يتابع الروائي المصري تفاصيل حياة موظف ري يعيش على ضفة النيل فيغور في تاريخ المكان والعائلة والبيت المطل على النيل عارضاً سيرة الأجداد ومتابعا حياة أولاده الثلاثة اللامعين ضابط شرطة كبير وأعلامي معروف وطالب حقوق ومن خلال هذه الشخصيات يطل على صفحة حديثة من تاريخ مصر الحديث.

ضجيج الضفادع (رواية العدد)

السيد نجم

القسم الأول
أصل الحكاية
أرجوك لا تنخدع وأنت تقرأ هذا النص، أنت لا تقرأ رواية.

لم أحاول كتابة تلك الحكايات الكاذبة الجميلة المشوقة.. أعترفُ أنني قَرَأْتُ رواياتِ روسيا القيصرية؛ فجعلتْنِي أبحث عن كُتُبِ الروايات لغير الروس. لشدَّةِ سذاجتي وتعلقي بهذا الحكي، كنت أشتري الكتاب من عنوانه، ولا أُفَرِّق بين الروائي، والصحفي في قسم الحوادث، لكن بمضي الوقت اكتسبتُ خبرة التمييز.

فيما بعد سألْتُ «جميلة»، ويا ليتني ما فعلتُ، سألتُها ذاتَ ليلة عن رأيِها في هذا الموضوع؟ موضوعِ كتبِ الحوادثِ والروايات.. فما كان منها ﺇلا أن غضبَتْ غضبًا شديدًا، قائلةً: «هي العفاريت، أكيد سرّ الأرق وقلة الراحة بالليل، عفاريت المقتولين وحوادث أقسام الشرطة التي تكتب عنها!».

رغم كثرة القراءة، فلا أجيد حنكة صياغتها، وبناء الفقرات، والفصول، والأجزاء، في فن صياغة الرواية.. ولا كيف أبدأ وكيف أنتهي؟.. ولا حتى معنى ﺇبراز دخائل النفس البشرية والانقلاب الدرامي والتشويق.. لا، لا .. لا أعرفُ أسرارَها البتة، وأنصحُكَ بأن تأخُذَ من كلماتي ما يرضيك ولا تعبأ بما يغضبك!

بقيت «جميلة» عند رأيها عن سبب قلة النوم والأرق، الجديد أنها ما عادت تشكو من الأرق، بل تستيقظ كل صباح، وكأنها نامت نومًا عميقا.. يملأ وجهها ضياء لا أستطيع وصفه، بشرتها السمراء الأبنوسية تبدو لامعة ومشدودة، على الرغم من سنوات عمرها المديد، سوف تقدر بنفسك كم تبلغ جميلة من العمر.. بان لي هذا أثناء فترة احتلال بيتي الكبير في المنصورية بأسرتي؛ أبنائي: الجنرال والإعلامي ومعهما الابن الأصغر عصام!

بالمناسبة وحتى لا تتوه الأفكار وأشرد، يجب أن أوضح هنا أنه من المهم جدًّا أن تعرف بعض الشيء عن جميلة.. نوبية الأصول والأجداد، فقدت أبويها أثناء الهجرة الكبرى من بلاد النوبة بسبب بناء السد العالي.. ربما أجد فرصة أخرى أحكي لك حكاية تسلمي لها؛ أنا «عبد الوارث المصري» مهندس الري، فترة عملي بمديرية أسوان. هي ﺇذًا تلك الفتاة الصغيرة النوبية، مجهولة الاسم في مبنى قسم الشرطة!

بينما ظلَّ المأمور يتحدث عنها مُدَللًا وهو يناديها أو يتحدث عنها، وكما مع كل الفتيات الصغيرات يشير ﺇليها بـ«الجميلة».. فلما حان وقت تسليمها لي، كتب المأمور في محضر تسليمها اسم «جميلة»، ثم أضاف اسمه ولقبه «جميلة حافظ أبو الحجاج»!

لأنني بلا مستقبل تقريبًا، فقد عبرت السبعين من عمري، أنبهك أن تصدق ما سوف أقوله، ولك أن تعتبره اعترافًا مني أو تحذيرًا لغيري: الأيام تمر والعمر قصير، ولا يبقى ﺇلا الأمل بالدعاء لأحبائنا بالخير في الآخرة، أقول: نأمل للأحباب وندعو لهم.. ولم أقل أن نأمل وندعو لأنفسنا، حتمًا ترجون حُسن الخاتمة مثلي، لكن هل أنتم قلقون مثلي..؟ هل ما فعلت وأنجزت في السبعين سنة، يستحق التكريم في آخرتي؟ يبدو أنني لا أثق بما فعلت، وهو سبب خجلي من الله!

الغريب يوم أن سألت «جميلة» عن مشاعرها عما تتوقعه بعد موتها، بدت بارقة العينين، كأنها لم تطرح الموضوع يومًا ضمن أفكار رأسها، نبهتها على حين غفلة، أراها تخرج من الغرفة، أعدت كوبين من الشاي، وهو ما لم أطلبه، رفعت الكوب الساخن من فوق الصينية، مدت ذراعها اليمنى، مالت بشدة فتعرت الذراع ولم تتململ، على غير عادتها، بقيت ممدودة الذراع، قالت: «أكيد يا سي عبده، ﺇن ربنا سيعوضني عن أمي وأبي والنخلة الطويلة في حوش الدار»

أظن أنني ابتسمت وأنا أعقب قائلا: «بعد كل تلك السنوات تتذكرين النخلَةَ يا جميلة؟!» - «كما أتذكَّرُ اسمي الحقيقي»، فنظرت ﺇليها محدقًا، وحدها تفهم معنى نظرتي تلك.. وكما هي عادتها لم تبح باسمها الذي ترفض أن تبوح به حتى اليوم.

بان لي أن كل ما حدث، وما زال يحدث، في كل مكان.. كل المدن والقرى، القريبة والبعيدة، لم يشغل بال جميلة في شيء، وهو ما آثار دهشتي والسؤال عما يدور في رأسها، كل ما شغلها ويشغلها دائما، هو ما كان مع «هانم» المرحومة زوجتي، ثم أولادي الثلاثة، رامز الجنرال، علام اﻹعلامي، عصام تلميذ الحقوق!

كلما شغلتني فكرة، وحيرتني مسألة، لم أبرح شاطئ ترعة المنصورية التي يطل البيت الكبير عليها. أظن أنني ما خلقت في هذه الدنيا ﺇلا لأن أكون على مقربة من نهر النيل، هو كل همي أثناء فترة عملي في الري، وأصبح رافعًا همتي كلما شعرت بوحدتي.. تستطيع أن تسأل عما جعلني أتقلب على جمر النار، خلال الشهور القليلة الماضية، وهو ما جعلني أرجو أن أكتب حكايتي مع النيل.. أذكركم، لا تسألوني ﺇن لم تتحول وتتشكل الحكاوي والأحداث ﺇلى رواية.

*****

أنا من المهندسين المتخصصين الأوائل في الري، بعد عدة أجيال من المهندسين الأقل خبرة مني! بداية من هؤلاء الذين أرسلهم «محمد علي» ﺇلى بلاد الفرنجة لتعلم فنون الري، وحتى من تخرج في مدرسة المهندسخانة التي أنشأها، لن أتابع قبل أن تشاركوني الفكرة التي قفزت من رأسي حالًا.

عندما ورد اسم «محمد علي» لبيان دوره وأهميته، وجدتني توقفت بعد أن كتبت اسمه مجردًا من الألقاب، عدت وسبقت الاسم بالسلطان، لم أقتنع فكتبت الوالي، لم أجدها تلائم مكانة الرجل، فضلت أن أكتب خليفة مصر والسودان وبلاد الشام والعرب.. فما كان مني ﺇلا أن ضحكت، ولا تسألني لماذا؟ لأني ببساطة كتب الاسم بلا ألقاب؛ «محمد علي»، هذا أفضل.

أعود وأخبركم عن خبراتي، بين جميع من مارسوا العمل بطول الوادي وعرضه، مع المجرى الرئيسي والرياحين والترع وحتى مجاري الصرف، ومع الخزان الكبير في أسوان والقناطر المتعددة.. تستطيع أن تقول بأنني شيخ حارة بحر النيل، أغلب المصريين يقولون «بحر النيل»، وأنا مثلهم!

عملت وعشت مع عدد من القناطر، أضعاف ما كانت في عهد محمد علي.. ﺇليكم الحصر العملي والعلمي لها، لعلكم تقدرون كم كانت حياتي العملية ثرية وهامة: بداية يجب أن تعرف أن هناك قناطر شيدت من أجل حجز الماء والتحكم في منسوب مياه نهر النيل، بهدف تلاشي ضرر الفيضان وخطر الجفاف.. ثم للحفاظ على منسوب مناسب للمياه يمكن المراكب من حمل الأوزان والأحمال الثقيلة ونقلها شمالا وجنوبًا، وتوفير المياه الضرورية لري الزراعات، كما قد يتم توليد الكهرباء من بعضها. وأعتقد أنني ما زلت أتذكرها كلها أو بعضها: هاويس اﻹسماعيلية - سد وهاويس دمياط - هاويس نجع حمادي- قناطر إسنا- قناطر شراباص الجديدة- هاويس الرياح المنوفي- قناطر نجع حمادي الجديدة- هاويس ﺇسنا اﻹضافي، وغيرها.

صحيح وبحق وحقيق محمد على شيد أهم وأكبر قناطر في زمنه، وهي القناطر الخيرية. كان اسمها القناطر المجيدة، والله هذا الرجل كان ذكيًا فلا يغفل الجانب الدعائي لمنجزاته! الغرض منها رفع مستوى مياه النيل، في 12 مايو 1843. خلال التنفيذ ظهر خلل في بعض عيون القناطر بسبب ضغط المياه، توفي محمد على باشا، واستكملها عباس حلمي الأول، وفي عهد الخديوي إسماعيل تمت تقوية القناطر الخيرية، وظلت التجديدات تتوالى حتى أصبحت القناطر القديمة معلمًا أثريًّا! يبدو أن رعاية النيل وخدماته هي معيار ﺇخلاص الحاكم لمصر.

أما قناطر أسيوط، فهي تصميم المهندس البريطاني السير ويليام «ويل كوكس»، الذي صمم سد أسوان.. فقد تم تشييدها لتحويل مياه النهر إلى المياه المنخفضة في أكبر قناة للري في مصر: ترعة الإبراهيمية، وقد تحولت آلاف الأفدنة ﺇلى الري الدائم بفضلها، ثم قل بسبب رعايتي لها، فتلك القناطر ليست صخورًا مرصوصة، بل هي كائن حي في حاجة إلى عناية ورعاية!

كما شيدت قناطر ديروط، عام 1871، على يد المهندس «مصطفى بهجت» باشا، وهي عبارة عن عدة قناطر متصلة؛ قنطرة: ترعة الدلجاوي - بحر يوسف - الترعة الديروطية - الترعة الإبراهيمية - ترعة الساحل - قنطرة الصرف التي تصرف المياه إلى النيل، وأعترف أنني أحببت تلك القناطر وأحببتُ أهل ديروط، لأن من شَيَّدَها وشَيَّدَ الحدائق الجميلة حولها مصريّ.

ولا أنسى قناطر نجع حمادي، شيدت في عهد الملك فؤاد الأول عام 1930، لضمان ري مساحة 480 ألف فدان، من نجع حمادي حتى أسيوط.

وعندك قناطر إسنا، انتهوا من البناء عام 1908 في عهد الخديوي عباس حلمي الثاني، وهي للتحكم في تدفق المياه أثناء فترة الفيضان وتحسين الملاحة في مجرى النهر. وفي عام 1994 تم بناء قناطر إسنا الجديدة. دعوني أعترف لكم الآن، أن فترة ﺇشرافي على تلك القناطر، كانت مملة ودمها ثقيل مثل الزوجة الغبية، ربما بسبب شعوري بالغربة لندرة وسائل الترفيه هناك!

ثم قناطر إدفينا، افتتحها «مصطفى النحاس» باشا رئيس الوزراء عام 1951، على بُعد 20 كم جنوبي مدينة رشيد، وهي تمثل موقعًا ومزارًا سياحيًا وعلى مقربة منها تقع مدينة مطوبس، وقرية أبيانة التي ولد بها الزعيم سعد زغلول. وهى الوحيدة التي تحجز مياه نهر النيل عن مياه البحر الأبيض المتوسط.. وطوال فترة خدمتي هناك كنت أنتهز فرصة المدرسية للأولاد وأصطحبهم، كانت فترة عمل ونزهة في أدفينا.

ولن أنسى قناطر زفتى، التي تم بناؤها في عهد الخديوي عباس حلمي الثاني، وأعيد تجديدها عام 1954، تتكون من 50 فتحة، وتعتبر من الآثار المعمارية الفريدة. كثيرًا ما كنت التقط لها الصور الفوتوغرافية، وأنا واقفٌ فوق عيونها أو فتحاتها.

هذه المعلومات لم أتوقف أمامها بالمجان، حتى لا يتعلل بها بعضكم بأن ما أكتبه مملا.. نعم، لي مع كل سد وقنطرة وهاويس وترعة ورياح، حكاية، يدي وعقلي عملا فيها، وهو ما شكل خبرتي النادرة في الري عمومًا، وفي مجرى نهر النيل أو بحر النيل خصوصًا!

أعود وأذكرك أنه بعد كل تلك الخبرة، لم أجد مهلة من الوقت، ولا راحة بال، التي تجعلني أجلس كي أكتب عن تلك الجريمة!.. ترى هل بالغت وأخطأت التعبير؟ هل كان من المفروض أن أتحدث بعقلانية أكثر تتناسب مع سنوات عمري وحنكة الأيام وخبرتي؟

وصول الأمر ﺇلى تلك الحالة التي تجعل الناس غير مبالين وهم ﺇلى جوار مجرى مياه بحر النيل، النهر العتيق، نهر السماء، ويسيئون ﺇليه، تلك جريمة بحق، وهو ما جعلني أمسك بالقلم لأخط كلمات وحروفًا لا أعرف مصيرها، ولا من أين أبدأ ولا كيف أنتهي؟

فمن الناس من يرمي بجسده فيه، على ذمة أن يزهق روحه بين طيات النهر لعله يخفي سرًا من أسراره؟! ومنهم من يجعله مناط نشاطه الأناني، فيقتل كل جميل فوق ضفتيه، ببناء ملاهٍ أو أوكار أو حتى فنادق على مستوى نجوم عديدة يفهمها أرباب السياحة وأباطرة الترفيه! ومنهم من شاء أن يدنس مياهه الطاهرة ببوله ويفرغ فيه دنس محتوى أمعائه، بل ومخلفات أعماله الشيطانية! ومنهم من ضاقت به السبل ولم يجد سوى القارب الضيق الخشبي، رحيما به فوق سطح مياه النهر العكرة!.. ألستُ محقًا الآن، ومن الضروري أن أذهب معكم ﺇلى أول الحكاية.

****

(1) همس ليلة نيلية..

صغيرًا سمعتُ صرخة، صرختين وأكثر عكرت علىّ مُتعة اللعب في الحديقة الخلفية للبيت الكبير المطل على ترعة المنصورية، لعله المبنى الوحيد المشيد بالأحجار، وأجزاء قليلة منه بالطوب الأحمر. بالرغم من صغر سني، لم أتجاوز الحادية عشرة.. تبين من الصرخات ما جعلني أتوجس وشعرت بالرعب! الصرخة لصوت ممزوج بغرغرة مياه، فتأكدت مشاعري، وسمعت مَن أخبر سحابة المغربية في السماء البعيدة هناك أن البنت «حفيظة» ألقَتْ بنفسِها في مياه الترعة!

الصُّرَاخُ مَزَّقَ قلبي، حرمني من استكمال اللعب، اندفعت، كنت أظن أنني قادر على العون والمساعدة لإنقاذ «حفيظة»، كثيرًا ما كانت تَضُمُّني ﺇلى صَدْرِها كلما لمحتني ألهو بعيدًا عن عيون أمي أو أبي أو الخدم. لم أكن أفهم ما بعد العناق وهي تقول إنها تحبني مثل «شحاتة» طريد خفر العمدة وأهل القرية، وهو صائد الضفادع الشهير.. ليست الضفادع وحدها، معها الثعابين وفئران الغيط، وكائنات أخرى يرعاها حتى بداية الدراسة، ويبيعها لطلبة كليات الطب والعلوم بجامعة القاهرة القريبة من المنصورية!

لم أكن أشعر برغبة لردها ودفعها بعيدًا، على العكس دون خبرة سابقة نجحت في أن أجعلها تنظر نحوي دهشة، ثم تقول وتكرر أنها بدأت تحبني أكثر من «شحاتة»، يكفي أن لي رائحة الزبد والعسل، بينما رائحة شحاتة البتاو المصنوع بدقيق الذرة.. مع ذلك لم أفهم لماذا؟ عدت وأخبرت أمي عما تفعله «حفيظة» بجسدي، وأنني أشعر بحنانها بأكثر من أمي!

ثارت أمي، أمرتني ألا أتركها تفعل بي تلك الفعلة، لكنها لم توضح لي ما تقصده بكلمة «الفعلة»، ولم يخطر ببالي أنني أفعل ما يغضب أحد، لأنني أشعر بسعادة لذة غامضة، أتمنى أن تطول! أتلذذ بلدغة العقرب كما تقول أمي، تضمني ﺇلى ليونة صدرها الرجراجة، ودفء أو حتى صهد حضنها، فلا أمل.

لن أخبركم ماذا فعلت «حفيظة» وفعلت معها، كي نتسلل من قبضة مراقبة أمي. أظن أنه غالبًا لولا انفعالي أمي المفرط وانتباهها الزائد، ما كنت حرصت كل الحرص على مغافلتها، وتوفير سبل تسلل حفيظة ﺇلى الحديقة الخلفية للبيت بكل الحيل الجهنمية، والجلوس معها لساعات، وربما لدقائق حسب الأحوال!

بعد أن كنا نسرق اللمسات والمماحكات والقبض والقبص، أصبحنا نفعل الفعلة نفسها، ولكن بهدوء وروية وحنكة لا تتناسب أبدًا مع طفل غر تتمنى الفتاة الجميلة القصيرة اللينة أن ترضيه كي يبقى على كرمه الذي يتجلى في كل تصرفاته معها.. مرة بإعطائها ما يتحصل عليه من قروش يومية، أو بإعطائها الخبز الساخن والزبد يوم الخبيز.. حين يفرط الولد في طلب المزيد من أرغفة الخبز، تفرح الأم ظنًا منها أن خبيزها الشهي وراء شراهة الولد!

كان من السهل الهين أن أعطيها بذر زبدة أسرقه من ماعون الزبد، أو بعدد من كيزان الذرة، أو حتى ببعض الطحين والبيض من عشة الفراخ.. أجدها تتعلق بي أكثر كثيرًا عما قبل. أكثر ما شد انتباهي، أن حفيظة نبهت عندي شيئا ما كنت أعرف تفسيره، لكنه لذيذ وفيه من المشاعر ما يعني أنني أصبحت رجلا، حفيظة نفسها أخبرتني بذلك ذات مرة! لكنها عادت وقالت: «بدأت أخاف منك.. أنا بنت بنوت يا عبده؟!».. فهمت المعنى وما تقصده فيما بعد، وابتسمت فخورًا بذكورتي وفحولتي التي أستشعرها ولا أعرف معناها!

كثيرًا ما بقيت تراودني حفيظة التي ألقت بنفسها في مياه المنصورية، أحيانا أتذكرها وأنا أقرأ حكايات عروس النيل، تلك الفتاة الجميلة البكر التي يلقونها في مياه النيل كي يفيض فلا يطغي، ويعطي فلا تجف الأرض وتموت الزراعات!

****

صدقني الآن لو قلت لك إن علاقتي بعروس النيل بدأت منذ أحداث تلك الليلة السوداء، التي قررت فيها «حفيظة» الانتحار. ما كان يشغلني وأنا بين أهل القرية أحاول دخول كوخ الخوص الذي تقيم فيه البنت الغلبانة بعد محاولة ﺇنقاذها، كنت أتمني لو أراها تتنفس.. كان علىّ أن أتأكد من موتها بنفسي.. ولمكانة جدي وأبي وعائلتي بين أهل القرية سمحوا لي بأن أدخل. وسط دهشتي قبل الجميع، رأيت وكل من كان داخل الكوخ شاهد.. نعم شاهد الجميع وحفيظة تبتسم لي، بسمة واحدة، لا أدري كيف يصل ﺇحساسي ﺇليك وأنا أقول بسمة واحدة، هل ابتسمت وماتت فورًا؟.. أم ابتسمت ولم تقدر على الابتسام من بعد، أم لا هذا ولا ذاك ولم تبتسم قط بل ظننتها تبتسم؟!

لكنني الآن لا أتذكر متى أعلنت النسوة موت حفيظة بالضبط، هل وهي مبتسمة البسمة الغامضة لي وحدي.. أم بعدها؟ سمعت جيدًا من ﺇحداهن تغمز بطرف عينيها، وهي تقول: «البنت حفيظة طول عمرها فاجرة، حتى وهي بتموت؟!»

طوال تلك السنوات الطويلة راودني السؤال: «لماذا اختارت حفيظة النيل بمياهه الرائقة – كانت رائقة في تلك السنوات البعيدة- كنت أرى البهائم تنزل لتشرب من مياهه، والقوارب الصغيرة والكبيرة ترمي الشباك وتصيد من خيراته، حتى أبي الذي لم أره يضحك، أراه مبتسمًا أحيانا ﺇذا ما تناول وجبة العشاء في الجزء الخلفي من البيت ﺇلى جوار ضفة المنصورية، يحتسي الشاي بعد تناول العشاء.. ثم ينظر نحو أمي مع ابتسامة غامضة، وفيما بعد فهمتها، فتنهض مبتسمة هي الأخرى.. قبل أن تغرب تدور دورة كاملة، تأمرني أن أذهب للنوم حالا، تحذرني بألا أبقى وحدي مع مياه النيل والظلمة، وﺇلا خرجت النداهة وسحبتني ﺇلى بيتها في قاع الترعة. كنت أعلم أنها تقصد حفيظة تأتيني في الظلمة، وليست النداهة الغامضة!».

بمرور الوقت أصبحت بخبرة أبي في كشف أسرار مياه بحر النيل والبسمة الصامتة بين ذكر وأنثى، ﺇن لم تتسلل حفيظة ﺇلى حيث أنتظرها، أتسلل أنا، المشكلة كمية الأتربة التي تكتشفها أمي بجسدي وشعر رأسي أو بملابسي! ولأنني من الأوفياء، لم أنس حفيظة أبدًا، تعمدت أن أكتب عنها في دفتري الورقي وكنيتها «هاميس» اسم آخر عروس النيل في الأسطورة.

قديما كانوا يحاولون ﺇرضاء الإله حابي، إله بحر النيل، وهو إله الخصب والمتحكم في مزاجه وأحواله. الأسطورة تقول إن المصريين، في كل سنة، كانوا يرمون عروسًا حية في النيل ليرضوه.. أنت عروس النيل يا حفيظة، حتى الآن أتذكرك ولم أنس نعومة جلد بطنك وردفيك، ونعومة الكلمات المنسابة من بين شفتيك، كأنك لست حفيظة التي يلعنها كل سكان القرية، حتى شيخ المسجد والخفراء والعمدة! تعمدت الحصول على أسطورة «هاميس» آخر عرائس النيل، ولا أدري لماذا كلما قرأتها.. كأنني أقرأ عن حفيظة؟!

(عند ليلة ثلاثة عشرة من شهر بؤونة يعمدون إلى فتاة بكر (عذراء)، تؤخذ من أبويها ويحملون عليها من الحلي والثياب ثم يلقون بها في النيل؛ وفي معتقدات المصريين القدماء أنهم إن لم يقوموا برمي هذه الفتاة. التي أطلقوا عليها عروس النيل: فإن النيل لن يجري ولن يأتي الفيضان بالخير...)

(ويحكى أن المصريين القدماء كانوا يعتبرون النيل (إله - حابي) إله الخير والنماء والخصب.. لأنه شريان الحياة في مصر. وكان النيل يفيض بالخير ويعم الرخاء وتزرع البلاد كل أنواع المحاصيل... لكن في سنة من السنين أبى النيل ألا تفيض مياهه وحل الجدب والقحط على أرض مصر وتعذب المصريون! أشار الكاهن على الملك بأن النيل غضبان لأنه يريد الزواج وتكون له ذرية... فتهافتت الفتيات يردن الزواج من إله الخير. كانت تقام المراسم والاحتفالات ويقوم الكاهن باختيار أجمل فتاة، وبعد الانتهاء من المراسم تقوم العروس، وترمي بنفسها في النيل وهى سعيدة راضية؛ لأنها ستلتقي بحبيبها إله الخير في العالم الآخر..)

ويحكى أنه استمر الاحتفال سنوات وسنوات حتى إنه لم يجد فتيات لهذا الأمر، ولكن الكاهن أصر على الاحتفال؛ فلم يجدوا إلا بنت الملك وكانت جميلة وفاتنة ولها خادمة ذكيه تقوم على رعايتها وتحبها حبًّا لا يوصف .. فحزنت الخادمة وأرادت أن تحتفظ ببنت الملك حتى لو انتهى الأمر بعدم فيضان النيل! فأخذت تفكر وتفكر حتى هداها تفكيرها ﺇلى أن تصنع دمية شبيهة ببنت الملك صورة طبق الأصل، لا يُفرِّقها ﺇلا وجود الروح فيها، ثم قامت بتزيين العروس، وصممت أن تلقيها بيدها هي في النيل لتزفها إلى حبيبها، وتمت المراسم وانتهى الحفل، وأصاب الملك كآبة ويأس وحزن شديد على فراق ابنته الغالية حتى أصبح طريح الفراش.. وهو لا يدري أن الخادمة أخفت البنت في بيتها وبين أولادها، ولما رأت حزن الملك وازدياد مرضه يوما بعد يوم، أشفقت عليه بعد أن كانت ستأخذ البنت لنفسها وتربيها على أنها ابنتها، لأنها في الواقع أصبحت في نظر الجميع عروسة النيل. وفي أحد الأيام وبعد أن أشرقت الشمس وطل الصباح بنوره الوضاء، أخذت الخادمة البنت وقالت للملك: هذه ابنتك سليمة معافاة لم يصبها أذى، ولم تمس بسوء وكانت عندي معززة مكرمة.. فلم يتمالك الملك نفسه وأخذ يحتضن ابنته بطريقة هستيرية وشكر الخادمة، وقربها ﺇليه وأعطاها الكثير من الهدايا مما لا يقدر بثمن؛ وبعد ذلك في كل عام يصنعون دمية جميلة ويقيمون الاحتفالات بجانب النيل ثم يرمون الدمية ﺇلى النهر العظيم..)

.. لم تنته أخبار حكاية عروس النيل، تمامًا كما لم تنته حكاية حفيظة معي، فالأولى أستحضرها من داخل الكتب والحكايات، والثانية من داخل ضلوع صدري؛ فلما تفيض مشاعري أنتبه إلى أنني بدأت أكبر، ويجب ألا أن أبدو هكذا خياليًا ممن يشردون، وعندما يسألهم المرافقون عن سبب الشرود، يردون بنفي الشرود عن أنفسهم، فيتشكك الجميع!

.. أصبحت مهندسًا للري يهابني الجميع، وأصبحت زوجًا وأبًا لثلاثة أولاد، ثم أحلت ﺇلى المعاش وعبرت السبعين سنة.. وبعد كل تلك المتغيرات لم تتغير مشاعري مع عروس النيل، أقصد المنتحرة المجنونة ابنة المجانين حفيظة، التي ذهبت ولم تترك لي فرصة لكي أستحضرها في صورة أو رسمة، بينما خيالي الملعون يشكلها بهيئة كل ملكات الجمال في العالم!

لا عليك، دعك مني ودعنا نتحدث حول عروس النيل، قرأت رأيًا رصينًا للدكتورة «نعمات أحمد فؤاد» عاشقة النيل مثلي، في كتابها «القاهرة في حياتي»: «إن حكاية عروس النيل ليس لها أساس تاريخي، ولم ترد غير القصة التي ذكرها (بلوتراك) التي تقول إن (إيجيبتوس) ملك مصر أراد اتقاء كوارث نزلت بالبلاد، فأشار إليه الكهنة بإلقاء ابنته في النيل ففعل! ثم ألمَّ به ندم شديد فألقى بنفسه في النيل، فهلك مثلما هَلَكَتْ»!

****

(2) المنصورية ليست وطني

«المنصورية» هي القرية التي نزحت ﺇليها مع مهندس الري عبد الوارث المصري، الرجل طيب القلب، وافق أن يتسلمني ويتكفل بالصرف عليَّ ورعايتي. استطيع الآن أن أحدثكم عن المنصورية أكثر كثيرًا جدًّا عن قريتي في النوبة التي نَسِيَتْ الكثير من تفاصيل المكان فيها.. قبل أن أجيء ﺇلى المنصورية، أتذكر جيدًا.. كان النيل هو الشغل الشاغل لأمي وكل من حولنا في النوبة.

وشاء ربنا أن عشت وتربيت وكبرت في بيت رجل ممن يرعون نهر النيل، ومنه تعلمت الكثير. من آراء «سي عبده» عن المسئولين في الوزارة وهم أصحاب القرار الأخير في عمله، فهمت أنهم خلطة ما بين مسئول جاهل، ومسئول غبي، ومسئول منافق، ومسئول فاسد؟! استفسر في دهشة: «لماذا؟!»، دون تردد يتابع: «جميعهم لم يقفوا في مواجهة من جعلوا حياة النيل مهددة بالخراب.. حلت المباني محل الأراضي الزراعية على ضفتي النهر.. والمصيبة ما سمعته في التلفزيون عن أسباب انتشار الأمراض بسبب زبالة المصانع الملقاة في مياهه، يا خسارة لم تعد مياه النيل تصلح لشرب بقرة في يوم حار، ولا تصلح للوضوء!».

ما يهمني في بحر النيل، لا يهمه ولا يحدثني عنه. كما لم أهتم كثيرًا بكبر حجم البيت العتيق، يوم أن دخلته معلقة بكف الست هانم زوجه سي عبده لأول مرة. هكذا كانت حياتهما معًا، التنقل من سكن حكومي ﺇلى آخر، وكلها ﺇلى جوار السدود والقناطر والهواويس ومقياس المياه.. تلك اللوحة الرخامية المقسمة أو المدرجة بحيث تكشف عن ارتفاع المياه هنا أو هناك. لا يغرنك أن الأسرة تقيم في بيت كبير من طابقين مثل الفيلا، هو عندهم مثل فيلات أو قصور الأثرياء في منتجع «المنصورية» القريب..

زاد تعلقه بالبيت الكبير، ولم يبرح مكانه القريب من مياه نهر النيل بعد أن أُحيل إلى المعاش. يتكون البيت من دورين ومخزن أرضي، يكسو واجهته طلاء أخضر كالح مجرب بفعل الأمطار وأشعة الشمس. بينما يراه الرائي ليس أكثر من المبنى القديم المتشققة جدرانه والمطل على النيل، تم تشيده منذ سنوات، قد لا يصدق السامع ما يردده لسان عبد الوارث عن تاريخ دار الأجداد تلك.. يقول:

«تلك الفيلا بلا صكّ عند الحكومة، شيدها جدي الأكبر قبل أن يخترعوا الأختام وصكوك الملكية..! جيلا بعد جيل أقام فيها الأبناء، قد تبدو مع أحد الأجيال في أزهى رونقها، حتى تصبح مزارًا لسكان القرى المجاورة، وحتى شكَّلت التجمعات من حولها القرى القريبة جدًّا منها الآن، بعد أن كانت وحدها على الضفة الشرقية»..

لما جاء جيل بعدهم، وحضر دخول الكهرباء لبعض الأماكن في ريف مصر، ثم تمديد مواسير المياه لشركة المياه، نجح الخبيث أبي، ودخلت الكهرباء ومواسير المياه من دون صك يثبت ملكيته للدار، بحيلة تتعلق بمكانته بين الناس، فلم يسأله موظف الشركة عن مستندات الملكية.. ولا أبي نفسه يعلم ماذا قال المسئول في الشركتين بحيث لم تثر مشكلة عدم وجود سند الملكية هذا!

عندما جاء دوري.. لم يشغلني البيت كثيرًا، أراه صامدًا في مواجهة الحرارة والبرودة وقبل توقف فيضان النيل في أغسطس، كانت مياه النيل البنية تكسو عتبات مدخله.. رأيته صامدًا بعد كل تلك السنوات.شغلتني مياه النيل أكثر، هي التي تستحق، يمكنني البقاء داخل جدران البيت التي قد تبدو مشقوقة، ولكنها دارى التي ولدت فيها، وكلما سافرت للعمل بعيدًا، كنت أعود إليها..

كثيرًا ما كان يصمت ثم يعود ويتمتم: بعد كل تلك السنوات يبدو أنني لم أضف جديدًا.. ها هي ذي الجدران مشقوقة وجرباء؟! لم أكن أفهم ما يقصده ويعنيه، فأقترب منه وأقول بجد وباهتمام: «وأنا أرى البيت مثل الوردة، هي الوردة بعد ما تذبل بغيب ريحتها!»، في ليلة من الليالي التي تكلمنا فيها عن البيت والنيل، بان لي «سي عبده» كأنه اكتشف فجأة أنه يجلس فوق الكرسي الخيزران يتابع سريان مياه النيل بلا صوت يسمعه، لا جديد منذ سنوات طويلة يمضي ساعات أيامه بين النوم والبحلقة في مياه النيل؟!

ما قرأه وما عرفه عن نهر النيل كفيل وحده بأن نَصِف سي عبده بخزانة النيل، بعد أن كَلَّتْ عيناه وغلبتها السحابة البيضاء، تلك التي يرفض إجراء العملية الجراحية ﻹزاحتها.. لكنه في كل الأحوال قادر على استعادة كل ما يعرفه ويحفظه عن ظهر قلب.. ولا يتردد أن يلقنه لي بين الحين والحين، وحفظت عنه أغلب ما يردده، ماذا لو تسمعون بعض ما قاله لي، بدلا من المرة عشرات المرات، حتى لا تتهموني بالجهل بعد معاشرتي له كل تلك السنوات.. قال لي كثيرًا: القدماء لقبوا النيل في أناشيدهم وأغانيهم بأبي الآلهة، وهو لقب مستعار من الإله «نون» رب المياه الأزلية عند المصريين القدماء (الفراعنة)، الذي كان النيل ينبع منه.. غالبية الأنهار تكتسب اسمها من منبعها ليمتد الاسم إلى بقية مجري النهر، إلا أن الأمر معكوس بالنسبة لنهر النيل، فقد أطلق المصريون اسم النيل علي نهرهم المقدس، وهم سكان المصب، لأنهم يملكون حضارة تفوقت على جيرانها.

عرف المصريون أن للنهر منابعه البعيدة في الجنوب، من فرط تقديرهم وتقديسهم له ظلوا ينسبونه إلى الإله «نون»، حتى يتعامل المصريون مع النهر بحرص وتقديس حقيقيين باعتباره شريان حياة سكان الوادي الأخضر، يبعثه الإله للمصريين وليست الأمطار من هناك في البلاد البعيدة والجبال المرتفعة..».

وذات مرة لمحني «سي عبده» وأنا أبحلق فيه تارة وفي مياه النيل تارة أخرى، شاء أن يشاركني حفاوته بالنهر كعادته كلما جلست إليه فقال: «كان المصريون القدماء يطلقون لقب (أترو-عا) ومعناها بالمصرية القديمة (النهر العظيم) على مجرى النهر الرئيسي من أسوان إلى القاهرة، ومنها جاءت الكلمة المستخدمة حاليًا (الترعة).. فهمتِ يا جميلة، من القاهرة إلى أسوان لقب النهر العظيم..».

.. لم يسمع الرجل تعقيبًا مني، فتابع مشاهدة المياه العكرة أمامه: «الظاهر أن الإله (حابي) إله الفيضان قرر أن يجيء ويتحدى أفاعيل السد العالي!»، لم أضحك ولم أبتسم، ربما لم أفهم، فجأة على غير توقع سمعني بثقة أقول: «لم يحن وقت الفيضان يا سي عبده، لم يحن وقت أن تذرف ﺇيزيس دموعها، لم يأت عيد بكاء ﺇزيس على أوزيزريس لأنه في يوليو..».

ثم تابعت أنشد وسط ذهول سي عبده، في خشوع أقول: «المجد لك أيها النيل الذي ينبع من الأرض، ويحمل الخير لمصر، وعندما تفيض يعم الفرح البلاد.. أنت تطفح فتسقي الحقول وتنعش القطعان وتمد الناس بالقوة إذا تأخرت بنعمك توقف دولاب الحياة وإذا غضبت حل الذعر في البلاد يا سيد الأسماك ومنبت القمح والشعير والذرة أنت الذي يخلق كل الشباب والأولاد فرحون جذلون يحبونك أيها الملك».

أتذكر جيدًا أن انتابت الرجل نوبة هستيرية من الضحك! انتابته الدهشة أن سَمِع منِّي تلك الأبيات الشعرية العجيبة التي حفظتُها من كثرة ما رددها هو نفسه أمامي؟! فلما عَبَّر عن دهشته وسَمِع تعليقي على رأيِهِ، قلتُ: «يا سي عبده ربنا حرمني من الكثير إلا من قوة الذاكرة.. ألا يدهشك أنني ما زلتُ متذكرةً تفاصيلَ بيتي القديم وأبي وأمي والسيدة التي تركَتْنِي أمي بين ركبتيها، بل ومتذكرة المأمور وأنت متردِّد في التوقيع على عقد تسلُّمي؟!».

****

منذ الخمسين سنة أو أكثر قليلًا، دخل المهندس عبد الوارث قسم شرطة مدينة أسوان، عرفتُ منه فيما بعد أن السبب هو اعتداء أسواني على حرمة النيل، رمى برميلًا ممتلئًا بزيت أسود اللون كريهِ الرائحة.. ما إن انتبه الرجل صاحب ورشة إصلاح السيارات، حتى أخذ يعدو وهو يقول بصوت جهوري: «لن أرمي الزيت في النيل مرة أخرى.. لن أفعل!».

رغم صغر سني، كان من الواضح أمامي وتأكدت منه ووضح لي، أن مهندس الري هذا له شهرة في كل المدينة، شهرة جعلَتْ الناس تعرِف ملامح سحنته، وما إن يروه قادمًا حتى يعدوا على غير هدى، بعيدًا عن موقع مخالفتهم على ضفتَىْ النهر! فما كان من المهندس الوقور إلا أن يشير للعمال من خلفه للقبض على الذي يعدو، وحتمًا وراءه مخالفة سوف تتبين له!

من كثرةِ المحاضر التي يتولى المهندس طلب تحريرها، أعدَّ مأمورُ نقطة الشرطة؛ نسخةً ثابتةً جاهزة إلا من نوعيةِ المخالفةِ وبياناتِ المتَّهَمِ، حَرَّرَها من أجل المهندس عبد الوارث المصري فقط! في تلك المرَّة وبعد أن استمَعَ المأمورُ له، وتابعَ ملامحَ وجهِه الغاضبة المتقلصة والشقوق على شكل الخطوط تكسو جبهته، كلها انفعالات معتادة يراها على وجه المهندس الشاب الذي تزوَّج حديثًا ولم ينجب بعد.. قرر المأمور قرارًا، لعل المهندس هو أنسب من يطلب منه ما قفز في خاطره حالًا.

بدت نظرات المأمور ذلك الرجل الذي أتذكره جيدًا.. بدين يلهث والعرق يتسربل من فوق جبهته فيظن البعض أنه منهك أو على وشك اﻹغماءة، وكأنه غير المنتبه وغير المستعد للتعاون معه، على غير عادته في أمور العمل المعتادة، كما كان منذ سنة تقريبًا، هي كل الفترة التي عمل فيها عبد الوارث في المدينة. فجأة نهض المأمور غير المبتسم واقفًا متحفزا يعرض طلبه، بدا وكأنه يأمر صديقه ولا يترك له فرصة للاعتراض أو الاعتذار: «سوف أحرر محضر المخالفة التي تحدثني عنها، على شرط واحد وعليك تنفيذه؟!». واضح أن عبد الوارث لم يقبل ولم يعترض أيضا، لكن المأمور لم يترك له فرصة للاختيار.. صاح باسم جندي الخدمة أمام باب الحجرة، أمره بإحضار «البنت التايهة فورًا»!

دخلت شاردة وقد غلبني الصمت، لكنني تأكدت فورا أن المهندس الوقور أكثر دهشة مني.. لم يصمت، بلسانه ونظراته وكفيه سأل المأمور، سأله أسئلة كثيرة وكلها فهمها الشرطي المحنك، فلما نطق لسانه: «من تلك الفتاة الغلبانة؟». قال المأمور: «ترفض النطق والكلام كما ترى، فقدت والديها في حادثة، نريد أن تستلمها رسميًا لتربيتها وتتكفلها.. والأجر والثواب عند الله..»، لما برقت عينا «سي عبده» وشرد، بدا كأنه متعاطفًا، لكنه يريد أن يعرف أكثر عن تلك الصغيرة.. فحدق بعينيه وفرد كفيه ناحية المأمور، فهم الشرطي المحنك، تابع يقول: «البنت ليست أسوانية بل هي من قرى النوبة، لما قرر أبواها البقاء فوق الأرض التي سوف تغرقها مياه السد العالي حتما، رفضا الرحيل، بقيا فوق موقع المقابر في انتظار الهلاك! هذا كل ما أخبرتنا به سيدة تسلَّمت الصغيرة من أمها فوق سطح المركب، قبل أن تتركهما الأم لتعود ﺇلى الأب قبل أن يموت وحده، قرارهما أن يموتا معًا»!

السيدة قَصَّتْ لي كل ما دار فوق المركب الشراعي الذي بدا وكأنه يراقص الركاب فوقه، منهم الطفلة وأمها، حتى سقطت الأم عفوًا فوق كتفي إحداهن موشحة بالسواد مثلها، مالت ناحية أذنها اليمنى، همست بصوتها المسموع الذي لفت انتباه الجميع من حولهما، عرف كل من فوق المركب أن الأم سوف تترك طفلتها أمانة حتى يتم تسليمها لضابط الشرطة.. لأنها وأباها يخشيان على صغيرتهما من الغرق وشر المجهول!

مضت الأيام وعرف الجميع عني الصمت، لم يكن يحرر لساني طوال ساعاتِ اليقظة للأيام المعتادة الرتيبة، إلا حديثي من القلب عن أشواقي لملاقاة أبويَّ أو حتى رؤية قبرهما الغارق تحت مياه السد العالي! كما لم أكفَّ عن رَصْدِ حادثة لم أرها، عن بشاعة صُوَرٍ تخيلتُها لهما أثناء اندفاع تيار جارف من المياه البنية، بكل ما تحمل من بقايا الكائنات الحية والميتة، وكيف انقضت على أبي وأمي وحشرتهما في رمال القاع وصنعت لهما مقبرة؟!

كانت كلماتي كفيلة بأن تثير خيال وأفكار بل وأحزان مهندس الري وزوجته، لكنهما شعرا بالورطة.. ها أنا ذا أبكي أبويَّ، على الرغم من مرور السنوات البعيدة، وها هو ذا السد باقٍ يعمل لنصف قرن ويزيد، حتى لا يمكن تصور أحوال البلاد دونه.. الغريب والعجيب أن تضاربت مشاعر الرجل وزوجه قبل وفاتها، بل وزادت بين أمرين.. بين تعاطفهما مع أحقيتي في الحزن، وفرحتهما مع المصريين بخير السد العالي!

****

بأي همس كان همس الله لي في أذني، جعلني أقبل كل ما سمعت وما طلب مني من هؤلاء الأغراب (سي عبده) وزوجته (هانم)، هو الهمس الذي جعلني أشقُّ طريقًا عِشْتُه لعشر سنوات أو يزيد، ومع ذلك احتفظت بشيء واحد لم ينجح أحدهم أن يناله مني، جعلته لي وحدي.. هو اسمي الحقيقي الذي رفضتُ البَوْحَ به لمأمور نقطة البوليس، وسي عبده ذات نفسه، اسمي (نوارة) أو (نوارة عبد الرحيم)، وفي الحقيقة لا أعرف اسم جدِّي! ذات مرة سمعت سي عبده يتحدث مع زوجته عنى ويقول: (على الرغم من بساطة سلوكها وملابسها، مع نظراتها البليدة، تبدو جميلة في صمتها، مع ارتعاشة شفتيها إن نطقت، تبدو دومًا وكأنها لا تعرف ما يجب عليها أن تقوله أو تفعله.. لكن عندي شعور أن بطن تلك الجميلة كله كلام!)».

فتعقب الست هانم تقول: «عندما رأيتها أول مرة، حاولت أن أشرح لها كي تقتنع، وتهدأ بأن أبويها تاها، وهما في طريقهما إلى المركب التالية للمركب التي نقلتها وحدها إلى أسوان، لم يذهبا ﺇلى المقابر كما تفهمين»، أقول الحق صدقتها ﺇلى حين، لكن بعد بعض السنوات، قضيتها في الدعاء لهما بسلامة وصول المركب الشراعي الآخر، فلما لم يستجب الله لي بدأت أبكي، ولا يسعني الدعاء أن أطمئن على أنهما ما زالا أحياء. تحيرت هانم وزوجها وهما يتابعاني.. نعم شعرت بهما يتابعان معًا أو فرادى وأنا أدعو لأبويي، ثم وأنا أبكي أثناء صلاة العيد أو صلاة العيدين، وأنا أتحدث إلى ظلي معاتبة أبواي على قرارهما بالبقاء في مقابر الأجداد حتى أغرقتهما مياه السد!

أثناء تلك الأيام البعيدة، ما كنت أقتنع وأكف عن السؤال، وأنا أتحدث إلى السيدة طيبة القلب هانم: «لماذا تركتني أمي وذهبت؟!.. كان من الممكن أن تأتي معي أو أبقى معها ومع أبي؟!.. كيف وجدت القلب الذي وافقها على قرارها الغريب، بالله عليك يا (ست هانم يا أم الجنرال) موافقة إن الغلط راكب أمي من ساسها لرأسها؟» انتفضت هانم إلى درجة أنها نهضت من فوق الكنبة الأسيوطي التي تجلس عليها، بدت كمن فزعته لدغة عقرب!.. كيف تفكرين هكذا؟ تقابلين حب أبويك بكل تلك الكراهية! هنا زاد لهاثي، عاتبت الست هانم طويلًا لأنها فهمت من أسئلتي أنني أكره أبويَّ.. عُدْتُ وقلتُ: «أنا أسأل.. أسأل فقط!».

المدهش أن تفاصيل هذا الحوار عندما تكرر بعد سنوات قليلة بيني وبين هانم، واستمر حتى ماتت هانم، تجدد مع الباشمهندس.. وبمعناه نفسه وإن بدا بكلمات مختلفة، كأن أقول: «الحنان لا يباع ولا يشترى، ما عند أهلي قلب، ماتا عمدا وتركوني وحدي؟!» يعمد مهندس الري المحنك إلى الصمت، لكنه يبرر فعلته أحيانا: «معك حق، السكوت أفضل.. طوال خمسين سنة تعاتبين أمك وأبوك بدلا من الدعاء لهما بالمغفرة!» كثيرًا ما يتعمد افتعال مهمة ما كي يبتعد عن مجلسي، وأنا المستربعة فوق كليم دمنهوري يكسو كل الغرف أو فوق النجيلة الخضراء بالحديقة الخلفية للبيت، حسب فصول السنة.

منذ سنوات بعيدة، بدأت رحلة سي عبده في التهرب من مجلسي، مجلس قراءة فنجان القهوة، تلك هي الميزة التي وهبني الله إياها، ولا أدري كيف عرفتها في نفسي، ولماذا تتحقق كل نبوءاتي؟! لن ينسى الكبير والصغير يوم أن لمَّحْتُ بإصابة هانم بمرض عضال! يوم أن تكاسَلت عن إعداد فنجاني قهوة العصرية، كلما ألحَّا علي طلب القهوة أدعي وكأني لم أسمع، بينما حتى الأمس.. مع الدقة الخامسة أعدو عدوًا كي أعد فنجاني القهوة. فلما انتبهت هانم أنني عامدة متعمدة لا أريد تجهيز القهوة، بينما لا تحلو الجلسة مع زوجها إلا مع القهوة، أقنعت رأسها بمبرر يخصها: ربما أكون مريضة، فهما لا يعرفان عنِّي التمرد. فور أن هَمَّتْ بالوقوف لتجهيز القهوة بنفسها، تمتمت: وهو يعني لازم شرب القهوة وقراءة الفنجان؟.. فسألني «سي عبده» الذي انتبه لي، عما أتمتم به، لم أرد، شوحت بكفي، ابتسم فابتسمت هانم، لعلها كانت البسمة الأخيرة، ففي الجلسة نفسها التي أخبرتها فيها بنبوءة المرض العضال، ونصحتُها بالذهاب إلى الطبيب، بينما لم تكن أم الجنرال تشعر بما يجعلها تفكر في تناول قرص من الأسيرين..!

****

(3) العدو المتخفي الذي لم يستسلم

مرض السرطان الذي ظننته بادئ الأمر مرضًا مهلكًا، يبدو معه المريض محبطًا وخائر العزيمة قبل أن تنهك الأعصاب وتسقط قوى التحمل. سرعان ما تَبَدَّلَتْ نظرتي ﺇليه، ليس لأنني أيقنت أنه غير ما وَصَفْتُ، لأنني رأيت الست هانم، وهو اللقب الذي فضلت أن أناديها به، وكثيرًا ما عاتبتني وأمَرَتْنِي في غضب أن أناديها بـ«ماما».. ما كان مني ﺇلا كلمتان اثنتان: «ماما ماتت.. ماما غرقت، وانت عارفة..»، قلتها وأنا طفلة صغيرة، وقلتها وهي على فراش المرض!

لن أصف لك ما كنت عليه لحظة أن تأكدت من ﺇصابتها به بعد الاطلاع على التحاليل، لكنني أتذكر ما قالته هانم فور أن عبرنا عتبة عيادة الطبيب، وكنتُ بِرُفْقَتِها: «هل لعبتِ لعبة الرهان وأنت صغيرة يا جميلة؟».

لم أنطق، ربما لأنني لا أرغب في الحديث ورأسي ممتلئ بأسئلة أهم.. فتابَعَتْ وحدها: «هي لعبة يلعبها الأولاد في الشارع، كنا مع البنات نلعب (الأولى والحجلة)، فاقترحت عليهنَّ أن نلعب (الرهان). لم تكن فكرة اللعبة التي اقترحتها ﺇلا لعبة الأولاد، لأنهم يراهنون على نتيجة الفوز في لعبة (السبع طوبات) ولعبة (العسكر والحرمية).. فكرتي أن نتراهن عمن لا تستسلم! وضح أنهنَّ لم يفهمْنَ ما كنتُ أقصده، وشرحتُ لهنَّ أن الفوز يكون من نصيب من تقاوم ولا تستسلم، مهما تعرضت من أعمال قاسية!».

فانتبهت لها من شدة دهشتي: «وبدأ من كنت أظنهن ضعاف القوة صاحبات قلوب حنونة.. ينقضضن علىّ انقضاض الوحوش لكي أنطق وأقول (استسلمت).. أصبح الرهان بينهن على من ترغمني على أن أنطق الكلمة..! وكانت أقسى محاولة تعرضت لها، أن قبضت ﺇحداهن على فمي وفتحتي أنفي حتى احتقنت أذناي وأرنبة أنفي، ولم أستطع التنفس.. مع ذلك لم أستسلم!».

فيما بعد فهمت أن ما تردده تلك السيدة ليس ﺇلا تعبيرًا عن رغبتها في المقاومة.

****

لا أدري لماذا كلما جمعتني جلسة العصرية شتاء وجلسة المغربية صيفًا في الساحة الخلفية للبيت، شرد سي عبده ثم يقول ويكرر بلا ملل ولا كلل: «لولا جميلة الطفلة والشابة.. ثم المرأة كاملة الأنوثة العذراء، لولاك كان شكل الأسرة تغير..»، لما قالها فيما مضى ذات ليلة لزوجته، وهو يتابع قشة صفراء تطفو فوق سطح مياه النيل من أمامه، علقت هانم بشيء من الغضب ووصفت نفسها بأنها كما الكرسي الخيزران الذي تجلس عليه.. فهمها زوجها وضحك طويلًا ولم يعلِّق، ففضلت أن تبرح مكانها وتنام مبكرة!

بقي عبد الوارث على يقين جازم بما في رأسه نحوي، وهو يدعي بأنني لم أكبر مثلهم.. المدهش أنه ينطقها هكذا ولزوجته أيضا: «بقيت جميلة على نعومة بشرتها السمراء المشدودة منذ أول يوم عرفتها فيه، وحتى اليوم!».

لا تنتهي الجلسة في سلام، فما كان من الست هانم ﺇلا أن تسأل مبحلقة في نِنّ عينيه وتسأله كيف عرف نعومة جلدها منذ سنيين طويلة؟! فيضحك الرجل سعيدًا بغيرة زوجته وبنظراتي التي تبدو سعيدة أن يكون شجارهما حول جمال جسدي. تذكرتُ الآن ولن أنسى يوم أن أفرجت ما بين فخذيها، دفعتني وأصبحت قريبة من صدرها، وقالت: «انتبهي لنفسك، جميلة الصغيرة ما عادت طفلة، أصبحت أمًّا صغيرة، أو يمكن أن تصبح أمًا، بعد أن جاءتها البشارة كل شهر لتخبرها بتمام أنوثتها لثلاثة أيام أو أكثر.. وهكذا بدأت تنبهني عما يجب عمله في تعاملي مع أطفال الأسرة الذكور، محذرة أن أقترب من ملمس جلد أي منهم.. أن أعاملهم كما أمهم التي لم تلدهم.. فقط».

مضت الأيام، رويدًا لم يفهم الذكور ﺇلا ذكورتهم التي بَدَتْ بدورها تنهض من خلف جلودهم، فتراود الواحد منهم فكرة الدفء بين أحضاني، واحتواء نعومة أي مكان من جسدي، وليونة لحمي.. والحق يقال لم أكن غبية حتى لا أفهم افتعال الولد الجنرال والولد علام يرتميان في حضني، وفي أي موضع كان، بحجة مطاردة أحدهما للآخر، فأبتسم..! لك أن تضيف ما شئت من مشاعر دفينة نائمة أو قل خامدة توقظها تلك الاحتكاكات المفتعلة، التي لا أنساها مع أقسى الأعمال المنزلية مشقة؛ فلا عليَّ ﺇلا أن أبدأ العمل التقليدي وأشرد عمدًا أو عفوًا، فأبدأ في استحضار الأحاسيس والمشاعر والمشاهد والخيالات، أبدأ في مراجعة التجارب الهينة والخبرات.. أتذكر تعلُّق تلك اليد الصغيرة القوية بثديي اليمنى، فابتسم وأسأل رأسي: «لو كان عفوًا من الولد الجنرال، لماذا كان يُسرِع ويقبض على الثدي اليسرى؟»، العجيب الجميل أن يكرر علام فعلة الأخ الأكبر بالحركات نفسها، وكأنه كان يرصدنا ويتابع ما كان يدور بيننا في ليالي الشتاء الباردة ﺇلا من دفء المطبخ!

****

لم تكن مهمتي محددة بأوامر ونظام فرضه عليَّ مهندس الري ومن قبله زوجته التي ماتت بالخبيث، ولا تُدهَش لو علمت أنني من يضع الخطة وينفذها، على الصغير والكبير فيهم، وﺇن بدت هيئتي مع الصمت.. الأنثى الغلبانة ضئيلة الحجم، هينة الصوت، عليها توفير لوازم البيت من السوق، مع رعاية الصغار مع سيدة البيت يدًا بيد.. ثم نهضت بكل ما يلزم وحدها. أما وقد أخبرتني الست هانم أنني أصبحتُ الشابَّة التي يتطلع إليها الرجال، وعليها مراعاة سلوكها وطريقة حديثها وحتى طريقة الخطو على الأرض.. منهم من سيقرر الزواج ويتقدم للأستاذ عبد الوارث.. كانت المفاجأة أن رفضت الفكرة، بررت ذلك بشدة تعلقي بها، وهو ما لم يقنع هانم حتى يوم وفاتها!

طوال السنوات التالية، طلبت من «سي عبده» أن يراجع نفسه وينظِّفَ قلبه الأسود! أعلم أنني الوحيدة القادرة على أن أنطق بتلك الألفاظ عيانًا بيانًا أمام عينيه وظله. وكثيرًا ما كنت أسمعه يهمس ﺇلى نفسه: «تظن جميلة أنني أبغض أولادي؟!».. فيلمحني ويكفّ التمتمة، يدير حوارًا معي: «كل الموضوع، لا أجد المبرر لسلوكهم الفظ معي، كلما نالوا من مكانة رفيعة بين الناس!»، بدوري لم أجد مبررًا، لتمتمة عبد الوارث : «كبيرهم (الجنرال) ضمن قيادات الشرطة لقوات الأمن المركزي، والثاني (علام) الإعلامي الشهير في الصحافة والإذاعة والتليفزيون والجديد على شبكة الإنترنت.. أما ثالثهم (عصام) فلم يتخرج في كلية الحقوق بعد، ومع ذلك فهو مثلهما، عليه لعنة الله وغضبه! ما زال الصراع باقيًا بينهم وبين سي عبده، لا يهابونه ولا يحترمون شيخوخته؟!».

المدهش الذي لا أفهمه من تصرُّفَاتِ الأب، أنه يعتقد أن كل تصرفات الأولاد معه من باب محاولات الهيمنة عليه، وعلى ما يملك.. بداية من لقب الجد الأكبر الذي ينتسب ﺇليه، فيقول: «لولا أنهم من صُلبِي ما ورثوه!» حتى عتبات البيت في المنصورية، البيت الذي كان يومًا بيت الأمة في الناحية بل والمحافظة كلها.. والداعم لبيت الأمة في العاصمة مع سعد باشا زغلول والوفد.

علمتُ أن الجدَّ الأكبر «الشيخ المصري»، لم تشغله السياسة بأكثر من أيام سطوة «سعد»، اندفع الجد حينها بكل العزم ينادي: «يحيا.. يحيا سعد، ويسقط اﻹنجليز».. وعندما علم بمقولة «سعد» قبل موته إن صدقًا أو كذبًا أنه قال: «مفيش فايدة».. فضل متابعة أجداده من سلالة الشيخ «الفولي»، وتفرغ لحراسة النهر أمام القرية، وبانت له الكرامات، حتى شيد الفلاحون له المسجد، وﺇن عابوا على عبد الوارث وأولاده تجاهلهم لتجديده.

****

خلال جلسة بوح قبل المغرب أمام مياه المنصورية، قال سي عبده: «الطريف العجيب، كم من مرة أتابع أولادي عفوًا، أضبطهم وهم يتفاخرون بنسَبِهِمْ إلى جدِّهِمْ الأكبر بإجلال وتكبير، حتى أنهم اعتادوا تسجيل أسمائهم ملتصقة بالجد الأكبر (المصري) دون المرور باسمي، أنا الأب الذي أنجبهم من صلبه.. لكني لم أنتبه هل هم على اتفاق اعتزازًا بـ(السياسي المصري) أم (الشيخ المصري)»؟!

هذا ما يقوله هو، أما أنا فأشهد أمام الله أن الأولاد يُسعِدُهم كثيرًا ويتفاخرون على شاشات التليفزيون، وبين رجال الشرطة الكبار، وحتى في حفلات السمر بين طلبة السنة الرابعة من كلية الحقوق.. أن جَدَّهُمْ له كرامة السير فوق المياه ولا يبتَلّ، قدوته في ذلك كل من له قدرة على مجرى مياه نهر النيل، كما لجدهم الأكبر، سيدي الفولي في محافظة المنيا. يقسمون أن جدهم تلقى عنه بالتوريث ما انتقل ﺇليه، ومن الكتب القديمة وتعلم؛ كيف يسيطر ويحاصر التماسيح الآتية من أدغال أفريقيا حتى موضع قبره أو مقامه في مدينة المنيا اليوم، بينما يتفاخرون ولا أدرى من أين أتتهم تلك المعلومة.. أن الجد الأكبر الشيخ المصري نجح بدوره في محاصرة التماسيح مثل الشيخ الفولي، بدايةً من حُدُودِ البلادِ الجنوبية فورَ اجتيازِها خطَّ الحدود السودانية.. ويرددون في فخر واعتزاز: «جدنا الأكبر (الشيخ أو السياسي المصري) تفَوَّقَ على (سيدنا الفولي) إذًا»!

ذات يوم تجرأ الأب «عبد الوارث» وقال لأبنائه منفردين، فهم نادرًا ما يجتمعون معًا في البيت الكبير: «قرأتُ في الكتب القديمة عن العارف بالله (أبو اليزيد البسطامي) مقولته: (لله خلق كثير يمشون على الماء ولا قيمة لهم عند الله، ولو نظرتم إلى من أعطي من الكرامات حتى يطير فلا تغتروا به حتى تروا كيف هو عند الأمر والنهي وحفظ الحدود..)».

وهو ما قال به الإمام الشافعي: «إذا رأيتم الرجل يمشي على الماء أو يطير في الهواء فلا تغتروا به حتى تعرضوا أمره على الكتاب والسُّنَّة». بعد فترة صمت طالت، تابع سى عبده وقال: «الشيخ صاحب المقامة والإمام قالاها (لا تغتروا..)، فما كان من الأبناء الثلاثة فيما بعد أن قالوا: «ولكنهما لم ينكرا..؟! » أمام إصرار الأولاد الثلاثة، لم يتنازل الأب عبد الوارث عن فكرته ويقينه، لكنه قال في نفسه: «وأنا أيضًا فخور بجدي، كذبوا أم صدقوا.. الشيخ المصري جدي قبلهم..!» ما أدهش الأب، يوم أن حاول تقديم التفسير العلمي لتكذيب أفاعيل الشيخ المصري؟ لم يجد ما يوافق عليه ثلاثتهم، وحده، حاول أن يشرح لأبنائه التركيب الكيميائي أو الذري للماء -وهي تعبيرات حفظتها دون أن أفهم معناها - وأن القوام يعتمد على خصائص هيدرولوكية.. فقاطعوه ولم يتابع الأب المهندس صاحب العقلية العلمية، فشل في مقابل العقلية الأمنية والإعلامية والحقوقية.. عندما انتبه الأب إلى تلك الفكرة وتلك المحاولة، ضحك كما لم يضحك من قبل، وهو يتساءل: كيف يعجز العلم أمام إجراءات الأمن ومقولات الإعلام وبنود القوانين؟!

فيما بعد تابع أحدهم لعله «علام» وقال: «بل هناك من مشي على الماء من الصحابة، يذكر ذلك عن سعد بن أبي وقاص في معركة القادسية هو ومن معه، وكذلك العلاء بن الحضرمي حين بعث إلى البحرين، قال أبو هريرة: (فمشينا على الماء، فوالله فما ابتلت قدم ولا خف بعير ولا حافر دابة، وكان الجيش أربعة آلاف)». لحق به الجنرال قائلا: «من التابعين أبو مسلم الخولاني غزا أرض الروم فمروا بنهر، وقال لأصحابه: أجيزوا بسم الله ومر بين أيديهم فمروا خلفه على الماء، فلم يبلغ من الدواب إلا إلى الركب، وكان يدعو ويقول: (اللهم أجزت بني إسرائيل البحر، وإنا عبادك في سبيلك فأجزنا هذا النهر، ثم قال: اعبروا بسم الله)».

لم أجد ما أعقب به، حتى أن سي عبده تَحَيَّر، وقال: «أحب جدي الشيخ المصرى، وربما بأكثر منهم ولكنني أيضا مهندس الري الذي يعرف أسرار الماء كلها، ولا أرى في أولادي الثلاثة إلا فكرة يبحثون بها على ما يميزهم ويرفع من شأنهم عنوة عن غيرهم دون جهد يُذكر!».

فيما بعد اكتفيتُ بالصمت واعتدت سي عبده في هدوئه وعصبيته، وفي صحوه ومنامه، وتحيرت كثيرا أمام الأبناء، ولكن لا يقل حبهم في قلبي عن حبي لأبيهم.

بمضي الأيام.. أصبحتُ أنا سيدة البيت التي تدير وترعى وتنصح، وربما أسِبُّ أحيانًا، لكن في عِبِّي دون افتعال أقدم نفسي للقادم أو البائع ومع كل غريب.. أنا سيدة البيت، فلا يعترض سي عبده، واعتاد الأبناء الثلاثة هذا السلوك في صمت.. حتى الفلاحون القريبون من البيت، اقتنعوا بأنني الستّ الجديدة، وزاد الغمز واللمز بخبر زواج عبد الوارث سرًّا بي، لم أنكر ولم أوافق، أبتسم في صمت.

أقول كثيرًا ما كنتُ أسعى لأن أقدم نفسي كما الصبية العذراء الخجلة، وفي الحقيقة أسعى لأن ألفت نظر القادم، حتى بعد أن جاوزتُ الخمسين. فهم عني عبد الوارث تلك الصفة أو الحالة أو الرغبة الدفينة داخلي، ولم يعترض بل كلما بانت له.. ابتسم وهو يتمْتِمُ في نفسه: «كذب جميلة جميل.. هذه السيدة لم تكذب في حياتها إلا في بَعْث دلالها بعثًا، ربما لأنها لم تتزوج، ويكفيها نظرات الرضا، ربما الإعجاب من الآخرين تذكِّرها بنفسها وأنها مرغوبة».

رحلت أم العيال «هانم» إذًا، ماتت في منتصف العمر، بعد أن نال منها الورم الخبيث على حين غفلة، بدأ وانتشر وشاع خلال شهور قليلة، بينما بدت الزوجة التي شاركت زوجها حاله وترحاله بطول نهر النيل وحتى في رحلته إلى أوغندا، بدت وكأنها تتحدى أعراض المرض، كما لو كانت قررت ألا تخور قواها، بينما ترفض متابعة الفحوص وبعض العلاجات، حتى إن كان مقدرًا لها الموت، فليكُنْ سريعًا بغير ألم! ظنَّت «أم الجنرال» بتجاهل أعراض العلة سوف يملها المرض ويرحل، بررت فعلتها فيما بعد، أثناء لحظات الاحتضار، بأنها حاولت المقاومة، لعلها تنجح وترى أولادها في منازلهم ووسط أولادهم، تتابع وهى تنظر إلى سقف الغرفة الباهت: «الحقيقة كان نفسي أشوف أحفادي يكبرون أمام عيني»!

أتمنى أن أعيش في لحظات ممزوجة بالفرح واللافرح. أشعر أحيانًا بأنني أحب، أعشق، أتمرد، أفرح لأن الحياة تقف عندي، لحظات أخرى أنسحب، أتكور في داخلي، أنعزل، أرفض من أحب».. تتابع هانم وتقول قبل موتها: «مزيج غامض، مختلط من الانفعالات العشوائية، ربما نابعة من علاج مسموم يدخل خلاياي ليقتلها أو يُبِيدها، وفي حينها أحتاج إلى استعادة طاقتي وشَحْنِها لأقف مبتسمة بل عالية صوت الضحكات.. الأمر ليس مرهونًا بمزاجي وإنما هو لعوامل هرمونية عصبية تقتحمك لتحجم سيطرتك على ذاتك، لتتفاجأ لاحقًا بأنك لم تُحبَّ قطّ كما أحببتهم، وتريدهم حبًا معشوقًا لتصبح أنت سجين مرضك، بل هي علاقة مدمجة بالحب لتشعر بها جازمًا.. العاطفة تخرج من ثنايا أعضائك لتنعش خلاياك المسرطنة، نعم الحب يقتل السرطان بل يقتل الموت. عشتُ الموت مرات عديدة مع السرطان، كانت عيناي وروحي على قيد الحياة، شعرتُ بحالة جنونية من الأمل في كل لحظة كان جسدي يموت بها، أحببت الحياة لدرجة اعتقدت أنني في الحياة الثانية، صارت الطبيعة مطلبًا والهواء روحًا والسماء طموحًا، هي أنا في لحظات السعادة التي غمرتني وأنا أقاتل سرطاني بيدي، حين لمستُ ثديي المصاب وقبلته مجازًا لأقول له: أنت أنوثتي وعنوان حياتي.. لذلك لن أتخلى عنك».

صدقت النبوءة، رحلت هانم أم الجنرال، ليس لعجز الأطباء، بل لأنها فقَدَتْ الرغبة في مقاومة المرض نفسه، لسبب أقنعَتْ رأسها به.. أنها لن تسمح للمرض بأن يُفقِدَها أنوثتها! كما رحل بعدها الجنرال، أو الولد البكري الذي لم يمُتْ، بل رحل إلى القاهرة، إلى حي العباسية حيث التحق بكلية الشرطة. منذ ذلك اليوم ما عاد إلى بيت أبيه إلا نادرًا، في الخميس والجمعة أثناء الدراسة، وليوم أو يومين كل شهر أثناء الخدمة، بعد تخرجه في الكلية، حتى تزوج.. من ثم أقام في حي الزمالك وما عاد يزور أباه، اعترف لزوجته قائلا: «تصدقي أحيانا توحشني جميلة أكثر من عبد الوارث.. كثيرًا ما يعبِّر عن سعادته لأنه يقضي حياته في معسكرات الأمن المركزي، بالمناطق المختلفة في طول البلاد وعرضها. الطريف الغريب أن ينال الولد البكري لقب الجنرال حتى قبل أن يلتحق بكلية الشرطة، و يصبح جنرالًا في الواقع وعلى الحقيقة.. فهو اللقب الذي فرضه على أصدقائه وأخويه، وقبلهم جميعًا عليَّ، وتوليتُ الترويج للقب ومناداة الصغير بالجنرال، حتى نسي الجميع اسم «رامز».

****

(4) رامز الجنرال!

وحدَه الولد الجِنّ «رامز»، يقدر أن يفعل هذا: أن يمرَّ على دُور القرية القريبة، يسحب الصبية في مثلِ عمره، يشير برأسه فيسيرون خلفه.. يشير بأصابعه فيطيعونه ويجمعون أوراق الشجر الجافة من الطرقات، وما أكثرَها!

فى الساحةِ المتربة، يضعون أحمالهم، يَلتَفُّون مِن حوله على شكل الدائرة، ثم يتربعون بملابسهم على الأرض. وحده الصبي العفيُّ طويل القامة والرقبة والأذنين «رامز»، هو القادر على حشد الجموع، في ظهيرة أيام يوليو وأغسطس الملتهبة، حيث الإجازة الدراسية، وتحت لهيب الشمس في تلك الساعة، يبدأ المشهد العجيب؛ بالعدسة السحرية التي التقطها من صندوق جده خِلْسة، يصوبها ناحية الحشائش وأوراق الشجر الجافة، فتشتعل، ويعلو لسان لهب باهت اللون مع وهج الشمس، ودخان أسود قادر على أن تراه على جفون وبشرة الصبية.

فلما شعر بالملل، قرَّرَ أن يُطَوِّرَ اللعبة أو يعدلها أو حتى يلعب بالعدسة لعبة جديدة، بدا واضحًا صريحًا هذه المرة مع رفقائه وقال:

«لماذا لا نفكر فكرة جديدة.. أن نستبدل بالأوراق والحشائش جلبابَ أحدِكم، هل العدسة السحرية ستفعل فعلتَها مع القماش أيضا؟!».

وإن صمت الجميع لخوفهم، اعترض الولد «عوض» وهو أقرَبُهُمْ طولًا إليه، عَقَّب قائلًا:

«ولماذا لا نُجَرِّبُ في جِلبابِكَ أنت؟».

قامَتْ الدنيا ولم تقعد، انتفض «رامز» مرتعدًا في غضب، بان أنَّ له صوتًا زاعقًا، قادرًا على أن يُرَدِّد العديد من الكلمات في جملة بعد جملة، كلها تحمل المعنى الوحيد.. كيف جَرُؤَ «عوض» على أن يعترض؟ وكأن سَهْمَ الله سقط على الولد «عوض»، كان أوَّل من خلع جلبابه! وهو ما تحَقَّقَ واشتعل الجلباب اشتعالًا لم يعد صالحًا بعده!

لم يشتَعِل الجلباب وحده، اشتعلت أم عوض غضبًا، وانقلبت الطرقات الهادئة إلى ساحة للشجار، ما بين مؤيد ومعارض، ما بين اقتراح بإبعاد الولد عوض عن اللعب مع رامز الجن، وإبعاد الجنِّ نَفْسِه بأي طريقة عن كل الصبية، المشكلة التي ألجَمَتْ الجميع؛ أن أباه في مأمورية خارج البلاد، للعمل على ضمان حِصَّةِ مصر من مياه نهر النيل، في اجتماع مهمٍّ أعلنت عنه الصحف ويتابعه عبد الناصر ذات نفسه.

الأهم من ذلك مَن يقدر من رجالات القرية ويجرؤ على عَرْضِ مثلِ تِلْك الفكرة المجنونة.. مَنْع أحد أفراد أسرة عبد الوارث أو أحد أحفاد الشيخ المصري من اللعب مع أولادهم؟!

طال الحوار بين الصغار والرجال والنسوة، طال بسبب كثرة أفاعيل الولد البكري.. يُصرُّونَ على البحث عن الوسيلة المناسبة لمنع مشاكله وعدوانه على أطفالهم. مع كل الحمية والاندفاع الذي مارسته أم رامز دفاعًا عن ولدها، بان لها أنه غير مرغوب فيه عند الأمهات، بَحَثَتْ النسوة عن أبنائهن ﻹبعادهم عن الولد المشاغب، ولما عَثرنَ عليهم، كانوا يلعبون معه لعبة «عسكر وحرامية»، ورامز على رأس العسكر!

****

كانَ الطقسُ هذا الصباح باردًا، ككلِّ صباحات شهر «طوبة»، صحا الجنرال مبكرًا، كعادته طوال أيام عمره، بدأت بالتحاقه بكلية الشرطة. لم يكن يظن ولا يشعر بأن «طوبة» شهر شديد البرودة هكذا.. حكَّ كَفَّيْهِ معًا بسرعة الجنرالات وهِمَّتِهم، وابتسم.. كانت بسمة باهتة مترددة، لا يختلف أحد في تفسيرها؛ فليس على الجنرال أن يعبِّر عن شعوره بالبرد، حتى بعد أن كَسَتْ جلده البُثُورُ والنتوءات!

لم تلحق بأنفه رائحة كمكمة الأيام قطّ إلا الآن!

طوال ساعات الأيام الفائتة وثوانيها ما كان يشعُرُ بالوقت ومرور الزمن، انشغل بعمله ومشغوليات الأمن عن النظر إلى عقربَي الساعة، مع ذلك لا تظن أنه تخلَّص من ساعة يده، على العكس تمامًا، بمضي الأيام امتلك أشهر ماركات الساعات العالمية، بل وبلغ الأمر أن اشترى ساعاتٍ للزينة كتحفة واشترى قديمة كأثر، زاد عدد الساعات المرصوصة على جدران شقته، حتى نقل بعضها إلى حوائط مكتبه، واحتفلوا به في أحد البرامج التليفزيونية لندرة الماركات التي يقتنيها وقيمتها التاريخية والمادية!

لا تُدهَش لو علمت أن الجنرال لا يجيد حديثًا في هذه الدنيا، بعد الحديث عن العمليات الأمنية التي ينهض بها، إلا الحديث عن تاريخ الساعات، أنواعها، والماركات النادرة منها.. ثم المهم في الأمر، قدرته على إصلاح الساعات، ولولا يقينه من عيب أن يرددوا عنه أنه يُصلِّح الساعات لأعلنها، وطلب من الجميع إصلاح ساعتهم، دون مقابل، لكنه الجنرال؛ كيف يفعلها؟!

مع ذلك يفعلها مع القِلَّة المقرَّبة منه، هُم من بقي من ضباط الدفعة الذين تخرجوا معه في كلية الشرطة، لن ينسى أحدُهُم الجزاء الذي ناله الطالب المجتهد «رامز عبد الوارث» لأن الضابط النوبتجي ضبطه مستيقظًا يصلح من ساعة يد زميله مستعينًا بكشاف ضوء صغير تحت البطانية الصوفية!

لا تدهش أن تلاحظ تأثير تلك الهواية عليه، في كل خطوات عمله، حتى لاحظ الجميع مقولته وهو يردد قبل كل مأمورية: «عدوي وعدوكم الزمن.. أنجزوا المهمة في أسرع وقت».

الآن تَهَيَّأ كي يصنع لنفسه فنجانًا من القهوة، تلك الرغبة التي واتته في صباح اليوم الأول له، بعد انقضاء فترة تحقيق طويلة معه، بمعرفة طاقم من النيابة، ثم أمضى الزمن الثقيل بالحجز التحفظي، بعد فترة قاربت على السنتين، حكم بعدها بالبراءة.

البراءة من تهمة أدهشت الجميع، يعرفونه ضابطًا ملتزمًا.. الجميع يظنون أنه بريء من تلك الاتهامات الغريبة والعجيبة، براءة الذئب من دم ابن يعقوب. كان عزاؤه أن يُردِّدَ لكل من ينهض لزيارته في محبسه الاحتياطي بعد تلك الاضطرابات التي عمت البلاد، ويقول له: «إنها أعجب تهمة يتم توجيهها إلى ضابط شرطة»!

ولا يعقِّب أو يبرر مقولته، لكن المقربين منه يعرفون تفاصيل ما حدث كله: فقد أحاط بعض المتظاهرين بكل مداخل أقسام الشرطة ومخارجها، وهم يهتفون ضدهم وربما ضده تحديدًا، الجنرال يظن ذلك ﺇن عن حق أو باطل.. ببساطة حاولوا اقتحام المبنى، فأمر الجنرال بالدفاع عن هَيْبَة الشرطة، ولو استدعى الأمر إطلاق النيران!

تدافعت الجموع لاقتحام مديريات وأقسام الشرطة، فجَدَّدَ الأوامرَ بإطلاقِ الذخيرةِ الحَيَّة على المتظاهرين بطول البلاد وعرضها.. وبعد متابعة ميدانية واطلاع على التقارير الأمنية، زاد غضبًا، بينما أحد مساعديه يتمتم: «هل تقرر هذا القرار الخطير يا فندم؟!».

لم يتابع مقولته، وضح للجميع أنه لا يتحدث هامسًا.. ما أثار الجدل وشجع الجميع، ما بين معارض وموافق، ولأنه الجنرال الحاسم في قراراته وعنده دومًا ما يبرر آراءه قال:

«ليس هذا وقت المناقشة والفلسفة.. يجب أن نعالج المشكلة باعتبارها مشكلة أمنية وليست سياسية.. ليس من الأمن أن نترك أيًّا مَن كان يقتحم مديريات الأمن وأقسام الشرطة.. يجب التنفيذ فورًا.. سوف أتابع معكم.. إن كانوا من الشرفاء أو البلطجية.. لا فرق عندي».

يشعر كأنه بات مجموعة من الحواس تشاركت معًا وتلبسته، شكَّلته على هيئة الجنرال طويل القامة، عريض المنكبين، منتفخ الصدر، فوق قدم تعاني من فطريات لا تشفى منذ سنوات، من فرط ارتدائه لحذائه الميري طوال ساعات النهار، وحتى ما بعد منتصف الليل.. وعلى جانبي بطنه حصوات مدببة تنز الدم من كليتيه، بسبب قلة شربه للمياه، وعندما تعاتبه زوجته يبرِّر بقوله: «نسيت..!».

****

(5) عَلّام اﻹعلامي

بعد أن تعلَّم الطفل «علام» حروف الأبجدية وحفظها بصعوبة بالغة، كان أول درس للصغير في المدرسة، أن يكتب ثلاث كلمات: ماما، بابا، مصر.. كل كلمة ست مرات في السطر الواحد، وفي كل الصفحة، هكذا للكلمات الثلاث، وهو ما جعل «علام» يكتب السطر الأول فقط ثم يعلن تمرده.. برر فعلته الغريبة بأنه يحبهم كلهم من غير أن يملأ الصفحة بكلماتهم!

فاقترح المدرس أنه سوف يعفيه من العقاب، لو كتب الكلمات الثلاثة غيبًا على السبورة، شعر علام بالورطة، وبعد أن كان يدعي اﻹصابة الغامضة التي تؤلمه في أصابع كفه اليمنى، وجد أن ما يُصاب به من الخجل أمام تلاميذ الفصل كله، لعنةٌ مُؤلِمَة بأكثر من ألَمِ جهد كتابةِ الكلماتِ الثلاث، رَمَقَه المدرِّسُ في غضب ثم انقض عليه، وأمسك بالطباشيرة المعلَّقة بيد علام الصغيرة، وبقوة حكَّها في السبورة يكتب الكلمات الثلاث.

الطريقة الفَظَّة التي استخدمها المدرس، لم تنفع مع مكر الصغير.. فهو ممن يجدون في الصبر على العنف، تمردًا أقوى من عضلات المدرس وحتى من غضب أمه! وحدها جميلة لا يبيت في نفسه منها شيء من غضب مهما كان، يبرر هذه المشاعر بأنها لا تترك له فرصة للغضب، وعلى أهبة الاستعداد أن تنفذ كل طلباته، تلك التي أصبحت شائنة فيما بعد من نظراته الخبيثة!

منذ ذلك اليوم البعيد، وهو يقول إن المدرس تفوق عليه لأنه أقوى منه، فقط ولأنه أكبر سنًا، وقرر الصغير أن يكون قويًا.. ولا يعلم حينها ما معنى القوة؟ وما نوى عليه ذلك الرأس الصامت غالبًا الملآن بالأفكار الغامضة. ولا يدري ما برأس المدرس وما خطط له؛ مما جعله في الحصة التالية يتوجه ﺇلى علام، يغرس عينيه في رأسه وسقط على الملابس الفخمة المخالفة للزى المدرسة ثم الحذاء الغالي اللامع، بل تَوَقَّفَ عند شعر الولد الناعم الطويل.. فهم أنه من الأثرياء ويريد أن يبدو مختلفًا، وهو ما حَفَّز المدرس ، فاقترب منه.. اقترب بشدة حتى كاد يلامس أذنه، قال: «اسمع يا ولد.. أنت تلهو وتدلع في بيت أمك كما ترغب.. أما هنا في المدرسة، فأنت تفعل كل ما نأمرك به، وتنفذه بالضبط صحيحًا بلا خطأ.. والآن اكتب الثلاث كلمات وبخط جميل..». كان من الواضح أن المدرس يجهل ما كان يفور في رأس الصغير، وكيف أنه يجيد لعبة عدم الاستسلام التي تعلمها من أمه!

كاد يعلو صوت ضحكات تلاميذ الفصل، انتبهوا جميعًا على صوت أول صفعة على وجه علام المحتقن، وفورًا غلب صوت الضحكات المغلولة، فكان الألم من ضحكات تلاميذ الفصل أشد وأقسى من صفعة المدرس الذي همَّ متابعًا: «هه ماذا قلت لك.. نَفِّذ ما آمرك به فورًا». لزم الصغير الصمت، مما أثار غضب المدرس، ووضح لمن يدخل فجأة أن الغاضب المنفعل هو المدرس، بينما الصغير يبدو متماسكًا محتقن الوجه فحسب.. كان من الممكن أن يظل المشهد هكذا حتى نهاية الحصة، نهاية اليوم الدراسي، لولا أن المدرس انتبه لحل يرضيه: «اذهب، واجلس في مقعدك».

الحقيقة لم يذرف علام دمعة واحدة على الرغم من شدة ألم الصفعة التي نالها.. لكنه بكى بحرقة وهو يقص على مسامع جميلة تفاصيل ما حدث، لم تنتظر طويلا، مالت نحو أذنه تسأله:

«لكن ما سبب عنادك يا علام؟ لماذا لا تكتب الكلمات الثلاث كما يطلب المدرس..؟» فلما طال انتظارها، أدارت وجهها وذهبت وهي تقول: «الظاهر أنك تعاند مدرسك يا عفريت يا شقي.. الله يضحكك!».. وضحكت حتى خرجت من الحجرة!

****

علاقة علام بجميلة أخذت منحى آخر، فهي عنده المرفأ الذي يلجأ ﺇليه.. بداية مع السؤال عن وجبةٍ يُحِبُّها، ولا تتحمَّسُ أمه لإعدادها له، وتقول: «لن أجهز طعامًا على مزاج كل واحد يا ولد.. لازم تقبل ما أجهزه لكل أهل البيت».. بينما تقول جميلة: «عيني يا حبيبي!» ثم تنهض، ﺇن كان في منتصف الليل كي تقلي حبة البطاطس، أو تعد عجينة الكيكة.. وغيره.

بمرور الأيام لم يعد علام في حاجة ﺇلى جميلة كي تغسل له وجهه كل صباح، ولا ردفيه بعد أن يتخلص من فضلاته، أصبح له الأصدقاء يلعب معهم، ويسمح لهم بالتسلل ﺇلى الجزء الخلفي من البيت، على غفلة من الجميع ﺇلا من جميلة، التي تعلم وتبتسم، تقول له: «أنا مبسوطة منك لأنك بتلعب مع أولاد الفلاحين أهلك، ولا تتعالى عليهم وتأمرهم مثل أخيك الجنرال!» لم يعد علام يعشق الجلوس ﺇلى جوار جميلة طوال الوقت، وﺇن تمنى أن يفعل، لولا أن أمه نهرته وكادت تلكمه لكمة حقيقية، رحمته منها جميلة، فعلتها وهي تقول له: «كبرت يا ولد على اللصق في جميلة».

الحقيقة ثورة الأم ما كانت بسبب جلوس الولد ﺇلى جوار جميلة، بسبب جلوس الولد بين فخذي تلك الشابة الناضجة المعبأة بالأنوثة المتفجرة! مع ذلك لك أن تعلم أن سبب الثورة التي ألمَّت بالأم ليس ذلك فقط، بل لأنه لا يريد أن يبرح موقعه، ويبدو شاردًا تائه الرأس زائغ العينين! فلما سأله الجنرال عن سر غضبة أمه عليه، أخبره الخبيث الصغير بأن جميلة تحبه، وحتى لو كف الجلوس بين فخذيها، فهي تلاحقه بنظراتها أينما ذهب، حتى وهي منهمكة في أعمال المنزل!

صحيح لها بسمة مفعمة بالحنان، لكن ماذا تقول عما أخبر به الولد ﺇلى أخيه، أن جميلة لها من الأفعال ما يجعله دائخًا شاردًا مُنتَفِضًا؟ أحيانا تعبث في شعره ثم تذهب، ومرة تغلق عينيه بيدها في صمت، ثم تعدو ﺇلى حيث تغسل أو تطبخ، ومرات تنفخ في أذنه فتتغلغل أنفاسها في جسده.. بعد أن قص واعترف وكشف كل دواخله لأخيه، نظر ﺇليه وأخبره بأنه لم يبح بسره مع جميلة لأي ﺇنسان، وحذره من فضح تلك العلاقة السرية..! في تلك اللحظة فقط انتبه الولد الجنرال ﺇلى حقيقة لم تخطر له على بال.. أن جميلة لم تعد الفتاة الصغيرة بل المرأة الصغيرة! وهو ما أثار الأفكار التي ما كانت ترد على رأسه لولا ما كشف عنه علام. راودته الفكرة: أنا أولى من علام بامتلاك جميلة، والاستفادة بجمالها وخدماتها الظاهرة والخفية؟! لكنه وهو من هو، يجب أن ينال منها أكثر كثيرًا مما تقدمه للصغير علام!

****

أصبح الصغير علام، الإعلامي أو الصحفي الشهير «علام عبد الوارث» بعيدًا عن بيت أبيه، بحجة الانشغال في عمله، فهو الإعلامي المتَحَمِّس صاحب المقولة الشهيرة: «حقيبتي بيتي» يظن يقينًا أن تلك المقولة هي التي لفتت انتباه رؤسائه إليه، وسر نجاحه، دونها ما كان حقق ما حققه.. حيث بَزَّ زملاءه، وأصبح رئيسًا عليهم، ثم أصبح ضمن هيئة إدارة الصحيفة الكبيرة، وليس قسم الحوادث فقط.

فى اليوم الأول له تَسَلَّم العمل، دخل على رئيس قسم الحوادث، قَدَّمَ نفسه وقَصَّ ما تم من ﺇجراءات في ﺇدارة شئون العاملين، فابتسم الرجل البدين القصير وهو في الأربعينيات من العمر، قال: «أعرِفُ.. أعرف كل ما تقولُهُ.. مع ذلك تابع.. تكلم!» كان من الممكن أن علام يشعر بالورطة، أو بالخجل أو حتى بالشعور بعدم جدوى ما ينطق به. ما حدث أن تابع يصف كل صغيرة وكبيرة، وكيف استقبلوه؟ وتحدثوا معه؟ ورأيه فيما دار وما يجب أن يحدث ويتم من إجراءات في حالة تعيين الشباب الجدد؟!

ضحك البدين القصير وأصدر حكمه بسرور: «أيقنتُ الآن أنك مناسب جدًّا للعمل معي في قسم الحوادث!.. مَن يلتقط كل صغيرة وكبيرة، و يقدر على استعادتها، هو صاحب المواصفات المطلوبة للعمل في قسم الحوادث».. قبل أن ينتهي الحديث، بينما علام في فُرجة باب الغرفة الزجاجي، صاح عليه رئيسه، سأله عما يحمله في حقيبته، أكيد لا يحمل أوراق عمل! بثقة أجاب الشاب علام: «هذه الحقيبة بها صابونة وليفة ومنشفة، شبشب زنوبة وغيار داخلي، وطقم من قميص وبنطلون جينز غير الذي أرتديه..». قاطعه الرجل: «ما معنى هذا؟» ابتسم علام قائلا: «لأنني أعرف مهمة صحفي الحوادث، فهو الصحفي الوحيد المطلوب ليل نهار، لذلك قررت المبيت في الصحيفة في انتظار الأوامر بمتابعة أي مأمورية في قسم شرطة».. شرد رئيس القسم للحظة قصيرة ثم تمتم: «هذا الولد نموذج لصحفي الحوادث!» ثم ابتسم.

****

القسم الثاني

* ماذا يعني الصمت؟

كان لا بد لبصيص من الأمل ينفلت من مظنة احتمال خطأ ما جمع بينهما، ربما كانا يبحثان عن «عبد الوارث المصري» آخر، وليس عن شخصي.. أنا أبوهم وجِدّ أبناءهم وحما زوجاتهم! عند الجهة الخلفية للبيت، أخذت في السير جيئة وذهابًا صامتًا، ذراعاي متهدلان إلى جواري، طلعتي لا تشي بالرغبة في الحركة، بينما الليل بلا مذاق ولا يبدو عليَّ مشاعر الاطمئنان.. ظلمة غلبت وطغت، نجوم شاحبة ولا تتلألأ، وﺇن بدت هامدة فوق صفحة مياه المنصورية.

شعرت ببرودة الطقس غير المحتملة لمن تجاوز السبعين مثلي، بينما لم تكفَّ الأتربة الهينة من الاندفاع في زخات غبية غير مبررة.. خصوصًا وهي معبأة برائحة الأمونيا التي وخزت خياشيمي، من فرط تراكم البول البشري والحيواني فوق جانبي رافد مهم من روافد النيل. عيناي تريان الأرض من تحت قدمي بالرغم من الظلمة، أسترجع ما حفرته الذاكرة.

أحفظ كل شبر فيها، ولا تعنيني رؤيتها جلية، مع كلالة البصر.. ها هنا حفرة غائرة صغيرة، حولها لعبتُ مع الصِّبيَة من جيراني الفلاحين بِكُرَات زجاجية أو بـ«البلي» الملوَّن، واختبروا مهارتهم، مَن ينجح في ﺇسقاط البلية في الحفرة عن بُعد مناسب.. بينما هناك طُلُمبة مياه صدئة، ولأنني ورثتُ عادةَ عدم التخلص من النفايات عن جدي، بَقِيَت مع العديد من الأدوات الزراعية المحطمة غير الصالحة، تمامًا كما تراكمت المقاعد الخشبية والأرائك فوق بعضها على الجانب الآخر. وغيرها كثير، ولا يعنيني ما يتقوَّل به أولادي بعنجهيةٍ وتمرُّد!

كل ما نفر مني وشغلني وجعلني في حيرة؛ لماذا فعلوا بي وبأنفسهم ما فعلوه؟!

****

* البيت الكبير؟!

لم يشغلني ذو النون ولا نقيق الضفادع، رأسي خزينة بلا أبواب، وبحر متلاطم الأمواج، أعني الأحداث والذكريات.. لا تسألني لماذا تذكرت تلك الأحوال التي تغيرت فجأة، أي الكلمات تناسب التعبير عما كنت فيه، خلال أيام قليلة انقلب السكوت إلى ثرثرة؛ والصمت غير مسموح به؛ قرر الجنرال وعلام إرسال أزواجهما وأولادهما للبقاء في بيتي عنوة! حتى عصام لَحِقَ بالجميع، وإن تردد على استحياء في البداية، كان قراره النهائي أن يبقى إلى أن يشاء الله أمرًا كان مقضيًّا، قالها لي هكذا فور أن دخل مشعثًا مغبرًا.. لم أفهم ما به ولم يَبُحْ بالتفاصيل الحقيقية!

ممكن ومن الجائز والمحتمل والمفروض أن يصبح هذا الغزو البشرى ميمونًا لعجوز مثلي، ولجميلة التي لا تَمَلُّ من شغب الصغار وثِقَل دم الكبار! ما أدهشني أنَّ ما دار في رأسي واعتراضي على اقتحامهم بيتي وانشغالي وقِلَّة حيلتي، لا يشغل جميلة، رأسها لا تشغله الأفكار، هذه المرأة لها ألف قلب وبلا رأس!

وجودُهُمْ على حال الفوضى تلك، يضيف أعباء جديدة على جميلة.. رأيتُ زوجتَيْنِ هما امرأتان ناضجتان ولهما خبرة في بيتيهما، لا يجهزان فنجان الشاي لأنفسهما، كأنهما خُلِقَتا للفراش وحسب! مع ذلك رفضت جميلة اقتراحي لها بأن تهمل كل ما يخصّ الأولاد وأمَّيْهما، وحتى الأبوان حين حضورهما ومعهما الأعزب، على كل من في البيت أن يخدم نفسه، كل مسئولٍ يرعى رعيَّتَه.. عندما نطقتُها كذلك.. أخفت النسوة شفاهَهُن، وضحك الصغار بصوت مسموع!

رفضت جميلة اقتراحي، ونطقت عفوًا بعنوان الفيلم الأجنبي الذي لم تشاهده - لم تذهب للسينما لمرة واحدة في حياتها، لولا التليفزيون ما شاهدت فيلمًا -: «كلهم أولادي»!

فيما قبل، وقتَ أن كنتُ أستطيع القراءة على ضوء شمعة أو ضوء القمر، كنت أحتفظ بعدد من الكتب التي لا استطيع قراءتها خلال الشتاء قارس البرودة والأيام شديدة الحرارة، الآن أفضِّل طقوس البقاء تحت أشعة شمس الصباح وحتى ما قبل الغروب، مع احتساء عددٍ غير قليل من أكواب الشاي والينسون والقرفة الساخنة.. أما الآن؛ حتى البقاء جالسًا في صمت تحت الشجرة، لم أعد قادرًا على تحقيقه! ما كنتُ أتصوَّرُ أن يصلَ الإزعاج إلى هذا الحدِّ الذي مَنَعَنِي من القراءة، ومن شُرْبِ مشروباتي الساخنة!

يقول قائل: عدمُ القراءةِ منطقي ومبرر، ما المانعُ من الشُّرْب؟ ببساطة لأن الهكسوس يلقون بالكرة وبأي أجسام صلبة كانت أو لينة في كل اتجاه، وحتمًا ترتطم بالأكواب، وهو ما كان وحدث بالفعل، فطلبتُ من جميلة أن تكفَّ عن عاداتها وشرحت لها كيف أن الكثير من العادات المستقرة يجب أن تنتهي.. ولا بد من بعض القسوة!

المدهش أن جميلة اعتادت طوال السنوات الماضية، عدم الاقتراب والوقوف أو الجلوس إلى جواري أينما كنتُ، خجلًا أم من باب الاحترام والتقدير؟!

أراها مع مقدَمِ الهكسوس وقد تملَّكَتْها عادة جديدة؛ أن تسعى إلى حيث أجلس وتجلس إلى جواري أو تقف خلفي! عمدتُ إلى تشجيعها على أن تتخلص من عادتها القديمة وقلت لها: «أنت صاحبة بيت يا جميلة، حمايتي واجب عليك، اقتربي مني أكثر!».

لم أر لمحةَ ابتسامٍ أو غضب، لم أرَ قبضةً لعضلة واحدة تقلَّصَت من عضلات وجهها الأسمر اللامع، ولم أشعر إن كنتُ تجرَّأْتُ واقتحمت أسوار حصنها الخاص.

منذ متى أتحدث عن جميلة بصفة أنثوية؟ طوال الخمسين سنة لم أشعر أو أتحدث أو حتى أفكر بأنها أنثى.. لماذا لم أنتبه إليها من قبل؟ أليست جسدًا مبروم الردفين يتحرك بحكمة ووقار، فلا تغالي رِدْفَة في انفلاتها، ولا تفرِّط في انحناءات لينة متماسكة.. أليست صاحبة الثديين النافرين، لم تعبث الأيام بسطوتهما.. أليست عيناها سوداوين من غير كحل ولا تحتفظ بالمرمدية العاج.. بل هي المرأة التي رسمها محمود سعيد في لوحته، بينما يظن أنه لم يخلق مثلها في البلاد، يخيب ظن الفنان العتيق أكيد لو كان في موقعي الآن.

لما ارتطمت الكرة برأسي فجأة، أعترف أنى انتبهت من شرودي، نظرت نحو جميلة التي عاتبتني على أني أصِفُ الشياطين الصغار دائما بالهكسوس، فشلْتُ في إقناعها وكففت عن المحاولة، حتى تأكَدَتْ بنفسها أن سلوك الشياطين وجنونهم دفعها إلى حيث تقي نفسها من بطشهم. سبعة أطفال تشكلت بهم العصابة، يُمارِسُون شطحاتهم علىّ وعلى المسكينة جميلة، وكل فرد منهم عصابة وحده، فلا أراهم مجتمعين مبتسمين إلا وهم متلاصقو الرؤوس يدبرون مؤامرة ما.

سمعتُ ذاتَ ظهيرةٍ وَقْعَ خُطواتٍ شديدةٍ على الأرضِ، تأتي من الداخل، من غرفة نومي، وقد أصبحَتْ غرفة الجنرال وزوجته.. ولكنها جاءت غير منسقة كمشية الضباط، وهو ما أقلقني إن كانَتْ لابني الجنرال، فلما فتح الباب ورأيتُه، نعم كان هو الجنرال ولكن بملابسه المدنية، وقد نسيتُ شَكْلَه وهيئتَهُ وهو داخل البنطال والقميص الصوفي والبلوفر الأسود المغزول بخيوط من الصوف، ما كنتُ أراه إلا بملابسه الميري؛ سواء في لقاءاته النادرة أو على صفحات الجرائد.

سألتُه عن سِرِّ ما أرى، وعن سبب وجوده ها هنا بينما البلد مقلوب حالُه؟ وعن سرِّ هذه الملابس الملكية التي يرتديها.. ماذا حَدَثَ، أين إذًا الزِّيُّ العسكري المهيب؟ قبض الجنرال على إحدى رُكبتَيْهِ ثم قال: «البيت بارد جدًا.. ما كنت أظنُ أنه أصبحَ باردًا هكذا!»، لما عُدْتُ وسألته عن آخر مرة دخل فيها الدار لم يُجِب! لعله نطق وقال ما قاله، فقد جاء صوته مكتومًا للغاية، وخاليًا من نبرته المعروفة عنه عندي على الأقل.

حالا قررت جميلة أن تجهز الإفطار، وبعد خُطوَتَيْنِ إلى الأمام، عادت لتسأل الجنرال عما يُحِبُّ أن يأكله في صباح يومه الأول في البيت، فنظر إليها وابتسم بسمة باهتة للمرة الأولى وقال: «لا أدري إن كانت ميزة أم عيبًا أن نظل طول العمر دون أن نتغَيَّر.. سواء إلى الأفضل أو حتى الأسوأ، لم يتغير فيك شيء يا جميلة، حتى من يراك لا يُعطِيك سنَّك الحقيقية.. معقول؟!»

لم تُعَلِّق جميلة، لم تنطق ولم تبتسم ولم تكشر، ولم يبِنْ عليها أنها سمعت ما نطق به الجنرال منذ قليل.. بقيَتْ على سحنتها المحايدة التي يصعب أن تعاديها أو تعاتبها على شيء.. فتابع الجنرال: «ممكن آكل من عمايل يدك أي أكلة».

لم تتحرك جميلة ولا يبدو عليها أنها غضبت أو فرحت، تدخل الأب وطلب منه أن يحدد ما يُرِيد تمامًا ويصفه، حتى لا يضع جميلة في مشكلة الاختيار بين أمرين؛ فهي لا تبدو مرتبكة وحائرة في أمر ما، قدر حيرتها في الفصل أو الاختيار بين نقيضين، ولو حتى بين أكلتين.

تلك هي الحالة التي عليها جميلة منذ أن سنوات، زادَتْ العِلَّة وتألمت منها بعد أحداث ميدان التحرير، ولا يعنيها منها إلا أن أولاد عبد الوارث اختلفوا، كل منهم يحارب من أجل احتلال الجزء الأكبر، أو الأهم في تقديره من البيت القديم الكبير.. أكثر ما يُحَيِّرُها في الموضوع أنها غاضبة من سُلُوكِهِمْ الغشيم، لكنها هي التي رَبَّتْهم وأدخلَتْهم الحمَّامَ صغارًا، وأطعمَتْهُم وعلَّمَتْهم كيف يرتدون أحذيتهم؟ وكيف يتناولون الطعام باليد اليمنى.

ما سألوا على أبيهم لسنين، عندما ضاقت بهم الدنيا على سِعَتِها، عادوا إلى الدار وليس إلى أبيهم! بل وكل أسرار مراهقتهم معها، وبعد زواج مَن تزوج منهم، كثيرًا ما كان ينحني على أذنها للبوح بما لا يمكن أن يبوح به لأعز عزيز، ولا لأبيه على الرغم من كونه أصبح رجلًا!

وقَعَتْ جميلة في الحيرة لأول مرة في حياتها بين حبِّها لكل الأولاد والأحفاد، وتقديرها لمكانة عبد الوارث المصري التي كادت تتلاشى.. زاد الجميع من إهماله للرجل!

****

(1) اسمعي يا «جميلة»

بعد أن فَرَغَ البيت من الجميع، لم يبقَ غيرُك معي يا جميلة، أظن أنه من الطبيعي أن تكوني لي وأكون لك، أكثر مما نحنُ عليه الآن، تسألينني كيف.. لا أدري؟! انقضَتْ الأيام والشهور والسنين ونحن على هذه الحالة، مع الصمت الذي يكسو الجدران والأسقف وأغطية سريري والمرقد البارد شتاء، والحار المؤرق بالصيف. الأشياء من حولنا في منزلنا القديم هذا تبدو دومًا بلا ظِلٍّ يؤكِّدُ وجودَها إن ليلًا أو بالنهار. بدَتْ لي في هذا الشتاء الجديد أكثر برودة من كل السنوات الفائتة.. ربما لأنه جاء على حينِ غفلةٍ، وما كانَ كذلكَ، يبدو أن ربَّنا سَحَب البركة من حولنا حتى مع ﺇحساسنا بالزمن وبالطقس!

كنت أشعر بحرارة الصيف وأنتظر ارتفاع الرطوبة وانخفاض درجة الحرارة في الشتاء، وعلى مهل تأتي ليالي الشتاء الباردة.. ولا تفسير عندي للهجمة الشرسة التي تأتي بزمهرير الشتاء هكذا إلا لأن الدنيا انقلب حالها.. يقولها عبد الوارث مع كل جلسة مع جميلة! لم تعتَدْ جميلة أن تُعَقِّب أو تتحاور، ليس خوفًا أو كرهًا أو حتى زهقًا وضيقَ صدرٍ، من سُلُوكِ أفراد الأسرة معها.. بل شاءت «جميلة» أو حتى لم تَشَأْ، أن تكون على حالة الصمت تلك، تظُنُّ أنها في وجود عبد الوارث، لا يعوزها شيء.. وﺇن خلصت ﺇلى حكمة تعلَّمَتْها من الأيام؛ أن الثرثرة تُفقِدُها الكبير قبل الصغير.

لم تنشغل جميلة، ﺇلا بمسئولية البيت الكبير.. تُقابِلُ الباعة عند باب البيت، أو في السوق أو لشراء دواء ما من صيدلية القرية. جيران القرية لا يرون سكان البيت شبيهَ بيت الأشباح هذا، ولا حتى يرون أحدهم يزورُ جدَّهُمْ في مقامه بالمسجد المسمى باسمه «ضريح الشيخ المصري».

يُعَدُّ ضريح الشيخ مولانا «المصري» مزارًا طاهرًا.. كلُّ سُكَّانِ القريةِ يُقَدِّرُون فَضْلَه عليهم، لأنه من تلاميذِ الشيخِ «الفولي» في المنيا.. وكما كان مولانا «الفولي» يحمي مدينة المنيا، وما بعدها على مجرى النيل حتى البحر المالح، فَعَلَها مولانا «المصري» يحمي الدور والقرية كلها من غَدْرِ فيضان مياهه، ومن الحيوانات المفترسة والغامضة التي قد كانَتْ تقذِفُها مياه النيل!

****

ما يُزعِجُ سكان القرية أن مهندس الري وأولاده، لا يذهبونَ للصلاة في رحاب مسجد الجدِّ، لا يشترون كِسوَةً خضراء من القطيفة لمقامه، ولا حتى الحصير لصلاة الغلابة، لا يشاركون في الاحتفال بمولده، ولا حتى بذبيحة ضأن عجفاء. منذ الشهور الطويلة الماضية، الولد المتمرد الغاضب «عصام».. ما عاد متعلقًا بالمبيت في حجرته، بسبب البقاء في القاهرة مع أصدقاء السوء.. أو هكذا يُرَدِّدُ الأب، أن سبب غياب طالب الحقوق الشاب العفيِّ صاحب بطولات الجامعية في الملاكمة. فلما عجز عن إقناعه وفاض به الكيل، قالها وأعلنها جلية بعد أن كانت مخاوف وظنونًا في الصدر فقط: «يجب عليك أن تُعلِنَ عن إخلاصك لي وإثبات تعلُّقِكَ بي وبالبيت الذي ضَمَّكَ، وإلا اعتبرتُكَ مثلَ المتمرِّدين الخَوَنة رامز وعلام!».

لا يعبأ عصام بشيء، يفضل الصمت، ليتركه يُثَرْثِر إلى دواخله وحده، وربما وهو ﺇلى جوار جميلة، أمام المياه الجارية، سواء وهو فوق الحشائش مع مقعده الخيزران في الأجواء الدافئة، أو في الصيف ليلًا.. يتابع المياه تجري، أو من خلف الحواجز الزجاجية، وهو فوق المقعد الوثير، الفوتيه المكسو بالأقمشة - التي كانت ثمينة زاهية الألوان - في أيام البرد والقشعريرة.

قاطعته جميلة وطلبت منه ألا يصف أولاده بالمتمردين الخونة، بالخصوص «عصام» ولده المتفوق في كلية الحقوق، وهو أمل باقٍ لها وله. ببساطة وهدوء كعادتها تابعت تُذَكِّرُه بعجزه وكِبَرِ سِنِّه.. لم تَعُد صحته تتحمل المناهدة: «خاف على نفسك.. الولد سند لنا».

بدت جميلة قادرة على إنجاز مهام المعيشة الضرورية داخل البيت.. من تنظيف وإعداد الطعام وغسل الملابس وكل متطلباته، كثيرًا ما تشعر بالقلق والاضطراب حين تخال أنها عجزت، بعد أن نال منها العرج الهيِّن، كأن الأيام عمدًا نبهت ساقها اليمنى ما كانت تشكو من كسر قديم ولم تشف تمامًا، الآن يعاودها اﻹحساس بالألم غير المبرر!

انتفض الرجل ونفرت منه ما يشبه الكحة عن غير عمد، تلك الحالة العصبية، تنتابه وهو يتحدث أحيانًا، كأنه بها يعطى لرأسه مهلة للتفكير.. ولأن جميلة تعرف عنه تلك الفزعة غير المقصودة، لا تقلق ولا تتململ من فوق مقعدها المجاور لمقعده.. فضلت أن تجلس على المقعد الخيزران الخاص بهانم، وبمرور الوقت التصقت حواف المقعدين، ومالت برأسها حتى تسمع «سي عبده» وهو ينطق همسًا!

مع ذلك لم تُقَصِّر في تقديم الخدمات المناسبة لزوجتَيْ الولدين الكبيرين وأطفالهما، وقد أقاموا جميعًا بالبيت الكبير.. وحيث انشغال الجنرال واﻹعلامي في أمور لا تعنيها ملأت الدنيا ضجيجًا لم تفهم معناه ولا أسبابه. وﺇن لفت انتباهها أن سي عبده انشغل بما يدور فوق الطرقات على شاشة التليفزيون أكثر مما قبل.

****

فلما عاودا الجلوس معًا وحدَهما ثانية، جميلة وسي عبده، في الجزء الخلفي من البيت الكبير المطلِّ على الترعة، بعد مضي حوالي الثلاثين شهرًا، وقد حُرِما منها طوال فترة احتلال الهكسوس للبيت، سألها: ماذا تقولين في الولد الجنرال، وعلام المذيع أو الصحفي المشهور؟ هل تعرفين ماذا حدث لهما بعد أن انتهى احتلالهما للبيت، حتى سريري ما كان لي أثناء وجودهما الغبي.. ومع ذلك لم يتصل بي أحدهما بعد أن تركا البيت وعادت إليهما سطوتهما القديمة؟!

طغى صمت جميلة.. لدقائق طالَتْ لم تُعَلِّق، فلا تُعَقِّب ولا تتساءَل ولا تُجِيب ولا يبدو عليها مشاعر القبول أو الرفض. نعم.. عادت جميلة سيرتها الأولى، حتى سألها: «أنتِ يا مَنْ تجلسينَ إلى جواري، ما عادَ الصمتُ يُجدي.. أخبريني إن كنتِ ما زلت على قيد الحياة، أم انتقلت إلى هناك مع «أم الجنرال».. الله يرحمها؟!»، ثم تابع وحده: «كيف لا يسرِقُ انتباهَك مشهدُ الغروب، والشفق الأحمر، بينما قرص الشمس يغرق خلف يابسة هناك؟ انظري باهتمام وانتبهي.. هل ترين ما أرى؟ الخيال الطويل الأسود يتحرك بسرعة بين أشجار النخيل على الضفة الأخرى.. الخيال يقترب، ربما يدبر مؤامرة لقتلي وقتلك..». قبل أن يتابع مبتسمًا، بدت جميلة منتبهة بحقٍّ وهي تشدُّ من عزمها، تقف من جلستها وتقترب من عبد الوارث.. تهم وتقترب أكثر كثيرًا عما قبل، لم تنتبه، بل لعلها منتبهة تمامًا، أن كُرَتَيْ الثديين احتويتا رأس الرجل وأنَّ أنفاسه الساخنة تدغدغ رقبتها من بعد، وبالرغم من الطرحة السوداء فوق رأسها، لم تصمد طويلا وانزاحت حتى كان شعرها المبروم حول رقبة عبد الوارث.. لم يتململ الرجل، ولم يحاول أن يَنْهَرَها وهي تسعى مُخلصة لأن ترفعه من تحت إبطيه في صمت.. مع دلائل الدهشة ابتسم وقال لها: «ماذا تفعلين يا عجوز، أنا أثقل من وزنك؟! أيام شبابك لم تلتصقي بجسدي؟!».

بسرعة أجابت على غير المعتاد: «سوف أحملك حتى سريرك.. أراك تُخَرِّفُ أسمع منك كلمة من الشرق وكلمة من الغرب.. لم أفهم ماذا تريد، جائز أنك في حاجة لأن تنام، النوم نعمة ربنا ما يحرمك منها يا سي عبده»، فتابع الرجل: «إذن اقتربي أكثر!»، لم تجد العجوز من الجرأة ما يجعلها تنطق بالكلمات التي واتتها، ولا بالأفكار التي ملأت رأسها حيرة.. طوال سنوات وهج الشباب والصحة ما حاول عبد الوارث أن يفعل معها تلك الفعلة، ولم ينطق بكلمة واحدة تعني أنه يرغبها ويراودها.. «يا حوستي»، نطقتها بصوت مسموع، ثم أسرعت تعدو وحدها إلى داخل البيت، وفي ركن قصي منه ارتمت ﺇلى الأرض وجلست القرفصاء.

****

تستطيع أن تقولها باطمئنان.. بعد أن بقيت جميلة إلى جوار عبد الوارث، لم تَتْرُكْه، لم تُهمِل طلباتِهِ وترعاه بعد أن تخلى عنه الجميع.. الزوجة بالموت، وبعدها الأولاد بسبب خدمة الوطن كما ينطقها ابنه البكري والثاني من بعده؟! الجنرال لا يملِك وقتًا لرؤية الرجل مرة كل أسبوع.. كل شهر.. يعقب رامز على عتاب الأب قائلا: «بالضبط هي فترة الإجازات أصعب أيام العمل عندنا.. الناس تنام وترتاح، ورجالي ينهضون في صمت بمهماتهم التي قد يجهلها الجميع..». فلما عاتب الأب ابنه اﻹعلامي ضحك الخبيث قائلًا: «أنت تراني يوميًا على شاشة التلفزيون!».

بينما لم يتمكن الأب من معاتبة الصغير عصام وقد أطلق عليه لقب «فرقع لوز» أو القراقوز. أما جميلة، البقية الباقية من زمن الرغد والترف؛ أحيانًا يداعبها مبتسمًا: «أخطأنا أن أطلقنا عليك اسم جميلة..» فتهتز رقبة العجوز في صمت، لا يتركها سي عبده طويلًا، عاد وقرر قرارًا، أن يقولها: «يا أيتها الأميرة الأفريقية»، مرة في الصباح ومرة في المساء.. لم ينطق العجوز «عبد الوارث» بمثل تلك الأوصاف الجميلة، التي جعلت الدوار والدوخة يملآن تجويف جمجمتها الصغيرة، ويجعلانها تنتفض بما لا يراه أحد، لأن قلبها الصغير العجوز هو ما انتفض.

انتهت جميلة ﺇلى نتيجة مُقنِعة، تُرَدِّدها بعد صلاة كل فجر جديد: «سي عبده يا روح قلبي زعلان من ولاده، وصعبان عليه نفسه، فين ح يودِّي الحنية اللي في قلبه دي كلها..؟!». بمضي الدقائق والساعات والسنين، يتأكد لجميلة أنَّ اللهَ وحدَهُ هو مَن وَضَعَ ذلك الرجل في طريقها.

****

(2) * ماذا يعني الصمت عند عبد الوارث؟

يعني الصبر.. ربما، يعني السكوت عن الثرثرة وحسب.. جائز، يعني انتظار ما لا بد منه بدٌّ.. أشكُّ، أصبحَ الصمت هو الأغنية الحزينة الخفية تحت جلده الأسمر، أغنية لم تُطلِقْها كل أفاعيل الزمن، بطول سنوات عمره.. وعمدًا لم يشأ أن يجترَّها، كأنه بصمته عن ذِكْرِها يُخفِيها عفوًا وعلى غَيْرِ رغبةٍ منه، أثناء جِلْسَتِهِ في المغربية، وهو على مرمى خطوات من مجرى المنصورية، تذكر سنوات عمره التي طالت، يشعر بها كما الركام فوق كتفيه، بسرِّ أفاعيل أولاده التي عجز عن تفسيرها، لم يعجز وحده، شاركَتْه جميلة قلة الحيلة في صمت.

ربما لو كان تكلم وتحدث إليهم، ثم سَبَّهُمْ وسبَّ جِدَّ أجدادِهِمْ، ربما كانوا انتبهوا إليه واستمع منهم، وفضفَضَ كلٌّ مِنْهُم إلى الآخر، وما انشغلوا أكثر بتشييد جدار الصمت عاليًا هكذا. لم يغفُ ليلةَ الأمس، بقيَ يقرأُ أغلبَ ساعاتِ الليل، وبإمعان تابع عددًا غير قليل من صحف النهار الفائت، ما زال يُفَضِّل قراءة الصحف أحيانًا على الرغم من تعب العينين، وحتى بعد شيوع الكمبيوتر والشبكة العنكبوتية، ومن قَبلهما التليفزيون صاحب الألفِ محطة أو قناة للمشاهدة!

هي الصحف بأخبارها التي تبدو دومًا قديمة مستهلكة، الصحفيون المحنكون، جعلوها مثيرة لافتة كذبًا، فقط من أجل المزيد من المبيع، وإلا أغلقت الدار الصحفية وتشرد الجميع. عندما بلغ تلك اللحظة التي نبَّهَتْه دون أن يدري.. ابتسم، تمتم: «قريبًا سوف يجيء الولد «علام» الصحفي الكبير ويُقِيم معي! لكن الملعون لن يفعل، نجح في احتلال ساعة يوميًّا على شاشة قناة تليفزيونية شهيرة، لم يعد في حاجة إليَّ.. إلى أبيه!».

الصحف عنده أرحم من صراخ المعروض على شاشة التليفزيون، خصوصًا «علام المصري»، أكثر ما يدهشه نجاح ابنه منقطع النظير! كان يراه تلميذًا غبيًا، ويراه كبيرًا رجلًا بليد المشاعر والأحاسيس.. يراه كما الخرتيت في معاركه، ينفعل لمرة واحده ثم ينسى عدوه أو موضوع فكرته، ليس من باب تجاوز العداوة أو المشكلة، هو الغباء، على حد تعبير عبد الوارث!

آخر ما آثاره وشد انتباهه، ما أدهشه ليلة أمس، فور قراءة جملة أسئلة حول أسماك السلمون، في ركن من الصحيفة مخصص للأطفال، فشغلته الأسئلة، شغلته اللعبة؟! لماذا هجرة أسماك السلمون؟ مَنْ يُرشِدُها إلى منابع أنهار المياه العذبة؟ من يَقْتُلُها هناك؟ والمتبقي منها يعود أدراجه إلى المياه المالحة الباردة، ومع ذلك تعاود الرحلة في السنوات التالية؟!

شرد مع الأسئلة التي حملته ورفعته ثم طارت به، ثم حطَّتْ هناك بعيدًا عند منابع نهر النيل التي زارها وعمل فيها فترة من الزمن، لشهور شاهد فيها أسماك السلمون الأحمر تتقافز فوق كل العوائق قادمة من الشمال البارد نحو الجنوب الدافئ لكل البحيرات التي يعرفها بعد الحدود المصرية.. لم تدم طويلًا معَه، فقد تم تشييد السد العالي، وفقد السلمون وجبته الشهية في المنابع بعد الصيام الذي يطول لشهور.. انتبه عبد الوارث، ولم يشغل رأسه بالإجابة عن الأسئلة.. ألقى بالجريدة بطول ذراعه إلى الأرض، تذكر أولاده الثلاثة، يأتيه شبحهم على حين غفلة، كما أشباح الحكايات القديمة، أو حتى أشباح مسرحيات شكسبير وروايات هاري بوتر! يتساءل: «هل تجاوزت حدودي مع أولادي، لم أحسن الظن بهم؟!».

****

«عبد الوارث المصري»، احترف الحديث عن القرى والمدن المُطِلَّة على النهر، وبتحدٍّ يسرد حكايات لا يعلم أحدهم عنها شيئًا، كل من يجلس إليه، رغبوا في ذلك أم نفروا، لا يهم، ولا يدرى أحدهم ﺇن كان صادقًا أم كذبًا. لا يتردد في وسم من يجهل أسئلته عن أسماء السدود والقناطر بل تلك الهواويس على بحر النيل - لاحظ أنه ينطقها هكذا كما العامة من المصريين، ولا يقول نهر النيل، يظن عبد الوارث أن أولاده انشغلوا بأنفسهم وأحوالهم، ولم ينتبهوا لنهر النيل، وبسبب تلك الخصلة جُبِلوا على التمرُّد وقلة الأصل وأهملوا أبوهم نفسه!

أصابته علة «غواية النيل» وأمعن حتى جعل علة وجوده ومعيار علاقاته مع الناس حتى مع أبنائه هي درجة معرفتهم وحبهم لأسرار نهر النيل. يعيش أيام وسنوات حياته الأخيرة وحيدًا، إلا من تلك العجوز «جميلة»: «أنت بخير يا جميلة؟!»،ما كان يجعله يشعر بالورطة.. بعد كل تلك السنوات، أن يسمعها تبكي أبويها.. وها هو السد باقٍ يعطي لنصف قرن ويزيد، حتى لا يمكن تصور أحوال البلاد دونه.. تضاربت المشاعر عنده واحتدمت بين أحقية مشاعر جميلة النبيلة، والواجب بضرورة سد رمق الملايين وملء بطونهم بثمار الفاكهة والخبز.

****

زادت حالة الصمت عند عبد الوارث، و أكثر مع بداية الضجيج الذي عم البلاد، من شمالها حتى جنوبها ومرورًا بـ«المنصورية»، فشعر الرجل وكأن البلاد امرأة حبلى في لحظة مخاض، في انتظار الميلاد الجديد الذي يترقبه الجميع ويخشاه أيضًا.

اعتاد عبد الوارث خِلْوَته، لا تقتحمها سوى الشمطاء التي خبرت أعراض الشيخوخة ووجع الركبتين وقهر الدوخة أو الدوار المفاجئ، مع ذلك لم تتنازل عن مهامها المنزلية.. تُعِد وجبة الغداء المسلوق مع الكرفس والبصل المشوي يوميًا، طوال السنوات الطويلة مع أم العيال، لم تتعلم منها وجبات الطبيخ المسبك ولا طواجن البامية بلية الخروف، ولا الطرب المحشو باللحم المفروم، ولا المحاشي بأنواعها والمشويات بصنوفها.. حتى باتت مسار السخرية من الجميع أثناء وجودهم في الشهور السابقة، ولم يبق سوى الرجل الذي لا يعترض البتة، وعصام الذي غالبًا ما يتناول طعامه في كافتيريا الجامعة والمطاعم الشعبية في حي الحسين أو باب الشعرية وبولاق أبو العلا مع زملائه.

اعتادت جميلة أن تتابع معه ما تنقله شاشة التليفزيون، وبإلحاح تُكَرِّر أن يجيب عن أسئلتها الدهشة وهما يشاهدان قناة «ناشيونال جيوجرافيك» وبرامج عالم الحيوان في القنوات المختلفة.. كل ما تحرص جميلة على مشاهدته من برامج، تلك التي تتناول حياة الحيوانات والطيور وكائنات البحار.. ولا تصبر على فيلم تتابع مشاهدته باهتمام إلا فيلم «شريهان» الطوق والأسورة، أو أغنية «زينة» في أحد أفلام فريد الأطرش.. ليس لسبب إلا لكونهما ينقلانها إلى زمن غائم وغامض لأرض النوبة وأهلها قبل أن تغرق ويغرق بيتها والنخلة الباسقة أمامه.. وإن راودها خاطر خبيث لم تبُح به لأحد حتى لا يسخروا من أفكارها، يقين خفي في صدر جميلة بأنها من المحتمل جدًّا أن تقابل والديها قبل الغرق، لعلهما كانا ضمن مشاهد الفيلمين!

هكذا تبدو على يقين وهي تقترب بشدة نحو شاشة التليفزيون، وما عاد عبد الوارث يسألها ويستفسر عن سبب تحديقها هكذا بشدة في شاشة التليفزيون، مع العادة الجديدة التي تلبست عبد الوارث منذ سنوات قليلة، اعتاد أن يحتسي كوب الينسون باللبن صباحًا ومساءً.

لم يقنعها الأرق الذي بدأ ينتابه ليلًا ونهارًا، حتى جعل النوم هدفًا يبحث عنه بين طيات الكتب وفي البرامج الطبية في الإذاعة والتليفزيون.. وهو ما جعل الأب يلجأ إلى غرور أبنائه وادعائهم العلم بكل شيء.. يسألهم عن سر الأرق الذي انتابه. عرف من أحدهم أن للنوم أربع مراحل، فقد الأب نصفها الأخير لأنه عجوز وشارف على السبعين من عمره، هكذا نطق علام وهو يشعل السيجار الذي يبعث برائحة غامضة، لا هي عَطِرة ولا مثل دخان السجائر، فلما عطس العجوز واحتقن وجهه، لم يعقب واكتفى بأن أزاح بكفه كومة الدخان من أمام وجهه!

أما الجنرال الذي تصادف وجوده، لم يفكر طويلًا، هرش خده بحركة معروفة عنه، لا إرادية، واثقًا قال: «فما أطال النومُ عمرًا.. ولا قصّر في الأعمار طول السهر»، ثم ضحك وصمت وحده.

بينما تأكد لعصام مظاهر علة قلة النوم عند أبيه، وكثيرًا ما يجده في الجهة الخلفية للبيت يجلس وحده على ضفة النهر، إن ليلًا أو نهارًا، وإن شتاءً أو صيفًا.. يرمي نظرة ساخرة، ويُطنِب معاتبًا أباه الذي خلت حياته من هموم الناس، لم يعد يفكر إلا في نفسه، ولم يعد يشغله شيء في الكون، إلا النوم حتى أصبح النوم مشكلته!

خلص عبد الوارث إلى نتيجةٍ واحدةٍ، لن يسألَ أولادَه في شيء، رَجَّح رأي جميلة التي تابعت الحوارات في هدوء، وقدمت اقتراحها.. لا أكثر من احتساء كوب من الينسون بالحليب، وإن اعترض الرجل، خصوصًا لأنه بالحليب، إلا أنه بعد أول كوب أدمن تناوله.. لم يذق طعم النوم، لكنه تذوق المشروب الجديد، أضاف عِلَّة الأرق إلى العلل الغامضة التي تنتابه أحيانًا مثل الشعور بصعوبة التنفُّس أو الشعور بآلام غامضة في كل مفاصل جسده، وَجَدَ مؤخرًا كثرة الاستيقاظ ليلًا للتبول بكميات هينة بسبب تضخُّم البروستاتا، نعم برَّرَها الأطباء بالشيخوخة، ومع ذلك لازَمَتْه آلامُ المَعِدَة بسبب كثرة ما يتناوله من أقراص أدوية لم تُشفِه، ويخشى أن يكفَّ عن تناولها!

****

على قِلَّة ما تثيره جميلة من أسئلة، سألته: «لماذا تُصر على أن تصف المخالف لتعليماتك مع بحر النيل، بالظالم؟».

لم يدعها تتابع، بدأ بسرد حكاية عجيبة لم تسمعها من قبل، قادمة من أغوار الزمان.. قال: «خرج فرعون مصر من قصره ذات يوم، كان في ملابسِ المتنكِّرِ ودونَ حَرَسِهِ الأقوياء، تقابَلَ مع الكاتبِ حاملِ القَلَمِ الجالسِ عند مدخل سوق المدينة، ما إن لَمَحَه الشاب الذكي، حتى هبَّ واقفًا، ولا يدرى ماذا يقول وماذا يفعل..؟ قال في نفسه: «إن لم يكن هذا القادم هو الفرعون حقًّا، فهو من أعالي القوم ويملك سطوة إبلاغ الفرعون عما يراه ويسمعه مني»! فهم الفرعون ما دار برأس الكاتب حامل القلم، أشار له أن يتابع ما كان يقوله للناس: «انظر.. إن النيران التي كثرت في الوادي وفي الدور الطينية، لا تنطفئ بكل مياه النهر! انظر، لقد حدثت أمور لم تحدث من قبل، إذ اختطفت المزارع المياه، نرويها فلا تشبع! انظر، لقد تجاسر بعض الخوارج والأعداء، يروون الأرض بأكثر مما تحتاج إليه، ويشربون بأكثر من حجم بطونهم، ويزحفون ليلًا ويمهدون لسرقة مجرى النهر! هل كل هذا لا يكفي لمعاقبة المجرمين الظلمة الذين يظلموننا؟!» وحتى يزيد من محاولة إقناع الفرعون بقدر أهمية النيل عند الشعب، تابع فقال: «الحمد لك أيها النيل الذي ينبع من الأرض، والذي يأتي ليطعم البلاد، صاحب الطبيعة الخفية، الذي يروي المراعي، والذي خلقه «رع» ليغذى كل الماشية».

انتبه الفرعون لما يردده الشاب، ولم يشأ أن يُقاطِعَه، وسمعه يتابع: «هو النيل الذي يعطي الشراب للأماكن المقفرة النائية عن الماء، ونداه هو الذي ينزل من السماء.. النيل هو ربُّ السمك، الذي يجعل طيورَ الماءِ تذهب إلى أعالي النهر، دون أن يسقط الطائرُ.. هو الذي يُوَفِّرُ الشعيرَ والقمحَ حتى يجعلَ المعابدَ تُقِيمُ الأعياد.. وإذا أصبح شحيحًا ذعرت البلاد كلها، الصغار والكبار أصبحوا صفر اليدين، والناس تتغير حينما يهجم مياهه..». أسرع الفرعون وسأله: «أراك بليغ الكلمة حكيمًا.. وماذا حينما يرتفع النهر؟».

ابتسم الشاب وهو يقول: «حينما ترتفع مياه النيل تبتهج البلاد، وكل فرد في حبور، وكل الفكوك تأخذ في الضحك»، يبدو وكأن الطريق إلى القصر كان هينًا، وبدا قصيرًا، ما أدهش الشاب، وما أدهشه أكثر تلك الحفاوة التي قوبل بها بعد أن أخبره الفرعون بأنه أفضل مَن يكون وزيرًا له لرعاية النيل.

****

(3) * ماذا يعني الصمت عند جميلة؟

حالًا سوف توافقونني على أن «جميلة» أحقُّ سيدات الأرض بامتلاك صفتَيْ الصموت والصبور.. كثيرًا ما نتقابل مع أناس، نجلس إليهم ربما ليوم أو أكثر، مع ذلك لا نصفهم بالصمت أو الصبر، حسبهم إيماءات شاردة أو حتى منتبهة.

لم تكن جميلة أبدًا شاردة.. لأنها في الحق والحقيقة، الصدق يقال، لا تنطق أو تعقب أو تجيد الدردشة إلا قليلًا.. لأنها دومًا منشغلة بعمل ما، غير راغبة في الحكي والثرثرة إلا من طلبات سي عبده.. كأن يسألها إن كانت فرغت من عملها، ويمكنها إعداد مشروب الينسون بالحليب المعتاد، فما يكون منها إلا أن تسرع من خطواتها القصيرة الضيقة، التي تُشبِه خطوات حيوان الكنجارو في قفزاته للسير وليس في عدوه، وبها تنجح في الوصول إلى المطبخ الذي هو بمساحة المنزل كله، في الطابق الأرضي، أو هو تحت الأرض، حيث خزين كل ما يتعلق بتناول الأطعمة، من أجهزة ومعدَّات، وأجولة خزين الطحين والذرة والباميا المجففة والبصل ثم حبات الثوم والبطاطس، كذلك بعض الفاكهة التي تتحمل حرارة ورطوبة المكان، مثل التمر بأنواعه.. بسرعة تعد العجوز المطلوب، وتعود إلى أعمالها التي بلا نهاية.. في صمت.

يبدو أن أسباب تلك الحالة أو السمة هي العزلة أو شبه العزلة التي تشرنقت حولها بين جدران هذا البيت العتيق. فقد اعتاد مهندس الري الإقامة وحده في المدينة التي يعمل بها على ضفتي النهر، بينما بقية الأسرة في البيت القديم، فقط شهور الإجازة الدراسية تنتقل معه الأسرة إلى حيث يعمل.

****

تكفلت جميلة طوال السنين التالية بقراءة الفنجان الملعونة وكشف المستور وعناد أم الجنرال، ظنًّا منها أنها بعنادها تقهره دون مراجعة الطب والأطباء؟! فقد استفاقت هانم في صباح يوم جديد، على تعب قبض على كل مفاصلها وألم بمنتصف الرأس.. فقط تقول: «أشعر وكأن رأسي ما عادت مني، أشعر بها ثقيلة حتى تكاد تأخذ جسدي وتهبط به إلى أسفل».

لم تستطع سحب الشهيق الذي لا تشعر به ولا الزفير، فقط تخرج أصواتًا تشبه تنهيدة مرتعشة، أو شهقة عميقة، من يسمعها يخال أنها قادمة من أغوار حلقها حيث يبدو محتقنًا تحت أضواء الكشاف، عندما فحصها الطبيب الشاب فيما بعد.. دون أن تفكر دخلت المطبخ، لا تحمل فكرة ما لعلاج ما تشعر به، فقط تتمنى لو تتذكر ما يناسب حالتها تلك فور النظر إلى مجموعة الأعشاب وحتى رؤوس الثوم والبصل.. بدت وكأنها تترنح على غير إرادة ولا رغبة منها، وهي ترمي بكرة رأسها محدقة هنا وهناك.. ها هي ذي الحبة السوداء، وحبات السمسم والبرقوق المجفف والمشمش وأوراق نبات الريحان والنعناع، وهناك شواشي الذرة وحبات الدوم.

لا تتذكر بالضبط ما تناولته، لكنها تجرعت خليطًا مغليًّا لم تميزه تمامًا.. وسفَّت سفوفًا مقرمشة، وابتلعت ما طعمه مرٌّ وآخر حلو.. شعرت بأنها أفضل، قادرة هي على الوصول إلى حجرة النوم.. تناولت حبة دواء لا تعرف فيمَا يُستخدم، لمجرد أنها حمراء اللون؟.. وبدأت تشاور رأسها بالخروج إلى السوق والانشغال بالتسوق، بينما كل ما تفكر فيه داخل خزينة البيت، فقط تتمنى لو ذابت وسط ازدحام صنعه أجساد أناس لا تعرفهم. قالت:

«يا لنعمة نعيشها ولا ندرك قيمتها؛ أن نسير أو نقف أو نجلس وسط الناس.. بين أناس لا نعرفهم ولا يعرفوننا، لكن كلينا في حاجة لأن يبقى إلى جوار بعضنا، ولا ندري أننا هكذا معًا نشعر بالطمأنينة الغامضة التي لم أستشعرها من قبل»، ذات صباح صيفي حار، وهي برفقة زوجها في مقر عمله، مدينة المنيا هذه المرة.. بينما الشعور بالدوخة الغامضة باقٍ، حتى بعد تناول كل ما تحتفظ به في مطبخها، وبعد أن قرر الطبيب الشاب أن يكتب تقريرًا طبيًّا لأستاذه طبيب الأورام الخبيثة.. وفورًا بدأ العلاج من المرض الخبيث.

قررت «هانم» ارتداء ثيابها والخروج إلى العالم المجهول خارج بيتها.. ليس أفضل من زيارة ضريح سيدي الفولي! شاورت نفسي: «أيًّا من ألوان غطاء الرأس أنتقي، فوقعت يداي على الطرحة ذات اللون الأسود الطويلة، وارتديت بلوزة بيضاء، ورسمتُ حواجبي بقلم الفحم الأسود، دون أن أدري رسمت الحاجبين إلى أعلى، كأنني دهشة جدًا.. ووضعت نظارتي الشمسية الكبيرة التي تخفي نصف وجهي، الحقيقة تعمدت ذلك لأخفي فيها رموشي التي تهالكت مع العلاج الكيماوي، لا أنسي أنني كنت ألمح أغلب شعيرات جفوني معلقة برموش الجفون، كأنها لا تريد أن تبرح وجهي.. فلا أخذلها وأرمق عيني جيدًا وأراها تبرق متألقة، لا أدري من أين جاءت بتلك اللمعة والطلة العفية!».

زوجي عبد الوارث أحب سيدي الفولي، يدعي أنه من أجداده، وهو العارف بالله سيدي أحمد الفولى، شقيق العارف بالله إبراهيم الدسوقي.. ربما بعد أن قرأ عنه، ولأنه صاحب سطوة على مياه النهر وكائناته كلفه شقيقه الأكبر بحماية البلاد والعباد من تماسيح آتية من الجنوب.. تأكل الأسماك وأجساد الغلابة التي بلا حيلة وهم يسبحون هربًا من وهج الحر.. فما كان من العارف بالله «الفولي» إلا أن وقف عند الشاطئ تمامًا في موطئ مكان ما - فيه دفن وفيه موقع مسجده الشهير - وقف يلوح للتمساح، فيعود الكائن المفترس المفتري أدراجه ولا يتخطى حدود موقع قدمي الفولي!

فلما مات أثناء أداء المهمة، سُمِّيَت الرقعة الضيقة من حوله «منية الفولي». لما كثرت البرية والدور والمريدون من حول مدفنه، سُمِّيَت المنيا في الوسط من مجرى النيل.. ولأنني أمضيت نحو خمس سنوات برفقة زوجي في المنيا، أشهد أننا لم نرَ ولم نسمع عن تمساح خبيث وملعون استطاع أن يعبر موقع مدفن الشيخ حتى الآن.. لا أجد من يفكر لماذا لا يرون تمساحًا واحدًا بعد حدود المنيا، بل بعد حدود مسجد سيدي الفولي؟!

يستحيل هذا؛ فقديما كان التمساح الذي يمر يموت فورًا، وكان الصيادون يعتبرون المكان أمام مقام سيدي الفولي فرصة لصيد التماسيح، لأنها تجيء عند مقامه وتتوقف ولا تتحرك أو تعود راجعة باتجاه أسوان والجنوب! سمعت هذا كثيرًا ممن شاهد ذلك بنفسه، وبصراحة الأمر بالنسبة لي لا يسبب مشكلة أو تعجب لأني مؤمنة كما تعلمنا في العقيدة أن معجزات الأنبياء المادية والحسية جائزة بالكلية لأولياء الله الصالحين.. بسرِّ هذا الإيمان ذهبت إلى المقام المكسي باللون الأخضر كي أبكي، لا أدري لماذا بالضبط، لكنى بكيتُ وارتحت كثيرًا، ثم عدت إلى البيت أعد العدة لاستقبال الموت القادم لا محالة.

فيما بعد انتبهت إلى عادات جديدة لم تنل مني.. كأن أنظر إلى سحنتي في المرآة، يومًا بعد يوم بدت غريبة عني، ربما بسبب تلك التفاصيل الغامضة غير المبررة التي فرضت نفسها فرضًا.. ربما لأنني قبل أن ينال السرطان مني لم أبعثر وقتي في النظر إلى قياس فكي أو حجم أنفي أو اتساع عيني أو طول حاجبي أو كبر أو صغر جمجمتي، وإن كانت كروية أو كما الشمامة أو حتى شبه المنحرف؟

لكن والحق يقال، عرفت عن نفسي ما لم أعرفه طوال الخمس وأربعين سنة مضت.. عرفت أن رأسي أكبر بكثير مما توقعت، كنت أظن أن كل أعضائي صغيرة مقارنة بأعضاء عبد الوارث، فلما أخبرته بما أعتقد ضحك طويلًا، ثم أمسك بي وهو يردد جملته التي تحمل من التورية بأكثر من المعنى المباشر يقول: «أقسم أن رأسك أكبر من كل رؤوس نساء العالم»، فأضحك ويضحك معي!

لم تعد تمر الأحداث والكلمات ولا حتى النظرات عفوًا، فورًا أجلس إلى رأس جميلة، أستفسر منها عما رأيته وسمعته.. رويدًا تملكتني رغبة غامضة لأن أبكي ثم أضحك.. لأن أتعمد الاتصال بكل الأقارب والأصدقاء، ومراتٍ أكلف جميلة بالرد على الاتصال التليفوني وإبلاغ الطالب بأنني نائمة بعد تناول الدواء.. والحقيقة ما كنت أغفل إلا قليلًا من الوقت. جديدًا يتشكل داخل رأسي ويمتلك نفسي وروحي، أصبحت مفرطة الانفعال فرحًا أو غضبًا.. لم أعد أنافق من باب المجاملة.. بدوت أمام وجهي في المرآة كل صباح.. أكثر عنفًا ودلالًا إلى حد أن بدأت أنطق الكلمات لعبد الوارث بنغمة و«تون» أكثر دلالًا عما قبل بكثير!

يرن جرس التليفون وترد جميلة ثم تسرع لتسلمني سماعة التليفون السوداء، لا تسألني إن كنت أرغب في الرد على المتصل أم لا.. مع بداية مرضي سمعتُ من زوجي ما لم أسمعه وأنا زوجته أم ثلاثة أبناء من الصبية ومنهم من بلغ الرشد.. سمعت منه كلمات الغزل الفاجر الجريء الذي خبرته من بعض السيدات.. أن بعض الرجال يرددون مثل تلك الكلمات لزوجاتهم، وهو ما يُعد من الأسرار الزوجية.. إلا هو، أعلم أنه الخجول الذي يستحي أن يطيل النظر ﺇلى عيني.. لا أدري لماذا فقد الحياء مع مرضي؟! هذا أفضل.

شجَّعَتْنِي الكلمات القبيحة الفاجرة منه على أن أكون أكثر منه جرأة، أخبرته أنني أرفض أن أموت بعيدًا عن جسده.. أدعو الله أن يميتني وهو مندغم في جوفي.. وللحقيقة لم أقل له جوفي قلت الكلمة التي قرأتها في قصص كتاب ألف ليلة وليلة، وأصبَحَتْ سُبَّة بين الصبية في شجار الشوارع والحارات.. في تلك المرة قال لي: «انتظريني، ولا تنامي حتى أعود إلى البيت بعد ساعة، لم أسمع منك ما سمعته الآن، المرض جعلك جريئة.. جعلك أنثى متوحشة!».

مجددًا قلتُ: «لا أريد أن أبقى بعيدة عن أحضانك، فتلك الحالة تقتل أنوثتي.. لن تحيا أنوثتي حتى لو ماتت نصف خلايا جسدي إن لم تكن بجانبي وفوقي وتحتي، نبدو تحت ضوء المصباح ظلًّا واحدًا يصعب أن أتعرف عليك أو تتعرف علي! تلك هي التي حالتي أدعو الله أن يبقيها تحت جلدي حتى لحظة طلوع الروح.. ربما هذه المشاعر المتأججة تنبع من سموم كيماوية قتلت خلاياي ودفقت طاقة الروح المأزومة بالعشق فيك ومنك وعليك..».

****

كلما ورد طيف هانم - بينما عبد الوارث إلى حافة النهر أقرب، وجميلة في صمت يناسب تلك الجلسة الصيفية مع غروب يوم صيفي - تكررت أسطورة النداهة المصرية القديمة:

«أتذكر من طفولتي أن كل أهل قريتنا في النوبة يحكون حكاية؛ البنات في عمري يحلفون أنها حصلت، والأمهات يحلفن على أطفالها ألا يلعبوا في الظلام بعد المغرب خارج الدار، وكل الرجال ومنهم أبويا يقسمون أنهم يرونها.. «النداهة» هي فتاة أو امرأة جميلة جدًا، عيناها تبرق وتضيء في الظلمة.. وشعرها أسود كالح يصل لكعب القدمين، ومبلل تتساقط من أطرافه حبات اللؤلؤ، أو هي قطرات مياه رائقة من النهر، طويلة بل سمهرية، ولما تسحب معها حبيبها إلى النهر يختفي الشاب الجميل في المياه بينما تبقى هي منتصبة ولا تصل إليها المياه ﺇلا عند ركبتيها.. ترتدي الحليّ الصدف من مياه نهر النيل.. لا تظهر إلا في الليالي الظلماء في الحقول، لتنادي باسم شخص معين فيقوم هذا الشخص مسحورًا بجمالها، ويتبع النداء إلى أن يصل إليها، فور تمد يدها مرحِّبة تسحبُه نحوها.. ثم يجدونه ميتًا في اليوم التالي».

يمكن أن يقتصر ضرر النداهة على الجنون، والتشكُّل بأكثر من شكل وأكثر من حجم للشكل نفسه، ومن الطرق التي يمكن قَتْلُها بها هي ذكر الله ورش الملح عليها، مع عدم النظر إلى وجهها، وعدم الردِّ على نِدَائِها.. ليسَ بالضروريِّ أن يموت الشخص في اليوم التالي أو يُصاب بالجنون بشكل كامل، فقط يحدث ما يمكن أن نقول عليه بعض الهلاوس النفسية، كأن تجد الشخص يتحدث مع نفسه، ويبدأ بالتردد كثيرًا على التجول داخل الأراضي الزراعية، ومن الصعب عليك تعقبه ومعرفة أي الأماكن التي يذهب إليها بالتحديد.

يُقال أيضًا إن النداهة أحيانًا تقَعُ في حُبِّ أحدهم وتأخذه معها إلى العالم السفلي وتتزوج منه، وفي هذه الحالة يختفي الشخص كليًّا، ويظهر بعدها فجأة، إلا أنه يُتوَفَّى بعد ذلك، ويقول البعض إن وفاته هي بسبب أنه تخلَّى عن عالمها السفلي وعنها، وتنتقم هي منه بقتله خوفًا من كشف أسرار عالمها، لذلك يموت البعض في اليوم التالي، أو يُصاب بالجنون أو يختفي تمامًا.. يطول الحوار والحكي بين جميلة وعبد الوارث، ولا ينتهي، متجددًا في اليوم التالي!».

خلال تلك السنوات الطويلة، لم تطلب جميلة مقابل ما قدّمته لقاطني البيت من كبير أو من صغير، للرجل ولزوجتِهِ قدّمت خدمات يعجزن معًا عن إنجازها دونها، كأن تقرأ لهما الفنجان ووشوشة الودع، فقدمت بذلك لهما المستقبل جليًّا.. حُلْوه ومُرّه وأخبرتهما به!

بمرور الأيام خال لها أنه من الواجب أن تستمع وتطيع فقط، من الكبير أو الصغير، من الغريب أو القريب، من كلِّ مَن يتحدث إليها.. خصوصًا بعد أن لَمَحت ابتسامة البعض ظنًّا منها ابتسامة ساخرة بسبب لكنتِها وطريقتها الخاصة في النطق، حتى فشلت هانم في إقناعها بعدم الانشغال بأحد. تكلمي بما يحلو لك.. خصوصًا أنها أعلنت، واعترفت بأنها لم ترغب في كل اللهجات واللكنات التي عرفتها في كل المدن التي عاشَتْها مع الأسرة أحيانًا، على ضفاف النيل، وحتى استقرت في المنصورية الأقرب إلى لهجة سكان القاهرة.

لا تدري جميلة ماذا تفعل أكثر من تنفيذ الأوامر، ومتابعة أعمالها المنزلية الروتينية التي يجهلها الجميع.. بداية من طلبات هانم أم الجنرال قبل وفاتها، حتى بعد أن احتلَّتْ البيت الكبير بجحافل أسرتَيْ الجنرال والإعلامي عارف. على رؤوس الجميع كانت أوامر أزواجهما، وقد انشغل الرجلان؛ الجنرال والإعلامي بمهام غامضة لا تعنيها، بعد أن نزلت الناس إلى الشوارع.. شاهدَتْهم على شاشة التليفزيون، أحيانا تتابع ما تراه، وأحيانًا أخرى تفضل البقاء مع دِفْءِ المطبخ الكبير.

****

بعد مضي السنوات الطويلة، بدت جميلة متعلقة بكل ما هو خاصّ بالنيل وأخباره، وعلى حين غفلة، دون مقدمات انتهزت حديث الأب وابنه عن السد البعيد المحتمل هناك في البلاد البعيدة، بدأت تقصُّ عن الأجداد ومدى حبهم للنيل مثلها ومثل عبد الوارث. لا جميلة تدري كيف واتَتْها تلك الحالة كي تشارك وتتحدث دون إذن، أو رغبة أحدهم في الاستماع إليها، ولا حتى انتظرت أن ينتبهوا إليها، كأنها تابعَتْ ما دار بين عصام وأبيه.

فَهِم عبد الوارث ما تعنيه جميلة، بينما لم يبدُ على عصام أنه فَهِمَ أو حتى رغب في أن يفهم، وإلا لماذا انشغل هكذا في الموبيل؟!

****

(4) * ماذا يعني الصمت عند الجنرال؟

الجنرال «رامز» يشعر بالإجهاد، لا يبوحُ ولا يرغب في التعبير عن جسده المنهك. من العيب أن ينطق بغير كلمات الأمر بالتقدم.. إما لفَضِّ مظاهرة أو لمحاصرة تجمُّعٍ ما، أو حتى توقُّع الشغب في مباراة لكرة القدم، لكون التعبير بكلمة «آه» للنسوان فقط!

الذي لم ينتبه إليه أحد ولا يعرفه الإعلاميون؛ أن الجنرال هو صاحب الفكرة وأول من انتبه لحيلة الشباب الجديدة للتواصل والتجمع من جديد.

دارت رحى المعارك بين الجميع، مع ذلك بلغت الجرأة أن توجهوا إلى القصر الرئاسي، مع احتمال الاعتصام أمام أسوار القصر.

طَغَتْ أجواء النهب والسلب من البلطجية، والمساجين الذين هربوا من أقسام الشرطة والسجون العامة لترويع المواطنين، حَثّ المتظاهرين على التراجع. بينما كان المشهد لافتًا ومثيرًا، هناك على مقرُبة من متحف الآثار المصري، وقف المشاغبونَ اللصوصُ يسعونَ لسرقة القطع الأثرية بالمتحف المصري الكبير!

بَلَغَ الجنرال خبرَ اقتحامِ الأقسام، تقدَّمَ ورجالُه ﺇلى أقرب أقسام الشرطة إلى مكتبه، قسم مدينة نصر.. ثم قسم النزهة.. ثم قسم الزيتون.. فلما وَرَدَتْه الأخبار أن قسم عين شمس محاصرًا.. فتابع مهمته التي أذهلَتْ الجميع، اعتلى أسطح كل تلك الأقسام ورجاله، وأطلق النيران بالرصاص نحو المهاجمين أو البلطجية أو الطامعين في شيء يدخرونه من أثاث القسم؟! ثم تنَوَّعَتْ توصيفات تلك الحادثة.. حادثة اتهام الجنرال بالقتل العمد مع سبق الإصرار، بعد نحو السنة من تلك الواقعة!

****

(5) * ماذا يعني الصمت عند علام؟

لا أدري من أين تلبسَتْنِي شجاعة النزول إلى الشارع في اتجاه ميدان التحرير البعيد عن مقرِّ الجريدة؟ أمثالي لا يسيرونَ هكذا، لن يترُكَهم الجمهور يستمتعون بدفء الشمس، وضعت النظارة الفيميه الفوتوسشن الشمسية، وكسوت عينيَّ بإطارها السميك الغامق اللون، وبالعدسات التي تحجب العينَيْنِ بينما يرى الرائي نفسه على سطحها الخارجي.. تردَّدَتْ لفترة قصيرة، خرجت وحدي.. هالني أن تذكَّرت أنني كنت يومًا من متمرِّدي هذا الميدان، تذكرت «انتفاضة الحرامية» كما أطلقوا عليها، في عهد حكم أنور السادات.. ياه، كم هي الأيام خادعة! على غير تَوَقُّع حدث أن رأيتُ ما أثار ذاكرتي عن تلك الأيام البعيدة.

بينما أرتَكِنُ إلى جدران إحدى العمارات في الميدان.. خِلْت نفسي وأنا أتابع ما يقال، وما يحدث من كرٍّ وفرٍّ بين المتظاهرين ورجال الشرطة.. دون أن أدري حدث أن انتبه أحدهم إلى مشهد دماء تتسربل على الإسفلت تحت أردافي، بان أنها من أحدهم بجواري!

حَمَلُوني عنوةً، وقبل أن أتحقق، إلى خيمة بيضاء، بجوار مبنى مُجَمَّع الإدارات الحكومية الشامخ هناك. أحاطوني بأطباء يتفحَّصُون جسدي.. أقسم لهم أنني لم أفقد قطرة دم واحدة، لم أكن مصابًا، هو دم مَن كان إلى جواري.. يرمونني بنظرة العطف والشفقة لأنني لا أدري أنني ممن أُصيبوا أكيد، لكنني لا أشعر من شدة الألم! يبدو أنني صَدَّقْتُ مقولَتَهم، بينما كل ما أعرفه يؤكد عَكْس مقولتهم، فلا الزمان هو الزمان، ولا أنا ممن شارَكَ الجموع، وأكثر ما فعلته أن سَجَّلْت كل ملاحظاتي التي سلمتها إلى رئيس التحرير الجريدة التي أتدرب فيها بينما ما زلت طالبًا.. على يقين بأن رئيس التحرير يعلم كذب ما كنتُ أكتب، لكنه يعلم أيضًا أنني أكتب ما يُرضِيه ولا يَضُرُّ باستقرار وأمن البلاد!

كتبت وأوضحتُ بالاسم والوصف أنَّ من قاد تلك المظاهرة في الميدان بعد أن مَهَّدَ لها في ساحة الجامعة، هم جماعة اليساريين من أعضاء حزب التجمع وبعض النقابات العمالية، ما لفت انتباهي أكثر، لا أدري ما ورد ﺇلى رأس رئيس التحرير وأخبرني به: «أنت مشروعُ صحفيٍّ ذكي، هل تعمدتَ أن تَصِفَ هؤلاء المشاغبين بالشيوعيين..؟»، أومأتُ موافقًا.. تابع قائلًا: «حجزتَ مكتَبَك في الدار هُنا قبلَ تَخَرُّجِكَ.. مبروك يا وَلَد» يا لِسحرِ هذه الكلمة في تلك الفترة، معَها أم ضدَّها حسبَ موقعِ قدميك!

لن أتفرغ للذكرى طويلًا، قررتُ أن أرى، أُتابِعَ أكبر قدر من الأحوال في الميدان والشوارع الموصلة إليه، على الأقل حتى أقسم لهم أنني تابعتُ أحداثَها لحظة بلحظة، بل و شاركت فيها، ليس مستغربًا من مثلي أن يكونَ مِمَّنْ خططوا لها! لا أدري لماذا تذكَّرْتُ صديقي المبدع، كاتب القصة القصيرة والرواية، ذلك الشاب المتحمس الذي عَرَفْتُه أيام الشباب والدم الفائر، والذي فَقَدَ الاتصال بأمه منذ تلك السنوات البعيدة؟!

حاولتُ البحث عنه، سألتُ كلَّ من صادفني، حتى رأيتهم يحيطوني، يسألوني بإلحاح: «هل وجدت صديقك الروائي؟».. لم أجد ما أجيب به..!

****

(6) * ماذا يعني الصمت عند عصام؟

لا يتقابل عصام مع أبيه إلا مصادفة، وهو في طريقه للخارج، بينما يجلس عبد الوارث يشرب الشاي في الحديقة الصغيرة للبيت.. أو عند عودته ليلًا، وهو ما أثارَ شكَّ جميلة، بينما الأب يهز كرة رأسه في صمت، تنطق جميلة وتصرح بما في رأسها، وهي من المرات القليلة التي تتكلم فيها، تنطق تقول: «وحياة النبي الولد ده وراه حكاية؟».

مَلَّ عبد الوارث أحوال الولد، زهقت روحه من عمايله الغامضة الملتوية الخبيثة، غضَّ البصر عنه عمدًا، وإن صادف دخول الولد جلسة الأب مع أوراقه القديمة - بدأ الأب يعاود قراءة تقاريره وتعليمات المصلحة التي تخص نهر النيل - ولم يعد يقرأ الصحف والمجلات، متعللًا بكلالة ناظريه، كأن العينين أصابتهما الكلالة من الصحف والمجلات فقط، أقول إن تصادف عودة الولد في تلك الفترة يفتعل الأب الانهماك في قراءة أوراقه!

إلا مرة، عامدًا يقرر عبد الوارث استدعاء أصغر أبنائه، بجهامة وفظاظة يصرخ في وجهه: «أنت طالب حقوق، أولى من ضابط الشرطة والإعلامي بمتابعة الموضوع من بدايته، ربما يصبح مثل موضوع التحكيم الدولي في «طابا»! شعر الابنُ بالحيرةِ لبعضِ الوقت، تساءل عما في رأس هذا العجوز، هل مَن هم في مثلِ عُمْرِ أبيه عندهم ما يستحقُّ؟ انتهى زمانهم، جيل كامل سيطر على البلد، يكفي ما حصلوا عليه، يكفيهم حكم البلاد! بعنف وبقوة لا يدري الولد من أين تلبَّسَتْ أباه دفعه، فسقط فوق المقعد الخيزران الموجود دومًا بحديقة البيت، سأله: «ما معلوماتك عن سد النهضة؟».

كانت دهشة الابن كبيرة، ما علاقة ما يدور فوقَ الطرقات في المدن الكبيرة وبداية المظاهرات التي لم تهْمَد بعد.. ما علاقة تلك الاضطرابات والبحث عن الحرية والديمقراطية بما بدأ يشيع في وسائل الإعلام عن سد يسمى سد النهضة في إثيوبيا؟!

بلا مقدمات قال لولده: «سد النهضة الإثيوبي الكبير، يقع في المجرى المائي أو من المفترض أن يقع في مجرى النيل الأزرق، عند الانتهاء من تشييده.. سوف يتكلَّف نحو خمسة مليارات دولار، عبارة عن خرسانة مرصوصة، سوف يزيدُ من الطاقة الكهربائية، ومعه يُمارِسُون الزراعة الكثيفة طوال السنة، وليس خلال موسم الأمطار وحده»، لوى الابن شفته السفلية وصَمَتَ، ربما أراد الأب أن يضيف ما يُحَمِّس الشابَّ الجاهل بما يحيق بالبلاد من أخطار.. أية أخطار؟! إنها تخص مياه نهر النيل!

فتابع وحده: «سوف يقع في نحو 20 كيلومترًا عند اكتماله أو يزيد، وبالتالي سوف يصبح أكبر سدود أفريقيا» تغلب الصمت لولا أن الأب شاء أن يتحدث بصياغة قانونية لولده المتبلد، الدهشة هي ما رصدته جميلة، فهي الوحيدة التي تعلم تفاصيل أفعال الولد في ميدان التحرير! نهضَتْ من جِلستها القرفصاء، مالَتْ نحو أذن الولد، همست: «رُدَّ على أبيك يا ولد.. سهم الله رشق في زورك؟»، فهم عبد الوارث، سَمِع ما تعنيه جميلة، على ثقة هو أنها متحمسة، متشوقة لسماع أخبار سد النهضة لأنه ببساطة له علاقة بمياه نهر النيل التي أغرقت قريتها، فتابع وحده: «كانت الدول على نهر النيل من المستعمرات لدولتي إنجلترا وفرنسا، أولى الاتفاقيات لتقسيم مياه النيل عام 1902م في أديس أبابا ونصَّت على عدم إقامة أي مشروعات - سواءٌ على النيل الأزرق، أو بحيرة تانا ونهر السوباط.. ثم اتفاقية بين بريطانيا وفرنسا، عام 1906.. وظهرت عام 1929 اتفاقية أخرى تتضمن إقرار دول الحوض بحصة مصر من مياه‏ النيل، وإن لمصر الحقَّ في الاعتراض في حالة إنشاء هذه الدول مشروعات جديدة على النهر وروافده»، كانت المفاجأة أن تابع الولد وقال:

«تم تحديد موقع السد في عام 1964 بواسطة مكتب أمريكي، دون الرجوع لمصر! في 2010 انتهوا من تصميم السد، وفي 31 مارس 2011 تم تكليف شركة إيطالية بالتنفيذ، خلال أيام قليلة تم البدء في التنفيذ العملي، وبعد أن كان يُسمَّى بالمشروع «ﺇكس» في كل المستندات الرسمية، أصبح عَلَمًا مُعلنًا.. الآن هل عندك الجديد؟ هل تأكدت أن ما أعلم يفوق ما تعلمه أنت؟ أما زلتَ لا تثق بي..؟»، يبدو أنه قال كلامًا كثيرًا من بعد.. لم يتابعه عبد الوارث، انشغل أكثر بالسؤال الذي قفز أمام عينيه: لماذا انقسم سكان البيت إلى مجموعتين أو فريقين متنافسين، بمعنى أصح.. مجموعة توافق على ما يحدث.. الأخرى تعارضه، تعارض المجموعة الأولى؟! لم يكن الاختلاف بين الابن ووالده هو اللافت، الذي دفع جميلة لأن تتدخل، ما أدهش العجوز ما سَمِعَتْه من الولد، بان لها أنه يعلم ما لا يعلمه الأبُ المحنَّك بكل الوثائق والأوراق التي يحتفظ بها وما أكثرها، سمعت الولد يقول بصوت أشبه بصوت القرار في الموسيقى:

«مع ذلك هناك مشاكل سوف تنال من نجاح المشروع تمامًا، ربما لا يُستكمل ولا يُفتتح قريبًا كما يعلنون، من تلك المشاكل المتوقعة: يقع السدُّ في منطقة تغلب عليها الصخور المتحولة، التي تشبه في تكوينها جبال البحر الأحمر الغنية ببعض المعادن والعناصر المهمة، مثل الذهب والبلاتين والحديد والنحاس، بالإضافة إلى محاجر الرخام. هناك عوامل جيولوجية وجغرافية كثيرة تتسبب في فشل كثير من المشروعات المائية في دول منابع نهر النيل بصفة عامة، وإثيوبيا بصفة خاصة، من بينها انتشار الصخور البركانية البازلتية، وهي صخور ضعيفة هندسيًّا لتحمل إقامة سدود عملاقة، قد تزيد هذه الصخور من ملوحة المياه.. الأخطر من هذا كله النشاط الزلزالي المتوقع».

قاطعه الأب مندهشًا: «من أين أتيت بكل تلك المعلومات.. أنت طالب حقوق.. صحيح أنتم جيل الإنترنت!»، ثم نظر نحو جميلة وﺇليه قائلًا: «لكن هل أنت واثق مما تقول؟!».

****

القسم الثالث

ضجيج الصمت

هتاف «تحيا مصر»

الهتافات فوق الطرقات وفي الميادين.. عَمَّت، غلَبَتْ، وشملت الأجواء كلها، ارتطمت صيحة «تحيا مصر» بالجدران القريبة والسحابات البعيدة، كانت تقفز بقوة وتصعد بسرعة، ثم تميل إلى حيث توجد الجموع على الطرقات الثعبانية والمنشقة عن كل الميادين.. ألا تعلم أن السحب تَكَفَّلَت بنقلها إلى هناك، وزخات مياه الأمطار تكفلت بحملها ودفعها إلى أسفل ها هنا، نحو أناس متراصِّين في غير انتظام، وعلى غير عمد. لم يشغلهم الانتظام عمدًا، شغلهم الهتاف أكثر.

لا تخدعك الكلمات، ولا تصدق كل ما يقال أو يكتب، من كل الإذاعات والمرئيات والصحف، تحت جلبة الأصوات الزاعقة والهتافات والجلبة، كانت بعض الأيادي تعمل والعقول تدبِّر، فتأتي الصيحة وراء الأخرى، وأحيانًا بغير معناها! تعدَّدَت، كثُرَت حتى بدت بكل ألوان الطيف، كما أنها استقلَّت وانفصلت، ما عادت تنتظر السحابات ولا زخات الأمطار السماوية، أصبحت قادرة على الانتقال من المكان نفسه أو الميدان ، حتى بلغت عقر القصور والدواوين المحصَّنَة، أماكن ما كانت تخطر على ذهن بشر، ولا حتى على مَن أطلقها!

لا تندهش لو عرفت أن الهتاف «تحيا مصر»، جميعهم سَمِعُوه وفَهِمُوه.. كلّ على هواه وما يتمناه ويرغبه.. كأنه بلغ كل منهم همسًا في أذنه وحده! «يحيا رجل الصحافة والإعلام علام عبد الوارث!».. وأقسم الجنرال بكل القيم العليا والمبادئ الإنسانية، أنه سمعه هكذا: «يحيا الجنرال ابن عبد الوارث المخلص الأمين، حامي الحمى، وحارس أمن العباد والبلاد!».. أما ثالثهم لم يقسم ولا تدري لماذا بقي على ثقة أن جميعهم سمعوا النداء باسمه وباسم كل زملائه في دفعة الكلية.. «يعيش عصام وزملاؤه، يموت كل الأعداء!».

وإن تلاحظ أن عصام كثيرًا ما يبتسم شاردًا، عندما يتذكَّر سحنة شقيقه الجنرال الشاحبة، وهو يقول: «اشكرني، لولا أن تدخلتُ، كنتَ وزملاء الكلية في سجن القلعة!».

****

كيف استقبل «عصام» الهتاف؟!

الحكاية التي ظن عصام أن لا يعرفها أحد.. شاعت عنه وانتشرت، هي سرُّ الهتاف الذي كسا سماء البلاد، هتاف «تحيا مصر». ما فتئ يجلس إلى مجموعة من المرابطين من زملاء الكلية، يسردها، لا يترك لأحدهم الفرصة لسؤال.. ردد الحكاية هكذا:

أنا «عصام المصري» حفيد صاحب المقامة والكسوة الخضراء الشيخ المصري.. بلغني الهتاف كثيرًا وطوال سنوات دراستي بكلية الحقوق، لعل أولها خلال الأيام الأولى لي في الكلية، حين قابلني من حجب الشمس والنسمة الخريفية عن وجهي، نظر نحوي من أعلى إلى فروة رأسي، وفور أن اجتزت باب الجامعة الخارجي، سمعته يردد جملة واحدة:

«تَفَضَّلْ معي حالًا لمقابلة حضرة الضابط».. كرَّرَها في آلية مملة وسخيفة.. لم أتردد، ملأتني الأسئلة، زادت التساؤلات وأنا أرى زملائي في تحرير جريدة الحائط أمام ضابط الحرس الجامعي، حضر جميعهم قبلي!

فهمت من الجندي أنه من الجائز والمحتمل في الأغلب الأعم (هكذا نطقها جندي الحرس) أن رئيس حرس الجامعة غضب أن علقت صحيفة الحائط دون إذنه وتوقيعه عليها، بالرغم من أنني على يقين من أنه لا يتذوق الأدب، ولا يحب تناول موضوعات السياسة، ويمل شكوى الشباب من علاقتهم بالأساتذة؟! مع ذلك سَلَّمتُه الجريدة منذ أسبوع، ووضع الضابط توقيعه عليها، وعلقت الجريدة بسلام!

لعل أحدهم وشى بي، وأخبرهم أنني لا أحب مصر؟!.. لا أظن، لأنها تهمة بلا دليل. خلال دقائق بالضبط، كنت داخل حجرة الحرس الجامعي، ثم داخل صندوق مظلم لسيارة شرطة، ثم داخل دهاليز وطرقات طويلة معتمة هذه المرة، وإن لمحت بعض المصابيح الكهربية المضاءة في وضح النهار، العذر الوحيد أن نور الخارج يتبدل ظلمة فور اجتياز بوابة المبنى العتم.. زملائى الخمسة تعلقوا بأذني: «اتصل بالجنرال شقيقك.. له كلمة في البلد، أكيد سوف يفرجون عنا».

لا أدري، ربما أدري وأدعي الغفلة: لماذا لا أريد الاتصال بشقيقي الجنرال، أعرف من هو، وهو القادر بالاتصال التليفوني البسيط، على أن ينهي كل المشكلة؟ زميلي «حمزة الضو» سَبَّنِي وسَبَّ أجدادي وهو يقول: «اتصل بالجنرال يا بن المجانين، العب باللي تغلب به.. حتى وعنينا على الوطن مع القيم الكبيرة، نستفيد من كلام جَدِّي وجدك».

تدخل «فتحي المحلاوي» مال بشدة نحوهما حتى لا يعلو صوته، وإن سمعه جندي الحراسة الذي ابتسم بين فرجة ضيقة لباب الغرفة شبه المظلمة في تمام الساعة الثانية عشر ظهرًا: «أعلم أنك ترى الجنرال يعاملك معاملة الطفل الصغير، وهو ما يجعلك تتحاشى الحوار معه، وأنا شايف إنه من المناسب تستغل هذه النظرة والمعاملة نفسها وتطلب منه أن يخرجنا».

بسرعة لحقه الثالث «عمر الشامي» وقال: «نبهه إن معك خمسة شباب مثل الورد البلدي.. أحذرك من النسيان وأنت عامل فيها كاتب وأديب!».

طلبت كوبًا من الماء، فنظر العسكري الريفي الملامح والطلعة واللكنة في صمت، وكأن رفقاء المحبس، تذكروا أنهم عطشى فور أن طلبتُ كوب الماء؟! فقال الجندي خفيف الظل: «قاعد على الترعة يا أفندي منك له!» لم أفهم العلاقة بين أن أطلب الماء لأنني وزملائي نشعر بالعطش، والجلوس إلى الترعة.. بعدها بقليل بانت العلاقة في أمر بسيط للغاية.. لأنني داخل هذا المبنى لا يحق لي أن أطلب طلبًا، أنفذ الأوامر فقط.. حالًا نفَّذَت مجموعة هينة منها: اقفل الموبيل وسلمه.. سلِّم بطاقة الرقم القومي.. انتظر هنا حتى يطلبك حضرة الضابط.

أخيرًا طلبني حضرة العقيد «شاكر».. ما إن نظرت إليه حتى تلبستني الدهشة، بدلًا من أن تتلبسني الرهبة، بل الفزع من ذلك النحيل الأصلع باش الوجه! ولولا أنني لا أدخن كنت أشعلت معه السيجارة السوبر، ولم أكتفِ بفنجان القهوة الذي جاء خلفي فورًا ودون أن أطلبه، لكنني في حضرة الضابط المحنك الذي يعلم أنني مدمن القهوة الزيادة بن ثقيل! فهمت الرسالة، ولا مشاكل، وإن ظللت على حال دهشتي، أن يبدو لي رجال الأمن من العساكر وصغار الرتبة، أضخم جسدًا ولهم نظرات رهيبة مهيبة، بينما ضابطهم أو قائدهم، هكذا يبدو باشًّا رقيقًا دَمِثًا جدًا، ﺇن حقًّا أو افتعالًا وكذبًا!

فجأة لم ينتظر حتى ينتهي من فنجان القهوة، انقلب مائة وثمانين درجة، تولى وحده أمر إيذائي نفسيًّا أكثر من الإيذاء البدني، صفعات على وجهي وسباب لأمي.. كنت أتمنى ألا يسبني بأمي، يكفي أن يسبني بأبي! كلنا في الهزار نسبُّ أبانا أما إذا سببنا الأم فهو أمر جلل لا هزار فيه.. وكأنه يثأر لخصومة ما بيننا.. وأجهلها، كأني قتلتُ أمَّه على حين غفلة مني. كان يحتمي بثلاثة من شباب الضباط وخمسة من المخبرين الأجلاف يصطفون أمامي مع نظرات تأهب للانقضاض علي إن لزم الأمر.

لا أدري لماذا أصرَّ سيادة العقيد على سُبابه لأمي، وعلى عدم البوح عن سببِ كلِّ ما أنا فيه.. فلما بكيتُ وتعلقت بأذنه مصرًا أن أعرف السبب، قال جملة واحدة: «تذكَّر وحدك ماذا قلت وأنت مع زملائك في قاعة المحاضرات قبل انتخابات اتحاد الطلاب».. بمضي الساعات والأيام نسيت وقع قرقعة كفه على صدغي، ولم أنس السؤال عمن وشى بي؟!

فيما بعد علمت من زملائي الخمسة أن العقيد أحضرهم معي، ليس لكونهم يشاركونني الاتهام، بل لأنهم معي يكتبون في جريدة الحائط، وحذرهم أن يكتب أحدهم كلمة تضر الوطن.. في أي موضوع.. لم يوضح، ولم يسع أحدهم أن يسأل. كل ما حدث أن نجحت في استبدال بهم آخرين يكتبون معي في الصحيفة، وفي ذلك اليوم البعيد لم يسمع أحدهم اتصالي بأخي الجنرال كي يستخدم هيبته وهيمنته وأتحرر من تلك التجربة على غير رغبتي.

****

كيف استقبل علام الهتاف؟

فورا سَجَّل الإعلامي «علام» الهتاف، خَطَّه أمامه فوق الأوراق البيضاء وعلى الشاشة الرمادية لحاسوبه الخاص، لم يُسجِّلْها لمرة واحدة، لمرات كثيرة، حتى طَغَتْ، لم يجد غيرها كي يخطَّ مقالاته النارية ونصائِحَه ومطالب الجماهير المطحونة التي يحفظها عن ظهر قلب..! كم مرة استشعر الغيرة والحقد في عيون رفقاء المهنة.. حارَبَه الأوغاد، لأنهم ببساطة يحقدون عليه وعلى كل ما أنجزه.. يظن أنه الوطني المخلص الوحيد في هذا البلد، هكذا يقول ويردد، ليس من حق أحدهم الاعتراض.. وانطلقت معركة لم تنته بينه وبينهم!

طوال الفترة الماضية، بينما الضجيج يعلو في الخارج ويزداد، بسرعة يسحب الكاتب الشهير قَلَمَه ويجمَع أوراقه، ثم زاد عليها تجهيز الشاشة الزرقاء لجهاز اللاب توب الذي لا يفارقه، حتى اعتبرته «هالة» زوجته ضرَّتَها ومصدر ضررها!

يتواصل مع القنوات التلفزيونية المحلية الأرضية والفضائية، راج وانتشر عبر الأثير، كثر من يحرصون على التواصل معه، فقط ينتهز فرصة راحة قصيرة.. يُسرِع.. يبدأ في إعداد فنجان القهوة بعد أن أحضر «السبرتاية» وبرطمان البن والفناجين، رصَّها أعلى منضدة صغيرة على مقربة منه. منذ تلك الأيام التي بدأت في الخامس والعشرين من يناير، التي طالَتْ على غير توقع منه، وخابت تقديراته هذه المرة.. لكنه ما زال يعمل مع فنجانه وقلمه وشاشة جهازه والقنوات الفضائية.

كل الأجواء تتهيأ لاستقبال ما يقوله ويفكر فيه، فهو الألمعيُّ الأشهر، المفوَّه الذي يمثل المعارضة السياسية أحيانًا، وقت أن فرغت الساحة من المعارضة، حزبًا كانت أو قلمًا. كم هي تطلعاته بسيطة هينة، أن يحافظ على كل ما أنجزه وأكَّد عليه، من ترسيخ لمفاهيم العدالة الاجتماعية والحرية، ولا أقول إن يحافظ على ما حققه من شهرة ومال، الأعداء فقط هم من يرددونها، ويتهمونه بالانتهازية واقتناء الثروة من وراء عمله السياسي، على الرغم من كونه ليس منضمًا لحزب ولا هو ضمن معارضة واضحة يسارية كانت أو يمينية.. هو معارضة وحده، ولا يدرى أحدهم، كيف حقق تلك المعادلة الغامضة!

الآن، ما يأمل أن يحققه، هو ما يردده في أحاديثه التلفزيونية: «أنا حذرت من قبل، من الفوضى والمؤامرات الخارجية، لم ينتبه أحد.. أنا توقعت كل ما نراه فوق الطرقات، بل وما يمكن أن نراه مستقبلًا، صدقوا ما خططوا له.. إنني المعارضة المستأنسة.. نعم وصل إلي هذا التعبير الذي يردده البعض في النوادي وعلى الأرصفة والمقاهي.. أنا أدعو الجميع إلى الانتباه، هناك مؤامرة داخلية تدبرها أيادٍ خارجية، وسوف تسخرون من مقولتي التي تتعلل بالمؤامرات ولا تنتبه لسلبياتنا، أقول لكم: لا فارق بينهما؛ لأن اليد الخارجية توظِّف المتآمرين في الداخل تحت مظلة السلبية الشائعة!

لم تنقضِ ساعات قليلة بعد نشر تلك الكلمات حتى رنّ جرس الموبيل الخاص، الذي لا يعرف نمرته إلا الخاصة من أهل البيت والأصدقاء! ظلَّ علام على حال الابتسامة الشاحبة وكأنه في مواجهة شخصية مهيبة لا يصلح التحاور والمجادلة معها.. وهو ما تأكد مع دلالة كلماته القليلة التي عقب بها المكالمة قائلا: «تمام يا فندم.. وصلت الرسالة».

فكانت مقالة اليوم التالي بالصحيفة نفسها، الاعتذار لكل هيئة أو الهيئات الحكومية في مصر! شعر القراء بالحيرة، ما دخل ما كتبه بالأمس والاعتذار لهيئة القضاء.. فكان مقال اليوم التالي، وكل الأيام التوالي مقولته التي شاعت وسط سخرية الناس التي تحررت من الخفاء ﺇلى العلن: «دعوا الملك للمالك.. ما لأحد أن يسبق مقولة الحكم القضائي. لا ينفع حذر من قدر!».

بتلك المعاني والدلالات كانت أحاديث الإعلامي الكبير ومقالاته.. فلما بدأت المظاهرات تحول من الكاتب المحلل إلى الكاتب الواصف، وفي كل الأحوال يعبر عن دهشته مرة أو امتعاضه مرة أخرى.. في كل الحالات يبدأ بمصر، وضرورة الحرص على مؤسساتها وأملاكها، هكذا كان الهتاف «تحيا مصر» يدفعه ويوجه قلمه ولسانه.

استخدم الكاتب الهمام بكل كلمات الشماتة والسخرية في إزكاء آرائه وأفكاره التي تلتقط الشعارات والعبارات الرنانة، تقف عندها.. لا تبرحها، لأنهم لم ينتبهوا إلى تحذيراته الذكية وتحليلاته السباقة التي استشرف بها المستقبل وقرأه من صفحة الحاضر.. فكان عنوان أول مقالاته، وحديثه التلفزيوني بعد شيوع الهياج والصرخات فوق الطرقات: «قرأت المستقبل ولم ينتبهوا!».

تلك اللغة الواثقة والساخرة، زادت وانتشرت، جعلَتْ الناس كلهم على فريقين، الفريق المؤيد يؤيد كل كلمة منه بشدة، والفريق المعارض يعارض كل فكرة منه ويتشكك في نياته بشدة.

وحدها «هالة» زوجته، اللسان الوحيد القادر على مواجهته بلا خوف ولا تردَّد، ظلت تقول: «يا أبو العيال.. أنا قلقانة!»، الطريف الذي اعتاده علام ولم يكن يتوقعه، أن بدت له زوجته الفتاة الأرستقراطية ابنة السفير في الخارجية المصرية، كأنها من سكان الأحياء الشعبية في القاهرة القديمة.. فيما بانت له الأسباب ومن أهمها أنها الابنة الوحيدة من بين كل أبناء الدبلوماسي التي ضاقت بالسفر إلى أي مكان يعمل به الأب، فضَّلَت جدتها التي تقيم في حي العباسية في القاهرة.

فلم يكن تعبير «أبو العيال» غريبًا عليه وإن اعتاده، أحيانًا يبدو هكذا غريبًا وشاذًّا مقارنة بمظهرها وشعرها المصبوغ بالأصفر الناري بأصابع أشهر محال الكوافير. لم تكن هالة حريصة على تحليل مشاعرها وتبريرها، كانت تعبر عنها فقط.. لمرة واحدة بررت رأيها بثقة، نطقته هكذا: «إن كنت مؤيدًا للحكومة أو معارضًا، أنا لا أعرف، ولا يهمني أن أعرف، كل ما يهمني هي البلد ومستقبل أولادي يا أبو العيال»، سألها: «إلى هذا الحد لا تحبينني.. أنا عندك (أبو العيال) فقط، ثم من أين جئت بهذا المصطلح الذي ما سمعته إلا في القرية القريبة من الفيلا التي تربيت فيها، ومن العجائز ومن (جميلة) التي قامت على رعايتنا؟!»، فلا تجيب، فقط تتابع ما تتحدث بشأنه!

قالت جملتها الشهيرة الغامضة تلك، كانت تقتحم عليه محبسه، حيث يتابع، يحلل، يكتب ويرسل لتقولها له، فقط تقولها وتكرر ولا تردد كلماتٍ غيرَها، حتى حملها مع أولادها إلى الفيلا، وإن غضبت عندما بان لها أن زوجة الجنرال سبقتها بأولادها الأربعة، للإقامة في البيت الكبير، ومع ذلك كله ما كانت تتصل بزوجها إلا لتقول الجملة نفسها: «يا خوفي يا (أبو العيال).. لا أنا مصدقة نبوءاتك المتفائلة، ولا تحذيراتك المتشائمة، أنا خايفة على البلد، حتى وأنا هنا، بدأت أفقد الشعور بالأمان.. لا أدري لماذا أنا خائفة؟».

«هالة» تلبستها حالة من الخوف، وصفها الطبيب النفسي، وأفاض بكونها مشاعر طبيعية تزداد أحيانًا عند البعض وتصبح مرضًا، لكن حالة الزوجة الجميلة النحيلة على الرغم من إنجاب أطفالها الثلاثة! لم تصل إلى الحد المرضي، ونصحها بالتنزه والسير لفترات طويلة كل يوم أو التريض في الجيم، على مقربة من العيادة.

أما شيخ الإفتاء على شاشة التلفزيون، وقد اتصلت به لتسأله عن حالة الخوف تلك، لم يفكر طويلاً، أجاب وهو ينظر إلى بؤرة عدسة الكاميرا المخصصة له، كأنه ينظر إلى بؤبؤ هالة المتخيلة أمامه، ثم قال: «ارجعي لله والتزمي بأمر الله وأخلصي النية..»، فقاطعته: «أفعل يا مولانا.. أفعل..» لم يقتنع الشيخ، تابع تحذيراته، فثارت حتى غلب صوتها، وقطع المخرج الاتصال.

****

* كيف استقبل «رامز» الهتاف؟

فلما كان الهتاف نفسه «تحيا مصر» مستمرًّا في ازدياد، استقبله الجنرال «رامز» الهمام على رأس قوات الأمن، سمعها تردد وتقول: «يا جنرال، يا حامي الحمى.. دعنا في ظلك وحماك».

لا هو يعرف ولا من كانوا من حوله يعرفون، ولا حتى من حَلَّل الأحداث طوال تلك الفترة.. ما سرُّ هذا الشعور والفهم الطاغي عند الجنرال. المدهش العجيب ما حدث له، فلا يوجد المبرر غير المتوقع لكل ما ناله الجنرال فيما بعد من غبن وإهمال، حتى شعر صغار الضباط الشباب بخيبة الأمل، وهم مَن هم.. إنهم تلاميذه والأمل المرجو!

فور سماع الصيحة، وكما تفهمها جيدًا، ما كان منه إلا أن يلبي النداء والهتاف الذي بلغه، كما فعل طوال سنوات خدمته الطويلة، فعل في مواجهة مثيري الشغب لمنع الإضرار بالمال العام، وحماية الأمن وتحقيق الأمان في تلك الواحة التي يتحمل مسؤولية أمن أهلها فوق كتفيه العريضتين، اللتين يعلوهما «الإسبليت» المثقل بالسيفين والنسر.

إن نسي فلن ينسى ولا تاريخ الشرطة، ما كان وحدث منذ سنوات بعيدة.. يوم أن تقدم وهو الشاب الملازم أول «رامز» مجموعة صغيرة من الضباط، مع تلك الطلَّة اللافتة، واللسان الفصيح، وبريق عينين تشعّان ذكاء وفطنة، حيث يقيم داخلها الشاب صاحب النقرة السوداء أعلى جبهته دليل السجود وارتماء الجبهة توسلاً لله تعالي، إنه الشاب المتمرد أو المجاهد لوجه الله مخلصًا، وهو نفسه الذي نجح في تفجير حافلة رحلة سياحية، فقتل من قتل وأصيب من أصيب، بينما نجح هو في الفرار منتصرًا على أعداء الدين!

بدت على الملازم أول «رامز عبد الوارث» مشاعر الحماسة، وقد وضع في يقينه أنه حتمًا سوف يكلف بتنفيذ تلك العملية، بقيادة مجموعة نشطة معه!

لم تكن المهمة بالأمر الهين، الأوامر واضحة.. ارتداء القميص الواقي من الرصاص، التسليح الشخصي الكامل من سلاح وذخيرة، إطلاق النيران فور استخدام «الهدف» للعنف أو محاولة الهروب أو المقاومة. ما كان الهدف سوى شاب من مجموعة «صالح سرية»، تلك التي هاجمت الكلية الفنية العسكرية من قبل.

فورًا تحركت القوة في ساعة الصفر، في منتصف الليل تمامًا، ومع اقترابها من منزل الهدف، تم إغلاق كل الشوارع والحارات المؤدية إليه، بعدد كبير من الجنود المصفوفة، وجاء دور مجموعة الاقتحام، تقدم الجميع؛ الملازم أول «رامز» ومن خلفه الزملاء، اعتلوا سطح المنزل المجاور لمنزل الهدف، ومنه اعتلوا سطح المنزل، كان قرار الضابط الصغير عدم اقتحام منزل الهدف من بابه، قواعد السيطرة وإحكام التمويه جعلتهم يهبطون من أعلى إلى الدور الأسفل، حتى تتحقق المفاجأة.

شعر بهم الشاب الهارب والمطلوب القبض عليه، دون أن يروه تأكدوا من قدرته على المناورة والقتال، وإلا لماذا بادرهم بإطلاق دفعات متتالية من النيران وهو خلف باب شقته المغلق إلا من ثقبين، أحدهما لفوهة مدفعه الرشاش والآخر لينظر منه إلى الخارج.

كمية النيران الكثيفة كانت كفيلة بتحطيم الباب الخشبي، بحيث سقط مع أول دفعة بالقدم، تقدم الملازم أول، اقتحم الشقة، لم ير الشاب الهدف، ولم يسمع له صوتًا، كان العويل والصراخ من أمه المتشحة بالسواد، من أعلى رأسها حتى أخمص القدم. لم تكفّ الصراخ للحظة واحدة وهي تنعتهم وتسبهم: «يا كفرة يا ولاد الكلب!».

انتشرت مجموعة الاقتحام في خطوات يعرفونها وبانضباط محنَّك بين أرجاء الشقة الضيقة، تلك التي لا تزيد عن غرفة واحدة ودورة مياه.. فلما نظر الضابط الشاب رامز شاهرًا سلاحه إلى أسفل السرير، بدا وكأن الهدف أو الشاب الذي كان حليق الذقن، على غير هيئته المعروفة عنه، كان يلفظ أنفاسه الأخيرة.. ولولا صراخ أمه لسمعوا جميعًا صوت شخير حشرجة تلك الأنفاس البطيئة، بينما فقاعات بلا لون تخرج من فتحتي الأنف، ودم لزج يتسربل من جانبي الفم المفتوح مع تلك النظرات الغامضة لبؤبؤ العينين والمصلوبة نحو اللاشيء.

كان الاحتفال مهيبًا وحافلًا بالتهاني والبسمات، لم ينتظر الوزير طويلًا، أعلن الخبر في كل وسائل الإعلام، مرفقًا بصورة الهدف القتيل، وصورة أخرى لرامز والوسام يزين صدر الملازم أول. كانت أول العمليات الأمنية الناجحة، وكم من العمليات نجحت!

دارت الأيام، تابع الجنرال رامز الهتاف وتأمله، تذكّر شبابه وبطولاته، رمى نظرة إلى تلك الشهادات المعلقة على حوائط غرفته. أسرع الخُطى نحو غرفة الأرشيف، وسحب الخرائط كلها، وأضاء أخرى خريطة ضوئية على جانب من جوانب الغرفة. وبدأ يسمع الأخبار التي تتوالى عليه، ويشير على نقاط محددة على الشاشة، لم ينتبه أحد ممن يرافقونه ويتابعون دراسة الموقف، ماذا دار في رأسه بالضبط كي يقول: «الموقف صعب، يبدو لا حيلة إلا أن أتقدم بنفسي، كما كنت أيام الشباب!».

****

هتاف خاص لا يسمعه أحد!

خلال فترة احتلال أولاد عبد الوارث أو الهكسوس كما أطلق عليهم، وفي عصر ذاك اليوم، بينما كان عبد الوارث شاردًا فوق مقعده في صمَّت وغير مبالٍ بالشجار الفاضح بين الأولاد، وحدث فورًا بين زوجتي الرجلين، كانا في وضع نفسي سيِّئ، ولداه اختفيا تمامًا، بدا وكأنهما انفصلا عنهما، وفشلت مطاردتهما بالموبيل.. مرة بسبب انقطاع الشبكة ومنع الاتصالات من الموبيلات، ومرة أخرى بسبب انشغال الجنرال والإعلامي الزائد عن الحد، وهو ما حيَّر الزوجتين: «كيف لا توجد دقيقة واحدة كي يتصلا؟!»، شاع وتغلب العنف بين الجميع، وانشغل الجدّ يلوك كلمات وأفكارًا لرأسه وحده، لولا تلك الصرخة والضجيج الذي طغى: «كنتُ في حالة نفسية جعلتني كما لو كنت أعدو وحدي، كان باب المطبخ مفتوحًا، ووهج ساخن من النار يبرق، زاد اندفاعي، وجدت الولد الكبير يرمي بالبطانية نحو جميلة الملقاة على الأرض»!

لم أهتمَّ بالتفاصيل، ولا من أضرم النار، وما الخسائر؟! كل ما همني هي جميلة، كيف أصابتها النيران وﺇلى أي درجة هي.. لفت انتباهي، وعلى الرغم من كل ما أنا متذمِّر منه سواء من الكبار أو الصغار.. غفرت لهم جميعًا وقد رأيتهم يحاولون ﺇطفاء النار!

بدا لي وجه جميلة المحترق بدرجة ما، وهو ما أحزنني بشدة، لكنني تمكنتُ من صَبِّ الزيت على وجهها وجزء من جسدها الذي تعرى.. أردد بلا انتظار كلمة اﻹجابة: «أنت بخير يا جميلة؟»، أومأت برأسها.. وسعدت أنها منتبهة.

مثل الشبورة في الفجرية على الطريق الزراعية في شهور الشتاء، كان صمتي هكذا كثيفًا لزجًا مملًّا، لم يخفف من وطئته كلمات «جميلة» التي لا تخلو من المجاملات لي، ولكل سكان الدار الجدد أو الهكسوس، رأيتها على غير ما أعرفه عنها طوال سنين عمرها، ثرثارة! ماذا حدث مع جميلة بعد تلك الحادثة التي شفيت منها.. فلما سألتها، ببساطة وهدوء قالت: «لأنني شعرت بأنهم يحبونني كما أحبهم».

فيما بعد، كلما نطقت بتلك الكلمة (الهكسوس) ارتعبت جميلة واتسعت كرتي عينيها في محجريها ولا أدري لماذا؟! فقط لأنني أعني أبنائي وجيش أطفالهم.. من جند التتار! قدر تلك المرأة أن تظل تعطي بحنية وعطف، غير مكترثة لتلك الفوضى التي عمت حياتها وحياتي وعتبات الدار القديمة. انقلبت الأحوال رأسًا على عقب، الكلمات لا تفي ولا تكفي للتعبير عما أشعر به، أبدو لمن يستمع إليّ، وكأني لست غاضبًا منفعلًا، ولا أشعر بالقهر!

****

كم هو العبء ثقيل، كيف سيدور الزمن وما شكل البيت وأنت راقدة على الأرض من غير سرير يحمي عظامك من البرد منذ أن احتل هؤلاء الهكسوس البيت!

انظري وأنت في الخمسين من عمرك، كيف أساء الهكسوس، إلى ترتيب الأثاث والكتب والفازات، بل والمقاعد والمناضد و... دعيني أحصي لك ما خرب وهلك وتلف، دعيني أوضح لك ما لم تلمحه عيناك.. انظري أمامك: كم من المرايا تحطمت؟! أرجو يا جميلة أن تنتبهي إلى أن أول ما تحطم في بيتنا كل المرايا المعلقة، ثم تلك المرايا المثبتة بقطع من الأثاث مثل مرآة البوفيه!

ربما لم تفسري أن الملاعين تعمدوا تحطيم المرايا، حتى لا يروا آثار فعلتهم وانفعالاتهم وعنفوان حركتهم الطائشة، وهم يعدون خلف بعضهم. انقسموا إلى فريقين، فريقٍ للحرامية وفريقٍ للعساكر.. وما إن تبدأ اللعبة حتى لا تدري من منهم الحرامي ومَن العسكري.. فقط رأيت الحطام بين جنبات البيت.

أكثر ما حزنت له وعليه تلك المرآة البلجيكية القديمة التي حملتها من أوغندا حتى المنصورية ها هنا، وقد رسم عليها بما لا يمنع الرؤية أو بطريقة ما من الخربشات الهينة، رسم عليه حوض وادي النيل وقد تمزق إلى فتات متنوعة الأحجام.

مال نحو أذُنَيْ جميلة وكأنه يهمس بسر لا يعلمه غيره، وقال: كنت أسافر من القاهرة حتى بحيرة فيكتوريا بلا توقف، ولا حتى تأشيرة لدخول بلدة من تلك المنطقة.

لا أدري كيف نجح هؤلاء الشياطين في تحويل سجاد البيت كله إلى مزق متهلهلة؟! خبراء السجاد أخبروني أن اختبار جودة خامة السجاد بتقدير قدرتها على الصمود في مواجهة الأيام، حتى اعتبر الخبراء الألوان الباهتة وشحوب مظهر السجادة مقياسًا على جودتها. ما يدهشني ويحزنني يا جميلة أن أراها، وقد تحولت إلى مزَقٍ على الأرض، أحزنني من بعد أن نجحوا في بلوغ تلك القطع الجميلة من السجاد التي تتدلى على الحوائط، منها ما أحضرتها من السودان، من جنوب السودان الذي بات دولة هو الآخر!

عليك يا جميلة رتْقُها بأي شكل ثم إعادة ترتيبها وتنظيفها بدلًا من أن نفقدها جميعها مرة واحدة.. لك أن تتخيلي أنهم يقفون فوق السجاجيد الشيرازي باهظة الثمن، والسجاجيد الدمنهوري قليل الثمن، أطلقوا عليها جميعًا لقب البساط السحري، منهم من يجلس فوقها ومنهم من يسحبها ويجرها حتى تمزقت وتهلهلَتْ.

لم يتركوا شيئًا إلا وعبثوا فيه.. حتى نظام تناول الطعام والشراب انتهى، لم تعد الدار داري التي عشت فيها نحو ثلاثة أرباع القرن. الآن ماذا تقولين يا جميلة في هذا الضجيج وتلك الأصوات المزعجة، من جراء تحطم الأطباق وزجاج النوافذ.. وكل ما تفعلينه، بدلًا من أن تنهريهم، بلهفةٍ تسرعين تحذرينهم وترفعين شظايا الزجاج المحطم قبل أن يشكشكهم بل ربما يصيبهم بالجروح الشديدة؟!

ماذا تقولين وأنت طريحة الفراش؟!

****

يبدو أن عبد الوارث انتبه أنه تنازل عن صمته المعتاد، أفاعيل الصغار دفعته دفعًا للبوح عما يشعر به وما يعانيه، مع مرض جميلة اكتشف قدر الجهد الذي بذلته من أجل تنظيف الحوائط بفعل رسومات وشخبطات الصغار!

دهش عبد الوارث أن جهود جميلة لإعادة تنظيف الحوائط باءت بالفشل، بقيت الكتابات مقروءة، لا تزيد عن كلمتين «تحيا مصر»! اللافت أن وجدها الجد متنوعة من حيث جودة الخط وجماله، ومن حيث الحجم، ومنها ما كتب بنقطة واحدة، بدلًا عن النقطتين تُقرأ «نحيا مصر».. فابتسم.

مع ذلك لم تشأ جميلة أن تبدو سلبية لا تعتني بالدار، نهضت وتحاملت على الألم وتحدثت مع الصغار تعاتبهم لأنهم أغضبوا جدهم؟ انتهت بسرعة ولم تجد ما تزيد به من كلمات، ربما بسبب رد الأولاد كلهم في صوت مشترك يقولون: «هي شعار لمصر يا جميلة».

تذكرت أنني كنت أستطيع أن أسمع صوت خفقان قلب جميلة وضربات جناحي ذبابة، وكنت أرى ألوان قوس قزح السبعة كلها منبعثة من فوق صفحة مياه النيل، وكنت أفضِّل تناوُلَ ثمار الحلوى من فوق أشجارها من حول البيت، أما رائحة الريحان التي أعشقها فلا بديل عن أعواد الريحان التي تجدها في كل مكان، حتى إلى جوار سريري.. نعم، سريري الذي ما عاد كذلك بعد أن احتلَّه أولاد الجنرال، وفقد الطابق العلوي كله بفضل أولاد الإعلامي المشهور.

خلال تلك الفترة، لم يعد لي خصوصية في بيتي، فلما شكوتُ لأم بعضهم قالت بصوت يشبه صوت زوجها، تقول بثقة وبلا قلب: «كيف تقول هذا الكلام.. البيت أقصد الفيلا كلها بيتك». تابعها بعينيه صامتًا، لم يجد ما يعقِّب به، حالًا اختفت من أمامه وهي تخفي ضحكة خبيثة!

فكرت أن أسرِّي عن نفسي، لم تكن من عاداتي أن أتحدث إلى جميلة في شؤون السياسة، ليس لأنها دائمًا ضد الحكومات منذ حكومة صدقي سليمان حتى رئيس الحكومة الحالي والحكومات القادمة.. بل لأنني زهقت من صمت لساني، على الرغم من بقايا آلام الاحتراق سألتُها إن كان يعجبها ما يحدث؟ المفاجأة ليست في كوني بدأتُ أنطق بعد صمت، وهو ما جعلها تجيءُ كما البطَّةِ العرجاءِ مبتسمةً تلبِّي النداء، ومع ذلك قطَّبَت ما بين حاجبيها، وتسلمت الصمت مني، ثم غربت!

****

مصير نمل النار

* الجنرال..

لم تكن المرة الأولى التي يصنع فيها لنفسه فنجانًا من القهوة، لكنها المرة التي يشعر بها ويلتقطها في كل لحظة منها، وهو العاشق لرائحة قهوة الصباح قبل ارتشافها، لا يدري بأية متعة يتذوقها. ما انتابه حالًا، ليس لأنه سوف يحتسي فنجان قهوة الصباح وحده، فهي من عاداته، أحيانًا مع زمرة من الضباط زملاء العمل، منذ ثلاثين سنة، مع أولى خطوات حياته العملية، ضمن قوات الأمن المركزي.

ﺇنه إذًا فنجان قهوة الصباح، الكفيل وحده بأن ينقله من عالم مضى، ويؤهله إلى عالم جديد.

لم تكن هي المرة الأولى التي ينزع فيها غطاء برطمان البن الفاتح المحوِّج المخصوص، الذي يصل إليه من المحل المجاور لمنزله. ثم ببطء وروية وهي صفات غير معتادة عليه ولا هي معروفة عنه، يكيل البن المطحون جيدًا المحوِّج. أعده وجهزه البَنَّان تجهيز الطلب المخصوص.. فأفرط في كل ما جعله خليطًا من الرائحة النفاذة المسيلة للعاب، لأصحاب الكيف والمزاج العالي في تذوق القهوة التركي.

يفرط عم «بركة» بحذق وخبرة ويضيف كل ما يجعله حتمًا يجلب مذاقًا معشوقًا للذواقة، وهو الذي يشير بيده صامتًا لعماله، وما عليهم إلا التنفيذ، إلا بُنّ «الجنرال» ينهض به بنفسه، وبيديه الصغيرتين الممتلئتين ككفي أنثى بَضّة، يضع حبات البن اليمنى المخصوص الساخن ويطحنها بنفسه، في مطحنة صغيرة خاصة، وبين الحين والحين يضيف مرة «الحبهان» ثم يُوقِف المطحنة ويرفع الغطاء يتشمم، لثوان، ثم يضيف «المستكة»، ويعيد الكرة ليضيف من مطحون «جوزة الطيب» و«القرفة» و«القرنفل».. ولا يكتفي بما بلغ خياشيمه، يقبض القليل بين إصبعيه السبابة والإبهام، وبطرف لسانه يتذوق شاردًا.. بعدها قد يكفُّ العمل أو يضيف شيئًا من هذا أو ذاك.

****

اليوم هي المرة الوحيدة التي يحتسى فيها «الجنرال» فنجان قهوة الصباح في شرفة منزله، المرة الأولى التي يتذكرها وضبط نفسه متلبسًا يفعل. لعلَّه لا يتذكر أنه جلس تلك الجلسة من قبل، دائمًا في مهمة عمل أو على ذِمَّة مهمة يعد لها، ولا يعرف ما يعرفه موظفو الحكومة أو القطاع الخاص من إجازات وعطلات رسمية. وكيف لمثله أن يفعل وهو المسئول عن أمن البلاد، وقد عهد في نفسه كل مشاعر الإخلاص في مهمته، لا ضير ألا ينال الراحة التي يعرفها الناس.

بعد كل تلك السنين والأيام، بينما كان لا يجد ساعة واحدة يجلس فيها مع زوجته وأطفاله، ضبط نفسه وحيدًا في الشرفة مع فنجانه، وضبط «الخونة»، زوجته وأولاده لا يكلفون أنفسهم مشقة الجلوس إليه.. الطفلان موظفان مجتهدان، والزوجة ثالثهما لم تستطع الحصول على إجازة من العمل للجلوس إلى جواره، وهو العائد من محبسه بالأمس.

هي المرة الأولى إذًا التي يحتسى فيها الجنرال فنجان القهوة، بعد أن أُحِيل إلى المعاش، أحيل إلى المعاش وهو داخل محبسه بتهمة التواطؤ في قتل المتظاهرين.

كانَ الطقس باردًا ككلِّ صباحات شهر «طوبة»، لكنه صحا باكرًا ككل صحوات أيام عمره، لم يشم رائحة كمكمة الأيام أبدًا إلا الآن!

عندما انتفضت زوجته بخفة، ونزعت الغطاء، فور أن أعلن «المنبه» دقات السادسة والنصف صباحًا، دَقّت على زر الصوت وأخفته، لم تصيح «اصحي يا (زورو)، زوجها الجنرال الراقد بجسده إلى جوارها، وقد أمضى في محبسه قرابة السنة».

كما بطة سوداء تجرجر أفراخها إلى النهر، فعلت الزوجة، وهي تسير على أطراف أصابع قدميها. وجرجَرتْ ولديها، تأمرهما بحزم أن يستيقظا، لم تشأ أن تُقلِق زوجها الجنرال لأنه نائم!

لم يدر بخلدها أنه ربما لم يغفل له جفن طوال ظلمة الليل، غلبته الأسئلة:

هل هكذا انتهى كل شيء؟

من الطبيعي أن أحصل على البراءة.. تاريخي الطويل في الشرطة، وﺇخلاصي في عملي، ومحبتي لكل ما كنت أنتمي إليه، يكفي لأن أنال البراءة، بل من الخطأ أصلًا أن يتهموني في شرفي المهني ويشككون في انتمائي الشرطي والوطني، بينما كنت إلى آخر رمق لي في العمل مخلصا، بعدها تم القبض علي.. قبضوا علي وأنا مَن أنا.

كل من عمل معي وتعامل، من رؤساء ومرؤوسين، قالوها بصوت عالٍ:

«لن تمر السنوات القليلة المقبلة، إلا وسوف نراك على رأس أجهزة الشرطة كلها!»

عندما سَمِع صوت دفعة هينة لباب الشقة، أيقن أن زوجته فرغت من مهام الصباح الباكر، لعلها شاءت أن يبقى هكذا يحلم، أو هكذا تظن.

فأسرع، نهض في دفعة واحدة، جرجر قدميه نحو باب الشقة الموصد، بقي لفترة يبحلق ويُمعِن البحث بناظريه بين أرجاء الشقة.. لم ينشغل باختفاء زوجته وولديه.. شغلته أكثر الحوائط والجدران.

بانت شقته كما لم تبن له من قبل، تلك التي أقام فيها منذ ليلة زفافه وحتى الآن.. وبان له كهف «التاميرا» الأسترالي الذي قرأ عنه ذات مرة!

ابتسم وأمعن النظر وهو يدور بقامته الفارعة دورة كاملة، فإذا به يشرئب برأسه أمام لوحة من «الجبلان»، كما لم يكن يعلم أنها ها هنا منذ سنوات. بدت جرباء متربة، ذات إطار معتم فقد بريقه الذهبي، ترسم ثورًا نافر القرنين، مقوس الظهر والبطن.. تمامًا كما هي صورة ثور الكهف البعيد، صورة نحتها الإنسان الأول هناك!

بدا الجنرال وكأنه اكتشف كهفه الخاص جدا، يعيش فيه ولم يره!

ابتسم صامتًا.

لم تدم البسمة طويلا، فورًا لمح طاقم «الأنتريه» متهالكًا، وقد هبطت وسائده وخربشات غائرة في جوانب مقاعده ومسانده. بدا وكأنه شرد خجلًا من أثاث لم يُبدِله ولم يجدده منذ زواجه، فرمى رأسه إلى موضع قدميه الحافيتين.. بانت له وبرة السجادة المنحولة، باهتة الألوان، رقيقة الحال.

بان له وتأكد أن هناك شيئًا ما تغير، والجميع ذهبوا إلى أعمالهم.. وبقي هو وحده.

****

للمرة الأولى منذ سنوات بعيدة، يستيقظ من النوم ولا يدري ماذا عليه أن يفعل.. لم يجد سوى إعداد فنجان القهوة المنتظر؟! لعله يتناول إفطاره حالًا، ربما كان ببطء وخمول، أو هو في عجلة من أمره تشوقًا لفنجان الصباح، لا يدري كم من الوقت انقضى؟

لم يخطر بباله أن يأتي يوم يبحث فيه عن إجابة لسؤال:

وماذا بعد.. بعد أن يستيقظ من النوم؟!

فلما بلغ مقعده أمام المنضدة الخيزران في الشرفة، شعر بنشوة استنشاق رائحة أبخرة هينة يقذفها سطح القهوة المتماسك «وش القهوة»، فأسرع إلى الرشفة الأولى، يا لمذاق الرشفة الأولى!

وقال في نفسه وهو يهزهز كرة رأسه:

«شكرًا (أبو بكر الشاذلي العيدروسي) اليمني، أول من زرع البن وصنع القهوة»، ثم رشف رشفته الثانية!

بعدها وقف عند باب غرفة النوم، مرتبكًا كان، لعله تذكر أنه يرتدي المنامة، ما زال.. فانتبه أنه لم يرتد ملابسه الرسمية المعتادة، تساءل؟!

يبدو أنه نسي وتذكر، نسي أنه مُحال إلى المعاش وتذكر ما آل إليه في الآن نفسه! فشعر بالارتباك. لم يرتبك طويلًا، أخذ قراره كعادته وهو الجنرال الحاسم في أمره.. حالًا وقف أمام مرآة دولاب الملابس يتابع هندامه، كما كانت هي عادته كل صباح. ولأنه المنضبط باطنًا أو ظاهرًا.. لن يقبل أن تبدو الكتَّافات (اﻹسبليت) غير مستقرة على كتفيه، ولا حزّ البنطال في المنتصف تمامًا وحادًّا وعلى المسافة نفسها في طرفي البنطال كليهما.

انتهى الأمر، ارتجفت جفونه، عادة عصبية جديدة انتابته، بعد توجيه تهمة التقصير والتواطؤ والقتل إليه. تابع صورته في المرآة، لم ينتبه أنه هكذا مرتبك وهو ببزَّته وهيئته العسكرية كامل الأوصاف، عدا الحذاء!

بدا مصلوبًا جامدًا مسمَّرًا فوق موقع قدميه، بينما مؤشرا ساعة معصمه يشيران إلى السابعة صباحًا، وما كان في هذا التوقيت داخل شقته قَطّ. تلك الساعة المنضبطة بالثانية ولا خلل، طوال أكثر من عقدين من الزمن، كيف لها أن تتلف وهي هدية وزير الداخلية له، بعد إتمام مهمة القبض على أحدهم من خلية إرهابية، خلال الثمانينات من القرن الماضي!

****

هل من الطبيعي أو المحتمل، أن يتذكر المرء حادثة ما، تستغرق فترة زمنية تطول أو تقصر، فلا يشعر بمضي الزمن، مهما طالت شردته لا يشعر بزمن الحادثة الحقيقي؟

سؤال جعله يبدو دهشًا بعد انتباهه على صوت طرقات قطرات المطر تتساقط بالخارج، تضرب زجاج باب النافذة. لم يتوقف أمامه طويلًا، فهو ليس ممن يتسرعون في إصدار الأحكام، لكنه من المؤكد ممن يشعرون بالملل لو اضْطُرّ لمزيد من التفكير.. من قبل برر لنفسه تلك الخصلة بأنه لا يملك وقتًا كأوقات الشعراء.

والآن تلبسته الورطة، ماذا عليه أن يفعل وقد بات يملك الوقت كله وفائضه؟!

****

عصام..

كانت «فريال» فتاة جميلة، خِلْتُها أجمل فتاة في العالم، المهرجون من الأصدقاء لا يرون فيها الجمال والحسن الذي أصفها به.. لولا صوتي الزاعق وانفعالاتي الصادقة بالغضب، ما كفوا عن الهزار والمزاح والسخرية منها ومني! كيف لا أراها جميلة وستَّ الحسن، تعرفتُ عليها للمرة الأولى، حين حَذَّرَتني من «صفوت» زميلنا في تحرير جريدة الحائط، دون أن تعرفني، بحثت عني حتى عثرت عليَّ، وقالت: «انتبه من صفوت زميلكم، رأيتُهُ يشي بكل صغيرة وكبيرة للضابط حازم!».. تصغرني في العمر، مع ذلك تبدو لي أحيانًا كأنها أمي التي حُرِمْت من نصحها. لن تدهش لو أخبرتك عن فريال التي تقدمت مجموعة من زملائها الطالبات، فور أن تقدم الضابط وأمرها بفض التجمع أو المظاهرة المنتظرة.. نَفَّذَت مبتسمة، وانفرط عقد جماعة الطالبات.. فلما عاتبتها، ابتسمت وقالت: «سوف ترى».

منذ ذلك اليوم نجحت في إقامة علاقة جيدة مع الضابط، ظن أنه تمكَّن من تجنيدها لصالحه ولصالح الأمن.. بينما نجحت هي في تحقيق الكثير مما رأيناه مهمًا للطلبة، ومن مطالبنا التي نعجز عن تحقيقها، مثل إقامة حفلات السمر والندوات الثقافية.. وتنفيذ الرحلات المتخصصة أو الثقافية، ليس مجرد النزهة هنا أو هناك؟!

وحدها فريال هي التي أبدت الاستعداد للمخاطرة بحياتها لتهزم مشاعر التجاهل والخوف التي أحاطتني، فلما زادت مضايقات الضابط لي، وزاد عليها أن هدد زملائي بالعقاب الغامض (لم يفصح عنه بالضبط) إن شوهد أحدهم برفقتي، لم تعبأ فريال.

بدت زميلتي تلك أيقونة العقد الأول من القرن الحادي والعشرين؟!

****

زادت الأحاديث بيننا، أنا وفريال، لو انتبه أحدهم لحواراتنا، حتمًا سوف تنال منه الدهشة.. لك أن تتخيل الحبيب الذي يتغزل في حبيبته فيقول لحبيبته: «أراك فتاة عملية.. لا تصطنع الرقة والصوت الرفيع، ولا حتى مضغ الطعام محكمة غلق الشفتين.. يعجبني فيك شعرك المشعث، وثرثرة لسانك القبيح، وملابسك الجينز الممزقة، وﺇن كنت أعلم أنها ممزقة بسبب ضيق ذات اليد، ليس كما الموضة، وهو ما أخبرتني به حين لاحظت المزق الهينة لأول مرة؟!»، فترد فريال وتقول: «أراك شابًا عفيًّا.. تقتحم المخاطر ببساطة!».

ذات عَصْرِيّة، لم يقررا أن يتناولا ساندوتشات الفول والفلافل ثم دخول أقرب سينما وسط البلد، لم يتعَمَّدا أن يدخلا تلك السينما بالتحديد، بل لم يتعرَّفا على مكانها ﺇلا مصادفة، مثلما لم ينتبها للفيلم الذي تعرضه تلك الدار.. دخلا بينما الظلام غلب كل المكان إلا من شعاع ممتلئ بالغبار يعلو الجميع، تنفثه فتحة مربعة ضيقة من حجرة آلة العرض حتى الشاشة البيضاء. قبض عصام على كف فريال الخشنة، شعر بلذة تخصه وحده. احتوى خشونتها التي حكها بإصبعه الإبهام عمدًا، وهو يلحق بعامل السينما يرشدهما إلى مكان مقعديهما.

بقيت فريال هكذا مائلة بل نائمة على كتفه، كما ارتاحت شفته على شفتيها، فلم تتردد أن عاتبته على تلك القبلة غير البريئة وليست بين صديقين أبدًا. وافقها، أعاد وقبَّلَها قبلة الأحبة.. وخرجا على نية البحث عن تفاصيل ﺇمكانية ﺇتمام الزواج.

بدت فريال أكثر التزامًا بما تراه جيدًا لحياتها، انشغلت أكثر بحضور المحاضرات ومتابعة الدرس، لأن تتجاوز تلك المرحلة ويتم زواجها من عصام، خصوصًا بعد أن أفهمتها أمها أنها لا تملك ما يمكن أن تزوجها به، وليس أمامها سوى الحصول على ليسانس الحقوق والعمل فورًا وادخار راتبها الشهري، حتى تتمكن الزواج ممن تُحب، عصام كان أو حتى عفريتًا أزرق.. لا يهم!

****

نهض المتمرد عصام وجلس عدة مرات في حركات عصبية غير منتظمة، وهو يتابع ﺇلى جوار عبد الوارث تطوراتِ ما يحدث في القاهرة التي لا تبعد عن المنصورية أكثر من ثلاثين كيلومترًا، لكنها بَدَتْ تبعدُ القرون عن رأس عبد الوارث الذي شَرَدَ في حديث الولد عصام الذي ما عاد ﺇلى البيت الكبير، وجَلَسَ ﺇلى جواره ﺇلا ليطلب ﺇحضار فريال بعد الزواج منها حالًا.. وأن يقيم في الطابق العلوي معها بعد بعض التعديلات الهينة، منها أن يتكفل عبد الوارث بكل الالتزامات المالية الواجبة، وﺇحضار النجار فورًا لتثبيت الباب الخشبي الذي يمنع اقتحام أي غريب عليه وهو مع زوجته!

يبدو وكأنه يعبر عما في رأسه بانفعال شديد، ثم قال كلامًا وكأنه لم يسمع تعليق أبيه الذي بان منه معرفة الرجل بكل التفاصيل، لكنه يفضل الصمت.

أخيرًا رفع عبد الوارث رأسه وحدق في عينَيْ ابنه، ثانية يقول: «وكأنك كنتَ وحدك في المعركة!».

بمرور الوقت، ما حدث أن لاحظ الابن أن أباه فقد كل ردود الفعل العادية لفرد يعي ويسمع وينفعل بأقل قدر كان.. حتى ظن أن أباه قد مات! انتبه الأب للحظة، ثم قال وهو قابض بجفونه بؤبؤ عينه: «لكن كان فين الجنرال في كل تلك الأحداث يا ولد؟».

لم يعقب الولد «عصام»!

****

عبد الوارث المصري

الليلة جلس في العراء برفقة برودة طقس تلك الأيام الشتوية، مع نوَّة لا يعرف لها اسمًا، لعلها نوة قاسم أو نوة المكنسة، نَسِيَها رغم كل الخبرات التي خَبَرَها، نظرة واحدة في السماء، تكفي لأن يقرأ صفحات الطقس لأسبوع مقبل، وأحوال دوامات النهر في المنطقة بين الأقصر وأسوان، وأخبار النوات!

بعد هجمة أولاده الهكسوس، زاد اشتياقه ورغبته في الانزواء وحده، أكثر كثيرًا عما قبل، فَضَّل أن يتابع صوت نقيق الضفادع. يشرد، يسعى أن يتذكر تلك الأدعية والأوردة عن الأقطاب الزُّهَّاد.. إبراهيم الدسوقي، ذو النون المصري، أحمد البدوي، عبد القادر الجيلاني، وأحمد الرفاعي.. يتذكر صبرهم على الايام الحسك، وزهدهم عن زهو أحوالها إن زَهَتْ.. ولم يتعلق بهم إلا لأن لهم حبًا وحالةً مع مياه النهر، نهر النيل!

تعلَّق أكثر بـ«أبو الفيض ثوبان بن إبراهيم» المعروف بذي النون المصري، أشهر الزهَّاد، ولد عام 155هـ بأخميم بسوهاج، ثم رحل منها إلى الفسطاط. لاسمه حكاية يرددها أهل سوهاج، تشبه حكاية سيدنا يونس وبطن الحوت، كانت كرامة الشيخ مع مياه النيل وبطن التمساح المفتري الشرس قاتل الأطفال. أقسم أحد السوهاجية وانفعل حتى احتقنت أوداجه، يوم أن سأله عبد الوارث عن قصة الشيخ في بلدتهم، فقال الرجل:

«والمصحف الشريف كتبها (يقصد كرامة ذي النون) الشيخ العارف بالله الشعراني في كتابه (الطبقات الكبرى).. على لسان ذي النون يخبرنا بالحكاية والمعجزة (جاءتني امرأة فقالت إن ابني أخذه التمساح، فلما رأيت حُرْقَتَها على ولدها، أتيت النيل وقلت: اللهم أظهر التمساح.. فخرج إليَّ، فشققت عن جوفه فأخرجت ابنها حيًّا صحيحًا فأخذته ومضت)».

منذ ذلك اليوم البعيد أقسم عبد الوارث المصري عن ثقة: «لولا النيل ما كان ذو النون»!

يؤكد رأيي وفكرتي أنه مات عن تسعين سنة، حتى إنه بدا في لحظاته الأخيرة له في الدنيا معلقًا بالنيل، قال الشعراني: (لما توفي ذو النون رضي الله عنه بالجيزة، حُمل في قارب مخافة أن ينقطع الجسر من كثرة الناس في جنازته..) لعله ولعل المصريين لم تكن تعلم أن ذا النون شاء أن تكون آخر خطواته على أرض مصر، وأن تكون فوق سطح مياه النهر، وهو من ألهم ذويه بالفكرة، مثلما ألهمهم بأن يُدفن على مقربة من النيل، وكرم أهل الفسطاط مقبرته كثيرًا.

عاد وابتسم عبد الوارث حين تذكر ما قال به محمد بن الفرخي: «كنتُ مع ذي النون في زورق، فمر بنا زورق آخر، فقيل لذي النون: إن هؤلاء يمرُّون إلى السلطان، يشهدون عليك بالكفر. فقال: اللهم إن كانوا كاذبين، فأغرقهم، فانقلب الزورق، وغرقوا. فقلت له: فما بال الملاح؟ قال: لما حملهم وهو يعلم قصدهم؟ ولأن يقفوا بين يدي الله غرقى خير لهم من أن يقفوا شهود زور، ثم انتفض وتغيَّر، وقال: وعزتك لا أدعو على أحد بعدها، ثم دعاه أمير مصر، وسأله عن اعتقاده، فتكلم، فرضي أمره». فلما انتهى من ضحكته وتذكر آخر كرامات شيخه، وقف مستندًا على مساند المقعد، رفع ذراعيه ﺇلى أعلى وصاح ناظرًا ﺇلى السماء: «لو كانت أولادي تكذب، لا تغرقهم بجريرة كذبهم».

على غير توقع انتبه عبد الوارث على صوت جميلة: «على من تدعو يا رجل يا عجوز.. إياك أن تكون غاضبًا على الأولاد؟!».

لم تسمع ردًّا، ولم تشأ، بسرعة عادت تتابعه من خلف زجاج النافذة. يبدو وكأنه تعلق الليلة بذي النون أكثر من كل الليالي، قال مخاطبًا ذا النون: لم تكن كاذبًا ولا مدعيًا لكرامة، هم من كانوا ينسبون ﺇليك كرامتك التي تفعلها ولا تدري أنها هكذا تعتبر من شأن ذوي الكرامات وحدهم من أمثالك.. فلما نسبوا ﺇليك أن بأصابعك نبعًا من الماء.. لم تفرح وأنت تعرف مكانة الماء عند أهل مصر، رفضت أن ينخدعوا فيك وقلت:

«بعض المشايخ بل الغشاشين يوهم المريدين بنبع الماء من أصابعه، سوف أكشف لكم الخدعة. إن من يدعي تلك الخدعة، يأخذ مصران غنم فيدبغه بعد غسله، ثم ينقعه بماء الورد سبعة أيام، وبعد ذلك يأخذه، فيربط طرفه الواحد ربطًا جيدًا، ثم يجعل في طرفه الآخر عقدة قصب، ثم ينفخه في الهواء حتى يجف.. فإذا جف.. أخذه ثم ملأه ماء.. ثم جعله في قميصه، وقد عمل له حمالات من تحت القميص.. فإذا أراد أن يسقي الناس جعل رأس المصران في فم الوعاء وهو دائر من حيث لا يعلم به أحد، ثم يفك رأس المصران بظفره، فينزل الماء في الوعاء».

مع ذلك كله وضعت يا ذا النون كل من له الحق في كرامة تخصه، تذكرها وتبجله كل التبجيل، لأن كرامته تتعلق بالماء.. قلت: «كان (حسن إبريق العابد) إذا وقع الدلو منه في البئر يأمر الماء بأن يرتفع بالدلو.. وكان (حسن الطراوي) إذا فقد ماء الوضوء ينزل عليه ولي من السماء في عنقه قربة مملوءة من ماء النيل.. ويدعي الشعراني أنه كشف عنه الحجاب، حتى سمع تسبيح الجمادات والحيوانات من البهائم وغيرها، ويسمع من تكلم في أطراف مصر وقراها إلى سائر أقاليم الأرض، ثم إلى البحر حتى صار يسمع تسبيح السمك».

****

فى ليلة تالية قالت جميلة: «أراك ليلة بعد ليلة، تتعلق بالمقعد الخيزران أكثر.. وتعدل من وجهتك؟! متحير ومحيرني معك!».

«ممكن أن أجلس هكذا وتكون وجهتي نحو الشمال، فأرى مياه النهر إلى البحر، إلى المصب، فتنكشف لي كل ما تحمله من أوساخ، نجسنا بها مياهنا الطاهرة.. فأغضب! وممكن أن تكون وجهتي إلى الجنوب، حيث المنبع، فيبين لي مستوى المياه، فورًا أدعو الله حتى لا ينخفض».

فيما بعد سمعته يقول للضفادع التي بدأت تفرض صوتها: «أجدادنا حافظوا على مياه النيل، وأثق أن أجدادكم من الضفادع، وجدوا خيرًا وفيرًا في النهر النظيف.. أتذكر ما قرأته ذات مرة في حوار بين الملك الفرعون والكاهن الأعظم.. قال الكاهن: (يجب أن نسأل الله، أن يحفظ لنا النهر.. يجري فنرتوي، وترتوي البهائم ونروي الأرض السوداء، فتصبح خضراء ونأكل من ثمارها. وتصحو أجسادنا من غفوتها، فلا نمرض ولا تنال منا العلل، ونُشفَى من كل ضيقٍ وسأم). فأمره الملك أن يعيد ويكرِّرَ صلواتِهِ من أجل النيل العظيم.. وبدأ الكاهن يُعِيدُ تلاوتَهُ ويزيد: (يا أيها النيل العظيم، قلبي لم يسأم من الدعاء لك، أن تظلَّ في حال جريانك بين الضفتين.. كريمًا فيرتوي الجميع، وتشرب من مياهِكَ بطونُ الأرضِ الطينية السوداء، وبطون النساء والرجال والأطفال والشيوخ. وأن تبقى حاميًا للسفن المشروخ جدارها الخشبي، وحتى المكسورة قلاعها والممزقة شراعها.. يا أيها النيل العظيم، لا تغضب منا لو كان خطأ البعض فينا.. خطأ عظيم البلاء، شديد الضرر عليك. لقد وَجَدْتُ بعضَهُمْ يلقي بجثث الحمير والبهائم النافقة إليك، فتغضب.. لكنني لم أسمع أبدًا أنك مددت يدك المائية لتسقط من يفعل تلك الأفعال الشائنة، وتغرقه في مياهك.

الآن أيها النيل العظيم، أعطني أفضل ما عندك من مياه نقية ونظيفة، وكن كريمًا تجود بجرعة كبيرة جدًا من عندك، حتى يشرب الشعب من حولك ويرتوي، بالصحة والهناء والعافية.. لا تنسَ يا أيها النيل العظيم، أن الشعب نفسه، هو من يأمرك، وهو الآن يشعر بالقلق والخوف عليك».

في تلك الليلة تحديدًا بدا واضحًا، أن شغله صوت نقيق الضفادع أكثر من كل الليالي! تابع الصوت وتوالدت الأسئلة، وبدأ يراجع كل ما عرفه عنها من قبل.

يعرف أن الضفادع تصدر أصوات النقيق طوال الليل، وقرأ عن أسرارها.. عرف كيف يميز أنواع الضفادع، شعر بالدهشةِ أن تابَعَ ضفدَعَيْنِ ينقّ الأول، ثوانيَ قليلةً ويردُّ الثاني.. وكأنه حديث الوجد والجوى، بقي لساعات، فلما اختفى الصوت وكف الصراخ، لمح ضفدعين يتقاذفان من أمامه، ذكرًا وأنثى يسعيان للمزيد من الضجر والضجيج والحب! عرف أن صوت النقيق بسبب مرور هواء التنفس من جوف البلعوم، إن قابل الغشاء الجلدي برز للرائي، وشاهد تلك البالونة اللافتة التي يُعرَف بها الضفادع، وعرف أنه ليس لكل الضفادع كيس.. كان من الواضح أنه يخاطب جميلة، لكن الحقيقة أن جميلة انزاحت بعيدًا، بعد أن ألقت بالصينية النحاسية يعلوها كوب الشاي الكبير وزجاجة مياه غير مثلجة، فقط لسد حاجته وشعوره بالعطش.. سريعًا وضعتها فوق المنضدة الخشبية، واختفت. أكثر ما حرص عليه في تلك الليلة، لم يكن البحث في أسباب فعلة أولاده وأحفاده واحتلالهم البيت الكبير، حتى إنه لم يجد مكانًا يرمي عليه جسده المنهك في هدوء ومستور يستره! انشغل أكثر أن سأل رأسه لماذا يصدر الضفدع نقيقه؟! فعرف السبب.. هو تمكين الذكور من جذب شريك له للتزاوج. ضحك.. حتى انتبهت جميلة وشعرت بالقلق والخوف على الرجل العجوز.. رمت الشال الصوفي حول رأسها ثم خرجت إليه، سألته: «لماذا الضحك وأنت وحدك هكذا، لو علم أولادك بضحكاتك وحدك، سوف ينقلونك إلى مستشفى العباسية للمجانين».

رد عبد الوارث مبتسمًا غير ضاحك هذه المرة: «تأكدت أن نقيق الضفادع أفضل من نقيق أولادي وأحفادي!».

«لم أفهم، ولكن ربنا يخليك ويحرسك بطل ضحك».

فكف العجوز عبد الوارث المصري الضحك!

****

ماذا تقول الآن؟!

الآن حان الوقت كي أؤكد لك أن النص الذي بين يديك، فيه قدر معلوماتي يشبه كتب العلوم والتاريخ والجغرافيا! فيه قدر تقريري يُشبِهُ صفحةَ الحوادث في الجرائد السَّيَّارة الرخيصة التي تسعى لشد انتباه القراء وترويج سلعة غير ذات قيمة!

وفيه ابتهالات مصرية قديمة لظني أنها ذات مغزى، حتى ولو لم تعجبك، أعجبتني!

ماذا تقول في المتصوِّف الذي كان يجهل أنه قدوة للمتصوفة، ذي النون المصري، يبدو أنني تعمدت اختياره لأن اسمه يُشبِه اسمي؟!

أظنُّ أن الروايات كاذبة كلها.. وجميلة! الروايات تذهب بنا ﺇلى عالم بعيد.. ونتمناه، ثم ننساها! الروايات بوح مضمر لخبيث.. نبحث عنه!

الروايات لا يعترف بها رجال التاريخ، تعال ندعُ معًا أن نَزُجّ فكرة أكثر خبثًا من الروائيين ورجال التاريخ معًا؛ أن نعيد كتابة أيامنا بصياغة «التاريخ الحكائي للبشرية».. أكيد أكثر صدقًا، وﺇن بدا عاطفيًّا يتعصب ويتعاطف مع نمل الأرض ونمل النار.

بقلم: عبد الوارث المصري

****

ســـيرة "السيد نجم"
بكالوريوس طب وجراحة الحيوان – جامعة القاهرة- عام 1971م
- (دراسات عليا/ تخصص صحة عامة وصحة تغذية
- ليسانس الآداب (فلسفة)– جامعة عين شمس بالقاهرة- عام 1980م -البريد الالكتروني ab_negm2014@yahoo.com
صدر له:
- "السفر"-مجموعة قصص قصيرة- "القاهرة"-"دار الثقافة الجديدة"- 1984م
. - "أوراق مقاتل قديم"-مجموعة قصص قصيرة- القاهرة-"هيئة الكتاب المصرية1988"م. - "أيام يوسف المنسي"- رواية– القاهرة- "مطبوعات نصوص90الأدبية19990"م. - "المصيدة"- مجموعة قصص قصيرة -القاهرة- "هيئة الكتاب المصرية"- 1992م. - "لحظات في زمن التيه"- مجموعة قصص- القاهرة- "هيئة قصور الثقافة عام 1993"م. - "السمان يهاجر شرقا"- رواية- القاهرة- "هيئة الكتاب المصرية"- عام 1995م . - "عودة العجوز إلى البحر"- مجموعة قصص قصيرة، "دار الوفاء للنشر"- عام 2000م. - "العتبات الضيقة"- رواية- القاهرة- "هيئة الكتاب المصرية"- عام2001م. - "غرفة ضيقة بلا جدران"- مجموعة قصص- القاهرة- هيئة الكتاب المصرية2006"م. - "يا بهية وخبريني"- ثلاث روايات قصيرة- القاهرة- مطبوعات نادي القصة2006"م. -"كامس.. ابن الشمس"- رواية- - دار الهلال- القاهرة- عام2007م. -"مرنبتاج.. فرعون الخروج"- رواية- دار الهلال- القاهرة- عام2008م -"الروح وما شجاها"..-رواية- هيئة الكتاب المصرية2008 م. - "أشياء عادية فى الميدان"- رواية- روايات الهلال- الهلال 2013م -نبؤ الحكيم آبور- روايات تاريخ مصر- دار الهلال-2016 – "ضجيج الضفادع"- دار الادهم- عام 2018م