يمتاز هذا الكتاب بجدة الموضوع وهو "المسرحية الشعرية العامية" بعد أن كثر الحديث عن المسرح النثري الفصيح. ويضم دراسة تحليلية تغطي الفترة من 1921 إلى 1986 وتتناول عشرة نصوص. فأهميته تنبع من توثيق نوع أدبي أصبح مهجوراً وتحليله وربطه بالسياق العام.

«المسرحية الشعرية العامية في مصر» ومنطق الصدق التاريخي

محمد السيد إسماعيل

 

سأبدأ – علي غير عادتي – بالإشادة الواجبة بالباحث الجاد المجتهد عبد الكريم الحجراوي بمناسبة صدور كتابه الأول "المسرحية الشعرية العامية فى مصر" عن الهيئة العربية للمسرح في الشارقة، والذي يضم دراسة تحليلية تغطي الفترة من 1921 إلى 1986 وتتناول عشرة نصوص: أربعة منها لبيرم التونسي وأربعة لنجيب سرور ونص مشترك بين فؤاد حداد ومتولي عبد اللطيف ونص لصلاح جاهين. يمتاز الحجراوي بقدرته على مقاربة العديد من الأنواع الأدبية: شعراً وقصة ورواية، بالإضافة إلى المسرح بطبيعة الحال ولا شك أن ذلك يرجع إلي تعدد مواهبه الإبداعية، فهو شاعر وكاتب قصة وروائي، غير أن أهم ما أقدره فى الباحث أنه ناقد مسرحي لندرة نقاد المسرح.

ومن هنا تأتي أهمية هذا الكتاب الذي يمتاز أيضاً بجدة الموضوع وهو "المسرحية الشعرية العامية" بعد أن كثر الحديث عن المسرح النثري الفصيح عند توفيق الحكيم وغيره والمسرح الشعري الفصيح عند شوقي وعزيز أباظة وصلاح عبد الصبور الذي استمر بعده في محاولات محمد إبراهيم أبوسنة ومحمد مهران السيد وأنس داود وأحمد سويلم. ومع جيل السبعينات جاءت محاولات وليد منير التي امتازت بخصوصية واضحة، ثم كانت النقلة المهمة عند محمود نسيم وفريد أبوسعدة ومحمد سليمان. هذا الاستعراض يؤكد استمرار المسرح الشعري الفصيح بينما يبدو المسرح الشعري العامي مشهداً منتهياً بموت شعرائه، ربما باستثناء عمل وحيد ليسري العزب هو "تغريبة عبد الرزاق".

كتاب عبد الكريم الحجراوي مهم من هذه الزاوية، زاوية توثيق نوع أدبي أصبح مهجوراً وتحليله وربطه بالسياق العام. يتكون الكتاب من مدخل يتتبع فيه الباحث بداية الكتابة بالعامية والصراع بينها وبين الفصحى وبداية ظهور المسرح الشعري العامي فى مصر ثم أربعة فصول تحمل العناوين الآتية: المؤثرات الشعبية والغربية وفنية المسرحية والبناء الفنى والوظيفة. بعد هذه الإشادة وهذا العرض المحايد أستطيع أن أبدي بعض الملاحظات ومنها اهتمام الباحث برصد مدى التزام النصوص الشعرية بالتاريخ والمقارنة الدائمة بين ما حدث تاريخيا وأحداث المسرحية سواء بالموافقة أو المخالفة؛ وهو أمر لم يعد ذا أهمية فى النقد الأدبي ولم يعد مما يشغل الناقد على نحو ما فعل العقاد مع مسرحية "قمبيز" لأحمد شوقي حين راح يحاكمها بمنطق الصدق التاريخي في كتابه "قمبيز في الميزان". الأمر الثاني هو ما لاحظته فى مسرحية بيرم التونسي "عزيزة ويونس"، وهي أنها تجمع – كما يبدو من شواهد الباحث – بين الفصحى والعامية وكنت أنتظر تعليق وتعليل الباحث لهذه الظاهرة لكنه مرَّ عليها من دون أي التفات.

وفي تحليله لمسرحية "شهرزاد"؛ يقول إن الشخصيات "لا تتحدث بما يناسب مكانتها الحقيقية في الواقع، فيظهر "زعبلة" على سبيل المثال يتطاول على "قرة آدم" قائد الجيش رغم أنه مجرد جندي". وهو رأي يتجاهل طابع السخرية التي هي سلاح المصري في مواجهة رموز السلطة. وفي موضع آخر يقول الباحث: "إن بيرم التونسى قد وفق في مسرحية "ليلة من ألف ليلة" وفي رسم شخصياته بشكل كبير وفي توزيع الأدوار أيضاَ وجاءت لغة الشخصيات متناسبة مع عملها فكل ينطق بما يقتضيه الحال في الواقع من دون ابتذال، فالتاجر يتحدث بلغة التاجر والخليفة يتحدث بلغة الأمراء". وهذه في الحقيقة أحكام تتسم بالعمومية من دون تقديم ما يدل عليها من النص ذاته. وربما كانت كثرة المسرحيات والمحاور التي تقوم عليها بنية الكتاب هي المسؤولة عن هذا القصور.

وفي حديثه عن "المؤثرات البريختية"؛ يرى الحجراوي أن "الاستعانة بالماضي" كانت أحد هذه المؤثرات. والحقيقة أن الاستعانة بالماضي ملازمة لنشأة المسرح؛ سواء الفصيح أو العامي، فمسرحيات شوقي كلها قائمة على استدعاء الماضي باستثناء "الست هدى" وكان الأجدى من ذلك معالجة التطوير الذي حدث فى استدعاء التراث ما بين بيرم التونسي ونجيب سرور مثلاً ورصد الانتقال من محاكاة الماضي إلى توظيفه أو من نقله إلى التفكير به. ولتوضيح ما أقصد تمكن المقارنة بين ما فعله شوقي في "مجنون ليلى" وما فعله صلاح عبد الصبور في "ليلى والمجنون". وفي حديثه عن الشخصيات يشير الحجراوي إلى مقومات الشخصية الثلاثة: الجسماني والاجتماعي والنفسي؛ غير أن هناك معالجات أكثر حداثة في مقاربة بناء الشخصية؛ منها ما اقترحه فيليب هامون حين تحدث عن المقياسين الكمي والنوعي ويقصد بالكمي عدد الصفات المخلوعة على الشخصية وبالنوعي صدقية هذه الصفات: هل هي الشخصية نفسها أم شخصية أخرى داخل النص الدرامي. هذه ملاحظات واردة ولا تقلل أبداً من قيمة هذا الكتاب الذي أشدتُ بجدته وبأهميته وبموهبة صاحبه منذ البداية.

 

جريدة الحياة.