يسعى المفكر اللبناني المرموق إلى تأمل ما يدور في السودان، وإلى قراءة الوضع المعقد الذي تواجهه الثورة الشعبية المضطرمة هناك، في سياق عالم عربي تُحكم في الثورة المضادة العربية والدولية على السواء الخناق حولها، ويتمنى لهأ، في أمل لا شفاء منه، استيعاب دورس الإخفاقات الماضية والانتصار.

ثورة السودان .. عن أمل لا شفاء منه

فواز طرابلسي

 

اخشى انه علينا توخي الكثير من الحذر عند الحكم على سلوك تحالف قوى الحرية والتغيير وتجمع المهنيين السودانيين في المفاوضات التي جرت برعاية الوسيط الاثيوبي. منذ البداية لم يتوقف الحراك السوداني عن التفاوض وهو يستجمع عناصر قوته في الوقت نفسه.
الدرس الاكبر هو ان السلمية في ممارسة حركة شعبية عارمة كالتي يعرفها السودان، تعني ممارسة قوة العدد والارادة بواسطة التظاهرات والاضرابات والاعتصامات تنفذها اوسع جماهير في اكبر عدد من المدن والبلدات. لقد حشد الحراك السلمي، المرتكز الى شبكة استثنائية من المؤسسات القاعدية من لجان مقاومة وتنسيقيات ولجان احياء وتنظيمات نسوية وشبابية ونقابات، الخ. حشد اقصى القوة دعماً لمطلبه في تسليم السلطة للمدنيين واخضاع القوات المسلحة والامنية لها. وصعّد الحراك نحو الاقصى في فرض قوة الارادة السلبية على الخصم: تطويق القيادة العسكرية في عقر دارها بالحشد الجماهيري.
في ازاد ذلك، انقلب البرهان وحميدتي على البشير وغوش وتوليا قيادة السلطة والنظام. راوغ المجلس العسكري بقيادتهما في المفاوضات الى ان امّن دعم وتمويل وتسليح تحالف قوى الردة المضادة للثورات: السعودية-الامارات-مصر. (الوعد بالثلاثة مليارا دولار السعودية وحاملات الجنود الاماراتية التي تسرح وتمرح في الخرطوم وام درمان). أمّن العسكر الى ذلك الدعم الروسي والصيني في الامم المتحدة وافادوا لاقصى حد من الاستهتار والتواطوء الاميركيين. بتشجيع من هذا الوضع وبالرهان ايضا على قوى تقليدية داخل تحالف قوى الحرية والتغيير (الصادق المهدي خصوصا) امكن الانتقال من الدفاع الى الهجوم: ارتكب الجيش الرديف- الجنجويد مجزرة نموذجية يوم الاثنين الدامي. وانفك الطوق الشعبي عن بؤرة الضغط: القيادة العسكرية.
ردّت قوى الحراك بالاضراب العام خلال الايام الثلاثة وهو اقصى التصعيد. نفذته بانضباط نموذجي وإرادة زاخمة اوسع الفئات الشعبية.
هذه هي المعادلة في الحراك الشعبي السلمي. العنف المسلّح للجنجويد في مواجهة قوة العدد للجماهير وصلابة الارادة في التحرر والتغيير.في ازاء هذا الاختلال في موازين القوى المحلية والاقليمية والدولية، وافق تحالف قوى الحرية والتغيير على تسوية: مناصفة بين عسكر ومدنيين في المجلس السيادي زائد شخصية مدنية توافقية؛ رئاسة تداولية للمجلس من سنة ونصف يبدؤها العسكر؛ انتخابات عامة بعد ثلاث سنوات.
هل كان لقوى الحرية والتغيير خيار آخر وقد صممتْ على سلمية حراكها؟ يجوز طرح السؤال.
رفض المجلس العسكري التسوية الاثيوبية، فاتحاً الاحتمالات على اوسع مداها في جولة جديدة من المبارزة بين قوة العدد والارادة الشعبية من جهة والعنف المنظم للنظام العسكري-الامني-الميليشياوي.
إن لم اكن مخطئا، كانت الحركات السلمية السابقة في السودان تنتصر عندما تستدعي قوةُ العدد الجماهيرية والارادةُ الشعبية الموحدة تحرّكَ قيادات وقطاعات من الجيش تنقلب على الحاكم العسكري وتفرض الحكم المدني والانتخابات، علماً ان عسكريين لن يلبثوا أن ينقلبوا على الحكم المدني، كما في حالتي النميري والبشير.
الجديد في الوضع الحالي هو وجود ميليشيات الجنجويد (٥٠ الف مسلّح) كجيش موازٍ وهي قوة قابلة لأن تشلّ احتمال حركة عسكرية تعيد الحكم للمدنيين او تطرح على قطاعات عسكرية راغبة في تسليم السلطة لمدنيين تحدي الصدام المسلح.
أكتب للدعوة لمزيد من التفكّر في الحراك السوداني من منظار وقائع ودروس انتفاضات ٢٠١١ وبالابتعاد عن تخريجات وتوهيمات التبشير السلموي السائد لدى المنظمات غير الحكومية.
قوة الشعب وارادته ووحدته في وجه العنف المؤسس لطغمة عسكرية تنتج تسويات لا انتصارات حاسمة.
كم هو وحيد الشعب السوداني في هذا العالم الظالِم. كم هو عسير التغيير ولو الجزئي في بلادنا. كم هو مأسوي الخيار: إما العسكرة وإما المساومة وفق شروط العسكر.
جميل ومؤثر شعار «الدم الذي ينتصر على السيف». لكنه للتعبئة القتالية اكثر منه لتغيير موازين القوى.
ورائعة عبارة عمر الفاخوري «العين تقوى على المخرز عندما ينبت لها ظفرٌ وناب». لكنها علامة مضيئة على قدرة الادب على تصوّر المستحيل.
وعن امل لا شفاء منه.