يكشف الكاتب العراقي عن أن الـ«نزاع» الطائفي خنجر مسموم يسعى إلى إيهان الأمة وإبقائها في حضيض التردي والهوان، في عالم ينهض فيه الجميع. وعن أن هذا النزاع لا يستند إلى أساس من التاريخ أو الحقيقة، ناهيك عن العقل والمنطق، وما لم تخرج الأمه من وهدته فلا مستقبل لها.

«النزاع» الشيعي/ السني ومصير الأمة

رمـيـز نظـمي

 

تمهيد:
«إن كانت الشيعة تعني التشيّع لآل البيت، فكل المسلمين شيعة، وإن كانت السنة تعني اتباع كتاب الله وسنة رسوله، فكل المسلمين سنة». هذه العبارة البسيطة فى كلماتها، والرائعة فى مغزاها، هى التى ألهمت الكاتب أن يحرر هذه السطور لتساهم، بأى قدر متواضع ممكن، فى توحيد الأمة وإعلاء شأنها.

مما لا شك فيه أنَّ هنالك هجوما ممنهجاً ومستمراً ومنسّقاً تتعرض له الأمة العربية الإسلامية المجيدة على جبهتين: خارجياً من قوى الاستكبار الاستعمارية والصهيونية، وداخلياً من قوى التخلف والغدر والتعصب الطائفي والعنصري. أسفر هذا الهجوم العارم، وبخاصة مؤخراً، عن إيجاد ظروف بائسة تعاني الأمة فيها من التمزق الطائفي، والإحباط المعنوي والتخلف الاقتصادي والانحطاط السياسي، خصوصاً على المستوى الرسمي .. على رغم كل ما تحظي به الأمة من خيرات: نفط وأراضٍ خصبة وأنهار ومعادن وقوى بشرية قلما توفرت لأمم أخرى، نرى معظم ظواهر الهوان منتشرة من عوز وبطالة، وضنك وفقر، وتراجع علمي وتقاعس إنتاجي، وتقهقر ثقافي وهلم جراً .. والأنكى من كل ذلك هو حالات التشرذم البغيض والاقتتال الداخلي العقيم والتصادم الطائفي المقيت الذى تقاسي الأمة منه. الكثير من أبناء الأمة أصبح لسان حاله يردد ما قاله الشاعر: "جلودنا ميتة الإحساس، أرواحنا تشكو من الإفلاس، أيامنا تدور بين الزار، والشطرنج، والنعاس، هل نحن خَير أمةٍ قد أخرجت للناس؟"

أنجبت الأمة قبل قرون عدة علماء ونوابغ مثل الفارابي والكندي والرازي وابن الهيثم والخوارزمي وابن رشد وابن سينا وابن خلدون وابن النفيس، الذين نهل العالم من علمهم واكتشافاتهم؛ وبذلك مهدوا الطريق إلى نهضة البشرية جمعاء. نفس هذه الأمة تدهور مستواها الحضاري إلى حد أصبح الكثير من أبنائها مشغولين بفتاوي اللطم بالنعال، وحكم تقصير الثياب وتطويل اللحى، ووجوب قتل الوزع (أبو بريص)، والتداوي ببول البعير، وفضائل زواج المتعة والمسيار، وحساب المنكر والنكير، وما إلى ذلك من أمور لا فى العير ولا فى النفير .. قال أحد المفكرين "الفتن التى تتخفى وراء قناع الدين، تجارة رائجة جداً فى عصور التراجع الفكرى للمجتمعات". ويبدو أيضاً أن العلاقة ما بين الفتن والتخلف هى علاقة عضوية متبادلة: الفتن تسبب التخلف، والتخلف يروّج الفتن.

الفتنة وتداعياتها:
لعل من أكبر الصناعات وأكثرها انتشاراً وانتاجية فى الوقت الحاضر هى "صناعة الفتن". تُصرف ملايين الدولارات على وسائل إعلام من فضائيات وصحف ومنابر وإنترنت ووسائل التواصل الإجتماعي ومراكز "دراسات وبحوث"، همها الأوحد هو إثارة الفتنة والكراهية بين أبناء الأمة الواحدة. تتمادى هذه "الصناعة" الآثمة فى السب والثلب واللعن والخوض فى مساجلات ومناكفات عقيمة ونشر ترهات وابتداع أكاذيب وأساطير وهمية، مقصدها زرع وتأجيج الشقاق الطائفي لا غير. الخوض فى مهاترات لا جدوي منها يؤدى حتماً إلى تحويل انتباه الأمة عن مشاكلها الآنية والحيوية، وإلهائها عن مجابهة تحدياتها الجوهرية كتغيب السيادة الوطنية وتفاقم الفساد المالي والإداري، وانعدام الخدمات وانتشار البطالة، وتدهور التعليم وتفشى الأمراض واستفحال الجرائم، وما إلى ذلك من معضلات أساسية.

الإعلام الرسمي المُضِلل تموله الأنظمة المعنية ولكن من أين تأتي المبالغ الطائلة التى تموّل الإعلام الخاص؟ بعض الفضائيات النافثة لسموم الفتنة مركزها فى إنجلترا، والغموض يكتنفها كيف تسمح السلطات البريطانية لهذه الفضائيات من نشر الكراهية المذهبية على رغم أن التشريع البريطاني (قانون النظام العام لسنة 1986 والمعدل سنة 1994) يمنع ذلك؟ ربما يوجد مؤشر فيما ذكره العلامة محمد حسين كاشفا الغطاء "كم نكبة تحطم الإسلام والعرب، والإنكليز أصلها، فتّش تجدهم السبب؛ فكل ما فى الأرض (من ويلات وحروب)، هم اشعلوا نيرانها وصيّروا الناس لها حطباً".

بدون أي شك، إن هذه الفتنة الطائفية يتم إيقادها وإلهابها من قبل قوى جائرة خارجية ساعية إلى استغلال وتشتيت الأمة، ومن تلاقح معهاً محلياً من شعوبيين وحاقدين وظلاميين، وذوي العقول القاحلة الذين سولت لهم أنفسهم ومصالحهم الأنانية المعيبة أن ينكثوا برسالة أمتهم ودينهم الموّحدة، ومن المؤسف يبدو أن هذه الفتنة قد نجحت فى تكدير بصيرة الأمة، وتلويث إدراكها، وإتلاف مناعتها، وإحداث الشقوق التى يتسلل الأعداء من خلالها. فما معنى أن يهادن البعض العدو الصهيوني الجائر، وفى نفس الأوان يشتبك فى معارك لا هوادة فيها مع أشقائهم فى الهوية وإخوانهم فى الدين؟ هل توجد حماقة أكبر من التحالف مع رئيس البيت الأبيض الذى عيّن مستشاراً للأمن القومي وصف الإسلام بالسرطان الواجب استئصاله، الذى أصدر مرسوماً يمنع فيه دخول المسلمين إلى بلده، الذى تبنّى اغتصاب القدس الشريف من كيان موبوء، الذى أوقد الإرهاب العنصرى الاستعلائى، مقترف مجزرة مسجد النور فى نيوزيلندا؟ عنصري ومحتال وغشاش صفات نُعِت بها هذا الرئيس ليس فقط من قبل خصومه، بل أيضاً من قبل محاميه الخاص!

أدى الاستقطاب الطائفي إلى توجه سياسي عند البعض يفتقد الموضوعية والعقلانية؛ فمثلا حزب واحد في قطرين، لهما عموماً نفس الأهداف ويتبنيان مبدأ "الحزب القائد" ويستخدمان القمع لإحكام قبضتهما، وعلى رغم هذا التشابه فى مسلكيهما، إلا أن البعض أيده فى البلد الأول، ولكن عاداه فى البلد الثاني، والبعض الآخر العكس بالعكس؛ تفسير هذا التناقض العجيب يكمن فى الانتساب الطائفي المختلف لزعيمي شقي الحزب، فهكذا سقط الوعي السياسي عند البعض فى الأمة: بات التأييد والعداء لأي حزب أو تيار لا يستند على المبادئ والممارسات بل على الانتماء المفترض لقياداته!. وقد حذّر الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) من خطر الاهتداء بالأشخاص على حساب المبادئ والمعتقدات، عندما قال: "يعُرف الرجال بالحق ولا يُعرف الحق بالرجال"، فلا وجود للكهنوت فى الإسلام.

فى منتصف القرن الماضي، عندما كان العنفوان التحرري والوحدوي فى قمته، كان الكثير من أبناء الأمة يهتفون "شعب واحد لا شعبين، من مراكش للبحرين"، وينشدون "بلاد العرب أوطاني، من الشام لبغداد، ومن نجد إلى يمن، إلى مصر فتطوان، فلا حدُّ يباعدنا ولا دين يفرقنا، لسان الضاد يجمعنا بغسان وعدنانِ" .. أما الآن فنسمع ونرى مخططات لتقسيم الأمة إلى دول واهنة (بانتوستانات): سنية ، وشيعية، وعلوية، ودرزية، ونجدية، وحجازية، ومارونية، وأمازيغية، وقبطية وهلم جراً (نيويورك تايمز 28\9\2013) ... كان فى السابق يتم الكلام عن الشعب الواحد الممتد من الخليج إلى المحيط، أما الآن فلا يتم الحديث، مثلا، حتى عن الشعب العراقي الواحد!. "أطياف ومكونات المجتمع العراقي" هى الصفة التى تستعمل حالياً عند الإشارة إلى سكان العراق! بعد الاحتلال الغاشم فى 2003، بدأ العراقيون يسمعون مصطلحات كانت غريبة عنهم، كالمثلث السني والبيت الشيعي والمحاصصة والنواصب والروافض؛ تعابير عمل المحتل ولاعقو أحذيته على نشرها كجزء من مخططهم الطائفي الانفصالي الهدام. ومع هذا فالكثير من جماهير الشعب العراقي خرجت من بيوتها ومن جوامعها لتهتف فى وجه المحتل "لا سنه ولا شيعه، هذا العراق ما نبيعه".

عندما احتلت الولايات المتحدة الأمريكية العراق، فرقت الشعب العراقي، تطبيقاً للمبدأ الخبيث "فرّق تسد"، وقسمته إلى ثلاثة فصائل رئيسية: الشيعة (52%) والأكراد (20%) والعرب السنة (20%)، وما تبقى 8 %، ولم تطلق، ولا إعلامها، على الشيعة صفة العرب، رغم أصالة عروبتهم، فلما أقامت "مجلس الحكم" كونته على هذه الحصص الطائفية / المذهبية / العرقية (13 شيعة، 5 أكراد، 5 عرب سنة، 1 تركمان، 1 مسيحيون)، معظم الذين عينتهم كانوا من المغتربين. ومن المضحك المبكي أن أحد الذين نصبته واشنطن ليمثل أتباع المذهب الشيعي كان "ماركسياً/ لينينياً/ أممياً"، خريج معهد كارل ماركس فى بلغاريا، وليس الحوزة العلمية فى النجف الأشرف! والجدير ذكره، أن الدستور الأمريكي (البند السادس) يمنع أى تعين حكومي يتم على أسس دينية، حيث أن واضعي الدستور كانوا يدركون أن إناطة المناصب على أسس دينية أو طائفية سيؤدي إلى فوضى لا تُحمد عقباها، وينتج حكومة ودولة فاشلة، الأمر الذى تحقق فعلاً فى العراق الجديد، عراق ما بعد 2003.

من الواضح إذاً أن واشنطن تصرفت بسوء نية مقصودة بفرضها أسس حكم طائفية، غير مسموح باتباعها فى بلدها، الغاية منها إبقاء العراق واهناً ومنكسراً. ومن أول القوانين التى أصدرت بعد الإحتلال، جرّد العراق من انتمائه إلى أمته العربية؛ لم يهدف هذا القانون فقط إلى إذلال العراق وعزله عن أمته، بل أيضاً إلى إسقاط الأمة ذاتها، فهل يبقى الجسد حياً عند استئصال قلبه أو رئته؟ ما اقترفه المحتلون بحق العراق يمكن تلخيصه ببيتين قالهما الشاعر: "ونحن فى بغداد من طين يعجنه الخزاف تمثالا، دنيا كأحلام المجانين ونحن ألوان على لجها المرتجّ أشلاء وأوصالا". أى أن البغاة بجبروتهم وقهرهم، سعوا إلى تحويل الشعب العراقى الأبى إلى طينة ينحتونها حسب ما يلائم ذوقهم المنحط ومصالحهم الدنيئة.

الفتّانون هم غلاة على جانبي التطرف الطائفي، تكفيريون وشتامون، كلاهما مُشتط مذهبياً ولكن ضال دينياً. يبتكر الطرفان خرافات وأساطير وتفاسير ما نزل الله بها من سلطان. ينبشون جروحاً وينكأون قروحاً ويختلقون خزعبلات حدثت قبل 1400 سنة، ليس لها حالياً أى جدوى أو حلٍ، إذ يستحيل إرجاع الزمن إلى الوراء. مجريات حصلت قبل عشر سنوات يصعب الآن الاتفاق على وصفها بدقة، فكيف الحال لأمور أكل الدهر عليها وشرب؟ التشبث العقيم والهوس بروايات حدثت أو لم تحدث قبل مئات السنين لا تعني "أن الأموات أحياء، بل إن الأحياء أموات"!. ورغم عدائهما المفترض لبعضهما، إلا أنهما تواطآ على تدمير العراق، فكلاهما ساند حصاره القاتل واحتلاله الغاشم.

زوراً وبهتاناً، يدعي الفتانون التكفيريون أنهم سلفيون، والسلف الصالح براء منهم، ويدعى الفتانون الشتامون أنهم أتباع آل البيت، وآل البيت براء منهم. إن الفكر التكفيري، العاكس لبيئة أصوله القاحلة، أنتج زمراً تدعي الإيمان النقي، ولكنهم فعلياً يناقضون شعائر الإسلام الحنيف من ورع ورحمة ومخافة الله. وسيلتهم للوصول إلى مبتغاهم هو الإرهاب والدمار وإراقة شلالات من الدماء؛ يسبون ويذبحون الأبرياء والعُزّل، ويفجرون المساجد والكنائس ومراقد الأولياء حسب هواهم الأهوج، ينطبق عليهم قول النبي (صلى الله عليه وسلم): "أقوام تكون وجوههم وجوه الآدميين، وقلوبهم قلوب الشياطين، أمثال الذئاب الضواري، ليس فى قلوبهم شىء من الرحمة، سفاكون للدماء لا يرعوون (يحجمون) عن قبيح."

الطرف الآخر من الفتانين ينعتون الخلفاء الراشدين الثلاثة الأوائل أبا بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان (رضى الله عنهم)، والمعاذ بالله، بالبغاة، ولا تسلم من ألسنتهم البذيئة حتى زوجات الرسول الطاهرات. ويتمادى هؤلاء الغلاة فى غيهم باختلاق فتاوى عوجاء كالادعاء أن فى زيارة كربلاء الحسين ثواب أكبر من أداء فريضة الحج إلى مكة المكرمة. ثار الحسين (عليه السلام) ضد الفساد والبغاة وليس من أجل أن يزار مثواه وإقامة الطقوس حوله. إن أرادت الأمة أن تنتصر له، فعليها لطم الفاسدين وطبر رؤوس الباغين.

يتقصد الفتانون على خلط الأوراق وتعميم الاتهام، فيصف الطرف الأول كل من يخالفهم الرأى بالروافض والصفويين، والطرف الآخر ينعت كل معارضيه بالنواصب والأمويين، وبدأت هذه الألفاظ ينتشر استعمالها، فإن كان مُرددوها لا يدرون مغزاها فتلك مصيبة، وإن كانوا يدرون فالمصيبة أعظم. من الواضح أن الفتانين، من كلا الجانبين، يسعون إلى جر الاختلاف المذهبي إلى طلاق ديني، يؤدي إلى تفسخ الأمة، وبذلك يحققون ما يصبو إليه الأعداء الذين يعتبرون الإسلام سرطاناً يجب استئصاله. نعم، يهدف الفتانون إلى إرجاع الأمة إلى العصر الجاهلي، حيث كانت الأمة ممزقة، متحاربة، متخلفة، الأوثان عبادتها، والخرافات دينها، والعصبية مسارها، والهجاء عقيدتها، والجهل علمها والوأد عادتها.

وقد أصاب الباحث الذى وصف الفتنة والاقتتال الشيعي/ السني بأنه "انتحار إسلامي جماعي". لعل من أهم الدروس التاريخية التى يجب أخذ العبرة منها هى الحروب الدموية التى جرت بين الدولتين الجارتين المسلمتين: الدولة العثمانية "السنية" والدولة الفارسية (الصفوية، والزندية، والقاجارية) "الشيعية" خلال أربعة قرون من السادس عشر إلى التاسع عشر .. أدت هذه الحروب إلى استنزاف كليهما كلياً، ومهدت الطريق إلى احتلالهما من قبل القوى الاستعمارية الأوروبية. يالها من حماقة أن يفضل قادة هاتين الدولتين المسلمتين التعاون مع قوى أجنبية، والاشتباك مع بعضهما فى حروب عبثية دمرت كليهما، على أن يتعاضدا من أجل مصلحتهما المشتركة لإنشاء تحالف بارّ ومتين فى وجه القوى الخارجية الطامعة. لم يؤد سلاطين وملوك هاتين الدولتين المسلمتين، على مدى السنين، فريضة الحج، فهذا يبين تقيدهم الهش بتعاليم الإسلام. لو كانوا فعلاً ملتزمين بدينهم لما تحاربوا وتقاتلوا وأهدروا دماء شعوبهم وأذلوا الأمة. وأعاد التاريخ نفسه بنشوب الحرب الإيرانية/ العراقية فى ثمانينات القرن الماضى التى دامت 8 سنوات طوال، استشهد فيها مئات الألوف من خيرة شباب الجارتين، وأهدرت فيها مليارات الدولارات، حرب سعت قوى الشر إلى إطالتها إلى أمد الدهر.

لعل من أهم العوامل التى توفر البيئة اللازمة لانتشار الفتن والتخلف والغيظ هو التباين الشديد فى الثروة، الشر الذى تعاني الأمة منه، الجزء الأصغر منها يتمتع بالغنى الفاحش، والجزء الأكبر يقاسى من الفقر المدقع. لقد منّ الله على الأمة خيرات كثيرة، لعل أهمها ثروة النفط فى أعماق الأرض. قال تعالى "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الْأَرْضِ"، فكما أن الإسلام انبثق فى الجزيرة العربية، إلا أن نعمته غمرت كافة أنحاء الأمة، كان على الحكام المعنيين التقيد بمشيئة الله ومشاركة كل أبناء الأمة بما أخرجه الله من أرضهم من ثروات، فهى بمثابة أمانة فى أعناقهم. قال رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَحَبُّ الأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ سُرُورٌ تُدْخِلُهُ عَلَى مُسْلِمٍ، أَوْ تَكْشِفُ عَنْهُ كُرْبَةً، أَوْ تَطْرُدُ عَنْهُ جُوعًا".. عندما أكرم الله الأمة بهذه الثروة التى أخرجها من الأرض، أرادها أن تكون أداة لرقى كل الأمة، واكتفاء بعضها ببعض، "هذه أمتكم أمة واحدة"، لم يرد تبذيرها لشراء أسلحة فتاكة ليس لتحرير الأراضى المسلوبة بل لتهديد أبناء الأمة، لم يشأ تبديدها لإغناء البعض غناء فاحشا، والبعض الآخر يعانى شظف العيش، أو لبناء قصور وأبراج مبهرجة بينما يعيش الآخرون فى خيام مهلهلة، أو لإعداد موائد طعام مكتظة بكل ما لذ وطاب، بينما ينبش البعض الآخر فى حاويات القمامة بحثاً عن لقمة العيش، "بئس الوالى أنا أن شبعت والناس جياع" هذا ما قاله عمر بن الخطاب (رضى الله عنه). لقد فرّق الله بين "ما كسبتم" الذى هو نتاج جهد الكاسب، وبين "ما أخرجنا لكم من الأرض"، الذى هو نعمة من الله للأمة جمعاء، أى أنها ليست حكراً على الحكام يتعالون بها، ويتكرمون بتوزيعها كما يشتهون. مشاركة كل الأمة بما أنعم الله به هي فريضة وليست منةّ، "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالْأَذَىٰ".

علاقة الإمام علي بالخلفاء أبى بكر وعمر وعثمان
يدّعي الفتّانون الشتامون بأنه كان هناك عداء حاد بين الخلفاء الراشدين الثلاثة الأوائل، أبى بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان (رضي الله عنهم) والإمام علي بن أبى طالب (عليه السلام). تبين الحقائق أن هذا الادعاء هو افتراء مضل، وإن تأخر علي فى مبايعة أبي بكر، إلا أنه بايع عمر وعثمان فور إخلافهما. ويدّلس الفتانون بأن بيعة علي جاءت قسراً، وأخذت منه عنوة، وهم بذلك ليس فقط يدجّلون، وإنما أيضاً ينزعون عن علي شجاعته، ويجردونه من بسالته، ويشككون فى صلابة إيمانه .. تدل الحجة وتشير السيرة إلى أن عليا، لا محالة، كان سيثور على أي كان ممّن اعتبرهم بغاة مارقين، كما ثار بعده ولده الحسين، (عليه السلام) سيد الشهداء، على يزيد بن معاوية؛ فهل كان الحسين أكثر شجاعة أو أقل حرصاً على وحدة المسلمين من والده؟

العقل السديد والرأي الرشيد يؤيدان ما أكده العلامة محمد حسين كاشف الغطاء من أن عليا، رغم اعتقاده بأنه أحق فى الخلافة، بايع وسالم أبا بكر وعمر حين رآهما قد "بذلا أقصى الجهد فى نشر كلمة التوحيد وتجهيز الجنود وتوسيع الفتوح، ولم يستأثرا ولم يستبدا"، وهذا الرأى عززه السيد محمد باقر الصدر بقوله: "إن الحكم السنيّ الذى مثلّه الخلفاء الراشدون، والذى كان يقوم على أساس الإسلام والعدل، قد حمل عليُ السيف للدفاع عنه، إذ حارب جندياً فى حروب الرّدة تحت لواء الخليفة الأول/ أبي بكر".

أجل، حصل اختلاف ما بين أبى بكر وفاطمة الزهراء (عليها السلام)، ولكنه كان خلافاً دنيوياً يتصل بملكية مزارع "فدك"؛ إنْ أُخطأ أو أصاب أبو بكر، فهو غير معصوم، فإن جزاءه عند الله؛ ومن الحماقة انتهاز هذا الأمر الآن لشتم أبى بكر، وبالتالى تأجيج الكراهية بين أبناء الدين الواحد. مُستغلّو "فدك" يسيرون على خطا من استغل "قميص عثمان" لخلق الفتنة الكبرى، التى لا تزال الأمة تقاسي من آلام جراحها التي لم تندمل على رغم مرور أكثر من ألف سنة على حدوثها. ومِمَّا يُعّري أيضاً إفك الإدعاء القائل بوجود عداء حاد ما بين أبى بكر وعلي وأهلهما، هو زواج علي من أسماء بنت عميس بعد وفاة زوجها أبى بكر الصديق، وقام علي بتربية محمد ولدها من أبي بكر، وترعرع محمد بكنف علي أسوة بأخويه يحيى وعون اللذين أنجبتهما أسماء لعلي. وشارك محمد بن أبى بكر فى جميع معارك علي، وكان أحد قادة جيوشه. وقد أسند علي لمحمد ولاية مصر، إلا أن الأمويين حاربوه وقتلوه وأدخلوا جثمانه فى جيفة حمار وأحرقوها، وبذلك يكون ولد الصديق وربيب علي أول شهيد يُمثّل به من قبل مسلمين آخرين. ومن المعروف أن عبد الرحمن، الأخ الأكبر، لمحمد بن أبى بكر، كان أيضاً أحد الصحابة الكبار، من أمثال عبد الله بن الزبير وعبد الله بن عمر بن الخطاب، الذين امتنعوا عن إعطاء البيعة ليزيد بن معاوية وقال للأمويين" والله ما الخيار أردتم لأمة محمد."

وعندما تولى عمر الخلافة بعد وفاة أبى بكر الصديق، كان علي نائبه ووزيره ومستشاره الأمين الصدوق. اعتزاز عمر بعلاقته بعلي جعله يجلجل "لولا علي لهلك عمر"، ويجهر: "اللهم لا تبقنى لمعضلة ليس لها أبو الحسن (كنية علي)"، ويعلن لعلي "يا أبا الحسن، لا أبقانى الله لشدة لست لها، ولا لبلد لست فيه"، وقال عن عليٍ: "إنه مولاي ومولى كل مسلم". وبان جلياً كذلك اعتزاز علي بعمر؛ وحرصه على دولة الخلافة الفتية، عندما أقنع عمر بالعدول عن مغادرة المدينة المنورة للمشاركة فى معركة القادسية ضد جيوش الإمبراطورية الساسانية الفارسية؛ لاعتقاده أن الفرس سيستهدفونه آملين إنهاء دولة الإسلام بقتل خليفتها.

حقق عمر أثناء خلافته، وبمؤازرة علي، العظيم من الإنجازات، فمنذ بويع عمر بالخلافة التى تمت بإجماع لم ينعقد لخليفة قبله ولا بعده، استمر حكمه، الذى دام عشرة أعوام، بدون أن تنشب أى فتنة داخلية، واستتبّ الوئام بين أبناء الأمة ووالاه القاصي والداني من المؤمنين. تمكن بقيادته الرشيدة من دحر أعظم إمبراطوريتين حينئذٍ : الساسانية الفارسية والبيزنطية الرومانية، ففى أثناء ولايته تم فتح كامل العراق وبلاد فارس وخراسان، وبذلك تم القضاء كلياً على الإمبراطورية الساسانية، وأنهت جيوشه الوجود البيزنطي فى بلاد الشام ومصر وليبيا، الذى أدى إلى أن تفقد الإمبراطورية البيزنطية أكثر من 75% من أراضيها، فهكذا نمت دولة الإسلام من قرية فى الجزيرة العربية إلى دولة عظمى تمتد جغرافياً من أفغانستان شرقاً، وأرمينيا شمالاً، وبحر العرب جنوباً، وليبيا غرباً، ولأول مرة أصبحت القدس أولى القبلتين، وثالث الحرمين، وأرض الإسراء والمعراج جزءاً من الدولة الإسلامية.

يعزو البعض السبب الحقيقى للعداء الذى يكنه لفيف من الفرس لعمر بن الخطاب إلى دحره لدولتهم التاريخية التى كانت من أعظم إمبراطوريات العالم حينئذ. يبدو أن هؤلاء اللفيف لم يستطيعوا قبول اكتساح مقاتلين عرب قلة لإمبراطوريتهم وضمها إلى دولة الخلافة الجديدة. ويقال إن فى موقعة نهاوند، المعركة الفاصلة التى أنهت الدولة الساسانية، كان عدد المقاتلين العرب ثلاثين ألفاً يقابلهم مئة وخمسون ألفاً من الفرس. عّلمنا التاريخ أنه عندما تتوفر أربعة متطلبات فى الأمة: بر العقيدة وعمق الإيمان ووحدة الصف ورشد القيادة، لا يصعب على الأمة مجابهة أى تحديات، والنصر والسؤدد غالباً ما يكونان حليفيها.

وطال توقير عمر لعلي لمصاحبيه المعروفين "بالأركان الأربعة": عمار بن ياسر، وسلمان الفارسي، والمقداد بن عمرو الأسود، وأبى ذر الغفاري؛ فقد عين عماراً والياً على الكوفة، وسلمان والياً على المدائن، وأناط إلى المقداد قيادة أحد جيوشه الذى فتح مصر .. أما علاقته بأبي ذر فقد وصفت: "بأن أبا ذر يسكن فى قلب عمر، وأنه يقطع له من جسمه إذا أراد". ولم تقتصر علاقة عمر بهؤلاء الأربعة، بل امتدت أيضاً إلى آخرين من الصحابة المنتجبين من محبي علي، من أمثال البراء بن عازب الأنصاري، وحذيفة بن اليمان، وعدي بن حاتم الطائي، وحجر بن عدي الكندي، وهاشم بن عتبة بن أبي وقاص المرقال، ومالك بن الحارث الأشتر، والأحنف بن قيس التميمي، والشقيقين سهل وعثمان ابنى حنيف الأنصاري، فكل هؤلاء أسند لهم عمر وظائف ومسئوليات تفانوا فى أدائها أثناء خلافته.

وقد تشابه عمر وعلي فى الهيبة والتواضع، واشتركا فى الكثير من الصفات الحميدة كالإيمان الراسخ، والورع البالغ، والنزاهة الصلبة، والعدالة الحكيمة، والشجاعة الوطيدة، والزهد المتين. وفى هذا الخصوص، ذكر السيد محمد باقر الصدر:" كان عليّ وعمر يعيشان مع الناس وللناس وفى وسط الناس ومع آلامهم وآمالهم" ومن دلائل تداخل وتوافق أفكار عمر وعلى هو قولهم عبارات تحمل نفس المعنى، كقول عمر "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا"، وقول على "أكبر العيب أن تعيب ما فيك مثله"، أما قول "لو كان الفقر رجلاً لقتلته" فقد نُسب إلى كليهما. وقد توج ودهم لبعضهم بزواج عمر من أم كلثوم بنت علي والتى أنجبت له زيداً ورقية، كما أن عليا سمى ثلاثة من أولاده أبا بكر وعمر وعثمان، وحسب دائرة المعارف الحسينية، للمحقق الشيخ محمد صادق الكرباسي، كانوا من ضمن السبعة عشر من أولاد علي الذين استشهدوا مع أخيهم الحسين فى كربلاء. وللشهيد أبى بكر بن علي بن أبى طالب مرقد يقع فى قرية الكفل (الجفل) فى الطريق ما بين الحلة والكوفة فى محافظة بابل العراقية.

هنالك أسطورة خبيثة يتداولها الفتانون الشتامون يتهمون فيها عمر بالاعتداء على ابنة الرسول وقرة عينيه، الزهراء فاطمة، زوجة علي؛ بنشرهم هذه الخرافة، لا يكذبون فقط على الأمة، بل أيضاً يهينون عليا، فهل من الممكن أن عليا، البطل المقدام والفارس المغوار، يُجيز أى عدوان على الزهراء؟ هل من المعقول أن عليا الحيدر الكرار وأشجع الشجعان، يجلس على يديه، والعياذ بالله، وهو يشاهد أم السبطين يتم الاعتداء عليها؟ .. وقد فند أحد كبار المختصين بالتاريخ الإسلامي أسطورة الاعتداء على الزهراء، وذكر أن عدم احتواء كتاب "الكافي" لهذه الرواية هو دليل محكم على عدم صحتها. والمعروف أن الشيعة الإمامية الأثنى عشرية يعتبرون "الكافي" لمؤلفه محمد بن يعقوب الكليني من أدق كتبهم وأكثرها صواباً. ليس من الغرابة إذاً أن جلّ علماء الشيعة الكبار، أمثال أبى القاسم الخوئي، ومحمد باقر الصدر، ومحمد حسين فضل الله، وعلي السيستاني، قد سخّفوا هذه الرواية الزائفة.

وهنالك حادثة تشهد على معزة آل البيت عند عمر، فى أحد الأيام طلب عمر من الحسين أن يزوره، وفى اليوم التالى، ولأن اللقاء لم يتم، سأل عمر الحسين لماذا لم يأته؟ فأجابه لقد أتيتك ولكن شاهدت ولدك عبد الله لم يستطع مقابلتك لانشغالك فرجعت، فقال له عمر: اتقارن منزلتك بعبد الله؟ إنكم تيجان رؤوسنا، ووضع يده على رأسه. وعندما نظم عمر ديوان العطاء للمسلمين، شمل عليا فى المرتبة الأعلى، وألّحق الحسن والحسين (عليهما السلام) بفريضة والدهما، وما ذلك إلا تعبيراً عن تقديره ومحبته لآل البيت. وكان هذا التقدير متبادلاً، إذ قال علي :"إن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر"، وذكر أيضاً: "لا يفضلني أحد على أبي بكر وعمر إلا جلدته حد المفتري"؛ يقال كذلك إن القوم لاحظوا أن عليا يكثر فى لبس أحد ثيابه، فسألوه أنك تكثر لبس هذا الثوب، فأجابهم: "أجل إنه كسانيه أخي وصديقي وصفيي عمر بن الخطاب". فمّما لا شك فيه أكنّ على وداً واحتراماً كبيرين لعمر لم يتجليا فقط فى تزويجه لابنته أم كلثوم، وتسميته لأحد أولاده بعمر، وإنما أيضاً بما عبر عنه عند استشهاد عمر على يد المجوسي أبي لؤلؤه، فقد دخل علي على عمر وهو مسجّى فى كفنه، وقال: "والله ما على الأرض رجل أحبّ إلي أن ألقي الله بصحيفته من هذا المسجي بالثوب".

أما علاقة علي بالخليفة الثالث، عثمان بن عفان، فيكفي الإشارة إلى أن علياً، عند حدوث الفتنة الكبرى، لم يؤيد الذين خرجوا على عثمان، ولم يقف مكتوف اليدين، بل أرسل ولديه، الحسن والحسين (عليهما السلام)، سيدى شباب أهل الجنة، ليقاتلا دفاعاً عن عثمان وجُرح الحسن ونزف دماء زكية من أجل حماية عثمان.

المذاهب الإسلامية الرئيسية وآل البيت

توجد فى الدين الإسلامي خمسة مدارس فقهية رئيسية: الجعفرية، والحنيفية، والمالكية، والشافعية، والحنبلية. ينتمى الفقه الجعفري الإمامي الإثنا عشري إلى المذاهب الشيعية، بينما تنتمي المدارس الفقهية الأربعة الأخرى إلى المذاهب السنية. يزعم الفتانون التكفيريون أن المنتمين إلى الفقه الشيعي الجعفري الإمامي الإثنى عشرى هم ضالون دينياً، إنه، وبدون أى جدال، ادعاء باطل وجائر، يعكس بهتان الفكر التكفيري وظلاميته، فالفقه الجعفري، شأنه شأن المذاهب الرئيسية الأربعة الأخرى، من أجلّ المذاهب الإسلامية.

فكما أكده قطعياً فى ستينات القرن الماضي، محمود شلتوت، شيخ الأزهر الشريف: "أن مذهب الجعفرية، المعروف بمذهب الإمامية الاثنى عشرية، مذهب يجوز التعبد به كسائر مذاهب أهل السنة. فينبغى للمسلمين أن يعرفوا ذلك. "صدرت فتوى شلتوت فى عهد جمال عبد الناصر، الذى منذ أكثر من نصف قرن، بحسه الوحدوي أدرك مخاطر التناحر الطائفي، إذ قال: "إنّ هناك معركة واحدة .. وهي معركة الأمة العربية ضد العنصرية الصهيونية المؤيدة بقوى الاستعمار. نحن ضد أى صراع شخصي أو طائفي أو فكري، لا يكون من شأنه أن يضيف إلى المعركة وإنما يأخذ منها". وفى عام 2006، عزز علي جمعة، مفتي الديار المصرية، فتوى شلتوت، وصرّح بأن الأزهر الشريف يعترف بالمذهبين الشيعيين: الجعفري والزيدي.

و فى هذا الصدد، لا بد من الإشارة أيضاً إلى الدور التوحيدى الذى أداه السيد حسين البروجردي الذى كان خلال النصف الأول من القرن الماضى أهم مرجع للشيعة الإمامية الأثنى عشرية، والذى تتلمذ عنده الكثير من الرموز الشيعة، مثل شريعتمداري ومنتظري والخميني وخامئني والسيستاني. سعى البروجردي مع مجموعة من كبار الشخصيات الإسلامية، من مختلف المذاهب، إلى توحيد صفوف المسلمين، وتوّجت جهودهم عام 1947 بتأسيس دار التقريب بين المذاهب فى القاهرة. وعندما حاولت الحكومة الإيرانية استبدال الحروف العربية باللاتينية، كما فعلت تركيا، تدخل بقوة ومنع حدوث ذلك. واتخذ البروجردي مواقف حازمة ضد الغلوّ عند بعض الشيعة، وشدد على نبذ التعصب المذهبي، وحث أتباعه على دراسة فقه المدارس السنية، وكان يتفادى طرح مسألة الأحقية فى الخلافة، إذ كان يرى أنه أمر لا جدوى من مناقشته، ولا يوجد داع لإثارة النزاع حوله، وقال: "ما الفائدة للمسلمين اليوم أن نطرح مسألة من هو الخليفة الأول؟ إنما المفيد لحال المسلمين اليوم أن نعرف المصادر التى يجب أن نأخذ منها أحكام ديننا". مرض البروجردي في أواخر حياته ودخل فى غيبوبة، وعندما أفاق كانت أول الكلمات التى نطقها هى يجب التقريب بين المسلمين. شلتوت والبروجردي يزودان الأمة بوميض من النور يدلّها على حبل الله الذى يجب الاعتصام به.

أما الفتانون الشتامون الغلاة فيدّعون أن الشيعة هم فقط من يوالون آل بيت، إنه كذلك، وبدون أى شك، ادعاء باطل وجائر، فكل مؤسسي المذاهب السنية الأربعة الرئيسية بجّلوا آل البيت. أبو حنيفة النعمان، الإمام الرائد مؤسس المذهب الحنفي، تجلى تبجيله لآل البيت فى دعمه لثورة زيد بن على زين العابدين بن الحسين بن على بن أبى طالب ضد الأمويين، وكذلك فى تأييده لثورة محمد النفس الزكية، حفيد الحسن بن علي بن أبى طالب، ضد العباسيين. ويقال إن أبا حنيفة قد درس الفقه مع الإمامين محمد الباقر وجعفر الصادق (عليهما السلام). وقد عرض عليه الأمويون منصب قاضي الكوفة، إلا أنه رفضه مما أدى إلى حبسه وجلده، وفى العصر العباسي عرض عليه أبو جعفر المنصور منصب قاضي القضاة، غير أن النعمان أبى أن يقبله، فسجنه المنصور، وتم تعذيبه حتى صعدت روحه إلى بارئها، وهو فى السبعين من عمره. تمسك أبو حنيفة بمبادئه وانتصاره لأئمة آل البيت أدى إلى اصطفائه السجن والتعذيب والموت على مسرات الدنيا ومناصبها؛ وبذلك قد تنطبق عليه الآية الكريمة "مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا".

أما مالك بن أنس، مؤسس المذهب المالكي، فكان أيضاً صارماً فى تأييده لآل البيت، وشأنه شأن النعمان، انتصر لمحمد النفس الذكية، مما نتج عنه اعتقاله وتعذيبه من قبل العباسيين حتى كاد أن يفقده حياته. وقد وصف مالك الإمام جعفر الصادق الذى تتلمذ معه: "ما رأت عين، ولا سمعت أذن، ولا خطر على قلب بشر، أفضل من جعفر الصادق فضلاً وعلماً وعبادة وورعاً". وحسن علاقتهما جعلتهما يؤديان فريضة الحج معاً، وقال مالك: "كنت أدخل إلى الصادق جعفر بن محمد (عليه السلام) فيقدم لى مخدة ويعرف لى قدراً، ويقول يا مالك إنى أحبك، فكنت أسر بذلك وأحمد الله عليه".

ولم يكن محمد بن إدريس الشافعي، مؤسس المذهب الشافعي، أقل ضلوعاً من أبي حنيفة ومالك فى حبه لآل البيت، فهو الذى قال: "إن كان رفضاً حب آل محمد، فليشهد الثقلان أنى رافضي" (الرافضة من رفض خلافة أبى بكر وعمر وعثمان، والثقلان هما الإنس والجن). وعن شهادة الحسين أّلّف قصيدة جاء فيها "فمن مُبلغ عنى الحسين رسالة، وإن كرهتها أنفس وقلوب، لئن كان ذنبي حب آل محمد، فذلك ذنب لست عنه أتوب". ومن أروع قصائده الوحدوية، ثلاثة أبيات جاء فيها: "إن نحن فضلنا علياً فإننا، روافض بالتفضيل عند ذوي الجهل، وفضل أبى بكر إذا ما ذكرته، رُميت بنصب عند ذكري للفضل، فلا زلت ذا رفض ونصب كلاهما، بحبيهما حتى أوسد فى الرمل" (الناصبة هم من نصب العداء لآل البيت). وعندما كان قاضياً فى اليمن، أثناء الدولة العباسية، اتهم الشافعي بدعمه لثوار مؤيدين لآل البيت ضد حكم هارون الرشيد، فأمر الرشيد باعتقاله وجلبه إلى بغداد مكبلا بالأغلال، وكاد أن يقطع الرشيد عنقه لولا شفاعة القاضي محمد بن الحسن الشيباني، أحد تلاميذ النعمان.

أما أحمد بن حنبل، مؤسس المذهب الحنبلي، فقد عرف عنه أيضاً حُبّهُ لآل البيت، فهو الذى قال "ما جاء لأحد من أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وآله، من الفضائل ما جاء لعلي". وذكر أيضاً "من لم يثُبّت الإمامة لعلي، فهو أضل من حمار أهله"، وقال كذلك "إن الخلافة لم تزين علياً، بل علي زينها" و"إن عليا أول من ابتلى فى هذه الأمة بقتال أهل البغي". وعبّر عن رفع مكانة آل البيت عنده بأن سمى ولديه التوأمين بالحسن والحسين وبنته زينب تيمناً بأولاد علي، وخصص فى كتابه الكبير "المسند" أجزاء مهمة عن أهل البيت وفضائلهم.

وفى هذا السياق، فإن عبد العزيز بن باز، مفتي السعودية، صرح بأن:" فقهاء الصحابة، الذين كان لهم من العلم ما هو أكمل، قاتلوا مع علي لأنه أولى الطائفتين بالحق، وناصروه ضد الخوارج، وضد البغاة الذين هم من أهل الشام لما عرفوا الحق، وأن علياً مظلوم، وأن الواجب أن يُنصر، وأنه هو الإمام الذى يجب أن يُتبع، وأن معاوية ومن معه بغوا عليه.

يتجلى من أعلاه، أن تدليس الفتانين الشتامين من أن الأمة منشطرة إلى قسمين فقط: أتباع علي والحسين وآل البيت أو أتباع معاوية ويزيد والأمويين، وأن خصامهم مع أهل السنة هو امتداد لموقعة كربلاء، هو كذب رخيص وهتر خبيث للحقيقة .. والجدير ذكره أيضاً أن صحابة كثيرون امتنعوا عن بيعة يزيد، منهم عبد الله بن الزبير؛ وعبد الله هو حفيد أبى بكر الصديق من ابنته أسماء وأحد الذين شاركوا الحسن والحسين فى الدفاع عن عثمان بن عفان. بعد موت يزيد، امتنعت جل الأمة عن مبايعة بنى أمية، وطواعية بايعت عبد الله بن الزبير كخليفة عليها، أتت بيعته من مكة والمدينة والكوفة والبصرة ومدن خراسان ومصر ومعظم بلاد الشام ماعدا أجزاء منها بقيت موالية لبنى أمية. ويُذكر أن عبد الله بن الزبير عندما بلغه نبأ استشهاد الحسين، أجهش بالبكاء وألقى خطبة فى المسجد الحرام لعن فيها يزيد والأمويين. شقيق عبد الله هو مصعب بن الزبير، والي العراق أثناء خلافة عبد الله؛ زوجته سكينة حفيدة علي، وكانت برفقة والدها الحسين فى موقعة كربلاء، وسُبيت إلى يزيد بن معاوية بعد استشهاد الحسين. بعد تسع سنوات من خلافة عبد الله بن الزبير، تمكن الأمويون بدهائهم وأموالهم من استرجاع قواهم، وبعث حاكمهم الجديد، عبد الملك بن مروان، جيشاً كبيرا بقيادة الحجاج بن يوسف الثقفي، إلى مكة مقر الزبير، فاقتحمها بعد أن حاصرها وضربها بالمنجنيق، وقتل عبد الله بن الزبير وقطع رأسه.

ما العمل ؟
ما يُرعب أعداء الأمة من قوى خارجية، صهيونية واستكبارية، ومن يلعق أحذيتهم من عملاء محليين، هو وحدة صفوف الأمة، والذى يسعدهم بلا نهاية هو انشقاقها. ليست هناك أمة فى تاريخ البشرية استطاعت أن تسمو وتزدهر بدون اتحاد شعوبها وتلاحم طوائفها. من الطبيعي وجود طوائف فى أى مجتمع، ولكن من السيّىء وجود نعرة طائفية، فإن وجدت فهو دليل على أنه مجتمع متفسخ، حيث أن جراثيم العصبية الطائفية لا تتنامى وتتفشى إلا فى بيئة آسنة متعفنة.

هل كان للإسلام أن يمتد معززاً من الصين شرقاً إلى أوروبا غرباً لو كان المسلمون منهمكين بمحاربة بعضهم بعضاً؟ هل كان فى قدرة فيتنام فى حربها مع الولايات المتحدة الأمريكية أن تمرغ أنف واشنطن فى الوحل، وتحطم عنجهيتها وتهزمها شر هزيمة، لولا وحده الشعب الفيتنامى الكادح؟ يتكون الشعب الفيتنامى من أربع وخمسين مجموعة اثنية، تنتحل أكثر من خمسة أديان، جميعها توحدت فى نضال بطولى دام 20 سنة، توّج فى نصر مبين عام 1975. والآن فيتنام من أسرع دول العالم نمواً. هل كان من الممكن أن تتطور الصين إلى قوة عظمى، اقتصادياً وعسكرياً، لو لم تتحد قومياتها الخمس والستون بأديانهم الخمسة؟ هل كان بإمكان أوروبا أن تحقق نهضتها الحضارية والاقتصادية لو استمرت بحروبها الدينية والإقليمية الداخلية؟ الجواب لكل الأسئلة أعلاه هو النفى المطلق.

الإيمان بمفرده عند الله لا يكفى، إذ يقول تعالى: "وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ِ وهنالك خمسون آية كريمة تربط الإيمان وترهنه بالعمل الصالح؛ فأين استحداث الفتن، والإيقاع بين أبناء الأمة الواحدة من العمل الصالح؟ بزرع الكراهية والتفرقة، لا يعصى الفتانون فقط ما أمر الله به حين قال: "وأن هذه أمتكم أمة واحدة، وأنا ربكم فاتقون"وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ"، وإنما أيضاً يرتكبون معصية كبرى، إذ ذكر تعالى: "والفتنة أشد من القتل"، والقتل هو من الكبائر" ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنهُ وأعد له عذاباً عظيماً"، فإن كان هذا جزاء القاتل، فما هو عقاب الفتِّان؟

أصاب ذلك المفكر الذى كتب: "الإسلام ليس ألغازاً وليس لوغاريتمات، ولا يحتاج منا إلى كل تلك الفتاوى. والنبى عليه الصلاة والسلام أجاب من سأله عن الإٍسلام فقال فى كلمات قليلة بليغة: قل لا إله إلا الله ثم استقم. هكذا ببساطة. كل المطلوب هو التوحيد والاستقامة على مكارم الأخلاق". إذاً كل المسلمين، شيعة وسنة، هم أمة واحدة، متحدون بتلاوة الشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام فى مكة من استطاع إليه سبيلاً، هم أيضاً متفقون على حبهم لآل البيت. أجل، هنالك اختلاف ما بين الشيعة والسنة، إلا أنه، وكما أفتى الدكتور محمد سيد طنطاوى، شيخ الأزهر الشريف "خلاف فى الفروع لا العقيدة".

يجب على الأمة، إن كانت جادة فى تحقيق طموحها باستعادة عزتها وكرامتها، أن تنبذ كل مظاهر الطائفية، دينية كانت أم اثنية؛ الإسلام ليس فقط دين التوحيد، بل هو أيضاً دين الوحدة، "ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم" و"اعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرّقوا" .. إلا أن هذا لا يعنى السعى إلى اندماج المذاهب الإسلامية فى بعضها. إن الاختلاف المذهبى هو ظاهرة صحية، تدل على عمق الفقه الإسلامى ونشاطية وعيه وثراء تراثه.

ما يقتضى الحرص عليه هو الإيمان الصلب بأن الإسلام فى جوهره هو دين المحبة والعمل الصالح ومكارم الأخلاق. يفرض الإيمان حب أبناء الأمة لبعضهم البعض، فقد قال الرسول: " لن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا ، وَلن تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا". فعلى الأمة، إذاً، استئصال فكر الكراهية وإقصاء ناشريه ومقتديه؛ شتان ما بين الإيمان والكراهية، ما بين الألفة والفتنة! عندما أراد الله وصف رسوله، لم يشر إلى أصله وفصله، أو بأسه، أو هيبته، أو حتى عبادته، بل قال: "وأنك لعلى خلق عظيم". الأمم كذلك تقاس بأخلاقها، فكما ذكر الشاعر: "و إنما الأمم الأخلاق ما بقيت، فإن هُمُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا". يشمل العمل الصالح ومكارم الأخلاق عدة ممارسات وقيم كالشهامة والنبل والنزاهة والاحترام والمروءة والمساواة والشرف والتواضع والعدالة والرصانة والرشد وابتغاء العلم والعمل الدؤوب وإجلال النساء، وأيضاً يقتضى محاربة الظلم ومقارعة البغاة ومكافحة الفساد ومناهضة الاستبداد .. كذلك إيمان الأمة يلزمها ويستوجب عليها العزم على تحرير أراضيها المغتصبة ومحاربة الذين يعيثون فى أرضها فساداً.

كفى الأمة ذلاً وتشرذماً وقهراً: أن سيادتها تُداس، ومقدساتها تُدنس، وثروتها تُسرق، وأراضيها تُحتل، وقيمّها تُنتهك، وعقولها تُهاجر، وشبابها يلتجئون وعزيمتها تتعثر. "لوأننا لم ندفن الوحدة فى التراب، لو لم نمزق جسمها الطري بالحراب، لو بقيت فى داخل العيون والأهداب، لما استباحت لحمنا الكلاب" هذا هو ما يجب أن يدور فى وجدان الأمة .. أن الأمة الموحدة الأبية هى الوحيدة القادرة على السمو، وعلى تملّك العزة والكرامة، وعلى ردع أى اعتداء خارجى أو اقتتال داخلى، وعلى إحباط أى نهب لخيراتها؛ وحدة صفوف الأمة لا تشكل فقط مناعة تلجم أى شر خارجى أو داخلى، بل توطّد أيضاً الأسس اللازمة لتأمين نهضتها ومضائها.

وحدة الأمة المنشودة لا تقتصر على نبذ التناحر الطائفي بين المسلمين، بل تحتم أيضاً أن تشمل جميع أديان الأمة .. عندما فتح عمر القدس وتسلم مفاتيحها من بطريركها، حرر كتابا سُمى العهدة العمرية، تعهد فيه للمسيحيين على حمايتهم والمحافظة على ممتلكاتهم وكنائسهم. بعد المؤتمر الذى رتبته مؤخراً واشنطن فى وارسو وجمع بعض الأنظمة العربية والكيان الصهيونى، وجه القسيس العربي الفلسطيني، الأب مانويل مسلّم، كلمة إلى المتهافتين على التطبيع، قال فيها: "نحن الفلسطينيين المسيحيين سلمنا أجدادكم المسلمين الشرفاء مفاتيح فلسطين والقدس، وتسلمنا منهم العهدة العمرية، نحن ثبتنا أمناء على العهد وسنبقى كذلك، أما أنتم فماذا صنعتم بتلك المفاتيح ولمن سلمتموها؟ نحن إلى أيدى أمير المؤمنين الطاهرة سلمناها، وأنتم تسلمونها اليوم إلى أيدي الصهاينة الملطخة أيديهم بدماء المسلمين والمسيحيين ... لبيك يا قدس، لبيك يا أقصى المبارك، لبيك يا مهد المسيح يا كنيسة القيامة، لبيك يا حيفا ويافا وغزة، الله أكبر، الله أكبر". الأب مسلّم أثناء الحرب على غزة، دوى صوته بندائه للمسلمين: "إذا هدموا مساجدكم، أرفعوا الآذان من كنائسنا"؛ بلاغة ووحدوية ووطنية الآب لا تحتاج إلى أي إيضاح.

قال الحسين قبيل استشهاده الجلل والجليل: "ألا وإن الدعي بن الدعي قد ركز بين اثنتين بين السلة والذلة، وهيهات منا الذلة يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون، وحجور طابت وطهرت، وأنوف حمية، ونفوس أبية من أن تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام، ألا وإنى زاحف بهذه الأسرة على قلة العدد وخذلان الناصر".. إن أرادت الأمة حقاً دحر مذلتها وخنوعها واستعادة مجدها وكرامتها، فما عليها سوى أن تستوعب عبرة هذا القول وتتسلح بمأثرته .. تتوحد وتنهض.