يقدم لنا الباحث الهندي هنا إطلالة تاريخية على عملية الاستعمار الانجليزي للهند، وكيف بدأ بشركة الهند الشرقية وتواصل حتى أصبحت الهند برمتها مستعمرة تابعة للتاج البريطاني، بصورة تذكر القارئ بأن الطريقة التي تغلغل بها الاستعمار القديم في المستعمرات لا تختلف عن تلك التي يمارسها الاستعمار الجديد بالعولمة وصندوق النقد.

شـركـة الهنـد الشـرقـية

ظهورها في الهند وســيطــرتها عليها: دراسة تاريخية

محمود عالم الصديقي

 

كانت أوروبا على إلمام تام بالإنتاجات والتوابل الهندية التي كان يستوردها التجار العرب والفرس من الهند إلى الدول الأوربيةK وكانوا يبيعونها في الأسواق الإيطالية أمثال "البندقية" Venice و"جنيف"Geneva . فكانت إيطاليا تتمتع باحتكار المنتوجات المستوردة من الهند، وتبيعها بأسعار مضاعفة، فشق ذلك على الدول الأوربية الأخرى من إسبانيا والبرتغال وهولندا وبريطانيا وفرنسا، وبدأ الأوربيون يبذلون كل ما في وسعهم من المجهودات في العثور على طريق بحري إلى الهند؛ ولكن خابوا في تحقيق هدفهم في بداية الأمر، حتى "كولومبوس" الذي خرج في مهمة حكومية لاستكشاف طريق بحري يؤدي إلى الهند، وصل إلى أمريكا عام 1492م، واكتشف طريقا جديدا إلى عالم جديد. وأول من وصل من الأوربيين إلى الهند كان هو "فاسكو دي غاما" من البرتغال الذي نزل على ساحل مالابار في زمن "زومرن" ملك مالابار في 22 مايو من عام 1498م[1].

ثم اتبع البرتغاليون خطاه في الوصول إلي الهند، وأسسوا في مالابار شركة عام 1500م. وقاموا بإرساء دعائمها حتى بسطوا نفوذها في المناطق الساحلية الهندية من مالابار وبنغلور وكوشين وسيلون وديف وجزيرة بومباي في قرن واحد. وحققوا نجاحا باهرا في كسب ثروات واسعة من خلال رفع أسعار التوابل والمنتوجات الهندية التي احتكروها، ثم كانوا يبيعونها للإنجليز بأسعار مضاعفة، مما استلفت أنظار الإنجليز، فبدأوا يفكرون في الحصول على التوابل الهندية مباشرة. ولكن كان أكبر صعوبة لهم في هذا الأمر هو عدم معرفتهم الطريق البحري الذي يؤدي إلى الهند، فاستمروا في بذل المحاولات غير المثمرة نحو 50 سنة. وأول من نجح من الإنجليز في العثور على الطريق البحري كان Sir Francis Dracke الذي وجد خريطة عام 1578م خلال عمليته النهبية لأسطول برتغالي، واستفاد بها فيما بعد في الوصول إلى الهند[2].

تاسيس شركة الهند الشرقية عام 1600م:
وفي عام 1599م انعقد اجتماع الإنجليز حول "البحث عن وسائل الحصول على التوابل"، واشترك فيه بعض الزعماء. وفي النهاية قرروا تأسيس شركة تجارية تتعامل مع الهند مباشرة[3]، ورفعوا قرارهم لـ "الملكة إليزابيث". فأصدرت مرسوما بإنشاء شركة الهند الشرقية عام 1600م، وأرسلت وفدا إلى الهند بقيادة "هاكنس" الذي نجح في الحصول على الإجازة من الملك المغولي جهانغير لإقامة مصنع في مدينة سورت. ولكنه واجه عقبة في صورة مخالفة البرتغاليين، فاندلعت بينهم وبين البرتغاليين معركة عام 1612م انتصر فيها الإنجليز على البرتغاليين وقاموا بإنشاء مركز تجاري جديد في مدينة سورت عام 1613م. ثم راحت الشركة تخطو خطى واسعة في بسط نفوذها حتى تمكنت من إقامة مراكز تجارية في أكثر المدن الهندية، واقامت لها مراكز في مدينتي كيرالا وميساليبيتنم في عهد سفير الشركة Sir Thomas Rae الذي منحه الملك المغولي جهانغير كثيرا من الترخيصات والتسهيلات. كما أذن شاهجهان للشركة بإنشاء مركز تجاري في ولاية البنغال عام 1634م بعدما أخرج منها البرتغاليين.

وقد أقامت الشركة أول حصن لها "سان جورج" في مدينة مدراس عام 1640م، واشترت الشركة مدينة بومبائي من الملك البريطاني عام 1686م الذي وهبه البرتغاليون كهدية بمناسبة زواجه[4]. فاتخذتها مقرا لها وأقامت لها فروعا عديدة في كل أرجاء الهند، فلم يقتصر وجودها على السواحل، بل وفقا لضرورة الشراء والبيع تسرب إلى مختلف المراكز التجارية الهندية [5].

المنافسة بين الإنجليز والفرنسيين:
ويجدر بالذكر أن الشركة حينما كانت مشغولة في ترسيخ أقدامها ورد الفرنسيون في الهند وقاموا بإنشاء شركة فرنسية عام 1664م، ثم أقاموا لها مراكز تجارية في مختلف المدن الهندية، وقاموا بإنشاء مركز تجاري في سورت عام 1668م، وفي ميساليبيتنم عام 1669م وفي بونديشيري عام 1674م. ثم بدأت المنافسة بين الإنجليز والفرنسيين على بسط نفوذهم حتى وقعت بينهم معركة دامية عام 1740م. نال فيها الفرنسيون بعض النجاح أول الأمر، إلا أن الإنجليز رجعوا ليوطدوا أقدامهم بعد أن انهزمت فرنسا في حرب أوربا. وفي النهاية تمكن الإنجليز من القضاء على الفرنسيين عام 1769م. ثم انفردت شركة الهند الشرقية بالتجارة في الهند، ومن ثم بالسيادة والاستيلاء على أمورها.

سيطرة الشركة على ولاية البنغال:
أول ولاية سيطرت الشركة عليها، كانت ولاية البنغال التي استقل بحكمها علي وردي خان عام 1741م وجلس على عرشها بعد وفاته ابن بنته سراج الدوله عام1756م . وكان سراج الدوله أول من تنبه لخطر الإنجليز الذين بدأوا الآن يهددون سلامة الدويلةوكيانها من خلال تعزيز القوات المسلحة وبناء الحصون بحيلة إنشاء مراكز تجارية. فاستدعى الأمير سراج الدولة إثر توليته الحكم "وانس" الذي كان قائما بأمور الشركة في "قاسم بازار". وقال له: «إنْ أراد الإنجليز البقاء في البلاد بالأمن والسلامة، يستطيعوا أن يسكنوا فيه، ولكن لا يمنح لهم أن يقوموا بالنشاطات غير القانونية، وأَصدرُ لهم أمرا بصفتِيْ حاكما للولاية، أن يمتنعوا عن هذه النشاطات غير القانونية وان يدمروا بالفور جميع الحصون التي بنوها بدون إذني[6]». ولكن الإنجليز لم يمتنعوا عنها بل استمروا في بناء المزيد من الحصون. فسار سراج الدولة إليهم في مايو من عام 1756م وشن الغارة عليهم وقبض على الأسلحة واعتقل عددا من الإنجليز، ثم أطلق سراحهم بعد أن أخضعهم لأمره.

ولما رأى الإنجليز أنهم لا يستطيعون توطيد أقدامهم أمام سراج الدوله وجنوده، بدأوا يعملون على سياستهم الدنيئة "فرق تسد"، فحاولوا إيجاد التفرقة في جنوده المتألفة من المسلمين والهندوس والمسيحيين على أساس الديانة، فقاموا بتوزيع ثلاث وريقات الموقعة عليها من قبل بعض القسوس. وكانت محتوية على فتوى يحرم على المسيحيين العمل في جنود الأمير سراج الدوله والمحاربة مع المسلمين ضد إخوانهم المسيحيين. فترك المسيحيون العمل في جنوده، وانضموا إلى الإنجليز.[7] وفي غضون ذلك قد اعتقل الإنجليز عددا من المسؤولين الهنود بمن فيهم أمين تشاند وهزاري مل وراجا كشن. فلما وصل نبأ اعتقالهم إلى الأمير سراج الدولة، سار إلى الإنجليز وقام بشن الغارة عليهم وهزمهم شر هزيمة. غير أن بعض الإنجليز قد نجحوا في الفرار من كلكتا واجتمعوا في "فالتا" بالقرب من مدينة كلكتا، وبدأوا يستعدون للحرب، واستمدوا المعونة العسكرية من مقر الشركة في مدراس، ولجأوا إلى رشوة بعض المسؤولين الهنود، واشتروا راجا مانك تشاند الذي كان عينه سراج الدولة حاكما حاليا على كلكتا. فترك راجا مانك تشاند أبواب حصن كلكتا مفتوحة للإنجليز الذين دخلوا في الحصن وسيطروا عليه بدون مقاومة في2 يناير من عام 1757.

ولما تلقى الأمير سراج الدولة نبأ سقوط الحصن، هرول إليه حيث عقد بين الفريقين معاهدة الصلح في 9 فبراير التي حافظ الأمير سراج الدولة على وفائها بصدق. غير أن الإنجليز نقضوها وأعلنوا الحرب بعدما قاموا بالمؤامرة مع بعض المسؤولين للأمير بمن فيهم قائد الجيش مير جعفر الذي صار ضرب المثل في الخيانة فيما بعد في شبه القارة الهندية. فالتقى الجيشان في ساحة بلاسي في 23 يونيو من عام 1757م، وانتصر الإنجليز بمساعدة الخائنين الموجودين في صفوف سراج الدولة، وألقوا القبض عليه، ثم قتلوه بعد أن قام بحكم نحو 54 أسبوعا بالشجاعة والفراسة[8].

ثم أجلس الإنجليز مير جعفر على عرش ولاية البنغال عوضا عن الخيانة التي قام بها في الحرب، وجعلوه دمية في أيديهم، فلم يكن له أية سلطة ولا نفوذ، وفي الحقيقة أن الإنجليز هم الذين كانوا يديرون الحكومة ويفعلون كل ما يريدون في تنفيذ خططهم للسيطرة على الهند كلها. ثم عزلوه عن الحكومة بتهمة عدم قدرته على إدارة شؤون الحكومة والسيطرة على أمورها بعد ثلاث سنوات. ثم أجلسوا على العرش زوج بنت علي وردي خان "مير قاسم" عام 1760م الذي كان يتميز عن سلفه بالشجاعة والحماسة والقدرة على إدارة شؤون الحكم بأحسن طريق. وفوق ذلك كله أنه لا يود تدخل الإنجليز في أمور السلطنة. فنقل عاصمته من مرشدآباد إلى مونغير وقام بإصلاح ما فسد في زمان مير جعفر، ودرب الجيوش على الطرق الحديثة للقتال، وحاول سد باب الرشوة والفساد وأبطل قانون المحصول على البضائع التجارية مطلقا[9] بالرغم من مخالفة الإنجليز الذين أرادوا إبقاءه على التجار الهنود. فهذه الخطوة الجريئة أثارت غضب الإنجليز. فعزلوه عن المنصب عام 1763م. وأجلسوا مير جعفر على العرش من جديد، وشنوا غارات على مير قاسم في مونغير، فقاومهم مقاومة عنيفة. وفي النهاية اضطر إلى اللجوء إلى حاكم أوده "النواب شجاع الدولة".

انهزام التحالف الهندي في معركة باكسر عام 1764م:
وكان "النواب شجاع الدولة" آوي الملك المغولي شاه عالم الثاني قبل لجوء مير قاسم إليه منذ زمان طويل. فاجتمع الثلاثة في أوده، ثم ناقشوا أحلام الإنجليز التوسعية ومحاولاتهم في إقامة دولتهم في الهند، وشكلوا تحالفا هنديا، واتخذوا قرارا لشن الغارة عليهم ليتمكنوا من قمعهم. فساروا بجيش كبير حتى قابلهم الإنجليز بمثل الجيش. ولقى الجيشان في ساحة باكسر
(Buxor) ودارت رحى الحرب عام 1764م، ولكن الجيوش الهندية انهزمت بسبب الاختلافات الداخلية. وكانت النتيجة أن الملك المغولي اضطر إلى تحويل حق الإشراف المالي على ولايات البنغال و بيهار وأوريسا إلى الإنجليز الذين انفقوا هذه الأموال على بسط نفوذهم، حتى توطد نفوذ الشركة في جميع أنحاء الهند الشرقية.

الكفاح الوطني لـ"حيدر علي حيدر" وابنه السلطان تيبو ضد الشركة:
ثم ركزت الشركة جل اهتمامها على بسط نفوذها في "دكن" بعد سيطرتها الكاملة على الهند الشرقية لتحقق ما تسعى إليه من التوسع والاستعمار. فبدأت تخطو خطى واسعة في سبيل إخضاع "الهند الجنوبية" لنفوذها، ولكن برزت أمامها قوة حيدر علي وابنه السلطان تيبو التي شغلت الشركة ورجالها فترة من الزمان. فشهدت أرض ميسور أربع حروب عظيمة، منها اثنتان قادهما "حيدر علي حيدر" الذي استقل بالحكم عام 1761م وقام بترسيخ دعائمه، ثم توجه إلى توسيع مملكته. فشعر منه نظام الدكن والمراهتا بالخطر، فاغتنم الإنجليز هذه الفرصة وشكلوا ائتلافا بين المراهتا ونظام الدكن والإنجليز، ثم خاضوا في الحرب التي استمرت من عام 1767م حتى عام 1769. ثم وقعت الحرب الثانية بينه وبين الإنجليز والمراهتا ونظام الدكن عام 1780م واستمرت حتى عام 1784م. فظل يحاربهم بشجاعة حتى أصابه الرصاص. فخر شهيدا في المعركة عام 1782م. ثم خلفه ابنه البار فتح علي خان الملقب بالسلطان تيبو. وكان شجاعا كبيرا. فلم تعرف الهند في تاريخها الطويل قائدا عالي الهمة وثاقب النظر، وشديد الغيرة على الدين والوطن، وعظيم العداوة والبغض للمستعمر الأجنبي وأثقل عليهم من السلطان تيبو[10].

فظل السلطان تيبو يحارب الإنجليز حربا عنيفة بعد وفاة أبيه حتى اضطروا على التصالح، فتم التوقيع على معاهدة الصلح بينه وبين الإنجليز في 11 مارس من عام 1784م. وتعتبر هذه المعاهدة بمثابة الانتصار للسلطان تيبو على الإنجليز، لأنه قد جعل هذه المعاهدة وفقا لمصلحة مملكة ميسور، فأجبرهم على قبول شروطها، منها عدم تدخلهم في أمور المملكة وصدهم عن تقديم المساعدة إلى عدوانه علانية أو في السر. ولكن الإنجليز خالفوا معاهدة الصلح وأعلنوا الحرب ضده بعدما نجحوا في شراء بعض المسؤولين من قواده بمن فيهم رئيس وزراءه "مير صادق" ورئيس قواده "فورنيا"و"مير معين الدين" و"قمرالدين" و"غلام علي لنغرا". فدخل السلطان مع الإنجليز في حربين، وقعت الأولى منهما عام 1791م ، وهي التي انتزع فيها الإنجليز منه نصف مملكته، والثانية وقعت عام 1799م، وكاد يتم له فيها النصر ويتم للبلاد على يديه التخلص من الإنجليز، لولا أن قام الخائنون المذكورون وأعوانه بالخيانة[11]. فسقط الملك صريعا في المعركة في 4 مايو عام 1799م وفضل الموت في المعترك على الأسر على أيدي الإنجليز والحياة في ظلهم وتحت رحمتهم، وقال كلمته الخالدة المأثورة في التاريخ «يوم من حياة الأسد خير من مائة سنة من حياة ابن آوى.» ولما بلغ القائد "هارس" شهادة السلطان، حضر ووقف على جثته وقال: "اليوم الهند لنا"[12].

ثم خلا للشركة الجو لتفعل ما تريد، فسيطرت عنوة على أكثر ولايات الهند وضمت إلى نفوذها دويلات بنجاب وسيتارا وناغبور وجهانسي وأوده خلال الفترة التي تتراوح ما بين عامي 1843م و1856م فقط [13].

ثورة عام 1857م وأسباب انفجارها:
واستمرت الشركة على منوالها من استيلائها على أكثر الولايات عنوة، واستغلالها التجاري من المصادر الهندية وتوفير المساعدة للبعثات التبشيرية وممارسة التمييز العنصري ضد أبناء البلاد وسن قوانين ساعدت في تحقيق هدفها وأضرت مصلحة الهنود ودمرت البنية التحتية الهندية. فهذه الأسباب المذكورة وغيرها خلقت الكراهية والبغض في قلوب الهنود، وأثارت مشاعرهم الدينية والوطنية. وبينما حدثت حادثة الخرطوشات المطلية بشحم البقر والخنزير التي أدخلها الإنجليز في الجنود الذين كان فيهم الهندوس والمسلمون، والبقرات أكلها محرم على الهندوس مثل تحريم الخنزير على المسلمين. فقد أثارت هذه الخرطوشات ضجة عنيفة بدأت من قرية بيركفور بولاية بنغال، حيث رفضت فرقة عسكرية رقمها 21 قطع الخرطوشات بالأسنان حفاظا على دياناتهم. فأرادت الحكومة عزلهم عن وظيفتهم العسكرية، فثار واحد منهم وهو يعرف بـ"منغل باندى" الذي قتل إثنين من المسئولين الإنجليز وهما "سارجنت ميجر" و"واغ" ثم ألقي القبض عليه وحوكم وحكم عليه بالإعدام الذي تم تنفيذه في 18 من ابريل عام 1857م.

وانتهت هذه الضجة العنيفة الناتجة عن إدخال الخرطوشات المطلية بشحم البقر والخنزير في الجنود، بالثورة التي رفع علمها الجنود من بلدة ميرت في 9 مايو من عام 1857م، والتي دعّمها القادة الهنود والعلماء. وقصة ذلك أن الإنجليز أدخلوا هذه الخرطوشات المطلية بشحم البقر والخنزير في 24 ابريل في فرقة عسكرية من الفرق العسكرية الموجودة في بلدة "ميرت" بالرغم من هذه الحقيقة أن هذه الخرطوشات أحدثت ضجة عنيفة من قبل في جنود بيركفور بولاية بنغال كما شهدنا ذلك. فرفض أكثر أعضاءها بقطعها بالأسنان الذين كان عددهم يقدر بحوالي خمسة وثمانين جنديا هنديا، بمن فيهم تسعة وأربعون مسلما وستة وثلاثون هندوسيا. فألقي القبض عليهم جميعا، ثم حوكموا بتهمة عدم امتثالهم لأمر الحكومة فحكم عليهم بالسجن لعشر سنوات مع الأعمال الشاقة، وإذلالهم بشتى الطرق والوسائل أمام إخوانهم من الجنود الآخرين في 9 مايو من عام 1857م. وصور المؤرخ الأمريكي "ادوارد توماس" في كتابه The other side of the Mutiny هذا المنظر المخيف والمروع أحسن تصوير، كما يلي: «سيق 85 جنديا إلى المحكمة العسكرية تحت مراقبة الحراس، وحكم عليهم بهذا الحكم الفظيع، ثم عريت اجسامهم من ملابسهم العسكرية، وكبلوا بالحديد، وكان هذا المنظر منظرا مروعا ومؤلما، تسيل له قلوب رفقاهم إشفاقا عليهم ورحمة بهم، وكان في المحكوم عليهم من خدم الإنجليز خدمات جليلة، وحارب في صفوفهم، ولقي الشدائد والأذى في سبيل مرضاتهم[14]."

وكتب العلامة فضل حق الخير آبادي مسلطا الضوء على الأوضاع التي قام الجنود فيها بالثورة ضد الحكومة: «فعمدوا بادئ ذي بدء بمكائدهم، إلى أن يزلّوا جنودهم من مسلميهم وأهاندهم، عن رسومهم وقواعدهم، ويضلوهم عن أديانهم وعقائدهم، لزعمهم أن الجنود من الأبطال، إذا ارتضوا لأديانهم بالإبدال والأبطال، وتلقوا أحكامهم بالقبول والامتثال، لايكون لغيرهم مساغ ومجال للنكوص مخافة التنكيل، فكلفوا الأهاند منهم وهو جم غفير، وجمع كثير، بإذاقة شحوم البقير، والمسلمين وهم قليل نزير، بإذاقة شحوم الخنازير، فانحرف كل من الفريقين عن الطاعة والانقياد، حفظا لما لهم من الدين والاعتقاد، فأخذوا يقتلون فريقهم، ويقطعون طريقهم ويغتالون طرخانهم من اعتدى وأساء، وارتكب الفظاظة والقساء، فقتل الولدان والنساء، فاستحق الخذلان والهوان، واستوجب الخزي والصغار من قتل الصبية والصغار.»[15].

ولما شاهد الجنود هذا العدوان الإنجليزي على إخوانهم الجنود، اتخذوا قرارا لطرد الإنجليز من البلاد، فقاموا بالثورة في مساء اليوم العاشر من شهر مايو، عام 1857م، وقاموا بقتل الإنجليز، وأحرقوا قصورهم ودمروا السجون وأطلقوا سراح الأسرى الهنود، وسيطروا على بلدة ميرت الواقعة على مسيرة أربعين ميلا من مدينة دلهي، ثم توجهوا في ليلة الحادية العشرة من شهر مايو إلى مقر الحكومة المغولية، ووصلوا إليها في صباح الحادي عشر، ودخلوا في المدينة بعد مواجهة بسيطة وخفيفة، وسيطروا عليها واحتشدوا في داخل القلعة الحمراء حيث كان الملك المغولي الأخير بهادر شاه ظفر يسكن مع بلاطه وأسرته، وجعلوه قائدا للثورة واتخذوه رمزا للوحدة الوطنية والكفاح الشعبي، ورفرفوا العلم الهندي على القلعة الحمراء مطالبين بالبيعة على يد الملك بهادر شاه ظفر لإجلاء الإنجليز عن الهند. في ذلك الحين أيدهم القادة والزعماء والعلماء الوطنيون في هذا الكفاح الوطني. وكان في مقدمتهم الملك بهادر شاه ظفر الذي كان في بداية الأمر مترددا في قبول طلب الجنود بأن يكون قائدا لهم في هذه المعركة، فتعذر الملك لهم قائلا: "ليس لدى خزائن، أعطيكم منها رواتب، وليس لدى جيش أساعدكم به، لا أستطيع أن أفعل لكم شيئا في سبيل ذلك، فلا تعلقوا آمالكم عليّ.[16] فأجابه الجنود الثوار قائلين: نحن نجمع أو ندخر جميع الخزائن الإنجليزية من البلد كله تحت قدميك، فقبل الملك الضعيف بأخذ زمام القيادة للمعركة الأولى لنيل الاستقلال[17]."

هكذا تحولت هذه الثورة الجندية إلى المعركة الوطنية التي دوى دويها في معظم مدن الهند وقراها. فانتشرت المعركة في مختلف أنحاء البلاد مثل انتشار النار في الغابة، خلال شهر واحد منذ تولى الملك قيادة المعركة الوطنية. فرفع الناس علم الجهاد ضد الحكومة في روهيلكهند بقيادة خان بهادر خان، وجنرال بخت خان "وفي مدينة كانفور بقيادة "نانا" الابن المتبنى للقائد باجي راؤ، وفي مدينة جهانسي بقيادة الملكة لكشمي بائي، وفي لكناؤ بقيادة بيغم حضرت محل، وفي فيض آباد بقيادة الشيخ أحمد الله خان، وفي شاملي بقيادة الحاج إمداد الله وفي إله آباد بقيادة الدكتور وزيرخان، وفي مدينة كيرانا بقيادة الشيخ رحمة الله، وفي مدينة بتنا بقيادة العلماء الوهابيين، وفي بيهار بقيادة كنور سنغ. فإن هؤلاء القادة والعلماء حاربوا الانجليز حربا عنيفة، وقاوموهم مقاومة باسلة، وقدموا مثالا رائعا للتضحية والإيثار في سبيل تحرير البلاد؛ وأحرقوا دمائهم وبذلوا أموالهم حتى نجحوا في إقامة حكومة مستقلة في مختلف مدن الهند وولاياتها.

وحكم الملك المغولي بهادر شاه ظفر في دلهي مدة تقدر بحوالي أربعة أشهر وأربعة أيام. فأقام الملك بعد السيطرة الكاملة على دلهي حكومة مستقلة في الحادي عشر من مايو واستمر في حكمها حتى 14سبتمبر. ولكن في أثناء هذه المدة، حدث شقاق وخلاف بين صفوف المجاهدين لأجل بذرة الخلاف والشقاق التي بذرها الانجليز ومعاونوهم الهنود. فانتهز الانجليز فرصة هذا الخلاف وكثفوا هجومهم ضد الجيش الهندي، والملك الذي بلغ أرذل العمر ولا يملك نفعا ولا ضرا. فقاتل المجاهدون والقادة والعلماء الانجليز قتالا قويا وقاوموهم مقاومة عنيفة، وقدموا في سبيل تحرير البلاد تضحيات عظيمة .غير أن مجهوداتهم المشكورة ذهبت أدراج الرياح.

ففي 14 سبتمبر من عام 1857م، هجم الجيش الانجليزي على دلهي بقيادة "اللورد ولسن" الذي تمكن من الانتصار على الجيش الهندي. فسيطر الانجليز على معظم مناطق دلهي في 19 سبتمبر، ودخلوا في القلعة الحمراء بعد القضاء على الحكومة الهندية المستقلة. ثم القوا القبض على الملك المغولي بهادر شاه ظفر في مقبرة همايون في 23 سبتمبر. ثم حوكم محاكمة ذليلة وحكم عليه بالنفي إلى رنغون في 9 مارس من عام 1958م، وتم نفيه إليها في 2 نوفمبر من عام 1858م مع بعض أعضاء أسرته، حيث توفي في 7 نوفمبر من عام 1862م. ثم أخمدوا نيران الثورة في جميع الولايات الهندية ولاية بعد ولاية حتى اخضعوا الهند كلها لإمرة الإنجليز، بعد إفشال الثورة الهندية لعام 1857م. وبالتالي انتهت فترة حكومة الشركة. فإثر فشل الثورة لعام 1857م دخلت الهند كلها في الحكم المباشر للإمبرطورية البريطانية، الذي استمر حتى عام 1947م الذي كسبت فيه الهند استقلالها من الحكومة الاستعمارية.

 

قسم اللغة العربية وآدابها – جامعة كشمير سرينغر، الهند

 

 

[1] How India lost her freedom, Sunderlal, p1-2

[2] Ibid, p-4

[3] R.W. Frazer: British India, p-26

[4] How India lost her freedom, Sunderlal, p-7

[5] History of freedom movement, Vol,1, p-382, compiled by Pakistan Historical Society group of editors under the chairmanship of Mahmud Husain

[6] How India lost her freedom, Sunderlal, p-19

[7] Ibid, p 20

[8] Ibid, p35

[9] محمد يوسف كوكن، دولة المغول في الهند، دارالحافظة للطباعة والنشر، مدراس، الهند، ص1

[10]، المسلمون في الهند، أبو الحسن علي الحسني الندوي،المجمع الإسلامي العلمي، لكناؤ،ا لهند، عام1998م، ص147

[11] سيرت سلطان تيبو شهيد،محمد الياس ندوي، مجلس تحقيقات ونشريات اسلام، لكناؤ، الهند،2006م،ص 320

[12]، المسلمون في الهند، أبو الحسن علي الحسني الندوي،المجمع الإسلامي العلمي، لكناؤ،ا لهند، عام1998م، ص147

[13] Rebellion, 1857, A symposium, edited by P.C.Joshi,,P-23

[14] نقلا عن تاربخ الإسلام في الهند للدكتور عبد المنعم النمر (ص:437

[15] العلامة فضل حق الخيرآبادي، "الثورة الهندية" المعروف بـ "باغي هندوستان" هذبه مولانا محمد شاهد خان شرواني، ، مطبع اخبارمدينة بجنور،1947م، ص 360-359

[16] - أسلم برويز، بهادر شاه ظفر اور اتهاره سوستاون، سه ماهي اردو، 2007م، ص:98.

[17] - سندر لال، سن ستاون،أنجمن ترقي اردو هند، علي غره، 1957م،، ص :71.