يتناول الكاتب مشروع الكتابة النسائية عند مصطفى سلوي من كتابه خلال «صحوة الفراشات» ويستبين كيفية سعيه لاستتباب هوية أدبية نسائية في النص. ويشدد على ضرورة التعامل مع المنتوج الإبداعي النسائي بعيدا عن أي إسقاطات وأحكام جاهزة تخص ما يبدعه الرجل.

مشروع الكتابة النسائية عند الباحث مصطفى سلوي

محـمد حـماس

 

الانتصار للكتابة النسائية
عندما يكتب باحث وناقد من طينة الدكتور مصطفى سلوي، عن الكتابة النسائية، فالأمر يحتاج منا لتدقيق عدد من المعطيات عبر استدعائها، لأن تلك المعطيات سوف ترسم أمامنا منطلقات البحث ودوافعه، باعتبار أن لكل بحث أكاديمي وعلمي مبرراته الذاتية والموضوعية، فإن كان المبرر الموضوعي واضحا بديهيا، بدافع الهوس العلمي والاشتغال بالفضاء الأكاديمي الجامعي لما يقارب أربعة عقود، غنية حد الثراء بالمثابرة والفعل المباشر والاحتكاك اليومي بالطلبة وبالمادة العلمية، يبقى المبرر الذاتي أقوى، في نظرنا، من حيث كونه أضحى قضية حملها الباحث سي مصطفى سلوي ودافع عنها كتابة ومناظرة منذ زمن ليس بقليل، منذ افترقت السبل بين مؤيد لتجنيس الكتابة النسائية كائنا قائما بذاته، لما تمتلكه من مقومات وخصوصيات على مستوى نحت الحرف وطرق الموضوعات، وبين فريق ناهض فكرة الفصل هذه باعتبار أن الكتابة إنشاء لا يحتكم فيه لقواعد الكتابة بلاغة ومضمونا وصورا ومعاني ومجازات وتيمات، وغيرها من الجوانب التي يتوجب على الكاتب الإحاطة بها، بعيدا عن جنس الجهة التي أبدعت. ويبقى سي مصطفى سلوي أحد المنتصرين لضرورة التعامل مع المنتوج الإبداعي النسائي بعيدا عن أي إسقاطات وأحكام جاهزة تخص ما يبدعه الرجل، وهو بذلك يضع اليد على جوهر المشكلة ليخرجها لدائرة الاهتمام ويخصها بحيز غير يسير من اهتمامه، ونعتبر أن الرجل توفق إلى حد كبير في إقرار وبلورة مشروعه حول تبنيه للكتابة النسائية، وهي ما يعبر عنه في كثير من الأحيان بكتابة الأنثى، والتي سيعنون أحد مؤلفاته عنها بـ"الفراشات"، وهو الموضوع الذي حاولنا طرقه ضمن هذه المساهمة احتفاء بالباحث سي مصطفى سلوي.

* * *

اللغة وممارسة فعل الكتابة
الكتابة فعل ذهني، واللغة أداة لممارسة فعل الكتابة وفق حمولات فكرية ومعرفية، تخضع لقواعد وتتشكل وفق معجم خاص بموضوع الكتابة، ولا شك أن كل كاتبة وكاتب يكتب عن سبق إعداد وليس بعفوية او من فراغ، إذ يكون فعل الكتابة محطة تفريغ لما ظل يختمر ويروج في ذهن وعبر أحاسيس الكاتب، حتى يصل مرحلة المخاض ثم الوضع، هكذا يمكن اعتبار حالة الكتابة عند المرأة، ولو أن هذا المخاض طال لأمد غير يسير، حكمته النظرة الدونية للأنثى ودورها داخل الزمرة وبالتالي بين أفراد المجتمع، حيث ظلت تعاني الجحود والحرمان والإقصاء. لكن لابد من التنبيه هنا لاستمرار هذه المرأة/ الأنثى في الإبداع والخلق في صمت أو خلف الحجال، أو جهارا في لحظات نادرة، ولسنا في حاجة هنا لخوض في وضع المرأة داخل مختلف المجتمعات عبر جميع المراحل التاريخية، والأمر لا يعني الحديث عن المساواة، لأن القول بالمساواة تبخيس للمرأة وتكريس للنظرة الدونية، فكل طرف داخل المجتمع له قيمته وحضوره وقوته وعطاؤه ودوره، من هنا يتجلى تصور الكاتب الباحث سي مصطفى سلوي، من خلال كتاباته عن الكتابة النسائية عامة، وفي الكتاب، موضوع درسنا، "صحوة الفراشات"، والذي هو عبارة عن دراسة في قضايا السرد النسائي المغربي المعاصر. فالكتابة وجع نلتذ بممارسته، والكتابة روح جديدة وحياة أخرى نصنعها، والكتابة صحو من غياب.

* * *

الكتاب
يقع الكتاب في 320 صفحة من الحجم المتوسط، عن منشورات مكتبة سلمى الثقافية، المنشور عدد 113، مطبعة الخليج العربي، تطوان، المغرب، ط.1، 2017، ولو أنه بالعودة لمقدمة الكتاب التي وضعها المؤلف نفسه نجدها تحمل توقيعه مؤرخا بـ16 يونيو 2011، ربما إكراهات الطبع هي التي أخرت إصدار الكتاب لست سنوات، بما يمكن أن تحمله السنوات الست من متغيرات، لكن قراءة الكتاب لن تجعل القارئ ينتبه لفارق الزمن. يزينه غلاف بألوان الفراشات، وتغيب عنه صورة المؤلف عدا اسمه، كما عودتنا جل الإصدارات في شتى صنوف الآداب والعلوم الإنسانية، وفي ذلك دلالة على الحظوة التي خص بها المرأة، التي يهديها عمله هذا، ويقول: "لا يمكنني أن أتصور نفسي كائنا خارج كينونة المرأة"، وهو عنوان يلخص مدى انخراط المؤلف في مشروع الكتابة النسائية وفق قناعة الباحث العارف بما ظلت تختزنه المرأة المبدعة في استقلالية تامة عن أي زيغ ذكوري، وإقرار بالتفوق أو الدونية، أو بمعنى أعمق، تلك الأنثى التي ظلت تشكل موضوعا للكتابة من خلال النظم أو السرد، وحملتها القصص والحكايات والأساطير عبر الحقب الزمنية البعيدة، وهي الآن تحولت لتكتب وتبدع وتنتج وتحقق ذاتها.

* * *

صحوة الفراشات، الاصطلاح والمفهوم
نقف في البداية عند عتبة العنوان، باعتباره مدخلا أو مفتاح ولوج عوالم الكتابة وتصورات الكاتب عن الكتابة النسائية، والتي يجعلها أدبا قائما بذاته، مستقلا عن غيره، إن على مستوى التيمات المطروقة أو المعجم الخاص والمعاني، إذ هناك فعل كتابة مميز توجب التعامل معه بعيدا عن ذهنية التعالي، إنه جرح ينفتح، على حد تحبير فرانز كافكا. وقد جاء في "اللسان" فعل صحا، والصَّحْوُ: ذهابُ الغَيْم، يومٌ صحوٌ وسَماءٌ صحوٌ، واليومُ صاحٍ. وفي "معجم اللغة العربية المعاصرة"، صَحْوة، جمع صَحَوات وصَحْوات: اسم مرَّة من صحَا: وعي وشعور وإدراك: صَحْوة المريض/ النائم. وفي "معجم الغني"، صَحْوَةُ النَّهارِ، واِرْتِفاعُ النَّهارِ.

ونعتقد أن الصحوة جاءت لتكشف عن جرح ظل يتسع لزمن، وهي صحوة للخروج من شرنقة النسيان والاستهلاك، نحو التحليق عاليا والتوهج بألوان الفراشات، من هنا يبدو الكاتب موفقا في اختيار عنوان مناسب لمؤلفه. ثم إن الكتاب جاء موزعا عبر جزأين، بعد الإهداء والمقدمة الشاملة لملابسات البحث وإطاره العام ودواعيه بلغة رصينة شاعرية، ولو أنه لم تتم الإشارة رسما للجزء الأول الذي يضم أربعة مباحث، اهتم القسم الأول باستحضار الرجل والمرأة كجنسين يؤسسان لمجتمع واحد، يكمل بعضهما بعضا، وربطهما جدليا بالواقع المجتمعي الذي يعيشان فيه، على المستوى السياسي والاجتماعي والاقتصادي، انطلاقا مما شهده المغرب في الآونة الأخيرة من انفتاح على قضايا المرأة وضرورة إدماجها في الحياة العامة، "بغية الانتقال بها من حال المستهلك السالب المتفرج على ما يحدث، إلى حال المنتج المشارك في تنمية البلاد"(1).

أما عن صفة الفراشات، فقد عمد الكاتب لتوظيفها في بعدها الجمالي، لما تزخر به من ألوان زاهية تجعل من الفراشات محط إعجاب من حولها، وما تحمل من دلالات التألق، غير أن الفراش لا يعمر طويلا ليكون مصدر حياة لأجيال قادمة تستمر عبرها ومن خلالها الفراشات في إنتاج الجمال، وقد حضي مصطلح فراشات باستعمال عدد كبير من الشعراء والمبدعين، والفراشة تنجذب نحو الضوء والنار الحارقة أو بيت العنكبوت، وتتعدد عنها الروايات، إلا أن الكاتب، وفي خاتمة مؤلفه، يقف عند دلالة الفراشات مستحضرا نص "من يقتل الفراشات" للطيفة لبصير، ليبرز هذه الدلالات واستعادة رمزية الفراشة بجناحيها ذات الألوان، "فالجناحان لدى الفراشة هما عنوان السمو والشموخ والارتفاع نحو الأعلى، وسرقة هذين الجناحين معناه السقوط على الأرض والعجز التام عن التحليق، وبالتالي تصير الفراشة التي كانت في الفضاء العالي سامية مرتفعة موطئ لأقدام الناس..."(2)، لكن رمز الفراشة له أكثر من الدلالة، إذ له علاقة بالحياة الحميمية لكل أنثى، من مساحيق التجميل إلى الملابس الداخلية التي تحمل رمز الفراشة، ليخلص الكاتب إلى كون الفراشة تطابق رحم المرأة، والفراشة تموت إذا عبث أحدهم بجناحيها، وكذلك الأمر بالنسبة للأنثى حين تتعرض لأي اعتداء على شرفها، وهو خطاب يتكرر عند جل الكاتبات ليؤكد هذه العلاقة بين جناحي الفراشة وجناحي رحم المرأة، وترجمت هذا البعد من خلال خطاب الأنثى عن اكتشاف جسدها(3)، مستعينة بالمرآة لتتأمل هذا الجسد وتفاصيله(4)، "وتبقى قضية اكتشاف الذات وحديث المرأة عن جسدها بلغتها الخاصة، من أهم القضايا التي بنت عليها الأنثى الساردة أغلب الموضوعات التي خاضت فيها"(5).

* * *

الخصوصي بين الدال والمدلول
هكذا خلص الكاتب للحديث عن الفراشة في بعدها الدلالي من خلال اختيار عدد من النصوص، لتشكل القسم الثاني من هذه الدراسة، وقد اختارها بشكل دقيق لاستنباط مكامن الخصوصية في الكتابة النسائية، فهو يختار الصمت والبوح الصادم والقول الذي يعري شخصية الرجل الفاسدة.. وهي موضوعات لا يستطيع الرجل الخوض فيها أو عنها، معتمدة، الأنثى، اللغة المتميزة التي تعبر بها عن هذه القضايا.

ويأتي فعل الكتابة النسائية، حسب المؤلف، ضمن هذا الوضع العام الذي تشكل المرأة ركنا أساسا فيه، من هنا جاء الكتاب ليجيب عن إشكاليات عدة، منها المرأة التي استطاعت أن تفرض نفسها وتنبعث من رماد غضبها، فعمد المؤلف في تناول قضايا السرد النسائي إلى معالجة عدد من النصوص السردية للوقوف على ما حاولت المرأة توكيده بفضل الكتابة، ومنها نماذج: وفاء مليح ولطيفة لبصير وسعاد رغاي ومليكة نجيب ومليكة مستظرف وفاتحة مرشيد وحليمة زين العابدين وخناتة بنونة... وفاطمة بوزيان والزهرة الرميج ولطيفة باقا وزهور كرم وليلى أبو زيد وغيرهن... فركز منذ البداية على التكامل بين الجنسين، فالمرأة صنو الرجل، رغم أن حديث الرجل عنها ذكوري، حيث أن معينات الكتابة عند الرجل مختلفة عن التي تمتح منها المرأة، فمعينات الكتابة عند الرجل هي الحاجة الماسة للتعبير عن خلجات النفس وحاجياتها المادية والمعنوية، ثم الحاجة للتعبير عن حاجات المجتمع ومتطلباته، باعتبار أن الكاتب مرآة المجتمع.. والمعينات بهذا المعنى ذاتية وموضوعية.

دعت ضرورة منهجية الكتابة عند المؤلف، أن خص بالذكر علامات الأدب المغربي، بحيز مهم خلال المبحث الأول، ثم في بقية الكتاب في سياق عام، وتعزيز قوله بمعطيات إحصائية عن المنتوج الأدبي المغربي في مجال السرد(6).

ويقف صاحب "صحوة الفراشات" عند مقومات الخصوصية في جميع مباحث الكتاب، مؤكدا أن الكتابة النسائية تستمد تسمية مشروعيتها من خصوصيات هذه الكتابة، ونبشها في كثير من قضايا الماضي وطابوهات المجتمع، وتلتقي المرأة والرجل في معينات الكتابة التي تخص موضوعات قضايا المجتمع وتختلف في الخصوصية، إذ تتميز المرأة في نقل قضايا المجتمع من موقع المواكب والمتتبع والعضو داخل هذا المجتمع، فالكتابة الرجالية مُتَخَيَّلَة عكس الكتابة النسائية التي هي كتابة معايشة ومصاحبة، باعتبارها نابعة من حاجة المرأة إلى التحرر وتجديد الوجود والحياة، الكتابة النسائية تؤسس، كما الكتابة الرجولية، للفعل الإبداعي، ولكن من منطلق أن الكتابة أساس وجود الذات التي تمارس ذلك الفعل، من هنا يخلص المؤلف لأهمية الكتابة النسائية باعتبار حاجة المجتمع إليها، مؤكدا في الوقت ذاته على أن هناك موضوعات مشتركة لكتابة السرد بين الرجل والمرأة:

1- موضوعات يلتقيان فيها على مستوى التيمات.

2- المرأة كتبت في موضوعات لم يسبق للرجل أن كتب فيها، كما أن المرأة تطرح للنقاش قضايا الدعارة والتحرش وزواج القاصرات والشذوذ وتعليم البنات ووو..

3- المرأة كتبت عن الرجل كموضوع وتيمة كبرى داخل نصوصها السردية في الوقت الذي لم تشكل فيه المرأة في كتابات الرجل، السردية، سوى موضوعا وظيفيا يحتاج إليه الرجل في تأثيث فضائه الروائي القصصي. ويركز الكاتب أيضا، على معين اللغة في الكتابة النسائية، بحيث يأتي استعمال اللغة عند المرأة بمفهوم اللسان وليس اللغة في صورتها الأدبية البليغة التي دأب المبدعون التعبير بها.

والجميل عند المؤلف، أنه تناول الكتابة النسائية في سياق عام هو الأدب المغربي، إذ لا إقصاء لهذا الطرف عن ذاك، باعتبار أن الأدب المغربي ظل مواكبا لقضايا المجتمع وتطلعات الإنسان المغربي والعربي، فاستطاع أن يؤسس خصوصيته المغربية. وتأتي الكتابة النسائية لازمة لوضع المرأة وسعيها للانعتاق والتحرر من قيود المجتمع الذكوري وحواجز التقاليد والعادات، أو بمعنى آخر سبيلا للبوح والتعبير عن الذات وآلامها. وبالنظر للكتابة النسائية في الغرب، والتي تعود لستينيات القرن الماضي مع رائدات النزعة النسوية، سيمون دي بوفوار وجوليا كريستيفا وفيرجينيا وولف وروسي إيريغاري، سوف نلحظ أن الريادة النسائية بالمغرب تأخرت عن مثيلتها في الغرب، شأن الكتابة السردية الرجالية متقدمة في الظهور، لكن رغم تأخ الكتابة النسائية، بحسب رأي المؤلف، فإنها جاءت تتويجا لمعاناة المرأة المغربية(7).

يتسم تناول الكاتب لخصوصية الكتابة النسائية بكثير من الجرأة في طرح والدفاع عن هذه الهوية، من خلال طرح عدد من التساؤلات المباشرة، من قبيل: من يقرأ للمرأة؟ أهو الرجل الذي اتخذها موضوعا للكتابة؟ أم هو الرجل الذي اقتنع بقضايا المرأة، ومنها الكتابة النسائية؟ وطرح عدد من الثنائيات التي حكمت الكتابة النسائية، منها الكلام والصمت في إطار معاناة المرأة المغربية عامة والحرمان تحت غطاء الدين، حيث ظل صمت المرأة تكريسا لوضعها هذا، ثم ثنائية الروح والجسد، ثم ثنائية التعبير تارة بصوت المذكر خلال قضايا موجهة للمرأة ولها علاقة بالمرأة، وأخرى بصوت المؤنث للتعبير ذاتها وجسدها وآهاتها ونظرتها لما حولها وأبعد من ذلك، فيقف الكاتب عند عدد من الملاحظات تهم خصوصية الكتابة النسائية حين يبين مدى مهارة المرأة في استعمال اللغة والجسد لاستكشاف شخصية الرجل من خلال مجموعة من الأعمال، حيث تتولى المرأة الكتابة وتجعل الرجل ساردا، لتجعله يقر بأفعال مشينة اقترفها في حق المرأة، وهي نصوص تعامل معها الكاتب في القسم الثاني من هذا الكتاب، وهو القسم التطبيقي، إن جاز التعبير، حيث توفق إلى حد بعيد في عملية اختيار، حتى لا نقول انتقاء، المجموعات القصصية والنصوص السردية عامة، ليبني تصوره ومفهومه لخصوصية الكتابة النسائية، ومنها "اعترافات رجل وقح" لوفاء مليح، و"ليسقط الصمت" لخناتة بنونة و"مخالب المتعة" لفاتحة رشيد... وغيرها. يقول الكاتب: "لقد ظلت المرأة تستكشف شخصية الرجل وتجعل منه موضوعا لكتابتها، بعد أن كان هو الذي يتولى الكتابة عنها. غير أن كتابة المرأة هنا عن الرجل لا تأتي لتحقيق مطلب انتقامي أو عبثي، بقدر ما تقوم شاهدا على تبادل الأدوار والمواقع بين الرجل والمرأة من جهة، كما تأتي لاستبدال شخصية الرجل الماضي برجل جديد لا يشبه أبدا الرجل الذي كان"(8). والكاتب يبغي من وراء الوقوف عند نعت الكتابة النسائية، الحرص على تثبيت هذا النعت وعلى الخصوصية التي لم يسبق للرجل أن جاء بما يشبهها، إذ لا يحق حتى للكاتبات أن يمنعن هذه الصفة (9)، معتبرا بذلك التابة النسائية قيمة مضافة للمشهد الإبداعي المغربي. هكذا استطاع المؤلف أن يجمع بين النقد على مستوى الكتابة النسائية، من جهة، وبين المقاربة الاجتماعية لهذه الكتابة، اعتبارا لوضع المرأة داخل المجتمع، وهو وضع تحكمه رؤية خاصة، على مستوى العقيدة والعادات والتقاليد والأعراف.. لأنها تتحرك داخل هذا النسق الثقافي المعقد، فالكاتب استطاع أن يخلخل هذا الواقع، فهو يتحدث عن الاختلاف بين المرأة والرجل بمفهوم التمايز لا بمفهوم المساواة، فإن كان الرجل يتماهى بفحولته، فالمرأة تحتفي بجسدها ضد كل هيمنة ذكورية وثقافة السلطة السائدة، وبالتالي فالكتاب يضمر بين ثنيات فصوله دعوة للعودة لماضي الأنثى وقراءته واستكشاف الجمال من عوالم الصمت والجسد.

* * *

الصمت .. أو حين تتحدث المرأة عن جسدها
اشتغل المؤلف في دراسته هذه على موضوعين أساسيين استأثرا بالكتابة النسائية، هما: الصمت والجسد الأنثوي، موضوع الصمت نقطة انطلاق الكتابة عند المرأة، وعن هذا الطرح تناسلت قضايا تندرج في خانة المسكوت عنه (الاعتداء الجنسي على القاصر والشذوذ الجنسي والدعارة والسحر والشعوذة والفقر والقهر والاضطهاد.. وهي قضايا لم يخض فيها الرجل إلا بشكل محدود جدا(10)، حيث عمد الرجل إلى استجلاء تاريخ المرأة من حيث هي نبع الحياة، فجاءت الكتابة النسائية المغربية، ل"تعكس تلك التمثلات السوسيوثقافية التي تجعل من الأمومة إكراها يقيد تواجد المرأة في المجتمع والأسرة"(11)، فظلت المرأة موضوعا يكتب عنه الرجل للتماهي وسبر أغوار الأنثى ومدى قوتها ومعاناتها وشخصيتها وقدرتها على الإبداع، رغم كونها ظلت مفعولا به، يفعل بها الرجل ما يشاء، ويستثمرها موضوعا للكتابة وفق هواه ونزواته ورؤيته الأحادية، عكس المرأة التي لم تهمل الرجل، واعتبرته ضرورة من ضرورات الحياة. ويستطرد الكاتب، بشكل ذكي في التوكيد على خصوصية الكتابة النسائية، من خلال إثارة خصوصية حديث المرأة عن الرجل، وهو حديث يختلف عن تناول الرجل للأنثى، فالمرأة عندما تكتب عن الرجل تبتعد عن الاستطالة والاحتكار.. فالرجل بالنسبة إليها هو "تلك الذات الجميلة التي تحتاج إليها الأنثى لتكمل وجودها الفاعل بوجود الرجل في صورته المتناهية الكمال"(12).

ثم يخلص الكاتب لطرح عدد من التساؤلات الجوهرية والمجرجة عن الضرورة لكتابة نسائية، لماذا كتابة نسائية بخصوصيات تثبت هويتها واختلافها؟ يقف الكاتب عند التحولات عند الأنثى واستثمارها لانكساراتها وانهزاماتها التي حولتها إلى انتصارات، فصارت تكتب عن نفسها. فالمرأة، حسب الكاتب، جاءت لتؤسس لكتابة جديدة، مبنية على علاقات إنسانية جديدة وقواعد للتواصل، تنبني على معرفة الآخر والاقتراب منه(13)، "وتنظر من خلاله إلى الذوات والأشياء نظرة استكشافية تعيد إليها قدسيتها ومكانتها التي أوصت بها جميع العقائد السماوية"(14).

عندما شرعت المرأة في الكتابة، فلكي تضع حدا للزيف الذي ظل يمارس بلسان المرأة عبر الكتابة(15)، فباتت لتطل على المجتمع المغربي والعربي في سياق تحولات وحراك يشهدهما هذا المجتمع(16)، يقول الكاتب: "لقد امتلأت كأس الأنثى بالقدر الكافي الذي جعله يتدفق في كل ناحية؛ غير أن هذا التدفق لم يكن ليغرق كل شيء ويأتي على الأخضر واليابس، بقدر ما كان تدفقا راشدا؛ وكأن المرأة كانت في أفق انتظار نفسها وهي تقرأ واقعها الجديد في فنجان إحدى العرافات الغجريات؛ لذلك عرفت كيف تحضر له بالشكل الذي يضمن لها إيصال صوتها إلى الآخر، وبالتالي حَمْلِ هذا الآخر على أن يثق في تصوراتها وأطروحاتها الجديدة."(17)، فسعى الجانب التطبيقي في الكتاب للوقوف عند تبيان الانتقال من المحكي الشفوي للمكتوب، فكان أن انطلق بجرأة وقوة ووضوح وحرية لا حد لها. وهذا ما سعى لتأكيده صاحب الكتاب، فالأنثى تحررت من عقالها، وكشفت المستور والمسكوت عنه، وحركت الثوابت، ويمكن اعتبار رواية مليكة مستظرف "جراح الروح والجسد"، نموذجا لهذا البوح الفاضح، إذ نشرت غسيلها المتسخ على مرأى الجميع(18).

* * *

البحث في الكتابة النسائية مشروع قائم الذات
ينزوي الكاتب في ركن بعيد عن كل الضوضاء المحيطة به، يصغي لهمس وأنين ومعاناة وبوح ومناجاة وتمرد ومكابدة وصراخ واضطراب وصمت الأنثى، وهو يقرأ منتوجها السردي. المؤلف ليس قارئ عاديا. يصغي ويفك الرموز، فتتجلى أمامه المعاني والدلالات. وقد حقق التميز حين استطاع الجمع بين الرؤية النظرية للكتابة النسائية، والتطبيق على أكبر عدد من النصوص السردية، من داخل المجموعات القصصية، لأكبر عدد من الكاتبات المغربيات، فتسنى له الوقوف على القضايا المطروقة من طرف هؤلاء الكاتبات، وإن تكررت عند بعضهن، فالكتابة النسائية تتميز بكونها تتفاعل مع نفسها ومع الذات ومع الآخر. فظهرت العديد من المصطلحات ارتبطت بحركة النقد النسائي، مثل، الجندر والجنوسة والنسوية والأنوثة.. من هنا أي يتميز المؤلف بحديثه عن دوافع وتناول قضايا المجتمع في الكتابة واللغة والموضوعات وغيرها، دون خلفية المساواة بل التمايز، وهذا شيء إيجابي في كتاب "صحوة الفراشات" الذي جاء ليحتفي بالحرف الأنثوي القديم الإبداع وخصوصي الإبداع الناعم نعومة المرأة.

من هنا، نعتقد أن مشروع البناء النظري لمفهوم الكتابة النسائية، عند الباحث مصطفى سلوي، سيستمر باستمرار المنتوج الإبداعي للمرأة، على مستوى القراءة لجديد الأعمال السردية بشكل خاص، ومتابعة للكتابة النقدية عن الكتابة النسائية.

حديث الباحث مصطفى سلوي عن الكتابة النسائية، حديث عن الأنثى وهي تفصح عن ذاتها، فجاء خطابه ثورة ضد ذكوري القلم، وبالتالي خلخلة الفكر السائد، فطرح الكتابة النسائية من موقع التمايز وليس المساواة، معتبرا أن هذه التسمية ذات حمولة ثقافية ودلالة على التحرر، وهو ما عبرت عنه الروائية أحلام مستغانمي في "ذاكرة الجسد".

(جامعة ابن طفيل، باحث في التاريخ والتراث بمجال الريف المغربي، قاص)

* * *

الهوامش:
(1) مصطفى سلوي، صحوة الفراشات، قراءة في قضايا السرد النسائي المغربي المعاصر، ص.13

(2) نفسه، ص.313.

(3) نفسه، ص.314-315.

(4) نفسه، ص.75.

(5) نفسه، ص.10.

(6) نفسه، ص.15.

(7) نفسه، ص.15.

(8) نفسه، ص.48.

(9) نفسه، ص.51.

(10) نفسه، ص.9.

(11) Mezgueldi, Zohra (2008), “La maternité dans la littérature féminine au Maroc”, Lectora, 14: 51-63. ISSN: 1136-5781 D.L. 395-1995, p.51

(12) نفسه، ص.6.

(13) نفسه، ص.7.

(14) نفسه، ص.9.

(15) نفسه، ص.7.

(16) نفسه، ص.8.

(17) نفسه، ص.9.

(18) نفسه، ص.10.