بعد مرور اثنين وخمسين عاما على هزيمة يونيو المروّعة ليست هناك أي دراسة تاريخية مدعومة بالوثائق لما جرى فيها من كوارث لازلنا نعاني من ويلاتها حتى اليوم. هنا محاولة لمؤرخ مصري بارز كتبها قبل عامين لسد هذا النقص رغم غيبة الوثائق، وفحص السرديات المختلفة التي سادت بشأنها على الجانبين.

هزيمة يونيو المستمرة

خالد فهمي

 

مقدمة:
اليوم تمر خمسون سنة علي بداية الأزمة التي تطورت سريعا وأدت إلي اندلاع حرب يونيو ١٩٦٧. وبهذا المناسبة رأيت ضرورة تذكيرنا ببعض تفاصيل هذه الحرب اللعينة التي ما زلنا نعاني من آثارها لليوم، ولذا سأكتب مقالات يومية قصيرة تتناول تطورات الأزمة وبعض تفاصيل الحرب. ليس الغرض من هذه المقالات التأريخ للحرب، فلهذا المقام مقال آخر. ولكن الغرض إلقاء الضوء على جوانب مخفية من الهزيمة، وطرح أسئلة بعضها قديم معروف، وبعضها جديد غير مطروح. والغرض العام من هذه المقالات التعلم من دروس هذه الهزيمة المروعة والاعتبار مما تظهره عن طبيعة نظامنا السياسي وأساليب اتخاذ القرار فيه.

(١) الحشد التعبوي
في الساعة الحادية عشرة من يوم الأحد ١٤ مايو ١٩٦٧ فوجئت القوات المسلحة المصرية بصدور توجيهات نائب القائد الأعلى المشير عبد الحكيم عامر برفع درجة الاستعداد في القوات المسلحة من الاستعداد “الدائم” للاستعداد “الكامل”. وما هي إلا ساعة واحدة حتى صدرت تعليمات جديدة بتعبئة القوات المقرر حشدها في سيناء، على أن يتم الحشد في مدة تتراوح بين ٤٨ إلى ٧٢ ساعة. ولم يفهم القادة السبب من وراء هذه التوجيهات المباغتة. فكان من المفترض أن مثل هذه التوجيهات تأتي من القائد الأعلى، أي الرئيس جمال عبد الناصر، وليس من نائب القائد الأعلى، المشير عامر. كما غاب مجلس الدفاع الوطني عن الصورة ولم يتبين للقادة إن كان هذا المجلس قد شارك في اتخاذ هذا القرار. ولم تكن هناك أية علامات على أن القوات المسلحة تستعد للتعبئة أو للحرب.

ومن علامات أن الأمور كانت تسير سيرها الطبيعي في الدولة عامة، وفي القوات المسلحة خاصة في تلك الأيام، أن وُجهت الدعوة إلى الفيلد مارشال مونتجمري، القائد السابق للجيش الثامن البريطاني، للحضور لمصر للاحتفال بمرور خمسة وعشرين عاماً على معركة العلمين التي انتصر فيها مونتجمري على غريمه إروين رومل في الحرب العالمية الثانية. وبالفعل حضر المارشال مونتجمري وألقى كلمة يوم ١٣ مايو في أكاديمية ناصر العسكرية.

وسرعان ما تبين أن السبب من وراء القرار هو وصول معلومات للقاهرة تفيد بأن إسرائيل تقوم بحشد قواتها على الجبهة السورية، وأنها حشدت بالفعل من ١١ إلى ١٣ لواء مقسمين على قسمين، الأول جنوب بحيرة طبرية، والثاني شمال البحيرة. وكانت الجبهة السورية-الإسرائيلية قد شهدت مناوشات خطيرة على مدار الأسابيع القليلة السابقة، ووصلت تلك المناوشات ذروتها يوم ٧ أبريل عندما اشتبك سلاح الجو السوري مع نظيره الإسرائيلي في سماء دمشق في معركة حامية اشتركت فيها أكثر من ١٣٠ طائرة كان نتيجتها إسقاط ستة طائرات ميج سورية. وبما أن مصر كانت تجمعها بسوريا اتفاقية دفاع مشترك كانت قد وُقعت في نوفمبر من العام السابق، أي ١٩٦٦، فقد رأت مصر أن عليها أن تتحرك للدفاع عن حليفتها سورية.

أما المعلومات عن الحشود الإسرائيلية، وهي معلومات اكتُشف لاحقا أنها غير صحيحة، فكان مصدرها الاتحاد السوفييتي. ففي اليوم السابق، السبت ١٣ مايو، أي نفس يوم إلقاء مونتجمري لكلمته في أكاديمية ناصر، اجتمع السفير السوفيتي ديميتري بوجيداييف (Dimitri Pojidaev) مع أحمد حسن الفقي وكيل وزارة الخارجية وأبلغه أن الإسرائيليين يقومون بحشد قواتهم على الحدود السورية. نفس المعلومات سمعها أنور السادات (الذي كان يشغل وقتها منصب رئيس مجلس الأمة) في موسكو وهو في طريق عودته من رحلة إلى كوريا الشمالية. ففي مطار موسكو وأثناء توديعه قال له نائب وزير الخارجية فلاديمير سيمينوف (Vladimir Semyenov) في حضور رئيىس البرلمان السوفييتي بودجورني (Nikloai Podgorny) إن الإسرائيليين قد حشدوا عشرة ألوية على الحدود مع سورية. ويضيف محمد حسنين هيكل في كتابه “الانفجار” (ص ٤٤٥) مصدرا ثالثا لتلك المعلومات المغلوطة فيقول إن مندوب المخابرات السوفييتية في القاهرة أبلغ صلاح نصر رئيس المخابرات العامة أن الإسرائيليين حشدوا أحد عشر لواءا على الحدود.

وبناء على هذه المعلومات أمر المشر عامر رئيس الأركان محمد فوزي بالسفر لسورية لاستطلاع الأمر. وبالفعل سافر فوزي في اليوم التالي، الأحد ١٤ مايو، وتبين له أن هذه المعلومات غير صحيحة، فقد طاف بنفسه بطائرة على الحدود ولم يتبين أي وجود لحشود غير معتادة. بل أنه وجد أن السوريين أنفسهم غير عابئين بهذه الأخبار ولا يدرون عنها شيئا. وبالرغم من تأكده من عدم وجود حشود إسرائيلية وبالرغم من توصيله تلك المعلومات للمشير فور عودته للقاهرة، إلا أن قرار الحشد والتعبئة لم يُراجع، بل جرى الإسراع في تنفيذه.

وإذا كان السبب من وراء إصدار توجيهات الحشد غير واضح وملتبس (وهناك العديد من الدراسات التي تناولت تلك النقطة تحديدا، أي الدافع من وراء تبليغ السوفييت معلومات مغلوطة لمصر) فإن الغرض من الحشد أيضا تحوم حوله الشبهات ويطرح الكثير من الأسئلة. فما هي الأهداف من وراء هذا الحشد والزج بأكثر من ١٠٠ ألف فرد لسيناء في غضون أيام قلائل؟ بما أن القوات المسلحة المصرية لم يوجد لديها خطة تعرضية (أي هجومية) وإنما كان لديها خطة دفاعية اسمها «قاهر» صُدق عليها في ديسمبر ١٩٦٦، هل كان الغرض من الحشد استدراج إسرائيل لسيناء وتفعيل الخطة قاهر بغرض تدمير القوات الإسرائيلية؟ أم كان الغرض الإبقاء على الحال الجديد وعدم تحريك ساكن بعد الحشد؟ أم القيام بهجوم شامل على النقب؟ أم التمترس داخل سيناء والقيام بحرب استنزاف طويلة الأمد بغرض إهلاك إسرائيل وإضعافها استعدادا للهجوم عليها حينما تتاح الفرصة مستقبلا؟

هذه هي الأسئلة التي نعرف الآن أن المخابرات الحربية الإسرائيلية طرحتها على نفسها في محاولة لتفسير قرار الحشد، وهي أسئلة قد تكون قد لاحت أيضا في خاطر الكثيرين من القادة المصريين وقتها دون أن يجدوا لها أجوبة. فكل القادة المصريين كانوا على علم بأن القوات المسلحة المصرية لم تكن مستعدة عام ١٩٦٧ لخوض حرب مع إسرائيل، خاصة في ظل وجود ثلثي حجم القوة الضاربة في اليمن. بل أن هيئة عمليات القوات المسلحة كان لها رأي واضح وقطعي في هذا الأمر. فبعد التصديق على الخطة «قاهر» في ديسمبر ١٩٦٦ بدأت هيئة العمليات في وضع تقرير عام عن هذه الخطة وكيفية تنفيذها، ورفعت تقريرها للقيادة يوم ١٦ ديسمبر بما يفيد أنه في ظل وجود ثلثي القوات في اليمن، وكذا ضعف القدرة القتالية للتشكيلات والوحدات، وكذا نقص الأفراد والمعدات والتجهيزات — في ضوء كل هذه العوامل حذرت هيئة العمليات من القيام بمواجهة عسكرية مع إسرائيل ولفترة زمنية طويلة قادمة قد تدوم لثلاث سنوات.

وبالتالي فإن أهم سؤال يتعلق بقرار الحشد ليس ذلك المُتداول بين المؤرخين والدارسين والمتعلق بأغراض الروس في إشاعة أخبار خاطئة ومضللة، بل «لماذا اتخذت القيادة المصرية قرار التعبئة العامة ورفع درجة الاستعداد وحشد ١٠٠ ألف جندي لسيناء مع ما يحمله ذلك من خطر نشوب قتال حقيقي، هذا مع علمها يقينا بأن القوات المسلحة غير مستعدة من كافة الأوجه لمواجهة العدو الإسرائيلي؟» التفسير التقليدي لهذه السؤال المحوري هو أن هذه كانت «مظاهرة» عسكرية غرضها الردع، ولم تؤخد مأخذ الجد. هذا هو ما ذهب إليه أغلب المؤرخين الذين تناولوا تلك الفترة العصيبة من تاريخنا، وأضافوا أن أيا من القادة المصريين لم يدرك حقا أن الحرب على الأبواب، أو أن هذا القرار يعني الحرب. هذا التحول حدث فقط، حسب هؤلاء المؤرخين، بعد سحب قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة يوم ١٨ مايو، وطبعا بعد قرار إغلاق مضيف تيران يوم ٢٢ مايو .

في كتابه (الانفجار) الذي يزيد عدد صفحاته عن الألف، يقول هيكل إن عبد الناصر استدعي عامر لبيته مساء يوم السبت ١٣ مايو لدراسة الوضع (ص ٤٤٧). وبالفعل وصل عامر لبيت عبد الناصر في منشية البكري الساعة السابعة والنصف مساء واتفقا على دعوة أركان حرب القوات المسلحة اليوم التالي، يوم الأحد ١٤ مايو، إلي اجتماع طارئ لدراسة ما يمكن اتخاذه من إجراءات. وفي صباح يوم الأحد وصل عبد الناصر لمكتبه في السابعة والربع بعد ساعات قصيرة من النوم المتقطع وأخذ يحضر لاجتماع هيئة الأركان. ثم يضيف هيكل عدة تفاصيل عن انشغال عبد الناصر بمناقشات مع من يسميهم هيكل «زملائه [أي زملاء عبد الناصر] ومعاونيه» ومنهم زكريا محي الدين، نائب الرئيس، وصدقي سليمان، رئيس الوزراء، ومحمود فوزي، نائب رئيس الوزراء للشؤون الخارجية، وعلى صبري، الأمين العام للاتحاد الاشتراكي، وعدد من أعضاء اللجنة العليا للاتحاد الاشتراكي.

وبالرغم من أن هيكل في سرديته لهذه الساعات الحاسمة قال إن هذه المناقشات التي أجراها عبد الناصر قد تمت «بعد ذلك»، الأمر الذي قد يعني أن عبد الناصر قد أجراها بعد اجتماع هيئة الأركان، إلا أنه يوردها في كتابه بعد وصفه للحظة دخول عبد الناصر مكتبه في الساعة السابعة والربع صباح يوم ١٤ مايو انتظارا وتمهيدا لاجتماع هيئة الأركان. وفي رأيي أن هذه لعبة من ألعاب هيكل المعتادة والتي قصد منها تشتيت انتباه القارئ لتسلسل الأحداث. لأن المحطة الهامة والمحورية في أحداث ذلك اليوم هو أن عامر لم يتصل بعبد الناصر للتحضير سويا لاجتماع هيئة الأركان، بل اتصل به قرب نهاية الاجتماع الذي كان قد بدأ بالفعل في غياب عبد الناصر، ونقل إليه أنهم في هيئة الأركان قد توصلوا بالفعل إلى إجراءات بتحرك تشكيلات متتالية تتوجه على الفور إلى سيناء وتحتل مراكزها هناك. (هيكل، الانفجار، ص ٤٥١).

ثم يقول هيكل «لا يستطيع أحد أن يقطع بتفاصيل ما دار بين الاثنين في هذا الحديث التليفوني، وربما أن الإشارة الوحيدة التي يمكن بالاستنتاج أن تشير إليه هي عدد من الإضافات كتبها عامر بخط يده على المشروع الأصلي لتوجيهاته إلى القوات المسلحة». ومرة أخرى يشتت هيكل قارئه، فيفرد صفحتين لنص تلك التوجيهات والتعديلات التي أحدثها عامر عليها بناء على حديثه مع عبد الناصر. لماذا أقول أن هذه «لعبة» من «ألعاب» هيكل أراد بها تشتيت انتباه القارئ؟ لأني لا أعتقد أن هذه التعديلات أو المناقشات التي أجراها عبد الناصر مع معاونيه هي لب الموضوع هنا. بل لب الموضوع هو أن عبد الناصر لم يذهب لاجتماع هيئة الأركان، وأن عبد الحكيم عامر هو الذي ترأس هذا الاجتماع، وأن قرار التعبئة والحشد قد اتُخذ بالفعل في هذا الاجتماع الحاسم دون استشارة عبد الناصر إلا قبيل انتهائه وجرت هذه الاستشارة بالتليفون.

بمعنى آخر، قرار الحشد التعبوي الذي كان بداية الأزمة التي أدت لهزيمتنا في حرب ٦٧ اتخذه عبد الحكيم عامر مع شلته، ولم يتخذه جمال عبد الناصر مع معاونيه. أما كيف ولماذا سمح جمال عبد الناصر لعبد الحكيم عامر أن يأخذ هذه القرار منفردا، فهذا ما ستحاول بقية هذه اليوميات أن تستوضحه. بقى أن نشير إلى أنه نتيجة لعدم جاهزية القوات المسلحة للقتال، ولعدم التدرب على التعبئة العامة، فالطريقة التي جرى بها حشد القوات لسيناء كانت مأساوية. صحيح أن الكثير من أدبيات تلك الكارثة يركز على مشاهد الانسحاب المروعة يومي ٦ و٧ يونيو، إلا أن مشاهد حشد مائة ألف جندي للجبهة دون خطة ولا استعداد كانت هي الأخرى فظيعة، وكانت نذير شؤم لما سيحل بهذه الآلاف المؤلفة من شباب مصر.

وبما أن سجلات هذه الحرب ما زالت حبيسة المخازن، فربما يسعفنا الأدب للوقوف على حجم الكارثة التي حلت بالجنود أثناء الحشد حتى قبل بدء القتال. الكلمات التالية اقتبسها من رواية (قصة حب من يونيو ٦٧) لعصام دراز، الذى أعتبره من أهم من أدرك معنى هزيمتنا في ٦٧ وأصدق من كتب عنها: «ذهبت مع أحد الضباط لنجدة بعض مركباتنا المعطلة على الطريق. وجدت عدلي أمامي يقف على الطريق حاسر الرأس ويده ملوثة بالشحم والزيت. كان يحاول إصلاح إحدى عرباته المعطلة وهو يسب ويلعن. هتف صائحا عندما رآني، وقال بصوت مبحوح مرهق: إنها مهزلة! أشعل سيجارة وراح ينفث دخانها في عصبية ثم وقف بجواري. كان المشهد على الطريق غريبا، ضحكنا من قلوبنا عندما مرت سيارة لوري ضخمة تقطر خلفها سيارتين مدرعتين عاطلتين. كان المنظر مضحكا للغاية، فقد كانت السيارات متجهة إلى سيناء. قلت لعدلي: إن منظر العربات المدرعة العاطلة يوحي بأنها متجهة إلى مخازن الكهنة وليس إلى سيناء حيث الحرب المنتظرة. ضحك عدلي من قلبه وقال مكررا: مهزلة يا أخي! قلت وأنا أرفع رأسي للسماء: أنقذنا يا رب.! مر في هذه اللحظة عدد من الجرارات التي تقطر مدافع ميدان ضخمة. لوّح لنا جنودها بدون سابق معرفة، فلوحنا لهم بالتالي. استنجد بنا سائق إحدى السيارات المعطلة لكي نساعده في إصلاح عطل في سيارته. فقد تركَته وحدته على الطريق في الليل ومن المحتمل أن تكون وصلت سيناء الآن وهو هنا حائر. اتجه عدلي إلى عرباته بعد أن انتهينا من مساعدة السائق. تعطلت فجأة سيارة إسعاف عسكرية وسط الطريق، نزل سائقها بسرعة وراح يدفعها مع بعض الرجال لتخلي الطريق لآلاف المركبات المتحركة، كانت هناك دبابة في نفس اللحظة في الاتجاه المضاد بجوار الطريق. انحرفت الدبابة عن مسارها لتتجنب إحدى الخيام. فوجئت الدبابة بسيارة الإسعاف تنقلب على الأرض وسط صراخ الجنود. أصبحت السيارة بضربة واحدة كعلبة الكبريت. اجتمع الضباط والجنود الذين كانوا موجودين بالصدفة. وراح الجميع يشارك في استخراج جثث الجنود القتلى من داخل العربة المبططة. وضعت أربع جثث في العراء على جانب الطريق، تم تغطيتهم بالبطانيات لحين حضور عربة لنقلهم».

(٢): أسئلة الهزيمة
لم تكن هزيمة ٦٧ هزيمة عادية. ولا يمكن النظر إليها على أنها هزيمة للجيش فقط. إن الطريقة التي انهزم بها الجيش، والسرعة التي انهارت بها قيادته، وفداحة الخسارة في الأرواح والمعدات والأرض — كل هذه العوامل تجبرنا على النظر لـ٦٧ على أنها أكثر وأعمق من مجرد هزيمة جيش منكسر. إنها هزيمة نظام سياسي واجتماعي وفكري، هزيمة رؤيتنا للعالم ولمكاننا فيه. وبالتالي فتفسير الهزيمة لا يجب أن يكون محصورا في النواحي العسكرية. وفي مقال قادم سأتناول بعض النواحي غير العسكرية للهزيمة.

ولكن لو حصرنا اهتمامنا في النواحي العسكرية فقط، فإن هزيمة ٦٧ تطرح أسئلة صعبة لا أظن أننا تمكنا بعد من الإجابة عليها. فعلى مدار سنوات طوال قيل لنا أننا نملك أقوى جيش في الشرق الأوسط، وفي الذكرى الرابعة عشر للثورة ، أي في ٢٣ يوليو ١٩٦٦، أقيم عرض عسكري مبهر شهده عبد الناصر مع قادة الجيش وتناقلته وسائل الإعلام كلها، وبها ظهر الجيش قويا مدججا بالسلاح. وعندما ظهرت الأزمة في ١٤ مايو ٦٧ وبدأت عملية التعبئة شاهدت الملايين من سكان القاهرة قوات الجيش وهي تخترق شوارع العاصمة في طريقها للجبهة في مشهد أقرب لاستعراض عسكري منه لحشد تعبوي. ويقول الفريق صلاح الدين الحديدي (الذي كان قائد المنطقة المركزية والذي سيرأس فيما بعد المحكمة التي حاكمت قادة الطيران) في كتابه (شاهد على حرب 67) الصادر في ١٩٧٤ إنه كان من الغريب حقاً أن تسلك هذه التحركات الضخمة، في بدايتها من المنطقة المركزية شوارع رئيسية في العاصمة، مارة بأكثر الميادين ازدحاماً بالمرور المدني العادي رغم وجود طريقين رئيسيين خارج المدينة الكبيرة، يمر أحدهما بالقرب من جبل المقطم (طريق صلاح سالم) والآخر موازياً للنيل (طريق الكورنيش). بل قد لا أكون مبالغاً إن قلت إن فكرة هذين الطريقين نشأت أساساً لتسهيل التحركات العسكرية. وقد كان لي فرصة مناقشة أسباب اختيار قلب العاصمة لتمر فيها عشرات الآلاف من العربات والدبابات والمدافع، تحت شرفات أكبر السفارات الأجنبية في القاهرة، الصديق منها وغير الصديق، فأفهمت يومها إن هذا القرار لم يأت عفواً بل له أهداف قد يحققها هذا الاختيار الذي يعرض أمام الملأ عضلات القوات المسلحة.» (ص ١٥٣-١٥٤)

وبالفعل، كان مشهد الجيش مبهرا، وكان يحق للمصريين أن يفتخروا بأن جيشهم من أكبر جيوش المنطقة. فالجيش كان يمتلك أكثر من ١٣٠٠ دبابة (إسرائيل كانت تمتلك ١٠٠٠)، وأكثر من ١٠٠٠ مدرعة حاملة للجنود (إسرائيل: ١٥٠٠) ، و٩٥٠ بطارية مضادة للطائرات (إسرائيل: ٥٥٠)، و٤٣١ طائرة مقاتلة (إسرائيل ٢٨٦). وكانت وسائل الإعلام كلها، الصحف والإذاعة والتليفزيون، تنقل كل شهر أخبار الانتصارات التي يحققها الجيش بالفعل في اليمن وتتوعد بالهزائم التي سيوقعها حتما جيشنا الجرار بإسرائيل في المعركة المرتقبة.

ويكفي إلقاء نظرة سريعة على عنواين الصحف منذ اندلاع الأزمة في ١٤ مايو وحتي بدء القتال في ٥ يونيو للوقوف على تطلع الشعب للمعركة وتشوقه لها: وفي يوم ١ يونيو صدحت أم كلثوم بأغنية «راجعين بقوة السلاح» في سينما قصر النيل. وكان الثنائي صلاح جاهين ورياض السنباطي قد فرغا لتوهما من الأغنية ولم يتسن لأم كلثوم أن تحفظها، لذا نراها في صورها ووراءها ملقن يذكرها بالكلمات. ولكن في الساعة التاسعة إلا ربع في صباح هذا اليوم المشؤوم، ضرب الطيران الإسرائيلي المطارات التالية: العريش، بير جفجافة، غرب القاهرة، جبل لبني، بير تمادة، أبو صوير، أنشاص، فايد، كبريت. وفي الساعة الحادية عشر ضرب مطاري المنصورة وحلوان. وبعدها بربع ساعة ضرب مطار المنيا. وفي الساعة الواحدة ظهرا ضرب مطار بلبيس. وفي الساعة الواحدة والنصف، مطاري الأقصر والغردقة. وقبل أن ينتهي اليوم قصف مطار القاهرة الدولي الساعة السادسة والربع. وكان من نتاج هذه الغارات الإسرائيلية المتتالية أن دُمر ٨٥٪ من سلاح الجو المصري، وأصبح ١٠٠ ألف جندي في سيناء بلا غطاء جوي.

وما هي إلا ٣٦ ساعة حتى أصدر نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، المشير عبد الحكيم عامر، قرار الانسحاب المشؤوم. وطوال يوم ٧ أخذ سكان القاهرة يشاهدون فلول الجيش زاحفين على الهاكستيب في البداية ثم على شوارع وميادين العاصمة، نفس الشوارع والميادين التي استعرضوا فيها قوتهم منذ أيام قليلة خلت. وبالرغم مما شاهدوه بأعينهم في شوارعهم وأحيائهم إلا أن المصريين كانوا بعد يسمعون عبد الحليم حافظ يغني “يا أهلا بالمعارك”، وكانوا يستمعون لأحمد سعيد في صوت العرب يبشرهم بأن طلائع الجيش على أبواب تل أبيب. ورغبة منهم لاستجلاء الأمر، أقبل المصريون على قراءة آخر الأخبار فكانت صحيفة (المساء) تبشرهم هي الأخرى بأن النصر أمسى قاب قوسين أو أدنى. وبحلول يوم ٨ يونيو كان الجيش العربي الزاحف على تل أبيب قد سقط منه عشرة آلاف جندي، أي عُشر عدد جنوده الذين حشدوا للجبهة، و١٥٠٠ ضابط. كما وقع في الأسر خمسة آلاف جندي و٥٠٠ ضابط (بناء على ما جاء في خطاب عبد الناصر الذي ألقاه يوم ٢٣ نوفمبر ١٩٦٧). وبالإضافة إلى تدمير سلاح الطيران، فقد ترك الجنود وراءهم ٨٥٪ من عتاد الجيش، من دبابات ومدرعات ومدافع. وأمسى الطريق للقاهرة مفتوحا، والبلد بلا جيش يحميها.

لا درع ولا سيف.

بهذا المعنى فإن هزيمة يونيو لم تكن هزيمة عادية، لا في حجمها، ولا في فداحتها، ولا في سرعتها، ولا في عمقها. كيف يمكن تفسير هذه الهزيمة الفظيعة؟ كدارس للتاريخ، لا أمل من تكرار أنه يجب أن نطّلع على تفاصيل هذه الهزيمة، ويجب أن نقرأ سجلات الجيش وأوراقه. من حقنا أن نطلع على محاضر اجتماعات عبد الناصر مع معاونيه ومستشاريه، وعلى سجلات محادثات عبد الحكيم عامر مع شلته، وعلى محاضر اجتماعات رئاسة الأركان، وتقارير المخابرات الحربية، وتقارير المخابرات العامة، وسير العمليات الحربية يوما بيوم، ومحاضر اجتماعات مجلس الوزراء، ودفتر أحوال الاتحاد الاشتراكي العربي، وتفاصيل لقاءات وزير الخارجية بالديبلوماسيين والصحافيين الأجانب. كما يجب أن نطلع على تقارير اللجان المتعددة التي شكلتها القيادة العليا للتحقيق في هذه الهزيمة المروعة.

هذه التقارير والسجلات والأوراق محفوظة في دار المحفوظات المركزية للقوات المسلحة وفي رئاسة الجمهورية وفي رئاسة مجلس الوزراء وفي غيرها من المؤسسات السيادية، ولكنها ملك لنا، نحن أفراد هذا الشعب، نحن المواطنين الذين ما نزال ندفع ثمن هذه الكارثة. ولكن الجيش وأجهزة الدولة الأخرى لا تريد لنا أن نعي ما جرى، ولا يريدون الإفراج عن هذه المصادر التاريخية.

وبالتالي وحتى نحصل على حقنا في قراءة مصادر تاريخنا، فلا بديل أمامنا من اجترار ما قيل سابقا ومن الانكباب على ما كتبه صناع الحدث مع ما تختلج كتاباتهم من تحيزات وأهواء وميول. فلنقرأ، ولنسمتع إذاً، ولكن مع التحلي بالمسؤولية ومع التشبث بشيء من الحس النقدي. فهذا أقل ما يجب علينا فعله.

***

وفيما يلي عرض مختصر لأشهر التفسيرات، مع عرض قصير لأوجه عوار كل واحد من هذه التفسيرات التعسة.

في خطاب التنحي الشهير، يقول عبد الناصر (من بداية الدقيقة ٧) «في صباح يوم الاثنين الماضي الخامس من يونيو جاءت ضربة العدو. وإذا كنا نقول الآن بأنها جاءت بأكثر مما توقعناه؛ فلابد أن نقول في نفس الوقت وبثقة أكيدة إنها جاءت بأكبر مما يملكه، مما أوضح منذ اللحظة الأولى أن هناك قوى أخرى وراء العدو، جاءت لتصفى حساباتها مع حركة القومية العربية. ولقد كانت هناك مفاجآت تلفت النظر: أولها: أن العدو الذى كنا نتوقعه من الشرق ومن الشمال جاء من الغرب؛ الأمر الذى يقطع بأن هناك تسهيلات تفوق مقدرته، وتتعدى المدى المحسوب لقوته، قد أعطيت له».

والرد على ذلك هو أن العدو جاء بالفعل من الغرب، ولكن هذا كان لم يكن نتيجة معونة تلقاها العدو من حلفائه، بل كان نتيجة المسار الذي سلكته الطائرات الإسرائيلية في الإغارة على المطارات المصرية في العمق (عكس مطارات سيناء والقناة)، كما يتضح من هذه الخريطة. وأضاف عبد الناصر في خطابه أن «العدو غطى فى وقت واحد جميع المطارات العسكرية والمدنية في الجمهورية العربية المتحدة، ومعنى ذلك أنه كان يعتمد على قوة أخرى غير قوته العادية، لحماية أجوائه من أي رد فعل من جانبنا؛ كما أنه كان يترك بقية الجبهات العربية لمعاونات أخرى استطاع أن يحصل عليها».

والرد على ذلك أنه لم يثبت أبدا أن هناك قوة أخرى ساعدت إسرائيل في هذه الغارات الجوية، فلا الطيران الأمريكي ولا البريطاني اشترك في المعركة كما اعتقد عبد الناصر وكما ردد في الكثير من أحاديثه. إن قدرة الطيران الإسرائيلي على الوصول لمطارات العمق كان نتيجة استهتار المخابرات الحربية بقوة سلاح الطيران الإسرائيلي والتقليل من أهميته، والخطأ في حساب مدى طائراته، والتخاذل في بناء دُشم للطائرات، والإهمال في كل تفاصيل الدفاع الجوي، كما سأبين في مقالات لاحقة. وفي خلفية كل محاولات عبد الناصر لتفسير المصيبة التي حلت علينا يوم ٥ يونيو كانت تجربة ١٩٥٦ مسيطرة بقوة على تفكيره ومهيمنة على تحليلاته.

أما الجورنالجي الأشهر، هيكل، صديق عبد الناصر ومهندس إعلامه، فقد كتب كتابا من أكثر من ألف صفحة يكاد يؤكد في كل صفحة من صفحاته أن هزيمة ٦٧، التي غطى على فداحتها بوصفها بأنها مجرد نكسة، ما هي إلا مؤامرة لاصطياد الديك الرومي، أي الإيقاع بعبد الناصر، بسبب مواقفه التقدمية المناهضة للاستعمار والمناوئة للهيمنة الغربية على المنطقة. وإن كان صحيحا أن الغرب كان بالفعل متربصا بعبد الناصر، فالصحيح أيضا أن عبد الناصر كان مدركا لهذا التربص، مُحذرا منه. وفي أحاديثه العديدة طوال الأسابيع والشهور التي سبقت الحرب، أعاد على مستمعيه من الأجانب أن جيشه ليس مستعدا للحرب، وأنه يجب أن يتحاشى دخول معركة لم يختر هو توقيتها، وأن الوضع الاقتصادي لا يسمح له بخوض المعركة.

وبشكل عام، وكما تتساءل العديد من الأدبيات الأكاديمية التي تناولت عملية صنع القرار في حرب ٦٧، فالسؤال المحوري هو: «كيف نفسر السهولة التي انزلقت بها مصر للحرب، علما بأن عبد الناصر كان من أدهى الزعماء وأذكاهم؟»

ثم نأتي لتفسير الفريق أول فوزي الذي يقول في كتابه، (حرب الثلاث سنوات) إن المشير هو المتسبب الرئيسي في هذه الهزيمة المروعة. فشخصية عبد الحكيم وخبرته وخلفيته وشلته التي أحاط نفسه بها كل هذه العوامل جعلته غير مناسب لقيادة جيش، ما بالنا بجيش مقبل على معركة مصيرية وحاسمة. ويركز فوزي تحديدا على وقع خبر ضربة الطيران يوم ٥ يونيو على عامر، ويؤكد على أن عامر فقد توازنه يومها وأصيب بانهيار، وأن قرار الانسحاب الذي اتخذه كان من نتاج هذا الانهيار.

ومما لا شك فيه أن المشير عامر لم يكن يصلح بالمرة لقيادة سيارة رمسيس ما بالنا بجيش جرار. ولكن السؤال يبقى: وهل الجيش يختزل في شخص المشير؟ أليس الجيش مؤسسة؟ ألا يوجد قادة، وضباط أركان حرب، ورئاسة أركان، وهيئة عمليات؟ وقبل كل ذلك، ألا يوجد قائد أعلى؟ لن أطرح سؤال الرقابة الشعبية على الجيش، فلهذا السؤال مقال آخر، ولكن ألم توجد أية آلية للتقليل من مخاطر قيادة عامر الكارثية؟ أم أن المشكلة كانت أعمق وأعوص، إذ أنها كانت تتعلق بعلاقة القائد الأعلى بنائبه، وأن القصة وما فيها لا تعدو كونها تطبيق عملي، وإن كان مأساويا، للمثل الذي يقول المركب ال بريّسين غرقت؟ وهناك أيضا التفسير الاستخباراتي، والذى ذكره في يوليو ١٩٦٧ زكريا محيي الدين لشرح الهزيمة وعمقها. ففي حديث له نقلته السي أي إيه قال «في الوقت الذي كان الإسرائيليون يعرفون فيه اسم كل موظف مصري، واسم زوجته أيضا، لم نكن نعلم حتى أين يقطن موشى ديان

(LBJ National security file, memo to the president, box 20: CIA intelligence Cable: Egypt, July 31, 1967)

والغريب أن قائل هذه الكلمات هو الرجل الذي أوكل له عبد الناصر من بداية الخمسينات بناء منظومة المخابرات المصرية بأجهزتها المختلفة بكل تعقيداتها. أين ذهبت إذن ملايين الجنيهات التي أنفقت لبناء المخابرات الحربية تحديدا، اللهم إذا كان الغرض من هذا الجهاز «تأمين الجيش» والتجسس على ضباطه وليس على العدو، وهو ما سنتناوله في مقال لاحق؟

***

لا، لن تفيد هذه التفسيرات والتبريرات. فكما سبق القول، لم تكن هزيمة ٦٧ هزيمة عادية يمكن تفسيرها بالإشارة لشخصيات وظروف وملابسات. هذه هزيمة جوهرية تحتاج منا تفسيرا هيكليا يتناول بنية الجيش ومن ورائه النظام السياسي برمته.

(٣): حرب المعلومات:
في كتابه الجميل (ضباط يونيو يتكلمون) ينقل لنا عصام دراز شهادة مأساوية لأحد الطيارين يصف فيها مدى دقة المعلومات التي استطاعت إدارة المخابرات الحربية جمعها عن العدو والتي كان من المفترض أنها ستساعد هذا الطيار وزملاءه على القيام بإحدى الغارات على مدينة إيلات الإسرائيلية. ففي يوم ١٤ مايو استُدعي الطيار هشام مصطفى حسن من الاحتياط من منزل أحد أقاربه في الزمالك، وفي أقل من ثلاث ساعات كانت طائرة نقل أليوشن تهبط به في مطار العريش. وسرعان ما طلبه قائد السرب ليجتمع به فورا. ويقول الطيار هشام حسن في شهادته لعصام دراز: «قبل أن يبدأ الاجتماع بدقائق تصل طائرة حربية أُخرى عليها ضابط برتبة كبيرة، يحمل مظروفاً مغلقاً ومختوماً بالشمع الأحمر. وينتحي جانباً بقائد السرب ويتبادلان حديثاً قصيراً والجدية على الوجوه، ويسلمه المظروف وينصرف في الطائرة حيث ترتفع بدون أن نعلم من أين أتى، أو إلى أين سيذهب. وفي حجرة الطوارئ وحول منضدة كبيرة يبدأ قائد السرب في ترتيب صور جوية فوتوغرافية غير واضحة المعالم تماماً ويظهر عليها القدم. الصور لمدينة إيلات الإسرائيلية، وقائد السرب يشير بإصبعه على هدف ويحدد التشكيل المطلوب منه تدمير هذا الهدف، وينتقل إلى هدف آخر ويحدد له تشكيلاً آخر، وهكذا حوالي ستة أو سبعة أهداف. وسأله أحد الزملاء الطيارين عن تاريخ التقاط تلك الصور الجوية، فبان نوع من الألم على وجه قائد السرب وهو يقول: سنة 1948 يا إله السموات!! أنذهب لضرب أهداف كانت موجودة منذ ذلك الحين؟!”

شهادة الطيار هشام مصطفى حسن ليست الوحيدة التي تشير إلى فشل هيكلي في أجهزة المخابرات وعدم قدرتها على جمع معلومات دقيقة عن قدرات العدو واستعداداته. فالمعلومات القليلة المتاحة لنا عن هزيمة ٦٧ — وأنا أزعم بأن ما هو متاح لنا من معلومات لا يرقى بأي حال من الأحوال لأهمية الحدث — هذه المعلومات القليلة توضح بجلاء أن جزءا كبيرا من مسؤولية الهزيمة يقع على عاتق المخابرات المصرية بأجهزتها المختلفة.

فالفريق صدقي محمود، قائد القوات الجوية والدفاع الجوي أثناء الحرب، له نوادر كثيرة تعبر عن فشله الذريع في قيادة هذه السلاح الهام، لكن من أطرفها نادرتان أدلى بهما للجنة توثيق ثورة ١٩٥٢ التي انعقدت عام ١٩٧٦ بقيادة حسني مبارك، الذي كان يشغل وقتها منصب نائب رئيس الجمهورية. ففي شهادته التي نقلها سليمان مظهر في كتاب صدر عام ٢٠٠٠ بعنوان (اعترافات قادة حرب يونيو) يعترف صدقي محمود بأن أجهزة المخابرات فشلت في اكتشاف أن سلاح الجو الإسرائيلي قد طوّر طائراته بأن زودها بخزانات وقود إضافية ليتيح لها إطالة مدة التحليق ونطاقه، لتتمكن من بلوغ العمق المصري (ص ١١٩)، ولو كانت قوات الدفاع الجوي قد وصلتها تلك المعلومة، ربما كانت استفاقت من حالة الترهل التي كانت فيها، إذ كان بإمكانها أن تستوعب أن الطائرات الإسرائيلية تستطيع بالفعل الوصول للعمق المصري. ثم يضيف نادرة أخرى (ص ١٥٠) عندما يقول إن سلاح الجو لم يقم بطلعات استطلاعية كافية على مواقع العدو، وأن الطائرات القليلة التي قامت بطلعات عادت بصور مشوشة لأن الكاميرات المثبتة على الطائرات لم يكن ممكناً تدويرها أو تثبيتها بزاوية منحنية، الأمر الذي يعني أنه كان على الطائرات أن تحلق عمودياً فوق أهدافها للحصول على صورة واضحة.

أما اللواء طيار عبد الحميد الدغيدي، قائد الطيران في المنطقة الشرقية، أي في سيناء، فيقول في حديث أدلى به لصحيفة (الأهالي) في ٢٩ يونيو ١٩٨٣ إن قوة استطلاعية في العريش تبين لها ليلة ٤ يونيو ١٩٦٧ أن العدو بدأ بالفعل تحركاته، وأن قوات العدو تمكنت من احتلال الخط الواصل بين بيرين ورفح والشيخ زويد وأن العدو ينوي الهجوم في صباح اليوم التالي، ٥ يونيو. وبالفعل أرسل الدغيدي إشارة بهذا المعنى الساعة العاشرة والنصف ليلا لقيادة الجبهة، ولكن القادة كلهم كانوا قد تركوا أماكنهم استعدادا لزيارة المشير عامر لمطار بير تمادة المقرر لها صباح ٥ يونيو، وبالتالي فلم يؤخذ بها. (وسأتناول هذه الزيارة المثيرة في مقال قادم). ويضيف الدغيدي في نفس الحديث كيف كانت قوة الاستطلاع التابعة له تتجسس عليه هو، لا على العدو، الأمر الذى حدا به أن يسرح كل طاقم الاستطلاع قبل المعركة بأيام قلائل وأن يعتمد على رجال جدد يثق فيهم .

ومن ناحيته يشير الفريق صلاح الدين الحديدي، قائد المنطق المركزية والذي سيرأس لاحقا المحكمة التي ستحاكم قادة الطيران، ذكر في كتابه (شاهد على حرب ١٩٦٧) حادثة أخرى توضح انهيار إدارات جمع المعلومات وتحليلها. فيقول (ص ١٧٩-١٨٢) إن هجوما بريا وقع في صباح يوم ٥ يونيو قامت به طلائع القوات الإسرائيلية على المحور الأوسط في سيناء وتم فيه احتلالها لموقع متقدم داخل حدودنا كانت تدافع عنه سرية من المشاة في منطقة أم بسيس الأمامية .هذا الهجوم تم في الساعة السابعة والنصف من يوم ٥ يونيو، أي قبل الهجوم الجوي الكاسح بساعتين. ولو كانت أخبار هذا الهجوم وصلت لقيادة الجيش في بير تمادة أو في القيادة العليا في القاهرة لكان من الممكن أن تقوم القوات المصرية — البرية والجوية — بعملية ردع فورية، إذ أن إسرائيل ستكون هي البادئة بالحرب، ومصر في تلك الحالة ستكون قد أوفت بتعهداتها للقوى الدولية بألا تبدأ هي الحرب.

ويضيف الحديدي أن عملية الردع تلك كانت ستؤثر ولا شك على التخطيط الذي وضعته إسرائيل لتدمير قواتنا الجوية في قواعدها. ولو كان حادث مهاجمة أم بسيس الأمامية قد وصلت معلوماته إلى القيادات في الخلف بطريقة فورية كما يجب عند إدارة المعركة، وكانت هذه القيادات تقدر تقديرا سليماً أهمية الأخذ بالمبادأة وتسلم بأهمية الدفاع الإيجابي النشط حتى وإن كنا في وضع دفاعي بحت، لربما تغير الموقف كله أو على الأقل كان من الممكن أن يأخذ شكلاً آخر. على أن الحديدي يؤكد أن المعلومات قد وصلت بالفعل، ولكن أحدا لم يعرها أي انتباه. فهو ينقل عن أحد شهود العيان أن نقطة المراقبة التابعة له أبلغته ليلة ٥/٤ يونيو أنها شاهدت نشاطاً وتحركات غير طبيعية للعدو في اتجاه العوجة، وأنه قام بإرسال هذه المعلومات إلى كل من قيادة الجبهة ورئاسته المباشرة في القاهرة، ولكنه علم فيما بعد أن هذه الرسالة عُرضت على قائد الجبهة في سيناء بعد ظهر يوم ٥ يونيو، أي بعد انتهاء الضربة الجوية التي قضت على سلاح الطيران المصري.

على أن أفدح خطأ استخباراتي قد يكون ذلك الذي ينقله الفريق أول محمد فوزي، رئيس الأركان، في كتابه (حرب الثلاث سنوات). هذا الخطأ يتعلق بالإشارة التي أرسلها الفريق أول عبد المنعم رياض، قائد الجبهة الأردنية، من قاعدة عجلون الجوية في الأردن. ففي الساعة ٨:٤٥ صباح ٥ يونيو، رأى رياض على شاشات الرادار عشرات القاذفات والمقاتلات الإسرائيلية تتجه غرباً، فأرسل على الفور إشارة «عنب عنب عنب» المشفرة والمتفق عليها سلفا. تلقت القاهرة الإشارة، لكن بسبب قيام ضابط الاتصالات بتغيير مفتاح الشيفرة قبل ذلك بدقائق، لم يتمكن ضباط الاتصال من فك الشيفرة وفهم الإشارة، الأمر الذي كان في إمكانه تغيير تطورات الحرب برمّتها. وكان هناك فرصة ثانية في أن يقوم ضباط الاتصال في مكتب وزير الحربية شمس بدران بفك شيفرة الإشارة. ولنترك فوزي يحكي لنا القصة المأسوية:

أمّا المحطة الفرعية [….] في مكتب شمس بدران [وزير الحربية] في كوبري القبة فقد استلمت الإشارة، وتحليلها واضح ولا يمكن أن يحدث فيه سوء فهم. إنه إنذار أكيد ببدء هجوم طيران العدو على أراضي مصر إلاّ إن الضابط المناوب في كوبري القبة لم يخطر الوزير لعدم وجوده في مكتبه، [….] وبعد مرور حوالي ٤٠ أو ٤٥ دقيقة من استلام الضابط المناوب للإنذار، وبالصدفة خلال مكالمة تليفونية عابرة مع زميله بالمحطة الرئيسة أراد أن يذكّره بنفس الإشارة، وما فيها من اسم كودي يدلل على طائرات العدو المغيرة. فقابله الضابط المناوب على نفس المحطة الرئيسة بالتهكم قائلاً: «عنب إيه وبصل إيه؟! دول فوق دماغنا

وهناك مشهد يورده عبد اللطيف البغدادي، عضو مجلس قيادة الثورة القديم، في مذكراته يوضح الانهيار التام في شبكة المعلومات والاتصالات أثناء القتال. فيقول إنه عندما ذهب إلى مكتب المشير في القيادة العامة في ٧ يونيو للاطمئنان على سير المعركة، تقابل مع عبد المنعم أمين الذي كان هو الآخر عضواً في مجلس قيادة الثورة، فأخبره أنه سمع من إذاعة صوت أميركا أن إسرائيل تدّعي استيلاءها على بلدة الرمانة التي تقع على الطريق الساحلي بين العريش والقنطرة، أي أن القوات الإسرائيلية توشك أن تهدد قناة السويس، وأن عبد الحكيم عامر لم يكن على علم بهذا الهجوم. وهذا معناه أن القيادة العامة للجيش في أثناء العمليات كانت تستقي معلوماتها من الإذاعات الأجنبية.

أما إسرائيل فقد استطاعت أن تجمع معلومات دقيقة وصحيحة عن أدق تفاصيل قواتنا المسلحة، وأن تنشئ نظاما مكنها من البناء على هذه المعلومات الدقيقة وأن تضع خططها العسكرية بناء عليها. فضربة الطيران الساحقة التي وجهتها لقواتنا الجوية في صباح يوم ٥ يونيو كانت نتاج سنوات طويلة من التدريب المضني، ولكنها أيضا كانت نتاج معلومات دقيقة عن قواتنا الجوية. فإسرائيل كان لديها خرائط توضح مواقع جميع المطارات المصرية، وأنواع الطائرات الرابضة في كل مطار. كما درست عن قرب عادات الطيارين والضباط المصريين ومواعيد نوباتهم اليومية، واكتشفت أن سلاح الطيران قد زاد من استعداداته بعد تفجر الأزمة يوم ١٤ مايو، وأن الطيران المصري يقوم بدوريتين استطلاعيتين للحراسة، واحدة في الخامسة صباحا، والثانية بعدها بساعتين، وأن من عادة الطيارين أن يذهبوا لتناول وجبة الإفطار في أعقاب تلك الدورية الثانية. عندها تكون المطارات المصرية في أضعف حالاتها، فالطائرات رابضة على الممرات تتزود بالوقود استعداد للجولة التالية، والطيارين في الميسات يتناولون فطورهم، والقادة ما زالوا في الطريق إلى مكاتبهم لم يصلوها بعد. ومن هنا قررت إسرائيل أن أنسب وقت لتوجيه ضربتها هو التاسعة إلا ربع صباحا.

وفي مذكراته (حربي مع إسرائيل) (ص ٦٦) يقول الملك حسين، ملك الأردن، وهو طيار ذو خبرة طويلة، «كان الطيارون الإسرائيليون يعرفون تحديدا ما يتوقعون. فكان لديهم بيان بأدق التفاصيل المتعلقة بالاثنين وعشرين مطارا عربيا، وبالأهداف التي عليهم قصفها، متى وأين وكيف. أما نحن فلم يكن لدينا أي شيء مماثل». وقبل اندلاع الحرب بوقت طويل كانت إسرائيل قد تمكنت من فك شفرة الجيش المصري، وبالتالي فقد علمت يوم ٦ يونيو بأمر الانسحاب الذي أصدره المشير عامر، واستطاعت أن تستمع لمحادثات عامر مع قادته على الجبهة (Dupuy, Elusive Victory, p. 267) وبالتالي بدأت في الحال التحضير للجولة التالية من حربها، أي الاعتداء على الأردن وسوريا.

بل أن إسرائيل قد تمكنت من التقاط المكالمة التليفونية التي جرت بين عبد الناصر والملك حسين صباح يوم ٦ يونيو. ففي هذا اليوم اتصل الملك حسين بعبد الناصر ليطمئن على سير المعركة. ولم يصارح عبد الناصر الملك حسين، الذي كان قد وقّع معه اتفاقية دفاع مشترك منذ أيام قليلة خلت، لم يصارحه بأن طيرانه قد ضُرب أغلبه، بل ركز على فكرة أن الولايات المتحدة وبريطانيا هما من قاما بالهجوم على المطارات المصرية في اليوم السابق، واتفق الزعيمان سويا في هذه المكالمة على أن يعلنا للعالم هذه «الحقيقة». وعندما علم رئيس المخابرات الحربية الإسرائيلية، أهارون ياريف، أن أجهزته تمكنت من تسجيل هذه المكالمة، فضل عدم إذاعتها حتى لا يعرف الزعماء العرب أن إسرائيل تتجسس على مكالماتهم، ولكن رئيس الوزراء إشكول ووزير الحرب، موشى ديان، قررا أن الفائدة التي ستجنيها إسرائيل من إذاعة التسجيل أكبر من الضرر الذى سيعود عليها إذا عمل العرب على تطوير وسائل اتصالاتهم. ويمكن الاستماع إلى هذا التسجيل الذي يظهر بوضوح مقدار كذب عبد الناصر على الملك حسين وعلى الرأي العام المصري والعربي والعالمي.

الهوة الشاسعة التي فصلت بين أداء جهاز المخابرات الحربية الإسرائيلي المعروف باسم “أمان”، ونظيره المصري لم يكن ناتجاً من تفوق الإسرائيليين قدر من كان ناتجاً من انحراف إدارة المخابرات الحربية المصرية عن غرضها الأساسي. فبدلا من جمع المعلومات عن العدو أصبح «موضوع الأمن هو الموضوع الأول الذي يشغل بال المشير عامر والوزير شمس بدران، وزير الحربية. ومن هنا تحول مجهود إدارة المخابرات الحربية كأسبقية أولى – لموضوعات الأمن، ولم تعط الأهمية الواجبة للحصول على المعلومات عن العدو ومتابعة حجم وأساليب قتاله وتقدير نواياه». حسب ما قاله المشير محمد عبد الغني الجمسي في مذكراته. (ص. ٧٥) ووصل الأمر لأن شكل عبد الحكيم عامر تنظيما داخل الجيش، اسمه الكودي التنظيم (س)، بغرض مراقبة ضباط القوات المسلحة في الوحدات والتشكيلات، والتعرف إلى آرائهم ونياتهم ونشاطهم من خلال تجنيد عدد من الضباط الموثوق بولائهم لضمان أمن القوات المسلحة، أي للحيلولة دون قيام الضباط بانقلاب على نظام الحكم، وهو كان الهاجس الأساسي الذي من أجله عهد عبد الناصر لعبد الحكيم عامر قيادة الجيش عام ١٩٥٤.

وتمر السنين وإذ بعامر ينشئ تنظيما داخل الجيش يتحكم به في أدق مجريات الجيش، ويمنع به عبد الناصر من النفاذ داخل المؤسسة العسكرية. وفي حديثه مع عبد الله إمام، يشير سامي شرف، مدير مكتب جمال عبد الناصر، لهذا التنظيم. فعندما سأله عبد الله إمام «هل كان لشمس بدران تنظيم داخل القوات المسلحة؟” رد سامي شرف بالقول «نعم كان له تنظيم خاص». وعندما تساءل عبد الله إمام إذا «كان معروفا لديكم في رئاسة الجمهورية أن شمس بدران له تنظيم خاص في القوات المسلحة؟» كان الرد «كان معروفا، ليس نتيجة اختراق، ولكن بالملاحظة ونتيجة تصرفات معينة فإن أسماء بعينها من دفعة بالذات لها صلات معينة هي التي تُختار للمواقع القيادية. أبسط قواعد الأمن يمكن أن تقود إلي معرفة مثل هذه الأمور.» (ص ٣٦٠-٣٦١)

وليس معروفا إذا كان سامي شرف يجهل طبيعة تنظيم شمس بدران، أم يتجاهل. فنحن نعرف اليوم أن هذا التنظيم لم يقتصر على توجيه مواقع قيادية بعينها لأشخاص بعينهم، بل كان جهاز تجسس متكامل بدأ عمله في أكتوبر ١٩٦٤ باختيار ضابط أو أكثر وتجنيده من كل سلاح، لكي يبلّغ عن كل ما يدور فيه بالتفصيل. وكانت تقارير هذا التنظيم تعرض على المشير عامر فقط، ولم يكن لعبد الناصر دراية بها، بل لم يعلم بها سوى شمس بدران الذي استعان به عبد الحكيم عامر ليحكم قبضته على الجيش.

هذه المعلومات وردت في واحد من أهم الكتب التي تتناول تلك الفترة. الكتاب بعنوان (مصر من الثورة إلى النكسة: مقدمات حرب حزيران / يونيو ١٩٦٧) وهو من تأليف ممدوح أنيس فتحي الذي كان المستشار السياسي والإعلامي لوزير الدفاع المصري السابق محمد حسين طنطاوي، والذي حصل منه على تصريح بالاطلاع على الوثائق المحفوظة بدار المحفوظات المركزية للقوات المسلحة. وكان من بين مئات الوثائق الذي يحفل بها هذا الكتاب الهام وثائق تتعلق بالتنظيم (س) وهي عبارة عن تقارير صادرة من مكتب نائب القائد الأعلى للشؤون العامة للعرض على المشير شخصيا. هذه التقارير توضح بجلاء كيف أصبح “الأمن”، وهي الكلمة المفتاح التي تعني العمل على الحيلولة دون وقوع انقلاب من ضباط الجيش، الهاجس الأساسي لإدارة المخابرات الحربية، وكيف تاه العدو الإسرائيلي عن أعين حراس البلد وحُماته في خضم انشغالهم بصراعاتهم الداخلية.

(٤) خمسة مشاهد على يومين
المشهد الأول:
الزمان: الجمعة ٢ يونيو ١٩٦٧، الساعة التاسعة مساء.
المكان: مكتب المشير عبد الحكيم عامر، نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، الدور السادس، مبني القيادة العامة بمدينة نصر، القاهرة.
الحضور: جمال عبد الناصر، القائد الأعلى للقوات المسلحة، ومعاونوه ومستشاروه، ومنهم: أنور السادات، رئيس مجلس الأمة؛ وحسين الشافعي، نائب رئيس الجمهورية؛ وزكريا محيي الدين، نائب رئيس الجمهورية؛ وعلي صبري، الأمين العام للاتحاد الاشتراكي العربي. كما حضر الاجتماع المشير عامر ولفيف من شلته ومنهم: شمس الدين بدران، وزير الحربية؛ والفريق صدقي محمود قائد القوات الجوية، ومساعدوه؛ واللواء علي عبد الخبير، مدير الأركان بالقيادة العليا. كما حضر الاجتماع أيضا الفريق أول محمد فوزي، رئيس أركان القوات المسلحة؛ والفريق أنور القاضي، رئيس هيئة العمليات؛ واللواء محمد صادق، مدير المخابرات الحربية؛ ورؤساء الهيئات العسكرية وبعض مديري الإدارات. ولكن تغيب عن هذا الاجتماع، الفريق صلاح محسن، قائد القيادة الشرقية أي قائد الجيش الميداني؛ والفريق عبد المحسن مرتجي، قائد الجبهة الشرقية؛ والفريق جمال عفيفي، رئيس أركان القوات الجوية.

وبغض النظر عن أسماء الحضور وتوزيعهم فيما بين جماعة الرئيس وشلة المشير، يتضح من خلفياتهم الوظيفية أن هذا المؤتمر كان مؤتمرا سياسيا عسكريا. وكان الغرض الأساسي منه، كما سأوضح لاحقا، توصيل رسالة من الساسة للعسكر تتعلق بطريقة إدارة المعركة القادمة. هذا المؤتمر تناولته الكثير من الأقلام بالوصف والتحليل (فوزي، حرب الثلاث سنوات، ص ١٢٢-١٢٤؛ صلاح الدين الحديدي، شاهد على حرب ٦٧، ص ١٦٩-١٦٢؛ ممدوح أنيس فتحي، مصر من الثورة إلى النكسة، ص ٣٦٣-٣٦٤)، ولكن من أهم الشهادات الحية عنه تلك الشهادة التي أدلى بها الفريق صدقي محمود، قائد القوات الجوية، للجنة تسجيل ثورة ١٩٥٢ التي عقدت عام ١٩٧٦ والتي ترأسها حسني مبارك، نائب رئيس الجمهورية وقتها.

https://i0.wp.com/khaledfahmy.org/wp-content/uploads/2017/05/مظهر.jpg?resize=334%2C468

شهادة الفريق صدقي محمود محفوظة في سجلات دار المحفوظات المركزية للقوات المسلحة ولكن لم يُفرج عنها بعد، إلا أن مقتبسات منها نُشرت في كتاب صدر عام ٢٠٠٠ بتحرير سليمان مظهر وعنوان اعترافات قادة حرب يونيو: نصوص شهاداتهم أمام لجنة تسجيل الثورة. في هذا الكتاب يقول الفريق صدقي: “أنا أعترض على استعمال كلمة مؤتمر [للإشارة لهذا الاجتماع]، لأن أنا طلبت المشير عبد الحكيم عامر قبل المغرب بالتليفون، قال لي «يا صدقي، إذا كنت فاضي تعالى لنا شوية.» ذهبت، وكان معي من الناس الذين يعملون معي في المكتب الرائد حسين عبد الناصر [أخو جمال عبد الناصر]. دخلت مكتب سيادة المشير، وكما تعرف توجد قاعة للمؤتمرات والاجتماعات كبيرة، وعليها كل الخرائط. لكن لا! كان الجلوس حول مائدة صغيرة: أنور القاضي، اللواء عبد الخبير، اللواء صادق، وأنا. وبعد فترة حضر شمس بدران. كان الكلام كلامًا عاديًا وعامًا عن القوات البرية وأوضاعها… وفي ذلك الوقت فوجئنا بأن الرئيس الراحل جمال عبد الناصر فتح الباب ودخل، وبدأ يتكلم كلام عام، وبعدين قال والله دلوقتي أنا بشوف إن احتمال الحرب بقى كبير قوي».

أيا كان توصيف هذا الاجتماع، “قعدة” أم مؤتمر”، فقد أكد عبد الناصر فيه أننا قد كسبنا المعركة السياسية، وأن إسرائيل قد خسرتها على طول الخط. ولكن من الناحية الأخرى فإن الظروف الدولية تحتم علينا ألا نتبع استراتيجية عدوانية حتى لا نضحي بموقف أمريكا وباقي الدول الكبرى منا. كما أكد عبد الناصر أن احتمالات الحرب قد أصبحت ١٠٠٪ بعد تعيين موشى ديان كوزير دفاع في إسرائيل، وتشكيل حكومة حرب هناك. وبعد أن تساءل عن موعد وصول القوات العراقية للجبهة الأردنية وفهم أن هذه القوات يُتوقع وصولها بعد ثلاثة أيام، استنتج عبد الناصر أن إسرائيل لن تنتظر حتى تصل هذه القوات العراقية للجبهة، بل ستبدأ العمليات العسكرية ضدنا بعد يومين أو ثلاثة، وفي الأغلب ستهجم على مطاراتنا في صباح يوم الاثنين المقبل، ٥ يونيو.

ومن الملابسات الفريدة أن قرارًا بنفس هذا المعني كان قد اتُخذ بالفعل في إسرائيل قبل ذلك بساعات قليلة. ففي الساعة التاسعة صباح نفس اليوم، الجمعة ٢ يونيو، اجتمع الساسة مع العسكر في القدس، واستمع الوزراء لتحليل الضباط عن الموقف ولخططهم لتدمير القوات المسلحة المصرية عن طريق عملية تعرضية. وكان هناك تململ من بعض الساسة، وعلى رأسهم ليفي إشكول، رئيس الوزراء، بأن الهجوم على مصر قد يكون متعجلا، وأنه يجب عدم استثارة الولايات المتحدة ببدء الحرب. ولكن وزير الدفاع، ديان، حسم النقاش بأن قال إن أي تأخير في الهجوم قد يساعد المصريين على استكمال خططهم الدفاعية، ولذا يجب التعجيل بالهجوم. وبالفعل قرر ديان، وأبا إيبان، وزير الخارجية، وإيجال آلون، نائب رئيس الوزراء، ويعقوب هيرتزوج، مدير مكتب رئيس الوزراء، وإسحق رابين، رئيس الأركان، اتفقوا فيما بينهم على أن يبدأ الهجوم قبل نهاية يوم الاثنين ٥ يونيو. وعندما عُرض القرار على مجلس الوزراء بكامله يوم ٤ يونيو، أعطي الضوء الأخضر لبدء القتال بضرب المطارات المصرية بين الساعة الثامنة والتاسعة صباح اليوم التالي، وكان هذا التوقيت مبنيا على اقتراح قائد القوات الجوية، موردخاي (موتّي) هود، الذى قال إن هذا هو أنسب وقت لأن الطيارين المصريين من عادتهم تناول إفطارهم في تلك الساعة . (The Rabin Memoirs, pp. 96-99.)

الفارق الوحيد بين تقدير عبد الناصر والقرار الإسرائيلي كان في أن عبد الناصر اعتقد أن أوضاع الجبهة الأردنية ووصول القوات العراقية سيكون العامل الحاسم في التوقيت، بينما رأي الإسرائيليون أن التطورات على الجبهة المصرية وعدم استعداد القوات المصرية هو العامل المحوري. لكن المهم أن تقدير عبد الناصر كان صائبا ودقيقا سواء في توقيت الهجوم الإسرائيلي (يوم ٥ يونيو) أو طريقته (هجوم منظم على المطارات). وبالرغم من أن عبد الناصر ركز على أهمية عدم البدء في القتال حتى لا نستعدى القوى الكبرى، وبالتالي ضرورة تلقي الضربة الأولى، الأمر الذي يحتم أهمية تشديد الدفاع الجوي وتحصين المطارات، إلا أن أيا من هذه التعليمات لم يُبلغ لقيادات الدفاع الجوي في القيادة العليا أو في المطارات (ويجب أن نتذكر أن الفريق جمال عفيفي، رئيس أركان القوات الجوية، لم يكن حاضرا في هذا المؤتمر/ القعدة.)

ويعلق صلاح الدين الحديدي في كتابه شاهد على حرب ٦٧ على هذا الموقف قائلا: «إن الصورة الواضحة التي وضعها الرئيس الراحل عن توقعاته لم تخرج عن جدران القاعة التي عُرضت فيها … فرجال القوات الجوية والدفاع الجوي لم يبلغهم أن قواتهم ستكون هدفًا للعدو بعد يومين أو ثلاثة أيام، حيث أن قائد القوات الجوية ومعاونوه الذين حضروا هذا الاجتماع التاريخي وجدوا أن من الأنسب ألا يعلنوا هذه التوقعات على قواتهم المقاتلة، بل لم يُخطر بها رئيس أركان القوات الجوية الذي لم يكن موجودا في الاجتماع.” (ص ١٧٢). ولم ينته هذا اليوم الدرامي، يوم الجمعة ٢ يونيو، إلا وقد أمر المشير عامر بتوزيع منشور صادر عن المخابرات الحربية المصرية يتعارض تماما مع ما جاء في المؤتمر/ القعدة. فقد جاء في هذا التقرير أن «إسرائيل لن تقدم على عمل عسكري تعرضي (أي هجومي)، وأن الصلابة العربية الراهنة ستجبر العدو بلا شك على أن يقدر العواقب المترتبة على اندلاع شرارة الحرب في المنطقة.» (فتحي، مصر من الثورة إلى النكسة، ص ٣٦٣)

المشهد الثاني:
الزمان: يوم الإثنين ٥ يونيو ١٩٦٧، الساعة الثامنة والنصف صباحا. المكان: مطار بير تمادا بوسط سيناء. الحضور: قادة القوات المخصصة للضربة المضادة التي قرر المشير عامر توجيهها على المحور الجنوبي (وسأتناولها في مقال قادم)، ومنهم قائد الجيش الميداني، الفريق صلاح محسن، وقائد الجبهة، الفريق عبد المحسن مرتجي، والكثير من قادة التشكيلات الذين حضروا بالهليكوبتر كل من موقعه لاستقبال المشير عامر ومعاونيه. فلحاجة في نفس يعقوب قرر المشير عامر أن يقوم بزيارة للجبهة في هذا اليوم تحديدا، يوم ٥ يونيو، بالرغم من تحذير عبد الناصر قبلها بثلاثة أيام فقط من أن إسرائيل ستقوم بالهجوم في موعد أقصاه ٥ يونيو. وبالتالي أصدر مكتب المشير يوم ٤ يونيو تعليمات لجميع القادة في سيناء حتى مستوي قادة الفرق للحضور إلى تمادا للتباحث مع نائب القائد الأعلى.

وكانت هذه الزيارة هي الثانية للمشير بعد إعلان رفع درجات الاستعداد للقوات المسلحة، والأولى بعد تدفق القوات لسيناء واكتمال الحشد العسكري الذي أمرت به القيادة العامة بالقاهرة. وكان من الطبيعي أن يستعد القادة لهذه الزيارة، فيجهز كل منهم تقريرًا عن حالة قواته وتعليقه على الدور الذي سيقوم به في المعركة. وربما كان هناك بعض القادة الذين اعتزموا مناقشة الغرض من العملية كلها، والأهداف المنشودة منها وكيفية التنسيق فيما بينهم. وكان هذا الموضوع الأخير، أي التنسيق بين القيادات، موضوعا شائكًا ملغزًا. فطوال الشهور والأسابيع التي سبقت المعركة كان الفكر يقوم على أن القوات في سيناء تحركها قيادة ميدانية، وكان مقرها في الإسماعيلية، اسمها قيادة الجيش الميداني، أو القيادة الشرقية، والتي كانت تحت إمرة الفريق صلاح محسن. وكان من البديهي أن هذه القيادة تتلقى أوامرها من القيادة العليا بالقاهرة، وتحديدا من نائب القائد الأعلى، المشير عامر، ورئاسة الأركان، بقيادة الفريق أول محمد فوزي، وهيئة العمليات، بقيادة الفريق أول أنور القاضي.

ثم فجأة، وفي يوم ٢٩ مايو، أضيفت قيادة جديدة اسمها القيادة الأمامية للجبهة (الحديدي، شاهد، ص ١٥٨) وفي رواية أخرى “مركز قيادة متقدم” (مرتجي، الفريق مرتجي يروي الحقائق، ص ٥٨) وأوكلت للفريق عبد المحسن مرتجي الذي كان يشغل منصب القائد السياسي العسكري للقوات المصرية في اليمن والذي لم يسبق له الخدمة في سيناء إلا لمامًا، ومنذ سنوات عديدة مضت قبل الاعتداء الثلاثي في ١٩٥٦.

وإضافة إلى التضارب بين القيادات، فإن التغيير المتلاحق للخطط سبب انزعاجا شديدا لقيادة الجيش الميداني وقائدها الفريق صلاح محسن، وطلب مرارا من القاهرة توضيح الصورة. وعندما لم تصله الإيضاحات الكافية، أوفد رئيس هيئة عمليات الجيش الميداني، اللواء أحمد اسماعيل علي، في يوم ٢٧ مايو للتباحث مباشرة مع رئيس هيئة عمليات القوات المسلحة، الفريق أنور القاضي، في القاهرة. وكانت الأسئلة المطلوب الإجابة عنها أسئلة جوهرية أساسية، توضح مدى انزعاج القوات في سيناء من ضبابية الموقف. ما هي مهمة الجيش الميداني بالتحديد؟ ما هي خطط العمليات التعرضية ومدتها؟ ما الذي تريده القيادة العليا من الجيش الميداني؟ ما هي نواياها وتصميمها؟ وهل استراتيجيتنا دفاعية أم هجومية؟ وهل الهجوم إذا بدأ من جانبنا سيكون شاملا أم محدودا؟ تلك هي الأسئلة التي ذهب بها اللواء أحمد اسماعيل للقاهرة، وعاد خالي الوفاض. (الجمسي، مذكرات، ص ٧٢؛ مرتجي، الفريق مرتجي يروي الحقائق، ص ٨٧) لذا كان كل القادة متطلعين غاية التطلع لزيارة المشير عبد الحكيم عامر يوم ٥ يونيو، وكانوا يأملون أن يحسم بحضوره الشخصي التضارب والغموض الذي هيمن على الجيش الميداني بقياداته المتعددة.

https://i1.wp.com/khaledfahmy.org/wp-content/uploads/2017/05/-e1495174547670.jpeg?resize=356%2C541

ولكن تلك الزيارة لم يُكتب لها أن تتم.
فبعد أن اصطف الجميع في مطار بير تمادا استعدادًا لتحية المشير عند وصوله، وعندما دنت الطائرة اكتشف الجميع أنها لم تكن طائرة المشير بل طائرة إسرائيلية معادية أخذت في قصف ممر المطار، ثم أعقبتها طائرة أخرى قصفت الطائرات الرابضة في المطار ودمرتها كلها. وعندما رأي طيار طائرة المشير المطار يُضرب تحته عاد فورا للقاهرة. أما القادة المنتظرين فلدينا شهادتان تعبران عن مدى الجزع والتخبط أثناء هذه اللحظات الرهيبة.

الشهادة الأولى للفريق مرتجي الذي كان بين مستقبلي المشير. فيقول في مذكراته: «في بداية الأمر لم نظن أن الطائرات المقاتلة التي فوق رؤوسنا هي طائرات إسرائيلية … فإننا لم نتوقع الغدر من جانب العدو، أو على الأقل كانت الصورة العامة بالنسبة للموقف كله لا تنبئ بأن إسرائيل ستبدأ ضربتها بهذه السرعة. ولم نكن ندري في موضعنا عما يحدث للقواعد الجوية الأخرى، وكنا نظن أن الطائرات المصرية المقاتلة لن تلبث أن تظهر سريعا لامتلاك زمام الأمور، وانتزاع السيطرة من العدو. ولكن طال انتظارنا وخاب أملنا، وأصبح لزاما علينا أن نعود بأسرع ما يمكن إلي مركز القيادة بطريق البر بصرف النظر عن الهجوم الجوي وعن الكثافة المستمرة للطيران الإسرائيلي في أجوائنا.» (مرتجي، الفريق مرتجي يروي الحقائق، ص ١٤٤)

أما الشهادة الثانية فهي للواء كمال حسن علي، قائد اللواء الثاني المدرع، فقد كان لواءه متمركزا في منطقة تمادا على بعد خمسة كيلومترات فقط من المطار الذي اصطف فيه القادة انتظارا لطائرة المشير. ولنترك له الحديث ليصف لنا المشهد كما رآه: «كانت الطائرة [الإسرائيلية] في طريقها مع طائرات أخرى لضرب مطار بير تمادا … كان على هذه الطائرة المعادية أن تطير طيرانا منخفضا لتضرب طائراتنا … وهكذا أصبحت صيدًا سهلًا لمدافع كتيبة الدفاع الجوي للواء. ولكن في هذا اليوم كانت الأوامر تقضي لدينا بتقييد النيران وعدم الاشتباك مع أي طائرة في السماء وذلك حتى وصول طائرة المشير لمطار التمادا. ولكنا سمعنا أصوات انفجار واضحة، ورأينا الطائرات المعادية وهي ترتفع تدريجيا إلى السماء بعد ضربها الممرات، وهكذا لم يكن هناك بد من الاشتباك برغم الأوامر التي تنص على غير ذلك. وهكذا تمكنت مدافع الكتيبة المضادة من إصابة ثلاث طائرات للعدو وأسقطتها. ولكن ما كادت الموجة الأولى للإغارة تنتهي، حتى تلتها مباشرة الموجة الثانية. وجاءت إحدى طائرات العدو فدمرت أحد المدافع واستشهد فردان أحدهما مدني هو عامل التسليح. ومع ذلك لم تكف الكتيبة عن الاشتباك واستمرت باقي المدافع توجه نيرانها في ثبات وبسالة. الحقيقة إني لم أستطع بيني وبين نفسي أن أخفي إعجابي بهؤلاء الجنود. ولكني كنت في هذه اللحظة مشغول البال بطائرة المشير». (كمال حسن علي، مشاوير العمر، ص ٢٢٨)

المشهد الثالث:
الزمان: يوم الاثنين ٥ يونيو ١٩٦٧، الساعة الثامنة والنصف صباحا. المكان: السماء فوق مطار بير تمادا بوسط سيناء. الحضور: المشير عبد الحكيم عامر؛ الفريق أول صدقي محمود، قائد القوات الجوية؛ الفريق أول محمد فوزي، رئيس الأركان؛ الفريق أنور القاضي، رئيس هيئة العمليات، وعدد ضخم من كبار القادة، بالإضافة إلى رجال الإعلام والمصورين. بعد أن دنت طائرة المشير من مطار بير تمادا وبدأت في الهبوط، لم يلبث الطيار أن ميز الطائرات الإسرائيلية وهي تقصف المطار، فغير اتجاهه على الفور. وقد شعر في الحال الفريق صدقي بما قام به الطيار فدخل عليه كابينة القيادة ليعرف السبب، «ولكنه بعد أن شاهد الطائرات الإسرائيلية تدك المطار المصري وتصول وتجول في الجو دون أدنى مقاومة (والكلمات لصلاح الدين الحديدي)، أمر الطيار بالعودة إلى مطار القاهرة الدولي بدلا من مطار ألماظة.» وأرسل إشارة لاسلكية إلى تشكيلاته يأمرها بها أن تقوم بهجوم مضاد وأن تهجم على المطارات الإسرائيلية. وبالطبع لم يكن يعرف مدى الخسائر التي لحقت بالفعل بتشكيلاته وأنها لم تعد تستطيع تنفيذ أوامره.

«وصلت طائرة المشير إلى مطار القاهرة الدولي، ولم يكن هناك بالطبع مستقبلون. استقل المشير إحدى سيارات الأجرة، وكانت الوحيدة الرابضة خارج المطار، ومن نوع عتيق جدًا، يقودها سائق عجوز، إلى مقر القيادة العامة بمدينة نصر، وصحبه في نفس السيارة قائد القوات الجوية وبعض كبار المرافقين. ولا شك أنه كان منظرا فريدًا في نوعه لم يسبق له مثيل، إذ انحشر قادة يحملون أكبر الرتب العسكرية، بملابسهم الرسمية، ونياشينهم المصفوفة على صدورهم داخل سيارة عتيقة تتحرك بالكاد، وسائقها المدني الهرم القادم من مصر العليا ذو النظارات السميكة ترتعد فرائضه خوفا من القصف الجوي من ناحية، ومن خطورة الشخصيات التي يحملها من ناحية أخرى، وهم يستحثونه ليصل بهم في أسرع وقت إلى مقر القيادة. وما إن وصلوا حتى بدأت إذاعات القاهرة تصدر البيان تلو البيان عن عدد الطائرات المعادية التي أسقطت. (الحديدي، شاهد، ص ١٨٦-١٨٧)

https://i0.wp.com/khaledfahmy.org/wp-content/uploads/2017/05/صحف_Fotor-1.jpg?resize=398%2C568

مانشيتات الصحف يوم ٦ يونيو وما بعده

المشهد الرابع:
الزمان: يوم الإثنين ٥ يونيو ١٩٦٧، الساعة التاسعة صباحا. المكان: مطار أبو صوير بمنطقة فايد جنوب الإسماعيلية. الحضور: حسين الشافعي، نائب رئيس الجمهورية؛ طاهر يحيى، رئيس الوزراء العراقي؛ طيار تحسين زكي، قائد لواء السوخوي. في نفس الوقت الذي حاولت طائرة المشير أن تهبط في مطار تمادا، كانت هناك طائرة أخرى مماثلة، أليوشن ١٤، تحاول هي الأخرى أن تهبط في مطار أبو صوير. هذه الطائرة الثانية كانت تقل حسين الشافعي، نائب رئيس الجمهورية، بصحبة طاهر يحيى، رئيس الوزراء العراقي الذى أتى لمصر للتوقيع على اتفاقية دفاع مشترك. وبعد أن هبطت الطائرة بدقيقة أو دقيقتين ظهرت الطائرات الإسرائيلية وأخذت تقصف المطار بنفس الطريقة المنهجية: موجة أولى تستهدف الممرات بقنابل تنفجر بعد أن تكون قد اخترقت الممر وغاصت فيه، فيحدث الانفجار فجوة عميقة وواسعة يجعل من المستحيل إقلاع الطائرات من الممر، ثم يعقب هذه الموجة موجة ثانية من المقاتلات تقصف الطائرات المرصوصة في المطار. وكان من نتاج هذا القصف أن دُمرت جميع الطائرات المصفوفة صفا واحدا كأنها تدعو المقاتلات أن تدمرها. (الحديدي، شاهد، ١٨٤؛ فوزي، حرب الثلاث سنوات، ص ١٣٤-١٣٥).

وقد شهد هذه الواقعة الطيار تحسين زكي الذي أدلى بشهادته لعصام دراز في كتابه ظباط يونيو يتكلمون، فلنقرأ نص شهادته: «قفز ركاب طائرة حسين الشافعي منها عندما شاهدوا قصف المطار، واختبأوا خارج الممر خلف ساتر. وبعد ذلك هاجمت الطائرات الإسرائيلية الطائرة وهي تقف على الممر الفرعي فاحترقت. وبعد انتهاء الضربة الأولى كلفتُ طيار اسمه السمري أن يركب سيارة جيب ويقوم بإحضار حسين الشافعي ومرافقيه إلى مبنى المطار. وعندما وصل إلى المطار واجهه الطيارون وقالوا له «كده كويس؟! لماذا لم تتركونا نضرب الضربة الأولى؟» كان الطيارون في حالة توتر وحزن شديد لتعرضهم لهذه الضربة وعدم إتاحة الفرصة لهم بالقيام بالضربة الأولى».

المشهد الخامس:
الزمان: يوم الإثنين ٥ يونيو ظهرا ومساءا. المكان: مكتب المشير عبد الحكيم عامر، نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، الدور السادس، مبني القيادة العامة بمدينة نصر، القاهرة. الحضور: المشير عبد الحكيم عامر؛ عبد اللطيف البغدادي وحسن إبراهيم وكمال الدين حسين، أعضاء مجلس قيادة الثورة القديم؛ الرئيس جمال عبد الناصر.
بعد أن استمع كل من عبد اللطيف البغدادي وحسن إبراهيم وكمال الدين حسين، أعضاء مجلس قيادة الثورة القديم، للإذاعة المصرية طوال يوم ٥ يونيو وابتهجوا مثل غيرهم من المصريين بعدد الطائرات الإسرائيلية التي أسقطناها، راودتهم الشكوك بعد أن استمعوا للإذاعات الأجنبية التي كانت تنقل أخبار تدمير الطائرات المصرية لا الإسرائيلية. فقرروا أن يذهبوا للمشير عامر في مكتبه لاستيضاح الأمر
. ويقول عبد اللطيف البغدادي في مذكراته (ص ٢٨٠-٢٨٧) إنهم عندما وصلوا مكتب المشير في مقر القيادة سألوه عن خسائرنا في الطائرات، فرد قائلا إننا خسرنا أغلب طائراتنا، ولكن لا داعي للقلق لأن لديه خطة للدفاع عن القوات في سيناء حتى بدون غطاء جوي. ثم يضيف البغدادي: «وفي أثناء وجودنا معه لاحظنا أن محمد صدقي محمود [قائد القوات الجوية] كثير الاتصال به، وأنه لا يدير معركة جوية، وإنما على ما يظهر يبكي له في التليفون. ويظهر أن أعصابه انهارت.» وكان حسين الشافعي قد حضر إلى مكتب عبد الحكيم وهو معفر الثياب. وعلمنا منه أنه كان يرافق رئيس وزراء العراق الذي وقع على اتفاقية دفاع مشترك في زيارة للقاعدة الجوية بمطار فايد بالاسماعيلية، أن المطار قد هوجم من الطائرات الإسرائيلية أثناء نزول الطائرة التي كانوا يركبونها إلى الأرض. «وسألنا عبد الحكيم لماذا لا تصعد طائراتنا وتتصدى لطائرات العدو أو تغير على مطاراته. فقام بإصدار أوامر إلى صدقي بالعمل على قذف ومهاجمة مطارات العدو.

«وفي المساء عدنا إلى القيادة، ووجدنا عبد الحكيم مشغولا بالاتصال بضابط في مطار العريش اسمه اللواء الديب، ويطلب منه مدفع ٥٧ ملم مضاد للدبابات … واندهشنا كيف يمكن لقائد عام كعبد الحكيم أن يشغل نفسه بموضوع مدفع طوال الوقت وفي هذه الأثناء حضر جمال عبد الناصر إلى مكتب عبد الحكيم، وتصافحنا وجلس معنا وقال «والله زمان يا سلاحي». .. ثم سأل جمال عبد الحكيم عن خسائرنا في الطائرات ولكن حكيم تهرب من الإجابة. وسكت جمال ولم يعلق بشيء إنما سأله عن الموقف في الجبهة. وكان حكيم يتهرب من الرد بأن يشغل نفسه في الرد على التليفون ويعطي أوامر فرعية وصغيرة جدا لا يصح أن يشغل نفسه بها كقائد عام. ولكن بعد فترة قدم شمس [بدران، وزير الحربية] لجمال تقريرا كان موجودا على مكتب حكيم وقال له «سير العمليات» وأخذه جمال وجلس على طرف مكتب عبد الحكيم وأخذ يتطلع لما جاء فيه، وبدأت تظهر على وجهه علامات عدم الارتياح التي أعرفها عنه.

وفي أثناء اطلاعه عليه نظر إلى عبد الحكيم وقال له «إن خان يونس سقطت، ورفح المدينة محاصرة، والاتصال بها مقطوع، وغزة تهاجم. ثم قال لعبد الحكيم لا بد لنا أن نعرف الموقف على حقيقته. ولكن عبد الحكيم ظل رغم طلب جمال عبد الناصر يشغل نفسه بالرد على التليفونات. في النهاية بعد أن فرغ صبر جمال قام ودخل إلى حجرة النوم الملحقة بمكتب عبد الحكيم. وبعد فترة دخلتُ إلى الحجرة، للذهاب إلى دورة المياه وهي من داخلها، فوجدت جمال نائماً على السرير ضاجعاً [مضّطجعاً]، وعلى ما يظهر يفكر في المأزق الذي أصبحنا فيه وكيفية الخروج منه. وبعد وقت قصير خرج جمال من غرفة النوم، وطلب من عبد الحكيم أن يرسل شيئاً للصحف عن المعركة لتعرف الناس الموقف على حد قوله. وذكر «أن نقول مثلاً أننا توغلنا في أرض العدو وخلافه ـ لأن العدو يذيع بيانات عن المعركة ونحن لا نذيع شيئا».

ثم قام بعد ذلك وقال «أظن نروح ننام ونسيب عبد الحكيم يشتغل

(٥): الخطة «قاهر» وحتمية هزيمة الجيش البري:
عند الحديث عن المعارك الحربية التي دارت أثناء حرب ١٩٦٧ يكثر الحديث عادة عن المعركة الجوية التي وقعت في يوم ٥ يونيو، وكيف تمكن الطيران الإسرائيلي من تدمير ٨٥٪ من سلاحنا الجوي في ثلاث ساعات، الأمر الذي أدى إلى شل القيادة العسكرية وانهيارها. على أن الحدث الذي لا يقل غرابة هو تدمير جيش قوامه أكثر من مائه ألف جندي في أقل من ٣٦ ساعة. كان جمال عبد الناصر يتشدق بهذا الجيش، وكان صديق عمره ورفيق سلاحه وقائد جيشه، عبد الحكيم عامر، يقول عنه إنه أكبر وأقوى جيش في الشرق الأوسط. وقد شاهد المصريون بأعينهم استعراضات الجيش في احتفالات الثورة عام ١٩٦٦، ثم أثناء حشد القوات إلى سيناء ابتداء من يوم ١٤ مايو، وانبهروا بما رأوه من عدة وعتاد. بل أن عبد الناصر نفسه قال للفريق أول عبد المحسن مرتجي، الذي كان قد عينه حديثا قائدا للجبهة، «تحت قيادتك جيش يفوق جيش الجنرال مونتجمري قبل معركة العلمين، ونحن تواقون لنرى ماذا ستفعل به».

وما هي إلا أيام قلائل حتى انفرط عقد هذا الجيش تماما، وسقط من رجاله عشرة آلاف شهيد، أي عُشر القوة المقاتلة. فبحلول مساء يوم ٦ يونيو بدأت قوات الجيش في الانسحاب غربا باتجاه القناة في مشهد مأساوي يصعب على المرء وصفه أو تخيله. وعلى مدار يومي ٧ و ٨ يونيو كان آلاف الجنود يهرولون غربا تنفيذا لتعليمات الانسحاب، ذلك الانسحاب الذي لم يتم بناء أي خطة أو تنظيم، فأمسى الجيش فلولًا تتسابق للوصول لبر الأمان. غير مدركين أن بتركهم خنادقهم المحفورة في باطن الأرض، وبزحفهم في صحراء مكشوفة تحت الشمس الحارقة، وبتدافعهم عبر الممرات الجبلية ثم صوب المعابر الضيقة فوق القناة أصبحوا هدفا يسيرا لطيران العدو الذي أخذ يحصدهم حصدًا.

لماذا الهزيمة؟ أسباب وذرائع:
يحلو للإسرائيليين التأكيد على قوة شكيمة عبد الناصر وعظمة شخصيته، ويشيرون في كتاباتهم لخطبه العنترية حتى يؤكدوا على قدرتهم على هزيمته وإذلاله. كما يحلو لهم أن يعظّموا من شأن الجيش المصري الذي حُشد أمام جبهتهم الجنوبية لكي يعظموا من حنكتهم وعزيمتهم وحسن تخطيطهم. والأمر كما سنتبين كان خلاف ذلك، فالجيش الذي قاتلوه كان جيشا مهترئا ضعيفا، وكان قادته الميدانيون هم أول من اعترف بذلك وحذر منه. أما عبد الناصر فقد انهزم عسكريا، ولكنه لم يرفع سماعة التليفون لكي يعرض الاستسلام ويطلب الصلح من ديان، كما تمنى هذا الأخير وقال في حديث شهير بعد أن سكتت المدافع.

وإذا كان تدمير سلاح الجو في ثلاث ساعات نتيجة منطقية لقيادة فاشلة فشلت في التخطيط واستهترت بالعدو وتمثلت في شخص الفريق أول صدقي محمود، قائد القوات الجوية والدفاع الجوي لمدة خمسة عشر عاما، فما هي الأسباب التي أدت إلي هزيمة الجيش البري بهذه السرعة، وبهذا العمق؟ الرئيس عبد الناصر ومعاونوه ألقوا باللائمة على المشير عبد الحكيم عامر، نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، الذي تربع على قمة السلطة العسكرية في مصر منذ عُين قائدا للجيش عام ١٩٥٤. فبسبب فساد أخلاقه، وقلة خبرته، وسوء إدارته تحول الجيش تحت قيادته إلى دولة داخل الدولة، لا حسيب لها ولا رقيب، وبالتالي انعدمت الخبرة القتالية، وتحولت عقيدة الجيش من القتال للاستئثار بمزايا استثنائية للضباط وعائلاتهم، وشاع الفساد بين كبار الضباط وصغارهم، ووهنت عزيمة القتال بين الرجال.

وتحديدا، يقول رجال الرئيس إن انهيار المشير وإصداره قرار الانسحاب المشؤوم يوم ٦ يونيو هو السبب الرئيسي للمأساة التي حلت بالجيش. فبدون غطاء جوي أمسى مستقبل الجيش البري في سيناء سوداويا. أما شلة المشير فبدورهم ألقوا باللائمة على ما أسموه «القيادة السياسية»، أي عبد الناصر وأعوانه، وعلى تدخل تلك القيادة السياسية في مجريات الجيش وتحديدا في الخطط القتالية والاستعدادات العسكرية. ويزعم رجال المشير أن الرئيس ورجاله هم المسؤولون الأساسيون عن الهزيمة المروعة التي مُني بها الجيش، ويقولون إن التعديلات التي أدخلها عبد الناصر على الخطط العسكرية لأسباب سياسية هي التي أدت لهزيمة الجيش. إن الصراع بين الرئيس عبد الناصر والمشير عامر كان له بالتأكيد دور أساسي ومحوري في الهزيمة كما سأبين في مقال لاحق. على أنه بدراسة الخطط العسكرية الموضوعة؛ وبتتبع أحوال جيش وأوضاع قواته البرية حتى قبل اندلاع القتال يتضح أن مصير الجيش كان محتوما سواء بقى سلاح الجو أو دُمر، وسواء قَوي العدو أو ضعُف.

الخطة «قاهر» فلسفتها وملامحها:
في كتابه الهام، شاهد على حرب ٦٧، يقول الفريق صلاح الدين الحديدي «إن مصر اختطت لنفسها استراتيجية دفاعية بحتة إزاء إسرائيل، ولم تفكر في يوم من الأيام أن تعد لعمليات هجومية واسعة. فمنذ هدنة ١٩٤٩، لم تتلق هيئة أركان حرب القوات المسلحة تعليمات بتغيير استراتيجيتها الدفاعية، بل كان أقصى ما سُمح به خلال هذه السنوات الطويلة مجرد وضع خطوط عامة لعملية إغارة على بعض الأهداف الإسرائيلية القريبة [من الحدود] ثم العودة لقواعدنا في النهاية، ولم يحدث أن تم تنفيذ خطط هذه الإغارات على أهداف لها قيمتها.» (ص ١٠٩-١١٠؛ انظر أيضا حديث الفريق أول أنور القاضي لمجلة آخر ساعة، بتاريخ ٨ يونيو ١٩٨٨).

ولم تشذ الخطة «قاهر» عن هذه القاعدة. فهذه الخطة التي يكثر الكلام عنها عند الحديث عن حرب ٦٧، هي خطة دفاعية بالأساس وُضع أساسها بمعرفة قيادة المنطقة العسكرية الشرقية في بداية عام ١٩٦٦، وأضافت هيئة عمليات القوات المسلحة بعض التعديلات عليها، وعُرضت على المشير عامر وصادق عليها في الأول من ديسمبر عام ١٩٦٦. وقد بنيت فكرة الدفاع في الخطة «قاهر» على منع العدو من الوصول لقناة السويس وتدمير قوات العدو التي تنجح في الاختراق توطئة للقيام بالهجوم العام المضاد، بالتعاون مع الاحتياطي الاستراتيجي للقضاء على العدو، حسب ما جاء في كتاب الفريق أول محمد فوزي، حرب الثلاث سنوات (ص ٩٩-١٠٠).

https://i2.wp.com/khaledfahmy.org/wp-content/uploads/2017/05/الخطة-قاهر.jpg?resize=651%2C759الخطة «قاهر»

وكما يتضح من الخريطة أعلاه تتكون الخطة «قاهر» من العناصر الآتية: نطاق أمنى ملاصق للحدود ومخصص له كتائب استطلاع، وكتائب صاعقة، وأفواج الحدود؛ والغرض من هذه الوحدات استطلاع تحركات العدو والتحذير من أي هجوم إسرائيلي محتمل. وخلف هذا النطاق الأمني يقبع عمق الدفاع التكتيكي الذي يتكون من نطاقين دفاعيين. النطاق الأول يتمركز حول النقاط المحصنة على طول الخط الواصل بين التمد جنوبا، مارًا بالقسيمة، وأبو عجيلة، وانتهاء بالعريش شمالًا. ويدافع عن هذا النطاق الأول فرقة مشاة بالإضافة إلى لواءين مشاة وفوج مدرع. وخلف هذا النطاق الدفاعى الأول يقبع نطاق ثان جنوب غربي من القسيمة. أما احتياطي المنطقة فيحتل ثلاثة أماكن: فوج مدرع شمال نخل؛ ٢ لواء مشاة بالإضافة إلى قيادة فرقة في منطقة الحسنة؛ لواء مدرع على المحور الأوسط غرب أبو عجيلة وبالقرب من جبل لبني. كل هذه القوات كان مخططا لها أن تكون تحت قيادة قائد الجيش الميداني ومقره بير تمادا في وسط شبه الجزيرة.

وخلف هذه القوات يقبع الاحتياطي الاسترتيجي الذي وُضع تحت قيادة القيادة العليا في القاهرة، والذي اشتمل على فرقة مدرعة ولواء مظلات. ووزعت هذه القوات الاحتياطية على منطقتين، الأولى شرق الممرات، والثانية خلفها. وتكمن الفكرة من وراء الخطة «قاهر» في تمسك قوات النطاقين الأول والثاني بموقعهما، على أن يستعينا بتعزيزات من الاحتياطي الاستراتيجي عند الضرورة، وأن تقوم الفرقة المدرعة بالتصدي للعدو إن نجح في النفاذ من هذين النطاقين، والقضاء عليه، ثم القيام بهجوم مضاد. ومفتاح هذه العملية الدفاعية هو التحكم في المحور الأوسط الواصل بين العوجة وأبو عجيلة والإسماعيلية. وبالتالي فإن فلسفة الخطة «قاهر» تكمن في استدراج العدو لسيناء، وأن يتم توريطه في هجمات قوية، ثم تطويقه من الشمال والجنوب بغرض القضاء عليه وتدميره.

ومن هنا يتضح أن الخطة «قاهر» لها منطقها الذي يحكمها، وهو منطق دفاعي بحت، يفترض أن العدو سيهجم بشكل تقليدي باستخدام المحور الأوسط، وهو أكثر المحاور مناسبة للتقدم في اتجاه المضايق ومنها لقناة السويس.

(الملخص أعلاه مستقى من : فوزي، حرب الثلاث سنوات، ص ٩٩ وما بعدها؛ Dupoy, Elusive Victory, 240-241; George Gawrych, The Egyptian defeat of 1967,” Journal of Contemporary History, v. 26, 1991, 281-284.)

أربعة تعديلات قاتلة:

ولو نحينا جانبا الطابع الدفاعي للخطة قاهر”، ولو نحينا جانبا أيضا أن هذه الخطة لم يجري التدريب عليها بل أن القوات المسلحة لم تجري أي مناورة عامة بالجنود من بعد عام ١٩٥٤” (مرتجي، الفريق مرتجي يروي الحقائق، ص ٣١-٣٢)، فسنرى أنه طوال شهر مايو أجريت أربعة تعديلات علي الخطة أفرغتها من محتواها وجعلت انهيار الجيش شيئا محتوما.

أما التعديل الأول فكان الاعتماد على الاحتياط بشكل أساسي حتى وصل الأمر للحد الذى كون الاحتياط أكثر من نصف عدد القوات. فالفريق مرتجي، قائد الجبهة، يقول في كتابه الفريق مرتجي يروي الحقائق (ص ١٢٠) إن”القوات الاحتياط التي دفعت إلى الميدان بمجرد تعبئتها وصل تعدادها إلى أكثر من نصف إجمالي الأفراد بالمسرح — بلغ عدد أفراد الاحتياط ١٠٣٩ ضابطا و٨٠٦٥٠ رتبة أخرى من جملة ٠٠٠ر١٣٠ مقاتل تم حشدهم في سيناء في الفترة من ١٥ مايو حتى ٥ يونيو..”

وقد وصف كل من تعرض لما سمي بالـ”حشد التعبوي” هذا الحشد بأنها كان كارثيا. فالجمسي يقول في مذكراته (ص ٦٦) إنه “لم يكن هناك تخطيط واقعي لتدريب قوات الاحتياط دوريا بما يضمن وصولها إلى درجة الكفاءة القتالية التي تؤهلها للاشتراك في الحرب في ميدان القتال. وقد تجلى ارتباك وقصور نظام التعبئة في وصول بعض الأفراد إلى سيناء يرتدي بعضهم ملابسهم المدنية التي حضروا بها إلى مراكز التعبئة عند الاستدعاء، بل كان بعض الأفراد ينضمون إلى وحدات ليست من تخصصهم، كما تم تعبئة وحدات جديدة من الاحتياط مرَّ عليهم سنوات لم يتم تدريبهم فيها على القتال.”

https://i1.wp.com/khaledfahmy.org/wp-content/uploads/2017/05/Books_LI4R3.jpg?resize=184%2C275أمّا عبد الفتاح أبو الفضل، نائب رئيس الاستخبارات، فكتب في كنت نائبا لرئيس المخابرات أنه ذهب في ٢٤ مايو إلى مدينة القنطرة شرق لإلقاء خطب وكلمات مشجعة في قوات الاحتياط التي كانت في طريقها إلى الجبهة، لكنه فوجئ بحالة من الفوضى جعلته يعتذر عن إلقاء الكلمة التي كان قد حضّرها. يقول: “كان الكل في ملابس مدنية، ومعظمهم بجلاليبهم الريفية ويحملون بنادقهم وليس هناك أي زي عسكري، [….] وشُحنوا في السكك الحديدية كالدواب دون أي تجهيز أو ترتيب إداري من مأكل أو مشرب أو راحةحشد هائل من الشباب والرجال الضائعين نتيجة إهمال واستهتار سلطات القوات المسلحة بآدميتهم وإنسانيتهموسألت نفسي: هل هذه هي حالة قواتنا التي سنواجه بها جنود عدوتنا إسرائيل؟ وفي المقابل، هل عدوتنا إسرائيل عندما أعلنت التعبئة العامة عاملت شبابها بهذا الأسلوب غير الآدمي؟” (ص ٢٧٩)

ويضيف صلاح الحديدي في كتابه شاهد على حرب ٦٧ بعض الفاصيل المهمة عن عيوب هذا النظام الذي كان هدفه مجرد مضاعفة حجم الجيش دون الاعتناء بمستوى تدريب الجنود أو إعدادهم للقتال، فيقول: ” وهذه الطريقة قد تبدو وكأنها قد ضاعفت حجم الجيش عدة مرات…. ولكن من جهة أخرى فإن نوع الوحدات الجديدة كان دون المستوى القتالي اللازم بكثير، فالجنود المسرحون لم يتيسر لهم التدريب اللازم، أو حتى استدعاؤهم في ظروف مريحة لأحوالهم الاجتماعية، واكتُفي بالانسياق إلى خيال نظري مبني على أساس إمكان اندماجهم مع زملائهم أبناء القوات العاملة في الوحدات الصغرى. هذا بالإضافة إلى أن مضاعفة حجم قوات الجيش فجأة وفي فترة قصيرة أدت إلى ظهور إحدى المشكلات المزمنة في الجيش المصري بشكل حاد، أعني بها مشكلة نقص الضباط. … وهكذا فقدت القوات العاملة التي نالتها عملية الفتح التعبوي أصالتها وكيانها، بل ومقدرتها القتالية التي كانت تتمتع بها. وزاد الطين بلة أن مخازن المركبات في القوات المسلحة…. لم تكن قادرة على الاستجابة مع هذا التزايد الفجائي في حجم القوات، فأصبحت الوحدات والتشكيلات الجديدة دون خفة حركة… وبذا صار تحرك هذه الوحدات إلى الجبهة تحركًا أشبه بنقل مهاجرين من مدينة إلى أخرى تخت ضغط الفزع والاضطراب، غايتهم الوصول إلى المحل الجديد وليفغل الله ما يشاء بعد الوصول.” (ص ١٥٥-١٥٦)

ويعلق الفريق مرتجي على وضع أفراد الاحتياط الذين وصل بعضهم “بملابس مدنية وبدون سلاح شخصي أو مهمات أو حملة أو تعيينات أو أدوات مطبخ” بالتساؤل “هل مثل هذه القوات يمكنها أن تحارب أو تصمد في قتال؟”

وإذا انتقلنا إلى التعديل الثاني فسنجد أنه ولدواعي “الأمن” أي الحيلولة دون قيام الجيش بانقلاب على نظام الحكم كانت تجري بصفة منتظمة حركة تنقلات بين الضباط، الأمر الذي أثر على التدريب تأثيرا بالغًا. وكان من أكبر تلك الحركات، حركة تنقلات صيف ١٩٦٦ التي شملت عددًا كبيرًا من الضباط من أكبر الرتب إلى أصغرها. وكان مبدأ “الولاء قبل الكفاءة” هو الحاكم دائما في اختيار تنقلات الظباط ، وهو الأمر الذي أدى إلى تقلد عدد كبير من القادة غير الأكفاء مناصب قيادية عليا. على أن ما أثر بشكل مباشر على الخطة “قاهر” هو الأمر الصادر بتغيير كل قادة الفرق الإثنى عشر مع أركان حربهم قبل الحرب بأسبوع أو أسبوعين. (George Gawrych, Key to the Sinai, 77)

وكان ثالث القرارات التي اتخذتها القيادة العليا في الأسابيع القليلة السابقة على الحرب والتي أثرت بشكل مباشر على الخطة الدفاعية “قاهر” هو ذلك القرار الغريب بإنشاء قيادة جديدة في سيناء. فالخطة “قاهر” كانت تفترض وجود قيادة موحدة للجيش يكون مركزها الإسماعيلية، وسميت قيادة المنطقة الشرقية، أو قيادة الجيش الميداني، وعُهد للفريق صلاح محسن بها. وكان من المُفترض أن تتلقى هذه القيادة تعليماتها من هيئة عمليات القوات المسلحة ورئاسة الأركان في القيادة العليا بالقاهرة.

https://i1.wp.com/khaledfahmy.org/wp-content/uploads/2017/05/مرتجي.jpeg?resize=282%2C374

ولكن فجأة وفي ١٧ مايو تقرر إنشاء قيادة جديدة اسمها قيادة الجبهة وكان مركزها بير تمادا، وعهد بها للفريق أول عبد المحسن مرتجي الذي يقول عنه الحديدي “أنه لم يسبق له الخدمة في سيناء إلا لمامًا ومنذ سنوات عديدة مضت قبل اعتداء ١٩٥٦.” (الحديدي، شاهد على حرب ٦٧، ص ١٥٨-١٥٩) وبالفعل وصل مرتجي لمقر قيادته وتسلم منصبه الجديد يوم ٢٩ مايو، أي قبل اندلاع القتال بأسبوع واحد. ولا تخلو صفحة من كتاب مرتجي نفسه من التندر على وضعه، فقد اكتشف أنه أعطي هذا المنصب دون العدد الكافي من ضباط أركان الحرب، إذ نال عشرين ضابطا فقط والمفروض أن تتكون القيادة السليمة من ١٥٠ ضابطا على الأقل، كما يؤكد اللواء أحمد اسماعيل علي الذي كان وقتها رئيس أركان هذه القيادة (موسى صبري، وثائق حرب أكتوبر، ص ٣٥٩) . كما اكتشف أن لا اتصال له بالقوات المُفترض أنه يقودها، لأن الأوامر التي تصل رأسا من القيادة العليا في القاهرة إلى الجيش الميداني والتشكيلات لم تكن تمر على قيادة الجبهة.

كما كان يصعب عليه التنسيق بين قيادته في بير تمادا الذي يُفترض أنه موقع قيادة متقدم، وقيادة الجيش الميداني في الإسماعيلية التي كان يقودها الفريق صلح محسن، والقيادة العليا في القاهرة التي يتولاها المشير عامر.

ومما زاد الطين بلة أن رئاسة الأركان نفسها لم تكن متناسقة داخليا، ولم يكن لها سلطة حقيقية على الأنواع المختلفة للقوات المسلحة، فالقوات الجوية كان تعتز باستقلاليتها، والقوات البحرية تحذو حذوها، وكذلك القوات البرية، ولا تنسيق أو تعاون بين هذه الأفرع المختلفة للقوات المسلحة (الحديدي، شاهد على حرب ٦٧، ص ٢٠-٢٤).

وإذا أخذنا في الاعتبار أن رئيس الأركان، محمد فوزي، لم يكن علي وئام مع المشير عامر، وأن الأخير رآه مقحما عليه من قِبل عبد الناصر، الأمر الذي حدا به أن يعين اللواء علي عبد الخبير في منصب جديد هو “مدير الأركان” حتى يحد من سلطة فوزي، لاكتشفنا مدى التخبط والارتباك الذي كان يشمل جميع أفرع وتشكيلات القوات المسلحة، فلا القيادات العليا متفقة مع بعضها البعض، ولا رئاسة الأركان متسقة مع نفسها، ولا الأفرع المختلفة تعمل بتناغم مع بعضها البعض. والأخطر أن تعددت طرق تسلسل الأوامر، فعند استلامها أمرا ما لا تعلم الوحدة أو التشكيل الميداني إن كان هذا الأمر صادرا من القيادة العليا، أم رئاسة الأركان، أم من هيئة العمليات، أم من قيادة الجيش الميداني، أم من قيادة الجبهة.

أما رابع القرارات التي اتخذت في الفترة التحضيرية السابقة على الحرب فكان تلك التعديلات التي أدخلت بشكل مباشر على الخطة “قاهر” وأفرغتها من محتواها. فكما رأينا، كانت هذه الخطة دفاعية بحتة، وكان منطقها مبنيا على الاعتقاد (السليم) بأن المحور الذي سيسلكه العدو في الأغلب هو المحور الأوسط. على أنه ومن بداية يوم ٢٠ مايو اتخُذت العديد من القرارات التي ستخل بهذا الاعتقاد الراسخ، وتجرى تعديلات جوهرية على أوضاع القوات التكتيتكي، الأمر الذي أدى في النهاية إلى خلخلة الخطة “قاهر” بشكل خطير.

كان أول هذه القرارات ذلك الذي اتخذته القيادة العليا بنقل كتائب من المظلات إلى شرم الشيخ. وكان هذا القرار صادما لقائد الجبهة، الفريق مرتجي، أولا لأن قيادات الجيش كانت قد اتفقت يوم ١٧ مايو على عدم إرسال قوات إلى شرم الشيخ إذ أنه كان هناك تخوف أن إرسال تلك القوات سيقطع خط الرجعة أمام السياسيين وأن الأمر يمكن أن يتطور إلي مواجهة عسكرية، وثانيا لأنه لم يُخطر به من القيادة العليا بل علمه صدفة من قيادة القوات الجوية. (مرتجي، الفريق مرتجي يروي الحقائق، ص ٦٧-٧٧)

وما هي إلا ثلاثة أيام حتى صدر الأمر الثاني المعدل للخطة “قاهر”، ففي يوم ٢٠ مايو زار المشير عبد الحكيم عامر الجبهة؛ ويصف الفريق أول مرتجي كيف قال له المشير أثناء تلك الزيارة “إنا سندخل الحرب هذه المرة. وقد أدهشته إجابتي عندما أشرت إليه أنه بمثل هذه القوات وحالتها وتدريبها ونوعيتها لا يمكن أن ندخل حرباً. وهنا اتجه المشير في حديثه بأنه يجب أن يفهم الجميع هذا الاتجاه [أي أن الموضوع ليس مظاهرة عسكرية] حتى يستعدوا ويأخذوا الموضوع مأخذ الجد… وأثناء الجولة سأال المشير عن القوات التي خصصت للدفاع عن غزة.” وعندما أبلغه مرتجي أنه ليست هناك قوات مخصصة لهذا الغرض في الخطة “قاهر”، قرر المشير أن ينشئ مجموعة خفيفة وأن تتمركز في المنطقة ما بين رفح والعريش للدفاع عن قطاع غزة، وأطلق على هذه المجموعة “رقم ١” ، وتسلم قيادتها سعد الدين الشاذلي. (مرتجي، الفريق مرتجي يروي الحقائق، ص ٧٠).

وطوال أيام ٢٢-٢٥ مايو أخذ عامر يفكر في القيام بأعمال تعرضية داخل إسرائيل وتحديدا في النقب بغرض احتلال إيلات وفصل النقب الجنوبي. ولكن في يوم ٢٥ مايو عُقد مؤتمر عسكري كبير في القيادة العامة حضره الرئيس عبد الناصر، والمشير عامر ،ورئيس الأركان فوزي، وقادة أفرع القوات المسلحة – مرتجي وصدقي محمود وعزت، – ورئيس هيئة العمليات أنور القاضي، وقائد الجيش الميداني صلاح محسن، ومدير المخابرات الحربية، محمد صادق، بالإضافة لزكريا محيي الدين وأنور السادات. وفي هذا المؤتمر اعترض عبد الناصر على الخطط التعرضية الرامية إلى الاستيلاء على إيلات وعزل النقب، وفضل وضع خطة بديلة للدفاع عن قطاع غزة. كما أضاف أنه يجب تقوية الدفاع عن شرم الشيخ.

وبالفعل بدأ تنفيذ تقوية منطقة رفح ابتاء من يوم ٢٦ مايو. وكلفت بهذه المهمة فرقة شكلت حديثا تشمل لواءات من تشكيلات أخرى انتزعت من مواقعها المخصصة لها في الخطة الدفاعية. ومنها أحد الألوية المدرعة الذي كانوا يسمونه تهكما “باللواء الحيران” لكثرة التحركات التي قام بها سيرا على جنازير الدبابات، والتي تزيد على الألف كيلومتر قبل أن يدخل في قتال، أي أنه فقد الصلاحية الفنية قبل أن يطلق طلقة واحدة.

وبتنفيذ تقوية منطقة رفح تعدل الحد الأساسي للدفاع عن سيناء في المحور الشمالي عدة كيلومترات شرقًا، الأمر الذي تطلب تغيير المهام للقوات والقيام بسلسلة جديدة من الإجراءات للمعركة في المواقع الجديدة.

ثم صدرت أوامر القيادة العامة بدفع الفرقة الرابعة المدرعة – وهي الاحتياطي الاستراتيجي للدولة — إلى سيناء لتتمركز شرق خط المضايق.

وعلى عكس عبد الناصر الذي كان يرى ضرورة تعزيز الدفاعات في الشمال عند رفح، أخذ المشير عامر يفكر في القيام بأعمال هجومية في الجنوب، وعندما أخبره قائد الجيش الميداني، الفريق صلاح محسن، أن الجنود غير مدربين على الهجوم (الجمسي، مذكرات، ص ٦٨) أخذ يفكر في إقامة ما أسماه ستارة مضادة للدبابات في الجنوب في المنطقة الواقعة بين الكونتيللا ونخل. عندها أشار عليه ضباطه بأن تحريك قوات إلى هذه المنطقة سيضعف الدفاعات على المحور الأوسط، وأن لا منطق مطلقا من وراء فكرته المبنية على توقع هجوم العدو على المحور الجنوبي. ولكنه أبى أن يتخلى عن فكرته “التي تضخمت بصورة جعلته لا يرى خلافها، حتى أنه وهو يدافع عن وجهة نظره أخذه الحماس وقال “إنه بينه وبين موشى ديان ثأر قديم منذ العدوان الثلاثي عام ١٩٥٦ وأنه لن يترك هذه الفرصة حتى يلقنه درسا لا ينساه ويقضي على أسطورة الجيش الإسرائيلي الذي لا يقهر.”” (مرتجي، ، الفريق مرتجي يروي الحقائق، ص ٩٥)

وكان من نتاج سيطرة فكرة الثأر تلك أن أمرت القيادة العامة أحد اللواءات الاحتياطية (ل ١٢٥ احتسياط) إلى منطقة “مطلة خرم” غرب الكونتيللا. ويصف اللواء كمال حسن علي أحوال هذا اللواء وصفا بليغا فيقول: “للأسف كان هذا اللواء مثالا لما عليه الوحدات الاحتياطية من نقص في التدريب وعجز في الأسلحة والحملة الميكانيكية، بل في ملابس الجنود وتعييناتهم الميدانية ، بل أن قائده، العميد توفيق عبد النبي، مرّ عليّ في مركز رئاستي ليطلب مني أن أزوده ببعض التعيينات والملابس اللازمة لجنوده. ولم يكن يعرف هذا القائد شيئا عن هذا اللواء وجنوده وضباطه، فقد تولاه مصادفة منذ بضعة أيام فقط إذ كان يعمل ملحقًا عسكريا في باكستان وتصادف وجوده في القاهرة في إجازة قبل الحرب فاستدعته القيادة ليتولى قيادة اللواء ويندفع إلى سيناء مباشرة.” (كمال حسن على، مشاوير العمر، ص ٢١٥).

https://i2.wp.com/khaledfahmy.org/wp-content/uploads/2017/05/وضع-القوات-عشية-الحرب-2.jpg?resize=596%2C817وضع القوات عشية الحرب

ونتيجة لكثرة التعديلات التي أدخلت على الخطة «قاهر» تهتكت تلك الخطة وتمزقت، وفقدت فاعليتها وقدرتها الدفاعية، وانهارت فكرتها الأساسية، فوحدات ترسل إلى سيناء بمهام لا تلبث وهي في طريقها لتنفيذها أن تأخذ مهام أخرى مختلفة؛ ووحدات ترسل بدون مرتبات الحرب بأمل أن تصلها هذه المرتبات في أماكن تمركزها الجديدة ولكنها لا تصل؛ وأخرى ينزع من صلب تنظيمها وحدات صغرى على وجه السرعة ثم تستكمل بوحدات صغرى أخرى من قوات أخرى لا تعرف عنها شيئا؛ وعمليات تعرضية توضع ثم تدخل عليها التعديلات التي تبعدها عن هدفها الأصلي … وهكذا أصبح الضعف موجودا في كل مكان، في الأفكار، في الاستعداد، في كفاءة الوحدات المقاتلة، في سلامة الدفاعات، في هضم المهام المكلفة بها القيادات على مختلف المستويات.» (الفريق مرتجي يروي الحقائق، ص ٨٧).

وبالتالي فإن الخطة «قاهر» قد فقدت معناها أثناء مرحلة الحشد التعبوي التي امتدت من يوم ١٤ مايو ، تاريخ بداية الأزمة، وحتي يوم ٥ يونيو، تاريخ اندلاع الحرب. قد تكون الخطة في بدايتها منطقية ومتسقة مع نفسها، إلا أن القرارات الأربعة التي اتخذت في شهر مايو — أي قرار الاعتماد على الاحتياط، وقرار تغيير قادة الفرق والتشكيلات، وقرار إضافة قيادة جديدة، والقرارات العديدة التي أدخلت تغييرات على أوضاع القوات ومهامها في الخطة — كل هذه القرارات قتلت الخطة «قاهر» حتى قبل أن يبدأ القتال، وأصبحت مثل غراب البين، أضاعت المشيتين، كما يذهب المثل الشائع.

https://i2.wp.com/khaledfahmy.org/wp-content/uploads/2017/05/Kamal_Hassan_Ali.jpg?resize=286%2C385

كمال حسن علي

ولنترك الكلمات الأخيرة لكمال حسن علي الذي كان وقتها يقود اللواء المدرع التابع للفرقة الرابعة المدرعة التي شكلت الاحتياطي الاستراتيجي، والذي يقول إنه «خلال الفترة من ٢٥ مايو حتى ٥ يونيو لم يتوقف فيها اللواء المدرع عن استطلاع المهام والتحضير للعمليات العسكرية. وبلغ عدد المهام الذي كلف بها هذا اللواء حوالي ١٤ مهمة حتي ٥ يونيو. إلا أن أكثر ما كان يقلقنا في الميدان هو كثرة التصريحات والبيانات السياسية المتضاربة التي كنا نستمع إليها في الميدان فتصيبنا بأقصى درجات القلق والتشتت. أذكر في يوم ٢٧ مايو أن الرئيس جمال عبد الناصر عقد مؤتمرا صحفيًا، وقد استمعنا إلي هذا المؤتمر الذي لم يكن مبعث طمأنينه لي، بل ولا أريد أن أقول إنه كان مبعثًا لانزعاجي خاصة عندما ذكر عبد الناصر في كلمته عبارة «إنني لست خرع زي إيدن». وفي ٢٩ مايو نقلت إلينا الإذاعة خطاب عبد الناصر الذي قال فيه «قلت قبل الآن إننا سنقرر الوقت وسنقرر المكان ولن نتركهم ليقرروا الوقت والمكان. وقد تمت الاستعدادات ، ونحن على استعداد لمواجهة إسرائيل.» … إن أشد ما كان يملؤني بالإثارة أنا وبقية المقاتلين في سيناء هو هذه الشحنة الإعلامية المكثفة التي كانت تصل إلينا في الميدان كدقات طبول تصم الآذان عبر الإذاعة والصحف، وكنا لا نتبين منها إلا خليطا من التشنجات والمغالطات، ونحن ندرك حقيقة ما يفصل الصورة عن الواقع، حتى صباح يوم ٥ يونيو.» (كمال حسن علي، مشاوير العمر، ص٢١٥-٢١٨)

(٦): الخطة «فجر» الموءودة في الفجر:
ثلاثة مشاهد:
المشهد الأول:
الزمان: السابعة صباح يوم ٢٦ مايو ١٩٦٧ بتوقيت القاهرة؛ منتصف ليلة ٢٥-٢٦ مايو بتوقيت واشنطن. المكان: وزارة الخارجية الأمريكية بواشنطن. يوجين روستو، مساعد وزير الخارجية الأمريكية، يطلب مقابلة السفير مصطفى كامل، سفير الجمهورية العربية المتحدة (ج. ع. م.)، بصفة عاجلة. وعندما حضر السفير لمكتب روستو طلب الأخير من مساعديه ترك الغرفة لينفرد بضيفه كي يبلغه الرسالة الآتية: «إن أعداءكم [أي الإسرائيليين] يعتقدون أن مصر وسوريا على وشك شن هجوم في أي لحظة. نحن لا نعتقد أن ج.ع.م. ممكن أن تتصرف بتلك الرعونة، فهذا النهج سيكون له بالطبع نتائج وخيمة. وبالتالي فنحن ما زلنا نحث إسرائيل على ضبط النفس».

(ويمكن الاطلاع على صورة من هذه الرسالة وتعليق الخارجية الأمريكية عليها لسفارتهم في القاهرة هنا وهذه الصورة متاحة ضمن مطبوعات وزارة الخارجية الأمريكية التي تقوم بنشرها بصفة دورية) وعلى الفور قام السفير مصطفى كامل بكتابة برقية شفرية للقاهرة بمضمون المقابلة. (ويمكن الاطلاع على نص البرقية في هيكل، الانفجار، ص ٥٧٥-٥٧٦، وعلى صورة أول صفحة منها ص ١٠٢٢)

https://i1.wp.com/khaledfahmy.org/wp-content/uploads/2017/05/روستو-ويوجين.jpg?resize=541%2C359

المشهد الثاني:
الزمان: الساعة ٥:٣٠ مساء بتوقيت القاهرة،١٠:٣٠ صباحا بتوقيت واشنطن؛ يوم ٢٦ مايو ١٩٦٧. المكان: وزارة الدفاع، البنتاجون، مكتب وزير الدفاع، روبرت ماكنمارا. وزير الخارجية الإسرائيلي، أبا إيبان، الذي وصل لتوه من تل أبيب، يجتمع مع وزير الدفاع الأمريكي، روبرت ماكنامارا، ليستوضح منه إذا كانت الولايات المتحدة ما زالت ملتزمة بتعهداتها التي قطعتها على نفسها عام ١٩٥٧ بضمان حرية مرور السفن الإسرائيلية في خليج العقبة. وفي أثناء المناقشة استُدعي السفير آفرام هارمان، سفير إسرائيل لدى واشنطن، الذي كان حاضرا الاجتماع أيضا، للرد على مكالمة تليفونية من تل أبيب، وعندما عاد بعد دقيقتين قدم لإيبان ورقة تفيد بأن أجهزة المخابرات الإسرائيلية تؤكد على قرب قيام ج. ع. م. بالاشتراك مع سوريا بشن هجوم مباغت على إسرائيل في أي لحظة. ماكنمارا أكد أن أجهزة المخابرات الأمريكية المختلفة تختلف مع هذا التحليل، وتؤكد على أن المعلومات الواردة من سيناء توضح أن الحشد المصري الذي بدأ في ١٤ مايو دفاعي وليس هجوميا. ولكن إيبان أكد بدوره أن ما وصله ليس «تحليل معلومات» ولا حتى «معلومات» بل «يقين»” not just an evaluation of intelligence but is “information”, a word he later changed to “knowledge.”

(ويمكن الاطلاع على نص محضر الاجتماع ضمن مطبوعات وزارة الخارجية الأمريكية هنا)

https://i0.wp.com/khaledfahmy.org/wp-content/uploads/2017/05/ماكنمارا-وإيبان.jpg?resize=504%2C280

المشهد الثالث:
الزمان: الساعة ٣ فجرا يوم ٢٧ مايو ١٩٦٧؛ المكان: منزل الرئيس جمال عبد الناصر بمنشية البكري. تليفون الطوارئ الموضوع على مائدة بجوار سرير عبد الناصر يرن. المتحدث هو السكرتير المناوب القائم بعمل ساعات الليل يخبر الرئيس بأن السفير السوفيتي، ديمتري بوجداييف، على الباب يطلب محادثته في أمر عاجل لا يحتمل التأخير. يقوم عبد الناصر من فراشه في عجالة، ويضع روب دي شامبر على بيجامته، ويلبس الشبشب، ويسرع لمقابلة السفير في الطابق الأرضي من منزله.

يُخرج بوجداييف من جيبه مظروفا ويقرأ رسالة من أليكسي كوسيجين، رئيس وزراء الاتحاد السوفيتي، مؤداها أن الرئيس ليندون جونسون، رئيس الولايات المتحدة الأمريكية، قد اتصل به لتوه على الخط الساخن بين البيت الأبيض والكرملين ليخبره أن القوات المصرية ترتب لهجوم على إسرائيل، وطلب منه التدخل عبر سفيره في القاهرة لمنع هذا الهجوم، وإلا فالولايات المتحدة ستعتبر نفسها في حل من التعهدات التي أعطتها للاتحاد السوفيتي بضبط النفس. (حسنين هيكل، الانفجار، ص ٥٧٧-٥٧٨).

https://i2.wp.com/khaledfahmy.org/wp-content/uploads/2017/05/زعماء.jpg?resize=502%2C447

***

عند تحليله لهذه التطورات الدرامية المتلاحقة يقول هيكل في كتابه، الانفجار، )ص ٥٧٧) إن ما كان يشغل عبد الناصر ليس الوقوف على حقيقة موقف الاتحاد السوفيتي أو إذا كانت الولايات المتحدة تريد أن تبلغه رسالة تهديد، بل أن هذه المعلومات و«تحذيرات ما بعد منتصف الليل» كما يسميها هيكل أوضحت لعبد الناصر أن هناك تسريب ما، والسؤال الذي يقول هيكل إنه شغل عبد الناصر هو إذا كان هذا التسريب من القيادة، أم أن إسرائيل قد حصلت على تفاصيل العملية الهجومية (التي كان اسمها «فجر» كما هو مشروح أسفل) عن طريق كسر شفرات القوات المصرية. وكان هيكل قد أمضى ست صفحات للتطرق لموضوع الشفرات وكسرها، وأخذ يسرد وقائع طريفة عن قدرة وحدة الاستطلاع البحري المصرية على كسر شفرات القطع البحرية الأمريكية التي تصول وتجول في البحر المتوسط.

وبالتالي وبعد أن أكد على أهمية الشفرات وكسرها، شرح لنا هيكل كيف استدعى عبد الناصر عبد الحكيم عامر في الصباح الباكر يوم السبت ٢٧ مايو لكي يصارحه بهواجسه، «وطلب إليه أن تغير القوات المصرية شفراتها، وأن تفعل ذلك كل ثلاثة أيام توقيا لكافة الاحتمالات. لكن الموضوع ظل يلح على خاطره طوال اليوم وحتى أوى إلى فراشه. (هيكل، الانفجار، ص ٥٧٣ و٥٧٧) ولكن هل صحيح أن ما كان يشغل عبد الناصر حقًا هو موضوع كسر الشفرات، أم أن ما كان يؤرق مضجعه شيء آخر تمامًا؟

***

لكن قبل التطرق للأسباب الحقيقية التي شغلت بال عبد الناصر والتي يشير إليها هيكل ضمنًا دون التوقف عندها كثيرًا، يجب التأكيد على خطورة موضوع كسر الشفرات. فموشى ديان يقول في مذكراته إن الاستخبارات الإسرائيلية استطاعت أن تلتقط أمر القتال المتعلق بالعملية «فجر» (Moshe Dayan, The Story of my Life, pp. 325-6) . ويقول الفريق أول عبد المحسن مرتجي في مذكراته، الفريق مرتجي يروي الحقائق (ص ٩١-٩٢)، إن عددا من الضباط المصريين وقعوا في الأسر يوم ٢٨ مايو بالقرب من إيلات عندما تخطت وحدتهم الحدود الدولية، وعندها خشيت القيادة العليا من أن يكون أمر الخطة «فجر» قد افتضح؛ لكن مرتجي عاد ليؤكد أن قائد الفرقة لم يكن قد لقن خطته إلا لقادة الألوية فقط، وأن هؤلاء الضباط كانوا في مهمة استطلاعية، وضعت ضمن خطة خداع لتضليل العدو. على أن الكتابات الأكاديمية الإسرائيلية تؤكد أن هؤلاء الضباط الأسرى أوضحوا للإسرائيليين بالفعل حقيقة الخطة «فجر» (Michael Oren, Six Days of War, p. 121.)

وبعد انتهاء الحرب بمدة قصيرة نشرت إسرائيل كتابا دعائيا ووزعته على نطاق واسع وتباهت فيه بتمكنها من زرع جاسوس في وسط قيادة القوات الجوية المصرية لمدة اثنى عشر عاما. الكتاب عنوانه وتحطمت الطائرات عند الفجر ونُشر أن مؤلفه يُدعى باروخ نادل، أو باروخ ماندِل. يزعم الكتاب أن هذا الجاسوس استطاع أن ينشئ صداقة حميمية مع الفريق صدقي محمود، قائد القوات الجوية والدفاع الجوي، ويزعم أن صداقاته شملت أيضا زكريا محيي الدين (وكان آنذاك رئيسا للوزراء والمسؤول الأول عن شؤون الأمن والاستخبارات). ويقول الكتاب إن هذا الجاسوس كان يُدعى لحضور اجتماعات قيادة القوات الجوية، وأنه كان يرافق الفريق صدقي محمود في جولاته إلى القواعد الجوية في سيناء وغيرها، وأن زكريا محيي الدين دعاه يوم ٢٢ مايو ليتجول بتصريح رسمي منه في جميع القواعد الجوية المصرية وأن يضع له تقريرا يوضح نواقصها ونواحي الإهمال فيها.

وكان هذا الكتاب أيضا من أهم مصادر الإشاعة المغرضة التي قالت إن حوالي ٤٠٠ ضابط وطيار حضروا حفلة ساهرة ليلة ٤-٥ يونيو في قاعدة أنشاص. على أن أهم ما جاء في الكتاب ادعاءه أن باروخ نادل هو الذي أرسل رسالة لإسرائيل ليلة ٢٥ مايو باعتزام مصر شن هجوم جوي شامل على مطاراتها وقواعدها العسكرية، وهو الأمر الذي مكّن العدو من الاستعداد للهجوم والاحتراز منه. (ص ٢٤٧) هذه ادعاءات مذهلة لدرجة يصعب تصديقها، وبالرغم من ذلك فالكتاب كان له تأثير بالغ السوء على الحالة المعنوية المصرية، إذ أنه نُشر في وقت (١٩٦٨) انعدمت فيه الثقة تماما في القوات المسلحة بشكل عام، وفي القوات الجوية تحديدا كما سأوضح في مقال لاحق.

ويُذكر أن هذا الكتاب هو الذي حدا بدار الشروق في عام ١٩٧٤ أن تختار عنوان الكتاب الذي كتبه أحمد بهاء الدين احتفاءا بحرب أكتوبر، فجاء كتابه «وتحطمت الأسطورة عند الظهر» ليدحض افتراءات باروخ نادل ويمحو تأثير كتابه.

https://i0.wp.com/khaledfahmy.org/wp-content/uploads/2017/05/باروخ.jpg?resize=493%2C315

***

وإذا نحينا جانبا موضوع الشفرات وكسرها، والجواسيس ومغامراتهم، فمما لا شك فيه هو أنه كانت هناك بالفعل خطة هجومية اسمها «فجر» مختلفة اختلافا جوهريا عن الخطة «قاهر» الدفاعية التي تناولناها في مقال سابق. فالفريق أول محمد فوزي يذكر في كتابه، حرب الثلاث سنوات (ص ١١٨)، إن الخطة «فجر» صدرت بها توجيهات المشير رقم ١٦/١٩٦٧ في ٢٣ مايو ١٩٦٧. وكان هدف هذه الخطة عزل منطقة النقب الجنوبي وإيلات. وخصص لها قوات برية وبحرية وجوية. أما القوات الجوية فوُضع لها خطة مستقلة اسمها «أسد» بقصد توفير الحماية الجوية والاستطلاع الجوي، ومجهود مباشر بقوة ٩ طلعات سرب مقاتل-قاذف، وطلعة سرب قاذف خفيف يوميًا، ولمدة ثلاثة أيام. كما يذكر فوزي إن الفريق مرتجي صادَق على الخطة في الساعة الثامنة من مساء يوم ٢٥ مايو. أما المشير فصادق عليها في اليوم التالي، أي ٢٦ مايو، وكان من المفترض أن تُشن في الساعة الثامنة مساء يوم ٢٨ مايو.

https://i2.wp.com/khaledfahmy.org/wp-content/uploads/2017/05/Harb-Al-3-Sanawat.jpg?resize=269%2C420

***

إذن، فالخطة «فجر» لها وجود حقيقي، وليست من محض افتراءات الجاسوس الإسرائيلي، كما أن توقيتها وتفاصيلها متطابقة إلى حد بعيد مع ما ذكره الإسرائيليون وقتها. وبالتالي فإن هيكل على حق في قوله إن عبد الناصر ارتاب بالفعل في مصدر الرسالتين اللتين وصلتاه يومي ٢٦ و٢٧ مايو واللتين تفيدان أن إسرائيل قد علمت بالفعل بأمر الخطة «فجر». على أن السؤال يبقى: هل كان ما يقلق عبد الناصر أن أمر هذه الخطة قد وصل لإسرائيل عبر طريق ما، تسريب من القيادة أو فك شيفرة، أم أن ما كان يقلقه هو وجود هذه الخطة من الأساس؟

***

في يوم ٢٥ مايو عُقد مؤتمر في القيادة العامة للقوات المسلحة حضره الرئيس عبد الناصر؛ والمشير عبد الحكيم عامر، وقادة أفرع القوات المسلحة — البرية والجوية والبحرية — والفريق أول محمد فوزي، رئيس الأركان؛ والفريق أول أنور القاضي، رئيس هيئة العمليات؛ والفريق صلاح محسن، قائد الجيش الميداني؛ والفريق أول عبد المحسن مرتجي، قائد الجبهة الشرقية؛ واللواء محمد صادق، مدير المخابرات الحربية. لم يسهب هيكل في شرح ما دار في هذا الاجتماع ربما لأنه لم يكن حاضرا، واكتفى بأن قال «كان جمال عبد الناصر على موعد في القيادة العامة للقوات المسلحة لاجتماع مع هيئة القيادة العلية تحدد له الساعة الثامنة مساء. (ص ٥٦٥) ولكنه بعد بضعة صفحات يقدم عرضا دقيقا لما قاله عبد الناصر لعامر عندما التقيا في مكتب عبد الناصر في الصباح الباكر يوم ٢٧ مايو، أي بعد استلام الرسالتين التحذيرتين من واشنطن: الرسالة المباشرة التي بعث بها السفير مصطفى كامل، والرسالة غير المباشرة التي وصّلها السفير دميتري بوجداييف.

ففي صفحتي ٥٧٣-٥٧٤ ينقل هيكل عن عبد الناصر قوله لعامر إنه قد «لاحظ في اجتماع [القيادة يوم ٢٥ مايو] أن المشير عبد الحكيم عامر يتحدث بطريقة ظاهرة وبطريقة ضمنية عن الضربة الأولى، ومن يوجهها والضربة الثانية ومن يتلقاها. وكان رأيه [أي رأي عبد الناصر] أن الدوران طويلا حول هذه المسألة من شأنه أن يخلق بلبلة لدى القوات. فالحرب جهد سياسي شامل يدخل القتال كعنصر من عناصره في وقت من الأوقات». ثم أخذ هيكل يلخص كلام عبد الناصر لعامر عن توازنات القوى، الإقليمية والعالمية، وكيف ستقرأ هذه القوى، بالإضافة للرأي العام العالمي، التحركات العسكرية المصرية.

ثم ردد هيكل كلام عبد الناصر لعامر: «إن هدفه الرئيسي في إدارة الأزمة هو أن نخرج منها بسلام ودون حرب، ومع أن نسبة نشوب الحرب كما قال … في اجتماع القيادة قد زادت عن ٦٠٪، فهو لا يزال واثقًا أن جهود كثيرين … لكسب الوقت يمكن أن تؤدي إلى تخفيض نسبة المخاطرة، وأن نجيء في هذه اللحظة ونتحدث عن ضربة أولى فهذا كلام غير مسؤول».

https://i2.wp.com/khaledfahmy.org/wp-content/uploads/2017/05/-1-e1496116712457.jpg?resize=466%2C425

عبد الناصر مع هيكل

ويضيف هيكل: «ثم أشار جمال عبد الناصر في حديثه مع عبد الحكيم عامر إلى تفاصيل سمعها في اجتماع [القيادة] عن خطة تعرضية محدودة تحمل الاسم الرمزي «فجر»، وهي موجهة إلى ميناء إيلات الإسرائيلي بهدف قطعه عما وراءه. وقال إنه لم يشأ أن يشدد في الاعتراض عليها في اجتماع القيادة حتى لا يساء فهم اعتراضه. وأنه يؤثر أن يقوم عبد الحكيم عامر الآن بإلغاء الأمر الإنذاري للخطة التي كان مزمعا تنفيذها خلال أيام قليلة. ولم يكن اقتناع عبد الحكيم عامر كاملا، وإن كان قد قال في نهاية حديثه إنه سوف ينفذ الأوامر. والغريب أنه ظل طوال يوم ٢٧ مايو مترددا في إلغاء العملية «فجر» ثم اضطر أخيرا إلى تنفيذ الأوامر».

إلى هنا انتهى كلام هيكل عن هذا اللقاء العاصف بين عبد الناصر وعامر. ومن هذا الاقتباس القصير تتضح الهوة التي كانت تفصل بين عبد الناصر وعامر عن طريقة الاستعداد للمعركة القادمة وإدراتها. فعبد الناصر كان ما يزال يعتقد أن هذه الأزمة يمكن إدارتها سياسيا، وأنه يمكنه التعامل معها دبلوماسيا كما تعامل وأدار أزمة السويس عام ١٩٥٦. ولكن عبد الحكيم عامر كان يدفع للتصعيد العسكري، بل كان يسعى له سعيا. ويمكن لنا أن نقف على عمق الفجوة التي كانت تفصل بين الرجلين لو رجعنا لمذكرات الفريق مرتجي ووصفه لاجتماع القيادة يوم ٢٥ الذي حضره. ففي مذكراته، الفريق مرتجي يروي الحقائق، يقول مرتجي: «عُرض في هذا المؤتمر فكرة الخطة التعرضية الهادفة إلى عزل منطقة إيلات والاستيلاء عليها».

https://i1.wp.com/khaledfahmy.org/wp-content/uploads/2017/05/مرتجي.jpeg?resize=341%2C453

ويضيف مرتجي: “وظهر عدم الاقتناع على رئيس الجمهورية بالنسبة للهدف المرجو من هذه العملية التعرضية المحدودة ومدى الكسب الذي سنحصل عليه. وتساءل هل هذه العملية تتساوى من حيث النتائج مع سقوط غزة مثلا … ثم لفت النظر لأهمية قطاع غزة، وأن سقوطه يعني الكثير بالنسبة لمصر ويؤثر على هيبتها بدرجة كبيرة. وأنه يرى أن أضعف نقطة في النظام الدفاعي هي هذا القطاع … إذ أن القوات المخصصة له أضعف من أن تقف أمام أي هجوم … وعلى ذلك يرى ضرورة تقوية هذا القطاع بقوات أكثر وذات كفاءة قتالية مناسبة، حتى تجبر إسرائيل على التفكير آكثر من مرة لو راودتها نفسها على مهاجمة القطاع.” (ص ٧٩)

ومن هنا يتضح عمق الخلاف بين عبد الناصر وقائد جيشه حول المعركة المرتقبة. لم يكن هذا الخلاف خلافا حول بعض التفاصيل الدقيقة، ولكنه كان خلافا حول التوجه العام للمعركة. فبينما يرى عبد الناصر أن القوات يجب أن تتخذ أوضاع الدفاع الوقائي، أكد عامر على أهمية شن هجوم على القطاع الجنوبي، أي على النقب الجنوبي وميناء إيلات. ونحن نعرف الآن من مذكرات فوزي أن العملية «فجر» الذي خطط لها عامر ذهبت في تفاصيلها إلى أبعاد لم يُستشر فيها عبد الناصر؛ وأنها كانت عملية كبيرة شملت القوات البرية والجوية والبحرية؛ وأن عبد الناصر لم يوافق عليها عندما علم بها، وأمر بإلغائها. كما نعلم أنه كان من نتاج هذا الخلاف، وكما يؤكد فوزي، أن صدرت للقوات المسلحة أربع خطط عسكرية في عشرين يوما. (ص ١٢٢)

وبالرغم من أهمية هذا الخلاف ومحوريته لفهم طبيعة المعركة ونتائجها فإن هيكل لا يركز عليه في كتابه ذي الألف صفحة. فكما رأينا، لا يستغرق عرضه لهذه النقطة الهامة أكثر من صفحة ونصف، بينما عرضه للرسائل الدبلوماسية التي تلقاها عبد الناصر عن الخطة «فجر» من واشنطن، وتفاصيل الروب دي شامبر والبيجاما والشبشب المتضَمنة في هذا العرض استغرقه فصل كامل يتتبع فيه أبا إيبان في رحلاته الأوربية والأمريكية لإجهاض الخطة. ويجب هنا التأكيد على أن هذا الخلاف لم يظهر فجأة في اجتماع القيادة الذي عُقد يوم ٢٥ مايو حينما اكتشف عبد الناصر أن هناك خطة تعرضية اسمها «فجر» وُضعت دون علمه. بل أننا إذا رجعنا لكل خطوة من خطوات تطور الأزمة منذ بدايتها يوم ١٤ مايو وحتي يوم اندلاع الحرب يوم ٥ يونيو سنجد لهذا الخلاف الجذري بين الرجلين أثارا واضحة في كتابات كل القادة الذين شهدوا هذه الوقائع وكتبوا عنها.

فكما أوضحت أعلاه، لم يكن قرار الحشد يوم ١٤ مايو من بنات أفكار عبد الناصر. فهو لم يؤخذ رأيه فيه، بل اجتمعت هيئة أركان القوات المسلحة برئاسة عبد الحكيم عامر واتخذت هذا القرار المصيري دون إخباره. وكانت الخطوة التالية التي أدت إلي الحرب هي خطوة طرد قوات الأمم المتحدة يوم ١٦ مايو. فكان عبد الناصر يريد إعادة توزيع محدود لتلك القوات وليس سحبها كلية. أما عبد الحكيم عامر فكان له رأي مختلف، فهو كان يبغي تصعيد الموقف وتسخينه بالإصرار على سحب شامل للقوات، وليس إعادة تمركز جزئيا. فبالتالي عندما قرأ عبد الناصر في صباح يوم ١٦ مايو النسختين العربية وتلك الإنجليزية من طلب إعادة تمركز القوات الذي كان سيسلم للجنرال ريكي، قائد تلك القوات، لاحظ أن هناك فرق بين النسختين، فبينما تنص النسخة الإنجليزية على سحب كل القوات، غابت عن النسخة العربية كلمة «كل»، وهو ما كان أقرب لمبتغاه. لذا عمل على تصحيح النسخة الإنجليزية بأن شطب كلمة “all” ، كما شطب كلمة “withdrawal”، أي انسحاب، واستبدلها بكلمة “redeployment”، أي إعادة توزيع. وكان غرضه من ذلك أن يوضح للجنرال ريكي أن غرضه ليس إنهاء عمل قوات الأمم المتحدة كلية، وإنما إعادة تمركزها على الحدود الدولية. ولكن عبد الحكيم عامر أرسل النسخة الأصلية قبل تصحيحها متعللا بأنه لم يكن لديه الوقت الكافي لإجراء التعديلات التي طلبها عبد الناصر.

(ولتفاصيل هذه الواقعة راجع: Risa Brooks, Shaping Strategy: The Civil-Military Politics of Strategic Assessment, pp. 90-91)

https://i2.wp.com/khaledfahmy.org/wp-content/uploads/2017/05/Richye-1.jpg?resize=545%2C404

أما الخطوة الثالثة فكانت قرار إغلاق مضيق تيران أمام الملاحة الإسرائيلية يوم ٢٢ مايو. ومرة أخرى نرى عمق الفجوة التي كانت تفصل بين الرجلين في هذا القرار الحاسم والذي يعتبره أغلب المؤرخين كعبور يوليوس قيصر نهر الروبيكون. هذا القرار أعلن في مؤتمر حضره جمال عبد الناصر في مطار أبو صوير في منطقة فايد على القناة. وقد حضر هذا المؤتمر المشير عامر؛ والفريق أول صدقي محمود، قائد القوات الجوية؛ والفريق أول مرتجي، قائد الجبهة الشرقية؛ وزكريا محيي الدين، رئيس الوزراء؛ وأنور السادات، رئيس مجلس الأمة. وفي هذا المؤتمر أعلن عبد الناصر إغلاق المضيق. وأكد عبد الناصر في هذا المؤتمر الذي حضره العديد من الطيارين أنه لا يريد تصعيد الأمر لدرجة تستدعي تدخل الولايات المتحدة، ولذا يجب علينا ألا نبادر بتوجيه الضربة الأولي لإسرائيل، بل أن نتلقاها لأن هذا «أمر لا مفر منه حيث أنه قرار سياسي اتخذ حتى يبطل أي حجة لأمريكا أو غيرها قد تتخذها ذريعة للتدخل.» (مرتجي، الفريق مرتجي يروي الحقائق، ص ٧٣)

على أنه وفور انتهاء المؤتمر تكالب الطيارون حول المشير عامر وطالبوه بأن يصرح لهم بالقيام بالضربة الأولى، فرد عليهم قائلا «ما تخافوش يا ولاد. والله هنحارب”، وذلك حسب شهادة الطيار المقاتل ممدوح الملط الذي كان حاضرا المؤتمر. ويمكن التدليل على الفجوة الشاسعة التي كانت تفصل بين الرجلين بالرجوع قليلا للوراء، وتحديدا ليوم ١٧ مايو، وهو اليوم الذي بدأت فيه فكرة السيطرة على المضيق، وليس إغلاقه، تطرح نفسها. ففي هذا اليوم دعا عبد الناصر لاجتماع في بيته حضره معظم أعضاء مجلس قيادة الثورة السابق، وطرح عليهم عبد الناصر فكرة السيطرة على المضيق.

وفي كتابه مصر من الثورة إلى النكسة، يشرح ممدوح أنيس فتحي تفاصيل ما جرى في هذا الاجتماع. وتنبع أهمية شرح ممدوح أنيس فتحي من أنه مبني على محضر الاجتماع الذي كتبه بخط يده سامي شرف، مدير مكتب الرئيس للمعلومات، والمحفوظ في دار المحفوظات المركزية للقوات المسلحة تحت رقم ١٩/١٥٨/٥. فلندع الكاتب يسرد لنا ما جري: «طرح …. عبد الناصر فكرة السيطرة المصرية على خليج العقبة، ولكن المناقشة أخذت منحى آخر عندما صمم المشير عبد الحكيم عامر على إغلاق خليج العقبة، وأكد أنه لا يمكن للقوات المسلحة المصرية أن تقبل مرور العلم الإسرائيلي أمامها، فأخذ عبد الناصر الأصوات، فوافق الجميع على إغلاق المضيق ما عدا المهندس صدقي سليمان الذي أشار إلى أن هذا يعني الحرب. ومن ثم تقرر التنفيذ في موعد ملائم مع استعداد القوات المسلحة لذلك.» ثم يضيف ممدوح أنيس فتحي قائلا: «وهنا نجد أن جمال عبد الناصر قد أراد من دعوة مجلس قيادة الثورة القديم للاجتماع مواجهة عبد الحكيم عامر والوقوف ضده في قرار إغلاق خليج العقبة، وأن يساند عبد الناصر في فكرة السيطرة المصرية على الخليج فقط كورقة ضغط على إسرائيل، ولكن من الواضح أنه استجاب لرأي الجميع الذين أيدوا موقف عبد الحكيم عامر.» (ص ٣٣٣)

***

يحفل كتاب هيكل، الانفجار، بالإشارة للـ«حكومة الخفية» في الولايات المتحدة، ولثلاثي “المخابرات والسلاح والبترول” الذي يحكم العالم، وللتواطؤ الإسرائيلي-الأمريكي لاستدراج عبد الناصر والإيقاع به، ولخطة اصطياد الديك الرومي، أي الإيقاع بعد الناصر والقضاء عليه. والرسالة العامة للكتاب واضحة: مصر مستهدفة، وهناك قوى كونية تعمل على إسقاطها. ومما لا شك فيه أن كل هذه العناصر والخطط والمؤامرات حقيقية وفعالة. فهناك بالفعل قوى مؤثرة تعمل في الخفاء في الولايات المتحدة، بعيدا عن سيطرة الكونجرس ورقابة الصحافة؛ وهناك أيضا تشابك لمصالح عالمية بين تجار السلاح، وشركات البترول ومشايخه، ورجال المخابرات، وهذا التشابك له دور محوري في رسم سياسات الدول، العظمى منها والصغرى. كما أنه ليس خافيا مدى التعاطف والترابط والتنسيق الذي جرى (وما يزال) بين الولايات المتحدة وإسرائيل، وتوضح الوثائق المنشورة مؤخرا والصادرة عن وزارة الخارجية الأمريكية والتي تغطي فترة حرب ١٩٦٧ مدي التواطؤ بين إسرائيل وكل مؤسسات صنع القرار في واشنطن وخاصة البيت الأبيض.

على أن ما يلفت النظر هو الغياب شبه التام في سردية هيكل لوجود تنظيم داخل مصر مماثل لتلك التنظيمات السرية التي استهوته وجذبت اهتمامه علي الصعيد العالمي. وأقصد تحديدا ذلك التنظيم المترامي الذى بناه المشير عامر على مدار خمسة عشر عاما والذي يشار إليه أحيانا بتنظيم «الدولة داخل الدولة». هذا التنظيم كان عماده الجيش، تلك المؤسسة التي استأثر عامر بها ومنع عبد الناصر من التدخل في شؤونها، بل استخدمها لتهديده وفرض إرادته عليه. إن الحكومة الخفية في مصر، لا في الولايات المتحدة، هي التي كانت السبب الرئيسي في هزيمة ١٩٦٧. هذه الحكومة الخفية التي كان يديرها المشير عبد الحكيم عامر أدت إلى وضع كارثي، وضع أصبحت البلد فيه برئاستين أو أكثر، فكما قال عبد الناصر نفسه في أعقاب الهزيمة، أدى تدخل المؤسسة العسكرية في إدارة البلاد إلى دخولها في صراعات القوى والمؤسسات السياسية في الدولة، فظهرت جماعة على صبري بالاتحاد الاشتراكي العربي، وظهرت جماعة زكريا محيي الدين في وزارة الداخلية. وفي اجتماع اللجنة التنفيذية العليا للاتحاد الاشتراكي في ٤ يوليو ١٩٦٧ قال عبد الناصر تعليقا على هذه الأوضاع: «لقد تفككت الدولة لأحزاب عديدة غير معلنة: حزب عبد الحكيم، حزب زكريا، حزب علي صبري. بهذا الشكل حدث تفسخ في الوزارة، بل تفككت الدولة نفسها».

وبهذا الشكل حدثت الهزيمة.

(٧): سرديتان عن الهزيمة:
سردية رقم ١: نكسة، فتنحي، فاستنزاف، فانتصار
:
هذه سردية مألوفة، وهي السردية الرسمية التي ترسخت في أذهاننا عن حدث جلل قررنا جميعًا ألا نتعامل معه. هذه السردية تقول إننا ابتلينا بنكسة مؤقتة في يونيو، كانت نتيجة تكالب القوى العظمي والأنظمة الرجعية علينا. هذه النكسة أعلن جمال عبد الناصر مسؤوليته الكاملة عنها، وقدم استقالته للأمة في خطاب تاريخي لمس وترا حساسا في كل واحد منا. فعبد الناصر الذي كان أبا وراعيا أمسى في لحظة صدق ابنا أو أخا صغيرًا قد يكون أخطأ في حساباته ولكنه أبدا لم يخطئ في نواياه. وما أن سمعت الجماهير صوت قائدها يقول «لقد اتخذت قرارًا أريدكم جميعًا أن تساعدوني عليه: لقد قررت أن أتنحى تمامًا ونهائيًا عن أي منصب رسمي وأي دور سياسي، وأن أعود إلى صفوف الجماهير، أؤدي واجبي معها كأي مواطن آخر،» حتى خرجت للشوارع في القاهرة تطالب «ناصر» بالعدول عن قراره.

ويصف الكاتبان الفرنسيان جاك دومال وماري لوروا اللذان شهدا الحدث مشهد الجموع الزاحفة على بيت عبد الناصر تطالبه بالبقاء: «كان الجميع يهتز ويزحف، حتى إذا طلع الفجر، انبثق مشهد عجيب: عاصمة كبيرة، تفوق مساحتها مساحة باريس، غشيتها أمواج شعبية هائلة، لا تعد بمئات الألوف مثلما حدث عام ١٩٣٦، بل بالملايين. تلك الملايين التي كانت قد صفقت مرارا لجمال، والتي كان الزعيم قد انتظر عبثا، في ١٩٥٢، سيرها ، صفوفا متراصة، في زحفها المقدس، ها هي ذي أخيرا، صفوفا متراصة، ها هي بالملايين، ولكن ليس في ساعة النصر، بل في ساعة الضيق، ساعة الأصدقاء الحقيقيين، ساعة المحنة. ولا يمكن لمن لم يشاهد الزحف الكبير بنفسه، أن يتصور شوارع مصر الجديدة الواسعة مثل شارع الشانزليزيه وقد امتلأت بحشود لا حصر لها، حتى أصبح من المستحيل مرور بائعي المرطبات والسندوتشات والحلوى (Jack DAUMAL, Marie LEROY, Gamal Abd-el-Nasser, Paris, Editions Seghers, 1967

وعندما وصلته أخبار الملايين التي تطالبه بالعدول عن التنحي، وعندما تلقى عشرات الرسائل من رؤساء الدول والحكومات، أرسل عبد الناصر رسالة لأنور السادات، رئيس مجلس الأمة، ليقرأها على أعضاء المجلس بعد أن تعذر عليه التحرك من منزله والوصول للمجلس بنفسه. وفي هذه الرسالة قال عبد الناصر «قد استقر رأيي على أن أبقى في مكاني وفي الموضع الذي يريد الشعب مني أن أبقى فيه، حتى تنتهي الفترة التي نتمكن فيها جميعا من أن نزيل آثار العدوان».

وما أن أنقشعت هذه الغمة حتى حان وقت العمل الجاد لإعادة بناء القوات المسلحة، ففي اليوم التالي مباشرة، يوم ١١ يونيو، وقّع عبد الناصر قرارا بقبول استقالة القادة العسكريين المسؤولين عن النكسة: الفريق أول صدقي محمود، قائد القوات الجوية؛ والفريق أول سليمان عزت، قائد القوات البحرية؛ والفرقاء الأول أحمد حلمي إمام، وهلال عبد الله هلال، وعبد المحسن مرتجي، وجمال عفيفي، والفريق أنور القاضي. كما أحال للتقاعد كل من: اللواءات عبد الرحمن فهمي، وعثمان نصار، وحمزة البسيوني، واللواء طيار اسماعيل لبيب. وبالرغم من إلحاح المشير عبد الحكيم عام للعودة لمنصبه، إلا أن الرئيس عبد الناصر تمسك برأيه بضرورة ابتعاد المشير عن القيادة، وهو ما كان الرجلان قد اتفقا عليه سويا ليلة ٨ يونيو في مقر القيادة العامة للقوات المسلحة.

وبعد أن تخلص من هذه القيادات الرثة عمل على استبدالهم بكل من الفريق أول محمد فوزي كقائد عام للقوات المسلحة، والفريق عبد المنعم رياض كرئيس هيئة أركان القوات المسلحة، والفريق طيار مدكور أبو العز كقائد للقوات الجوية، والفريق صلاح محسن كمساعد للقائد العام للقوات المسلحة، واللواء بحري فؤاد ذكري كقائد للقوات البحرية. وبهذه القيادة الجديدة وارتكانا على التفويض الذي ناله من الجماهير يومي ٩ و ١٠ يونيو بالإضافة إلى شحنات الأسلحة الجديدة التي كانت ترد من الاتحاد السوفيتي بدأ الإعداد الجدي لمواجهة إسرائيل عملا بالمبدأ الذي رفعه عبد الناصر: «ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة». وما هي إلا شهور قليلة حتى اندلعت حرب الاستنزاف، أو حرب الثلاث سنوات كما سماها الفريق أول محمد فوزي.

https://i0.wp.com/khaledfahmy.org/wp-content/uploads/2017/05/Harb-Al-3-Sanawat-192x300.jpg?resize=326%2C509

ثم مضت ثلاث سنوات أخرى اختفى فيها عبد الناصر واعتلى الحكم رئيس جديد، وتبدلت قيادات، وتغيرت الرئاسات، ولكن العزيمة والإصرار على القتال لم يتغيرا. وأثبت الجندي المصري أنه لو توفرت له قيادة رشيدة وأعطي سلاحا جيدا فبإمكانه تحقيق النصر. وكانت حرب أكتوبر خير دليل على ذلك. فبهذا النصر المجيد استطعنا، كشعب، وكقيادة، العبور فوق النكسة فاستعدنا عافيتنا وردت إلينا كرامتنا وحررنا الأرض المسلوبة.

على أن هذه السردية تتخللها إشكالية مركزية وهي كيفية تفسير الهزيمة. فعبد الناصر، حسب هذه السردية قائد فذ، يعمل بجد وإخلاص من أجل رفعة شعبه، ويحاول جاهدا النهوض به. وهو إضافة لذلك قائد ذكي ملم بما يجري ليس فقط في المنطقة بل في العالم بأسره ويدرك أنه كزعيم لحركات التحرر الوطني في العالم محط احترام وتقدير، بقدر ما هو هدف لقوى الاستعمار والرجعية. وطوال الأسابيع والشهور السابقة على الحرب كان مدركا لأن شيئا يحاك ضده وضد مصر، وكان يدرك أيضا أن لا الوضع الاقتصادي ولا الوضع العسكري يؤهلاه لخوض معركة ضد إسرائيل، ومن ورائها الولايات المتحدة. فما الذى دفعه للانزلاق في هذه الحرب التي كان يعلم جيدا أنه لن ينجو منها؟

يقدم حسنين هيكل أحسن إجابة لهذا السؤال الملغز. ففي الانفجار يقول إن عبد الناصر قد عمل جاهدا على ألا تصل الأزمة إلى نقطة صدام. «وكان تقديره أنه إذا استطاع أن يكسب وقتا، وإذا أفلتت إسرائيل فرصة الرد المباشر على خطوة إغلاق خليج العقبة، فإن الصدام يمكن تفاديه. وعندما بدا له من سير الحوادث أن احتمالات الصدام تتزايد يوما بيوم، فإنه لم يكن يعد نفسه لنصر عظيم. كان كل ما يريده معركة دفاعية تمتد أياما وتبدو فيها وحدة العالم العربي وتضامن شعوب آسيا وأفريقيا، وينعكس أثر ذلك على الرأي العام العالمي، ممثلا في الأمم المتحدة، مع ظهور أعراض أزمة في العلاقات بين القوتين العظميين، وساعتها يمكن الوصول إلى وقف لإطلاق النار، يبدأ البحث عن مخرج من الأزمة.» ويعلق هيكل على هذا التفسير بالقول «ولا بد من القول إن جمال عبد الناصر في هذا التصور لمسار الحوادث كان لا يزال محكوما بتجربته في السويس، في حين أن الأمور في هذه المرة كانت تندفع في اتجاه مختلف.» (هيكل، الانفجار، ص ٨٢٨-٨٢٩).

على أن هذه السردية، التي يعتبر هيكل من أهم صنّاعها، تتناول أيضا الدور المحوري الذي لعبه المشير عبد الحكيم عامر في النكسة. فحسب هيكل، يعتبر عامر المسؤول الرئيسي لما حل بالجيش، ففي يوم ٥ يونيو انهار المشير انهيارا تاما ولم يستطع تمالك أعصابه ولا الأخذ بزمام الأمور بعد ضربة الطيران في صباح هذا اليوم. ويعرض هيكل لتصرفات المشير في الأيام والأسابيع التي سبقت المعركة ويستنتج من هذا العرض أن المشير كان يعاني، من حالة نفسية تسمى بحالة «المزاج الدوري «manic depressive، ويعتمد هيكل هنا على آراء كبار الأخصائيين النفسيين مثل الدكتور أحمد عكاشة. (الانفجار، ص. ٨٢٠). ثم يزيد بُعدًا خاصًا لأزمة المشير وهي أزمة زواجه عرفيا من الفنانة برلنتي عبد الحميد، وإخفائه أمر هذا الزواج عن عبد الناصر. ويفسر هيكل تصرفات المشير غير المتعقلة في الأيام السابقة على المعركة، وهي التصرفات التي أدت بالفعل إلى ازدياد فرص الصدام، على أنه كان محاولة منه لإثبات نفسه ورجولته أمام زوجته الجديدة. (هيكل، الانفجار، ص ٣٩٤ وما بعدها)

وإدراكا منه أنه قد يتساءل سائل: «وكيف اختار عبد الناصر رجلا بمثل هذا الضعف وبمثل هذه الهفوات ليسلمه مقاليد الجيش؟» يسارع هيكل بإلقاء اللوم على صلاح نصر، صديق عامر ومدير جهاز المخابرات العامة. فينقل عن عبد الناصر حديثا دار بينه وبين صلاح نصر عندما التقيا بعد النكسة بأيام. يقول جمال عبد الناصر «إن عبد الحكيم عامر كان قطة مغمضة حتى تولى صلاح نصر فتح عينيه على ما لم يكن يجوز له أن يتورط فيه. وراح صلاح نصر يقسم بأغلظ الأيمان أنه لم يكن له ذنب فيما تورط فيه عبد الحكيم عامر. وأنه يعترف بحقيقة أنه هو الذي قدم السيدة برلنتي عبد الحميد إلى المشير، ولكنه لم يكن يتصور أن تصل الأمور إلى الحد الذي بلغته.» (هيكل، الانفجار، ص ٨٧٥).

سبب النكسة إذن، حسب هذه السردية، بالإضافة طبعا للمؤامرة الكونية التي حيكت ضد عبد الناصر وما يمثله من رمز لحركة التحرر الوطني، تلك المؤامرة التي تناولناها في مقال سابق، هو أن الرئيس جمال عبد الناصر كان أسير انتصاره في ١٩٥٦، أما المشير عبد الحكيم عامر فكان أسير غرائزه.

سردية ٢: صراع بين مؤسسات الحكم، فهزيمة، فانقلاب، فانتصار:
على أنه يمكن تقديم سردية أخرى ليونيو ٦٧ تبدأ بتسمية الأشياء بأسمائها وتعترف بأن ما حصل ليس نكسة بل هزيمة، بل هزيمة منكرة. وكما قلت في القسم الأول، لم تكن هزيمة ٦٧ هزيمة عسكرية فقط كانت بل هزيمة سياسية وثقافية وحضارية. هزيمة رؤية للعالم ولمكاننا فيه.

أنصار سردية النكسة لا يفضلون التفكير عميقا في الأسباب الهيكلية التي أدت بنا لهذه الهزيمة، فهي في رؤيتهم، كما رأينا، لا تعدو كونها نكسة تعافينا منها. كما يشككون فيمن يركز على الأسباب الهيكلية للهزيمة، متهمينهم بالانهزامية وبالافتقار للإحساس بالمسؤولية. ويذكرونهم بأننا لم نكن أول أمة هزمت، وأن التاريخ مليء بنماذج لأمم هزمت ولكنها نهضت من هزيمتها لأنها لم تقفد إرادتها. ويشيرون كثيرا لحالة فرنسا أثناء الحرب العالمية الثانية عندما انهارت أمام جحافل النازي، واحتُلت عاصمتها، وخضع أكثر من نصف مساحتها للاحتلال، أما النصف الثاني فكان تحت حكم حكومة عميلة.

على أنني أفضل مقارنة هزيمتنا في ٦٧ بهزيمة فرنسا في حرب أخرى، حربها مع بروسيا عام ١٨٧٠، أو هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الأولى، أو هزيمة الجنوب في الحرب الأهلية الأمريكية. هذه الهزائم لم تكن هزائم عسكرية فقط، بل كانت هزائم لنظام اجتماعي وثقافي وحضاري. هذه أيضا كانت هزائم أعقبها إما ثورة عارمة، أو انقلاب قصر، أو زوال عالم بأكمله بقيمه ومثله وأسلوب حياته. فإذا كان الأمر كذلك، وإذا صحت هذه المقارنة، فلماذا إذن لم نشهد انهيارا لعالمنا وقيمنا ومثلنا، أو ثورة عارمة، أو انقلاب قصر في أعقاب هزيمة يونيو ٦٧؟ والإجابة هي أننا شهدنا بالفعل انهيارا للقيم والمثل وثورة وانقلابا.

أما الثورة فكانت إرهاصاتها تلك المظاهرات التي قام بها شباب الجامعات في القاهرة ثم انضم لهم عمال حلوان بعد أن أُعلنت أحكام محكمة الطيران التي أدانت الفريق صدقي محمود بالأشغال الشاقة لمدة خمسة عشر عاما واللواء اسماعيل لبيب بالسجن لعشر سنوات وبالبراءة للقادة الآخرين، وهي الأحكام التي رأى فيها المتظاهرون التفافا على الحقيقة وطرمخة على الهزيمة (وإن كان لفظ «طرمخة» لم يكن مستخدما وقتها). وقرأ النظام المظاهرات قراءة دقيقة وأدرك أنه يجب أن يقدم بعض التنازلات حتى يعيد السيطرة على الجماهير، إذ أن تلك كانت المرة الأولى التي فقد فيها عبد الناصر الشارع. على أن هذه التنازلات، وكما نعرف، لم تكن سوى تنازلات شكلية لم تلبي المطالب الحقيقية بانفتاح ديمقراطي جذري، وبفتح المجال السياسي الذي رأي المتظاهرون أن إغلاقه كان سببا أساسيا من أسباب الهزيمة. فجاء بيان ٣٠ مارس هزيلا ضعيفا لم يمس جوهر الإصلاحات المنشودة.

https://i1.wp.com/khaledfahmy.org/wp-content/uploads/2017/06/Image00006.jpg?resize=510%2C313

محكمة الطيران، فبراير ١٩٦٨

أما الانقلاب فقد خُطط له بعناية ولكنه وئد وخرج منه النظام منتصرا. ولشرح وقائع هذا الانقلاب يجب البدء بشرح مفردات السردية الثانية، السردية التي تقوم على شرح الهزيمة هيكليا. تبني هذه السردية على أدبيات العلوم السياسية وعلى علم الاجتماع السياسي، وتحديدا على فرع من هذين المجالين يُعنى بدراسة العلاقات المدنية-العسكرية. وقد تناول الكثير من الأكاديميين الغربيين حرب ٦٧، سواء من الجانب المصري أو الإسرائيلي، من هذه الزواية، زاوية علاقة الساسة بالعسكر، ومنهم من عقد المقارنة بين علاقة عامر بناصر وعلاقة ليفي إشكول بموشى ديان. على أنني أعتبر دراسة حازم قنديل، أستاذ علم الاجتماع السياسي بجامعة كامبريدج، عن النظام السياسي المصري من أهم هذه الدراسات.

حازم قنديل له عدة كتب عن ما يسميه «ثالوث السلطة» والذي يقصد به تلك العلاقة الشائكة التي تربط المؤسسة العسكرية بمؤسسة الرئاسة بأجهزة الأمن. ففي كتابه (عسكر، وجواسيس وساسة: طريق مصر إلى الثورة) يسرد حازم قنديل تاريخ هذا الثالوث غير المقدس من بداية انقلاب يوليو لثورة يناير. ويتناول، بين أشياء كثيرة، علاقة الساسة بالعسكر بدءا بعلاقة عبد الناصر بمحمد نجيب، ثم علاقة عبد الناصر بعبد الحكيم ومحمد فوزي، ثم علاقة السادات بمحمد صادق والشاذلي والجمسي، ثم علاقة مبارك بأبو غزالة وطنطاوي، ثم علاقة محمد مرسي بالسيسي.

https://i2.wp.com/khaledfahmy.org/wp-content/uploads/2017/06/Hazem-1.jpg?resize=514%2C312حازم قنديل وكتابه، (عسكر، وجواسيس وساسة: طريق مصر إلى الثورة)

وبخصوص حرب ٦٧، يركز حازم قنديل على أزمة الحكم المتمثلة في العلاقة المأزومة بين مؤسسة الرئاسة (عبد الناصر) والمؤسسة العسكرية (عامر). لا يغفل قنديل الإشارة للطبيعة الشخصية لعلاقة عبد الناصر بعامر، فصداقتهما لم تكن صداقة عادية، بل كانت صداقة حميمية، وود، ومصاهرة، وجيرة (منزليهما في المعمورة كانا متلاصقين). وكان عامر بحكم زملاته لعبد الناصر في الكلية الحربية، واشتراكه معه في حرب فلسطين، وتخطيطهما معا لانقلاب يوليو– كان عامر لهذه الأسباب مجتمعة من أقرب أعضاء مجلس قيادة الثورة لعبد الناصر، وبالتالي كانت صداقته القريبة لعبد الناصر سبب حقد وغيره لبقية أعضاء المجلس.

وكانت هذه الصداقة وثقة عبد الناصر المتناهية في عبد الحكيم عامر هي السبب وراء إصرار عبد الناصر على أن يعهد لصيق عمره بقيادة الجيش، ونجح عبد الناصر بالفعل في أن يجبر محمد نجيب على ترقية عامر من رتبة صاغ لرتبة لواء مرة واحدة. وكان من نتاج هذا الإصرار أن تقدم قائد سلاح الطيران، اللواء حسن محمود، باستقالته من القوات الجوية، ورفض أن يستمر في منصبه احتراما لرتبة اللواء. وحل محله الطيار صدقي محمود الذي ظل قابعا في مركزه كقائد لسلاح الطيران والخادم المخلص لعبد الحكيم حتي هزيمة ٦٧.

وبمرور الوقت استطاع عبد الحكيم أن ينشئ قاعدة لسلطانه داخل القوات المسلحة، وأن يبني علاقات وينمي ارتباطات تقوي من مركزه على حساب بقية أعضاء مجلس قيادة الثورة. وسرعان ما ظهرت بوادر صراع خفي بينه وبين عبد الناصر نفسه. ويجمع كل المراقبين على أن هذا الصراع أخذ ينمو منذ ١٩٥٦ وحتى ١٩٦٧. على أن أهم محطاته كان رفض عبد الحكيم الانصياع لرغبات عبد الناصر وزملائه من أعضاء مجلس قيادة الثورة بضرورة تنحية المسؤولين عن الأداء المخزي للجيش في حرب ١٩٥٦، وخاصة صدقي محمود. على أن عامر رفض أي تدخل من الرئاسة في مجريات الجيش.

وكانت ثاني محطات الخلاف تلك التي ظهرت بعد انفصال الوحدة مع سوريا، واكتشاف أن الانقلاب في سوريا خُطط له من داخل مكتب عبد الحكيم عامر شخصيا، فرؤي ضرورة إبعاد عامر عن الجيش. ولإدراكه أن صديقه لن يرض بالتنازل عن قيادة الجيش الذي أصبح سبوبة يدر منه ثروات طائلة («سبوبة» مثل «طرمخة» من المصطلحات الجديدة التي لم تكن مستخدمة وقتها)، حاول عبد الناصر أن يغرى عامر بأن يشركه فيما أسماه بمجلس الرئاسة على أن يترك الجيش. وبعد أن وافق عامر في بادئ الأمر، عاد بعد إلحاح من زملائه الضباط وتمسك بقيادة الجيش، وأصر على حقه، دون سواه، في تعيين كبار القادة، ومنع عبد الناصر، فعليا، من التدخل في أمور الجيش.

كل ما استطاع عبد الناصر أن يجنيه من تلك المواجهة التي يشير إليها الكثيرون بـ«الانقلاب الأبيض» أن يحتفظ لنفسه بلقب «القائد الأعلى»، وأن يشار لعبد الحكيم بـ«نائب القائد الأعلى». على أن الجميع كان يدركون أن المشير كان الآمر الناهي في أمور الجيش، وأن عبد الناصر لم يكن له سلطان حقيقي على الجيش. وفي عام ١٩٦٤ حاول عبد الناصر أن يبسط يده على الجيش، فعين الفريق أول محمد فوزي رئيس أركان. ولكن سرعان ما أن استطاع عامر من تعيين واحد من شلته، علي عبد الخبير، كـ«مدير أركان» حتى يشل فوزي ويحد من سلطاته.

ويتتبع حازم قنديل هذا الصراع المأساوي بين عبد الناصر وعامر قبل وأثناء حرب يونيو، فيشرح كيف كان عامر هو الذي يؤجج الصدام مع إسرائيل، أولا عن طريق حشد القوات يوم ١٤ مايو، ثم عن طريق الإصرار على طرد قوات الأمم المتحدة يوم ١٨ مايو، ثم عن طريق الإصرار على غلق مضيق العقبة يوم ٢٢ مايو. وفي كل مرحلة من تلك المراحل كان عبد الناصر يعمل على التهدئة، ولكن يده كانت مغلولة لسيطرة عبد الحكيم على الجيش.

وإذا سأل سائل، هل معنى ذلك هو تبرئة عبد الناصر، وأن المشير هو المسؤول وحده، فالرد هو: بالطبع كلا. فعبد الناصر هو المسؤول أساسا عن وضع لبنات النظام السياسي الذى أفضى به لهذا الحال المختل، فهو الذي قضى على الأحزاب، وهو الذي قضى على الإخوان، وهو الذي قضى على الشيوعيين، وهو الذي قضى على الصحافة، وهو الذي قضى على النقابات العمالية والمهنية، وهو الذي قضي على القضاء، وهو الذي قضى على الحياة الجامعية.

وأهم من هذا وذلك، عبد الناصر هو الذي صمم أن يعين عبد الحكيم عامر قائدا عاما على الجيش في نظام انعدمت فيه الحياة السياسية، وانعدمت فيه بالتالي أي إمكانية لرقابة مجتمعية أو مؤسسية على الجيش. كان قضاء عبد الناصر على السياسة من أهم الأسباب الهيكلية التي أدت لهزيمة يونيو. ولم يكن سبب تمسك عبد الناصر بعامر كقائد للجيش هو إيمانه بقدرات عامر العسكرية بل ثقته في قدرته على تأمين الجيش، أي الحيلولة دون وقوع انقلاب عليه من داخل الجيش.

فعبد الناصر وصل للحكم عن طريق انقلاب، وهو أول من كان يعي خطورة قيام الجيش بانقلاب ثان، وبالتالي كان يدرك ضرورة تسليم الجيش لشخص مؤتمن، فكما قال «من المستحيل أن يوكل أمر الجيش لشخص غريب وليس منا فيتحكم في رقابنا.» (عبد اللطيف البغدادي، مذكرات، جزء ١، ص ٧٨) أما كيف انقلب السحر على الساحر وحاول عبد الحكيم الانقلاب على صديق عمره عبد الناصر، فذلك موضوع القسم التالي.

***

في قسم سابق من هذه الدراسة المعنية بتاريخ هزيمتنا الثقيلة في حرب ١٩٦٧ تناولتُ ظروف اتخاذ قرار إغلاق مضيق تيران في الاجتماع الهام الذي تم يوم ١٧ مايو في منزل جمال عبد الناصر والذي حضره أعضاء مجلس قيادة الثورة القديم، وأوضحتُ كيف استطاع عبد الحكيم عامر أن يحوّل دفة النقاش لصالح التصعيد، وأن يلوي ذراع عبد الناصر لكي يغلق المضيق ولا يكتفي بمجرد “السيطرة” عليه، كما كان يبغي عبد الناصر. ونعلم الآن أن إغلاق المضيق اتخذته إسرائيل ذريعة لشن الحرب على مصر، تلك الحرب التي كانت قد استعدت لها جيدا وتدرب جنودها عليها لسنوات طويلة خلت.

وإذا ثبت لنا الآن أن قرار إغلاق مضيق تيران كان واحدا من قرارات أخرى كثيرة كان مصدرها الصراع الجوهري والهيكلي بين عبد الناصر وعامر، وإذا كان من الواجب أن نلوم الرجلين على تهورهما في اتخاذ هذا القرار وهما يدركان جيدا أن الجيش لم يكن مستعدا لمواجهة إسرائيل، فإن ذلك لا يعني التشكيك مطلقا في مصرية الجزيرتين. أما إذا أنكرنا مصرية الجزيرتين فإن ذلك معناه شيء واحد، وهو أن جنودنا الذين استشهدوا في حرب يونيو ١٩٦٧، والتي تزيد أعدادهم عن العشرة آلاف شهيد، قد استشهدوا للدفاع عن أرض دولة أجنبية وليس عن أرضهم. فإذا صح ذلك، ألا يستتبع ذلك تقديم اعتذار واضح وصريح من الدولة لنا كشعب لأنه قد غُرر بنا وطلب منا التضحية بأغلى ما نملك ليس للدفاع عن أراضينا بل عن أراضي الغير؟

***

وبعد أن نشر قادة حرب يونيو مذكراتهم يمكن لنا الآن أن نقف على آليات اتخاذ القرار أثناء الحرب، وأن نكتشف مقدار التخبط والتضارب وعدم المهنية الذي لازم كل مرحلة من مراحل اتخاذ القرار، الأمر الذى أدى إلى النتيجة الكارثية التي نعلمها جيدا. كما يمكن الوقوف على مدى الاستهتار بحياة الجنود وعدم الاكتراث بتدريبهم أو تسليحهم أو حتى بإعاشتهم. فمذكرات اللواء عبد المنعم خليل، مثلا، توضح كيف تم إرسال قوات المظلات لشرم الشيخ، وكانت تقدر بعشرة آلاف جندي وضابط، دون التفكير جيدا في كيفية إمدادهم بالماء والأكل.

والأدهى والأمر، أن يعترف اللواء عبد المنعم خليل في حديثه لمنى سليم بأنه، وفي خضم الاضطراب والهرج الذين صاحبا عملية الانسحاب يوم ٦ يونيو، نسى أفراد الفصيلة التي كان قد أرسلها للدفاع عن تيران. وفي واحدة من أجمل وأروع لحظات التسجيل معه كاد اللواء عبد المنعم خليل أن يبكي وهو يسترجع هفوته الخطيرة التي أدت لأسر أفراد الفصيلة كلهم. وعندما سألته منى سليم عما إذا كان لديه ما يقوله لأفراد هذه الفصيلة الذين قبعوا في الأسر تسعة أشهر، قال إنه يود أن يعتذر لهم. أنا أعتبر ما قاله اللواء عبد المنعم خليل في هذا التسجيل من أجمل وأصدق ما قرأت عن حرب ١٩٦٧، فهذا قائد أُجبر على الانسحاب، وتحت ظروف قاسية نسى وراءه بعضا من جنوده. وبعد خمسين عاما بالتمام والكمال لا تزال تلك الواقعة تزعجه وتؤرق ضميره.

هذه الشجاعة الأدبية وهذا الاعتراف بخطئه وبتضحيات جنوده هو ما أهّل اللواء عبد المنعم خليل لأن يكمل سجله الحربي، وأن يتوجه بقيادة الجيش الثاني الميداني أثناء حرب أكتوبر. لكن يبدو أن هذه الشجاعة الأدبية، وذلك الإدراك للدور المحوري الذي لعبه إغلاق مضيق تيران في تأجيج الحرب التي راح ضحيتها أكثر من عشرة آلاف شهيد، وذلك الاعتراف بتضحيات الجنود لا يشاركه بعض القادة الآخرين ممن طلعوا علينا مؤخرا للتأكيد على سعودية الجزيرتين.

***

(٩) الإعلام المصري في حرب يونيو: جزء ١ من ٢

في كتاب “الصامتون يتكلمون” لسامي جوهر الصادر عام ١٩٧٥: يروي عبد اللطيف البغدادي أنه ذهب مع كمال الدين حسين وحسن إبراهيم إلى مقر غرفة العمليات يوم ٥ يونيو ١٩٦٧، ويقول: «كان كبار الضباط داخل الغرفة واقفين أمام الخرائط يحددون الموقف طبقا للتبليغات التي تصلهم. وكان عبد الحكيم عامر (نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة) في غرفة مكتبه بغرفة القيادة ومعه شمس بدران (وزير الحربية )والفريق أول علي علي عامر قائد القوات العربية المشتركة). وكان الوقت ظهرا. ودخلنا مكتب عبد الحكيم عامر، وكان يبدو عليه الارتباك. وسألته: «إيه الموقف يا عبد الحكيم؟ فأجاب: “زفت.” وسألته: “وما موقف الطيران؟” فأجاب بغيظ: “خسرنا أغلب طائراتنا. ضربوا كل المطارات في لحظة واحدة.” وسأله كمال الدين حسين: “وحاتعمل إيه من غير غطاء جوي لقواتك؟” فأجاب عبد الحكيم: “احنا عندنا خطة نحارب ٦ شهور من غير غطاء جوي.»

وبدأ عبد الحكيم يتلقى سير العميلات. وجلسنا أنا وكمال الدين حسين على أريكة في الغرفة نتابع ما يجري أمامنا. كانت الصورة تدل على فشل كامل. وبعد الظهر حضر جمال عبد الناصر، ودخل إلى مكتب عبد الحكيم عامر مباشرة، وبمجرد أن شاهدنا قال باسما: والله زمان يا سلاحي. وكان يبدو عليه الاطمئنان ممسكا بأعصابه، كان طبيعيا جدا. وجلس على كرسي في قمة المكتب بينما وقف شمس بدران خلف المشير عبد الحكيم عامر وجلس الفريق أول علي عامر في نهاية الغرفة. وبدأ عبد الناصر يوجه أسئلة لعبد الحكيم عامر، بدأها بسؤاله: «أد إيه خسرت طائرات؟» ورد عبد الحكيم: «مفيش بيان كامل لغاية دلوقت.» وبدأ الضيق يبدو على عبد الناصر وهو يقول: «يعني إيه؟ مش عارف أد إيه الخسائر؟» ورد عبد الحكيم بسرعة وبصوت من نفذ صبره: «عندنا ٧٣ طائرة فقط، منها ٢٨ صالحة للطيران وتسعة عايزين إصلاحات.» وسأله عبد الناصر «وإيه موقف بقية القوات؟» ورد عبد الحكيم: «كويس.» فأعاد عبد الناصر سؤاله: «يعني إيه كويس؟» وتظاهر عبد الحكيم بأنه لم يسمع سؤال عبد الناصر، وانهمك في قراءة ورقة قدمها له شمس بدران عن سير العمليات، وبعد أن انتهي من قراءتها ناولها لعبد الناصر.

وبدأ عبد الناصر يقرأ الورقة، وبدأت حالة القلق تنتابه … وبعد أن انتهى من قراءة الورقة وجه حديثه إلى عبد الحكيم قائلا: «الله يا عبد الحكيم؟ دي خان يونس سقطت، ورفح مقطوع الاتصال بها من الساعة التاسعة صباحا، وغزة تُهاجم. إيه الحكاية؟ عايز أعرف الموقف بالضبط علشان قرار مجلس الأمن الليلة.» ولم يرد عبد الحكيم، وتظاهر بانهماكه في أحاديث تليفونية … وصاح فيه عبد الناصر: «فضّي لي نفسك شوية يا عبد الحكيم.» ولم يرد عبد الحكيم واستمر في انهماكه بالحديث في التليفونات، فقام عبد الناصر والضيق باديا عليه ودخل إلى غرفة نوم ملحقة بالمكتب … (واستلقى) فوق السرير ينظر في سقف الغرفة … (ثم قال) «يا اللا نروح ونسيب عبد الحكيم يشتغل.» وعندما هممنا بالإنصراف توقف عند الباب واستدار إلى عبد الحكيم وقال له: «يا عبد الحكيم، طلّع حاجة للجرايد.» فرد عبد الحكيم متسائلا: «نقول أسقطنا مائتي طائرة؟» فقال عبد الناصر: «بلاش نقول نص العدد. نقول إننا توغلنا في الأراضي الإسرائيلية وسأجعل هيكل يكتب هذا البلاغ. البلاغ الأول في الساعة العاشرة والدقيقة ١٥ ونصه: «قامت إسرائيل في الساعة التاسعة من صباح اليوم بغارات جوية على القاهرة وعلى جميع أنحاء الجمهورية العربية المتحدة، وقد تصدت لها طائراتنا وأسلحتنا المضادة للطائرات.» البلاغ الثاني بعد ١٥ دقيقة: «أسقطت ٢٣ طائرة إسرائيلية حتى الآن في الغارات التي شنتها إسرائيل على الجمهورية العربية المتحدة صباح اليوم.» البلاغ الثالث بعد ٣٠ دقيقة وفي تمام الساعة الحادية عشرة ونصه: «ارتفع عدد الطائرات التي أسقطت حتى الآن ٤٢ طائرة». البلاغ الخامس في الساعة الحادية عشرة والدقيقة ٥٤ ظهرا يوم ٥ يونيو: «في التاسعة من صباح اليوم بدأ العدو الإسرائيلي هجوما بريا وجويا واسع النطاق على الجمهورية العربية المتحدة. ففي الجو قامت الطائرات الإسرائيلية بغارات على عدد من المطارات المصرية في منطقة سيناء ومنطقة القناة وعلى إحدى القواعد الجوية بالقرب من القاهرة. وفي البر شنت القوات الإسرائيلية هجمات متعددة على كل الجبهات، وهناك الآن هجمات على طول جبهة الحدود المصرية كما أن هناك هجوما على شرم الشيخ.

البلاغ السادس في الساعة الثانية عشرة وخمس دقائق من يوم ٥ يونيو: حاولت سفينة أمريكية ناقلة للبترول متجهة إلى السويس أن تقف بالعرض في القناة عند الكيلو ٤٠ لتعطيل الملاحة، وقد أرسلت لها قاطرة ولكنها وقفت بالعرض مرة أخرى وصدرت تعليمات بقطرها. كما حاولت إسرائيل ضرب ناقلة بترول فرنسية عند منطقة كبريت. البلاغ السابع: «تم استجواب أول أسير من طياري العدو الذين أسقطت طائراتهم خلال العميلات العدوانية التي قام بها العدو الإسرائيلي صباح اليوم. واسم الطيار هو الكابتن لافو مردخاي وعمره ٣٥ سنة … وقد أفاد في استجوابه أنه ووحدته تلقوا الأمر بالهجوم على الجمهورية العربية المتحدة في الساعة السادسة من صباح اليوم وكانت المهمة المحددة لوحدته هي الهجوم على مطار المرج بالجمهورية العربية المتحدة. ويظهر تماما أن العدو الإسرائيلي هو الذي بدأ بالهجوم المسلح على الجبهة العربية، والقيادة العليا للجمهورية العربية المتحدة تبعث الآن بتسجيل تليفزيوني إلى مجلس الأمن بشهادة أول الطيارين الإسرائيليين لكي يعرف العالم كله من الذي بدأ بالعدوان.

البلاغ الثامن في الساعة الواحدة وثماني دقائق: «تم أسر سبعة طيارين آخرين للعدو في منطقة القناة.» البلاغ التاسع في الساعة الواحدة وعشر دقائق: «ما تزال عملية الإغارة الجوية للعدو على المطارات مستمرة حتى الآن، وقد أصبح عدد الطائرات حتى هذه اللحظة سبعين طائرة. البلاغ العاشر في الساعة الثانية والدقيقة ٥٠: حدث اشتباك جوي بين طائرتين مصريتين من طراز ميج ٢١ وبين ثلاث طائرات إسرائيلية من طراز ميراج، وقد تم إسقاط الطائرات المعادية الثلاث وتم أسر اثنين من طياري الأعداء أحياء. البلاغ الحادي عشر في الساعة الثالثة والربع: «بدأ هجوم إسرائيلي على مواقع خان يونس بالدبابات والمشاة وما زالت قواتنا تشتبك معها وجميع مواقعنا هناك سليمة.»

البلاغ الثاني عشر في الساعة الرابعة والنصف: «قام العدو بمحاولة هجوم على قواتنا بالكونتيلا فحطمت قواتنا مدرعاته وأسلحته وأجبرته على الانسحاب». البلاغ الثالث عشر في الساعة الرابعة والدقيقة ٤٦: «تم ضرب العدو الذي يهاجم قواتنا في أبي عجيلة وتحطمت قواته المهاجمة. البلاغ الرابع عشر في الساعة الخامسة: اضطر العدو أن ينسحب من خان يونس بعد قتال عنيف وبعد أن تصدت له القوات الفلسطينية والأهالي الفلسطينيون داخل المدينة، وقد دمرت أعداد كبيرة من دبابات العدو قبل انسحابه.» البلاغ الخامس عشر في الساعة الخامسة والدقيقة ٥٣: «شنت قوات العدو الإسرائيلي ظهر اليوم هجمات رئيسية في اتجاهات الكونتيللا وأبي عجيلة وخان يونس، ولقد تحطمت هذه الهجمات الثلاث. ولقد وجه العدو هجومه بالمدرعات في منطقة الكونتيلا. وبلغت القوة المهاجمة ثلاثين دبابة خسر العدو معظمها عندما تحطم هجومه واضطر إلى التراجع. وهاجم العدو في منطقة أبي عجيلة وقامت قواتنا بهجوم فعال أرغمهم على التراجع بخسائر فادحة. وحاول العدو في هجوم مركز أن يتقدم في منطقة خان يونس ولكن القوات الفلسطينية لمنظمة التحرير الفلسطينية، وقوات المقاومة الشعبية الفلسطينية صدت هجوم العدو وطاردت بنجاح فلوله المتراجعة.»

البلاغ السادس عشر في السابعة والدقيقة عشرين: «تعرضت مطارات العريش والقنال والقاهرة لقذف جوي قامت به طائرات العدو، وقد تم إسقاط ١١ طائرة من طائرات العدو، وبذلك أصبح عدد الطائرات التي أسقطتها القوات المسلحة في الجمهورية العربية المتحدة ٨٦ طائرة. (ملحوظة: هنا تنبه البعض أن هناك خللا كارثيا، فمجموع عدد الطائرات التي ادعت البلاغات السابقة إسقاطها هو ٧٣ وليس ٨٦ طائرة.) وقبل أن يخلد الناس للنوم في نهاية هذا اليوم المشئوم صدر البلاغ السابع عشر في الساعة الحادية عشرة مساء وهذا نصه: توغلت قواتنا المدرعة بعد معارك عنيفة مساء اليوم في داخل الأراضي المحتلة من فلسطين، وذلك بعد أن تمكنت قواتنا من القضاء على هجوم للعدو على منطقة الكونتيلا قام به مستخدما لواء كاملا من المشاة ومجموعة كبيرة من الدبابات، وبعد أن تمكنت قواتنا من القضاء على هجوم العدو تسلمت زمام المبادرة وتوغلت في الأراضي التي يحتلها العدو من فلسطين.

(ملحوظة ثانية: هذه البلاغات لم تكن من تأليف أحمد سعيد، فهو في النهاية لم يكن سوى مذيع يقرأ ما يرد له من الجيش. ولست أدري من بالضبط الذي صاغ هذه البلاغات: هل كان هيكل، أم محمد محمد عبد الرحمن، السكرتير الصحفي للمشير عبد الحكيم عامر؟ ولكن الاحتمال الثاني مرفوض لأن الأخير كان قد احتجز في تمادة عند الأطراف الشرقية لمنطقة تمركز الفرقة الرابعة، شمال غربي نخل، ولم يستطع العودة إلى القاهرة سوى يوم ٧ يونيو وحينها بدأ مهمة إصدار البلاغات العسكرية.)

(١١): الهزيمة والتعذيب والمحاكمات العسكرية للمدنيين

في يوم ٧ يناير ١٩٦٨ صُدم المصريون بخبر في الصفحة الأولى من (الأهرام) يقول إن حسين عليش، وكيل إدارة المخابرات العامة، قد أحيل لمحكمة الثورة بسبب قيامه بتعذيب محامي اسمه الدكتور عبد المنعم الشرقاوي في قضية سياسية. وعندما أحالت المخابرات العامة هذه القضية السياسية لمحكمة عسكرية تبين للمحكمة العسكرية أن المحامي كان قد تعرض للتعذيب، وأن اعترافاته كانت وليدة ذلك التعذيب، فحكمت ببراءته. لذلك، وكما قالت (الأهرام)، فقد تقرر «إجراء تحقيق شامل في عملية التعذيب ذاتها وتقديم المسئولين عنها للمحاكمة أمام محكمة الثورة باعتبار أن الإقدام عليه جريمة ضد الثورة قبل أن تكون جريمة ضد الفرد الذي يتعرض لها

https://i1.wp.com/khaledfahmy.org/wp-content/uploads/2017/09/-٧-يناير-e1504972706827.jpg?resize=676%2C545الأهرام، ٧ يناير ١٩٦٨

أما سبب المفاجأة فهو أن المخابرات العامة كانت لها اليد الطولى في البلاد، فعلى مدار أكثر من عشر سنوات كان يتربع على رأس هذا الجهاز الخطير رجل مرهوب الجانب اسمه صلاح نصر كان يرتجف الناس من مجرد ذكر اسمه. وقد تولى صلاح نصر رئاسة المخابرات العامة منذ عام ١٩٥٧، وطوال عقد من الزمان عمل على تقوية الجهاز بتجنيد المئات من المخبرين السريين، وزيادة ميزانيته، وإقامة الشركات التجارية بالتعاون مع القوات المسلحة والمخابرات الحربية على أن يتقاسموا أرباح هذه الشركات دون تدخل من الجهاز المركزي للمحاسبات أو من أي جهة رقابية أخرى. ثم بدأ في التجسس على مئات، وآلاف، إن لم يكن الملايين من المواطنين المصريين، وابتزازهم بتشويه سمعتهم وتلفيق الاتهامات لهم وتعذيبهم للاعتراف بتهم لم يرتكبوها.

كان المصريون على كافة مشاربهم وانتماءاتهم على علم بهذه الممارسات البغيضة، ونشأ جيل كامل منهم في ظل هذا الخوف العميق من المخابرات ورجال المخابرات الذي أطلق عليهم لاحقا لفظ «زوار الفجر»، ولكن ونظرا لهذ الخوف لم يجرؤ أحد منهم على التعبير علنا عن هذه الممارسات المخزية حتى لا يناله أي مما يتهامس به الناس. لذا كان من الغريب بمكان أن يقرأ الناس خبر اتهام مسؤول كبير في هذا الجهاز الخطير، وأن يعلموا أنه قُدم لمحاكمة استثنائية اسمها (محكمة الثورة) كانت قد شكلت قبلها بأسابيع قليلة للنظر في قضية أكبر وأخطر من التعذيب بكثير، ألا وهي قضية التآمر ومحاولة قلب نظام الحكم. (التي سأتناولها في مقال قادم)

وما هي إلا أيام قليلة أخرى حتى قرأ المصريون خبرا آخر صادما في الصفحة الأولى من (أهرام) يوم ١١ يناير. العنوان الرئيسي في أهرام ذلك اليوم قال «وقف العمل بقانون الأحكام العسكرية لحين تعديله». أما الخبر نفسه فقال «علم مندوب الأهرام أنه قد صدر قرار بوقف العمل بقانون الأحكام العسكرية فيما يتعلق بالمدنيين والبدء فورا بتعديله.» وأضاف الخبر «وقد كشفت بعض الظروف الأخيرة — ومنها قضية الدكتور عبد المنعم الشرقاوي — أوضاعا خطيرة ترتبت على بعض مواد هذا القانون وعلى الظروف التي صدر فيها وعلى التجاوز في تطبيقه.»

https://i1.wp.com/khaledfahmy.org/wp-content/uploads/2017/09/الأهرام-١١-يناير.jpg?resize=711%2C389الأهرام، ١١ يناير ١٩٦٨

وما هو إلا أسبوع آخر حتى قرأ المصريون اسم صلاح نصر نفسه ضمن اسماء ٥٥ متهما قُدموا لمحكمة الثورة بتهمة التآمر للاستيلاء على السلطة، وتغيير نظام الحكم القائم بالقوة، والاستيلاء على قيادة الجيش. كان الناس يتابعون موضوع قضية الساعة، قضية محاولة الانقلاب التي قام بها بعض رجال القوات المسلحة المقربين من المشير عبد الحكيم عامر، وكانوا قد قرأوا طبعا خبر انتحار المشير قبلها بشهور أربعة (يوم ١٤ سبتمبر ١٩٦٧)، ولكن الجديد هو ورود اسم صلاح نصر ضمن قائمة المتهمين، إذ أن معنى ذلك أن المخابرات العامة كانت ضالعة في محاولة الانقلاب، وأن تلك المحاولة لم تكن قاصرة على القيادات العليا في القوات المسلحة.

https://i1.wp.com/khaledfahmy.org/wp-content/uploads/2017/09/الأهرام-١٨-يناير-1.jpg?resize=721%2C550الأهرام ١٨ يناير ١٩٦٨

وكأن هذه المفاجآت لم تكن كافية، نشرت (الأهرام) بعدها بعشرة أيام، أي في ٢٩ يناير ١٩٦٨، خبرا عن اتخاذ مجلس الوزراء عدة قرارات خطيرة كان من أهمها قرار وقف العمل بالقانون ٨٤ لسنة ٥٣ الذي كان يخول للشرطة العسكرية صفة الضبطية القضائية بالنسبة للمدنيين. وأضاف الخبر شارحا أن ذلك كان «تحقيقا لنفس الهدف الذي من أجله أوقف العمل بقانون الأحكام العسكرية بالنسبة للمدنيين.»

https://i0.wp.com/khaledfahmy.org/wp-content/uploads/2017/09/الأهرام-٢٩-يناير.jpg?resize=698%2C415الأهرام ٢٩ يناير ١٩٦٨

فما هو السر وراء هذا التحول الخطير في سلوك الدولة تجاه التعذيب؟ فالتعذيب، كما ذكرتُ سابقا، لم يكن وليد اللحظة بل كان ممنهجا ومتبعا على مدار عقد من الزمان، وكان أمره معروفا لدى الجميع من أصغر مواطن لرأس الدولة، أي جمال عبد الناصر شخصيا. فلِمَ أُطيح بصلاح نصر وقتها فقط، وليس قبل ذلك؟ ولم قُدم للمحاكمة سنة ٦٨ بسبب تعذيب مواطن اسمه عبد المنعم الشرقاوي وليس بسبب تعذيب وقتل المئات من المواطنين الشرفاء قبله؟ وما علاقة التعذيب بالمحاكمات العسكرية، وبقانون الأحكام العسكرية، وبالضبطية القضائية التي أعطاها قانون صدر عام ٥٣ للشرطة العسكرية، وبالنيابة العسكرية التي أعطاها نفس القانون سلطة حبس المواطنين المدنيين بدون قيد؟

وكما سنرى، فإن الإجابة على تلك الأسئلة توضح خطورة تقديم المدنيين للمحاكمات العسكرية، وخطورة تخويل الشرطة العسكرية سلطة الضبطية القضائية بالنسبة للمدنيين، وخطورة غياب الرقابة الشعبية على أجهزة الأمن. وأقصد بـ”خطورة” هنا الخطورة ليس فقط على أمن المواطنين وحريتهم الشخصية، بل أيضا على استقرار البلاد وأمنها القومي.

https://i1.wp.com/khaledfahmy.org/wp-content/uploads/2017/09/1212122-01.jpg?resize=687%2C207

قد يتبادر للذهن أن السبب وراء تفجير هذه القضية والإطاحة بمن بُدء بالإشارة لهم كـ«مراكز القوة» هو أهمية الضحية في تلك الواقعة تحديدا. على أن قضية تعذيب عبد المنعم الشرقاوي لم يكن بها أي صفة خاصة تميزها عن آلاف القضايا الأخرى التي راح فيها مواطنون مصريون شرفاء ضحايا السلطة المنفلتة عقالها. فعبد المنعم الشرقاوي كان محاميا فتح مكتب محاماة بالكويت، وأثناء عمله هناك كون ثروة صغيرة، وكان تواقا لتحويل مدخراته لأهله في مصر، وكان يشجع الماليين في الكويت على الاستثمار في مصر. على أن هيئة الأمن القومي في المخابرات العامة كان لها رأي آخر في عبد المنعم الشرقاوي، فقد اتهمته في يونيو ١٩٦٦ بإذاعة أخبار وبيانات وإشاعات كاذبة حول الأوضاع الداخلية في البلاد ، وأنه كان يباشر نشاطا في الخارج من شأنه الإضرار بالمصالح القومية للبلاد في زمن الحرب.

https://i2.wp.com/khaledfahmy.org/wp-content/uploads/2017/09/عيد-المنعم-الشرقاوي.jpg?resize=362%2C510

عبد المنعم الشرقاوي

وبناء على هذه الاتهامات ما لبثت إدارة المخابرات أن قبضت على الدكتور الشرقاوي في ١٣ يوليو ١٩٦٦ وظل محتجزا لمدة ١٨ شهر حتى قدم لمحكمة عسكرية لمحاكمته بناء على قانون الأحكام العسكرية الذي صاغه عبد الحكيم عامر والذى أصدره مجلس الأمة في ٢٣ مايو ١٩٦٦. على أن الرياح لا تأتي دائما بما تشتهي سفن المخابرات، فالمحكمة شهدت واقعتين أدتا في النهاية للحكم ببراءة المحامي عبد المنعم الشرقاوي وإظهار مدى فساد إدارة المخابرات العامة برئاسة صلاح نصر.

أما الواقعة الأولى فكانت تعرُّف عبد المنعم الشرقاوى أثناء انقياده لقاعة المحكمة على أحد الجنود الذين كانوا يحرسونه أثناء احتجازه والتحقيق معه وتعذيبه، وطالب باستدعاء هذا الجندي، واسمه محمد نصر، واستجوابه عن حقيقة ما رآه من واقعة التعذيب، وهو الأمر الذي استجابت له المحكمة. وعند استجواب المحكمة العسكرية له، أكد الجندي واقعة التعذيب. أما الواقعة الأخرى فكانت أن وكيل النيابة العسكرية الذي باشر التحقيق مع عبد المنعم الشرقاوي المحامي، واسمه سمير ناجي، اعترف أمام المحكمة أن المتهم كان قد أُحضر له وهو معصوب العينين، وأنه كان يشكو من التعذيب، وأنه توسل له أن يأمر بإيقاف التعذيب قائلا إنه يفضل الموت على التعذيب. وبناء على هذه الأقوال والشهادات حكمت المحكمة العسكرية في يوم ٢٦ ديسمبر ١٩٦٧ ببراءة الدكتور عبد المنعم الشرقاوي، وأفرج عنه في اليوم التالي.

***

في تحقيق غير موقع نشرته الأهرام في ٨ يناير ١٩٦٨، أي بعد يوم واحد من نشر خبر تعليق العمل بقانون الأحكام العسكرية، في محاولة منها لتفسير أهمية هذه القضية وتمهيد الطريق للرأي العام لتقبل ما هو آت قالت (الأهرام): «إننا لا يمكن أن نتصور أنه كان ثمة عداء شخصي بين الدكتور الشرقاوي وبين الذين قاموا باتهامه وحمله على الاعتراف بأمور لم يرتكبها. ولو أن الأمر اقتصر على ذلك لكانت هذه الحادثة مجرد حادثة من حوادث الانحراف الفردية التي يمكن أن تقع في أي دولة وفي أي جهاز. ولكن هذا الانحراف مرتبط في الواقع بطبيعة جهاز المخابرات حينما يتسلط على القائمين عليه طلب السلطة والرغبة في الاحتفاظ بها، وحينما يجدون أن خير وسيلة إلى ذلك هي إثبات وجودهم ومدى حاجة الدولة إلى خدماتهم. ومع تشعب اختصاصات هذا الجهاز وتغلغلها في جميع النواحي فتتسلط الروح البوليسية عليه ويندفع إلى التشكيك وإلى الاتهام وإلى تنصيب نفسه حارسا على المجتمع، ويتحول إلى دولة لها سلطانها ونفوذها ونظرتها الخاصة للأمور وإلى الأشخاص. وهو يجد دائما تبريرا لانحرافه في الدفاع عن أمن الدولة والمجتمع.»

https://i2.wp.com/khaledfahmy.org/wp-content/uploads/2017/09/الأهرام-٨-يناير-١٩٦٨.jpg?resize=688%2C912الأهرام، ٨ يناير ١٩٦٨

وإن كنا نرى في هذا التحقيق الهام أسلوب هيكل المميز، فيجب ألا نغفل حقيقة إدراك عبد الناصر نفسه لخطورة الوضع، ولكون النظام الذي أرسى هو قواعده يعتريه خلل هيكلي. ففي خطابه العام يوم ٢٣ نوفمبر ١٩٦٧ الذي حاول فيه شرح ملابسات وأسباب الهزيمة الثقيلة التي مني بها الجيش قبلها بخمسة أشهر، وللوضع الخطير الذي وجدت البلاد نفسها فيه بعد محاولة الانقلاب، كاد أن يعترف بأن ما حدث في إدارة المخابرات وانكشاف دور صلاح نصر في مؤامرة الانقلاب علامة على فساد النظام من «ساسه لراسه». على أن اعترافا كهذا كان من شأنه أن يدينه هو نفسه، وهو الأمر الذى كان يجتهد في نفيه منذ وقعت الواقعة يوم ٥ يونيو وفي إلقاء اللائمة على بعض العناصر الفاسدة.

وقبل أن نستمع للمقطع المعني من هذا الخطاب (الخطاب كله استغرق أكثر من ساعتين ونصف)، يجدر التنويه إلى دلالة الاسم الذي تقرر استخدامه للإشارة لما حدث في إدارة المخابرات. فالإسم الرسمي للقضية التي حوكم بها صلاح نصر لم يكن «قضية فساد المخابرات العامة» بل «قضية انحراف المخابرات العامة»، وكأنه كان من الضروري التأكيد على أن ما كان يشهده هذه الجهاز الخطير ليس فسادا مؤسسيا يشير بدوره إلى فساد النظام برمته، بل مجرد انحراف بعض أفراده الذين «تسلطت عليهم نوازع طلب السلطة والرغبة في الاحتفاظ بها.» حسب كلام هيكل التبريري.

في هذا المقطع الدال من واحد من أهم خطب عبد الناصر يعترف فيه زعيم الأمة بخطورة «انحراف» جهاز المخابرات العامة؛ ويقول إنه كان يعلم بأن الناس تتساءل «إزاي انت ما كنتش عارف؟ إزاي الريس ما كنش عارف بالجاري وبهذه الانحرافات؟ وأنا بقول إن النهارده فرصة إن أنا أرد على هذه التساؤلات … إذا كانت الانحرافات حصلت في المخابرات، وإذا كانت المخابرات المفروض إنها تقول لي على الانحرافات اللي تحصل في البلد، ما كنش ناقص غير إني أعمل مخابرات على المخابرات، وأعمل مخابرات على جهاز رقابة المخابرات، وهكذا لا ننتهي. ولكن أنا بقول إن اللي حصل برضه كان نتيجة الاتجاه نحو مراكز القوة، والاتجاه نحو خلق مجموعة تستطيع أنها تحكم ونسيت نفسها فانحرفت وموصلتش، قبل ما توصل للهدف اللي هو الحكم. وجدت إن سهل الانحرافات فانحرفت … أنا بأقول لكم بصراحة إن أنا كنت أري بعض مظاهر هذه الانحرافات قبل ٥ يونيو ولكني لم أكن أتصور مداه. حاولت بكل ما أستطيع، نجحت أحيانا ولم أر الحقيقة كلها في أحيان أخرى. وأنا فعلا كنت أشفق على البلد من تكتلات القوى ومراكز القوى، وكان حديثي دائما أمام انتخابات الرياسة وبعد كده عندكم هنا [أي في مجلس الأمة] ومرة جيت لكم وقلت لكم نعمل حزب أو نعمل حزبين … وكان حديثي عن الديمقراطية والمزيد من الديمقراطية، لأن دا كان السبيل الوحيد إن احنا نغطي على الانحرافات … أنا أيضا مرة اتكلمت معاكم على أساس إن احنا في حاجة لمجتمع مفتوح . لكن طبعا بتوع المخابرات كانت وسائل الإخفاء [عندهم] مباحة. بالنسبة لدولة المخابرات اللي وُجدت واللي تغلغلت واللي انحرفت أنا باعتبر أن هذه الدولة سقطت.»

ما يقوله عبد الناصر هنا في غاية الأهمية، إذ أنه يقر ويعترف بأنه كان يدرك وجود فساد في المخابرات، ولكنه يدعي بأنه لم يكن يعي المدى الذي وصل إليه هذا الفساد. ثم هو يعترف بأن الدولة التي أنشأها كانت تفتقر لآلية تحد من فساد أجهزتها الرقابية (أو ما نسميه الآن الأجهزة السيادية”)، فإذا كان جهاز المخابرات من المفروض أن يكشف الفساد، ماذا عساه يفعل إذا كان هذا الجهاز نفسه فاسدا؟

***

Quis custodiet ipsos custodes?

هذا بيت شعر لاتيني معناه «من يحرس الحراس؟» هذا سؤال أزلي ويرجع حتى لما قبل الرومان. أفلاطون في جزء كبير من جمهوريته كان يطرح هذا السؤال، والفكر السياسي الغربي، والإسلامي، طرح هذا السؤال بأشكال مختلفة. وهو سؤال طرحته أنا هنا علي مدونتي في إشارة للمأزق الذي يجد السيسي فيه نفسه الآن. وعودة لخطاب عبد الناصر، ما نراه هنا هو أن عبد الناصر اكتشف أن دولته لا يوجد لديها جواب علي هذا السؤال فكما اعترف هو نفسه تكمن الإجابة الوحيدة في الديمقراطية، أي تفعيل الأدوات التي يمكن بها للشعب أن يقوم بدور الرقابة المحوري الذي بدونه سينتشر الفساد في جسم الدولة.

ولكن بالرغم من إدراكه لضرورة إقامة الديمقراطية كان يعلم أن النظام الذي أنشأه عام ١٩٥٤ كان سيؤدي إلى وضع تستطيع فيه دولة المخابرات استغلال أي انفراجة ديمقراطية قد تحدث. وبالتالي كان عليه أن يقضي على هذه الدولة أولا، وكأنه كان يقول «النظام يريد إسقاط دولة المخابرات.» أما لماذا لم يشرع عبد الناصر في إقامة حياة ديمقراطية بعد قضائه على دولة المخابرات، ولماذا جاء بيان ٣٠ مارس عام ١٩٦٨ بالهُزال التي جاء به، وفشل في تحقيق ديمقراطية حقيقية، فلذلك الموضوع مقال آخر. أما ما يجب توضيحه هنا هو علاقة فساد المخابرات الذي كان من أهم علاماته استشراء التعذيب على أيدي «زوار الفجر» — علاقة هذا الفساد بقانون الأحكام العسكرية، وبتخويل الشرطة العسكرية سلطة الضبطية القضائية بالنسبة للمدنيين.

ولتوضيح ذلك يجب الرجوع لتفاصيل قضية الدكتور الشرقاوي، فهذه القضية هي التي لفتت أنظار المسؤولين لعلاقة التعذيب كعلامة من علامات فساد المخابرات بفساد قانون الأحكام العسكرية وضرورة تعديله. فالدكتور الشرقاوي لم يكن عسكريا، ولكنه قُدم لمحاكمة عسكرية. وإن كانت المحكمة العسكرية قد برأته فإن قضيته أظهرت مشكلتين لولاهما لما مثل الدكتور الشرقاوي أمام المحكمة أصلا. أما المشكلة الأولى فكانت فساد جهاز المخابرات وتفشي التعذيب فيه كممارسة منهجية. ولا داعي للإفاضة في شرح هذه النقطة فيكفي ما سبق قوله. أما المشكلة الثانية فهي الثغرة القانونية التي سمحت لمدني مثل الدكتور الشرقاوي أن يمثُل أمام محكمة عسكرية دون ارتكابه جرم يمس كيان المؤسسة العسكرية.

تمثلت هذه الثغرة في قانون الأحكام العسكرية الذي صدر في ٢٢ مايو ١٩٦٦. هذا القانون كان واحدا من سلسلة من القوانين التي دفع بها عبد الحكيم عامر وأراد بها توسيع قاعدته في الدولة وتحويل الجيش الذي سيطر عليه لـ«دولة داخل الدولة»، كما انتشر وقتها وأشيع.

***

في مقال للدكتور جمال العطيفي نُشر في الأهرام بتاريخ ١٢ يناير ١٩٦٨ توضيح لأوجه الخلل في هذه القانون الذي سمح بمقاضاة المدنيين أمام القضاء العسكري.

https://i1.wp.com/khaledfahmy.org/wp-content/uploads/2017/09/جمال-العطيفي-١٩-فبراير-١٩٧٤.jpg?resize=541%2C600ججمال العطيفي عندما كان وكيل مجلس الشعب يقلد حسني مبارك وساما تكريما له على دوره في حرب أكتوبر، ١٩ فبراير ١٩٧٤

في مقاله الهام يقول العطيفي إن قانون الأحكام العسكرية الصادر عام ١٩٦٦ كان ضروريا لتلافي أخطاء القانون السابق عليه، وهو قانون صدر عام ١٨٩٣. ولكن بالرغم من ضرورة إصدار قانون جديد إلا أن قانون ١٩٦٦ حمل الكثير من العيوب التي أصابت منظومة العدالة برمتها، وليس فقط حقوق مواطن مثل الدكتور عبد المنعم الشرقاوي. يقول الدكتور العطيفي إن قانون الأحكام العسكرية كانت تكتنفه ثلاثة عيوب رئيسية. أول هذه العيوب هو انتهاكه لمبدأ تجانس القضاء، فتاريخ القضاء المصري الحديث ينم عن اتجاه نحو توحيد جهات القضاء والتخلص من التعددية القضائية التي كانت تشهد تواجد قضاء أهلى بجانب قضاء شرعي بجانب قضاء مختلط.

ويضيف العطيفي إن ثورة ١٩٥٢ أحسنت صنعا عندما ألغت القضاء الشرعي عام ١٩٥٥ وأوجدت دوائر أحوال شخصية داخل المحاكم العادية في خطوة مهمة نحو توحيد القضاء، ولكن إذ بقانون الأحكام العسكرية يضيف قضاءا عسكريا إلى القضاء العادي. لذا طالب بأن تندرج المحاكم العسكرية تحت لواء القضاء الموحد، على أن تنشأ محكمة عليا تشرف على حسن تطبيق القانون وتفسيره (وهو ما حدث بالفعل بإنشاء المحكمة العليا التي سميت لاحقا بالمحكمة الدستورية العليا). أما قانون ١٩٦٦ فليس فيه ما يضمن نشر أحكام المحاكم العسكرية حتي يمكن مناقشة أسبابها والتعليق عليها ومراجعة ما تتضمنه من مبادئ قانونية. بل الأخطر، حسبما أفاد الدكتور العطيفي، فإن هذه المحاكم العسكرية تنفرد في ظل قانونها الحالي بتقدير ما يدخل من جرائم في اختصاصها. وأضاف «لو افترضنا أن محكمة عسكرية تجاوزت اختصاصها المنصوص عليه في القانون أو أخطأت في تقدير حدود هذا الاختصاص ورأت مثلا أنها مختصة في نظر جريمة قتل عادية … أو غيرها من الجرائم التي لا جدال في اختصاص المحاكم العادية بها فإن المحاكم العادية لا تملك مجادلتها في ذلك.» وخلص جمال العطيفي في تعرضه لهذه النقطة إلى القول إن المحاكم العسكرية أصبحت «في نظر هذا القانون وكأنها المحاكم الأصلية بينما غدت المحاكم العادية وكأنها محاكم استثنائية.»

أما ثاني العيوب التي كانت تعتور قانون الأحكام العسكرية الصادر عام ١٩٦٦ فهو انتهاك مبدأ استقلال القضاء. هنا يؤكد الدكتور العطيفي إن ما يقصده ليس ذلك التعريف الضيق لمصطلح استقلال القضاء، حيث يعني أن يُنظر للقضاء كسلطة مستقلة أو ينظر لهذا الاستقلال من زاوية كرامة القضاء، بل ما يعنيه هو ألا يُحاكم الشخص إلا أمام قاضيه الطبيعي، وإلا يسلب من القضاء الطبيعي اختصاصه. ويوضح العطيفي مقصده قائلا «إن هذا الاستقلال يعني المواطن قبل أن يعني القضاء ذاته، فهو ليس ولا يجب أن يُنظر له على أنه ميزة أو حصانة خاصة للقضاء، بل أنه ميزة وحصانة للمواطن.» ويقدم جمال العطيفي مثالا لتوضيح رأيه بخصوص خطورة القانون على مبدأ استقلال القضاء فيقول «إن القانون يجعل المحاكم العسكرية مختصة بجميع الجرائم التي يرتكبها الأشخاص الخاضعون لأحكامه متي وقعت هذه الجرائم بشأن تأدية وظائفهم … ومعنى هذا أن موظف الأرشيف بوزارة الحربية إذا ضرب حماته مثلا اختصت المحاكم العسكرية وجوبيا بقضيته.»

أما ثالث العيوب فكان غياب الضمانات الكافية التي يقدمها قانون الأحكام العسكرية لمحاكمة عادلة. والمقصود هنا حماية حريات المواطنين وأمنهم. فمقارنة بسلطة الحبس المقيدة في القضاء العادي والتي لا تسمح للنيابة باحتجاز متهم بالقتل إلا لمدة خمسة وأربعين يوما، وإلا عُرضت القضية على جهة تحقيق أعلى، يتيح قانون الأحكام العسكرية للقضاء العسكري أن يحتجز مواطنا لمدد غير مقيدة وأن يحرمه من حريته بشكل تعسفي. ويشرح العطيفي قائلا «أما إذا اتهم مدير شؤون العاملين بإحدى المؤسسات مثلا بأنه استخدم شخصا دون أن يقدم الشهادة الدالة على أداء الخدمة العسكرية أو الإعفاء منها، فإنه يحاكم أمام المحكمة العسكرية ومتى تقرر ذلك فإنه يجوز حبس المتهم احتياطيا، ولم يحدد القانون أقصى مدة لهذا الحبس الاحتياطي، كما أنه لم يحدد جهة للتظلم أمامها، فكأنه في الواقع لا يوجد أي ضمان للمواطن.»

***

لم يشر جمال العطيفي في مقاله الهام بشكل مباشر لقضية الدكتور عبد المنعم الشرقاوي، ولكن المتصفح للجرائد والمجلات والمتابع لخطب عبد الناصر في الشهور والأسابيع التالية لهزيمة يونيو يدرك أن الدولة نفسها كانت بدأت في التنبه لحقيقة أن للهزيمة القاسية أسبابا هيكلية وغير عسكرية. فعبد الناصر نفسه يشير لوجود “انحراف” في جهاز مهمته كشف الانحرافات في الدولة، كما يعترف بأن هذا الانحراف وصل لأن يشترك رئيس هذا الجهاز في محاولة قلب نظام الحكم. ثم هناك الاعتراف بأن انحرافات هذا الجهاز، وإن كان بعضا من أسبابه يرجع لفساد الذمم وانحراف بعض الرؤساء، إلا أنه كانت هناك أيضا أسباب هيكلية بل قانونية، منها الثغرات الكامنة في قانون الأحكام العسكرية التي سمحت لهذا الجهاز الفاسد أن يقدم مدنيين لمحاكمات تنعدم فيها أبسط وأهم ضمانات المحاكمات العادلة.

ثم هناك أخير الاعترف المبطن من رأس الدولة أن خير ضمان لمحاربة الفساد، أو الانحراف، هو الديمقراطية. كل هذه الشواهد تدل على أن الشهور التالية للهزيمة وحتى فبراير – مارس ١٩٦٨ كان هناك إدراك متزايد بأن الهزيمة كانت لها أسباب هيكلية كامنة داخل النظام السياسي برمته، وليس فقط في المؤسسة العسكرية، بل يمكن القول إن عبد الناصر نفسه كان يدرك أن «الانحراف» وغياب الديمقراطية كانا من أهم العوامل التي أدت للهزيمة، فهو كان يعرف أن المخابرات كانت تتجسس على المواطنين وتعذبهم بدلا من أن تتجسس على العدو وتتعرف على نواياه، وأن هذا الانحراف في جهاز المخابرات كان سببه عدم وجود آلية ديمقراطية يمكن أن تراقب هذا الجهاز الحساس، وأن القوانين المنظمة للمؤسسة العسكرية كانت هي الأخرى ضالعة في هذا الخلل المؤسسي.

***

ومن المؤسف حقا أن نجد أنفسنا بعد خمسين سنة من هزيمة يونيو الثقيلة، وبعد ست سنوات من ثورة شعبية سلمية حاولت بجدية أن تنقذ هذه الدولة الفاسدة من الانهيار، من المؤسف أن نجد أنفسنا خاضعين لنظام يحاكي بدقة يحسد عليها كل السياسات والتدابير التي أدت بنا إلى واحدة من أفجع المصائب التي منينا بها في العصر الحديث.

(١٢) السردية الإسرائيلية:
يسمونها حرب الأيام الستة، في إشارة للسرعة الخاطفة التي حققوا بها انتصارهم، وفي إحالة للرواية التوراتية التي تقول بخلق العالم في ستة أيام ارتاح الرب بعدها وقدس اليوم السابع. هذه الإحالة التوراتية التي تشيد بانتصار جيش “الدفاع” على أعدائه مجتمعين تحمل الإشادة بالعناية الإلهية والتلميح بأن هذا الانتصار لم يكن ليتم دون مباركة الرب ومشيئته، بقدر ما تحمل تقديس جيش “الدفاع” وغطرسة القوة العسكرية.

مايو ٦٧ وشبح الهولوكوست:
منذ أن ازدادت حدة المواجهات العسكرية على الحدود السورية-الإسرائيلية طوال النصف الأول من عام ١٩٦٧ كان الإسرائيليون يستمعون لتصريحات القادة العرب تحذرهم وتتوعدهم. بدأت هذه التصريحات في منتصف مايو باستنكار التهديدات الإسرائيلية لسوريا، ثم تطورت للتصميم على مواجهة هذه التهديدات عسكريا، إذا أقدمت إسرائيل على غزو سوريا، ثم ركزت على وحدة الصف العربي (بحلول يوم ٢٠ مايو أعلنت كل من لبنان والعراق والجزائر والكويت والسعودية استعداد قواتهم المسلحة لنصرة سوريا إذا تعرضت الأخيرة لاعتداء إسرائيلي)، ثم وصلت تلك التصريحات للذروة في الأيام القليلة السابقة على اندلاع الحرب بالتوعد بهزيمة إسرائيل إذا أقدمت على مهاجمة سوريا.

https://i0.wp.com/khaledfahmy.org/wp-content/uploads/2018/12/إسرائيل-المهددة.jpg?resize=456%2C349

كتيب أصدرته وزارة الإعلام الإسرائيلية عشية الحرب يتضمن كاريكاتيرات وصورا من الصحافة العربية اعتبرتها إسرائيل معادية للسامية

كان الإسرائيليون يستمعون لأخبار الحشود العسكرية العربية على الحدود، وكانت هذه الأخبار تزيد من شعورهم بالخطر، فالأمر الآن تعدى الخطب العنترية بل تحول لحشد للقوات وتحريك للجيوش. فإعلان التعبئة العامة في مصر يوم ١٤ مايو، حينما شوهدت الأرتال العسكرية وهي تجوب شوارع القاهرة في طريقها للجبهة، لم يكن أمرا سريا بل كان استعراضا عسكريا علنيا تناقلته وكالات الأنباء وكان هدفه الواضح بث الرعب في قلوب الإسرائيليين.

https://i0.wp.com/khaledfahmy.org/wp-content/uploads/2018/12/١٥-مايو-العرض-العسكري.jpeg?resize=296%2C232https://i1.wp.com/khaledfahmy.org/wp-content/uploads/2018/12/١٥-مايو-العرض-العسكري-٢.jpeg?resize=331%2C231

ومما زاد من جزع المجتمع الإسرائيلي ما أعقب قرار التعبئة من إجراءات اتخذتها مصر. ففي يوم ١٦ مايو علم الإسرائيليون بقرار مصر طرد قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وما هي إلا بضعة أيام أخرى (يوم ٢٢ مايو) حتي استمعوا لعبد الناصر يعلن إغلاق مضيق العقبة أمام الملاحة الإسرائيلية ويقول لهم «بيهددوا بالحرب اليهود. بنقول لهم أهلا وسهلا! إحنا مستعدين للحرب، قواتنا المسلحة وشعبنا وكلنا مستعدين للحرب.»

وفي يوم ٢٦ مايو أضاف: «إسرائيل إذا بدأت بأي عمل عدواني ضد سوريا أو ضد مصر فهتكون المعركة ضد إسرائيل معركة شاملة، ما هياش معركة محصورة في حتة قدام سوريا، أو محصورة في حتة قدام مصر، المعركة هتكون معركة شاملة، وهيكون هدفنا الأساسي هو تدمير إسرائيل.» ووصلت ذروة لهجة التهديد لإسرائيل في خطاب عبد الناصر يوم ٢٨ مايو حين قال في إجابته على أحد الأسئلة الصحفية إن الفلسطينيين «لهم الحق الكامل في أن يباشروا بنفسهم حرب التحرير ليستعيدوا حقوقهم في بلدهم، [و] إذا تطورت الأمور إلى صراع شامل في الشرق الأوسط، فنحن على استعداد لهذا الصراع.» وفي إجابة على سؤال آخر قال: «لا نقبل أي أسلوب للتعايش مع إسرائيل.»

وكان عبد الناصر قد بدأ المؤتمر الصحفي بكلمة أوضح فيها رؤيته لسبب الأزمة الراهنة، فقال إن الموضوع لا يتعلق بقرار إغلاق المضيق، بقدر ما يتعلق بوجود إسرائيل في حد ذاته: «تلك هي مشكلة العدوان الذي وقع وما يزال وقوعه مستمراً على وطن من أوطان شعوب الأمة العربية في فلسطين، وما يعنيه ذلك من تهديد قائم باستمرار ضد أوطانها جميعاً، هذه هي المشكلة الأصلية.» استمع الإسرائيليون لهذه الخطب، وما وصلهم لم يكن التحليل التاريخي أو القانوني الذي قدمه عبد الناصر، بل فضلوا أن يفهموا كلام عبد الناصر على أنه تهديد بإبادتهم. ثم وصلتهم أخبار تقول إن الملك حسين، ملك الأردن، الذي كان عدو عبد الناصر اللدود، طار بنفسه للقاهرة يوم ٣٠ مايو واجتمع بعبد الناصر ووقع معه اتفاقية دفاع مشترك، وزاد بأن وضع كل جيشه تحت إمرة قادة مصريين. وبعدها بيومين سمح الأردن للعراق بدخول قوات عراقية لأراضيه في طريقها للجبهة حتى تشترك في المعركة المرتقبة ضد إسرائيل.

وبذا وعلى مدار الثلاثة أسابيع السابقة على اندلاع الحرب، ومنذ تفجر الأزمة يوم ١٤ مايو بقرار حشد القوات المصرية والزج بهم لسيناء، اعتقد الإسرائيليون أنهم أمام خطر وجودي، وأنهم يواجهون تهديدا يماثل الهولوكوست، وأن بقاء الدولة نفسه وبقاءهم أنفسهم أصبح محل شك. وحتى هؤلاء الذين آمنوا باستطاعة الجيش الدفاع عن دولتهم كانوا متوجسين من الأضرار التي ستسببها تلك الحرب، فقال البعض إن الحرب سوف تستمر لأسابيع طويلة وأنها ستتسبب بأضرار بالغة على الاقتصاد. أما عن تقديرات عدد القتلى فالبعض قال إن الحرب ستكلفهم عشرة آلاف قتيل، بينما قدر يهوشوفاط هركابي، الذي كان رئيس المخابرات العسكرية في أواخر الخمسينات، أن عدد القتلى قد يصل لمئة ألف قتيل. كما انتشرت إشاعات بأن مصر لديها سلاح سري سيستخدمه عبد الناصر عند الحاجة، وأن الجيش المصري سيستخدم الغاز السام مثلما فعل في اليمن.

قدس الذهب:
وبالتالي فإن نتائج الحرب كانت مدهشة للإسرائيليين بقدر ما كانت الهزيمة صادمة للعرب. فعندما سكتت المدافع يوم ١١ يونيو بدأ الإسرائيليون يستوعبون حقيقة أن جيشهم قد تمكن بالفعل من الحرب على ثلاث جبهات، ومن إيقاع هزيمة منكرة بالجيوش العربية مجتمعة، ومن مضاعفة مساحة إسرائيل خمس مرات، وكل ذلك في ستة أيام.

https://i1.wp.com/khaledfahmy.org/wp-content/uploads/2018/12/Six_Day_War_Territories-ar.png?resize=440%2C660

الأراضي التي احتلتها إسرائيل في الحرب

هناك من أخذته نشوة النصر السريع وعزاه لمشيئة الرب ومباركته، وكان هذا نذيرا بالصعود المذهل لليمين الديني المتطرف. وهناك من انتبه لمعنى احتلال أراض يقطنها ملايين الفلسطينيين، ومن تحول إسرائيل من دولة وليدة مهددة إلى قوة عظمى إقليمية تتحكم في حياة أكثر من مليون ونصف فلسطيني وتخضعهم لسلطات الاحتلال. وكان هذا بمثابة البداية الجنينية لحركة السلام الإسرائيلية. ثم أخيرا كان هناك تيار ثالث، أي الواقعيون الذين أدركوا معنى المستجدات التي أوجدتها الحرب وعملوا على ترسيخها وتعظيم نتائجها مُنحّين جانبا الأسئلة الدينية والأخلاقية التي طرحتها الحرب. وقبل الخوض في هذه التحولات العميقة في فهم الإسرائيليين لأنفسهم ولدولتهم ولعقيدتهم الصهيونية قد يكون من المفيد التوقف عند أغنية تعود لنفس الفترة التي نحن بصددها، أي مايو-يونيو ١٩٦٧، حتى نقف على الواقع الملتبس والمربك الذي أحدثته الحرب ليس فقط للطرف المهزوم بل أيضا للطرف المنتصر.

هذه الأغنية هي أغنية «قدس الذهب»، أو «يروشاليْم شِل زهاف» بالعبرية، التي ترتبط ارتباطا وثيقا بحرب ١٩٦٧ والتي تحتل مكانة متميزة في الذاكرة الجمعية الإسرائيلية تصل لاعتبارها النشيد الوطني غير الرسمي لدولة إسرائيل. يعود تاريخ هذه الأغنية لأيام قليلة قبل اندلاع الحرب، فاستعدادا للذكرى التاسعة عشرة لإنشاء الدولة كلف تيدي كوليك، رئيس بلدية القدس (الغربية) الشاعرة نعومي شيمر بكتابة قصيدة تتغنى فيها بالقدس وشجعها على التقدم بها لمهرجان فني كان كوليك يرعاه.

وبالفعل كتبت شيمر القصيدة ولحنتها بنفسها، وعهدت بها لمغنية مغمورة (ذاعت شهرتها بعد ذلك نتيجة لهذه الأغنية) اسمها شولي ناتان لتغنيها في المهرجان، مهرجان المغنى والجوقة، الذي عقد يوم ١٥ مايو ١٩٦٧. وما أن غنتها شولي ناتان حتى شاعت الأغنية وكأنها لمست وترا حساسا عند الجمهور الإسرائيلي. فاللحن عذب، والكلمات تردد معانٍ صهيونية استبطنها المجتمع الإسرائيلي وآمن بها دون تساؤل أو مراجعة، شأنها شأن الكثير من مفردات الخطاب الصهيوني.

تقول كلمات الأغنية:

نسيم الجبال ينساب شفّافًا كالنبيذ
ممتزجًا بأنفاس الغروب ورائحة الصنوبر
وقرع الأجراس
في سكون الشجر والحجر
سكنت حُلمها المدينة التي تقبع وحيدة
ملتفة بأسوارها
أورشليم من ذهب .. ومن نحاس ومن نور ..

لكل أغانيك أنا قيثارة

***

كيف نضبت آبار الماء في البلدة القديمة
ميدان السوق خالٍ
وما من زائر لجبل الهيكل
وفي الكهوف التي في الصخور عويل الريح
ولا أحد ينزل باتجاه البحر الميت في طريق أريحا
أورشليم من ذهب ومن نحاس ومن نور
لكل أغانيك أنا قيثارة

***

ولكني من أجلك اليوم جئت أغني
أنا أصغر من أصغر أبنائك
ومن آخر المغنين
لأن اسمك لاذع فوق شفتيّ كقبلة ملتهبة
إن نسيتك أورشليم التي كلها ذهب

أورشليم من ذهب ومن نحاس ومن نور
لكل أغانيك أنا قيثارة

وحسب موقع “باب الواد” (الذي أنقل عنه، ببعض التصرف، هذه الترجمة) اعتمدت شيمر في تصوير [الأغنية] على جملة محورية مقتبسة من قصة تلمودية شهيرة، هي قصة الحاخام عكيفا وزوجته راحيل، اللذين عانيا من فقر شديد، فكانا يستليقان في مخزن للتبن، وبينما كان ينزع الحاخام التبن العالق في شعر زوجته قال لها «لو كان الأمر بيدي كنت أعطيتك أورشليم من ذهب». أي أنّه لو لم يكن فقيرًا، لأهداها تاجًا على شكل القدس مصنوعًا من الذهب

ولم تكن صدفة أن يقوم جنود وحدة المظليين، الذين كانوا أول من دخل المسجد الأقصى ووصلوا لحائط البراق (حائط المبكى) بعد سقوط المدينة، بأداء الأغنية عند الحائط، وهو الأمر الذي زاد من شعبية الأغنية بشكل استثنائي. وسرعان ما أن طلب كوليك من شيمر أن تضيف مقطعا يعبر عن الظرف الجديد الذي «أعاد» يروشاليْم لأهلها.

وبالفعل أضافت شيمر الكلمات التالية التي أصبحت جزءا أساسيا من النسخة المعتمدة للأغنية:

عدنا إلى آبار المياه
للسوق وللميدان
المزمار يعلو في جبل الهيكل في البلدة القديمة
وفي الكهوف التي في الصخر
آلاف الشموس تشرق
وبإمكاننا الآن أن ننزل باتجاه البحر الميت في طريق أريحا
أورشليم من ذهب ومن نحاس ومن نور

لكل أغانيك أنا قيثارة

ما يجعل «يروشاليْم شِل زهاف» قصيدة صهيونية بامتياز ليس إحالتها للتلمود بل تصويرها للقدس على أنها مدينة غير مأهولة، خاوية على عروشها، وحيدة، تلتف عليها أسوارها. فالميادين خالية، والأسواق مهجورة، والآبار مياهها نضبت، والكهوف لا صوت فيها إلا عويل الريح. وفقط عند «رجوعنا» للمدينة ستزدحم الميادين من جديد، وستصدح المزامير، وستشرق الشمس فوق الكهوف. هذا العمى الذي لا يبصر حقيقة أن القدس كانت مأهولة بالفعل بسكانها، بل مكتظة بهم، هو ما يجعل القصيدة متماهية مع العقيدة الصهيونية، تلك العقيدة التي ما برحت تنظر لفلسطين كوطن بلا شعب وكأرض بلا سكان، أرض تنتظر من يعمرها ويبث فيها الحياة بعد آلاف السنين من الجدب والاغتراب. وكما سنرى سيشكل هذا التراوح بين ادعاءات الصهيونية عن خلو المدينة من السكان وحقيقة اكتظاظها بهم – سيشكل هذا التراوح عقبة كؤود لم تستطع الصهيونية التعامل معها حتى الآن.

هناك نقطة أخرى تجعل أغنية «يروشاليْم شِل زهاف» أغنية صهيونية تعبر بشكل لا واعي عن تناقضات الصهيونية كعقيدة وكمشروع. فالصهيونية تعتبر نفسها عقيدة تحريرية، تهدف لتحرير الشعب اليهودي من أسره، وتضع نهاية لمنفاه وتعيده لأرضه التي نُفي منها طوال ألفي عام. ولكن، حتى لو تغاضينا عن الافتراءات التي تحتويها هذه المقولة، لا تنكر الصهيونية أبدا أن مشروعها هو مشروع إقامة دولة يهودية، أي دولة يمتلكها اليهود مِلكا، وليس دولة يسكنها اليهود كأقلية أو حتى كأغلبية. وبالتالي فإن غير اليهود غير مرحب بهم في هذه الدولة، ويجب تهجيرهم أو طردهم أو حثهم على الرحيل بشتى الطرق. هذا التناقض الجوهري الكامن داخل نفس المشروع الصهيوني، أي «إعادة الشعب اليهودي لموطنه» مع ما يستلزم هذا من سلب هذا الوطن بعينه من سكانه الفعليين، هو ما تعبر عنه الأغنية، ولكن بشكل مستتر وغير واع كما سبق القول.

فمن المفارقة أن لحن هذه الأغنية، الأغنية التي ارتبطت بحرب الأيام الستة، لحن مسروق بدوره. فقبل وفاتها كتبت نعومي شيمر خطابا لملحن إسرائيلي آخر اسمه جِل ألديما تعترف له فيه أن لحن أغنية «يروشاليْم شِل زهاف» مقتبس من أغنية شعبية برتغالية كانت تُغنى للأطفال، وأنها سمعتها مرة في منتصف الستينات وتأثرت بها بشدة حتى أنها رددتها وهي تكتب أغنيتها. بمعنى آخر، فإن الأغنية التي ستشتهر في إسرائيل وسيرددها الجنود المظليين عند حائط البراق بعد «تأليفها» بثلاثة أسابيع أغنية مسروقة، شأنها شأن المدينة التي تحتفي بها وتتغنى. ويمكن لنا الوقوف على مدى التطابق بين اللحنين بالاستماع لهما هنا (اللحن الأصلي) وهنا (اللحن المنحول كما غنته شولي ناتان).

أغنية «يروشاليْم شِل زهاف» تعبر أيضا عن تناقضات الصهيونية بشكل آخر، أعمق في دلالته من مفارقة اللحن المسروق. هذه التناقضات كامنة في صلب الفكرة الصهيونية ولم تكن وليدة حرب الأيام الستة؛ فقط الحرب أظهرتها للعيان. ثم جاءت الأغنية، مرة أخرى بشكل غير مقصود لتعبر عن هذا التناقض الدفين وتوضحه. فالأغنية في طورها الأول، أي قبل إضافة المقطع الأخير، أغنية حنين للماضي السحيق وتباكي على حاضر حزين. كلمات هذه المقاطع الأصلية تعبر عن عجز وضعف وقلة حيلة. ولكن فجأة وبعد إضافة المقطع الأخير بتكليف جديد من الدولة في أعقاب النصر المدوي تحول المعنى للنقيض، فأصبحت الأغنية تفتخر بالقوة وبالعزيمة وبالنصر: «وبإمكاننا الآن أن ننزل باتجاه البحر الميت في طريق أريحا.»

هذا تناقض أصيل وتأسيسي في العقيدة الصهيونية: الإحساس الدائم بالضعف وبالخطر المحدق من كل صوب، وفي نفس الوقت التفاخر بالقوة وبالقدرة على الانعتاق من أسر التاريخ ومكره. أتت حرب الأيام الستة لتظهر هذا التناقض الصهيوني وتوضحه أيما وضوح. فإسرائيل مهددة من كل حدب وصوب، أعداؤها العرب يهددونها ليس فقط بالهزيمة بل بالإبادة، وجيوشهم تتفوق على جيشها عددا وعدة. الدولة الوليدة تستدر عطف العالم لصغر حجمها وضآلة قوتها أمام القوى العربية المعادية. إنها داوود أمام جالوت. أما الآن وبعد ستة أيام فقط تمكنت تلك الدولة الضعيفة من هزيمة هؤلاء العرب أجمعين، وتشريد مئات الآلاف من الفلسطينيين. بعد الحرب أمست قوة إقليمية متغطرسة، ودولة احتلال متسلطة، تتحكم بآلتها العسكرية في مقدرات أكثر من مليون ونصف مليون فلسطيني تحت سيطرتها.

شر البلية:
في أعقاب النصر الحاسم جاء وقت التنكيت، وطُبع عدد ضخم من الكتب التي جمعت النكات المتعلقة بالحرب، والتي كان عبد الناصر موضوعها الأساسي. وكان من أشهر هذه الكتب اللاذعة كتاب כל בדיחות נאצר أي (كل النكات الناصرية) الصادر عام ١٩٦٧ من دار نشر جديدة في تل أبيب اسمها «شرم الشيخ»، وكتاب כל בדיחות ששת הימים أي (كل نكات الستة أيام) لرافي إيلان الصادر أيضا عام ١٩٦٧.

https://i2.wp.com/khaledfahmy.org/wp-content/uploads/2018/12/كل-نكات-الستة-أيام.jpg?resize=404%2C570

غلاف كتاب (كل نكات الستة أيام) لرافي إلان، ١٩٦٧

وكان من ضمن هذه النكات تلك التي تقول: «لملذا استغرقت الحرب كل هذه المدة؟ لأن حاخامات الجيش أفتوا بأن الحرب يجب أن تنتهي قبل الشابات (أي عطلة يوم السبت).» وأخرى تقول: «عندما علم عبد الناصر بمدى خسارته، وبحجم الخسائر في المعدات التي تكبدها أقبل على كوسيجن، رئيس وزراء الاتحاد السوفييتي، لكي يعوضه هذه الخسائر. فرد كوسيجين مستغربا: «لو كان إشكول ورابين يريدان معدات وأسلحة لماذا لا يأتيان لي مباشرة عوضا عن أن تتوسط أنت لهما؟» في إشارة لحجم الأسلحة المصرية التي غنمها الجيش الإسرائيلي في الحرب.

https://i1.wp.com/khaledfahmy.org/wp-content/uploads/2018/12/دوش-الأسلحة-السوفييتية.jpeg?resize=427%2C359

دوش، “ممكن أساعد؟

وكان من أنجح ألبومات النكات ذلك الألبوم الذي رسمه “دوش” (وأصل اسمه كارييل جاردوش קריאל גרדוש) بالاشتراك مع إفراييم كيشون אפרים קישון، والذي نُشرت أول طبعة منه في نوفمبر ١٩٦٧. في هذا الألبوم جمع دوش وكيشون الكاريكاتيرات التي كانا قد نشراها في جريدة معاريف طوال مدة الحرب إضافة إلى الفترة السابقة على الحرب. بطل هذه الكاريكاتيرات بلا منازع هو سروليك، وهي شخصية خلقها دوش عام ١٩٥٦. “سروليك” – وهو تصغير دارج لـ”إسرائيل رمز لإسرائيل، والطريقة التي رسمه بها دوش تعبر، بشكل واع، عن إصراره على تقديم صورة إيجابية تدحض الصور التقليدية التي ظهر بها اليهود في الخطاب الأوربي المعادي للسامية. فعوضا عن هذه الصور البغيضة التي تظهر اليهودي كشخص معقوف الأنف، محمل بالجراثيم، مصاص للدماء، إلخ ، يبدو “سروليك” كفتى ضحوك، خفيف الظل، واثق من نفسه، قوي، ومحب للإنسانية.

https://i0.wp.com/khaledfahmy.org/wp-content/uploads/2018/12/دوش-الساسة-ولبعسكر.jpeg?resize=621%2C465دوش مستهزئا بتقاعس الساسة تجاه التصعيدات العربية – مقابل جاهزية الجيش للحرب. تعليق إفراييم كيشون المصاحب لهذا الكاريكاتير يقول : «أي حد كان مصدق إن حكومتنا واخدة التهديدات دي جد كان عنده حق.” https://i0.wp.com/khaledfahmy.org/wp-content/uploads/2018/12/دوش-يوم-٥-يونيو.jpeg?resize=575%2C448دوش: سروليك يوم ٥ يونيو

في أثناء الحرب ارتدى “سروليك” الزي العسكري، وأصبح رمزا لـ”تساهال” أي جيش الدفاع الإسرائيلي. وفي أثناء الأزمة التي سبقت اندلاع الحرب عندما شعر المجتمع الإسرائيلي بالجزع والهلع كان “سروليك” دائما يطمئنهم، ففي يده يكمن الخلاص وهو وحده القادر على انتشال البلد من أزمتها، وهو الوحيد القادر على القضاء على كل أعدائه مجتمعين.

https://i0.wp.com/khaledfahmy.org/wp-content/uploads/2018/12/روز-اليوسف.jpeg?resize=1492%2C1040

إضافة إلى كتب النكات، كان هناك بالطبع ألبومات الصور. فتكالب الناشرون على جمع صور الجنرالات المنتصرين والجنود الأبطال إضافة طبعا لصور الغنائم والأعداء المقهورين. وفي مناسبة الذكرى الأربعين للحرب عام ٢٠٠٧ قال أحد الناشرين إن الألبومات التي نشرها بيع منها مائة ألف نسخة في الأسابيع التي أعقبت الحرب.

غطرسة القوة وتأليه الضباط:
في أعقاب انتصارها المدوي كثرت الكتابات الإسرائيلية الجادة التي تعبر عن هذا التناقض والتي تؤكد على رقة إسرائيل وعلى جبروتها في نفس الوقت. فالكثير من الصحفيين والمراقبين الإسرائيليين كتب بعد أشهر قليلة من الحرب تعبيرا عن نشوة الانتصار وغطرسة القوة، وقبل أن تتضح معاني النصر وتبعاته وقبل أن تتضح تكلفته. فهناك من نشر انطباعاته بعد الحرب بأسابيع قليلة، مثل أفيزر جولان אביעזר גולן Aviezer Golan الذي كتب كتابه ששה ימי תהילה :מלחמת 1967 أي (ستة أيام من المجد: حرب ١٩٦٧) بعد انتهاء الحرب بثلاثة أسابيع. وهناك من نشر تحليلاته بعد انتهاء الحرب بأيام قليلة، مثل كتاب آريه أفنيري، היום הקצר ביותסיפור הנצחון המופלא של חיל האוויר הישראלי، أي (أقصر يوم: قصة الانتصار المذهل لسلاح الجو الإسرائيلي) الذي نُشر بعد انتهاء الحرب بأربعة أيام فقط.

https://i0.wp.com/khaledfahmy.org/wp-content/uploads/2018/12/أفنيري.jpg?resize=300%2C477

أقصر يوم: قصة الانتصار المذهل لسلاح الجو الإسرائيلي” من تأليف آريه أفنيري

أغلب هذه المؤلفات التي ظهرت في فورة النصر طواها النسيان ولم تعد ذات قيمة إلا لهواة اقتناء الكتب القديمة. ولكن هناك كتابان حققا نجاحا مذهلا فور نشرهما كما صمدا أمام امتحان الزمن. تأثير كلا الكتابين تعدى فورة النصر وامتد لسنوات وعقود أعقبت الحرب، كما أنهما مجتمعيْن، وكل واحد منهما منفصلا، يعبران عن التناقض الصهيوني المذكور سابقا، أي الإشادة برقة الدولة ورهافتها من ناحية، والافتخار بقوتها وسطوتها، من ناحية أخرى.

الكتاب الأول هو חשופים בצריח أو (مكشوفون في البرج) [أي برج الدبابة] لشبطاي تيفيذ (שבתי טבתShabtai Teveth) الذي نشر في أوائل سنة ١٩٦٨. وسرعان ما ظهرت ترجمته الإنجليزية بعدها بأسابيع قليلة تحت عنوان Tanks of Tammuz أي (دبابات تموز).

https://i0.wp.com/khaledfahmy.org/wp-content/uploads/2018/12/Teveth-composite.jpeg?resize=1468%2C756

يُعتبر كتاب تيفيذ، (مكشوفون في البرج) أو (دبابات تموز) مثالا نموذجيا للكتابات العسكرية عن الحرب: ضباط وجنرالات عظام، يمتلكون بصيرة نافذة، وزعامة ملهِمة، وقدرة فائقة على الإنجاز. هؤلاء الرجال العظام يدرسون الطوبوغرافيا ويتمعّنون في الخرائط قبل إصدار أوامرهم لمرؤوسيهم من الرجال، وإذا بآلهة الحرب تستجيب لهم وتكلل جهودهم بالنصر.

https://i2.wp.com/khaledfahmy.org/wp-content/uploads/2018/12/الثلاثي-المرح.jpeg?resize=1674%2C808

يشرح لنا تيفيذ كيف تروّى قبل تأليف كتابه ولم يندفع للكتابة عن الحرب مثل غيره من الصحافيين. فيوضح لنا كيف درس تاريخ سلاح المدرعات دراسة متأنية قبل أن يصاحب الفرقة المدرعة السابعة، الفرقة الفولاذ، في معارك سيناء. وفي أثناء هذه المعارك يركز تيفيذ على ما اعتبره بطولات خارقة لضباط سلاح المدرعات، هذا السلاح الذي لم يكن يحظى بشعبية كبيرة في أوساط تساهال” (وهو الاسم الدارج للجيش الإسرائيلي)، فسلاح المظلات كان من تسيد الموقف في (العملية قادش( وهو أحد الأسماء التي عُرف بها العدوان الثلاثي لسنة ١٩٥٦ في إسرائيل). لذلك يتتبع تيفيذ أبطال سلاح المدرعات في الحرب، خاصة في الجبهة الجنوبية (أي سيناء)، ويخرج القارئ مشدوها ببطولات هؤلاء القادة وشجاعتهم.

فتحت القيادة العامة للجنرال يشاياهو جافيتش، قائد الجبهة الجنوبية، تتضح عظمة العمداء الثلاثة: إسرائيل تال وآرييل شارون وآبراهم يوفي الذين نعيش معهم على مدار حوالي ٣٠٠ صفحة ونتتبع صولاتهم وجولاتهم مع فرقهم المدرعة، في زحفها الخاطف من رفح وأم قطف والقُسيّمة والكنتيللا في الشرق، إلى العريش وبير لحفن وأبو عجيلة والحسنة، حيث خط الدفاع الثاني للقوات المصرية، ثم بير جفجافة وبير تمادة ونخل حيث انهارت آخر الدفاعات المصرية، ووصولا لقناة السويس والطور وأبو زنيمة وراس سدر في الغرب.

https://i0.wp.com/khaledfahmy.org/wp-content/uploads/2018/12/الهجوم-على-سيناء.jpeg?resize=538%2C710

(ومن الجدير بالذكر أن الوصف التفصيلي الذي قدمه تيفيذ للمعرك البرية في سيناء وفي الضفة الغربية وفي الجولان ما يزال من أدق ما كتب عن الحرب من الناحية العسكرية، الأمر الذي حدا بالعميد الركن حسن مصطفى أن يعتمد عليه اعتمادا كليا عندما نشر كتابه العمدة، حرب حزيران ١٩٦٧، في يناير ١٩٧٣ وهو الكتاب الذي اعتبره من أهم ما كُتب عربيا عن الحرب من الناحية العسكرية اللوجستية. وهذه بالطبع من أكبر علامات الهزيمة: أن يدرس المهزوم تفاصيل هزيمته ويحللها اعتمادا على مصادر العدو المنتصر.)

في سرده لهذه الفتوحات العسكرية يلقي تيفيذ الضوء على تاريخ سلاح المدرعات، ويشرح كيف تطور هذا السلاح في السنوات الفاصلة بين «قادش» وحرب الأيام الستة. وتحديدا يوضح كيف جاهد قادة هذا السلاح ليفرضوا الانضباط العسكري على وحداتهم، ويطوروا من قدراتها القتالية، هذا بالرغم من خلفية هؤلاء القادة في البالماخ، أي سلاح الصاعقة التابع للهاجاناه (الجيش غير الرسمي للمستوطنات اليهودية إبان فترة الانتداب البريطاني على فلسطين) التي اشتهر ضباطها بالجرأة وأخذ زمام المبادرة وعدم الاكتراث أحيانا بالتعليمات والأوامر العسكرية.

يؤكد تيفيذ عند تصويره لأبطاله على أن ما يميزهم هو ذلك المزج بين الرقة والدعة من جانب، والصلف والغرور والغطرسة، من جانب آخر. فأبطال الكتاب ليسوا قادة وضباطا وحسب، بل أزواج وآباء وأبناء أيضا. فنحن نراهم في بيوتهم يلعبون مع أطفالهم، ويداعبون زوجاتهم، يقرأون الشعر، ويدرسون الفلسفة. ولكن حين يتلقون أوامر الاستدعاء نراهم وقد تحولوا لتروس في آلة عسكرية جبارة، آلة جري تشحيمها بعناية وإعدادها بدقة متناهية، لكي تنطلق من عقالها عند إشارة البدء، فتفتك بكل من تجده أمامها.

https://i0.wp.com/khaledfahmy.org/wp-content/uploads/2018/12/-العسكرية-الإسرائيلية-e1546106941582.jpeg?resize=587%2C376الآلة العسكرية الإسرائيلية عشية الحرب

لا نسبر غور هؤلاء الرجال ولا نعلم ما يجول بخواطرهم، ولكن ما نراه ظاهريا يعطينا صورة مثالية عن المواطن-المقاتل، مع التركيز على المقطع الأخير من هذا الثنائي. فكتاب تيفيذ، في النهاية، كتاب عن آلة الحرب وآلهتها. هو كتاب يمجد هؤلاء الضباط ويسمو بهم حتى يضعهم في مطاف الآلهة. رجال تيفيذ رجال خارقون، ذوو قدرات استثنائية تفوق قدرات البشر العاديين. يكفي أن نقرأ تصويره للكولونيل شمويل جونين (وكنيته “جوروديش”) قائد الفرقة السابعة. هذا الرجل كان قصيرا وسمينا وقصير النظر، ولكن تيفيذ يصوره كأحد الآلهة الإغريق.

https://i0.wp.com/khaledfahmy.org/wp-content/uploads/2018/12/Gorodish.jpeg?resize=440%2C278

جوروديش

وعندما اندلعت حرب يوم كيبور (حرب أكتوبر) بعد ست سنوات بدا أن ما قاله تيفيذ عن جوروديش قد لعب برأسه، وأقنعه بعظم جيشه، وبأن هذا الجيش لا يقهر، فإذ بالهزيمة تحيق به في الأيام الأولي من الحرب، وإذ بهيئة الأركان تستبدله بحاييم بارليف يوم ١٠ أكتوبر.

ويجمع الكثير من النقاد أن كتاب تيفيذ، (مكشوفون في البرج) أو (دبابات تموز) الذي باع ٨٥ ألف نسخة فور طباعته، لعب دورا أساسيا في ترسيخ تلك الغطرسة التي اتسم بها ضباط الجيش الإسرائيلي، بل كل المجتمع الإسرائيلي بعد حرب ١٩٦٧، وأنه كان السبب الرئيسي للسقوط المدوي لجوروديش في حرب يوم كيبور. ووصل الأمر عام ١٩٩٣، بعد عامين من وفاة جوروديش، بأن يؤلف الكاتب المسرحي، هيليل ميتلبونكت، مسرحية عن جوروديش حملت اسمه وأخرجت على خشبة أحد المسارح في تل أبيب. لاقت المسرحية نجاحا كبيرا، واعتُبرت إدانة صريحة لكتاب تيفيذ ولمسؤوليته عن إشاعة الشعور بغطرسة القوة، وترويجه لأسطورة الجيش الذي لا يُقهر، واستخفافه بالعدو واحتقاره له. (وللمزيد عن الجو العام في إسرائيل أثناء حرب الاستنزاف وأثناء الشهور المؤدية لحرب ١٩٧٣ يمكن متابعة هذا اللقاء مع ميتلبونكت، مؤلف المسرحية.)

المقاتل الباكي:
أما الكتاب الثاني الذي صمد أمام امتحان الزمن فهو שיח לוחמים أو (حديث الجنود) من تحرير أفرام شابيرا (אברהם שפירא Avraham Shapira) وعاموس عوز (עמוס עוזAmos Oz) الذي نشر في أكتوبر ١٩٦٧ والذي ترجم بعدها بقليل للإنجليزية ونُشر بعنوان The Seventh Day أي (اليوم السابع).

https://i2.wp.com/khaledfahmy.org/wp-content/uploads/2018/12/Oz.jpeg?resize=1650%2C606

يمثل كتاب (حديث الجنود) الذي حرره الثنائي آفرام شابيرا وعاموس عوز نقيضا مغايرا تماما لكتاب تيفيذ. فـ(حديث الجنود) لا يقدم سردية واحدة متماسكة عن الحرب، بل هو تجميع لشهادات ١٤٠ جنديا التقاهم شابيرا وعوز فور عودتهم من جبهات القتال. فتعود قصة الكتاب للأيام والأسابيع القليلة التي أعقبت انتهاء الحرب عندما اقترح شابيرا على عوز، وكلاهما كان من سكان الكيبوتسات، أن يذهبا للجنود العائدين من القتال ليدوّنا شهاداتهم. أما سبب اختيارهم لسكان الكيبوتسات فتعود ليس فقط لارتباطهما هما نفسيهما بها، ولكن أيضا لأن نسبة القتلى من الكيبوتسات كانت أعلى بكثير من نسبتهم للعدد الإجمالي للسكان، بالرغم من أن عدد سكان الكيبوتسات لم يتجاوز ٤٪ من إجمالي عدد السكان، إلا أنهم شكلوا ربع القتلى البالغ عددهم ٦٧٩ قتيل.

بعد محاولات عديدة باءت بالفشل اقترح عوز على شابيرا أن يستحضرا جهاز تسجيل ليسجلا شهادات الجنود صوتيا عوضا عن تدوينها على الورق. وما أن دار شريط التسجيل حتى انهمرت الروايات من الجنود بشكل جارف فاجأ عوز وشابيرا. وفي النهاية عكف الثنائي على تحرير المادة الغزيرة التي جمعاها، واختزلا الساعات الطويلة التي سجلاها في ٢٨٣ صفحة جمعت أصواتا وتجارب وشهادات متباينة، فهناك من وجد نفسه مبتهجا لدخوله أورشليم، ومنهم من شعر بالغربة في المدينة القديمة. وهناك من تماهى مع العدو وتعاطف معه، ومنهم من لم تحركه سوى مشاعر التشفي والانتقام. ومنهم من رأي نفسه في سردية طويلة من التاريخ اليهودي وأنه يسطر صفحة جديدة منه، ومنهم من لم يشعر بأي شيء عند دخوله الأراضي المحتلة.

على أن أهم فرق يفصل (حديث الجنود) عن (مكشوفون في البرج) هو أن الأول لا يمجد الحرب كما يفعل الثاني. في (حديث الجنود) نتعرف على مشاعر الجنود: الخوف من القتال، وتجارب مواجهة الموت المتراوحة بين الاشمئزاز والاعتياد على رؤية جثث القتلى. الكثير من الجنود عبر عن مشاكله مع (اليوم السابع)، أي مشاكل العودة للحياة المدنية برتابتها وعدم القدرة على التحدث عن أهوال الحرب. في (حديث الجنود) لا نرى مقاتلين متغطرسين بقوتهم، بل رجالا منكسرين متعاطفين مع العدو ومتواصلين مع إنسانيته. والصورة العامة التي نستخلصها كقراء هي صورة المقاتل المحترف الذي يؤدي مهمته على أكمل وجه، ويعود منتصرا، ولكنه لا يفقد إنسانيته، ولا يضيّع رهافة مشاعره. إنه يقاتل، ولكنه يبكي في نفس الوقت.

ما أن نُشر الكتاب في أكتوبر ١٩٦٧ حتى حقق نجاحا باهرا، إذ باع أكثر من ٩٥ ألف نسخة في فترة وجيزة. وتقرر أن يدرّس في المدارس وفي الجيش، واحتفت به وزارة الخارجية خاصة بعد أن نُشرت ترجمته الإنجليزية. ولكن وبمرور الوقت، ومثلما كان الحال مع كتاب )مكشوفون في البرج(، سرعان ما وُجهت الانتقادات اللاذعة لـ)حديث الجنود( خاصة بعد حرب يوم كيبور عام ١٩٧٣. كانت الفكرة الأساسية التي بنى عليها الكتاب، فكرة الجندي الباكي، هي التي صب عليها النقاد جام غضبهم، فقد رأوا فيها تنصلا من المسؤولية الأخلاقية، فكأن الكتاب يقول إن عمليات القتل واغتصاب الأرض وطرد الأهالي يمحوها بكاء الجنود، ورهافة مشاعرهم، وحيرتهم عندما عادوا لأسرهم وأطفالهم.

ونتيجة لهذه الانتقادات، وهي انتقادات ظهرت أساسا بعد حرب ١٩٧٣ وبعد المراجعات القاسية التي خاضها المجتمع الإسرائيلي للجيش وغطرسته أثناء ما يسمونه «العصر الإمبراطوري» أي ١٩٦٧-١٩٧٣، نتيجة لهذه الانتقادات أفل نجم (حديث الجنود) وفتر الحماس له. ولكن في عام ٢٠٠٥ عاد الاهتمام بكتاب عوز وشابيرا بعض الشيء، إذ أن توم سيجيف، وهو صحفي مخضرم في جريدة هآرتس، نشر في ذاك العام دراسته عن حرب ١٩٦٧، والتي ظهرت ترجمتها الإنجليزية بعدها بعامين. وفي كتابه الضخم (٧١٠ صفحة) أفرد سيجيف بضعة صفحات يستعرض فيها ملابسات تأليف (حديث الجنود)، وتتطرق لتفاصيل عملية التحرير التي انتقى بها عوز وشابيرا مادتيهما من ضمن عشرات الساعات من التسجيلات.

أصوات ممنوعة وأخرى غائبة:
في عام ٢٠١٥ احتل كتاب “حديث الجنود” صدارة المشهد الثقافي في إسرائيل مجددا، هذه المرة بسبب فيلم تسجيلي بعنوان Censored Voices أي (أصوات ممنوعة). الفيلم مدته ٨٧ دقيقة من إخراج مور لوشي، (Mor Loushy) وهي مخرجة إسرائيلية من مواليد عام ١٩٨٢ أي تنتمي لجيل لم يعش حرب الستة أيام، وإن كان ولد وتربى في أجواء ما زالت تحتفي بالحرب وتمجدها. ولكن على مدار العقود الخمسة التي تلت الحرب كانت هناك أصوات تعلو من حين لآخر للتشكيك في الرواية الشائعة التي، وكما رأينا، تتراوح بين الدولة المستضعفة والمستهدفة من كل صوب، والدولة الفتية والقوية، الواثقة في نفسها والقادرة على إيقاع الهزيمة المنكرة بكل جيرانها مجتمعين. ولكن ما قامت به لوشي في فيلمها تعدى الانتقادات السابقة للرواية الرسمية بشكل لافت للنظر.

(أصوات ممنوعة) يعتمد اعتمادا أساسيا على كتاب (حديث الجنود)، أو بالأحرى على الشهادات الصوتية التي أدلى بها الجنود لعوز وشابيرا بعد عودتهم من الجبهة بأيام قليلة. فأثناء بحثها اكتشفت مور لوشي أن شابيرا احتفظ بالأشرطة الأصلية للتسجيلات، وأن هذه الأشرطة تحتوي على أكثر من ٢٠٠ ساعة من التسجيلات، وأن هذه التسجيلات لم تُسمع من وقتها. أقبلت مور لوشي على شابيرا وألحت عليه أن يتيح لها فرصة الاستماع للتسجيلات، وإزاء هذا الإلحاح وافق شابيرا أخيرا، وأعطاها الأشرطة. وعندما عكفت على العمل هالها ما سمعته، وأدركت أن هؤلاء الجنود عبروا، في فورة النصر، وببصيرة ثاقبة عن المأزق الأخلاقي والسياسي والديمغرافي التي وجدت إسرائيل نفسها فيه.

فإسرائيل الآن دولة احتلال (وهو أمر قد يبدو لنا كعرب غريبا بعض الشيء، فنكبة ١٩٤٨ لدينا هي أصل الداء، أما حرب ١٩٦٧ فهي امتداد لهذه الخطيئة الأصلية. ولكن الإسرائيليين، واليسار الإسرائيلي تحديدا، لا تساورهم أية شكوك في مشروعية حرب ١٩٤٨، فهي حرب استقلال، والتشكيك فيها يهدم المشروع الصهيوني برمته)، وتُخضع أكثر من مليون ونصف مليون فلسطيني لسلطاتها العسكرية، وتجردهم من أبسط حقوق المواطنة والمساواة.

https://i2.wp.com/khaledfahmy.org/wp-content/uploads/2018/12/Censored-voices-1.jpg?resize=504%2C284لقطة من (أصوات ممنوعة)

ولكن تلك الشهادات كانت موجودة بالفعل في الكتاب الأصلي، (حديث الجنود). فما الجديد الذي أضافته مور لوشي بفيلمها؟ ولماذا يُعتبر هذا الفيلم محطة هامة لدراسة تعامل المجتمع الإسرائيلي مع حرب ١٩٦٧؟ الجديد هو ما وجدته لوشي في التسجيلات الأصلية، إضافة لبحثها الدؤوب في أرشيفات سينمائية متعددة، داخل إسرائيل وخارجها، عن مادة بصرية تعضد هذه الروايات الشفوية. فالجنود يعترفون بأن التعليمات التي وُجهت لهم في بداية العمليات العسكرية كانت تقول بضرورة الهجوم على الجيش المصري بغرض تدميره والقضاء عليه. ويعترفون بأن التعليمات كانت تقضي أيضا بألا يُظهروا أي رحمة بأعدائهم. ويعترفون بأن هذا ما دفعهم لارتكاب عمليات قتل لا ضرورة لها ميدانيا. ويعترفون بأنهم قتلوا مدنيين عزل. ويعترفون بأنهم قتلوا جنودا بعد استسلامهم. ويعترفون بأنهم هجّروا فلسطينيين من منازلهم. ويعترفون بأنهم دمروا قرى فلسطينية بكاملها.

وأثناء كل هذه الاعترافات الخطيرة تضع لوشي أمام أعيننا أشرطة سينمائية، بعضها من تصوير الجيش الإسرائيلي نفسه، تعبر عن هذا الاعترافات وتوضحها بصريا. فنرى الفلسطينيين وهم يهجّروا من قراهم، ونراهم وهم يحملون أمتعتهم وأطفالهم وكهولهم عابرين نهر الأردن للضفة الشرقية، حيث سيعيشون كلاجئين. ونشاهد الجنود الإسرائيليين وهم يسخرون من أعدائهم المصريين في أغنية تقول »نـ***كم في ٤٨، ونـ***كم في ٥٦، وهنـ****كم تاني دا الوقت.»

كما تتضمن شهادات الجنود تحليلات ورؤى غاية في الأهمية. فمنهم من يستغرب من الادعاء بأنهم حرروا القدس. «أورشاليم لم تصبح مدينة محررة. أورشاليم أصبحت مدينة محتلة.» وهناك من قال: «العرب يمرون الآن بتجربة مشابهة لتلك التي مررنا بها في الحرب العالمية الثانية. هنا تكمن المأساة: أن أجد نفسي متعاطفا مع العدو ومتماهيا معه.» وهناك من تنبأ قائلا «لن تكون هذه هي المرة الأخيرة التي نلبس فيها الملابس العسكرية.» وهناك من قال «الحرب لا تقضي فقط على الأمم [بهزيمتها]. الاستعداد الدائم للحرب يقضي هو الآخر على الأمم [المنتصرة].» وفي نهاية الفيلم نستمع لجندي التقته لوشي بعد ٤٨ عاما من إدلائه بشهادته الأصلية لعوز وشابيرا، فقال لها: «إن آخر سطر من نشيدنا الوطني يقول «لكي نكون أحرارا في أرضنا، أرض صهيون وأورشاليم.» طالما نحن محتلون أرض شعب آخر فنحن لسنا أحرارا. لقد سقط منا الجزء المتعلق بأن نكون أحرارا.

ولأهمية شهادات الجنود وخطورة الأفعال التي اعترفوا بها، والتي ترقى لجرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية، فقد تم التعتيم على هذه الشهادات ومنعها. فحسب لوشي، قرر الرقيب العسكري حذف ٧٠٪ من أصل التسجيلات، وهذا هو السبب وراء عدم قدرة عوز وشابيرا على نشر هذه التصريحات الخطيرة في كتابهما. وبسبب هذه الشهادات تعرض الفيلم لهجوم عنيف من عتاة الصهاينة الذين لا ينفكون يهاجمون كل من يتعرض لإسرائيل بالنقد أو التجريح. وكان من أهم من هاجم الفيلم مارتن كرامر وهو أستاذ جامعي إسرائيلي نادى مؤخرا بضرورة منع المعونة الإنسانية عن الفلسطينيين حتى لا يتناسلوا ويزداد تعدادهم) الذي كتب مقالا طويلا ينكر فيها واقعة المنع، ويعزو عدم نشر عوز وشابيرا لكل المادة التي كانت تحت أيديهما لضرورات تحريرية، وأنهما هما من حذف تلك المادة من كتابهما، وليس الرقيب العسكري. كما فند الاعترافات الأخرى التي أدلى بها الجنود قائلا إنها لا تعدو كونها استثناءات تحصل في كل الحروب.

https://i1.wp.com/khaledfahmy.org/wp-content/uploads/2018/12/IMG_5134-e1546108769639.jpg?resize=518%2C298لقطة من (أصوات ممنوعة)

أيا كان المتسبب في قرار المنع، الرقيب العسكري أم المؤلفان الأصليان، لا شك أن فيلم (أصوات ممنوعة) يمتاز بقدر كبير من الحرفية السينمائية فضلا عن الشجاعة في طرح أسئلة شائكة قلما تعرض لها السينمائيون الإسرائيليون. ولكن، بالرغم من شجاعته يظل )أصوات ممنوعة( حبيس الإطار الصهيوني، وتظل مور لوشي غير قادرة على الفكاك من هذه الأيدولوجية. فما تطرحه لوشي ليس ضرورة التخلص من الصهيونية، بل كيف يمكن ترويضها وتهذيبها. وكأنها بعد طول تفكير لم يسعها سوى أن تتفق مع أحد شهودها الذي يقول «الصهيونية مأساة. منذ البدء، استدعى مجيئنا إلى هذه الأرض عملية إقصاء. إقصاء. فبجوار الكيبوتس التي نعيش فيها كانت هناك قرى عربية، نورس، مزار، كومي. هذه القرى اختفت. بقاء الشعب اليهودي وعودته لهذه الأرض أدى لطرد من كانوا يعيشون هنا قبل مجيئنا. لو لم تكن ترغب في أن تطرد أحدا، لكنت قنعت بالعيش في الدياسبورا (المنفى). وهناك كنت ستُذبح. فهل يؤنبني ضميري وأبكي من أجلهم [أي من أجل الفلسطينيين]، هؤلاء الذين اختفوا من هنا؟ لا. لا».

 

 

https://i0.wp.com/khaledfahmy.org/wp-content/uploads/2018/12/IMG_5160.jpg?resize=442%2C331

لقطة من (أصوات ممنوعة)

عودة للحرب:
في عام ٢٠١٥، أي نفس العام الذى عُرض فيه فيلم (أصوات ممنوعة)، كتب عاموس عوز مقالة في جريدة هآرتس يتناول فيها المشكلة الديمغرافية التي وجدت إسرائيل نفسها فيها، والتي كانت من أهم نتائج حرب الأيام الستة. فاحتلال الضفة الغربية والقدس الشرقية أدى لما كان بن جوريون يحذر منه عام ١٩٤٨ عندما سُنحت له الفرصة لاحتلال نفس تلك الأراضي، أي أن تجد إسرائيل نفسها وفي داخلها أقلية عربية ضخمة يصبح اليهود فيها أقلية نتيجة التفاوت بين نسبة الزيادة الطبيعية (أي عدد المواليد) بين العرب واليهود. ففي خطاب ألقاه في الكنيست يوم ٤ أبريل ١٩٤٩ قال بن جوريون: «إن باستطاعة جيش الدفاع الإسرائيلي أن يحتل كل الأراضي الواقعة بين النهر والبحر. ولكن أي دولة ستنتج من فعل كهذا؟ حينها سيكون لدينا كنيست ذات أغلبية عربية. فبين خيار إسرائيل الكبرى وإسرائيل اليهودية، اخترنا إسرائيل اليهودية»، (وذلك حسب كتاب نُشر العام الماضي في إسرائيل وأثار حينها سجالا كبيرا). عبّر عوز (عوز) عن هذا التخوف بوضوح قائلا: «إذا لم نقم بإعلان دولتين هنا، وبسرعة، فسينتهي بنا الحال بدولة واحدة. وإذا انتهينا بدولة واحدة، ستكون هذه الدولة عربية. دولة عربية من البحر إلى النهر».

هذه القدرة على مد الخطوط على استقامتها، ولكن الإصرار على رفض النتائج المنطقية لهذا التحليل، هي أيضا من سمات الفكر الصهيوني. فعوز يدرك نتائج الاحتلال الذي سببته حرب الأيام الستة، ويرى أنه سيقضي على إسرائيل كدولة يهودية. وبعد أن أدرك أن الوقت ليس في صالح إسرائيل بسبب المشكلة الديمغرافية نادى بحل الدولتين. إذ المقابل سيكون في رأيه دولة واحدة ولكنها ستكون عربية. لم يستطع عوز أن يتخيل أن تكون هذه الدولة الواحدة دولة ديمقراطية، دولة لكل مواطنيها، عربا ويهودا، يتمتعون بنفس الحقوق ويقومون بنفس الواجبات ويتساوون أمام القانون، إذ أنه لو فعل ذلك سيكون تخلى عن صهيونيته، حتى ولو كان ذلك في مقابل بديل أكثر إنسانية وأكثر رحابة مما تعرضه الصهيونية.

مشكلة هذه الأصوات المراجعة للصهيونية، مثل عوز وشابيرا ولوشي وسيجيف، أنها ما زالت أسيرة تلك العقيدة ولا تستطيع التفكير خارجها. وتتضح محدودية هذا النقد عند تناول حرب الأيام الستة. فما يلفت النظر أن هناك جانبا أساسيا لم تتطرق له هذه الأصوات المراجِعة، ألا وهو مقدمات الحرب. فيكاد يجمع كل المحللين الإسرائيليين على أن إسرائيل كانت بالفعل مهددة، وأن كل طوائف المجتمع الإسرائيلي كانت مقتنعة أنهم يواجهون تهديدا وجوديا، وأن هذا التهديد يماثل الهولوكوست في بشاعته وخطورته.

https://i1.wp.com/khaledfahmy.org/wp-content/uploads/2018/12/IMG_5137.jpg?resize=566%2C334التهديدات العربية كما روجت لها إسرائيل عشية الحرب

إلا أن الوثائق الأمريكية والفرنسية والبريطانية والسوفييتية التي أُفرج عنها في العقدين الماضيين، إضافة إلى اعترافات كبار الساسة والعسكر الإسرائيليين وقتها، توضح بجلاء زيف هذا الادعاء. وقد قام جون كويجليJohn Quigley ، وهو أستاذ قانون في جامعة أوهايو ستيت، بدراسة تلك الوثائق، ونجح في تفنيد ودحض ادعاء إسرائيل إن هجومها على مصر يوم ٥ يونيو كان بمثابة حرب استباقية مشروعة غرضها الحيلولة دون تدمير إسرائيل. (ولعرض واف لكتاب كويجلي يمكن الرجوع لهذه الدراسة). فمثلا عندما طلبت إسرائيل من الولايات المتحدة في أوائل عام ١٩٦٧ أسلحة لمواجهة الأخطار العربية تدارس أركان حرب الجيش الأمريكي الطلب الإسرائيلي ورفعوا تقريرا لروبرت ماكنمارا، وزير الدفاع الأمريكي، قائلين:

Israel’s present military forces are capable of defending successfully against any individual or collective Arab attack أي أن «القدرات العسكرية الحالية لإسرائيل تمكنها من الدفاع بنجاح ضد أي هجوم عربي، منفردا كان هذا الهجوم أو مجتمعا.»

وفي الزيارة الشهيرة التي قام بها آبا إيبان، وزير الخارجية الإسرائيلي، لواشنطن يوم ٢٦ مايو لحث الولايات المتحدة على التدخل لإعادة فتح مضيق تيران قال، حسب محضر الاجتماع الذي نشرته الخارجية الأمريكية عام ٢٠٠٤ والمتاح على الانترنت لمن يود الاطلاع، دار الحوار الآتي بينه وبين الجنرال إيرل ويلر Earle Wheeler، رئيس هيئة أركان الجيش الأمريكي General Wheeler restated the American view of Israel’s military superiority and said that, although we recognize that casualties would be greater than in 1948 and 1956, Israel would prevail. ….Mr. Eban‘s rejoinder was that Israel believed its forces would win and he agreed that the balance of power had not been shifted by deployment of the last few days. وترجمته: «كرر الجنرال ويلر تقدير الولايات المتحدة للتفوق العسكري الإسرائيلي، وقال إنه بالرغم من إدراكنا أن الخسائر في الأرواح ستكون أكبر من حربي ١٩٤٨ و١٩٥٦، إلا أن إسرائيل ستنتصر… وكان رد مستر إيان إن إسرائيل تعتقد إن قواتها ستنتصر، وأنه يتفق [مع التقديرات الأمريكية في أن] ميزان القوى لم يتغير نتيجة الحشد [العسكري المصري] الذي حدث في الأيام القليلة الماضية.»

أما زيارة مائير عاميت، رئيس الموساد، لواشنطن أيام ٣١ مايو-٢ يونيو، تلك الزيارة الحاسمة التي أعطى فيها الأمريكان “الضوء الأصفر” لإسرائيل (بمعنى “دا احنا دافنينه سوا”) فقد دار خلالها الحوار التالي بينه وبين ماكنمارا: Mr. McNamara asked Gen. Amit how many casualties he thought he would incur in an attack in the Sinai. Gen. Amit indicated that this was a tough question to answer, stating that it would depend a great deal on who hit first. …. Amit indicated that …. he thought the Israelis could do the job with somewhere in the neighborhood of 4,000 casualties. «سأل مستر ماكنمارا الجنرال عاميت عن تقديره للخسائر البشرية في حالة شنَّ [الإسرائيليون] هجوما في سيناء. فرد عاميت إن هذا سؤال صعب، وإن الإجابة عليه تتوقف على من بادر بالهجوم…. وأضاف عاميت … إنه يعتقد أن الإسرائيليين سيتمكنون من إنجاز المهمة متكبدين حوالي ٤،٠٠٠ قتيل.»

https://i0.wp.com/khaledfahmy.org/wp-content/uploads/2018/12/Amit.jpg?resize=553%2C369مائير عاميت، مدير الموساد أثناء حرب الستة أيام

وفي مؤتمر أكاديمي عقد عام ١٩٩٢ بمناسبة مرور ٢٥ سنة على الحرب أقر عاميت بأنه كان قد قال لمكنمارا في هذه الاجتماع إن الحرب لن تستغرق أكثر من سبعة أيام. وبالتالي فإن الإسرائيليين، ساسة (إيبان) وعسكر (عاميت)، يعترفون إن إسرائيل لم تواجه خطرا وجوديا، وإنها كانت على ثقة في قدرتها على الإجهاز على الجيش المصري في أقل من أسبوع، وإنها قدرت أنها لن تتكبد أكثر من أربعة آلاف قتيل.

لا هولوكوست هنا ولا يحزنون. إنما هو ذلك المزيج المميز للصهيونية: شعور دفين بالخطر المحدق من كل صوب مع الثقة المتناهية في النفس والاعتزاز بقوة تساهال”.

https://i0.wp.com/khaledfahmy.org/wp-content/uploads/2018/12/دوش-الطفل-المعجزة.jpeg?resize=555%2C460دوش، الطفل المعجزة”. تعليق كيشون على هذه الكاريكاتير كان: «أثبت الجيش الإسرائيلي أنه بالإمكان تقادي الحرب على جبهتين بخوضها على ثلاث.»