مع الاحتفال بمرور مئة عام على ميلاد عبدالناصر (1918)، يشير الكاتب في مقالته الدالة إلى الإزدواجية التاريخية في موقف المثقفين من ظاهرة الزعيم، وتنافس وسائل الإعلام في تقصي ما يتعلق بحياته إيجاباً. ويخلص إلى أن ذكراه مستمرة شأن أي بطل تراجيدي.

مع كل جرح جديد يُستدعى جمال عبدالناصر

سعد القرش

 

أنجبت هزيمة يونيو 1967 سلالة من هزائم وتراجعات تجاوزت حدود مصر، وأغلقت الآفاق أمام أجيال تالية لم تنعم بثمار النصر العسكري عام 1973. "النكسة" من دون مبالغة هي أم الهزائم، ويسهل توجيه أصابع الاتهام بإدانة المسؤول السياسي الأول عنها، عبدالناصر وحده لا شريك له.

وبدلا من إجراء محاكمة رمزية له، أو مراجعة متأنية لأسباب الهزيمة، احتفلت مصر بمئة عام على ميلاده في 15 يناير 1918، وتنافست وسائل الإعلام في تقصي كل ما يتعلق بحياته واستعراض آثاره، وأسقطوا غياب الحريات في استدعاء لقول أحمد فؤاد نجم "كل الجراح طابت".

لم تطب الجراح بل تعمّقت، ومع كل جرح جديد يُستدعى عبدالناصر، للتعليق على قضية خلافية، تيران وصنافير المصريتان مثلا، يمنح للزعيم الحق بالقول الفصل كأن روحه تراقب وتشهد وترسخ استحقاقه بأفعل التفضيل، فهو حاكم عربي وحيد تسمى باسمه أحزاب وتيارات "ناصرية" خارج بلاده، وهو أكثر حاكم لمصر لا يترك لك فرصة الحياد تجاهه، البعض يراه نبيّا في توقيت غير مناسب، والبعض يراه شيطانا.

هو الأكثر تعرضا لسيل متصل من حملات النقد والكراهية، بداية من بريطانيا وفرنسا دولتي الاستعمار التقليدي، ومعهما ومن بعدهما إسرائيل وأميركا، ومن اليمين الديني وفي مقدمته جماعة الإخوان التي تكفّره دينيا، ومن أنظمة رجعية استعانت برجال دين أفتوا بكفره "بالإجماع"، ومن خلفه أنور السادات متسلحا بالإخوان ومتوسطي الموهبة من الكتّاب والصحافيين ومن أفلام سينمائية أهالت التراب على اسمه، إلى أن فوجئ صناعها مع غيرهم من كارهيه بالنجاح الجماهيري لفيلم "ناصر56" عام 1996، ثم فوجئوا بصوره ترتفع في ميادين الحرية بعد اندلاع ثورة 25 يناير 2011.

من المفارقات أن ترى في ميدان التحرير مصريا شهد الهزيمة، ويهتف "يسقط حكم العسكر" وهو يحمل صورة عبدالناصر، فلا يعتبره عراب حكم العسكر؛ وفي تقديره أن عبدالناصر وطنيّ فوق التصنيفات، أب صادق مات صغير السن، نظيف اليد، اجتهد فأنجز وأخطأ. وقد مدحه محمد مهدي الجواهري في ذكراه الأولى، ولخصه في أربع كلمات "كان العظيم المجد والأخطاء".

وبموته صار ظاهرة تتعدد وجوهها، وتستطيع الصمود، وتقبل التأويل والتأويل المضاد. أربك أعداءه وكسب احترامهم حتى أن قياديا في جهاز مخابراتي وصفه بأنه "نظيف إلى حد اللعنة".

في مصر حظي بما لم ينله حاكم مصري من حب يُتوارث، ومنح لقب "الشهيد"، وألحق بمصاف أنبياء وشهداء. فهل كان مادحوه ممن تعرضوا للاعتقال في عهده يعانون نوعا من المازوخية؟ وكيف يجرؤون على معارضته ويتحملون الثمن خصما من أعمارهم في السجون، ثم يبكون موته شعرا ونثرا، ويشيدون بتجربته؟

ربما كانت أولى قصائد الرثاء من نصيب يوسف صديق، وكان يكبر عبدالناصر بثماني سنوات، وبالطبع يعلوه في الرتبة حين استولى الضباط الأحرار على الحكم في 23 يوليو 1952. كان ليوسف الدور الحاسم في نجاح الثورة. ولولا تحركه قبل الموعد المحدد بساعة، لألقي القبض على الثوار وحوكموا بتهمة الخيانة. ففي مساء 22 يوليو قاد قواته، واقتحم مبنى قيادة الجيش، حيث يُعقد اجتماع لبحث صداع يسببه الضباط الأحرار للملك فاروق.

نجحت الحركة وصارت ثورة، وأصبح الضبّاط صغار السن ساسة، وآثر يوسف صديق النهج الديمقراطي، وحث على عودة الجيش إلى الثكنات. ورأى عبدالناصر أن العدالة الاجتماعية أكثر أهمية، تفاديا لشراء أصوات الفقراء وغير القادرين، حتى تنضج القاعدة الجماهيرية اجتماعيا وتؤمّن اقتصاديا، وأدى الخلاف إلى استقالة صديق من مجلس قيادة الثورة في يناير1953، وغادر مصر للعلاج، ثم رجع، وطالب في أزمة مارس 1954 بعودة الحياة النيابية، فأدخل السجن في الشهر التالي، وخرج بعد عام لتحدد إقامته. وفي المعتقل رشق رفيقه عبدالناصر بقصيدة تبدأ بهذا البيت:

في مصر حظي عبدالناصر بما لم ينله حاكم مصري من حب يتوارث، ومنح لقب "الشهيد"، وألحق بمصاف أنبياء وشهداء. فهل كان مادحوه ممن تعرضوا للاعتقال في عهده يعانون نوعا من المازوخية؟ وكيف يجرؤون على معارضته ويتحملون الثمن خصما من أعمارهم في السجون، ثم يبكون موته شعرا ونثرا، ويشيدون بتجربته؟

أفرعون مصر وجبارها/صحوت لها من وراء القرون

وأنهى القصيدة بما يشبه الوعيد:

غدا تلتقي يا جمال الوجوه/وتعرف قدرك ماذا يكون

وحين مات عبدالناصر في 28 سبتمبر1970، كان يوسف صديق مريضا في موسكو، فقطع برنامج العلاج وعاد للمشاركة في وداع عبدالناصر وبكاه بقصيدة يقول فيها:

أبا الثوار هل سامحت دمعي/يفيض وصوت نعيك ملء سمعي

وشأن الفنانين، كان فؤاد حداد نصير الحرية، وأصدر عام 1952 ديوانه الأول "أحرار وراء القضبان". وبعد نوبة اعتقال عام 1956 أعاد إصدار الديوان نفسه، بعنوان "أفرجوا عن المسجونين السياسيين"، عنوان غير شعري يقدم قضية الإنسان على الحرفة الفنية. لم يكن حداد يرى نفسه إلا قرينا بالمتنبي، اعتدادا بنفسه وبشعره الذي لا يتخلى عن الشرط الإبداعي رغم انحيازه إلى الإنسان، وإلى المقاومة في فلسطين.

اعتقل حداد مع مجموعة من الشيوعيين عام 1959، ولبث وراء القضبان خمس سنين. وبعد موت عبدالناصر كتب قصيدته/ديوانه استشهاد جمال عبدالناصر، وفيه يخاطب الله "وكنت خلّي الشهيد يا رب يستأذن". ثم يحدّث عبدالناصر عن "استشهادك الأعظم"، ويناديه:

مع السلامة يا والد يا أحنّ شهيد

كل الآهات شعب واحد يا حبيب الله

في اليوم الثالث لهزيمة يونيو 1967، كتب أحمد فؤاد نجم "بقرة حاحا"، واعتبرها "أول قصائد الرد على الهزيمة". بكائية على البقرة المنهوبة التي ماتت قهرا، لأسباب أولها "الخوف". وفي الشهر نفسه تبيّن لنجم وللشعب هول الهزيمة، فلم يعد الرثاء يكفي واستبدل به أول هجاء صريح وجريء لعبدالناصر في قصيدة "الحمد لله خبطنا تحت بطاطنا"، وصب الغضب على الجميع، أما السهم الصريح فصوّبه إلى عبدالناصر "عبدالجبار":

وكفاية أسيادنا البعدا/ عايشين سعدا

بفضل ناس تملا المعده/ وتقول أشعار

أشعار تمجد وتماين/ حتى الخاين

وإن شا الله يخربها مداين

شاعت القصيدة، نصا وأغنية بلحن وأداء الشيخ إمام عيسى، وظل نجم طليقا، ضمن عقد ضمني لاحتواء ظاهرته مع الشيخ إمام، ولكنهما تجاوزا الخطوط الحمراء، وتفتق الخيال البوليسي في مايو 1969 عن حيلة للقبض عليهما بتهمة حيازة المخدرات وتعاطيها. ساعة الضبط لم يكن مع نجم مخدرات، أما الشيخ الضرير فكان يحوز قطعة حشيش صغيرة، وحين فاجأه وكيل النيابة في التحقيق بعرض قطعة كبيرة من الحشيش وأنها كانت معه، قال إمام "ياريت"، واعتقل بتهمة الغناء، وظلا نجم وإمام رهن السجن حتى أكتوبر1971.

وكما خاطب نزار قباني الزعيم "قتلناك يا آخر الأنبياء"، فقد تصالح نجم مع عبدالناصر، ورفعه إلى منزلة النبي في قصيدة "الزيارة"، أو "زيارة إلى ضريح عبدالناصر":

من دا اللي نايم وساكت؟

والسكات مسموع

سيدنا الحسين؟

ولا صلاح الدين؟

ولا النبي؟

ولا الإمام؟

وينهيها:

موسى نبي عيسى نبي محمد نبي

وكل وقت وله أدان/ وكل عصر وله نبي

واحنا نبينا كده/ من ضلعنا نابت ...

عمل حاجات معجزة/ وحاجات كتير خابت

وعاش ومات وسطنا/ على طبعنا ثابت

وإن كان جرح قلبنا/ كل الجراح طابت

وفي عام 1966 اعتقل عبدالرحمن الأبنودي أربعة أشهر مع بضعة شبان ضمهم تنظيم شيوعي صغير، ولكنه لا ينسى للزعيم مآثر تتخطى حدود الشخصي إلى الشعبي، فكتب فيه قصائد بعد وفاته، منها يعيش جمال عبدالناصر:

مش ناصري ولا كنت في يوم

بالذات وف زمنه وف حينه

لكن العفن وفساد القوم

نساني حتى زنازينه ...

وينهيها مناديا:

يا جمال نجيب زيك مِن فين

يا نار يا ثورة يا ندهة ناي

البوسطجي اللي اسمه حسين

أبوك منين جابك وإزاي؟

وكان صلاح عبدالصبور أول من انتقد عبدالناصر في أزمة مارس 1954، وكتب قصيدة "عودة ذي الوجه الكئيب"، إذ رأى البعض قدومه "من تدابير القضاء"، أو "من الجحيم". وتنتهي القصيدة بالتشاؤم:

سيظل ذو الوجه الكئيب وأنفه ونيوبه..

وخطاه تنقر في حوائطنا الخراب

إلا إذا...

إلا إذا مات

سيموت ذو الوجه الكئيب

سيموت مختنقا بما يلقيه من عفن على وجه السماء

في ذلك اليوم الحبيب

ومديني معقودة الزنار مبصرة سترقص في الضياء

في موت ذي الوجه الكئيب

لم يمدح عبدالصبور الزعيم حيا، وفي ديوانه تأملات في زمن جريح نشر قصيدة الحلم والأغنية.. مرثية لعبدالناصر:

هل مات من وهب الحية حياته

حقا أمات؟

ماذا سنفعل بعده؟

ماذا سنفعل دونه؟

حقا أمات؟

تتجمع الكلمات حول اسم سرى كالنبض في شريانهم عشرين عاما

كان الملاذ لهم من الليل البهيم

وكان تعويذ السقيم ...

وكان مفتاح المدينة للفقير، يذوده حرس المدينة

أما أحمد عبدالمعطي حجازي فكثيرا ما تغنى بعبدالناصر، تعددت القصائد والمديح واحد. في قصيدة "عبدالناصر" يقول:

فلتكتبوا يا شعراء أنني هنا

أشاهد الزعيم يجمع العرب ...

يا شعراء يا مؤرخي الزمان

فلتكتبوا عن شاعر كان هنا

في عهد عبدالناصر العظيم!

ورثاه حجازي شعرا، ثم غير رأيه نثرا، فبعد أرذل العمر، عرف أن عبدالناصر سبب هزائمنا، وأن الحكم العسكري بداية من عام 1952 قضى على الديمقراطية. وبعد صعود عبدالفتاح السيسي لم يعدد حجازي يندد بحكم العسكر إلا من طرف خفي.

باختصار: هزم عبدالناصر شأن أي بطل تراجيدي، وهكذا تعيش ذكراه.

 

(كاتب مصري)