مرت الذكرى الرابعة والخمسين لرحيل المفكر الأدبي الكبير أمين الخولي، دون أن يأبه بها أحد. هنا تستعيد (الكلمة) أحدى المقالات المهمة التي كتبت عقب رحيله، لمفكر أدبي احتفت الكلمة قبل شهور قليلة بذكرى رحيله هو الآخر، في نوع من إرهاف ذاكرتنا الأدبية التاريخية، في عالم عربي يعاني من فقدان الذاكرة.

الشيخ أمين الخولي رائد الفن والحياة

محمود أمين العالم

 

ما جلست قط إلى أمين الخولي بل لعلي ما التقيت به قط غير لقاء عابر مرة أو بعض مرة. على أني ما تأملت حياتي العقلية خلال العشرين سنة الماضية إلا وجدت هذا الشيخ الجليل في فكري وفي قلبي، أستاذًا ومعلمًا ورائدًا عظيمًا للمفكر والإنسان والمواطن.
كنت أتابعه من بعيد في الجامعة، أستاذًا شامخ الرأس، نبيل القامة، مهيب الطلعة، فيه اعتداد وحزم، يجمع في زيه وفي سمته بين القديم والجديد، بين الوقار والحيوية.
وكنت أقترب منه دائمًا في كل ما يكتب على ندرة ما يكتب، وكنت أقترب منه دائمًا في مناقشاته للرسائل الجامعية. وكنت أتأمل فيه دائمًا الذهن الثاقب، والذكاء اللامع، وأحس في كلماته دائمًا نهرًا يتدفق أصالة وعمقًا وتجددًا.
وكنت أحمل له دائمًا الإكبار العميق والمحبة الغامرة. وكنت لا أراه في شخصه وفي كتاباته وفي مناقشاته فحسب، بل كنت أراه كذلك في تلاميذه، في جيش المعرفة على حد تعبيره، الذي نجح في حشده وتعبئته في أكثر من ركن من أركان حياتنا الثقافية المعاصرة. بل لعلي رأيته في تلاميذه أكثر مما رأيته في شخصه. فلقد كان أمين الخولي من جيل الأساتذه العظام الذين يلهمون بشخصياتهم، فتتألف من حولهم المذاهب والمدارس والاتجاهات.
أذكر أنني قرأت له كتابه العظيم (فن القول) منذ أكثر من خمسة عشر عامًا، وما زال هذا الكتاب حتى اليوم يملأ نفسي لا بمنهجه العلمي الدقيق فحسب، ولا بنتائجة الباهرة فحسب، بل بشخصية كاتبه، بكلماته وتعابيره وجمله كذلك! وما أكثر ما أحسست بهذا الكتاب، فكرًا ومنهجًا وتعبيرًا وأسلوبًا عند كثير من تلاميذه ومريديه. وما أكثر ما أحسست بأمين الخولي يتحدث ويفكر ويحاور عندما أنصت إلى بعض تلاميذه ومريديه! وهكذا كان أمين الخولي، مفكرًا وصاحب دعوة، يتحلق حوله المريدون، يأخذون عنه ويتشبهون به، وينهجون نهجه.
ولكن ... ماذا كان يدعو إليه أمين الخولي؟
كان أمين الخولي يدعو ببساطة إلى الحياة، لا شيء غير الحياة، مصدرًا لكل قيمة، ولكل فكرة، وهدفًا لكل قيمة ولكل فكرة، من الحياة ومن أجل الحياة، هذه هي خلاصة فلسفية. ولعلنا لو بحثنا عن أكثر الكلمات شيوعًا في كتاباته لوجدنا كلمتي الحياة والحيوية، لا حق ولا صدق في نظره إلا ما ينتسب إلى الحياة، وما يتصف بالحيوية. ولست أغالي إن أطلقت على فلسفته هذه اسم النظرة الحيوية فكهذا كانت نظرته إلى كل شيء، النحو، والبلاغة، والأدب، والفن، والدين. والحيوية عنده ليست نسبة إلى الحياة فحسب وإنما هي كذلك تعبير عن الفاعلية في الحياة نفسها!
لم يكن أمين الخولي مفكرًا منعزلاً، بل كان داعية، حقًا، لم يخرج في دعوته عن حدود البلاغة والتفسير والأدب. ولكنه في هذه الحدود نفسها كان داعية إلى ما هو أفسح من هذه الحدود.
كان داعية إلى الحياة، إلى التجدد، إلى التقدم الاجتماعي والحضاري. في كل ما انتهى إليه من نتائج، كانت الدعوة إلى الحياة نقطة بداية ونقطة نهاية كذلك. هكذا درس النحو، ودرس البلاغة، ودرس التفسير، ودرس الأدب، وناقش قضايا اللغة. وبهذا النهج، كان أستاذًا في الجامعة لا يهتم بتدوين المحاضرات، وتلقين المعلومات، بقدر ما يهتم بصناعة النفوس وتوجيه الضمائر، وبناء القيم.
وبرغم تنوع كتاباته واختلاف موضوعاتها، فإن هذه الكتابات تكاد تكون بناء متناسقًا متجانسًا يضمه معنى واحد، ويحركه هدف واحد، هو الحياة، وهو تجديد الحياة.
وكان مبحث البلاغة نقطة بدايته. وفي كتابه فن القول نجد الخطوط الأساسية لفلسفته البلاغية.
في هذا الكتاب راح يتخلى عن القيم البلاغية الشكلية القديمة ويضع أسس البلاغة الجديدة، المرتبطة بواقع الحياة وتجاربها. إن البلاغة ليست كما كان يقول القدماء احترازًا من الخطأ ولا تجنبًا للتعقيد المعنوي، ولا إدراكًا لوجوه التحسين.
وإنما البلاغة كما يقول أمين الخولي مادة من مواد النهوض الاجتماعي، تتصل بمشاعر الأمة، وترضي كرامتها الشخصية، وتساير حاجتها الفنية المتجددة.
وهو يقول في هذا الكتاب:
أردت لأقيم الرأي في البلاغة وإصلاحها على أساس من الواقع المجرب والمنتفع بخبرة من حولها من الأمم، المستفيد من التقدم الإنساني والرقي الاجتماعي.
وهو يهدف من وراء تجديد البلاغة إلى غاية حيوية قومية، تجدي على الحياة، وتسعد الأمة، وتستجيب لنهضتها الحرة الجادة. خلاصة الأمر عنده أن درس البلاغة لا يقف عند الحدود الشكلية الخاصة، وإنما يهتم بالحياة فعلاً فيها وانفعالاً بها.
وهذا الرأي هو الذي استند إليه أمين الخولي عندما حدد أسس مدرسته الأدبية مدرسة الفن والحياة منذ ما يقرب من ثلاثين عامًا ربط فيها بين الأدب والحياة، وفسر الأدب بأنه تعبير عن الحياة.
وقد اتخذ هذا التفسير الحيوي للأدب معنى خاصًا أحيانًا هو التفسير النفسي للأدب، فدعا أمين الخولي منذ سنوات مبكرة إلى علم نفس أدبي، يكون فية الأدب وسيلة لتفسير الأدب، كما يكون فيه الأدب وسيلة لتفسير الأديب. إلا أنه لم يقف في فهمه للتفسير النفسي للأدب عند حدود العامل الواحد، أي اتخاذ الدراسة النفسية وحدها سبيلاً للتفسير الأدبي، بل اتسع منهجه خاصة في دراساته الأخيرة، فشمل الجوانب الجمالية والاجتماعية من التجربة الإنسانية.
ثم اتجه أمين الخولي بعد ذلك إلى تطبيق منهجه الحيوي على تفسير القرآن. فتقدم أمين الخولي بكشف أسرار الإعجاز النفسي، أي كشف القيم النفسية للإعجاز القرآني. لعلنا نجد بدايات هذا المنهج عند الزمخشري في كشافه ولكن أمين الخولي وضع في الحقيقة أسس هذه المدرسة الجديدة في التفسير النفسي للقرآن، التي راح يطبقها عشرات من الكتاب والدارسين من بعده.
ويتجه أمين الخولي كذلك إلى تطبيق منهجه الحيوي على الدين نفسه. فحرص على إبراز الطابع التقدمي المتجدد للدين، مزيحًا عن وجه الدين كل ما يراد له من جمود وتخلف.
ولهذا عرض أمين الخولي في كتابه المجددون في الإسلام لضرورة التجديد الديني في ارتباط مع العلم والواقع، ويدعم هذا بتقديم كتاب للسيوطي يبرهن فيه على صحة الحديث الشريف القائل بأن الله يبعث بهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها.
وكأنما التجديد بهذا المعنى كما يقول أمين الخولي إنما هو ثورة اجتماعية دورية، يقوم بها عارف بالحياة، متصل بها، عميق الفكر عنها.
المهم أن أمين الخولي سعى هنا كذلك لتفسير الدين تفسيرًا حيويًّا، فأكد القول بتجدده مع تجدد الحياة وأكد ضرورة الاتصال بالحياة والمشاركة والفاعلية فيها، ليحقق الدين رسالته الصحيحة.
وبهذا النهج الحيوي نظر أمين الخولي إلى الماضي والمستقبل، فاختار المستقبل في حسم، دون أن ينكر ما للماضي من أمجاد، كانت للماضي وللماضيين أمجاد وما في ذلك شك. وكانت للماضي وللماضين مفاخر، ما لذلك إنكار، ولكن قيمة هذه الأمجاد، وجدوى هذه المفاخر لا تكون إلا بقدر ما لها من منفعة في تهيئتها لمستقبل يرتفع على أسس من هذا الماضي ويتقدم امتدادًا له.
فليس من الحق أن العصر الذهبي في الماضي، قد ولى .. وليس صحيحًا أنه ما ترك الأول للآخر شيئًا .. وهكذا فإننا نتقدم وعيوننا في وجوهنا ننظر إلى الأمام والغد والمستقبل لا نسلم بأن تكون عيوننا في أقفيتنا.
وبهذه النظرة الحيوية كذلك تعرض أمين الخولي لبعض المشاكل المثارة في حياتنا الأدبية مثل قضية الفصحى والعامية، فوجد الحل أيضًا في هذه النظرة الحيوية. إنه يقول: إن اللغة العامية هي لغة الحياة. فكيف يثار تساؤل حول جواز استعمالها؟!
ولست هنا بسبيل عرض نظريته في اللغة العامية وعلاقتها بالغة الفصحى وإنما حسبي أن أوضح أن أمين الخولي قد اتخذ من الحياة قاعدة وأساسًا لتفسير كل شيء، وبيان مدى الحق والصدق في كل شيء.
فإذا كانت العامية كما يقول هي لغة الحياة فلا سبيل إلى إنكارها بل حتى اللغة الرسميـة (الفصحي) لا حياة لها إلا بقدر ما تستطيع أن تكون لغة الحياة. إن الحياة هي التي تهب كل شيء حقيقته عند أمين الخولي، وكل من أدار ظهره للحياة، فإنما يدير ظهره للحقيقة كذلك. فكل شيء حقيقي هو من الحياة ومن أجل الحياة!
وهكذا ما تخلى أمين الخولي أبدًا عن هذه النظرة الحيوية في أي شيء من شؤون الفكر أو الأدب أو الدين. لقد كانت الحياة هي ميزانه الدقيق في قياس الحقيقة!
ومنذ أيام سكت القلب الذي كان يسند ميزان الحقيقة.
منذ أيام مات أمين الخولي.
ماتت قطعــة عزيزة، كانت امتــدادًا لأعرق ما في المــاضي واستشرافًا لأنبــل مــا في المستقبل.
مات رائد الفن والحياة، رائد الفكر والحياة، رائد الدين والحياة.
مات أمين الخولي ... لكن ميزانه لم يمت.
سيظل ميزان الحقيقة والحياة عاليًا تحمله جيوش المعرفة، التي تزاداد جيلاً بعد جيل.
وسيظل أمين الخولي نهرًا متدافعًا بالخصوبة والتجدد في ضمير المستقبل المتجدد.
وسيظل أمين الخولي معنى للكرامة والشموخ والوقار والجدية في حياة الإنسان العربي.
عزاء لأسرتة، وعزاء للأمناء وعزاء للثقافة العربية.

 

المقال منشور في المصور: 25 مارس 1965.وأُعيد نشرة في كتاب )الإنسان موقف(