يستعيد القاص المغربي شخصية كاتب قصة مغربي أيضاً معروف كان قد مات منذ سنوات، إذ يجده في بار فتنادما ويتحاورا حول الكتابة والحياة والمعنى، إذ تستنهض روح الكاتب المتجسد همة كاتب السطور اليأس من الكتابة وغاياتها ويحثه على الإقبال على الحياة والفعل في رحلة العمر القصيرة.

لقاء في ليل متأخر

محمد خلفوف

 

عندما دخلت الحانة، استقبلتني عيناه الضيقتان. تهاويت على الكرسي بجانبه،زفرت زفرة طويلة، قال :

  • ما بك؟

  • رأسي يغلي

جاء النادل فطلبت بيرة، وطلب زفزاف بيرة أخرى، "أريدها باردة " قال ،أضفت :"و أنا كذلك "

في الحقيقة لم أكن أعرف أن زفزاف طيب هكذا، عندما قرأت له ما قرأت، دخل إلى قلبي كنقطة عسل. بعدها صرنا أصدقاء، نلتقي كثيرا، أحيانا يبرز بشكل مفاجئ، من أماكن مختلفة، يشعل سيجارة و يبتسم... تجرعت من البيرة وأشعلت سيجارة فشعرت بانتعاش نسبي..كانت سيجارته مشتعلة في فمه، قال:

- هذه رجل عمك شكري من هنا...

فتخيلت شكري بشاربه وشعكاكته..لعب الويسكي برأسه، فوقف على رأسه فوق الكرسي، سقطت من جيبه أوراق وعملات معدنية وتناثرت، وزفزاف يضحك حد السعال. وقال زفزاف :

- هل كتبت شيئا هذه الأيام؟

- لا.. أشعر بالضجر

- إنه ضجر عابر..

- لا أظن، لقد تعبت، تعبت حقا، أفكر في التوقف النهائي...

- لا تقل ذلك، ما تزال شابا.

- كل الذين أعرفهم وصلوا، لا أعرف كيف، لكنهم وصلوا، بعضهم نشر أربع كتب، وحدي أكتب كالمجنون...

- لو كنت أستطيع لنشرت لك في الأقلام، أو الآداب، أو المجلة...لكنني لا أستطيع، أنا ميت للأسف!

ميت يشرب البيرة!!

في مقابلتي تستقر مؤخرة فوق كرسي أمام الكونطوار. مؤخرة في بنطال أسود. تتبعت حركة السيجارة و الكأس. المؤخرة تأخدني إلى خيالات معينة. . في الحمام أفرغت مثانتي و غسلت وجهي..و عدت إلى مكاني في غفلة من زفزاف الذي كان يقرأ خبرا عن اغتيال عمر بنجلون. قلت :

- في ذكرى درويش سال مداد كثير...

- آه..درويش شاعر كبير

- أنت أيضا كاتب كبير؟ هل نسيت ما كتبت؟ عشت فقيرا و مت فقيرا، مجايلوك صاروا أغنياء الآن. أحسست أنني كنت قاسيا مع الرجل،لقد انفعلت قليلا يحز في نفسي أن يكون هذا حال كاتب في قامته..تبغ أسود ومنزل ضيق في المعاريف...

قلت :

- بالمناسبة أين هو غيلمك؟

- الله أعلم، لعله سارح في أرض الله الواسعة.

توقفت عند ثالث زجاجة، أريد أن أسكر، لكنني أشعر بالإمتلاء...قلت :

- علي الإنصراف

- أنا أيضا سأذهب، أشعر بضيق، البارات لم تعد كالسابق. طلب مني إعادة الخمسين درهما.."أدفع ثمن ما شربت على الأقل " رفض، وأخرج كمشة من الأوراق النقدية استل منها زرقاء. استغربت كمية المال، لكنني فكرت إنها مكافأة عن ترجمة أو نشر بيروتي فالرجل كاتب عالمي. دفع ثمن ما شربنا، وأشار بذقنه- لحيته -،إلى رجل نحيل في الزاوية.

في الخارج توقفنا أمام كشك، تأملنا المعروضات، قال زفزاف :

- كثرت الصحف...

- الصحف، الصحفيون، الكتاب، الشيخات، القحاب...الأشياء تتناسل عبثا...

- ابتعت مجلة شهيرة، قلبها، قال :

- لقد نشرت فيها قصتين...

وسرنا متجاورين. أمسك يدي بيده الدافئة، فشعرت بحنو أبوي كبير نحوه، وشعرت برغبة في البكاء لكنني كتمتها. ثم قلت :

- لماذا لا نتسابق، ومن يفز يدفع الحساب في المرة القادمة..

- إلعن الشيطان أنا رجل عجوز على الجري

تأبط جريدته و تأبطت مجلتي، وانطلقنا نركض..ركضنا طويلا، وما أدهشني هي سرعة زفزاف و نشاطه، كأنه لم يتكرع ست زجاجات بيرة، وربما شرب أكثر من ذلك مع شكري.. كأنه، أيضا، ليس ميتا، كان طبيعيا بشكل مدهش!

توقفنا بعد ركض في الدروب المظلمة، وأخدنا نلتقط أنفاسنا، ثم أخد يسعل بشكل حاد، فسقط على الأرض فسارعت لإمساكه وساعدته على الوقوف.

وقفنا كثيرا لإنتظار الباص. كان زفزاف قد توقف عن السعال .قلت :

- هل ترى أن هنالك جدوى من الكتابة؟

- كيف؟

- يعني، نحن شعب لا يقرأ، يحكمنا الدجالون، نفكر ببطوننا و فروجنا...

- كان علينا أن نحمل الفأس أو السكين أو البندقية...عوض حمل القلم و الكتابة، لقد حلمنا بتغيير العالم بالكتابة، لقد أوهمنا أنفسنا و أوهمناكم معنا فسامحونا...

عندما جاء الباص سارعت إلى مصافحة زفزاف وقلت إن البيرة القادمة على حسابي "لقد سبقتني "،فابتسم، وركبت الباص، كان فارغا، فأخدت مقعدا داخله .وعبر النافذة الخلفية رأيت زفزاف موليا ظهره، فتأملته وهو يسير بقامته الفارعة، كشجرة بلوط أزلية، مخترقا ظلام الشارع نحو المجهول.

أشعلت سيجارة ونفت دخانها في فراغ الباص، رغم اللافتة المحذرة. شعرت بارتياح عميق ،رغم ألم الكتابة ثم تذكرت أنني لم أكتب منذ زمن، وأن الأفكار تتصارع في دماغي كالقردة..ففكرت في كتابة قصة، وليقولوا إنني أعاني ضعفا تقنيا، وإنني تقليدي...لا يهم، سأكتب ما دمت قادرا على الكتابة، ومن لم يعجبه الأمر فهناك البحر، أو الحائط...أما أنا فسأكتب، وأشرب القهوة، وأقابل زفزاف، وأعلق جثتي في الغرفة...