تقدم لنا الكاتبة العمانية هذا النص المهم الذي يكشف فيه الكاتب الروسي الكبير عن صعوبة الترجمة الأدبية الإبداعية وعما يجب أن يتوفر فيها من معرفة بكل ما تنطوي عليه الكلمة الأدبية من تواريخ وظلال وسياقات. وكيف أن الترجمات المرذولة تشكل جناية على النص المترجم عنه واللغة المترجم إليها في آن.

الكاتب والمترجم الرُّوسي الأمريكي يكتب عن:

فنُّ التَّرجمة

عن خطايا التَّرجمة والقصَّة القصيرة الرُّوسيَّة العظيمة

فلاديمير نابوكوف

ترجمة زوينة آل تويّه

 

يمكنُ تمييزُ ثلاث فئات من الشَّرِّ في عالم النَّقل الشَّفهي الغريب. يشمل أوَّلُها وأقلُّها الأخطاءَ الجليَّةَ بسبب الجهل أو المعرفة المُضلِّلة. وهذا ضعف بشري محض ومن ثمَّ ممكنٌ اغتفاره. أمَّا الخطوة الثانية إلى الجحيم فيتَّخذها المترجم الذي يتخطَّى عن قصدٍ الكلمات أو الفِقْرات التي لا يكلِّف نفسه عناء فهمها أو التي قد تبدو مبهمة أو بذيئة لِقُرَّاء متخيَّلين على نحوٍ غامض؛ إذ يقبل المترجمُ التعبيرَ الأجوْف الذي يمنحه إيَّاه القاموس دونما وخْز ضمير، أو يُخضِع الثقافة لاحتشام متكلَّف، إنَّه مستعد ليعرف أقلَّ مما يعرف المؤلف بقدر ما هو مستعد ليعتقد أنَّه يعرف على نحوٍ أفضل مما يعرف المؤلف. وأمَّا الدرجة الثالثة والأسوأ من الفساد فيبلغها المترجم حينما يصوغ عملًا من روائع الأعمال ويسوِّيه في شكل يجمِّله على نحوٍ ذميم بأسلوب يتفق وفكر جمهور معيَّن وتحيُّزه. هذا جُرْمٌ يستحق العقاب بالمُثَقَّبة[i] مثلما كان يُعاقَب المنتحِلُون قديمًا عندما كان الناس ينتعلون أحذية على مقدِّمتها أبازيم ضخمة.

الأخطاء الفادحة التي تضمَّنتها الفئة الأولى بدورها يمكن تصنيفها صنفين. قد يؤدي الإلمام غير الكافي باللغة الأجنبية المعنيِّ بها إلى نقل تعبير عادي إلى عبارة غير عاديَّة لم يقصدها المؤلف قطُّ. تصبح عبارة [ii]“bien être général” جزمًا شجاعًا أنَّه "من الجيِّد أن يكون المرء جنرالًا"، إذ عُرِف عن مترجم "هاملت" الفرنسي أنَّه ناول الجنرالَ النبيلَ الكاڤيار[iii]. وبالمثل، في ترجمة ألمانية عن تشيخوف، حالما يدخل المعلِّمُ الصَّفَّ يصبح منغمسًا في "صحيفته"، مما حدا بناقدٍ مغرور إلى التعليق على الحال المحزنة للتعليم العام في روسيا ما قبل السوفييتية. بيْد أنَّ تشيخوف الحقيقي كان يشير وحسب إلى "سِجِلّ" يفتحه المعلِّم لينظر في الدروس والعلامات والتلاميذ المتغيِّبين. وبالعكس، تتحوَّل كلمات بريئة في رواية إنكليزية، مثل "الليلة الأولى" و"حانة" إلى "ليلة زواج" و"ماخور" في ترجمة روسية. إنها سخيفة ونَشَاز، ولكنَّها لا تضمر غرضًا خبيثًا، وفي كثير من الأحيان، لا تزال الجملة المحرَّفة تقدِّم بعض معنى السياق الأصلي.

يشمل الصنف الآخر من الأخطاء في الفئة الأولى ضربًا من الخطأ أكثر تعقيدًا، سبَبُه هجوم دالتونيَّة[iv] لغويَّة تعمي المترجم بغتةً. سواءٌ فُتِن بما هو بعيد المنال مع أنَّ الجليَّ في المتناول (ما الذي يفضِّل أن يتناوله شخص من الإسكيمو، الآيس كريم أم الشَّحم؟ الآيس كريم)[v]، أو أقام ترجمته دون وعي على أساس معانٍ زائفة طبعتها في ذهنه قراءاتٌ متكررة، فإنَّه ينجح بطريقة غير متوقَّعة وأحيانًا بارعة جدًّا في تشويه أكثر الكلمات صدقًا أو أكثر الاستعارات أُلفةً. عرفتُ شاعرًا يقظ الضمير على نحوٍ مغالًى فيه، ففي صراعه لترجمة نص ينضح لوعةً ترجم السطر، "يكتسي بصفرة عليلة من التَّوجُّس والقلق"[vi] على نحو ينقل انطباعًا لضوء قمر شاحب. لقد فعل ذلك مسلِّمًا بأنَّ "sickle"[vii] تشير إلى شكل القمر في أوَّله. وكان ما أثاره التشابه بين الكلمتين الرُّوسيَّتين اللتين تعنيان "قوس" و"بصل" من حسٍّ وطني بالفكاهة قد أدَّى بأستاذ ألماني إلى أن يترجم "قوس الشاطئ" (في حكاية خرافية لبوشكين) إلى "بحر البصل."

الخطيئة الثانية والأكثر خطورة هي إهمال الفِقْرات الشائكة، وهو أمر ما زال قابلًا للغفران حينما يتحيَّر المترجم نفسه إزاءها، ولكن، كم هو دنيء الشخص المتعجرف الذي على فهمه المعنى فهمًا جيدًا يخشى أن يربك مغفلًا أو يغوي دوفينًا[viii]! وبدلًا من أن يستكِنَّ متنعِّمًا بين ذراعي كاتب عظيم، يظل قلقًا على القارئ الصغير أن يلعب في زاوية ما بشيء خطير أو نجس. لعلَّ أكثر مثال فاتن خطر ببالي على الحياء الفكتوري هو ما ورد في ترجمة إنكليزية مبكِّرة لـ"آنا كارنينا". سأل فرونسكي آنا مم تشكو. أجابت آنا: "أنا beremenna"(وضعها المترجم بحروف مائلة)، فجعل القارئ الأجنبي يسأل أي مرض شرقي غريب وفظيع هذا؟ كل ذلك لأنَّ المترجم ظنَّ أنَّ عبارة "أنا حبلى" قد تصدم بعض القلوب الطاهرة، وأنه من الأجدى ترك الكلمة الرُّوسيَّة كما هي.

بيْد أنَّ الإخفاء والتَّلطيف يبدوان خطايا صغيرة مقارنة بخطايا الفئة الثالثة، فها هو يُقبِل مختالًا ومُبْرِزًا رُدْنَيْه المُرصَّعةِ أزرارهما بالجواهر، ذلك المترجم النَّاعم الذي يرتِّب مخدع شهرزاد حسب ذوقه ويحاول بتأنُّق محترف تحسين مظهر ضحاياه. هكذا اعتادت التراجم الرُّوسيَّة لشكسبير أن تمنح أوفيليا أزهارًا أكثر ثراءً من الأعشاب الفقيرة التي عثرت عليها. هذان السطران:

هناك ذهبت أوفيليا بأكاليل غريبة

من البابنج والمحلاح والأقحوان والزنبق الأرجواني[ix]

إذا ما أعدنا نقل ترجمتهما الروسية إلى الإنكليزية هكذا سيبدوان:

هناك ذهبت أوفيليا بأكثر الأكاليل جمالا

من البنفسج والقرنفل والورد والسوسن[x]

إنَّ بهاء عرض الأزهار هذا يتحدَّث عن نفسه، فهو يهذِّب عفوًا ما زاغ من كلمات الملكة مانحًا إيَّاها الكياسة التي تفتقر إليها على نحو مؤسف طارحًا الرُّعاة المتحرِّرين[xi]، كيف بوسع شخص أن يضع هذه الحزمة النباتية جنبًا إلى جنب مع نهر هلج أو نهر أفون؟[xii] هذا سؤال آخر.

بيْد أنَّ القارئ الروسي الرَّزين لا يطرح أسئلة كهذه لأنه، أولًا، لا يعرف النص الأصلي، وثانيًا، لأنه ليس معنيًّا بالنبات، وثالثًا لأنَّ الشيء الوحيد الذي يثير اهتمامه بشكسبير هو ما اكتشفه الشارحون الألمان والمتطرِّفون الوطنيون على نهج "المشكلات الأبدية." ولذا لم يهتم أحد بما حدث لأَجْرَاء غونيرل[xiii] في السَّطر:

تراي، والأبيض، وحبيب، كلُّها تنبح عليّ[xiv]

عندما حُرِّف هذا السطر على نحو مروِّع إلى:

جمع من الكلاب ينبح بقربي

اللَّون المحلِّي كلُّه، والتفاصيل المحسوسة التي لا غنى عنها كلُّها ابتلعتها هذه الكلاب.

بيْد أنَّ الثَّأر حلو، حتى الثَّأر اللاواعي. إنَّ أعظم قصَّة قصيرة روسيَّة كُتبت على الإطلاق هي قصَّة غوغول "المعطف" (أو الرِّداء أو العباءة أو شِي - نِل). تكمن ميزتها الأساسية في ذلك الجزء غير العقلاني الذي يشكِّل الاتجاه الخفي المأساوي لحكاية بلا معنى، ويرتبط ارتباطًا عضويًّا بالأسلوب الخاص الذي كُتبت به القصة؛ ثمَّة تكرار عجيب لصِيَغ الحال ذاتها، ويصبح هذا التكرار ضربًا من تعويذة خارقة، ثمَّة أوصاف تبدو بريئة بما فيه الكفاية إلى أن تكتشف أنَّ الفوضى تكمن في مكان قريب جدًّا، وأنَّ غوغول قد أدخل إلى هذه الجملة البريئة أو تلك كلمة أو تشبيهًا يجعل الفقرة تتفجَّر بعرض جامح من ألعاب ناريَّة كابوسيَّة. ثمَّة أيضًا ذلك التَّلمُّس الأخرق الذي هو من طرف المؤلف ترجمة واعية للإيماءات الفظَّة لأحلامنا.

لا شيء من هذا تبقَّى في الترجمة الإنكليزية المتزمِّتة والمتغطرسة والواقعيَّة جدًّا (انظر – ولا تنظر مرَّةً أخرى أبدًا – "المعطف"[xv] بترجمة كلود فِيلد.) يترك المثال الآتي انطباعًا في نفسي بأنني أشهد جريمة قتل وما بيدي حيلة لدفعها:

غوغول: ... شقَّة ]موظف متواضع الحال[ في الطابق الثالث أو الرابع... تُظهِر بضعة أشياء زهيدة تساير الموضة، مصباح مثلًا، أشياء زهيدة ابتِيْعَتْ بعد تضحيات كثيرة...

فِيلد: ... مُزوَّدة ببضع قطع مبهرجة من الأثاث ابتِيْعَتْ...

إنَّ العبث بروائع الأعمال، الكبرى منها أو الصغرى، قد يتضمَّن طرفًا ثالثًا بريئًا في المسرحيَّة الهزليَّة. منذ وقت قريب طلب إليَّ مؤلف موسيقي ذائع الصيت أن أترجم إلى الإنكليزية قصيدة روسيَّة قبل أربعين سنة خلت حوَّلها إلى عمل موسيقي. أشار إلى أنَّ الترجمة الإنكليزية ينبغي أن تتبع بدقة أصواتَ أحد النصوص ذاتها، وكان النص لسوء الحظ ترجمة ق. بالمونت لقصيدة "الأجراس" لإدغار آلان بُو. إنَّ ما تبدو عليه تراجم بالمونت العديدة يمكن فهمه بيُسر حينما أقول إنَّ عمله الخاص نفسَه يكشف بثبات عجْزًا مَرَضيًّا عن كتابة بيت واحد موزون. ولمَّا كان بحوزته عدد كاف من القوافي المكرَّرة حتى الابتذال، ويتلقَّف في طريقه أيَّما استعارة تصادفه، فقد حوَّل ما لاقى بُو الكثير من المشقَّة في سبيل تأليفه إلى شيء بمقدور أيِّ شُوَيْعر روسي أن ينجزه على عجل بإخطارٍ قصير الأجل. عندما أعدت ترجمة نص القصيدة إلى الإنكليزية كنت مهتمًّا فقط بإيجاد كلمات إنكليزية تبدو شبيهة بالكلمات الرُّوسيَّة. حسنًا، إذا ما صادف شخص ما يومًا ترجمتي الإنكليزية لتلك الترجمة الرُّوسيَّة فقد يعيد بحماقة ترجمتها إلى الرُّوسيَّة فتستمر القصيدة التي تحمل القليل من بُو في أن تكون بالومنتية إلى أن تصير "الأجراس"، ربَّما، "صامتة". حدث شيء أكثر شذوذًا وتشويهًا لقصيدة بودلير الحالمة على نحو فاتن "دعوة إلى السَّفر" ("صديقتي شقيقتي أتعلمين حلاوة الذهاب")[xvi]، وتعود الترجمة الروسية إلى قلم ميريجكوفسكي، الذي كان يتمتع بموهبة شعرية تقلّ حتى عن بالمونت. تبدأ هكذا:

عروسي الصغيرة الحلوة

لنذهب في نزهة

إنها تثير فورًا لحنًا مرِحًا وتبنَّاها جميع عازفي الأرغن المتكسِّبين في روسيا. يطيب لي أن أتخيَّل مترجمًا فرنسيًّا مستقبليًّا يترجم أغاني روسيَّة شعبيَّة، يعيد فَرْنَسة القصيدة إلى:

تعالي يا صغيرتي

هيَّا بنا إلى نِيجْنِي[xvii]

وهكذا إلى ما لا نهاية.

باستثناء المخادعين الصريحين، والمغفَّلين اللُّطفاء، والشعراء العقيمين، ثمَّة، إن أوجزنا القول، ثلاثة أنواع من المترجمين، وهذا لا علاقة له بتصنيفي لفئات الشَّرِّ الثلاث، أو بالأحرى بأي خطأ قد تخطئه أيَّة فئة من الفئات الثلاث بطريقة مشابهة. هذه الأنواع الثلاثة هي: الباحث الذي يتوق إلى جعل العالَم يُقدِّر أعمال عبقري مغمور بقدر ما يفعل هو نفسه، والمجتهد حسن النية، والكاتب المحترف المسترخي برفقة مُنعَّم أجنبي. سيكون الباحث، حسب ما أظن، دقيقًا ومتحذلقًا؛ فالحواشي – في الصفحة نفسها مع النص وليست مدسوسة بعيدًا في آخر الكتاب – لا يمكن أن تكون أكثر إسهابًا وتفصيلًا مما يفعل. وأمَّا السيدة المجتهدة التي تترجم في الساعة الحادية عشرة المجلد الحادي عشر للأعمال الكاملة لشخص ما، فأخشى أنها ستكون أقلَّ دقة وتحذلقًا، بيْد أنَّ المسألة لا تكمن في أنَّ الباحث يقترف أخطاء فادحة أقلَّ مما تفعل المجتهدة، وإنما تكمن كقاعدة في أنَّ كلاهما، هو وهي، يفتقران على نحو ميؤوس منه إلى أي شكل من أشكال العبقرية الخلَّاقة. لا التَّعلُّم ولا الاجتهاد بوسعهما أن يحلَّا محلَّ الخيال والأسلوب.

والآن يأتي الشاعر الأصيل الذي يتمتَّع بالخَصْلتين السالفتين ويجد الفرصة سانحة للاسترخاء حينما يترجم بعضًا من ليرمونتوف أو فيرلِن بين فترات كتابته قصائده. إمَّا أنَّه لا يعرف اللغة الأصلية ويعتمد بهدوء على ما يسمى بالترجمة "الحرفية" التي يتيحها له شخص أقل ذكاء بكثير ولكنه أكثر تعلُّمًا بقليل، وإمَّا أنَّه يعرف اللغة ولكنه يفتقر إلى دقة الباحث وخبرة المترجم المحترف. بيْد أنَّ العلَّة الأساسية في هذه الحال هي حقيقة أنَّه كلَّما عظمت موهبته الفردية أصبح أكثر ميلًا إلى إغراق التحفة الأجنبية في المويجات البرَّاقة لأسلوبه الشخصي.

بمقدورنا الآن أن نستشفَّ المتطلَّبات التي يجب أن يمتلكها المترجم حتى يكون قادرًا على تقديم ترجمة مثالية لرائعة من روائع الأعمال الأجنبية. بدايةً، يجب أن يتمتَّع بموهبة كبيرة، أو على الأقل بنوع الموهبة نفسه الذي يتمتَّع به الكاتب الذي يختاره. في هذا الشأن، وفي هذا الشأن فقط، يكون بودلير وبُو، أو جوكوفسكي وشيلر صِنْوي لعب مثاليَّيْن. ثانيًا، يجب أن يعرف البلدين واللغتين المعنيتين معرفة شاملة، وأن يُلِمَّ إلمامًا تامًّا بالتفاصيل كافَّة المتعلِّقة بأسلوب المؤلف وطُرُقِه، وكذلك بالخلفية الاجتماعية للكلمات، وأفانينها وتاريخها والحِقَب الزمنية المرتبطة بها. وهذا يفضي إلى النقطة الثالثة: لأنه يتمتَّع بالعبقرية والمعرفة، يجب أن يمتلك موهبة التقليد وأن يكون قادرًا على أداء - إن جاز التعبير - دور المؤلف الحقيقي عبر تجسيد خُدَعه في السلوك والكلام، وفي طرقه وفي تفكيره، بأقصى درجات المحاكاة.

لقد حاولت مؤخَّرًا ترجمة العديد من الشعراء الرُّوس الذين إمَّا أنهم تعرَّضوا للتَّشويه الشديد من محاولات سابقة، وإمَّا أنهم لم يُتَرْجَموا قطُّ. إنَّ ما بحوزتي من لغة إنكليزية هو قطعًا أقل من لغتي الرُّوسيَّة، والفرق بينهما في الحقيقة هو كالفرق بين فِيلَّا شبه مستقلَّة وأرض موروثة، بين راحة واعية ورفاهية مألوفة. ومن ثَمَّ فلست براضٍ عن النتائج التي تحققت، بيد أن دراستي كشفت قواعد عدَّة يمكن أن يتَّبعها كتَّاب آخرون ويستفيدوا منها.

لقد واجهت، على سبيل المثال، هذا السَّطر الافتتاحي لإحدى قصائد بوشكين الأكثر إذهالًا:

[xviii]Yah pom-new chewed-no-yay mg-no-vain-yay

وقد ترجمتُ المقاطع إلى أقرب الأصوات الإنكليزية التي وسعني إيجادها، وتمويهُها بالمحاكاة جعلها تبدو قبيحةً نوعًا ما، ولكن لا بأس. ترتبط مفردتا chew و vain صوتيًّا بمفردات روسيَّة أخرى تعني "أشياء جميلة ومُهمَّة". اتِّساق اللَّحن في السَّطر ووجود كلمات chewed-no-yay” في منتصف السَّطر تمامًا مثل ثمرة يانعة ومكتنزة، وفي جانبي السَّطر كليهما يوازن حرفا m وn أحدُهما الآخر، كلُّ هذا يبدو أكثر تشويقًا وراحةً للأذن الرُّوسيَّة، وهو مزيج متناقض سيفهمه أيُّ فنان.

إذا تناولت قاموسًا وبحثت عن هذه الكلمات الأربع فإنك ستحصل على هذه العبارة السخيفة والمسطَّحة والمألوفة: "أتذكَّر لحظة رائعة." ما الذي بوسعك فعله حينما تجد أنَّ هذا الطائر الذي أطلقت عليه النار وسقط أرضًا لم يكن طائرًا من الجنة، وإنما ببغاء هارب ما زال يزعق برسالته الحمقاء وهو يصفق بجناحيه على الأرض؟ ذلك أنه مهما شطَّط الخيال فلن يكون بمقدوره إقناع قارئ إنكليزي بأنَّ عبارة "أتذكر لحظة رائعة" هي البداية المثاليَّة لقصيدة مثاليَّة. إنَّ أوَّل شيء اكتشفته هو أنَّ تعبير "ترجمة حَرْفِيَّة" هراء تقريبًا. إنَّ عبارة Yah pom-new أكثر عمقًا وسلاسةً للغوص في الماضي من كلمة "أتذكَّر" التي تسقط مسطَّحة على بطنها مثل غوَّاص غِرّ، وفي عبارة chewed-no-yay يوجد "وحش" روسي بديع، و"صوت" مهموس، ونهاية كاسرة لـ"شعاع الشمس" وغيرها من العلاقات الجميلة العديدة بين الكلمات الرُّوسيَّة. إنها تنتمي صوتيًّا وذهنيًّا إلى سلسلة معيَّنة من الكلمات، وهذه السلسلة الرُّوسيَّة لا تُطابق السلسلة الإنكليزية التي توجد بها كلمة "أتذكَّر." وعلى النقيض من ذلك، فمع أنَّ "أتذكَّر" تُعارض سلسلة pom-new المقابلة لها، فهي ترتبط بسلسلة إنكليزية خاصة بها حينما يستخدمها شعراء حقيقيون. إنَّ الكلمة المركزيَّة في قصيدة هوسمَن[xix] "ما تلك التِّلال الزرقاء المُتذكَّرة؟"[xx] تصبح في الروسية vspom-neev-she-yesyah، إنها شيء فظيع مبعثر، مليء بالحَدَب والقُرون التي لا يمكن دمجها في أيَّة علاقة داخلية في كلمة "زرقاء" كما يمكن ذلك بسلاسة كبيرة في الإنكليزية، لأنَّ المعنى الروسي للزُّرقة ينتمي إلى سلسلة مختلفة عن كلمة "تذكَّر" الرُّوسيَّة.

إنَّ هذا التداخل بين الكلمات وعدم تطابق السلاسل اللفظية في اللغات المختلفة يوحيان بقاعدة أخرى، وهي أنَّ الكلمات الثلاث الرئيسة في السَّطر يجذب بعضها بعضًا، وتضيف شيئًا ما كان لأيِّ منها أن يتحقَّق وهي منفردة أو في أي تركيب آخر. إنَّ ما يجعل تبادل القيم السريَّة هذا ممكنًا ليس فقط مجرد الاتصال بين الكلمات، بل أيضا موقعها الدقيق بالنسبة إلى إيقاع السطر وبالنسبة إلى بعضها بعضًا. يجب أن يأخذ المترجم هذا في الحسبان.

وأخيرًا هناك مشكلة القافية. إنَّ لكلمة Mg-no-vainyay ما يربو على ألفي قافية في الصُّندوق السحري تقفز عند أقل ضغط عليه، في حين أنني لا أستطيع التفكير في قافية واحدة تعني "لحظة." إنَّ موقع كلمة Mg-no-vainyay في نهاية السَّطر لا يمكن إهماله كذلك، لأنَّ بوشكين يعرف على نحو واعٍ تقريبًا بأنَّه لن يكون مضطرًا إلى البحث عن نظيرها. بيْد أنَّ موقع "لحظة" في السَّطر الإنكليزي لا يتضمَّن أمانًا كهذا، بل على العكس، سيكون شخصًا متهوِّرًا على نحو استثنائي من يضعها هناك.

هكذا واجهني ذلك السَّطر الافتتاحي، مشحونًا ببوشكين، متفرِّدًا ومتَّسقًا جدًّا، وبعد أن فحصته بحذر شديد من الزوايا العديدة التي اقترحتُها هنا، عالجته. استمرَّت عملية المعالجة حتى الجزء الأسوأ من الليل. لقد ترجمتُه في نهاية المطاف، ولكنني إن عرضتُ ترجمتي في هذه المرحلة فقد يفضي ذلك بالقارئ إلى الارتياب في أنه يمكن بلوغ الكمال باتباع بضع قواعد مثاليَّة وحسب.

 

[i] المُثَقَّبة: أداة تعذيب خشبية ذات ثقوب كانت تُقيَّد فيها رِجلا المذنب أو رجلاه ويداه ويُركَل ويُبصَق عليه ويُهان. (المورد الأكبر)

[ii] بالفرنسية في الأصل.

[iii] الإشارة هنا إلى العبارة التي قالها هاملت في مسرحية شكسبير "هاملت" إطراءً لمسرحية شاهدها: "لأنَّ المسرحية التي أذكرها لم ترُق للملايين. لقد كانت كالكاڤيار للعوام." (ترجمة جبرا إبراهيم جبرا). ويقصد أن المسرحية لم يستسغها العوام ولم يقدروها حقَّ قدرها، وشبَّهها بالكاڤيار لجودته العالية وغلاء ثمنه، فلم يكن العوام ليعتادوه ويستسيغوه ويدركوا قيمته. واللَّبس في الترجمة الفرنسية نتج عن فهم خاطئ لكلمة general الإنجليزية التي قصد بها هاملت الجمهور أو عامة الناس، في حين ترجمها المترجم الفرنسي إلى "جنرال". الخطأ ذاته يرِد في قاموس المورد الأكبر، إذ تُرجِمت caviar to the general إلى كاڤيار للجنرال، مع أنَّ التعريف الذي أورده القاموس لها صحيح وهو: شيء أسمى أو أدق من أن يقدره الجمهور حقَّ قدره. (المترجمة)

[iv] الدالتونية نسبة إلى الكيميائي والطبيب الإنكليزي جون دالتون، وتعني مرض عمى الألوان. (المترجمة)

[v] يُعرَف عن شعب الإسكيمو تناوله الطعام الغني بالشُّحوم الحيوانية. (المترجمة)

[vi] السطر من مسرحية "هاملت"، الفصل الثالث، المشهد الأوَّل، ترجمة جبرا إبراهيم جبرا. الأصل: “is sicklied o’er with pale cast of thought

[vii] من معاني sickle أيضا الشكل الهلالي. ترجم جبرا الكلمة إلى "صفرة عليلة" ناقلًا التعبير المجازي الذي يرمي إليه هاملت. (المترجمة)

[viii] الوريث أو الابن البكر لملك فرنسي. (المورد الأكبر)

[ix] على لسان الملكة، هاملت، ترجمة جبرا إبراهيم جبرا، الفصل الرابع، المشهد السابع. الأصل: There with fantastic garlands did she come of crowflowers, nettles, daisies and long purples

[x] There with most lovely garlands did she come

Of violets, carnations, roses, lilies

[xi] "الذي يدعوه الرُّعاة بلا حياء باسم غليظ." على لسان الملكة، هاملت، ترجمة جبرا إبراهيم جبرا، الفصل الرابع، المشهد السابع.

[xii] يقع النهر الأول في جنوب السويد والآخر في جنوب غرب إنكلترا، وكلاهما يتميَّز بوجود حياة نباتية متنوعة. كثيرًا ما يرتبط اسم نهر أفون بشكسبير لأنه وُلد وترعرع في ستراتفورد أبون أفون. (المترجمة)

[xiii] شخصية في مسرحية "الملك لير" لشكسبير.

[xiv] Tray, Blanche and Sweetheart, see, they bark at me.

[xv] The Mantle

[xvi] القصيدة من ديوان "أزهار الشَّرّ"، ولكنَّ نابوكوف أورد الاقتباس مختلفًا عن القصيدة الأصلية هكذا (Mon amie, ma soeur, connais-tu la doucer).، الأمر الذي حدا بأحد القُرَّاء إلى أن يشير ساخرًا إلى أنّ مقال نابوكوف "فن الترجمة" يحوي مثالًا جميلًا على "فنّ الاقتباس الخاطئ"، فما كان من نابوكوف إلا أن ردّ عليه قائلًا: "إنني آسف لأنَّ ذاكرة فقيرة أفضت بي إلى أن أجعل "صديقةً" من تلك الطفلة، ولكنَّ السيد ناش مخطئ جدًّا في افتراضه بأنه لدى تصحيحه اقتباسي قد جعل الترجمة الروسية بودلرية؛ فتلك النُّزهة الصغيرة الممتعة ماضية دونما تشويش." المصدر:

https://newrepublic.com/article/119311/vladimir-nabokovs-cheeky-reply-critic-baudelaire-translation

في الأصل الفرنسي هكذا كان مفتتح قصيدة بودلير: (Mon enfant, ma soeur, Songe à la douceur..) وبترجمة حنَّا الطَّيَّار وجورجيت الطَّيَّار يكون الأصل: (بُنيَّتي شقيقتي تأمَّلي ما أحلى الذهاب...)

[xvii] Viens, mon p’tit

A Nijni نيجني نوفغراد: واحدة من المدن الرئيسة في روسيا.

[xviii] السَّطر الأول من قصيدة بوشكين "إلى أ، بي، كِرن"، إحدى أشهر قصائده التي كتبها في عام 1825 وأهداها إلى حبيبته آنَّا كِرن. يحاكي نابوكوف في ترجمته الإنكليزيّة أصوات الكلمات التي وردت في الأصل الرُّوسي: ja pomnyu chevo'dnoye mgnove'neye (المترجمة)

[xix] ألفريد إدورد هوسمن: شاعر إنكليزي.

[xx] What are those blue remembered hills?