نظمت جامعة شعيب الدكالي بالجديدة، بالمملكة المغربية مؤتمرًا حول أعمال الباحث المصري الدكتور عماد عبد اللطيف، الأستاذ بجامعتي القاهرة وقطر، والباحث في بلاغة الجمهور. جرت وقائع المؤتمر الذي استمر ليوم واحد في الثالث والعشرين من شهر إبريل، وألقيتْ فيه سبعة بحوث علمية، علاوة على بحث الدكتور عماد عبد اللطيف الذي عنونه "الصياد والفريسة: منهجيات دراسة الجمهور في البلاغة والنقد وعلوم التواصل".

المغرب تحتفي بالدكتور عماد عبد اللطيف

نورالدين الطويليع

نظمت جامعة شعيب الدكالي بالجديدة، بالمملكة المغربية مؤتمرًا حول أعمال الباحث المصري الدكتور عماد عبد اللطيف، الأستاذ بجامعتي القاهرة وقطر، والباحث في بلاغة الجمهور. جرت وقائع المؤتمر الذي استمر ليوم واحد في الثالث والعشرين من شهر إبريل، وألقيتْ فيه سبعة بحوث علمية، علاوة على بحث الدكتور عماد عبد اللطيف الذي عنونه "الصياد والفريسة: منهجيات دراسة الجمهور في البلاغة والنقد وعلوم التواصل". وذكر الدكتور عماد عبد اللطيف أن بلاغة الجمهور هي صمام الأمان للحد من سطوة المتكلم وجبروته، وأن إقصاءها لا يعني إلا ترسيخ الاستبداد وتكريس صورة المتكلم الذي يملك كل شيء، ويصول ويجول، متقمصا دور الصياد، إذ تسعى بلاغة الجمهور لتغيير صورة المتلقي بوصفه مجرد متلقٍّ ليس له من الأمر شيء سوى الاستسلام لسطوة الصياد كفريسة لا حول لها ولا قوة.

وتابع المتحدث ذاته، الذي كان يحاضر في كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالجديدة، بدعوة من مختبر البحث في علوم اللغة والخطاب والدراسات الثقافية كلامه قائلا: "الكلمة أقوى من السيف، الكلمة أقوى من المال، الكلمة ربما تكون هي القوة الأمضى في هذا العالم، وكلنا نحفظ ذلك المُفْتَتَحَ في إنجيل يوحنا، في البدء كانت الكلمة"، وهذا هو المنطلق والأساس الذي جعل الدكتور عماد عبد اللطيف ـ حسب قول الباحث نفسه ـ يلتجئ إلى دراسة الخطاب السياسي وتحليل استراتيجيات الإقناع والتأثير التي يستعملها السياسيون للتأثير في عقول المخاطَبين، وفي نفوسهم، تلك الاستراتيجيات التي تبدأ من اختيار كل حرف، وليس فقط كل كلمة، اختيارا لا يترك مكانا، ولو ضيقا، للعفوية والارتجال، وضرب الباحث مثالا لذلك بخطب الرئيس المصري الراحل أنور السادات التي تعد من الخطابات الشائعة التداول، الواسعة التأثير، ذات الشعبية الهائلة والقبول الواسع، على الرغم من أنها تتحرك ضد مصالح من أيدوها وصفقوا لها،

وهي المفارقة التي شجعت الباحث أكثر وحفزته على الاشتغال على الخطاب السياسي الذي رأى فيه بوابة مثالية لدراسة البلاغة، لأنه مُحَمَّلٌ ببحر من المعاني من ناحية، ولأنه ينجز أغراضا واقعية من ناحية أخرى، ولأنه كذلك خطاب علاماتي على نحو غير عادي، إذ تتشابك الكلمة مع اللون، مع الحركة، مع الصوت، مع تعبيرات الوجه، "كانت فرصة رائعة لأكتشف كيف يُنْجَزُ السحرُ بواسطة اللغة، خاصة حين يكون سحرا أسود" يقول الباحث الذي استطرد قائلا: "عاينتُ كيف تُسْتعمَل اللغةُ أداة للتضليل، وأشفقت كثيرا على المخاطَبين، هؤلاء الذين كانوا دوما غرض الصياد وهدف القنص"، وهي وضعية أرستها طبيعة علم البلاغة في صورته القديمة ـ قبل أن تظهر بلاغة الجمهور ـ إذ كان معنيا بإمداد المتكلمين بإرشادات وكلمات وتقنيات واستراتيجيات تمكنهم من السيطرة على المخاطَبين وجعلهم هدفا للتصويب، وهذا المأزق الأخلاقي للبلاغة جعل أفلاطون يعرفها بأنها "فن قيادة النفوس"، ويدعو إلى التخلص منها ومن قوتها الشريرة التي تُحوِّلُ الجمهور إلى فرائس مُرَوَّضَة تقع تحت تأثير الخطباء الذين قال عنهم: إنهم يَقتُلون بالكلمات كما يَقْتلُ الفرسان بالسيوف، وعلق الباحث على موقف أفلاطون من البلاغة قائلا: "لم ينتبه أفلاطون إلى أن الجماهير الفرائس يمكنها يوماً ما أن تتطور...وأن العامة سيصبحون بلا صوت، وهذا هو المأزق الأخلاقي الذي وقع فيه أفلاطون، فقد وقع في خطإ أخلاقي في محاولته لتجاوز خطإ أخلاقي آخر"، معتبرا أن بلاغة الجمهور تمثل بديلا للتحدي الذي وضعه أفلاطون أمام البلاغة، إذ جاءت لتحوِّل علم البلاغة من علم يمشي على رأسه إلى علم يمشي على قدمين هما الأخلاق، ولِتُمِدَّ المخاطَبَ بالأدوات التي تمكنه من كشف التلاعب، ومن مقاومته حتى لا يبقى مجرد فريسة مُطاردَة من قبل الأسد (الخطيب)،

وضرب الباحث مثالا على الاستلاب الممارَس على المتلقي أو الجمهور بحقل الدعاية والإعلان الذي ينطلق من هدف أساسي عنوانه "اعرف فريستك"، في الوقت الذي تسعى فيه بلاغة الجمهور إلى تحرير المخاطب والحيلولة دون تحوله إلى فريسة، من خلال إمداده بالأدوات التي تمكنه من كشف التلاعب، فحين توضع زجاجة كوكا كولا ـ يقول الباحث ـ محاطة بكل مفردات السعادة وعلاماتها لكي توهم المتلقي أنه لا يشتري زجاجة كوكا كولا، وإنما يشتري السعادة، تأتي بلاغة الجمهور لتقول له: احذر، فهذا الحشد البلاغي بواسطة المجاز المرسل والتشبيه والاستعارة ليس إلا إيهاما بلاغيا، فما ستحصل عليه في النهاية، ليس السعادة، وإنما زجاجة صودا.

وفي سياق قراءة تاريخ البلاغة استخلص الباحث بعد سلسلة من المقدمات أن عماد خيمة البلاغة "أرسطو" يعد الجد الأكبر للبلاغة التي تجعل من الجمهور قنصا وفريسة، فبمفاهيم الإيتوس واللوغوس والباتوس والتكيف مع المستمع، يسعى الخطيب إلى السيطرة على المخاطَب وخداعه وتضليله وفق ما تجسده الصورة الكاريكاتورية التي يظهر فيها ذئب تحت طاولة الخطابة، وفوق الطاولة قناع الحَمَلِ الوديع، وهذا ينطبق أيضا ـ حسب الباحث ـ على البلاغة العربية أيضا، فرغم أنها عنيت بالمخاطَب عناية كبيرة جدا كما هو واضح في تعريف القزويني للبلاغة: "البلاغة هي مطابقة الكلام لمقتضى الحال"، ورغم تمييز العرب بين حال المتكلم وحال المخاطَب، فلم يكن ذلك إلا لتمكين الأول من السيطرة على الثاني، فهذه البلاغة لم تدرس الجمهور بوصفه كيانا مُتَعَيَّنًا فعليا في لحظة تواصل حقيقي، بمعنى أنها لم تدرس الجماهير انطلاقا من كونهم أفرادا محددين حقيقيين، يمكنهم أن ينتجوا خطابا علاماتيا في لحظة تلقي الخطاب.

وأشار الباحث إلى أن بلاغة الجمهور عملت على تجاوز نخبوية البلاغة القديمة، وحاولت الحد من تركزها في يد المتكلم كسلطة مطلقة، حين سعت إلى قلب الأدوار بين القناص والفريسة، وحاولت دراسة الجمهور، ليس بوصفه كيانا مُتَخَيَّلاً، أو غاية في ذهن المتكلم، أو غرضا يسعى لاستهدافه، وإنما بوصفه وجودا فيزيقيا متعينا في سياق محدد، قادرا على إنتاج خطاب يمكنه بواسطته أن يتفاوض ويقاوم، أو يدعم خطاب المتكلم، وهذا يتحقق عن طريق الوعي بالمادة التي تدرسها بلاغة المخاطَب، وهي مادة تنتمي إلى خطابات الحياة اليومية، وتشمل العلامات اللغوية مثل الهتاف والتعليق على الفيسبوك، وغير اللغوية مثل التصفيق، والغاية التي تنشدها هذه البلاغة هي خدمة الجمهور، وهو مفهوم واسع يتجاوز مقام فضاء التواصل الحقيقي إل فضاء مقام التواصل الافتراضي، ويتجاوز الاستجابة الفردية إلى الاستجابة الجماعية

وختم الباحث مداخلته بالإشارة إلى ما تجشمه من متاعب في سبيل إرساء بلاغة الجمهور في العالم العربي، مضيفا أن اتساع هذا التوجه ودخوله ميدان البحث العلمي والأكاديمي في العديد من الدول العربية أشعره بالارتياح، رغم التحديات التي قال إن العمل والتعاون والتفكير الإبداعي والعمل الجماعي هو السبيل الوحيد لتجاوزها.

هذا وقد أدلى المتحدث ذاته في ختام اللقاء بتصريح قال فيه: "شرفتني جامعة شعيب الدكالي بالجديدة بتنظيم يوم دراسي حول أعمالي، أتيح لي خلاله لقاء أستاذات وأساتذة القسم الأجلاء، وطلاب برنامج الدكتوراه، وماستر البلاغة وتحليل الخطاب، وطلاب شعبة اللغة العربية، والمنتسبين إلى مخبر علوم اللغة والخطاب والدراسات الثقافية . وقد أنصتُ مغمورًا بإعجاب بالغ إلى بحوث قيمة قدمها سبعة من الباحثين المتميزين في الجامعة حول أعمالي، واستمعتُ إلى الكثير من المداخلات الثاقبة الدقيقة الذكية من عشرات الطلاب الباحثين، وأكبرتُ الجهود الكبيرة التي بذلها أساتذتهم حتى يكون طلاب الماجستير والدكتوراه بهذا التمكن البحثي المثير للإعجاب. سأكتب قريبًا عن خلاصات بشأن هذه الجهود".

بدورها قالت رئيسة مختبر علوم اللغة والخطاب والدراسات الثقافية، الدكتورة لطيفة الأزرق: "إن موضوع البلاغة وتحليل الخطاب يدخل في صلب اهتمام المختبر، ولذلك استضاف الدكتور عماد عبد اللطيف الذي يعد باحثا من عيار ثقيل، له أثره الواضح في الساحة الأكاديمية العربية، وله اجتهاداته التي نعتز بها، باحث التفت إلى جانب قلما التفت إليه الباحثون في مجال البلاغة، وهو جانب بلاغة الجمهور"، وعبرت المتحدثة ذاتها عن سعادتها بهذه الاستضافة، معتبرة اللقاء فاتحة للقاءات أخرى سينفتح فيها المختبر على أعمال أخرى خارج حدود الوطن، وعلى مثقفين وباحثين عرب وغربيين، لا سيما أن المختبر اكتسب سمعة طيبة امتدت خارج أرض الوطن رغم حداثة تأسيسه التي لا تتجاوز بضعة أشهر.

من جانبها نوهت الدكتورة نعيمة الواجيدي، أستاذة البلاغة والحجاج وتحليل الخطاب بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالجديدة، التي أشرفت على تسيير الجلسة الصباحية التي خصصت لقراءة أعمال الباحث الدكتور عبد اللطيف من لدن طلبة الماستر والدكتوراه، وأشرفت على تسيير الجلسة المسائية التي ألقى خلالها الباحث محاضرته، نوهت الدكتورة نعيمة الواجيدي بالطابع التشويقي للمحاضرة، وبطريقة تعامل الباحث مع الجمهور الذي استطاع أن يجذبه إليه عن طريق طرح الأسئلة، وتوجيه الكلام إليه مباشرة في العديد من المرات، مضيفة أن هذا ليس غريبا على بلاغي متمكن جدا من قواعد البلاغة ومفاهيمها.

يشار إلى المختبر دأب منذ تأسيسه على تنظيم أنشطة مختلفة، سعى المشرفون عليه إلى إشراك طلبة الماستر والدكتوراه في جميعها، وهو ما اعتبره متتبعون نقطة إيجابية تكشف عن وعي متقدم لوضع باحثي المستقبل في صلب البحث العلمي، ولتحفيزهم على الاحتكاك المستمر بالأعمال الأدبية واللغوية والفكرية، وبمناهج البحث.