هل يستعيد الكاتب السكندري هنا تلك القصة الحقيقية من وقائع الفساد في مطالع القرن الماضي كي يذكرنا بالفرق بين تعامل مصر وقتها معه، وتعاملها الآن وقد تحول الفساد إلى القاعدة وليس الاستثناء؟ أم أنه مجرد الشغف بعرض الماضي كمرآة للحاضر؟ أم تراها مجرد قصة من نسج الخيال؟!

محاكمة جورج فلبيدس

مصطفى نصر

 

صيف سماء القاهرة صافٍ، والناس يطردها الحر في البيوت فتخرج إلى الشوارع بحثاً عن نسمة هواء، وقد أحس إبراهيم الغربي برغبة في الخروج إلى الشارع، فارتدي ملابس النساء، ووضع باروكة فوق رأسه، ودهن وجهه بالمساحيق، ووضع قطعاً من القطن في صدره، وشد فوقها مشداً للصدر، ولبس حذاءً عالياً، ووضع الحلي في رقبته وأذنيه وذراعيه واستقل عربة حنطور قائدها يتعامل معه ومع والده – الغربي – ملك بيوت الدعارة في القاهرة - ينقل النساء من مكان إلى آخر.

جلس إبراهيم فوق المقعد الكبير وحده، ومد ساقه العارية والخالية من الشعر على المقعد المقابل، وأخذ يلوك " اللادن " وهو ينظر إلى الرجال في رغبة واضحة.

هذه الحالة تشده إليها منذ وقت لآخر، فهو يستطيع أن يحصل على ما يريد في بيوت الدعارة الكثيرة التي يديرها والده، وتساعده فيها أمه وأخواته، لكن الرغبة في الخروج إلى الشارع بهذا الشكل – رغم خطورته – تسيطر عليه ولا يستطيع الإفلات منها.

هو عادة ما يعود آخر الليل دون شيء، لكنه يحس بسعادة، وينام ملء جفنيه، لأنه حقق ما أراد.

يحكون، معارفه ومعارف والده، إن ما حدث لإبراهيم كان عقاباً مستحقاً لأبيه الذي دأب على إيذاء أولاد الناس، فكان يسرقهم من الشوارع – خاصة الهاربين من أهاليهم – ويجبرهم على ممارسة الفحشاء، ويقدمهم بعد أن ينظفهم إلى زبائنه. وكان حريصاً على أن يبعد ابنه الوحيد عن هذا المجال، لكن الولد انساق إليه وصار واحداً من الراغبين في التعامل مع الرجال.

كانت الحكومة قد قررت إلقاء القبض على المخنثين المنتشرين بحي الأزبكية، لأنهم يجمعون بين التخنث واللصوصية، ووضعهم في معتقل بحلمية الزيتون. فتم القبض على إبراهيم، وصفعوا العربجي الذي يعرفون أنه يتعامل مع بيوت الدعارة . وسحبوا إبراهيم إلى عربة البوليس الكبيرة، فصاح وأعلن إنه ابن الغربي المعروف لديهم، وأن كبار رجال الدولة يتعاملون مع والده، ويزورون بيوته السرية كثيرًا، لكنهم لم يسألوا عنه، ورموه في قسم عابدين توطئة لنقله إلى معتقل حلمية الزيتون.
ذهب والده – الغربي – وقابل مأمور القسم - محمد شكيب- وعرض عليه رشوة للإفراج عن ابنه، وحصوله على أمر بألا يعود إلى ارتداء ملابس النساء والتزين بالحلي هو وابنه، فوعده محمد شكيب خيرا، وقال: إنه سيكلم له محمود محمد - مساعد الحكمدار - فإذا لم تكن المسألة بأمر الحكمدار، فهو يحصل له على المرغوب. لكن الحكمدار رفض الإفراج عن إبراهيم الغربي، بل وأمر باعتقال والده أيضا، ورميه في معتقل حلمية الزيتون مع باقي المخنثين.

قابل جورج فلبيدس رئيس المكتب السياسي - محمود محمد – مساعد الحكمدار، وقال له:

  • إبراهيم الغربي رجل طيب، وأريد عمل طريقة لإخراجه هو وابنه.

- لكن الحكمدار يكره هؤلاء المخنثين.

جورج فلبيدس من أصل يونانى، تجنس بالجنسية المصرية ودخل الخدمة فى عام 1885 بوظيفة مترجم، لإجادته الإنجليزية والفرنسية، هو خالٍ من الشهادات الدراسية، لكنه ذكي ونبيه، لذا وصل في عام 1896 إلى درجة وكيل قلم. وفي عام 1900 عين رئيساً لأقلام الضبط في بورسعيد، ثم مأمور الضبط في المحافظة. وقد أعجب به "هرفي باشا " حكمدار القاهرة فعينه في عام 1909 مأموراً للضبط في العاصمة. وفي 1910 قُتل بطرس غالي – رئيس وزراء مصر – على يد إبراهيم الورداني، فأنشئ المكتب السياسي، وعين مأمور الضبط رئيسا له، وقد نال عطف الحكمدار وثقة مستشار الداخلية، وثقة صاحب الدولة حسين رشدي باشا – رئيس الوزراء، فقربه منه إلى درجة حسده عليها جماعة الكبراء، ثم أصبح جورج فلبيدس العدو رقم 1 للحركة الوطنية المصرية.

تحدث جورج فلبيدس في البيت مع زوجته أسما بخصوص إبراهيم الغربي. فضحكت بصوت مرتفع؛ عندما علمت بما يفعله هؤلاء المخنثون.

أسما امرأة جميلة ذات جسد رشيق. من مواليد بيروت، تزوجها جورج أيام كان مجرد مترجم، وشاركته رحلة الصعود، فهو يتحدث معها كثيرا عن عمله، وعما يحدث له فيه أولا بأول.

زارهم في تلك الليلة محمود محمد – مساعد الحكمدار – هو يكثر من زيارتهم، وتعد له أسما المأكولات الشامية التي يفضلها الرجل، فزوجته لا تعرف كيف تطهيها.
دار الحديث حول موضوع المخنثين، فقالت أسما لمحمود محمد:

- لماذا لا تتصلوا بأصدقاء إبراهيم الغربي حتي يدفعوا ويفرج الحكمدار عنه.
وبالفعل أرسل محمود محمد إلى أليفة بنت عبدالله التي تدير شبكة دعارة، وجاءت المرأة قلقة، فهي لا تخشى في حياتها إلا مقابلة رجال البوليس.

قال لها محمود محمد:

- أنتم لا تهتمون بإبراهيم الغربي طالما هو في الحبس، أنا والله زعلت علشانه.

- كلنا زعلانين علشانه ولكن ما باليد حيلة.

  • انزلي انزلي واطلعي بتلتميت جنيه.

ذهبتْ أليفة بنت عبدالله إلى بيت أسما وأعطتها الثلاثمائة جنيه، كما أوصاها محمود محمد – مساعد الحكمدار.

جورج فلبيدس يكسب كثيرا، فهو يأخذ مبالغ مختلفة من ضباط البوليس نظير ترقيتهم أو تثبيتهم، ومن المعتقلين السياسيين للإفراج عنهم ومن المتحررين في الأعراض لإطلاق سراحهم.

زاد حجم الرجل بعد الحرب العالمية الأولى، والمضاعفات التي نتجت عنها حتى أنه تم خلال شهورها الأولى نفي 49 تركيا و16 مصريا إلى جزيرة مالطة، فضلاً عن افتتاح معسكر اعتقال في الجيزة، كان يودع به أي شخص يتعرض لأقل شبهة، وكان تحت إشراف بعض معاوني جورج فلبيدس وعلى رأسهم: محمود محمد أفندي، والصاغ فرانشيسكو لوسكيانو. ونكل جورج فلبيدس بشباب الحزب الوطني، ولفق التهم للأبرياء، وطغى وألحق الضرر والأذى بالعناصر الوطنية. لكن زوجته تحتاج لنقود كثيرة، فهي تُكثر من شراء الملابس، وتدعو إلى بيتها الكثير من رجال المجتمع في البوليس وغيره، وتُكثر من تقديم الأطعمة الشامية – التي تجيد طهيها – إليهم، فما أن حصلت على الثلاثمائة جنيه من أليفة بنت عبد الله حتي أنفقت بعضها، وعندما عاد زوجها في المساء أخبرته بذلك، فلم يعترض، لكن الحكمدار رفض الافراج عن الغربي وابنه. فاضطر فلبيدس إلى رد المبلغ إلى صاحبته بعد أن خصم مبلغ عشرين جنيها، كانت زوجته قد أنفقتها.

من سوء حظ جورج فلبيدس أن ضابطاً في الجيش اسمه أحمد سرور الشريف، قد تم نقله إلى البوليس، وتخطوه في الترقية، فنصحه البعض بالذهاب إلى بيت فلبيدس ومقابلة زوجته أسما، فطلبت منه خمسة وسبعين جنيها مقابل ترقيته. وجمع الرجل المبلغ فعلا، لكن أخلاق ضباط الجيش تغلبت عليه، فذهب إلى البكباشي " تيل" - رئيسه الإنجليزي - وقال له:

- إذا لم يتم ترقيتي إلا بواسطة فلبيدس؛ فرجاء أن توصل إليه هذا المبلغ.
ابتسم رئيسه، وقال له:

- خذ المبلغ وسأتصرف.

ذهب رئيسه إلى " رسل " باشا مساعد الحكمدار وأبلغه بما حدث. ووصلت المسائل إلى إلى الحكمدار. لكنه لم يصدق أول الأمر، واعتبر أن هذا من أسباب الحقد على فيلبيدس الرجل الناجح.

لكن الكثيرين قدموا شكاوى يتهمون فيها جورج فلبيدس بطلب الرشوة. ولم يكن بالإمكان أن يبقى المسئولون على صمتهم، فوُضع تليفونه تحت المراقبة خلال شهر أكتوبر 1916، الأمر الذى كشف عنه عامل شركة التليفونات يدعى " ليون كريزيان "، وشهد الرجل بأنه سمع مكالمات دارت إحداها حول تكليف السيدة أسما لمحمد حربى – مراسلة زوجها – بمهمة مشبوهة، وأن جورج فلبيدس رد على ذلك بالقول: "عظيم، عظيم"، ثم جاءت شهادة أليفة بنت عبدالله التي أكدت بأن جورج فلبيدس أخذ منها 300 جنيه، وعندما رفض الحكمدار الإفراج عن إبراهيم الغربي رد المبلغ ناقصا عشرين جنيها. وتم القبض على جورج فلبيدس وزوجته أسما عبدالله والجندي المراسلة محمد محمد حربي. ووقفوا جميعا في قفص الاتهام. كان ثلاثتهم يبكون. من يصدق أن جورج فلبيدس الذي أذل الكثيرين يبكي هكذا؟!

اهتمت الصحافة بمحاكمة جورج فيلبيدس، الذي ألحق الضرر بالكثير منهم، فاهتموا بمحاكمته وتتبعوا كل ما يحدث فيها وتزاحم الناس على حضور جلساتها تزاحماً شديداً. ترافع عن جورج فلبيدس إبراهيم الهلباوي، وترافع مرسي بك حنا عن اسما. وكامل أفندى البنداري عن محمد حربي.

وحكمت المحكمة بالسجن 5 سنوات على جورج فلبيدس، وإلزامه بغرامة قدرها 5ر784 جنيها. وعلى زوجته أسما بسنة سجن.

صفق الجمهور وهتف من أعماق قلبه هتافا عاليا متواصلا بحياة العدالة وصاح في وجه المتهم:

- إلى الجحيم يا مجرم، إلى السجن يا جورج.

وبصقوا في وجهه واستمرت الهتافات المدوية حتى قاده البوليس إلى السجن.
كان يبكي هو وزوجته وبناته. ونظم الشعراء والزجالون القصائد الطويلة معربين عن فرحة الأمة بالقصاص العادل الذي وقع على هذا الطاغية.