبكة). وتجدر الإشارة أن صيد السمك ينقل الأسماك من الحياة إلى الموت، ولكن الصيد في الخدمة والعمل الروحي ينقل الإنسان من الموت إلى الحياة. في العصور الأولى للمسيحية كان الحكام الوثنيون يضطهدون المسيحيين، فكان المسيحيون يتعرفون على بعضهم برسم السمكة كعلامة تعارف، كانت السمكة هي الرمز والإشارة "بسبب الاضطهادات" فكانت

علامة تعارف سرية داخلية خفيّة بين المسيحيين، فالتقليد يذكر لنا: عن المسيحي في عصور الاضطهاد أنه عندما كان يتقابل مع نظيرة المسيحي، يرسم له نصف جسم سمكة، فيبادله الآخر برسم نصفها الثاني، فيتعارف الاثنان على أنهما مسيحيان

وكلمة (سمكة) باليونانية ΙΧΘΥΣ/ἰχθύς تُنْطَق "إخثيس" وأحيانًا "إخثوس"، وبالإنجليزية chthys, Ichthus, Ikhthus والحروف اليونانية الخمسة لكلمة (سمكة (ΙΧΘΥΣ تحوي الحروف الأولي لكلمات :ἸησοῦςΧριστός, ΘεοῦΥἱός, Σωτήρ أي: يسوع المسيح ابن الله المخلص. هكذا يفسّر القديس اغسطينوس (354–430م) استخدام رمز السمكة: "ومن الكلمات الخمس، إذا جمعتم الحروف الأولى لكلماتها تحصلون على الايخثيس أي السمكة التي يُشار فيها سرّيّا إلى اسم المسيح (كتاب "مدينة الله"، الفصل الثامن عشر).

والسمكة ترمز للخلاص في المفهوم المسيحي، وترمز أيضاً للعماد (المعمودية)، لأن السمك لا يعيش إلا في الماء، والمسيحي لا يعيش بدون معمودية من الماء والروح. وترسم الأسماك مع الخبز أو مع سلة خبز للدلالة على معجزتي إشباع الجموع التي صنعهما السيد المسيح، ونظرا لأن السمكة تضع الكثير من البيض فهي رمزا للرخاء والخير، كما ترسم السمكة أيضا مع مرساة (هلب) وهو أحد رموز القرن الأول ومعناه أن يسوع المخلص كونه الرجاء (المرساة) الثابتة لحياه الفرد، فرغم ما قد يمر به الإنسان من أحداث فهو ثابت في السيد المسيح رجاء الأمم. كما استخدم الفنان القبطي السمكتين المتقاطعتين كرمز يؤكد به الارتباط بين الشكل الرمزي والعقيدة أي ارتباط الرمز بالمرموز إليه فالسمكتين المتقاطعتين يكونان الحرف الأول من اسم المسيح باليونانية، ويشكلان صليبا.

وهناك من يعتقد أن رمز السمكة قد وصل إلى أقصى مراحل تطوره بواسطة تجميع أو ضم ثلاثة أسماك ملتفة على بعضها بشكل زخرفي داخل شكل المثلث. كما ظهرت أيضاً الثلاثة أسماك داخل شكل المثلث ولكنها مشتركه برأس واحد. وفي ذلك رمزية أو إشارة لمفهوم الثالوث في المسيحية

أيضاً آباء الكنيسة الأولين شبهوا المسيحيين بالسمك. لأنه يتم اصطياد آلاف السمك من البحر حتى يُظن أن السمك قد انتهى من البحر ولكنه لا ينتهي. هكذا المؤمنين، ففي أيام الاستشهاد يقتل الآلاف منهم ويُظن أن المسيحيين سوف ينتهون من العالم ولكن هذا لا يحدث، فمهما يخرج من بحر العالم، ومهما تصطاد شبكة الكرازة مؤمنين لملكوت الله، يظل هناك مؤمنين في بحر هذا العالم. فلذلك أصبح المؤمنون يُشبهون بالسمك.

ومنذ الأجيال الأولى والمسيحيون يتخذون من السمكة رمزا لهم في كثير من فنونهم وصناعاتهم، فقد كان الفنانون القدماء ينقشون السمكة على حامل الأيقونات (الإيقونستاس)، والفيلسوف المسيحي "إكليمندس السكندري" (150–215م) أوصى بنقش السمكة على الأختام الكنسيّة.

وفي متحف موسكو وجدت قطعة نسيج مصري، كما ذكرت الباحثة (مرجريت مجدي خله) في رسالتها لجامعة الإسكندرية لنيل الماجستير وعنوانها "الرمزية في فن التصوير القبطي": هي لنسيج مزخرف بسمكة باللون الأخضر متدرجة حتى ينتهي إلى الأصفر والزعانف ملونة باللون الأحمر ويبدو كما لو كانت تسبح في الماء معبرا عن حركة وحيوية بالتواء جسم السمكة.

وفي المتحف القبطي "أزيار" قديمة لتخزين الحبوب وغيرها وعليها رمز السمكة، ويوجد ضمن معروضات المتحف القبطي "مذبح" أثري من الحجر الجيري، إذ يرجع إلى القرن الرابع الميلادي وعليه شكل حمامة في الوسط وسمكة عن يمينها وأخرى عن يسارها، ومحلاة بشكل نباتي يرمز للكرمة المقدسة كما توجد صورة تمثل قطعة من الحجر الجيري عليها نقش يمثل صليبا بين اثنين من حيوان الدولفن وعلى الجانبين زخارف نباتية، فالصليب علامة الخلاص في المسيحية والدولفن رمز لخلاص الإنسان من الغرق. وبهذا فإن "السمكة" في الفن المسيحي بصفة عامة وفي الفن القبطي بصفة خاصة ترمز: للسيد المسيح، وترمز للمؤمنين، وترمز للإيمان المسيحي، وترمز للخلاص، وترمز للمعمودية، وترمز للرخاء والبركة والخير.

* * *

أسانيد المقال:

1- سامي حلاق اليسوعي (الأب): رمز السمكة عند المسيحيين، دار المشرق، بيروت، 2012م.

2- يوساب السرياني (القمص)؛ الفن القبطي ودوره الرائد بين فنون العالم المسيحي، ط، القاهرة: مطبعة الأنبا رويس، 1995م.

3- كوبر، الرمزية في الفن المسيحي، ترجمة اليس عزيز.

4- مرقص فارس بسطوروس (دكتور): الرموز القبطيه كمدخل لإثراء المشغولة الفنية، رسالة دكتوراة، كلية التربية الفنية، جامعه حلوان، 2006م.

5- مريم فارس بسطوروس (دكتور): العناصر المعمارية والزخرفية في العمارة الداخلية القبطية في مصر، رسالة ماجستير، كليه الفنون الجميلة، جامعة الاسكندرية، 2001م.

6- عزت زكي حامد قادوس (دكتور) ومحمد عبد الفتاح السيد (دكتور): الآثار والفنون القبطية، الاسكندرية، 2000م.

7- جمال لمعي (دكتور): استمرارية رموز الفن القبطي في الفن الشعبي المعاصر، مقالة في أسبوع القبطيات الخامس، كنيسة السيدة العذراء بروض الفرج، القاهرة: 1995م.

8- الكتاب التذكاري لمعرض معهد العالم العربي في باريس: 2008م، الفن القبطي في مصر 2000 عام من المسيحية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة

9- إيريني إيليا اسطفانوس، محاضرات للدارسين بمعهد الدراسات القبطية بالقاهرة، 2015م.