يلتقط القاص المغربي لحظة مفصلية في حياة المبدع الذي تشغله ظروف حياته العلمية عن العالم القريب إلى نفسه والذي يعشقه ويبحر به في قوارب الخيال والتشكيل ولذة بناء الشخصيات وشؤونها خيث يخلقها وييخوض في اللجة باحثا عن مصائرها. لحظة ينحاز فيها إلى الجمال والكتابة

انتفاضة

حسـن يـارتــي

 

انتصب أمام خزانته، وهو ينظر إليها بحنين، يناجي تلك النزعة الأدبية التي أخمدها بشتى الدراسات العلمية.

اليوم، توقد نبراس الأدب في فؤاده، وانتفض على العلم بعد أن لمس كتبه، حيث استرجع عشرات الشخصيات التي نسجها، وحدد كل معالم دنياها.

تلك الكتب كانت هي كل شيء بالنسبة له. كانت خليلته ونصيرته وخديمته.

تلك الخزانة المليئة بالكتب والدفاتر، تعرف جوهره أكثر من أي كان. إنها التي أشعلت نيران التأليف في فؤاده، وصقلت مهارته على نسج الكلمات وحياكة الحروف ليُنتِج شخصيات إبداعية ترتدي جبة الحياة بين سطور رواياته. ذاك هو الإحساس الأجمل الذي اشتاقت نفسه لتجربته مجدداً.

بعد النوستالجيا التي انغمس فيها، أدرك أنه كان شخصاً أفضل بكثير.

كان فناناً ومبدعاً، يطلق العنان للحروف، حتى حين كانت ترفض مغادرة لسانه.

كانت العوالم الممكنة والمستحيلة تفيض مع مداد قلمه، فكان يترك بالكلمة أثراً في التاريخ؛ تاريخه هو.

كان يدرك أنه ترك فصلاً كبيراً منه في كل رواية ألّفها، لكنه في نفس الوقت كان يشعر بأنه ملأ فراغاً كبيراً في ذاته.

بعد سنوات من الإمساك عن مداعبة الكلمة، ها هو يعود ليقرأ بضعة جمل من كتابته، متسائلاً: "أحقاً كنت مبدعاً هكذا؟".

كان شعوراً نزيهاً وصادقاً. هو فعلاً بدون قلمه وكتاباته لا يساوي شيئاً في نظره.

خبط يده بكل غضب على مكتبه، وضغط على القلم بين أنامله، كما لو كان يريد اعتصار بضع كلمات منه.

فتح مذكرة وبدأ يخط ويخط، وكأنه يعلن انتفاضة أخرى على نفسه، انتفاضة على العلوم يحيي بها جانبه الأنموذجي الإنساني، يحيي بها جانبه الرهيف والرقيق.

تلك الوقفة أمام الخزانة، أيقظ فؤاده الميت فأبدع وأبدع وأبدع.