البنية العميقة لـ«سيّدات القمر» صاغتها الروائية كما يبدو لروايتها بخصوصية وسلاسة، مستفيدةً من تقنيات الرواية الحديثة التي صاغها معلّمو الرواية، وبالأخص منهم وليام فوكنر في «الصخب والعنف»، حيث التشابه في تجْلية جراح التغيّرات، عاريةً وصادمةً إلى العلن، بالتفتيت المذهل للزمن، داخل الشخصية الروائية، لتجميعه داخل القارئ. وأضافت الروائية لروايتها فتنة الواقعية السحريّة، مستفيدةً من ذاكرة تراثها العماني الغني الذي يمزج ماورائيّات الجنّ بواقع الخوف من المجهول، وابتكار أوهام تجنّب شروره.

«سيدّات القمر»: تجلّيات عنف الحبّ في صخب التغيّرات

المثنى الشيخ عطية

 

باكتمال التراكمات داخل خزّانات النفوس، ووصولها حدّ الانفجار الذي لا يمكن لجمه، حتى بردود أفعال العنف من قبل من يشعرون بتهديد التغيير؛ يجدُ صخبُ التغيّرات التي تطرأ على المكان وبَشَرِه، تعبيراتِه الإبداعية الفاتنة بقوة، على أصعدة الحياة الوجودية والاقتصادية والاجتماعية. وهذه يأتي الحب كجوهر لها، في رواية “سيدات القمر” للروائية العمانية جوخة الحارثي، الأولى من العرب التي حازت ترجمتها إلى الإنكليزية، قبل أيامٍ، جديرةً بذلك، على جائزة “مان بوكر العالمية”.

مع مَحْوَرةِ حركتها على التغيرات التي شهدتْها عُمان لثلاثة أجيال سابقة، تُمحور “سيّدات القمر” نفسها أيضاً، وفي العمق، كروايةِ حبّ يجري تحت نار التغيرات، ولكنْ بتعدّي الحب من صيغة الحب الفردي إلى تعدد أشكاله، وتجاربه، وتعدد مساراته التي يجد الكره والانتقام تذاكرهما على خطوطها. ذلك يبدأ من حبّ المراهَقة العذري الذي يجري مع ميّا، ويعاني من خذلان الله الذي تدعوه لتحقيقه، فتترك الصلاة له؛ إلى حبّ أختها أسماء المثقفة بالدين، والكاشفة لما يقدّمه المشايخ من زيفٍ، للفنان خالد الذي أراد لها باسم الحب أن تدور في فلكه، ووجدت فلكها الخاص مع حفاظها على حبها؛ إلى حبّ أختها خولة المتفائل المحبَط لشابٍ ارتبط بأجنبية في كندا، وعاش هجرانها وهجران أطفاله إلى أن طردتْه المرأة الكندية، فعاد للاهتمام المتفرغ لها ولأبنائه، لكنها انتقمت منه بتركه بعد أن كبر أولادها؛ إلى حبّ نجيّة، البدوية الفاتنة صنو القمر، التي تعيش علاقة حرة من أي التزام مع عزان المتزوج، وتودي بها علاقتها إلى القتل ومحو أثرها على يد زوجته سالمة؛ إلى حبّ ظريفة العبدة لمالكها التاجر أبو عبدالله وتسليمها بالعبودية، لأجله وأجل عائلته؛ إلى الحب المحرّم من أم عبدالله لعبد، ويودي بها للتسميم من قبل أخت زوجها.

كل هذا يتضافر مع تعميق جميع أشكال الحبّ وتجاربه في الرواية، بالغوص في أعماق بحر الذات الإنسانية المتفاعلة دون وعي مع الحاصل معها من رياح التأثيرات، مع استخدام خلفيات سيكولوجية وفلسفية وثقافية كاشفة، تتضمن عرض رؤية مفكرين وشعراء عظام مثل المتنبي وابن الرومي عن الحب، إضافة إلى الغوص في علاقة الحبّ بالأمومة، وبالحرية حيث: “كانت الرؤية بينهما واضحة جداً منذ البدء: العلاقة الحرة. هذا ما أراده كلاهما: الحريّة في العلاقة، ولوهلة ظنا أنهما بلغا الكمال في حرية الشغف الخالصة، لا تصنّع ولا مداراة ولا كذب، لا وعود ولا آمال، اشتعالُ اللحظة وحسب، لا قيود من الماضي والأهم من ذلك: لا قيود من المستقبل. هذا ما أراده كلاهما وسعى إليه: رجل حرّ وامرأة حرة وعلاقة حرة. بعد أسابيع قليلة اكتشف عزان أن علاقتهما الحرة تسقط في أعنف أشكال العبودية، وأن هذه الحاجة الملحّة للآخر تقيّد كلاً منهما بأعتى القيود، وتشغله عن كل شيء عداها. عرف أن الدورة اللانهائية من الاتصال والانفصال بينهما حلقةٌ محكمةٌ يدوران فيها عبدين مقيّدين”.

إضافة إلى ذلك، تأخذ مسألة تحرير العبيد مكانتها المتداخلة بعمق في الرواية، وفي عرضها للتغيرات التي طرأت على المجتمع العماني بعد قرار الأمم المتحدة بتحرير العبيد عام 1926. ولا يكاد يخلو دور من أدوار السرد فيها من مآسي هذه المسألة، في تعاطفٍ صارخ مع العبيد، يبلورُه سردُ الكاتبة لقصص سرقتهِم أطفالاً وشباباً من قراهم الآمنة في أفريقيا، وشحنهِم المهلك في سفن الموت، وبيعهِم من قبل التجار العرب والإيرانيين والبلوش في أسواق النخاسة، واستغلالِهم في العمل وانتهاكهم في الجنس، مع حرمانهم من تسمية أولادهم وبناتهم بأسماء ساداتهم. يبلغ هذا درجة تسمية أم ظريفة بعنكبوتة: “قالت له: “صحيح اللي سمعته يا سنجر؟ تترك بلدك وأهلك وتسافر؟”. قال سنجر: “نعم صحيح، وتعالي معي إذا تريدي”. هجمتْ عليه تشدّ رقبته: “تسمّي بنتك هذا الاسم الغريب رشا وتريد تهاجر؟”. أفلتَ يدها بقسوة وصاح فيها: “اسمعي يا أمّي، بنتي ما يهمّني اسمها ولو كانت ولد سمّيته محمّد أو هلال أو عبد الله.” صاحت ظريفة: “أيش؟.. سيقتلك التاجر سليمان .. تسمي على اسم أهله وأولاده؟ أنت جنّيت يا ولد؟ تكبّر راسك على من ربّاك وعلّمك وزوّجك؟” تكلّم من بين أسنانه: “اسمعي يا ظريفة، التاجر سليمان رباني وعلّمني وزوّجني لمصلحته هو، من أجل أنّي أخدمه وتخدمه امرأتي وأولادي، لكن لا يا ظريفة، التاجر سليمان ما له دخل بي، نحن أحرار بموجب القانون، أحرار يا ظريفة، افتحي عيونك، الدنيا تغيّرت وأنت تردّدين حبابي وسيّدي، كل الناس تعلّموا وتوظّفوا وأنت مثل ما أنت، عبدة التاجر سليمان وبسّ، هذا الشايب الخرفان، افتحي عيونك يا ظريفة، نحن أحرار”.

البنية الظاهرة التي ألبستها جوخة الحارثي لروايتها، تتمثل في نسيج واحدٍ لا يبدو مخاطاً كثوبٍ في الظاهر، حيث ينساب النص دون فصول، لكنّ النسيج الخام الساحر بخطوطه المتداخلة بعمقٍ، يأخذ تشكلاته وتفاصيل أناقته، على جسد القراءة، بمجرد وضع القارئ له على جسده. هنا تبدأ شظايا الزمن، التي أخذت مكانَها عميقاً داخل أجساد وأرواح شخصيات الرواية، بالتلملم داخل القارئ، لينسج بنفسه الحكاية، ولتكوْنَ البدايات وتسلسلات الأحداث والنهايات المغلقة والمفتوحة روايةً واحدةً، لكنْ ببنى مختلفة وفق مقاسات كل قارئ، وتتجلّى الروعة في الثياب المتشكلة أنها تتكوّن أيضاً كمرآةٍ تعكس نفسها، لتُري لابسَها ما خاط داخلُه من نسيج طفولته ونضجه ومكوّناته الجينية والثقافية…

البنية العميقة لـ”سيّدات القمر” صاغتها الحارثي كما يبدو لروايتها بخصوصية وسلاسة، مستفيدةً من تقنيات الرواية الحديثة التي صاغها معلّمو الرواية، مثل مارسيل بروست، وجيمس جويس، وبالأخص منهم وليام فوكنر في “الصخب والعنف”، حيث التشابه في تجْلية جراح التغيّرات، عاريةً وصادمةً إلى العلن، بالتفتيت المذهل للزمن، داخل الشخصية الروائية، لتجميعه داخل القارئ. وأضافت الحارثي لروايتها فتنة الواقعية السحريّة التي نبضتْ مشرقةً في الرواية الأمريكية اللاتينية، مستفيدةً من ذاكرة تراثها العماني الغني الذي يمزج ماورائيّات الجنّ بواقع الخوف من المجهول، وابتكار أوهام تجنّب شروره.

في إبداع بنيتها العميقة الخاصة، يتجلّى السردُ بطلاً يرافق أبطال الرواية كظلالهم، سارياً بدورين رئيسَين متتابعين هما:

أولاً، دور الراوي الذي هو كاتبة الرواية، والذي يتجاوز الشرحَ والتفسير لتواريخ الشخصيات والأحداث، إلى تحليلِ ما يمور بداخل الشخصية، وما تُفاعِله الأحداث مع هذا الداخل، من دون مباشرة، وبإبداعية التساؤل المجهول الذي يُلملم القارئُ إشاراتِه لتكوين الصورة.

وثانياً، دور شخصية عبد الله الذي يشكل الوسط بين جيل الآباء والأجداد، وجيل الأبناء، للعائلات العمانية النموذج الشاهد الذي اختارته الكاتبة بدقة إبداعية، للتعبير عن التغيرات التي انتابت المجتمع العماني، منذ بدايات القرن العشرين، ودخول التكنولوجيا والحداثة التي تتعارض مع مكتسبات وقيم الموروث.

ويدخل ضمن دوريْ السرد هذين، شظايا سرد الشخصيات المتداخلة بشخصية عبد الله، بإضافة سردٍ واحد كامل لشخصية خالد الفنان عن فنه وعن تموضعه في العالم خارج مخيلة أبيه، فلكاً يريد أن يجذب دون وعي منه شخصية حبيبته للدوران فيه، وذلك ببدء الراوي/ الكاتبة لهذا السّرد كسؤال، وختامه كمتابعة. ويتميز سرد دور شخصية عبدالله عن سرد الكاتبة بتشظي الزمن وفقاً لذاكرته المنداحة، وأحلام يقظته، وكوابيسه، داخل الطائرة المتجهة به إلى فرانكفورت، معلقاً على كرسيها بين السماء والأرض، واقعاً، وإحساساً يمازج سرده على صراط صراعات السادة والعبيد وصراعات الذكور والإناث، وصراعات الأجيال، وصراعات الأب والابن التي تختم الرواية بعقدة أوديب، بينه وبين أبيه وبينه وبين ابنه، على صراط محور أنثاه التي يعشق. ويمكن تلمّس طبيعة هذا الختام الأوديبي اللطيف، في ساقية جريان الرواية التي يطفو فيها إحساس الطفل عبدالله دائماً، بحضن العبدة ظريفة التي اتخذها والده عشيقةً، كحضنٍ أمومي يشكّل ملاذه الحامي.

ولا يغيب عن البنية العميقة وضع الكاتبة بإبداع محسوس بقوة، لكلّ ما يشكل روايتها، ضمن ثنائيات متصارعة كما الحياة نفسها، على صراط التغيرات. ففي معالجتها الإبداعية الناجحة من خلال تشظي الزمن، وتنويع اللّغة الناجح بين الفصحى والمحكية العمانية وفقاً لطبيعة السرد، وإقامة التشابك البسيط لعلاقات معقدة بين ثلاثة أجيال لعائلات متداخلة بعلاقات الحب والزواج والعبودية، وفوق ذلك إثارة المتعة؛ لا يمكننا سوى الإشارة إلى صعوبة إنجاز مثل هكذا رواية بنجاحٍ كما فعلت “سيدات القمر”، وسوى تقدير هذا الإنجاز الإبداعي الشيّق، الذي نال التقدير بما يستحق.

 

جوخة الحارثي: “سيدات القمر“

دار الآداب، بيروت 2018

229 صفحة.

جريدة القدس العربي