يطور القاص التونسي سرداً واقعياً هادئ الإيقاع عن شخصية المدله بالكتب والقارئ عن الكيفية التي يعيش ويفر ويحلم بها في الكتاب إلى كابوس يعيشه وكأنه واقعاً حياً عن فكرة التوحيد مع الكتاب في مكان خيالي فيجد في العزلة جحيماً.

كابوس مقروء

أسامة حباري

 

لم يكن يستمتع حقّا إلّا حين يمسك كتابا.

ينام متوسّدا الكتاب و يفيق صباحا فيطّلع على ما تيسّر ثمّ يمضي في قضاء

شؤون يومه. حتّى عندما يجلس على المقهى كان لا يفارقه الكتاب إلّا حين

يؤلمه طول التّحديق في الأسطر المطبوعة و الفقرات الملتحمة و المفردات

المتقاربة.. يبعد نظره إلى حيث الأفق البعيد حيث ينفتح أمامه المشهد في إحدى الاتّجاهات الستّة , ثمّ ما يفتأ أن يعيده متلهّفا إلى حيث أوقف القراءة مؤقّتا.. لكأنّ قدره تعلّق بالتّأمّل سواء أكان في وجوده الواقعيّ أو بين صفحات الكتب. تعلّقه بالكتب كان تعلّقا حميميّا , شبه التحام بين صديقين و قديما قيل في الكتاب ما لا يقال في غيره "...و خير صديق في الأنام كتاب.."

كثيرا ما كان يردّد تلك العبارة في إطار الرّدّ على من ينتقد تعلّقه المرضيّ

بالكتب و المطالعة و هو المتحصّل على أكبر جوائز المطالعة في البلاد.

و جاء يوم موعود اختير فيه للذّهاب في جولة في الصّين لزيارة أكبر مكتبة

عموميّة و أجملها إطلاقا..و كان من أحلامه أن يزور أمثال تلك المعالم الّتي لا

تجذبه غيرها في الحقيقة.

حزم أمتعته بعد وصول الخبر إليه على شاكلة برقيّة مكتوبة بعثت إليه من قبل

جمعيّة ترعى محبّي المطالعة وسّمته سابقا - تحديدا قبل سنتين – و جهّز كلّ

حاجياته و استودع والديه و هما البالغين منتصف عقدهما السّادس و بينه و

بينهما ثلاثة عقود في السّنّ. و نام ليلته و رأى أحلاما لم يرها قبل ذلك أبدا..

رحلة بديعة خاضها و أيّام من المرح تُوّجت بزيارة مطوّلة برمجت لمدّة ثلاثة

أيّام بأكملها سيخرج بعدها كما لم يخرج من قبل من المكتبات الّتي زارها سابقا.

زجاج بديع في كلّ الأروقة ..أروقة كريسطاليّة و مدرّجات عديدة , و الأهمّ من

ذلك امتداد مذهل كمدّ البصر للمساحة التّي تمتدّ على سطحها المكتبة العجيبة.

دخل الوفد بأكمله و انبهروا بالكمّ الرّهيب من الكتب الّذي بلغ المليوني كتاب

بكلّ لغات العالم ..و حتّى بلغات ميتة لدارسي التّاريخ و الآثار.

إنّه يوم عجيب , قال في نفسه , و حياة أعجب : يا لها من أيّام تلك الّتي يستمتع فيها أمثالي من محبّي الكتب و المطالعة , لأنّ المتعة عزيزة فهي تأتي مركّزة لا مثيل لها .. كم عدد زائري هذه المكتبة في بلدي؟

لا أعرف , لكنّه لن يتجاوز أبدا عدد أصابع اليد الواحدة في أقصى الحالات ..

جاءته العاملة الأنيقة و قدّمت له كأسا من الشّاي الصّينيّ المهدّئ لللأعصاب

المساعد على التّركيز , فشرب شاكرا و أخذ ينظر إليها مغادرة بهدوء غير

طبيعيّ : لقد كانت رشيقة القوام متأنّية المشية , جمالها من النّوع المثير الممتزج بالهدوء الهادف .. " لم يختاروها صدفة لعملها ..فهي المرأة المناسبة في العمل المناسب ".. ابتسم و هو يفكّر فيما خطر على ذهنه من أفكار و مشاعر حقيقيّة.. ليته يتزوّج منها و يستقرّ هنا , تماما في هذه المدينة يعمل تاجرا للأقمشة ويزور يوميّا المكتبة لربع يوم تامّ .. خاطبها قبل أن تبتعد بصوت واضح متسائل

: " هل لديكم قسم للإعارة سيّدتي.."

توقّفت هنيهة ثمّ التفتت مبتسمة و ردّت :

" نعم..لكن في الجزء الخارجيّ..هل تريد أن تترك المطالعة هنا و تجرّبها في مكان آخر؟"

ردّ هو بصوت هادئ و بإنكار شديد

: " لا ..أبدا .. لم أقصد ذلك ..لقد أردت

مجرّد الاستفسار لا غير..

و بالفعل لا يوجد مكان أحسن على هذه البسيطة نطالع فيه كتابا من هذا المكان العجيب..

قال ذلك و أخذ ينظر إلى طابق ثالث يطلّ على ساحة الاستقبال الخارجيّة حيث

يقبع لتناول الشّاي متأهّبا لأجمل تجربة مطالعة سيعيشها يوما ..

نعم , هو ذا أمام الكرسيّ الممتدّ , المصنوع من الكريسطال الخالص و المغلّف

بقماش حريريّ مخمليّ ممّا اشتهرت به الصّين و في المكان تفوح رائحة

الصّندل الفوّاحة و روائح أخرى مبهمة تمتزج بالهواء.. أخذ ينظر في الكرسيّ بإعجاب و حيرة ..كيف صنعت هذه التّحفة ؟ ياللاحتفاء بالكتاب حين يبلغ ذروته أو أكثر من ذلك قليلا...بل كثيرا.

أخذته الأفكار بعيدا قبل أن يختار رواقا يبحث فيه عن كتاب مناسب لجلسة لن

تتكرّر كثيرا و لقد قرّر قراءة الجزء الأوّل من كتاب ألف ليلة و ليلة ليطول به

المكوث أطول قدر ممكن من الوقت.. بحث عنه و سرعان ما عاد به , ثمّ جلس في مكانه على الكرسيّ العجيب و اتّكأ مستمتعاً باحتكاك الكرسيّ الوثير بظهره و بجانبيه .. أخذ نفسا عميقا و بدأ يستكشف الكتاب : يقلّبه يمينا و يسارا , يتحسّس ملمس أوراقه و يتعرّف مقدار جودة الطّبع و مكانه و كيفيّة تقديم الكتاب و ما زيّن به غلافه الخارجيّ و عدد صفحاته...وهو طقس شبه دائم يعتمده قبل قراءة لأيّ كتاب أو شرائه أو اختياره لمطالعة عابرة.. و فتح الكتاب و مع فتحه الصّفحة الأولى انغلقت دونه و دون الباب الخارجيّ للغرفة علبة من الزجاج الرّقيق العازلة للصّوت و انغلق الباب الخارجيّ و انتهى به الأمر إلى الانفراد بالكتاب بعيدا عن كلّ شيء..

طبعة أنيقة لا مثيل لها , و أجواء أجمل و ساعات ثلاث كافية في جلسة

المطالعة الأولى.. نعم لقد آلمه رأسه قليلا لكنّه سيرتاح في غرفة الاستراحة ثمّ سيذهب للقيام بجولة مناسبة بعد ذلك مع بعض رفاق الرّحلة، لكن عليه قبل كلّ شيء أن يغادر المكان المريح المساعد على التّركيز بشكل استثنائي ّ إلى حين.. أين هو زرّ الفتح أو المغادرة. الغريب أنّ الموظّفة لم تخبرني بشيء من هذا البتّة.. إنّها شبه متجاهلة للأمر أصلا , فحين التقت به لم تذكر له شيئا عن المغادرة..لقد كانت ترغّبه بشدّة على المطالعة في هذا المكان لكنّها لم تذكر له شيئاً عن المغادرة أصلا. كيف غاب عنه هذا ؟ كيف نسي أن يستفسر عن الأمر ..؟ هل هو الهوس القاتل أدّى به لنسيان مسألة المغادرة من ذهنه .. هوس جعله يُحتجز احتجازا في مساحة بلّوريّة شبه معزولة عن العالم , بل عن الحجرة التي تنتمي ّإليها أساسا. أخذ يتحسّس جوانب الكرسيّ فوق رأسه و تحت قدميه و على سطح الغطاء البلّوريّ ..

  • " كيف سيكون أمره بعد سويعات من الآن ..؟"

إنّه يحسّ بجوع شديد و عطش أشدّ ..هو لم يأكل شيئاً أثناء الرّحلة الجوّيّة أو

أثناء نزوله منها لأنّه سيق بشكل مباشر إلى مقرّ المكتبة دون لحظة انتظار

واحدة.. كان الأجدر به أن يتناول ما يملئ به بطنه و لو نصف امتلاء قبل دخول " كابينة " المطالعة الّتي كانت تشبه إلى حدّ كبير صاروخا فضائيّا على أهبة الانطلاق .

رحلة غريبة في انتظاره , إحتجاز دون سابق إنذار..مفاجأة قد تكون استهدافا

لمحبّي المطالعة في بلاده..هل كان الهدف من وراء ذلك معاقبة محبّي الكتب و

العلم و مدمني المعرفة و الثقافة في بلاده؟. كان عقله يكفّ عن تتبّع المنطق المعهود الّذي نعرفه جميعا..لعلّ نقصا في الأوكسجين أصابه فجعله يفكّر بشكل أخرق لا معقول . الأفكار المتناقضة تخترق ذهنه و الإحساس بالأزمة أخذ معه حدّا متصاعدا وألم الجوع و العطش كان ينهش أعضاءه الدّاخليّة كنار متّقدة.

هل هي الخيبة تصيبه في مقتل و تحيله جسدا منهكا متعب الذّهن متلبّد الفكر

غير مطمئنّ لحال , أم هي طبيعة الأمر.. سأستسلم مؤقّتا فقد حاولت كلّ المحاولات و لا إشارة على اهتمام أحد بأمري.. لكأنّي في أحسن حال و أنا على هذه الحالة من الإنهاك و الإعياء و الإستسلام , و كأنّي بنفسي في حالة من الطّمأنينة و الاستئناس بالكتاب. أخذته الأفكار على حين غرّة و زادته رعبا و تأكيدا على سوء ما آل إليه أمره. و تذكّر أنّ متوسّط جلسة المطالعة في الصّين أحيانا تصل إلى السّاعات العشر و محبّو المطالعة يتجاوزونها قليلا أحيانا . هل تنتظره ساعات أخرى قبل أن يُفتح القفص البلّوريّ و يشرئبّ منه برأسه الطّويلة ؟؟

ها هي قادمة أخيرا..بعد ساعات من الانتظار المرير .. أشارت إليه أن يهدأ و

ألّا يضطرب و جاءت و بيدها مفتاح أحمر اللّون غريب الشّكل و أخذت تفتح

مقبض القفص البلّوريّ و جاء صوتها أثناء عمليّة الفتح باردا مسنّا و فتح عينيه على صوت والدته تدعوه للإفطار استعدادا للانطلاق في رحلة العمر لمكتبة الصّين العظيمة..

- لقد كنت تحلم بنيّ و قد كان صوتك عال..

فتحت الأمّ التّلفاز و بالمصادفة وقعت عينه على الموظّفة الّتي تركها في منامه

على شاشة التّلفاز و هي تفتح باب غرفة المكتبة الصينيّة المعروفة. لم تصدّق عيناه ما رأى.. و التفت لأمّه و صرخ : " لا.. لا....ليست حقيقيّة.. إنّها وهم... مزعج.. بل حلم .بل كابوس قاتل ...كابوس قاتل..كابوس

قاتل.."

و أخذ يكرّر ذلك حدّ الإغماء ..