يقدم محرر (الكلمة) هنا القسم الأول من متابعته لمهرجان أفينيون المسرحي هذا العام، ويتناول فيه المسرحيات التي تناولت أهمية الذاكرة التاريخية ودورها في أن تدرأ عنّا عوادي التردي والدمار، وتلك التي تناولت قضايا الهجرة والتيه في اللحظة الراهنة وما تطرحه من قضايا.

مهرجان أفينيون المسرحي الثالث والسبعون

هل يدرأ المسرح عنّا التردي الأخلاقي والدمار؟

صبري حافظ

 

أفتتح مهرجان أفينيون المسرحي الثالث والسبعين في 4 يوليو/ تموز 2019. وقد أصبح بالفعل، وبسبب الاستمرار والتراكم في تطوير هذا المهرجان وتنميته أكبر مهرجانات المسرح في أوروبا، وربما في العالم كله. ذلك أنه وضع نصب عينيه على مدى تاريخه الطويل، رؤية مؤسسه الشاعر الفرنسي الكبير رينيه شار، والذي كان قائد المقاومة الفرنسية للاحتلال النازي إبان الحرب العالمية الثانية في جنوب فرنسا. وهي رؤية تطرح الفن أمام الحروب والدمار، ببصيرة استشرافية تؤمن بقوة الفن وقدرته على أن يدرأ عنا الشر. وترى أن اللجوء للفن أمر لا غنى عنه كي يدرأ عنا مآسي الحروب. ولهذا بدأ فكرة هذا المهرجان عقب انتهاء مأساة الحرب العالمية الثانية، كأداة لدرء شرور الحرب وتعزيز السلام والتفاهم بين أرجاء أوروبا بالفن ومن خلاله.

وقد استمرت هذه الرؤية في التطور والنمو طوال ثلاثة وسبعين عاما. وأصبح المهرجان الرئيسي مجرد رافد من روافد الأنشطة الثقافية والمسرحية التي تعيشها المدينة طوال شهر يوليو/ تموز من كل عام. ففضلا عن عروض المهرجانين الرئيسي والهامشي، هناك المعارض والندوات وحلقات النقاش والجدل التي تملأ المدينة طوال تلك الفترة. بصورة أكدت إمكانية الثقافة الراقية في أن تصبح عماد نشاط المدينة الاقتصادي وقبلته. وهو أمر ما كان له أن يتحقق، وخاصة في مجال المسرح، وهو أكثر الفنون جمعية ارتباطا بالديموقراطية منذ ميلاده الإغريقي القديم، دون توافر مناخ مفتوح من الحرية المؤسسية والاجتماعية والفردية على السواء. تتيح الحوار الخلاق بين المبدع وفريق العمل الذي يتخلق به العرض معه، والجمهور الذي يشاهد العرض ويتفاعل معه.

فقبل أن أصل إلى المدينة العريقة، كانت بعض البرامج الإذاعية التي استمعت إليها وأنا في الطريق إلى أفينيون بالسيارة من باريس، وهي رحلة تستغرق عدة ساعات، تتحدث عن أن عدد العروض المتاحة في مهرجان هذا العام بشقيه الرئيسي والهامشي قد تجاوز 1500 عرض، على مدار خمسة وعشرين يوما (4-28 يوليو) حافلة بالنشاط المسرحي الذي لا يعادله شيء في عالمنا المعاصر. وما أن وصلت إلى المدينة حتى وجدت أن برنامج المهرجان الرئيسي Festival D’Avignon يقع في تسعين صفحة، بينما يتجاوز عدد صفحات برنامج المهرجان الهامشي Festival Avignon Off الأربعمئة وسبعين صفحة، في كل منها خمسة أعمدة من العروض التي تغطي كل صنوف العرض المسرحي وأجناسه المختلفة. مما يجعل من دراسة كل برنامج منهما، واختيار ما تشاهده منه طوال أيام الإقامة في تلك المدينة، عملا يستغرق الكثير من الوقت والجهد والاهتمام، ووعملية ثقافية مثرية في حد ذاتها.

هل يدرأ المسرح عنّا التردي الأخلاقي والدمار؟
وما أن تصل إلى المدينة حتى يفاجئك زخم شوارع المدينة المترعة بالتشكيل الحركي واللوني والسمعي. حيث تتحول كل فضاءات هذه المدينة العريقة التي انطلقت منها بعض حملات الحروب الصليبية في القرون الوسطى، والتي لا تزال تحتفظ بعمارة مدن تلك المرحلة، وبسورها الضخم وجل أبوابها، إلى مسرح كبير. مسرح تتجاور فيه مختلف الصيغ والأنشطة الدرامية والعروض والرؤى، وتتحاور في جدل صحي مفتوح. يهل عليه الناس لا من كل ربوع فرنسا وحدها، ولكن من كل بقاع أوروبا، بل ومن مختلف أصقاع عالمنا المعاصر. بحيث أصبح المهرجان عماد حياة المدينة اقتصاديا واجتماعيا في آن. وأصبحت المدينة نفسها قبلة كل عشاق فن المسرح بمختلف توجهاته، بدءا بمسرح الأطفال وصولا إلى المسرح السياسي والاستعراضي، دون إغفال كل تنويعات العرض من الأوبرا وعروض الرقص الحديث منه والقديم، وحتى مسرح الشارع وكل صيغ المسرح المتقشف وعروض الممثل الواحد والبانتومايم.

وقبل أن أصحب القارئ معي إلى بعض تلك العروض الكثيرة، التي أحرص على انتقاء ما قد يهم القارئ العربي منها، علينا أن نتريث قليلا عند كلمة مدير المهرجان الرسمي التي يفتتح بها برنامج عروضه. حيث يستهل أوليفييه بي Olivier Py، مدير مهرجان أفينون المسرحي، الكلمة التي يفتتح بها كتاب المهرجان بالجمل الآتية: «لو سئلت اليوم ما الذي يجعل المسرح أمرا لا غنى عنه؟ لأجبت بأنه أقصر الطرق بين الجمالي والأخلاقي. ولكان من الضروري أن أردف على الفور ان أقصر طريق من الأخلاقي إلى الجمالي ليس نفس الطريق الذي أشير إليه. فلكي يقوم المسرح بأمر يستثير الوعي السياسي، فما عليه إلا أن يفتح أبوابه. حتى أكثر المسارح تنصلا من السياسة، أو زعما بألا علاقة له بها، يبقى سياسيا أكثر من أغلب مقولات العالم الاستهلاكي.»

وهي في حقيقة الأمر جمل علينا التوقف عندها كي نفهم روح هذا المهرجان الذي يواصل أوليفييه بي إدارته للعام الخامس على التوالي. حيث أن فلسفته للمسرح تركز على جماليته وتجعلها السبيل إلى أي دور أخلاقي أو سياسي يقوم به. لأن المسرح يفقد في الواقع مسرحيته، أو بالأحرى دراميته بالمعنى الأرسطي العميق للمفهوم، حينما يتخلى عن جمالياته، أو يجعل الأخلاق أو السياسة هي مركز الانطلاق فيه. فحينما يفعل ذلك يكون كمن يضع العربة أمام الحصان حسب التعبير الانجليزي الشهير. بينما الضروري أن تضع الحصان أمام العربة كي يستطيع أن يجرها بكفاءة، ناهيك عن أن يصل للهدف سواء أكان أخلاقيأ أو احتماعيا أو سياسيا.

وليس غريبا أن يركز أوليفييه بي في مستهل كلمته على الدور الأخلاقي للمسرح، وعلى أهمية هذا الدور في مواجهة قيم العالم الاستهلاكي المتردية التي تتفشى في عالمنا وتسيطر عليه. لأننا نعيش في عالم يبدو وكأنه يتخلى عن ميراث الإنسانية الأخلاقي والعقلاني الطويل، وبوتيرة متسارعة إلى حد مقلق. عالم يقف على رأس أقوى بلدانه وأضخم اقتصاداته أحمق لا خلاق له مثل دونالد ترامب. وتختار واحدة من كبرى ديموقراطياته، وهي بريطانيا، مهرج يزري بالعقل ويزدهر بمغازلة مشاعر التعصب وضيق الأفق. وتتراجع فيه أهمية القيم الأخلاقية والإنسانية في التعامل بين الدول، بعد أن كان المعيار الأخلاقي والشرعية الشعبية من أهم عناصر الحكم على أي نظام سياسي. فبعد أن كانت دول العالم القوية تتبارى وفق معايير قيمية في المحل الأول، بلغنا طريقا مسدودا يتهاوى فيه كل شيء إلى حضيض غير مسبوق. ويصل هذا الحضيض إلى أكثر قيعانه ظلمة وعفنا في عالمنا العربي الردئ.

فقد كان الصراع طوال عقود الحرب الباردة، التي استمرت منذ الحرب العالمية الثانية، حتى انهيار الكتلة الاشتراكية، صراع قيم أخلاقية وإنسانية في المحل الأول، يزعم فيه كل طرف أنه يحتل المكان الأخلاقي الأعلى، وأن رؤيته الأيديولوجية والسياسية هي النموذج الذي يجب أن يُحتذى. حيث انطلقت ما كانت تعرف بالكتلة الاشتراكية من أن الإنسان وليس رأس المال هو مصدر الثروة، وأن العدل الاجتماعي هو مناط توزيعها، بحيث توفر حق المواطن في السكن المستقر والعمل المضمون، والصحة والتعليم؛ بينما كانت الكتلة التي دعت نفسها بالعالم الحر تنطلق من أسس الرأسمالية وحرية المنافسة التجارية المفتوحة، وتتغاضى عن أيّ استغلال فيها، بتبنى مفاهيم الحرية وحقوق الإنسان، وإمكانيات الثراء المتاحة للجميع. وكان عليها في مواجهة ما توفره الاشتراكية من حقوق إنسانية أساسية لمواطنيها تبني شيء من مزايا دولة الرفاهية الاجتماعية تلك، وتوفير بعض الحقوق للعمال، وإعانة غير القادرين من المواطنين في السكن، بل وتوفير حقوق التعليم والصحة مجانا للكثيرين.

لكن سقوط الاتحاد السوفيتي، وقعقة ما أعقبه من ثورات ملونة أدت إلى ما سُمي بنهاية التاريخ، وانكشف الوجه القبيح للرأسمالية الذي أخفته وراء قناع دولة الرفاه الاجتماعي إبان الحرب الباردة. ولم تعد في حاجة إلى تحمل تكاليف دولة الرفاه الاجتماعي تلك بعد سقوط العدو الذي أجبرها مشروعه السياسي على تبنيها. هذه هي حقيقة ما دعي بالثاتشرية البغيضة في بريطانيا، وما أعلنت عنه الرأسمالية الأمريكية في مؤتمر شهير عقد بعد سقوط الاتحاد السوفييتي. ولم يفهم الكثيرون نهاية التاريخ تلك على وجهها الصحيح. لأنها كانت تعني نهاية تاريخ الصراع بين القيم، وبداية التخلي الكلي عن كل ما تعلمناه من تاريخ الإنسانية من أخلاق نبيلة وعقلانية مستنيرة. وفتح الباب على مصراعيه لتوحش الرأسمالية (وخصوصا ابشع أشكالها استغلالا، وهي الرأسمالية المالية التي كشفت في دراسة سابقة لي عن العولمة عن أنها أعلى مراحل الامبريالية) والعصف بالحدود الجغرافية وغيرها من الموانع التي تحول دون تنامي الأرباح على حساب كل شيء آخر؛ والتخلي عن كل ما تحلت به من معايير الرفاه الاجتماعي، وحتى من قيم الحرية والديموقراطية نفسها، والتي طالما سعت لتسويقها، إذا لم تكن تلك القيم في صالح تحقيقها للمزيد من الأرباح.

أما ما كانت تعرف بالكتلة الاشتراكية فإن سعار اللحاق بالرأسمالية بعد قعقعات سقوط «الاشتراكية» فيها لم يقل مكيافيلية وفسادا عما نجده في الرأسمالية الأم. فقد انقلبت فيها معايير العقلانية ومفاهيم العدل والاشتراكية. ولفلاديمير بوتين مقولة شهيرة: «من لم يحزن على سقوط الاتحاد السوفييتي والاشتراكية لا قلب له، ولكن من يفكر في إعادة الاشتراكية من جديد فلا عقل له.» هكذا أصبحت الاشتراكية منافية للعقل في زمن سعار الرأسمالية. ولم يعد فلاديمير بوتين قادرا إلا على منافسة ترامب في مكيافيليته، وإلا على ألا يكون أكثر قبحا منه في البحث عن مصالح رأسمالية بلاده التي تتعاظم فيها الفجوة بين الأثرياء والقابعين تحت خط الفقر باستمرار. كما هو الحال في غيرها من بلدان العالم الرأسمالي، وعلى رأسهم في اتساع تلك الفجوة الولايات المتحدة الأمريكية ذاتها. بصورة يزداد فيها عمق الاستقطاب الاجتماعي بين قلة قليلة من الأثرياء تزداد ثراء باستمرا، وكثرة كبيرة من الفقراء تزداد اتساعا باستمرار، وينخفض معدل دخلها باطراد، داخل دول المعسكرين السابقين، وبشكل أكثر درامية وعنفا ومأساوية فيما كان يسمى من قبل بالعالم الثالث، حيث تقع أغلبية سكانه تحت خط الفقر.

وقد ترافق هذا مع عملية التطور غير المسبوقة في تكنولوجيا الاستغلال الرأسمالي وما يسمى بالعولمة، وأدوات الهيمنة الالكترونية الجديدة التي أتاحت للقادرين من مؤسسات الدولة واستخباراتها أو المؤسسات الرأسمالية العملاقة التجسس على أدق تفاصيل حياة الأفراد والجماعات. ونشر الضحالة واللاعقلانية والتسطح والكذب. وقد ساهمت تلك التطورات الالكترونية الجديدة، وأبرز علاماتها هي الهواتف الذكية، في تحقيق التواصل بين الناس بمعدلات أسرع، وفي تكريس وحدة الأفراد كي تسهل الهيمنة عليهم في الوقت نفسه بطريقة غير مسبوقة. بل عزلهم عما يحيط بهم من البشر بالصورة التي أضافت لأيقونة القرود الثلاثة: لا أسمع، لا أرى، لا أتكلم! ايقونة رابعة تجمع ثلاثتها في قرد غارق في هاتفه الذكي الذي لا يسمع معه ولا يرى ولا يتكلم مع أقرب الناس إليه.

العودة إلى الأساطير المؤسسة:
إزاء هذا كله يسترد المسرح أهميته كإطار يعيد للجماعة فاعليتها وأهميتها؛ ويعيد تذكيرها بما يدعوه أوليفييه بي في تقديمه بـ«الأساطير المؤسسة Founding Myths» التي تكشف عن أهمية ما تنطوي عليه من قيم في هذا الواقع الجديد الغريب. ويوشك هذا الأمر أن يكون أحد «ثيمات» أو تيارات مهرجان هذا العام الأساسية. حيث تحقق عملية الرجوع إلى تلك الأساطير المؤسسة درامية المسرح من خلال الزواج بين الجمالي والأخلاقي بلا تناقض بينهما. بينما يضفي الواقع الراهن على تلك العودة جانبها الجدلي الخلاق مع ما يدور في الحاضر من قضايا ومشكلات. ويربط أوليفييه بي في كلمته تلك العودة إلى الأساطير المؤسسة، بإحياء الذاكرة التاريخية باعتبارهما جناحا عملية المواجهة المعقدة لما في عالمنا الراهن من تردي ودمار. لذلك يضيف في تقديمه لبرنامج هذا العام «إن خلاصنا هو في انتمائنا للتاريخ، أي الإحساس بأننا نشارك في التاريخ مهما كان تواضع مشاركاتنا، فحتى مجرد اللقاء أمام عمل مسرحي ينطوي على قدر من التوقعات الكافية لأن تولد فينا أجنة هذا الشعور بالانتماء. ... في مساحة الصمت التي تتولد أمام العرض المسرحي».

ويبدو أنه استوحى هذا القول من مسرحية الافتتاح في مهرجان هذا العام. لأن هم هذه المسرحية الأساسي فيما يبدو هو إرهاف ذاكرة أوروبا التاريخية، وقد بدا أن أوروبا المعاصرة، نسيت تواريخها المأساوية القريبة، وعادت مع استشراء نزعات التعصب القومي العنصرية، وضيق الأفق السياسي والإنساني على السواء، إلى تكرر تواريخها القديمة التي أدت بها إلى أكثر الحروب دموية في النصف الأول من القرن العشرين.

إرهاف الذاكرة التاريخية لإنقاذ أوروبا من الدمار

فقد كانت مسرحية الافتتاح في مهرجان هذا العام، وهي المسرحية التي تعرض على أكبر خشبة مسرحية في المهرجان، وأوسع فضاءاته التي تتسع لأكثر من ألفي مشاهد، وهو فضاء ساحة الشرف بالقصر الباباوي، هي مسرحية (عمارة Architecture) للكاتب والمخرج المسرحي الفرنسي المعاصر باسكال رامبير Pascal Rambert والتي كتبها خصيصا وفي ذهنه عدد من أبرز ممثلي المسرح الفرنسي المعاصر في فرقة الكوميدي فرانسيز الشهيرة، وغيرها من فرق المسرح الفرنسي الكبيرة التي سبق أن عرضت أعماله. فهو كاتب مسرحي حريص على أن يكتب أدوار مسرحياته وفي ذهنه عدد من الممثلين. كما كان الحال في زمن ازدهار المسرح المصري غب ستينيات القرن الماضي، حينما كان كتاب المسرح المرموقون مثل يوسف إدريس ونعمان عاشور وسعد وهبة يكتبون مسرحياتهم وفي ذهنهم ممثلون محددون لبعض أدوارها. لذلك كانت هذه المسرحية في مستوى من مستوياتها مباراة في التمثيل وفق المدرسة الفرنسية المسرحية العريقة من ناحية، ونموذجا لما في جعبة المسرح الفرنسي المعاصر من نصوص حيّة، وممثلين مشوقين لتجسيدها، من ناحية أخرى.

فقد أتاح لها فضاء خشبة قاعة الشرف الضخمة (أكثر من 50 X أكثر من 25 مترا) التي تتسع لأكثر من مكون مشهدي في وقت واحد، نوعا من الرحابة والسعة التي تخلق سلاسة الحركة بين المشاهد وتجاورها، بل تحاورها البصري المستمر. حيث يخبرنا رامبير أنه أعاد كتابة بعض مشاهد المسرحية كي تناسب هذا الفضاء المسرحي الذي لعب دورا مهما في تكوينه المهني كمخرج ومؤلف في آن. لأن بعض ما شاهده في هذا الفضاء من عروض لايزال محفورا في ذاكرته حتى اليوم. ولأن علاقته بالمهرجان تمتد لثلاثين عاما، منذ أن عرضت فيه مسرحيته الشهيرة (الباريسيون: أو صيف ذكريات النحل Les Parisians, ou l’Ete de la Memoire des Abeilles) عام 1989 وحتى اليوم. ولأنه يعي لا مدى رحابة الخشبة فحسب، بل ومدى تنوع الجمهور الجالس أمامها. حيث يخبرنا أنه جمهور مسرحي لا نظير له من حيث العدد والتنوع الثقافي والقومي في أي موقع مسرحي في العالم. وهو أمر أوافقه عليه بعد ترددي على هذا المهرجان لسنوات.

وقد عمد المؤلف/ المخرج إلى استخدام اللون الأبيض والسمني (الأبيض المصفر) في الملابس والآثاث، وفرش خشبة المسرح الرحبة تلك بقماش من اللون الأبيض، وكأننا في مختبر تحليلي. أو كأنه يدعو المشاهدين للتعامل مع ما يعرض أمامهم بشكل استعاري خالص، رغم أن ما يدور أمامنا طوال العرض يبدو وكأنه عرض واقعي صرف، أقرب ما يكون إلى وضع حياة أسرة حقيقية على الخشبة. أما عمال المسرح الذين يفدون للخشبة بين وقت وآخر لتغيير بعض الأثاث فقد ارتدوا جميعا الزي الأسود. فقد توفرت للعرض بلاشك ميزانية كبيرة في الاكسسوارات والإضاءة مكنت المخرج من استخدام تغيير الأثاثات الباذخة والسجاجيد المختلفة التصميم، لتحقيق النقلة الزمنية والتاريخية في حياة أفراد هذه الأسرة، ومراحل حياتهم المختلفة، وهم يجسدون أمامنا ما يمكن دعوته بملحمة أوروبا في القرن العشرين.

وما أن يبدأ العرض حتى تدخل الشخصيات التسع في رقصة إيقاعية على أنغام عزف موسيقي على آلة الكمان، تعزفها زوجة الأب، وبشكل دوري على مدى ساعات العرض الأربع، في نوع من الفصلات، أو الوصلات التي تنبئ بتغير الزمن أو المشهد. وأول ما نلاحظه هو أن جميع الشخصيات في زي أبيض أو سمني، باستثناء رجل واحد (هو زوج الإبنة الصغرى) في زي عسكري من زمن مطلع القرن الماضي، وسوف يتغير زيه العسكري ذلك مع تغير الزمن والتقدم فيه نحو زي الثلاثينات العسكري. فتوافق الألوان وتعارضها من أدوات التشكيل البصري للمشهد ولفت الانتباه لما فيه من توترات أو انسجامات. لأن القسم الثاني من المسرحية يشهد تغير هذه الألوان، حيث تستبدل بعض النسوة باللون الأبيض أو السمني ألوانا زاهية ومتنوعة، بينما يرتدي الابن الاصغر، وهو أكثر أبناء بطلها المعماري الكبير درامية، حلة سوداء يعلن عبرها تناقضه الكامل مع أبيه. حيث سنكتشف بالتدريج أنه نقيضه في كل شيء تقريبا.

ثم تتفتح لنا أحداث المسرحية عبر التعرف على تواريخ هذه الأسرة التي تعيش في فيينا في العقود الثلاثة الأولى من القرن العشرين، مع الأب المتسلط الذي لا يزال أحد أبنائه، رغم أنه كبر وتزوج، يعاني من التعتعة/ أو التهتهة في حضوره، بينما يعاني أصغر الأبناء من نوع خفيف من الصرع لا يصيبه إلا في حضور الأب القاهر. ونكتشف بالتدريج أننا أمام أسرة كبيرة من أب، جاك فيبرJacques Weber، يعد أهم خبير في العمارة النمساوية والعمارة الأوربية الكلاسيكية. أب: (باتريارك: ذو سلطة أبوية مطلقة، أقرب ما تكون إلى سلطة السيد أحمد عبدالجواد في الجزء الأول من ثلاثية نجيب محفوظ الشهيرة) وزوجته الثانية وهي موسيقية بارعة في عمر أبنائه، وأبنائه الأربعة بنيتن (آن المتزوجة من لوران بواترينو، وإيمانيول المتزوجة من آرثر نوزيسيل) وولدين أحدهما متزوج هو دينيس الذي يعاني من التهتهة، والآخر مثليّ وهو ستانسلاس. أسرة يتميز أفرادها جميعا بالنباهة والتفوق. فبينهم الممثل والشاعر والعالم والفيلسوف والكاتب والموسيقي، وقد اجتمعت هذه المجموعة من المثقفين والفنانين على شيء واحد، وهو تكريس النفس للفكر والعلم والفن والخير والجمال، والعمل على التحقق في وجود هذا الأب المتسلط، أو بالأحرى بالرغم من تسلطه.

أنننا بإزاء أسرة تعيش في زمن قريب الشبة من زماننا الذي تتصاعد فيه النزعات القومية ضيقة الأفق. حيث نتابع أفرادها لمدة ثلاثين عاما في النمسا وألمانيا وتريستا وزغرب وبراتسلافا حيث تبدأ المسرحية عام 1908 في فيينا، وهي بداية حركة الحداثة فيها، وتستمر حتى سقوط الامبراطورية النمساومجرية عام 1918 وصولا إلى Anschluss وهي عملية ضم النمسا لألمانيا عام 1938 التي قام بها هتلر، رغم موانع قرارات ما بعد الحرب العالمية الأولى، والتي كانت بداية لصعوده الدامي وللحرب العالمية الثانية، بعد أن فتح هذا الضم السلمي السريع شهيته لاستعادة كل ما فقدته ألمانيا من قبل. كما أننا في الوقت نفسه، وكما يقول المؤلف في برنامج هذه المسرحية المطبوع، نعيش في زمن تتحول فيه اللغة إلى أداة في خدمتنا إلى أداة ضدنا. فقد استمد إلهامه من نمساوي آخر، هو الفيلسوف لودفيج فيتجنشتاين، الذي ركز على أهمية لغة الحياة اليومية، باعتبارها جزءا عضويا من الإنسان، وكيف أنها لا تقل تعقيدا عنه. ويتعامل رامبير مع هذه اللغة، وفي وعيه أنها تستخدم في تخويف وتدمير القارة الأوروبية من الداخل. ولذلك كتب هذه المسرحية التي تجسد هذا التدمير أمامنا على الخشبة من خلال هذه المجموعة الموهوبة من البشر، وهي تقع في شراك لغة تخدعها بينما يبدو أنها تساعدها. وترينا على مدار تفتح الحدث كيف تنسج الأكاذيب أنشوطتها من حول جل الشخصيات، بصورة تتيح لها القدرة على تدميرهم. لأننا بإزاء مجموعة من الشخصيات، برغم براعة بعضهم في استخدام اللغة، تعاني بدرجات مختلفة من العيّ اللغوي، وغياب اللغة القادرة على مواجهة الكذب وفضحه.

ورغم أن العمل ينهض على إدارة توترات الطاقة الكامنة في مختلف شخصياته، والمعبرة عن صبواتهم وما يدور في أعماقهم من قلق ورعب وهواجس، بصورة مباشرة تعري الكلمات وهي تخوض بها تلك الحرب المكتومة بينها، فإن أغلب الشخصيات تتحرك وتتصارع كالهوام في بيت عنكبوت كبير يهيمن عليه هذا الأب الباريراكي العتيد. تدرك أنه ينسج خيوط شباكه الدقيقة حولها بدأب، وترى ما تنطوي عليه تلك الشباك من مخاطر، ولكنها تعاني في الوقت نفسه، برغم كل ما يتمتع به أفرادها من مواهب وقدرات، من عجزها عن الوحدة في مواجهته؛ ناهيك عن مواجهة الخطر الخارجي، عبر الصعود الحثيث للنزعة القومية للنازية والذي يواصل زحفه الحثيث من حولهم. فهذه الأسرة تبدو لنا وكأنها عاجزة عن إيقاف نزيف الجراح القديمة، التي تؤدي في نهاية الأمر إلى سقوط هذه العائلة وتمزقها، وهو يتجسد أمامنا بالتدريج على الخشبة طوال ساعات العرض الأربع.

ونكتشف مع مسار الحدث كيف أن الأسرة قد عانت على مد تواريخ طويلة من معاملة الأب القاسية مع زوجته الأولى، أم أبنائه، إلى حد تحميل بعض أفرادها له مسؤولية موتها المبكر. وكيف أن التوترات القديمة لاتزال تؤثر، وبشكل مختلف على كل فرد من أفرادها. وكيف أن كل فرد من أفراد هذه الأسرة رغم نبوغه في المجال الذي كرس نفسه لخدمته، لا يستطيع الاتفاق مع بقية أفرادها على الموقف من خطر النزعة القومية التي تبتلع البلد من حولهم؛ والتي أدت في نهاية الأمر إلى صعود النازية، واستيلائها، دون جهد ملحوظ، على النمسا في عملية ضمها الشهيرة للنازية الصاعدة. فعجز هذه الإسرة عن الاتحاد في وجه الخطر الداهم الذي لا تكشف لنا المسرحية تناميه الحثيث فحسب، بل استخدامه المستمر لفرقتهم وصراعاتهم الداخلية في الهيمنة على الواقع الذي يعيشون فيه، وتضييق الخناق على أي مقاومة لأي منهم لتغوله. هو المرآة التي يعكس عليها باسكال رامبيير عجز أوروبا الراهن عن مواجهة النزعة القومجية الصاعدة، وهي تتذرع بالكذب في كل من بريطانيا وأميركا وعدد كبير من البلدان الأوروبية، بما في ذلك النمسا نفسها، للإطاحة بالقيم النبيلة التي بنت عليها أوروبا نهضتها وتقدمها.

 

 

حيث تجسد هذه الأسرة أمامنا بالحركة واللون والنغم لوحة أقرب ما تكون إلى اللوحة الجدارية عن واقع أوروبا المعاصرة التي لا تستطيع أن تزيح عن ذاكرتها ما عانت منه في القرن العشرين، نتيجة للحروب والمجاعات واستعار النزعات القومية من ناحية، وما تعيشه الآن من تردي إلى حضيض تلك النزعات القومية من جديد من ناحية أخرى. ذلك أن باسكال رامبير يشعر كما يقول لنا في النقاش الذي دار معه حول العرض «أن الديموقراطية تتفتت وتتداعى بين أيدينا في ممارسات الحاضر الملتوية، وأن حرية الكاتب في أن يطرح نصه على العالم تواجهها موانع مستمرة. فقد حاول العمل على نصوص كتبها لممثلين قابلهم في مصر والصين، وحاول العمل معهم، فهو يعتقد أن باستطاعة الفن أن يغير الأشياء والناس، ولكن نصوصه منعت في الحالتين.

ولنعد إلى تلك الأسرة، التي نكتشف أثناء العرض أنها مجرد أسرة استعارية لأوروبا كلها، لا يستطيع أفرادها وهم يرسمون تلك اللوحة أمامنا أن يتخلصوا من الشعور بإن كل ما عاشوه من الرواسي الحضارية والقيمية يغرق! وهو إحساس يصيب بعضهم بنوع من الشلل إزاء ما قد يسفر عنه مستقبل هذا الحاضر الغريب. أسرة لا تستطيع أيقاف تردي عالمها التدريجي، أو مواجهة ما يعد به المستقبل من تقلبات تبدو مرعبة، ومع ذلك لا يستطيع أفرادها الاتحاد في مواجهة تلك الأخطار الوشيكة. ولا يفلح أعضاؤها إلا في تمزيق بعضهم البعض، وبالطريقة التي يجيدها من يعرفون بعضهم بحق وحميمية. ذلك أنهم حتى في مواجهة هذا الخطر المحدق لا يستطيعون أن يتحدوا أو حتى أن يتفقوا على طريقة قد يجنبون بها العالم هذا المسار الوشيك صوب الدمار، أو ينقذون بها أنفسهم، وعوالمهم الذاتية المحدودة. ويتساءل المؤلف المخرج باسكال رامبير« إذا لم يكن باستطاعتهم أن يوقفوا نزيف الدم، فكيف يمكننا التصرف في زمن مثل ذلك الذي نعيشه.» فنحن بإزاء مسرحية تطرح علينا من الأسئلة أكثر مما تمليه علينا من أجوبة: هل تكريس كل فرد لنفسه ولمهنته شيء له معنى؟ هل باستطاعة الفن أو حتى النبوغ في العلم أن يحث العالم على إعادة النظر فيما عاشه من تواريخ، وما يعانيه من وقائع؟

ومن خلال تتابع فصول حياة هذه الأسرة أمامنا على خشبة المسرح ترسم لنا المسرحية لوحة جدارية (فريسكو)/ استعارية لما جرى لأوروبا في السنوات التي انصرمت منذ الحرب العالمية الأولى وحتى الآن. وما يساهم في إبراز ما تنطوي عليه تلك الجدارية من قضايا إن اللغة التي تستخدمها المسرحية (وأعني هنا لغة العرض الكلية الحركية والبصرية واللونية والمسموعة وليس النص وحده) لغة يمكن وصفها بأنها لغة عضوية؛ لغة تطرح المجسد والمحسوس في مواجهة التجريدات التي فقدت معانيها من كثرة العبث بها. ففي مواجهة الرعب الذي يفضى بجل الشخصيات في النهاية إلى الموت أو الانتحار، لا أمل إلا في عودة الصلابة للكلمات في تلك المسرحية التي تسعى إلى بلورة أزمة الواقع الأوروبي المعاصر من ناحية، وشحذ ذاكرته التاريخية من ناحية أخرى.

إن موضوع المسرحية هو صعود النزعات القومية الشوفينية، ودور هذا الصعود في إحباط الناس، وهي في الوقت نفسه مسرحية عن كرّ الزمن ومسيرته التي تترك ندوبها على الجميع، ولكنها أيضا مسرحية عن دور الفن في التصدي لهذا الشر الزاحف ومواجهته. لكن ما تنطوي عليه من نقد شديد للتواني عن مواجهة صعود النزعات العنصرية والقومية الشوفينية الضيقة، يظل نقدا جزئيا، يساهم في الحفاظ على الوضع المختل وتجميله بالنقد والمعارضة، ما لم يكشف عن العوار الاقتصادي لهذا الوضع الذي تعيشه أوروبا المعاصرة، بل والعالم من ورائها في ظل نظام العولمة الكئيب. إننا في هذه المسرحية بإزاء نقد يتحول عبره المجتمع إلى مستنقع من الأوغاد والمحبطين والممزقين نفسيا، حيث ينتحر أكثر من فرد من أفراد هذه الأسرة في نهاية المطاف. مستنقع من الأوغاد ينزع فيه البعض الإنسانية عن البعض الآخر، وهو يتباهى بالدفاع عنها، دون أن يوجه أي منهم نيران هذا الغضب إلى الخلل البنيوي في أسس الهيمنة الاقتصادية الجائرة التي تفضي بالعالم إلى الخراب.

وإذا كنا قد بدأنا هذا المقال عن مهرجان هذا العام بالعودة إلى التاريخ فإن علينا أن نتبعها بالعودة فيه إلى الأساطير المؤسسة. فقد كان في مهرجان هذا العام ثلاثة عروض مستمدة من رحلة التيه البدئية في الثقافة الغربية والتي تمثلها «أوديسة» هوميروس الشهيرة، وبطلها عوليس التائه بين الجزر والبحار على مد سنوات طويلة. أولها هو (الحاضر المتريث فينا: أوديسانا رقم 2 Le Present qui Deborde: Notre Odyssee II) الذي أعدته وأخرجته وشاركت فيه المسرحية البرازيلية كريستين جاتاهي Christiane Jatahy. وهو كما تقول لنا في برنامج العرض الحلقة الثانية في عمل طويل أو ثلاثية مسرحية سبق أن قدمت حلقتها الأولى (إيثاكا: أوديسانا 1) في مهرجان أفينيون عام 2017، ولا تزال تعمل على حلقة ثالثة لها.

معدة العمل ومخرجته كريستين جاتاهي

قضايا الهجرة .. رحلة التيه والمناخات الطاردة
وهو عمل استخدمت فيه مزيجا شيقا من الفيلم الوثائقي والأشخاص الذين عاشوا تجربة التيه، والعرض الذي يكسر الحواجز بين الخشبة والقاعة، ويدعو المشاهدين للربط بين الخيوط التي تمتد على اتساع الكرة الأرضية. إنه عرض ينسج خيوطه من سرديات حيوات المهاجرين من الشرق الأوسط وأفريقيا في هربهم من المناخ الطارد في بلدانهم ومعاناتهم من أوجاع المنفى من ناحية؛ ومخاوف أهل غابات الأمازون الاستوائية من تعرض مناطق حياتهم الطبيعية البسيطة التي عاشوا فيها لقرون لزحف الاستثمارات الوحشية، وتدميرها لغاباتهم التي عاشوا عليها لأجيال متلاحقة بالبرازيل من ناحية أخرى.

وحينما ندخل المسرح تواجهنا في عمق الخشبة شاشة سينما كبيرة تُعرض عليها، أثناء دخول المشاهدين وتوجههم لمقاعدهم، مشاهد مستمرة من حياة المهاجرين وما يمارسونه في معسكرات اللجوء أو محطاته. ودخول المشاهدين على هذا العرض المستمر ينطوي على منطلق مسرحي مغاير، يلفت انتباه المشاهد إلى أنه يدخل إلى قصة مستمرة قبل دخوله، وستتواصل بعد مغادرته. وأن البداية قد ضاعت أو انصرمت، وما نحن إلا وسط عرض يسجل لحظة معينة في تلك الحيوات التي ستتكشف أمامنا وبيننا. لحظة تتميز بعفويتها وطزاجتها التي تشي بها طبيعة الكاميرا المحمولة يدويا، وغير الاحترافية التي صورت تلك المشاهد. وكان أول ما لفت انتباهي أن معظم المهاجرين الذين تتكشف لنا صورا من حيواتهم فلسطينيون وسوريون، من مختلف الأعمار والمشارب، يأكلون التبولة والمسخن الفلسطيني، وأن هناك من يشوي لهم السمك والكباب، وأن كثيرا من نسائهم محجبات، وبعد قليل بدأ يظهر بينهم بعض الأفارقة.

لكن الملاحظ هو غياب الجنس الأبيض كلية من الصورة، وفيما بعد من العرض كله. فهذا النوع القاسي من الهجرة هو قدر الملونين فيما يبدو. ويتواصل عرض الفيلم في نوع من الـLoop الذي تتكرر فيه بعض المشاهد، وكأن التكرار عنصر أساسي في الموضوع. وتكون بداية العرض بالمعنى الرسمي هي توقف الفيلم على وجه طفلة سورية تواجهنا، كي يبدأ العرض. ويبدأ العرض بتقديم من الكاتبة/ المخرجة التي تمارس معنا المشاهدة والكتابة في آن، وكأننا كمشاهدين سنشارك في تلك الكتابة. وسرعان ما ندرك أن بعض الممثلين، أو الشخصيات التي ظهرت في الفيلم جالسة في صفوف المشاهدين، حتى يحين دورها فتقوم بكثير من فصوله وهي بين المشاهدين قبل أن تنتقل إلى الخشبة. هذا في الوقت الذي يتم فيه تصويرها تصويرا حيا وهي تقوم بدورها بين المشاهدين، وعرض ما يُصوّر على الشاشة بصورة يتم فيها المزج بين الفيلم المُصوّر من قبل، والفيلم الذي يتم تصويره بيننا، ويظهر فيه بعض الجمهور الذي تصادف أن جلس بجوار ممثل أو عازف. وهذا المزج بين الفيلمين يعزز كلا من راهنية العرض وما يطرحه من قضايا في آن. ويكشف عن أهمية ما ينطوي عليه عنوانه «الحاضر المتريث فينا» من دلالات. حيث يخرج المشاهد وقد تعزز شعوره بأن المسرح ينساب في الفيلم الذي دخل أثناء تدفقه. وأنه جزء من هذا الحوار المستمر بين التجربة المُصوّرة والتجربة المعاشة. أو بالأحرى من تلك الأوديسة الكبرى التي نعيشها جميعا في هذا الربع الأول من القرن الحادي والعشرين.

فالعرض عمل عن الحدود والجغرافيات والعلاقات الدولية المختلّة، عمل كما تقول مؤلفته ومخرجته يبحث عن عوليس القادر على أن يتحدث عن رحلة التيه والمنفى، وعلى ترجيع أصداء مغامرات عوليس وانفعالاته وتجاربه التي يعيشها الكثيرون في عالمنا الراهن كل يوم. إنه محاولة لخلق أوديسا معاصرة من خلال الكاميرا والمسرح معا. لذلك تخبرنا مؤلفة العمل ومخرجته أنها ذهبت في بحثها عن عوليس عرضها إلى خمس بلاد مختلفة، هي فلسطين، ولبنان، واليونان، وجنوب أفريقيا، ثم أنهت عرضها في البرازيل لجمع خبرات العرض وسردياته وأبطاله معا. كانت تريد أن تلتقي بأكثر من عوليس وأكثر من بينيلوبي. وقد أختارت من كل بلد من البلدان الأربعة ثلاث شخصيات حقيقية: كان بعضها ممثلين يعيشون التيه والمنفى بالفعل، وبعضها الأخر يظهر على المسرح لأول مرة. وحرصت على أن تختار من كل بلد عوليسين، وبينيلوبي كي تعزف عبر تجاربهم العوليسية الثمانية، وتجارب الانتظار الأربع معزوفة التيه المعاصر بكل تعقيداتها ودراميتها.

وأتاح لها الانتقال بين هذه البلدان والتجارب أن ترى عذابات عوليس وانتظار بينيلوبي في فلسطين الواقعة تحت الاحتلال الاستيطاني الصهيوني. حيث يعاني الفلسطيني الذي يتشبث ببلده في ظل أبشع احتلال استيطاني غربة عوليس دون أن يبرح مدينته جنين؛ وانتظار بينيلوبي له كي يعود من معتقلات الاحتلال البغيضة والظالمة. وما أن ننتقل معها في العرض إلى عوليس السوري حتى تطل علينا تجسيدات تيه عوليس على الحدود التي وجد السوريون أنفسهم عالقين فيها، وقد دمرت الحرب مدنهم وأطاحت بماضيهم، وتركتهم عالقين في حاضر غريب لا يعد بأي مستقبل. بصورة تذكرنا بالتأجيل المستمر لوصول عوليس، وبدور العوامل الخارجية في هذا التأجيل. لأن عوليس السوري، واسمه في المسرحية عمر غسان، يحكي لنا وهو عالق على الحدود اللبنانية أنه لم يغادر خوفا من الديكتاتور، ولكن لأن مدينته التي خبرها وعاش فيها تم تدميرها، ولم تعد هناك. أما بينيلوبي، واسمها يارا محمد قطيش، فإنها تكشف لنا كيف تبدلت تجربة بينيلوبي، فلم تعد مجرد الانتظار في إيثاكا، بل محاولة خلق الوطن في المنفى. حيث يعيش الجميع في واقع معلق بين عالمين، يهرب فيه الماضي من بين أيديهم، بينما لا يعد المستقبل بأي أمل ملموس. حتى من وصل منهم إلى اليونان، بعد رحلة أوديسية حافلة بالأهوال، وجد نفسه في اللامكان، يتشبث بالأطعمة الفلكلورية، ولا يستطيع أن يصنع من المنفى وطنا.

وتعرض علينا المسرحية قصص المنفيين المعاصرين، الذين دفعهم الألم إلى النزوح، ومنعهم المنفى من التخطيط للمستقبل، من فلسطين إلى لبنان وسوريا، ومن اليونان إلى جنوب أفريقيا, تعرض علينا تنويعات متعددة على رحلة عوليس بطريقة تحرص فيها على أمرين أساسيين: أولهما تجنب المأساوية الزاعقة أو الميلودراما من خلال إبراز قدرة الإنسان على الحياة في أقسى الظروف، وانتزاع لحظات من الفرح مع الآخرين، والاستمتاع بما يستطيع توفيره فيها من أبسط احتياجاته؛ وثانيهما الحرص على إدارة حوار مستمر بين تلك القصص وجمهور المشاهدين، طوال العرض. بالصورة التي تمكنت فيها المسرحية من دفع عدد لا بأس به من المشاهدين للقيام من مقاعدهم والمشاركة في الرقص مع أبطال العرض وبطلاته.

ثم تنهي المسرحية رحلتها في الغابات الأمزونية في بلدها البرازيل، وتحكي لنا قصة سكان تلك الغابات الذين يعيشون في تناغم معها منذ آلاف السنين؛ حتى مجئ البرتغاليين، وبداية الاعتداء على الغابات وسكانها على السواء. لتكشف لنا في نهاية العمل عن الجراح والندوب التي تتركها تصاريف السياسة على البشر، وعلى كوكبنا وتوازنه المناخي على السواء. ومن خلال التجاور والحوار بين أهل الغابات ومن يسعون لاجتثاثها وتحويل أراضيها إلى مراعي للأبقار أو أرض للزراعة بحجة قلة سكان تلك الغابات وسشاعة المساحة التي يعيشون فيها، وبين ما يدور في واقع البرازيل السياسي والبحث عن حطام طائرة سقطت فيها بمن كانوا يسعون للهرب من استبداد الحكم العسكري فيها، نعيش أنواعا أخرى من التيه الذي يمزج بين تيه سكان الغابات الأمازونية دون أن يبرحوا غاباتهم، بل تأتي إليها اخطار التعرية، وتيه الذين سعوا للهرب من الجانب الآخر للبرازيل، من حكمها الاستبدادي باسم التحديث والحضارة الأوروبية. ثم ترتد بنا إلى المسرحية إلى الشرق الأوسط في نوع من الحركة الدائرية، وإلى الفتاة السورية التي أصرت على العودة لبلدها أثناء حكايات التيه السابقة، فيعتقلونها ويستجوبونها لماذا عدت؟ بدلا من الترحيب بها في وطنها الذي لم يعد وطنا. وتطرح المسرحية سؤالها: لماذا يصبح ميلاد الإنسان في العالم العربي لعنة؟ وهو سؤال على القارئ العربي أن يتمعن فيه، وأن يسبر أسبابه ومكوناته.

تحت سماوات أخرى:

وكان العرض الثاني من عروض التيه الأوديسية الذي شاهدته في مهرجان هذا العام مستلهم من أول التناصات الكبرى مع تيه عوليس الشهير، بالرغم من أن هناك عرضين آخرين مأخوذين من الأوديسة الهوميرية، سأعرج عليهما بعد قليل. حيث استلهم هذا العرض الثاني رحلة تيه أخرى، جاءت هذه المرة من ملحمة فيرجيل Virgil الروماني الشهيرة (الإنيادة Aeneid) بعنوان )تحت سماوات أخرى Sous (D’Autres Cieux كتبه كيفين كايس Kevin Keiss وأخرجته مالي بويسي Maelle Poesy. ويدير عبر تيه بطلها بعد خروجه من طروادة المهزومة في الفيافي والأمصار مرآة للتيه المعاصر الذي يعيشه آلاف النازحين من هزائم بلدانهم المتتالية. لأن هذا العرض الذي شاهدته في دير الآباء الكرملين Cloitre des Carmes اعتمد أساسا على الأناشيد الستة الأولى للملحمة دون أن يخرج كثيرا عن النص الأصلي، وترك للمشاهدين حرية التأويل وربط ما يشاهدونه بما يدور في عالمنا المعاصر. وهو منهج يعجبني كثيرا لأنه وهو يحترم النص الذي التزم بأناشيد (الإنيادة) الستة الأولى ومسرحها، يقدم تأويله المعاصر له من خلال مفردات لغة المخرج التي تغني رؤيته وتبلورها، وتضفي على النص بعدا جديدا.

ونحن نعرف أن «الإنيادة»، التي كتبت بين عامي 19 و29 قبل الميلاد، تعد أحد أهم الملاحم في الأدب الغربي، واستطاعت أن تكون الملحمة القومية للحضارة الرومانية لأنها ربطت تأسيس روما بطروادة الاسطورية، وجعلتها رديفا بل منافسا لليونان في الوجدان الغربي. وتقع «الإنيادة» في 12 نشيدا/ فصلا، وهي مقسمة إلى قسمين: يتكون كل منهما من ستة أناشيد. وأن الأناشيد الستة الأولى شديدة الاتصال بالأوديسة، لأنها تقدم لنا رحلة إنياس من طروادة إلى الموقع الذي أسس فيه روما. بينما تدير الأناشيد الستة الثانية حوارها مع الإلياذة. ولأن هذه المسرحية ركزت على الأناشيد الستة الأولى، فإنها تنتمي بحق لدراما التيه التي تستبدل بتيه عوليس المنتصر في حرب طروادة، تيه إنياس المهزوم فيها، والذي ينطلق بعد دمار مدينته طروادة إلى إيطاليا حيث يؤسس فيها مدينة هي التي أصبحت فيما بعد روما. ولم تتطرق إلى القسم الثاني من «الإنيادة» لأن تأسيس شرعية امبراطوريتها، حيث تعد من هذه الناحية ملحمة المتخيل الوطني الروماني، لا يهم هذا العمل الذي ينأي بنفسه عن النزعة القومية/ الوطنية التي تتسبب تعصباتها في تيه مهاجريه.

وكما يفتتح فيرجيل النشيد الأول من (الإنيادة) بعاصفة هوجاء تثيرها الربة جونو، عدوة طروادة اللدودة، والتي يملأها الغضب على إنياس لأنها تعرف أن أخلافه سوف يدمرون مدينتها الأثيرة قرطاج، فتشتت أسطوله وتكاد أن تفتك بسفنه؛ تفتتح بويسي عرضها برقصة عاصفة تجسد الظروف المناوئة لرحلة إنياس في البحث عن موقع يشيد فيه مدينته. وقد تنبأت الآلهة له بأن يؤسس في تلك المدينة التي سيبنيها في أيطاليا شعبا سوف تعرفه بقية الشعوب بالنبل والشجاعة، وأن يكون الجذر الذي ستبنى عليه أمجاد روما القادمة. وفي النشيد الثاني يعود بنا إنياس إلى الماضي، إلى ما جرى في حرب طروادة، بعد أن يشير عوليس على الجيش اليوناني الغازي الذي عجز عن فتح المدينة أو اقتحام أسوارها وبواباتها المنيعة، باستخدام حيلة الحصان الخشبي الذي يختفي فيه جنود الإغريق الأشداء، وما أن يدخلوه إلى المدينة حتى يخرجون منه في جنح الليل ويفتحون الأبواب للجيش الذي بدأ وكأنه انسحب وغادر المواني ولكنها كانت مجرد حيلة. ولا ينفع تحذير إنياس لهم ورفض إدخال الحصان الخشبي الملغوم إلى طروادة. ويأتي هكتور لإنياس في المنام وينصحه بالهرب من طروادة مع أسرته قبل دمار المدينة، ويفيق إنياس من نومه ليرى ما حاق بالمدينة من خراب، فيسارع لمحاربة اليونانيين بلا طائل، لكن الربة فينوس تصحبه إلى بيته كي يأخذ زوجته وابنه وأباه معه ويهرب. لكنه يفقد زوجته قبل أن يغادر مدينته، ولا ينفعه البحث عنها بل يخبره شبحها بأنه موعود بزوجة ملكية جديدة في المدينة التي سيهرب إليها.

ويركز النشيد الثالث على رحلة التيه، فنعرف كيف جمع إنياس من نجا من جنود طروادة، وبنى بهم أسطوله الجديد. ورحل بهم إلى كريت، وظن أنها البقعة التي عليه أن يبني مدينته فيها، لكن أبوللو يرشده إلى ضرورة الرحيل لإيطاليا، حيث يلتقي في طريقه بأندروماك، أرملة هكتور الشجاع وهي لا تزال تنعي موت زوجها وفقدان ولدها. ثم يلتقي بهيلينوس الطروادي أحد أبناء بريام الذي باركته الآلهة بالقدرة على التنبؤ بالمستقبل، فيخبره بأنه مرهون للمجد، وتأسيس مدينة في إيطاليا سيزدهر فيها أبناؤه وأحفاده، وستسود العالم، ويحكم أبناؤها العالم من ورائها. وفي طريقه إلى إيطاليا/ وبعد أن دار في البحر حول حدودها الجنوبية تدفع به أمواج دوامات عاتيه إلى صقلية، حيث تعقد الربة جونو صفقة مع الربة فينوس، أم أنياس، لتشتيت انتباهه فلا يذهب مباشرة إلى الموقع الذي سيؤسس فيه مدينته، فتلقيه الرياح في النشيد الرابع إلى قرطاج. حيث يلتقي هناك بالملكة ديدو التي تقع في غرامه، وتواقعه تحت خميلة وارفة. لكن جيوبتر يبعث له رسله كي يذكره بواجبه ومهمته، فيترك ديدو ويتسلل مغادرا، لكنها تنتحر عندما تكتشف مغادرته، وتلعنه بأن سيخرج من أصلابها من يحقق لها الانتقام، وهو استشراف لمجيء هانيبال القرطاجني.

وتأخذ إنياس الرحلة إلى صقلية من جديد، في النشيد الخامس، حيث يعد أنياس أسطوله بالمباريات، ويتضرع لجيوبتر ليأخذه إلى هدفه بلا تأخير، لكنه يدفع به إلى شتات آخر في العالم السفلي، في النشيد السادس، حيث يناور من جديد مع رباته، ويقدم لها القرابين، ويفاوض شبح ديدو على الغفران، ولكنها لا تغفر له، ويضحي بأحد قادة أسطوله، كي تستمر الرحلة إلى هدفها المنشود. بعد أن أفصح له شبح أبيه عن الرؤيا المشرقة التي تنتظره في روما، وعن الأمل في أن تزدهر تلك المدينة التي سيشيدها وتسود العالم من بعده.

هذا هو ما يدور في الأناشيد الستة التي التزم العرض بخطوطها العريضة وكل ما يتعلق بالمغادرة والوصول وتحطم السفن وتشابك الأحداث والذكريات، بطريقة يمزج فيها بين الأحداث وأشباح الماضي وذكرياته، حيث لا يشي الحاضر بالمستقبل، وإن أرهص به، وإنما بكيف نكرر أخطاءنا على الدوام. لأن العرض يركز على الجانب العضوي والحسي فيما جرى، ولذلك استخدم الرقص التعبيري الحديث في تجسيد الفواصل بين الأناشيد، وتجسيم وقع مآسيها على الشخصيات الأساسية. كما استخدم السرد للربط بين أجزاء الرحلة/ التيه كي يكشف عن تآكل الحواجز بين الأزمنة وتبدد الحدود بين الأمكنة. فنحن نتابع تيه إنياس وكأنه كابوس مقيم، وهو تيه تتحدث فيه الآلهة إلى البشر بلغة مغايرة للغتهم، ولكنهم قادرون على فهمها، وتنهض فيه أشباح الموتى بأدوار لا تقل أهمية عن تلك التي تقوم بها الشخصيات الحية المرتحلة في الزمان والمكان. بصورة يتجسد فيها المنفى كحالة وجودية من الانتظار المشبع بالأحداث، ولكنه لا يفضى إلا إلى المزيد من التخبط والألم والتيه. فالحالة التي يقدمها العرض هي حالة التيه وقد استحال إلى هوية للتائه، لا يعرف سواها، ولا ينشد إلا حلما بتأسيس مدينة قد تصبح هي هويته المفقودة مع دمار مدينته الأصلية: طروادة، وقد لا يتحقق أبدا فيها كما هي الحال مع كثير من المنفيين في زمننا الردئ.

بين الأوديسة وليل التيه:
أما العرضان الآخران المأخوذان عن الأوديسة الهومرية فكان أولهما بعنوان الأوديسة L’Odyssee لبلاندين سافيتيه Blandine Savetier، وهو أقرب ما يكون إلى القراءة الدرامية الحرة لمجوعة منتقاة من أبيسودات الرحلة العوليسية. فقد اختارت 13 مقطعا من الأوديسة يقع كل منها في ساعة كاملة؛ ويقرأها عدد من الممثلين ومحبي المسرح من سكان المدينة من خلفيات ومشارب متنوعة، في إيقاع محسوب في حديقة مكتبة سيكانو، حيث يجلس المشاهدين تحت ظلال أشجارها الوارفة لمدة ساعة كل يوم وعلى مدار 13 يوما من أيام المهرجان يتابعون تيه عوليس. بصورة تتصادى فيها إبيسودات الأوديسة، وتنتهي كل منها بعنصر تشويق كما في الحكاية الشهرزادية يستثير المشاهد للعودة في اليوم التالي ومعرفة ما سيدور، وكيف ستقدمه الأصوات المتقاطعة. وقد أصبحت القراءات في هذه حديقة هذه المكتبة من العناصر الدائمة في المهرجان على مد السنوات القليلة الماضية. حيث يستمع المشاهدون إلى نص من الأوديسة، تتعدد فيه الأصوات وهي تركز على ملحمية الرحلة نفسها، بل الرغبة المستمرة فيها باعتبارها تجربة مغيرة للمرتحل. وكيف أنها هي جوهر ما تقدمه لنا الأوديسة.

لأن دراما التحولات التي تنطوي عليها الرحلة هي ما تسعى هذه الأصوات المتحاورة والمتغايرة لبلورتها للمشاهد، ودعوته للمشاركة فيها بتأويلها وفق تجربته الفردية. وتنطلق معدة النص ومخرجته من السؤال المحوري: هل يشعر عوليس حقا بالسعادة لأنه عاد إلى إيثاكا؟ فهي تعرف أن قدر عوليس، المنتصر في حرب طروادة، لم يكن أبدا في أن يقضي بقية أيام حياته في جزيرته، بل في الارتحال المستمر من سفينة محطمة إلى أخرى على وشك الدمار. وكأنه يجسد لنا إيقاع تقلبات البحر الأبيض المتوسط ومفارقاته. لأن من قرأ الأوديسة يعرف أن رحلة عوليس لا تنتهي بعودته لبلده، وأسرته، فقد أخبره تريسياس بأنه منذور للرحيل حتى يعثر على قوم لم يرو البحر أبدا. وهو ما يجعل الرحلة جوهر الحياة ومبتغاها. لذلك ركزت سافيتيه اختيارتها على المقاطع أو الأناشيد التي تتناول وقائع الرحلة وتصاريفها، وما يصاحبها من هذا التوق المستمر للمغامرة التي تشوق المغامر وهي تغيّره في الوقت نفسه. لأن عملية التحولات التي تنتاب عوليس هي مركز هذا العرض وبوصلة اختياراته.

أما العرض الثاني، أو بالأحرى الرابع في هذا المهرجان، الذي استلهم الأوديسة فقد استخدم عوليس بصيغة الجمع، لأنه بعنوان (ليل الأوديسيون La Nuit des Odyssees) وقدمته سونيا وايدر آثيرتون Sonia Weider-Atherton وهي عازفة تشيللو درست الموسيقى في كونسرفتوار باريس، قبل أن تنتقل إلى كونسرفتوار موسكو عام 1986 حيث فازت بجائزة راستروبوفيتش وهي من أرفع الجوائز لآلة التشيلو. وهناك أيضا درست التأليف الموسيقى، وبدأت في سن مبكرة نسبيا تقديم عروض فردية، وأعمال تجريبية ذات طابع مسرحي. وتعمل في هذا العرض مع كاتبة عربية هي سميرة عياشي، بطريقة تجمع بين المسرح التوثيقي والكتابة الركحية التي برع فيها إخواننا التوانسة، ولكنها تجعل معيار التناغم بين أصوات والحركات كما في أي عمل موسيقي هو المعيار الحاكم للعمل كله. حيث تسعى دائما للبحث عن التوازن بين الموسيقى والكلمات، بين الأصوات: أصوات الرياح والماء والبشر والآلات والموسيقى وبين وجود البشر المحسوس، وكيف يمكن أن تسبغ على هذا كله نوعا من الإيقاع يخلق ما يمكن دعوته بالسيمفونية الحركية البصرية والمسموعة معا.

وهي سيمفونية تتكون من 13 مقطوعة أو حركة، تسميها 13 مغامرة، وتعتمد على 15 امرأة من البحر المتوسط وكاتبة هي سميرة العياشي يتحدثن عن تجاربهن في التيه والهجرة. وقد التقت بعضهن في باريس والبعض الآخر في دييب، وهي مدينة ساحلية بشمال فرنسا بها عدد من معسكرات احتجاز المهاجرين غير الشرعيين، وقد عرضت عليهم مقاطع مختلفة من الأوديسة وطلبت من كل منهن اختيار المقطع الذي يعبر عن تجربتها أكثر من غيره؛ وقد اختارت بعضهن مقطعا، بينما رفضت أخريات كل ما عرض عليهن من مقاطع، وبدأن في الحديث عن تجربتهن، أو حتى الغناء بطريقة تعبر عنها، وكانت سميرة العياشي تكتب هذا كله في نوع مما يسيمه اخواننا التوانسة بالكتابة الركحية، أي على الركح وأثناء تدريبات العرض. بصورة تخلق منها عرض مسرحي من نوع جديد. يسعى إلى تجسيد دوامة المغامرات التي عاشتها النسوة في ارتحالهن. وكأنهن في قلب الدوامة ولا يستطعن الانفكاك من دوارها المدوّخ. عرض اعتمد على الموسيقى والغناء في تقديمه لأوديسات العشرات من الرجال والنساء والأطفال الذين يواجهون التيه، وربما الموت في البحر الأبيض المتوسط. بصورة تحوّل معها العرض فعلا إلى سيمفونية معقدة من الأصوات التي تمتزج فيها موسيقى باخ الكلاسيكية، بضربات أمواج البحر وهي تصدم مقدمة الخشبة، بأصوات مواتير القوارب المتعثرة، بأزيز الطائرات بصراخ الأطفال، وشهقات المرتعدين من الغرق الوشيك. عرض يسعى لأن يؤكد لنا أن رحلة التيه العوليسية مازالت تدور بيننا، ولكن بشكل أكثر إيجاعا ومأساوية.

العودة للأساطير المؤسسة:
إذا كانت هذه الأعمال الأربعة التي تعود جميعها إلى الأوديسة وقد أصبحت علما على رحلة التيه العصرية تشكل نوعا من العودة إلى الأساطير المؤسسة للقيم والرؤى الفكرية الأساسية في بحث الإنسان عن العقلانية والإنسانية؛ فإنها تشكل، في الوقت نفسه كما ذكرت، موضوعا آخر من الموضوعات الملحة على برنامج هذا العام يمكن دعوته بموضوع رحلة العذاب والتيه التي أصبحت ملمحا مهما من ملامح القرن الحادي والعشرين، وموضوعا يوميا في أخبار الذين يعبرون الحدود في المكسيك أو في قوارب الموت في البحر الأبيض المتوسط. فتيه عوليس وتيه إنياس من بعده في (الانيادة) هي مرايا متجاورة لرحلة التيه المعاصرة بأبعادها وتجلياتها المختلفة، تعكسها على مجموعة القيم الإنسانية الراسخة التي جسدتها هذه الملاحم المبكرة. حيث نجد أن موضوع التيه، والمهاجرين الشرعيين منهم وغير الشرعيين من الموضوعات التي تتكرر في عدد كبير (أكثر من ستين عملا) من أعمال المهرجان الهامشي Festival Off Avignon والذي تجاوزت عروضه هذا العام الألف عرض.

والواقع أن المهرجان حرص على أن ينطوي على عدد لا بأس به من الأعمال التي تعود بنا إلى كلاسيكيات المسرح، كي يعيد التذكير بما تنطوي عليه من قيم إنسانية راسخة في عالم تسعى فيه الفجاجة والضحالة والكذب لأن تكون اللغة السائدة بين أكبر سياسيي عالمنا المعاصر في هذه اللحظة الرديئة من التاريخ. فقد كانت هناك عودة لاوريستاية L’Orestie أيسخيلوس Eschyle الشهيرة، وأخرى لكلاسيكية جان راسين Jean Racin (فيدرا Phedre). وكان ثمة عمل جديد ردنا إلى شكسبير في مأساته الشهيرة (ماكبث). وهو عمل واصل فيه مدير المهرجان أوليفييه بي تجربة العمل مع المساجين في المركز العقابي في أفينيون، وهو بعنوان (ماكبث فيلسوفا Macbeth Philosophe).

وسوف نتابع تقديم بقية ما شاهدناه من مسرحيات هذا المهرجان مع القراء في العدد القادم.