هذه الرواية تجمع بين أدب الرسائل، والسيرة الذاتية، والرواية التاريخية، فبيجليا في هذه الرواية لا ينسلخ عن واقعه، ولا تاريخ بلاده، بل يقدمه للقارئ في صورة من السهولة تصعب علي كُتَّاب التاريخ أنفسهم، وهنا يجمع بين التاريخ السياسي للأرجنتين، الذي عايش جزءًا كبيرًا منه، والتاريخ الأدبي، الذي أصبح أحد أعمدته.

تنفس صناعي: تأريخ سياسي وأدبي

محمد حسن خليفة

 

تنفس صناعي هي الرواية الأولي التي يقوم بكتابتها الكاتب الأرجنتيني ريكاردو بيجليا، الصادرة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب سلسلة الجوائز، ترجمة عبد السلام باشا، لكن لم تكن أولي المحاولات في الكتابة والنشر، فقد سبقها بأربع مجموعات قصصية، هي: »الغزو» عام 1967، »اسم مستعار» عام 1975، »السجن مدي الحياة» عام 1988، و»حكايات أخلاقية» عام 1995.
في أواخر الستينيات هاجر ريكاردو بيجليا إلي الولايات المتحدة الأمريكية، هاربًا من حكم الديكتاتور بيرون، ومن الرقابة الشديدة علي الفكر، والسينما والمسرح، وكل أشكال الحياة، ومن منفاه كتب بيجليا أولي رواياته »تنفس صناعي» عام 1980.
رواية »تنفس صناعي» هي البداية التي انطلق منها المشروع الأدبي الروائي لبيجليا، فرواياته لا تدور في فلك واحد، لكن تتخذ من الرواية التاريخية، وأدب الرسائل، والتشويق والإثارة، مختبرًا للكتابة.
بين النصف الأول من القرن التاسع عشر وحتي سبعينيات القرن العشرين، تدور أحداث الرواية. زمنان مختلفان، لكن بينهما تقارب شديد من النواحي السياسية والفكرية والأدبية، سواء في الواقع أو الكتابة، فالرواية نفسها رغم تعدد شخوصها والفترة الزمنية، إلَّا أنها لا تقوم علي أي من هذا أو ذاك، بل علي فكرة الكتابة نفسها، الأشكال الروائية، وتطور الأساليب، واللغة أيضًا التي لها نصيب كبير في هذه الرواية، فهو يتناول اللغة وما يحدث لها حين ننطق بها، بشكل مختلف تمامًا يقترب لفلسفة اللغة، ففي الرواية سوف تجده يقتبس من فيتجنشتاين كثيرًا، ويتكلم عنه أكثر، ويحلله، ويعرض تاريخه.
رواية »تنفس صناعي»، تجمع بين أدب الرسائل، والسيرة الذاتية، والرواية التاريخية، فبيجليا في هذه الرواية لا ينسلخ عن واقعه، ولا تاريخ بلاده، بل يقدمه للقارئ في صورة من السهولة تصعب علي كُتَّاب التاريخ أنفسهم، وهنا يجمع بين التاريخ السياسي للأرجنتين، الذي عايش جزءًا كبيرًا منه، والتاريخ الأدبي، الذي أصبح الآن أحد أعمدته.
كمحاولة لكتابة سيرة ذاتية، لشخص ما، تنقسم الرواية لقسمين، قسم يتكون من مذكرات كتبها شخص في القرن التاسع عشر، وقسم قائم علي المراسلات والخطابات بين أبطال وشخوص الرواية، سواء الشفهية أو الكتابية.
في مستهل الرواية التي يبدأها بيجليا بسؤال، هل يوجد حكاية؟
مؤكدًا فيما بعد في الأسطر التالية أنه بالفعل يوجد حكاية، وهي وإن وقعت بين فترة زمنية مختلفة أو بعيدة، لكن يبقي هناك حكاية.
بيجليا يبدأ روايته من خلال التشويق، السؤال نفسه داعٍ لشد انتباه القارئ، جذبه للبقاء معه حتي الصفحات الأخيرة، فهو يعمل علي وجود الحدث والتشويق، والاهتمام به.
من خلال الرسائل والخطابات المتبادلة، بين الخال وابن اخته، تقوم الرواية، وحين يبدأ الخال في الكتابة عن أحد الرجال المُقربين للدكتاتور روساس في القرن التاسع عشر، يستعرض بيجليا الأحداث التاريخية والسياسية في الأرجنتين، وكل محاولات الانقلابات العسكرية، الفاشلة والناجحة، وما يحدث داخل الدولة، بل ما يوجد في أحشائها، والربط المذهل والتسلسل الذي صنعه بيجليا في الرواية، جعل القراءة سهلة، رغم ما تحتاجه من تركيز، حتي لا تتوه بين التفاصيل، فكتابة بيجليا نفسها الظاهرة أمامك ليست كاملة، هناك كتابة مختبئة داخل القصة المرئية، تحتاج لمن يكشف عنها، ويري جمالها، وروعة الاتقان المكتوبة به.
حين يصف بيجليا الأرجنتين بلده في الرواية يقول: »بعد اكتشاف أمريكا لم يحدث أيُّ أمرٍ يستَّحق أدني اهتمام في هذه البلاد. مواليد، وفياتٌ وعروضٌ عسكريةٌ: هذا هو كلُّ شيء. التَّاريخ الأرجنتيني مونولوج الهذيان، اللانهائي».
لن تجد وصفًا صادقًا وحقيقيًا هكذا لبلد عاني كثيرًا من الانقلابات العسكرية، وصعود الحكام الديكتاتوريين، واقتتال المعارضة، والتفرقة البشعة بين المواطنين، ومحاولة تعليم الكل الأنانية، كنهج ودستور للاستمرار في هذه الحياة.
فبيجليا في أكثر من موضع في الرواية يستمر في وصف بلده، لتكتمل الصورة للقارئ عن تلك الفترة التي يكتب عنها، حتي أنه يقول علي لسان أحد الشخصيات: »أنا مُقعَدٌ، مثل هذا البلد
ريكاردو بيجليا المولود عام 1941 في أدروغي المدينة الأرجنتينية، له مسيرة طويلة في العمل الصحفي، والنقد الأدبي، فهو محرر وكاتب قصة قصيرة، ما جعل له أرضية ثابتة وجماهيرية لدي القراء، وكُتَّاب الأرجنتين.
فترة الثمانينات، الفترة التي كتب فيها بيجليا روايته، كانت بداية لتغير كبير في المشهد السياسي والثقافي، ليس فقط في الأرجنتين ولكن في العالم كله، بداية لتغير الذائقة الأدبية والتجريب في أكثر من منطقة سردية، كما أنها فترة تربع الواقعية السحرية علي عرش المدارس الأدبية، فبعد صدور رواية تنفس صناعي بعامين حصل جابرييل جارثيا ماركيز علي جائزة نوبل للآداب.
وكتابة بيجليا لرواية "تنفس صناعي" في تلك الفترة كان عملًا مختلفًا، ومغايرًا لمعظم ما كان يصدر باللغة الإسبانية حينها، جعل له مكانة متفردة بين جميع كُتَّاب اللغة الإسبانية، وفي العالم كله، فمع وجود الواقعية السحرية وسيطرتها، أتي هو بشيء آخر تمامًا، واستطاع من خلاله ان يفرض نفسه، وتُقرأ كلمته، فكان له مكانته المستحقة.
الرواية والتي تعتبر متوسطة الحجم، 220 ورقة في الأصل المكتوبة به، قطعة أدبية عبقرية، لا تخلو من التنظيرات حول الأدب والكتابة، وتاريخ الأدب العالمي، واستعراض للحركات الفكرية المختلفة، وساحة للنقاشات الأدبية الثرية حول الكُتَّاب والكتب، وطُرق الكتابة المختلفة، والمنتج الأدبي الواصل في النهاية لكل كاتب أرجنتيني وعالمي، قرأ له بيجليا مَرَّة، أو قابله، أو تعلم منه.
فالقسم الثاني من الرواية لوحده، عالم آخر من الإبداع، سوف تجد فيه بيجليا يجمع بين كاتب وشاعر وفيلسوف، وتخيل كم المتعة، التي تخرج من الثلاثة، كم الكتب الذي سوف يُذكر في كل محادثة، تناول الأدب العالمي وتاريخه، وتحليله خلال تلك الفترة، فسرد بيجليا مذهل، عبقري كلمة قليلة عليه، أصلًا الرواية حائزة علي جائزة مانويل روخاس للسرد عام 2013، فالعمود الرئيسي في الرواية، الأساس القائمة عليه، هو السرد، المنطقة التي يلعب فيها ريكاردو بيجليا بكل أريحية.
الحكاية عند بيجليا تنطلق من الذاتية، لكن بعد فترة يتضح أن هناك ما هو أبعد من ذلك، ما يحيط بالقصة هو الأهم لديه، الأحداث التي يتم الكشف عنها هي المطلوبة، أيضًا لا تخلو الحكاية عنده أو الرواية والقصة، من الفلسفة، فهي عنصر مهم ورئيسي، حتي أنه في وقت من الأوقات يخترع فلسفة خاصة به، ويكتب عنها، ويستعرض فلسفات الآخرين.
ترجمة عبد السلام باشا، ترجمة رائعة بكل المقاييس، معرفة قوية باللغة، وبالسرد والكتابة، فهو قام بترجمة روايتين لريكاردو بيجليا، الطريق إلي إيدا، الصادرة أيضًا عن الهيئة المصرية العامة للكتاب سلسلة الجوائز، ورواية »تنفس صناعي»، الترجمة هنا يستحق عليها الثناء والتقدير.
رواية »تنفس صناعي» بمثابة درس في الكتابة، ومديح لها وللكُتب، من يفهمه جيدًا، يكون قد خطا الخطوة الأولي في عالم الكتابة.

 

أخبار الأدب.